صدى الزواقين Echo de Zouakine
مرحبا بك عزيزي الزائر. المرجو منك أن تعرّف بنفسك و تدخل المنتدى معنا ...اذا لم تكن قد تسجلت بعد نتشرف بدعوتك للتسجيل في المنتدى.

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

صدى الزواقين Echo de Zouakine
مرحبا بك عزيزي الزائر. المرجو منك أن تعرّف بنفسك و تدخل المنتدى معنا ...اذا لم تكن قد تسجلت بعد نتشرف بدعوتك للتسجيل في المنتدى.
صدى الزواقين Echo de Zouakine
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

غابرييل كامب : البربر - ذاكرة وهوية

صفحة 2 من اصل 2 الصفحة السابقة  1, 2

اذهب الى الأسفل

غابرييل كامب  : البربر - ذاكرة وهوية - صفحة 2 Empty رد: غابرييل كامب : البربر - ذاكرة وهوية

مُساهمة من طرف izarine الجمعة 3 أغسطس 2012 - 14:20


المدن، مراكز الثقافة البونيقية
بودنا لو نستطيع أن نضع القائمة الصحيحة للتفاعلات الفينيقية والليبيية في
هذا العالم البونيقي أو الليبي الفينيقي. وسيكون في مقدور أحد المتخصصين في
قرطاج في يوم من الأيام أن يقوم بحصر ما يميّز الثقافة البونيقية
بالمقارنة إلى فينيقيّي المشرق وإلى الهلينيين. والأسهل هو أن نتفحص الجانب
الآخر من هذه المزدوجة؛ نريد تغلغل التأثيرات المشرقية في الوسط الليبي،
وهو شيء كان قد سعى إليه ر. باسي منذ نصف قرن من الزمن.
ينبغي أن نتنبه في المقام الأول إلى وجود مدن بونيقية خارج إقليم قرطاج.
وسوف لا نعود إلى الوضع الغامض للمدن الساحلية، فهي تكاد تكون كلها تحمل
أسماء فينيقية، وبينها التي تحمل أسماء فينيقية ليبية، مثل روسوكورو، وأخرى
تحمل أسماء بربرية خالصة، مثل سيجا. ويتبادر إلينا سؤال؛ هل تكون هذه
المدن كلها منشآت بونيقية أو إيبيرية بونيقية، ثم ألا ينبغي لنا أن نأخذ
بعين الاعتبار أنها كانت منشآت تلقائية، أي إفريقية. وأن تكون بعض البلدات
الساحلية منذ بدايات إنشائها تتلقى منتجات متوسطية قرطاجية وأيونية وآثينية
فذلك أمر طبيعي وشائع، ولا يمكن أن يقوم حجة علمية صحيحة على أصل هذه
المدن، ولكن أن تكون مدافن سكان هذه المدن تحتوي كذلك أثاثاً محلياً أصيلاً
مطابقاً للأثاث الذي تم العثور عليه في القبور القروية، وأن هذه المدافن
تفصح عن طقوس مقابرية قليلة شيوع عند الفينيقيين، فهذه مؤشرات لا يستهان
بها عن نوعية سكان هذه المدن. فعلى الرغم من أن سيرتا، العاصمة الفينيقية
الماسيلية، تحمل اسماً قد يكون ذا أصل فينيقي وأن ثقافتها كانت بونيقية من
كل الوجوه، فإنها لم تكن في يوم من الأيام تخضع للسيطرة القرطاجية، وأحرى
أن تكون من إنشاء الفينيقيين. واستوقفتنا حالة عاصمة نوميدية أخرى؛ تلك هي
مدينة سيجا التي يأتي ذكرها بكونها مِلْكاً للقرطاجيين. والمدينة الثالثة
التي تشد انتباهنا هي مدينة وليلي التي تحتل موقعاً يغلب عليه الطابع
القاري في سفح جبل زرهون في المغرب. فوجود هذه المدينة من المملكة المورية
يعود إلى ما قبل يوبا الثاني بقرون عديدة. وتؤكد المسلات البونيقية
المكتشفة في هذا الموضع، كما تشهد مدن إفريقية أخرى كثيرة (مثل سيرتا
وتبرسق ومكثر ودقة...) على اجتماع الأسماء الفينيقية والأسماء البربرية
بانتظام ضمن الأسرة الواحدة.
وبالإضافة إلى هذه المدن النوميدية والمورية التي كانت تقوم بوظائف
العواصم، يجدر بنا أن نذكر مدناً أخرى كانت، على الرغم من أسمائها
الفينيقية، تقع في المناطق الداخلية، من قبيل ماكوماد وتيبازة في نوميديا
وقالمة وزوكابار في ما سيُعرف لاحقاً بموريتانيا القيصرية. والحقيقة أن مدن
المملكتين النوميدية والمورية، سواء منها الساحلية أو القارية، وسواء منها
المسماة بأسماء فينيقية أو المسماة بأسماء بربرية، قد كانت مراكز أصيلة
للثقافة البونيقية.


تعايش ناجح ودائم
كانت هذه المدن مراكز للثقافة البونيقية لا بإنتاجاتها من الخزفيات
المدعاة بونيقية، وهي التي نجدها في سيرتا كما نجدها في سائر المستودعات
على الساحل، ونجدها حتى في مدينة وليلي القصية، بل إن هذه المدن كانت مراكز
للثقافة خاصة بمعابدها ولغتها المكتوبة، وربما بلغتها الشفاهية أيضاً. وقد
كانت اللغة الرسمية للمملكتين النوميدية والمورية حتى (يقول بعض المؤلفين
خاصة) بعد تدمير قرطاج، هي البونيقية. فباللغة البونيقية كانت تُكتب
الإهداءات الدينية، والنصوص الإدارية النادرة التي أمكن لها البقاء، وكلمات
التأبين الملكية، والكتابات على النقود، وما كان هذا الأمر بمقتصر على
النوميديين في الشرق بل كان عاماً في سائر أنحاء شمال إفريقيا.
وكانت دقة هي المدينة الوحيدة التي حاولت لفترة من الزمن وهي تحت حكم
ماسينيسا وميسيبسا أن تستعمل اللغة الليبية في كتاباتها الرسمية، وهو أمر
فريد وليس له نظير في حدود ما نعرف.
ولقد بقيت اللغة البونيقية متداولة لزمن طويل من بعد قرطاج ومن بعد الممالك
المحلية، فقد كان الناس لا يزالون يتكلمون البونيقية تحت حكم مارك أوريل
في مدينة لبدة، ولكنهم يكتبونها بأحرف إغريقية (كما نراها في كتابة على أحد
الأعمدة في قوس النصر). وفي المنطقة نفسها شواهد كثيرة تُستعمل فيها
الأحرف اللاتينية في كتابة اللغة البونيقية. ويقول أغسطين إن القرويين
المجاورين لهيبون كانوا بعد خمسمائة سنة من تدمير قرطاج لا يزالون يتكلمون
البونيقية. ونعرف بالنقاش الذي أثاره شـ. كورتوا حول هذا الموضوع. ولكننا
رأينا أن بعض الموريين كانوا بعد ذلك بقرن من الزمن لا يزالون، حسب
بروكوبيوس، يقولون بانحدارهم من الكنعانيين، وإن هي إلا ذكرى بعيدة
للثقافة التي كانوا يريدون الانتساب إليها.
ولكن إذا كانت الثقافة في المدن بونيقيةً فإن الإدارة البلدية لم تكن
دائماً مجرد مستنسَخ من النموذج الفينيقي. وحقاً إن نظام القضاء القرطاجي
قد كان شيئاً شائعاً في المدن الإفريقية، وقد جيء بإحصاء لعشرين حالة من
هذا القضاء، ناهيك عن المدن التي يأتي على نقودها ذكر لقاضيين يشتركان في
الاسم الواحد ولا يبعد أن يكونا من قضاة قرطاج. لكن التماثل في الأسماء لا
يعني بالضرورة تطابقاً في الوظائف. فقد كان يوجد في مكثر ثلاثة قضاة، ولم
يكن في قرطاج من القضاة قط أكثر من اثنين. وفي الأخير فإن بعض الوظائف
البلدية في دقة لم تكن لها من المكون الفينيقي، سواء في مفهومها أو في
تسميتها، إلا النزر القليل، بحيث أُبقي على أسمائها الليبية دونما ترجمة في
النصوص البونيقية.
لم تكن هذه المدن الإفريقية ذات الثقافة البونيقية بالمناطق الأجنبية
المنعزلة في الممالك؛ بل كانت بعكس ذلك؛ فمن خلالها ظهر وجود هذه الممالك،
إذ كانت لها العواصمَ، وكانت فيها الحصون ومصدر الثراء. وإن السياسة
المدينية التي انتهجها ماسينيسا وميسيبسا وبوخوس أو يوبا الأول لتثبت أن
الملوك إذا كانوا يستمدون قوتهم من قبيلة الأسلاف، وهي التي مكنّت لهم
السلطان والسيادة فإن في المدن قد جعلوا لسلطتهم المقار.
وما كان الدين نفسه استثناء من هذا التداخل، ولا كان استثناء من هذا
الامتزاج للعالمين الإفريقي والمشرقي. فالتفكير يذهب بنا عند النوميديين في
المقام الأول؛ في التوسيع المعمم الذي تحقق لعبادة بعل حمون، فأصبح هو
ساتورن الإفريقي في العهد الروماني، كما يذهب بنا التفكير إلى عبادة تانيت?
أو بالأحرى تينيت? وهي المطبوع اسمها بتناغم بربري. وحتى في الديانة
الشعبية، بلهَ الريفية، هنالك آلهة أو جن محليون سمُّوا في ما بعد بالآلهة
المورية، لم يكونوا، بخلاف المتوقع لهم، يحملون دائماً أسماء ليبية.
وقد ظلت إفريقيا الرومانية تسبح طوال قرون في جو ديني يغلب عليه
الطابع الديني السامي والبونيقي، مختلف عن المعتقدات الإيطاليانية البالية
وعن الإضافات الهلينية. وإن ما لا عد له من المسلات المكرسة لساتورن لتقوم
شواهد على هذه الحقيقة، سواء أَبمحتواها الأيقوني أو بما تحمل من إهداءات
موجهة إلى الإله الإفريقي العظيم.
ويطالعنا التفاعل نفسه بين ممارسات مشرقية وإفريقية في الديانة الجنائزية.
وقد عرفت الدلمنات الكثيرة في البلدان النوميدية الشرقية (شرق الجزائر ووسط
تونس) تحولاً معلوماً صارت به قريبة إلى الكهوف ذات الطراز البونيقي
الجديد؛ فإن فيها مشاكي جانبية أو تقوم مقام رأس السرير، قد حُفرت في
الجدران كما في القبور البونيقية، وجُعلت فيها مزاليق على جانبيّ الباب
لأجل الحاجز الوقائي. وبين الحوانيت، وهي مدافن باطنية محفورة في جوانب
الجرف الصخرية، التي أخذ بها الإفريقيون بمعزل عن أي تأثير قرطاجي، توجد في
القبور الأقرب عهداً مقاعد وأسرة جنائزية محفورة في الصخر. ولا ينبغي لنا
أن نفسر التحولات التي طرأت على القبر البونيقي، من الغرفة ذات البئر
المنطمرة عميقاً وحتى القبو المفتوح نصفه، بسيرورة داخلية فحسبُ، بل ينبغي
أن نردها كذلك إلى الحرص على توفير مدخل ميسّر للغرفة المقابرية، وهو شيء
نرى ما يؤكده في جميع الآثار قبيْل التاريخية لقدامى البربر، وهذا الاختيار
الجوهري المتعارض مع الاهتمامات الأقدم للقرطاجيين، والمرتبط بكل تأكيد
ببعض المعتقدات الدينية، نراه جلياً في الممرات الكثيرة وفي الأروقة،
الرمزي بعضها، وفي المشاكي والمصليات المرافقة للقبر.
وعملية حرْق الأموات، التي كانت تجري بصورة غير منظمة في قرطاج، خاصة منذ
القرن الخامس، كانت شيئاً مجهولاً لدى نوميديّي الشرق، وقد أُدخل حرق
الأموات إلى المدن الساحلية وصارت تأخذ به الأسر الأميرية. وليس يبعد أن
يكون القبر الذي في الخروب، وهو جثوة كبيرة بالقرب من المدراسن، كما لا
يبعد أن تكون مقبرة المدراسن نفسها، يحتويان على مدافن للحرق.
لم يتبق من تذكارات الآثار المعمارية البونيقية إلا النزر القليل، وإن كانت
أعمال التنقيب في كركوان تسمح لنا بتصور كيف كانت المدينة الإفريقية في ما
قبل العهد الروماني. وقد شاءت غرابات التاريخ أن تكون أهم المآثر تقع خارج
إقليم قرطاج، في تلك المملكة النوميدية التي كانت عاملاً في زوال قرطاج
وكانت في الوقت نفسه محْفَظاً أميناً للثقافة البونيقية. ويمكن أن نذكر
كذلك الأضرحة المربعة في دقة وفي مكثر وفي الخروب، وهي التي ظلت نماذج
تُحتذى لزمن طويل، لكن تصميمها يجتمع فيه المكونات الهليني والفينيقي سواء
بسواء. ويجدر بنا كذلك أن نذكر الأضرحة البديعة التي في صبراته وفي بني
رينان، فهي منشآت هلينية ذات قاعدة أصلية في شكل مثلَّثي منحني الأضلاع.
وقد سبق لنا أن توقفنا عند المدراسن، وهو ضريح فسيح، لاشك أنه كان مدفناً
ملكياً، يقوم في نوميديا. إنه ضريح دائري يبلغ قطره 59 متراً، ويتألف من
رواق أسطواني تعلوه درجات تضفي عليه شكلاً شبه مخروطي، ويصل الارتفاع الكلي
لهذا الضريح إلى 19 متراً. والنتوءات والخرجة التي على الأبواب الوهمية
وعلى باب المدفن والإفريز ذو الحلق المصري وسقف الرواق من خشب الأرز
والتيجان الدورية كلها عناصر إغريقية مشرقية نلاقيها كذلك في مآثر قرطاجية
أخرى، ولكن المدراسن بشكله العام، الشبيه بشكل بازينة ذات قاعدة أسطوانية
ودرجات، وهي القبر البربري القديم الأكثر شيوعاً بنظام مدخل للسرداب يبتدئ
من أعلى البناء، يعتبر عبارة عن ضريح بربري. والمدراسن، كمثل الأسرة
النوميدية التي شيدته في أواخر القرن الرابع أو بداية القرن الثالث قبل
الميلاد، نتاج بديع لالتقاء التأثيرات الإغريقية المشرقية التي أدخلتها
قرطاج والتقاليد البربرية قبيْل التاريخية. فيستحق لذلك أن يوصف بالبونيقي.


31-07-2012

izarine
izarine

ذكر عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

غابرييل كامب  : البربر - ذاكرة وهوية - صفحة 2 Empty رد: غابرييل كامب : البربر - ذاكرة وهوية

مُساهمة من طرف izarine الجمعة 3 أغسطس 2012 - 17:51


إذا كانت هذه المساهمة المشرقية لم تترك إلا القليل من الآثار المادية على
الأرض الإفريقية فلقد أثرت بشكل عميق على العقلية البربرية.

رومنة إفريقيا، فشل ذريع
تبدو لنا الحضارة البونيقية تكاملاً وثيقاً وموفقاً بين معطيات ثقافية
قبيْل تاريخية يحق لنا أن نسميها بالليبية أو البربرية القديمة، ومساهمات
مشرقية من الحضارة الفينيقية. وإذا كانت هذه المساهمة المشرقية لم تترك إلا
القليل من الآثار المادية على الأرض الإفريقية فلقد أثرت بشكل عميق على
العقلية البربرية.

غزو حذر وطويل
كانت سيطرة روما على إفريقيا من الفاعلية والإحكام أكثر مما فعل
القرطاجيون. وما كانت هذه السيطرة بوليدة الصدفة، بل جرى تنظيمها والإعداد
لها زمناً طويلاً وتواصلت بعناد روماني حقيقي. فبعد الهزيمة التي لحقت
قرطاج في سنة 201 قبل الميلاد، وقبل حتى أن تُخرَّب المدينة في سنة 146 قبل
الميلاد، ويُحوَّل إقليمها إلى مقاطعة رومانية، كان مجلس الشيوخ قد صيَّر
عملياً الدولة النوميدية إلى دولة «محمية»، معهود بها إلى ماسينيسا أكثر
مما هي مسلمة إليه. وقد كان ماسينيسا، وهو الملك العظيم والسياسي الحاذق،
يحمل على الدوام رؤية واضحة جداً إلى وضعه الحقيقي كملك تابع، وهو ما كان
يُعرف في ذلك العهد باسم «الصديق والحليف للشعب الروماني». ويظهر لنا هذا
الوضع بوضوح عندما قرر ماسينيسا، عشية وفاته، في سنة 148 ق.م.، وبعد نصف
قرن من الحكم المجيد، أن يستدعي سكيبيون إميليان للتشاور وإياه في تقرير
أمر خلافته. ثم لما أدرك ماسينيسا أن هذا الروماني سيصل متأخراً كثيراً قرر
أن يترك له أن يقوم بالإجراءات التي يقدر أنها الأفضل. وكما كتب سـ. كسيل :
«لقد أنهى حياته بما يشبه الاعتراف بأن مقادير نوميديا تتوقف على
الرومان».
وكان عدم فهم يوغرطة لهذه السيطرة غير المعلنة أو محاولته التنكر لها سبباً
في هلاكه، ثم استُقطع من مملكته قسمها الغربي لصالح ملك الموريين بوخوس،
الذي أصبح بدوره، وربما بسبب هذا الاستقطاع، تابعاً لروما (في سنة 104 ق.
م).
وما تبقّى من مملكة الماسيليين النوميدية جرى تقسيمه كذلك بعد وفاة كوضا.
ثم كانت نهاية الدولتين الصغيرتين اللتين نشأتا عن هذا التقسيم وذلك خلال
الحروب الأهلية بين القيصريين والبومبيين. فلما تحقق الانتصار للقيصر على
يوبا الأول قام بضم مملكته إلى مقاطعة إفريقيا، وأصبح القسم الآخر إمارة
محلية يسيطر عليها مغامر إيطالي، هو سيتيوس، وسرعان ما اندمج في المقاطعة
الجديدة (الاتحاد السرتي). وكذلك عرفت المملكة المورية مصيراً موازياً. فقد
قُسمت خلال الحروب الأهلية إلى دولتين، ثم عادت إلى التوحد من جديد تحت
حكم بوخوس الأصغر، حليف أغسطس. فلما توفي بوخوس خلفه أغسطس. وبعد محاولة
قصيرة من الإمبراطور لإدارة البلاد بشكل مباشر، رأى أن البلاد لا تزال
شديدة التوحش، فعهد بها إلى يوبا الثاني، ابن خصم القيصر وزوج كيليوباترا
سيليني بنت كيليوباترا العظيمة ومارك أنطوان. وبذلك كُلّف المنحدرون من
أعداء روما بأن يزيدوا من فتح موريتانيا أمام التجارة الإيطالية. وفي الوقت
نفسه أدخل أغسطس في هذا الإقليم الواسع بذوراً قوية للتّلتين - بلهَ
الرومنة -؛ فقد أنشأ تسع مستعمرات كانت قواعد عسكرية وقواعد لاستيطان
ديموغرافي. فقد كانت كل واحدة من هذه المستعمرات جزءاً من روما، يتمتع
ساكنوها بحقوق المواطنة بصورة كاملة. وهكذا فعندما تفرعت عن مملكة
موريتانيا، بعد إعدام بطليموس ابن يوبا الثاني، مقاطعتان رومانيتان
جديديتان (في سنة 42م)، كانت هاتان المقاطعتان معدَّتين قبلاً ولو بصورة
جزئية للحياة البلدية، جعلت لها روما الأولوية في أعمالها. وبين إنشاء
مقاطعة إفريقيا وإنشاء الموريتانيتين انقضت 188 سنة.

المدن والترقي الاجتماعي
كان للمدن في مقاطعات الإمبراطورية أوضاع مختلفة وكانت على تراتبية بالغة
الصرامة. فالمستوطنات الرومانية تقع في القمة، وتأتي بعدها البلديات
الرومانية، التي كان سكانها أيضاً مواطنين روماناً، لكنها لم تكن تتمتع من
الإعفاءات الضريبية بمثل ما كانت تتمتع المستوطنات. ولقد توفرت للبلدية
اللاتينية المؤسسات نفسها التي كانت اجتمعت للبلدية الرومانية، سكانها لم
يكونوا يحملون لقب المواطنين الرومان، وهي صفة كانت تُجعَل بصورة تلقائية
للمواطنين المضطلعين بمهام بلدية. فكان الأعضاء البلديون (الذين يجوز لنا
اليوم أن نسميهم مستشارين بلديين) يصيرون، حسب أهمية البلديات، مواطنين
روماناً. وأما في البلديات الأخرى قليلة السكان أو قليلة الغنى فإن مهام
الدومفير (العمدة ومساعده) هي وحدها التي كانت تمكِّن لمتقلدها الوصول إلى
المواطنة الرومانية.
وعلاوة على تلك الأنواع الثلاثة كانت هنالك مراكز حضرية أخرى، وهي: المدن
الحرة التي ظلت في إفريقيا تحتفظ بإدارة من الطراز البونيقي، والمدن
التابعة، وهي لا تزيد عن بلدات سكانها من الأهالي، ويمكن أن يقيم فيها
مواطنون تابعون للقانون اللاتيني أو للقانون الروماني، وقد كان يمكن لهذه
البلدات أن تشكل نواة لتنظيم بلدي.
لقد كان الهاجس من وراء تشكيل مختلف هذه المدن واضحاً تماماً؛ فإذا تحقق
للمدينة تغيير الصنف البلدي عاد عليها بمكسب محقق؛ فتخف أعباؤها الضريبية
ويتحصل سكانها، أو يصير بمقدروهم أن يتحصلوا، على صفة المواطنة الرومانية
التي يجتهدون في نيلها، كما وتزداد شهرة تلك المدينة على صعيد المقاطعة،
وقد تصل حتى روما، قلب الإمبراطورية.
كانت شهرة أي مدينة، أو مجدها بتعبير رفيع، تترجَم كذلك في ثراء مبانيها
وفي جمال معابدها وفي اتساع ميدانها وفي عدد تماثيلها، بل وتترجَم كذلك في
طول القنوات المستعملة لنقل المياه فيها وطرافتِها. وقد كان النصيب الأكبر
في تمويل هذه الأعمال يؤخذ من الثروة الشخصية للمترشحين لمختلف المناصب
البلدية. ولم يكن يفوتهم أن يذكروا هذه المكرمات في الإهداءات يجعلونها على
تلك النصب. وما أسرع ما صار هذا السخاء شيئاً إلزامياً؛ وحتى لقد أمكن
للمؤرخين أن يحددوا المبالغ التي كان يتطلبها كل انتخاب. فمن هذا الذي
ذكرنا نفهم السبب وراء ضخامة الخرائب المتبقية من المدن الرومانية، وأنها
تبدو أحياناً غير متناسبة من حيث الأهمية الحقيقية للمدينة وعدد سكانها.
ولقد كان أثر روما في إفريقيا أثراً مادياً في المقام الأول. وكان شيئاً
فريداً لا يضاهى.
وكانت هنالك تراتبية اجتماعية مماثلة في أوضاع سكان إفريقيا. فقد كان يمكن
للشخص الأجنبي، من بين الرجال الأحرار، أن يدخل عن طريق الانتخابات أو بفعل
معروف فردي يناله من الإمبراطور، في القانون اللاتيني. وكان يمكن للمواطن
الخاضع للقانون اللاتيني أن يصبح مواطناً رومانياً بالطريقة نفسها. وكان
يمكن للمواطن أن يسمو إلى ما هو أعلى، فيرتقي إلى مرتبة الفارس، بشرط أن
يكون بلغ من الثراء مستوى معلوماً، وهو المستوى المعمول به في سائر أنحاء
الإمبراطورية. ويمكن للمواطن أن يدخل في الإدارة الإمبراطورية ويرتقي إلى
أعلى المناصب المدنية أو العسكرية، وأن يغدو حاكماً على مقاطعة، وقد ربما
تبوأ أعظم منصب، فعيِّن رئيساً للحرس الإمبراطوري، وهي القوة الثانية في
الإمبراطورية. وكان يمكن أن تُمنح درجة الفارس برسم المكافأة، تكرماً من
الإمبراطور. وتأتي في قمة التراتبية الاجتماعية هيأة الشيوخ، وهي تستقبل
أصحاب الثروات الكبيرة، كما تستقبل من بين الفرسان أكثرهم تميّزاً في خدمة
الإمبراطور.
وهكذا فقد أمكن لروما بتوظيفها الماهر للتراتبية بين المدن وبين الفئات
الاجتماعية، أن تقوم بعملية دمج تدريجي للنخبة البلدية الإفريقية فيها. كتب
إ. البرتينى : «إن روما تحدد حركة صعود نحو الحياة الرومانية على صعيد
مجموع السكان». ولقد أطلقت هذه الحركة نداء صارت تتجاوب له بالتدريج سائر
شرائح ذلك المجتمع الذي لم يكن فيه اعتبار لغير دافعي الضرائب، ويقوم على
تراتبية قاهرة لكنه لم يكن بالمجتمع المحصور ولا المكبوح بأي حال

الجيش أداة للاحتواء
كان الجيش، بموازاة لما ذكرنا، عاملا فعالاً في الاحتواء. فقد كانت القوات
المساعدة في إفريقيا، كما في سائر المقاطعات الأخرى، مفتوحة في وجه
الأجانب، وأما الفيلق (لم يكن هنالك غير فيلق واحد، هو الفيلق الثالث
الأوغسطي الذي كان مقره في لامبيز في نوميديا) فقد كان مقصوراً على
المواطنين الرومان. وكان الجندي من القوات المساعدة سواء من مشاة فرق
الخيالة أو من فرسان الأجنحة، يحصل على «حق المدينة»، أي يغدو مواطناً
رومانياً، بعد 25 سنة من الخدمة.
وكانت هذه الفرق من الخيالة والأجنحة تحمل أسماء ذات أصول عرقية؛ ومن ذلك
أن في موريتانيا القيصرية كان هنالك جناح الثراسيين وفرقة سرديس الخيالة
الثانية وفرقة بروكس الخيالة وسواها. ولكن سرعان ما صارت هذه التسميات
العرقية وليس لها غير مدلول تقليدي، لأن كل فرق القوات المستقرة في العادة
في إفريقيا كانت تجند أفرادها من الأهالي. وأصبح هذا الأمر نهائياً ابتداء
من سنة 150.
لم يكن جنود القوات المساعدة جميعاً من أصول حضرية، بل كان الضباط القائمون
على التجنيد يؤثرون البحث عن الأشخاص الأشداء الأقوياء بين النوميديين
والموريين في القرى. وكانت بعض القوات المكونة في تلك الأماكن تحمل أسماء
إفريقية : فرقة خيالة المزالمة، والفرسان الموريون...
ويكون لهؤلاء المجندين، خلال ربع القرن الذي تستغرقه خدمتهم، متسع من
الوقت ليتعلموا، إلى جانب النظام العسكري، شيئاً من مبادئ اللاتينية، وهي
لغة كانت لا محالة تختلف كثيراً عن لغة شيشيرون، كما أنهم يتعلمون بعض
مبادئ الثقافة الرومانية. فإذا عاد الجندي السابق إلى «دوار»ه أو «مشتا»ه
بما وفر من مال وبلقب المواطن الروماني كان يمثل صورة للنجاح. وقد سبق لنا
أن رأينا من هؤلاء الجنود السابقين من كانوا يكلفون بقيادة القبيلة من
القبائل.
كان العدد الكلي للجنود في الموريتانيتين يقدر في الظروف العادية بحوالي 15
ألف رجل، ولا يبعد أن عدد القوات المساعدة في نوميديا كان مساوياً لعدد
جنود الفيلق، أي 5 إلى 6 آلاف رجل. وهذا يعني أنه قد كان يمكن لحوالي عشرين
ألفاً من هؤلاء الجنود أن يصيروا مواطنين رومانيين. ولكن كم هو عدد أولئك
الذين كانوا يصلون إلى إتمام 25 سنة من الخدمة؟ وكم هو عدد الحثالات؛ أي
الجنود الذين كانوا يُصرَفون من غير أن يحصلوا على «honesta missione»، أو
ما يقوم لدينا مقام شهادة حسن السلوك؟ ولكم من الزمن كان يعيش الجندي
السابق بعد أن يكتسب حق المواطنة؟ وباختصار ما الأثر الحقيقي الذي كان لهذه
الرومنة، الفردية والنادرة، على جماع الساكنة الإفريقية؟
مهما يكن من أمر، وهذا شيء ذو أهمية، فإن الإفريقيين أنفسهم هم من قاموا،
تحت العلم الروماني، بالحفاظ، في الأوقات العادية، على النظام في إفريقيا.


1/8/2012

izarine
izarine

ذكر عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

غابرييل كامب  : البربر - ذاكرة وهوية - صفحة 2 Empty رد: غابرييل كامب : البربر - ذاكرة وهوية

مُساهمة من طرف izarine الجمعة 3 أغسطس 2012 - 17:54


مثال من «السياسة المحلية»:
طاولة بناصة

كانت المواطنة الرومانية تُمنَح كذلك لرؤساء القبائل، سواء منها تلك التي
تم ضمها أو تمت تهدئتها، وقد كان يطلق على هؤلاء الرؤساء لقب الأمراء، وقد
يلقبون أحياناً بالملوك، فلذلك كان ينبغي أن يتميزوا عن الولاة، وهم موظفون
تعيّنهم السلطة الإمبراطورية. وكان منح المواطنة الرومانية يبدو كنوع من
المكافأة، وكان يسمح لحكام المقاطعة الذين يطلبونها من الإمبراطور،
بالتخفيف من الضغط الذي يمكن أن تمارسه القبائل القوية على الحدود أو حتى
داخل المقاطعة. وهذه «طاولة بناصة» الشهيرة، وهي عبارة عن لوحة من البرونز
كانت مثبتة بإزاء الحامّات في هذه المدينة من مدن موريتانيا الطنجية، تسمح
بالتحليل الدقيق لهذه السياسة خلال بضع سنين من القرن الثاني. وقد قام كل
من و. سيستون و م. أوزينات منذ وقت قريب على نشر هذا النص الفريد الذي
وصلنا من الإمبراطورية وتناولاه بالدراسة. وقد احتفظ لنا هذا النص بثلاث
وثائق رسمية. فأما الوثيقة الأولى فهي عبارة عن رسالة من الإمبراطورين
ماركوس أوريل ولوكيوس فيروس إلى كويديوس ماكسيموس الحاكم على موريتانيا
الطنجية، تمنح المواطنة الرومانية لزكرنيسي يدعى يوليانوس ولزوجته زيدوتينا
وأبنائهما. ويرجع تاريخ هذا القرار إلى سنة 168-169. ويؤكد الإمبراطوران
في هذه الرسالة على الطابع الاستثنائي لهذا القرار، الذي جعلا مبررهما إليه
إخلاصهما التام ليوليانوس، وأعربا عن متمنياتهما أن يكون قدوة لبني قومه.
وأما الوثيقة الثانية التي دُونت على طاولة بناصة فهي عبارة عن رسالة جديدة
من الإمبراطورين مارك أوريل وكومودوس إلى الحاكم فاليوس ماكسيمانوس تمنح
المواطنة الرومانية لفاجورا زوجة أوريليوس يوليانوس أمير الزكرنسيين
وأبنائهما. وأما الوثيقة الثالثة فهي نص رسمي صادر عن مجلس الإمبراطور وقام
على توقيعه اثنا عشر عضواً من المجلس. والوثيقة مؤرخة في 6 يوليوز 177.
ويعتبر النص الذي على طاولة بناصة مهماً من جوانب عديدة، وسوف لا نتوقف منه
إلا عند الجانب المتعلق بالسياسة المحلية. فقد ميَّز الحاكم بين العشائر
المكونة لقبيلة الزكرنسيين القوية، التي كانت تقيم في ما يبدو على سفوح
الريف، وعشيرة يوليانوس، الذي نقل ملتمسه إلى الإمبراطور. وقد تزوج ابن
يوليانوس، الذي أصبح بعد بضع سنين أميراً للزكرنسيين، من امرأة أجنبية تسمى
فاجورا. ومن أجل أن يصير أبناؤه كذلك مواطنين روماناً كان يلزمه الحصول
على قرار إمبراطوري جديد. وحيث إن حالة الزكرنسيين كانت حالة نموذجية فقد
جرى تعليق تلك الوثائق ليعلم بها الجميع.
ولقد مكننا هذا النص من معرفة جانب من سياسة الاحتواء التي أعملها حكام
الولاية بفاعلية فريدة، لكن هؤلاء لم يكونوا سوى موظفين في بيروقراطية
إمبراطورية كانت أرشيفاتها من الدقة والإتقان كمثل ما هي الأرشيفات في
الإدارة الحديثة.

مدى الرَّوْمَنه

إن من شأن هذه السياسة الاحتوائية، أو سياسة الرومنة على وجه التدقيق، أن
تصدم مفاهيمنا الديمقراطية الحالية، ولكن لو وضعنا أنفسنا في سياق القرنين
الثاني والثالث الميلاديين لبدت لنا سياسة في غاية الحكمة، ولرأيناها سياسة
فعالة، وتقدمية بحق. ومهما قيل عن المجتمع الروماني (لكن ألا يُقال الشيء
نفسه كذلك عن مجتمعنا أيضاً؟)، فإنه لم يكن في ذلك العهد بالمجتمع المكبوح
أو المحصور. فلم يكن بالمكبوح في روما؛ حيث كان بعض الكتاب السوداويين
المغترين بنبالتهم، وهي المحدَثة عند بعضهم، يشتكون من الارتقاء الاجتماعي
الذي تحقق للمحررين ومحدثي النعمة. ولا كان كذلك بالمجتمع المحصور في
المقاطعات. ولكن كيف السبيل إلى قياس درجة الرومنة الحقيقية للبربر؟
تقتضينا الإجابة عن هذا السؤال الأساسي أن تتوفر لدينا وثائق أكثر دقة
بكثير مما بين أيدينا.
حقاً إننا لا تعوزنا الوثائق المادية؛ كما أن ما بين أيدينا من المصادر
المكتوبة، تاريخية وقانونية، شيء لا يستهان به. ونضيف إليها حصيلة وافرة من
النصوص الكتابية والنقوش؛ فهي كثيرة وعديدة، إذ تقدر بخمسين ألفاً في ما
يتعلق بالمقاطعات الإفريقية. وتقدر خرائب المدن، أكانت عواصم أو مجرد
بلدات، بالمئات، وهي تعطينا صورة مثيرة عما كان لروما من سطوة ومن سلطان.
ثم إن المواقع الحصينة، وهي مناطق للسكن العسكري، قد مكنت للرومنة النفاذ
حتى الصحراء في طرابلس الغرب وفي نوميديا، وحتى هضاب السهوب العليا في
موريتانيا القيصرية. وقد كانت هذه المنطقة لا تزال، حتى عهد الإمبراطورية
المتأخرة، يسكنها جنود الليميتاناي، وهم جنود مزارعون كانوا يشتغلون بإحياء
تلك الأراضي الجرداء، وتعرضوا كما رأينا سابقاً للاصطدام مع قبائل
الجمالين. ومن وراء تلك المواقع الحصينة كانت تقوم أراض زراعية قد جرى
تقسيمها، ولا تزال آثار هذا التقسيم راسخة في المشهد التونسي وفي بعض
الأنحاء من نوميديا.
إن ذلك الكم العظيم من الأحجار المقصوبة والمدن الفخيمة والإهداءات
والأسوار الصغيرة لا يشدها شيء والقائمة على سفوح التلال، وتلك الخنادق
والحصون في المواقع الحصينة وعلامات الحدود العسكرية والأعمال الفنية لشبكة
هائلة من الطرق تبعثنا مجتمعة على كثير من الانبهار. فقد خلفت القرون
الخمسة التي عمّرها الحكم الروماني على الأرض الإفريقية آثاراً راسخة أكثر
بكثير مما خلفت القرون الأربعة عشر التي تلتها.
وندرك السبب وراء الإعجاب، المطبوع بشيء من السذاجة، الذي أثارته الأطلال
القديمة لدى أوائل المؤرخين من الحقبة الاستعمارية. وقد كان بحّاثتنا من
القرن التاسع عشر، وهم المتشبعون بالثقافة الكلاسية، يجدون خلال غيضات
السدر أو النخيل القصير كتابات تتحدث عن عمليات الاستصلاح التي وقعت على
هذه الأراضي نفسها التي كان المعمّرون الجدد يجتهدون بفؤوسهم لبعث الحياة
فيها، متكلفين فيها من الجهود المضنية والمكابدة ما بات اليوم نسياً
منسياً. ويعثر أولئك البحاثة بغير قليل من التأثر على الأماكن التي ورد
ذكرها لدى القيصر وتحدث عنها سالوست وتيت ليف والقديس أغسطين. وهل كان يمكن
لروما ألا تصير هي المرجع البديهي للتننة الجديدة التي كانت قد بدأت تقوم
في إفريقيا؟ وكيف لا يُكال المديح والثناء لروما التي مكنت بعض الأفارقة من
الوصول إلى البذخ الذي يتجلى في ما خلفوا من مآثر ومكنتهم من بلوغ أعلى
مراتب الثقافة؟ ألست ترى ابتداء من القرن الثاني كيف أن ذلك الإفريقي
فرونتون المولود في سيرتا قد صار الأستاذ لأحكم الأباطرة، مارك أوريل، كما
وأن أكثر الكتاب اللاتين «حداثة»، أبوليوس، ذلك الروائي والفليسوف والخطيب
معاً، قد كان مولده في مادور، وكان يقول عن نفسه إنه نصف نوميدي ونصف
جيتولي. فما كان هذا اللاتيني لينكر أصوله الإفريقية، بل كان يعتز بها
ويتفاخر أيما اعتزاز وتفاخر.
والحقيقة أن إفريقيا كانت من أجمل مقاطعات الإمبراطورية. وقد جاءت لروما في
أواخر القرن الثاني بأسرة حاكمة، وذلك بصعود اللبدي سيبتيم سيفير، وأربعين
سنة بعدُ بويع على أرضها كذلك، في تيسدروس (الجم) الشيخ غورديان، وسرعان
ما ضم إليه ابنه. وقد كانت تيسدروس أغنى مدن بيزاسين. ويعود الفضل في هذا
الثراء الطارىء على المدينة إلى ما تحقق لها من تطور زراعي، خاصة ما تعلق
منه بشجر الزيتون، وهو شجر ملائم كثيراً لتربة تلك البلاد ومناخها.
فلا يمكن أن ننسى الاستصلاح الذي قيّض للأراضي الإفريقية. فلم يكن الدافع
إليه يقتصر على التطور الطبيعي الذي شهدته الزراعة بما تحقق لها من
الحماية، بل كانت من ورائه كذلك إرادة سياسة تجسدت في الإدارة الإمبراطورية
على مختلف أصعدتها. وكان تأثير ذلك على الحياة الفلاحية بالغ القوة؛ كما
نراه في بعض الألفاظ اللاتينية التي لا تزال متداولة بشيء من التحريف إلى
اليوم في معظم اللهجات البربرية ما تعلق بأسماء المحراث أو النير أو
النباتات المزروعة أو الأشجار. وكذلك لا يزال جميع المزارعين في شمال
إفريقيا يحافظون للشهور في التقويم اليوليوسى على أسمائها اللاتينية، وتجد
الأمر نفسه منهم حتى في الصحراء؛ فالتأثير اللاتيني قد امتد إلى ما وراء
الحدود الرسمية للإمبراطورية.
ويعود هذا الامتداد إلى عوامل أخرى غير عوامل الرومنة بالمعنى القانوني
للاحتواء؛ فقد جرى خلال القرون التي عمّرها الحكم الروماني كذلك تمسيح
للإفريقيين. وساعدت على انتشار المسيحية في إفريقيا، كما في غيرها من
المقاطعات، تلك الميولُ الروحانية التي حملها ما كان يروج داخل
الإمبراطورية من أفكار آتية من المشرق. كما وأن الظروف الاقتصادية
والاجتماعية المتولدة عن المجتمع الروماني كانت تيسّر النجاح لدين خلاصي
يدعو إلى المساواة بين بني البشر ويعلي من شأن الفقراء. وإلى هذه الظروف،
التي كانت عامة على سائر أنحاء الإمبراطورية، انضافت بالنسبة إلى إفريقيا
الأهميةُ الخاصة للتأثير المشرقي، وهو تأثير ظلت تغذيه لقرون مديدة
الهيمنةُ الفينيقية والعلاقات الدائمة مع المشرق السامي. والواقع أن
المقاطعات الإفريقية كانت من بين سائر مقاطعات الغرب هي الأكثر انطباعاً
بالطابع المشرقي؛ من حيث عقليتها وأصول ثقافتها. لقد كانت تلك المقاطعات،
خاصة منها إفريقيا، على استعداد كبير لاستقبال الدين الجديد. وجادت
المسيحية الإفريقية بالعديد من الشهداء وجاءت بالكثير من الكتَّاب؛ أمثال
تيرتوليان وأرنوب وسيبريان. وكان أعظمهم جميعاً أغسطين، الذي أصبح أحد قادة
الفكر الغربي لقرون عديدة. والقديس أغسطين ينتسب إلى أسرة من تاقاست (سوق
أهراس) وقد أصبح أسقفاً لهيبون وأباَ الكنيسة، وتبوأ مقاماً عالمياً تجاوز
به حدود مقاطعته وحدود الإمبراطورية وتخطى به زمانه. وليس بالأمر الهيّن أن
يكون أعظم مفكري الغرب اللاتيني، ومؤلف كتاب «مدينة الله»1 وكتاب
«اعترافات»2 بربرياً مسيحياً. فكأننا بأغسطين يمثل النموذج المكتمل لتلك
الرومنة التي ظلت جارية بصبر ومثابرة طوال أربعة قرون. ومن سخرية الأقدار
أن أغسطين الذي توفي أثناء حصار الوندال لهيبون قد شهد كيف كان ينهار ذلك
العالم الروماني الإفريقي الذي كان الرحم الذي أنجبه.

1 - Cité de Dieu.
2 - Confessions

2/8/2012


izarine
izarine

ذكر عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

غابرييل كامب  : البربر - ذاكرة وهوية - صفحة 2 Empty رد: غابرييل كامب : البربر - ذاكرة وهوية

مُساهمة من طرف izarine الجمعة 3 أغسطس 2012 - 18:14



لم تمسّ الرومنة سوى نخبة محظوظة من البربر، وأما الغالبية منهم فقد ظلوا في مجموعهم خارج الحضارة اللاتينية.

رفض الطابع اللاتيني
يقول المؤرخون من غير المعجبين بالاستعمار إن روما فشلت في محاولتها
الاحتوائية؛ فالأفارقة رفضوا روما ورفضوا اللّتننة، وما كانت تلك النجاحات
التي حفظها لنا التاريخ سوى حالات فردية، وما مسّت الرومنة سوى نخبة
محظوظة، وأما السكان البربر فقد ظلوا في مجموعهم خارج الحضارة اللاتينية.
ويحدثنا هؤلاء المؤرخون برفض الإفريقيين للحكم الروماني واستبسالهم في
مقاومته، كما تشهد بذلك الكثرة الكثيرة من الاضطرابات والغارات وحركات
التمرد التي كانت تفضح حقيقة ميثاق السلم الروماني.
والواقع أن روما واجهت من تاكفاريناس (من 17م إلى 24م) إلى جيلدون (سنة
396م) حركات تمرد طاحنة أثرت بشكل خاص على الموريتانيتيْن. ويذهب المؤرخون
المُغالون في التشاؤم في ما يتعلق بالرومنة التي وقعت للإفريقيين، أمثال
كـ. كورتوا، إلى القول إن روما لم تتمكن في التوغل في المناطق الجبلية،
التي صارت لذلك بؤراً للهمجية. وهم يعتدون في البرهنة على هذه الدعوى
بالمواقع المحصنة الداخلية التي كانت تقوم حواجز بين المقاطعات في
الإمبراطورية المتأخرة، كمثل الأخدود الذي كان يحيط بجبل بوطالب في
موريتانيا السطيفية. فعندما تضعف السلطة تتدفق من تلك المناطق الجبلية حشود
من المقاتلين الأشداء، فتحطم خطوط الدفاع الداخلية وتطبق على الضيعات وعلى
البلدات بالنهب والتخريب. ثم تزداد الأوضاع سوءاً عندما ترى تلك الحركات
المحلية تسعى إلى الالتحام ببعضها؛ فتأخذ تتكون عندئذ اتحادات بين القبائل،
من قبيل الاتحادات التي قامت بين الباكوات والبافار في موريتانيا الطنجية.
وقد يبرز أحياناً من وسط ذلك السديم في بلاد البربر على حين غرة رجلٌ فإذا
هو بحق قائد عظيم. وقد كان من الشائع في عالم البربر ظهور هؤلاء المحاربين
العابرين؛ أمثال ماثوس الذي قاد التمرد الليبي خلال الحرب التي شنها
المرتزقة على قرطاج، وأمثال تاكفاريناس في مطلع القرن الأول؛ فقد ظل يرهق
لسبع سنين الفيالقَ الإفريقية، وأمثال فاراكسن الذي كانت له أيام مجيدة في
موريتانيا القيصرية خلال التمرد الكبير الذي قام في منتصف القرن الثالث،
والمدعو أبو يزيد، صاحب الحمار، الذي كاد يطيح بالدولة الفاطمية في إفريقية
في القرن العاشر، وعبد الكريم الذي [تزعم التمرد] في سنة 1920، أو حتى
عميروش في وقتنا الحاضر.
والناظر إلى تلك القائمة الطويلة من المعارك يرى كيف تتكدر بشكل غريب تلك
الصورة التي تبدو فيها إفريقيا أرضاً غنية ومخزناً لروما، إفريقيا التي
قادت البربر بالتدريج إلى ما يبدو لنا مرتبة عالية من الحضارة. فقد عفر
رماد الحرائق ولطخات الدماء بريقَ الرخام ولمعانَ الفسيفساء. ثم ألا ترى
بعض تلك الفسيفساء تصور في غير استحياء أسرى إفريقيين مقيدين بشدة كما في
تيبازة في موريتانيا، أو تصورهم وهم يُدفعون إلى الوحوش في المسارح كما في
زليتن في طرابلس الغرب.
وجها إفريقيا الرومانية
إن هذين القسمين في اللوحة المزدوجة لإفريقيا الرومانية هما من التعارض بما
يتعذر معه أن يكونا صحيحين. وأعرف أنه قد أصبح من الظُّرف اليوم القول إن
التاريخ لا يمكن أن يكون منصفاً أو حيادياً، وأن «المسبقات» تؤثر في حكم
المؤرخ إن بوعي منه أو بغير وعي. ولكن ليست مهمة التاريخ أن يصدر الأحكام،
بل أن يحلل الوقائع ويفسرها، سواء ما تعلق بالاستمرارية الاقتصادية
والاجتماعية أو بالأحداث. فإذا لم يكن التاريخ يقتصر على الأحداث، فإن
الأحداث وقائع تاريخية تكون في بعض الأحيان زاخرة بالعواقب والتبعات على
المجتمعات وعلى العقليات. ولنفكر في القرار الذي اتخذه الأمير الفاطمي في
القاهرة بتسليم إفريقيا لبني هلال! فلا يمكن أن نمحو الوقائع بجرة قلم فلا
نبقي على غير رؤية اقتصادية خالصة.
والحال أن الوقائع هي الآتية : لم تكن هنالك إفريقيا رومانية واحدة، بل
مقاطعات تتمايز أوضاعاً وتتباين ساكنات وتختلف مصالح. وإذا ما تمعّنا في
خريطة للاستيطان الروماني في إفريقيا في القرن الثالث، وهو يمثل لحظة الأوج
في هذا الاستيطان، فإننا يطالعنا تعارض واضح بين الشرق والغرب. فتونس وشرق
الجزائر كما نعرفهما في الوقت الحاضر، واللذان يقومان مقام مقاطعة إفريقيا
وامتدادها العسكري نوميديا، كانا قد بلغاً شأواً بعيداً في التحضر. وإلى
المدن ومحطات البريد الإمبراطوري، التي انتقلت إلينا أسماؤها بواسطة صُوات
الألف العسكرية والمسارات، ينبغي أن نضيف مئات البلدات التي لا تزال مجهولة
الأسماء لكنها تقوم دليلاً على كثافة سكانية استثنائية. وقد كان يمتد على
الحدود الجنوبية لهذه الولايات شريطٌ عسكري شاسع يأخذ من السهوب، بل ويأخذ
كذلك من الصحراء في طرابلس الغرب. وقد رأينا أن تلك الأراضي الجرداء، وتلك
«المناطق الخالية» التي صورها سالوست في القرن الأول قبل الميلاد قد تم
استصلاحها وإعمارها بفضل إدارة سياسية موصولة.
وأما الموريتانيتان فإن شبكة الطرق والمناطق الحضرية فيهما كانت أقل تطوراً
بكثير. فقد كانت المدن أقل سكاناً وأقل فخامة لكن تحيط بها أسوار، وهو حرص
على توفير الحماية غير معروف في إفريقيا وفي نوميديا. ولم يصل الشريط
العسكري، الذي درج الناس لوقت طويل على الخلط بينه ووادي الشلف في
القيصرية، إلى حدود منطقة التل إلا في القرن الثالث. وفي موريتانيا الطنجية
كان امتداد المقاطعة أضيق بكثير، ولم يكن الربط بين الموريتانيتين عن طريق
البر موصولاً على الدوام بطريق تخضع للمراقبة. لكن متى وقع ما يتهدد
المقاطعتين جرى وضعهما تحت قيادة عسكرية واحدة. وجملة القول إن
الموريتانيتين كانتا أقل تروّماً بكثير من نوميديا وأفرقية. وكان انعدام
الأمن فيهما أكثر تواتراً، وكانت التمردات الكبيرة المندلعة فيها تمتد في
بعض الأحيان إلى أطراف نوميديا.
ولذلك فلكي نتناول بالتحليل الجدي وضعية إفريقيا تحت الحكم الروماني
والموقف الذي كان من البربر تجاه ذلك الحكم، يجدر بنا أن نميز بدقة بين
المجموعين من المقاطعات. وهنالك أمر آخر لا يمكن أن يرقى إليه الشك؛ نريد
ضعف تعداد القوات العسكرية في بلد مترامي الأطراف، فإذا ما زدنا أعداد جنود
الفيلق الوحيد إلى أعداد الجنود في فرق الخيالة والجنود في أجنحة الخيالة
المتوزعين من طرابلس الغرب إلى المحيط الأطلسي لم يكد عددهم الإجمالي يصل
إلى 2700 رجل. ولو كان الإفريقيون قابلوا المستوطنين القليلين الذي استقروا
في المدن وفي أغنى السهول بمقاومة شرسة ومتواصلة لقرون لكان قد تم القضاء
المبرم على تلك القوات. والحال أن تلك القوات لم تكن قليلة العدد فحسب، بل
ومن المستحيل اعتبارها، من وجهة نظر حديثة، جيشاً للاحتلال. فمعظم
المقاتلين المكونين لهذه القوات جرى تجنيدهم محلياً من بين الإفريقيين
المتروّمين إن قليلاً أو كثيراً. لكن لم تكن الحكومة الإمبراطورية تتردد،
في حالات الخطر الكبير، في إرسال قوات تجنّدها من الولايات الأخرى إلى
موريتانيا.
ويُفترض بالمؤرخين المهتمين بإبراز المقاومة الإفريقية أن يقارنوا بين
أعداد الجنود المكونين للقوات في المقاطعات الإفريقية وأعداد القوات في
المقاطعات الأوروبية : الجرمانيتان وريتيا وبانونيا وميسيا وداسيا. وكان
يتجمع بطول نهريّ الراين والدانوب أكبر عدد من فيالق الإمبراطورية.
والحقيقة أن الحدود في هذه الناحية كانت تتعرض لضغط متواصل من الأقوام
الجرمان، وقد كانوا أشداء كثيري العدد، بينما ظلت أراضي الإمبراطورية في
إفريقيا تسير في توسع بفضل المراقبة التي كانت لا تفتأ تشتد على قبائل
الرحل وأشباه الرحل.
وهنالك أمر ثالث يصعب تحليله، ولكن لا يمكن استبعاده، وهو تعداد كل من
السكان الحضر، أي المتروّمين، والسكان الذين أفلتوا من هذه الرومنة. فقد
رأينا أن نسبتهم السكانية تختلف كثيراً بين إفريقيا وموريتانيا، ولكن
الجبال لم تكن على الدوام تلك الملاذات والملاجئ التي توحي إلينا بها
تعارضات الاستعمار الحديث. فالفراغات التي لا نزال نراها على الأطالس
الأثرية لا تدل دائماً على غياب أطلال المباني القديمة، بل يشير معظمها إلى
قصور في أعمال الاستكشاف والتنقيب، وهذا أمر يصح خاصة على الأوراس. وعلى
العكس فحتى في المناطق الأكثر تروّماً كنت لا تزال ترى وجوداً لأقوام قد
حافظوا على تنظيمهم الخاص وكانت بلدتهم الرئيسية تُعرف باسم القبيلة. وقد
كانت أراضي هذه القبائل واضحة الحدود، وكان الشيء نفسه واقعاً بين المدن مع
بعضها وبين المدن ومناطق النفوذ الخاصة أو الإمبراطورية. فلا يمكن أن
نعتبر هذه الأقاليم بمثابة المحميات أو من قبيل البانتولاند، لأنها كانت
تتروّم بوتيرة أخف قليلاً عما كان جارياً في أراضي الاستعمار القديم. ولقد
تحقق لها من التقدم كمثل ما تحقق للمدن الأخرى. وتعتبر توبرسيكو نوميداروم
مثالاً جيداً في هذا الباب؛ فقد كانت في بدايتها لا تزيد عن تجمع سكاني على
أرض قوم من النوميديين، قد يكونون حصلوا على الإذن بتكوين مدينة أهلية، ثم
صارت بلدية تحت حكم تراجان، وصار أمير القبيلة في ذلك الوقت، وقد اكتسب
حقوق المواطنة الرومانية، عضواً في المجلس البلدي. ثم صارت مدينة تبرسق
وتراب القبيلة، جيلاً واحداً بعدُ، وقد فقدا كل ما كان لهما من أصالة، فما
عادا يزيدان عن بلدية كغيرها من البلديات الأخرى تحيط بها أراض جماعية.
ويمكننا أن نتتبع هذا التحول النموذجي كذلك على طرف الصحراء، لدى قبيلة
النبجني التي صارت قريتها بلدية، وغيرت حتى اسمها، فصارت تُعرف بتوريس
تاميلاني.
بقاء المسيحية بعد روما
هل كان تمسيح إفريقيا من العظم والرسوخ كما تدفعنا إلى الاعتقاد
الشخصيات العظام أمثال أغسطين وسيبريان Cyprie وتيرتوليان قبله؟ أو لم يكن
الانشقاق الدوناتي، الذي كثيراً ما جرى تصويره وكأنه تجل للمقاومة
الإفريقية، بسبب أهميته نفسها، دليلاً على عمق وتوسع التحول إلى الديانة
الجديدة؟ ولكن ألم تكن المسيحية محصورة في المدن وحدها، وأنها قد اعتُبرت
في الأخير شكلاً جديداً من أشكال الاحتواء؟
ينبغي أن نقوم بالتفنيد لهذه النظرة التضييقية. فالقوائم الأسقفية الطويلة
من المجامع الدينية الإفريقية والكنائس القائمة في بلدات متواضعة نجهل حتى
بأسمائها والشواهد على قبور بسطاء الفلاحين وحتى الشواهد على قبور رؤساء
البربر في مناطق تبدو قليلة تروُّم من قبيل سلسلة البابور؛ حيث كان ملك
الإكوتامنيين (الذين أصبحوا يُعرفون في القرون الوسطى باسم «كتامة») يتسمّى
في القرن الخامس بـ «خديم الله»، تقوم كلها شهادات على تمسيح يبدو من بعض
الوجوه وقد تجاوز حدود السيطرة الإمبراطورية. وكذلك تجاوز التمسيح الحدود
الزمنية للحكم الروماني، وظل موصولاً خلال العهدين الوندالي والبيزنطي.
وهذا الكاتب الإسباني من العهد البيزنطي خوان دى بيكلار قد تحدث عن التمسيح
الذي وقع للجرمنت في الصحراء في حوالي سنة 568-569م. وإذا كان كوريبوس قد
جاء في القرن السادس بتصوير للممارسات الدينية، وحتى السحرية، للرّحل
الجمالين من لواتة الذين بقوا على الوثنية، فإنه تناول تلك الممارسات بفضول
كفضول عالم الأعراق؛ فقد اعتبر تلك الممارسات شيئاً غريباً عن عالمه.
فعلى الرغم من التحول المكثف الذي كان من البربر إلى الإسلام فإن المسيحية
قد بقي [لها وجود لديهم] دون شك حتى القرن الحادي عشر، فذلك ما تدلنا عليه
سلاسل كثيرة من شواهد القبور في طرابلس الغرب (النجيلة) وفي تونس
(القيروان)، كما تشهد عليه المراسلة التي كانت من البابا غريغوار السابع،
والتي تفيدنا في سنة 1053م بقاء أسقف في قومي (تونس) ونصوص نادرة لكتاب
عرب. وذكر البكري جماعة مسيحية كانت في تلمسان في القرن الحادي عشر، ويذكر
تـ. لويكي أنه تعرف على وجود ساكنة مسيحية مهمة وسط البربر الإباضيين في
ورقلة بين القرنين العاشر والثالث عشر.
ولقد كان في تضافر التعصب الموحدي والفوضى البدوية العامل الرئيسي في
القضاء على هذه الذخائر الثقافية والدينية لإفريقيا الرومانية. وفي القرن
نفسه تهاوى الازدهار الزراعي الذي تحقق بفضل الجهد والمثابرة اللذين كانا
من الليبيين الفنيقيين في عهد القرطاجيين والنوميديين من الأسرة الماسيلية،
وكانا من الرومان الإفريقيين، وهي أسماء تخفي حقيقة البربر القدامى وتخفي
استمراريتهم.
وعليه فقد منيت روما بالفشل في إفريقيا للسبب البسيط وهو أن الحضارات فانية تسير إلى زوال.
إن بلاد البربر لم تصر بلداً لاتينياً كمثل إسبانيا، وهي القريبة جداً
إليها، وقد تعرضت هي الأخرى لعمليات النهب والتبديد من البرابرة الجرمان
وغزو بيزنطي ثان، وعاشت قروناًَ عديدة من الحكم العربي الإسلامي. لكن
اللّتنتة الإيبيرية كانت تستند إلى أوروبا الإقطاعية والمسيحية، وأما بلاد
البربر فلم تكن لها من خلفية تستند إليها غير السهوب التي تسلل إليها منها
أولاً الرّحل الجمالون الذين استمروا على الوثنية، ثم الهلاليون والعقلية
البدوية.


3/8/2012

izarine
izarine

ذكر عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

غابرييل كامب  : البربر - ذاكرة وهوية - صفحة 2 Empty رد: غابرييل كامب : البربر - ذاكرة وهوية

مُساهمة من طرف izarine الأحد 5 أغسطس 2012 - 18:06


كان من نتائج دخول تعرّب قسم كبير من بلاد البربر، وباتت دول بلدان المغرب
تعتبر نفسه
ا دولاً عربية

آلية التعريب
لقد سلك التعريب طرقاً أخرى، وإن يكن جرى التمهيد له بوجوب النطق
العربي بتلك الجمل المعدودة اللازمة للدخول في الإسلام. فالقرآن، وهو وحي
مباشر من الله إلى رسوله، لا ينبغي أن يلحقه أي تحريف، ولذلك فلا ينبغي
ترجمته، فيكون اللسان العربي والكتابة العربية بالنتيجة شيئين مقدسين. وقد
كان هذا الإكراه وهذه الهالة من القداسة مما ساهم في التعريب اللغوي. لكنه
تعريب تم خلال الحقبة الأولى (في القرنين السابع والتاسع الميلاديين) على
صعيد الحواضر في المقام الأول. ولقد حافظت بعض المدن المغاربية، خاصة من
بين الساحلية، على لغة عربية أقرب إلى الفصيحة، تعتبر انعكاساً لذلك
التعريب الأول، قد عزز منها تدفق الأندلسين المطرودين من إسبانيا في القرن
الخامس عشر. غير أن العربية الحضرية، الفصيحة، صارت في معظم الأماكن تطغى
عليها لغة أخرى أكثر شعبية، لغة خشنة تخالطها مفردات من البربرية. وتتميز
هذه العربية اللهجية نفسها بتنوع كبير، وهي تعتبر في الواقع الصورة اللغوية
للتعريب الذي همّ بلدان المغرب. إنها لغة انحدرت من اللغة البدوية التي
أدخلتها القبائل الهلالية في القرن الحادي عشر؛ فهذه القبائل هي التي قامت
في الحقيقة بتعريب قسم كبير من البربر.
وإنها لقصة غريبة، بل هي في الحقيقة قصة مدهشة عجيبة، نراها في ذلك
التحول العرقي والاجتماعي الذي كان إلى الإسلام من ساكنة بربرية تقدر
بالملايين على أيدي بضع عشرات الآلاف من البدو. فلا يمكننا أن نبالغ في
الأهمية العددية لبني هلال، فمهما يكن عدد أولئك الذين يدعون الانتساب
إليهم، فلقد كانوا عند ظهورهم في إفريقية وفي المغرب لا يكادون يزيدون عن
بضع عشرات الآلاف. كما وأن الموجات اللاحقة من بنى سليم ثم بنى معقل، الذين
استقروا في جنوب المغرب، لم تكد ترفع عدد الأفراد من الأصل العربي الذين
دخلوا إلى شمال إفريقيا في القرن الحادي عشر إلى أكثر من مائة ألف. وقد كان
عدد الوندال لدى عبورهم مضيق جبل طارق ونزولهم على شواطىء إفريقيا في سنة
429م يقدر بثمانين ألفاً، أو ضعف هذا العدد، إن كان فيكتور دو فيتا لم
يقتصر في الأرقام التي جاء لهم بها على الرجال والذكور من الأطفال. وهو ما
يعني أن الاجتياحين كانا يكادان يكونان متناسبين من حيث الأهمية العددية.
ولكن ماذا تبقى من سيطرة الوندال على إفريقيا قرنين بعدُ من الزمن؟ لا شيء.
فلقد محا الغزو البيزنطي كل أثر لوجود الوندال، الذين عبثاً سنبحث عن ذرية
لهم، أو عمن قد يدّعون الانتساب إليهم. ولننظر الآن في النتائج التي كانت
لوصول العرب الهلاليين في القرن الحادي عشر؛ فلقد تعرّب قسم كبير من بلاد
البربر، وباتت دول بلدان المغرب تعتبر نفسها دولاً عربية.
وبطبيعة الحال فإن هذا التحول البطيء لم يكن السبب من ورائه لا القوة التناسلية لبني هلال ولا الإبادة التي وقعت للبربر في السهول.
لقد وجهت القبائل البدوية في البداية ضربة جديدة للحياة الحضرية، بما كانت
تأتي من أعمال النهب، وبالتهديدات التي كانت تمثلها للقرى المفتوحة. وبذلك
عززت هذه القبائل من عملية استيعاب الرحل من البربر الجدد الذين كانوا قد
دخلوا إلى إفريقيا ونوميديا منذ القرن الخامس. فقد تعرض الرحل الزناتيون
الذين كانوا الممهدين لدخول الهلاليين للاحتواء بسهولة من القادمين الجدد.
فإذا المحاربون الرحل العرب الذين كانوا يتكلمون اللغة المقدسة قد اكتسبوا
بها هيبة عظيمة، وبدلاً من أن يتعرضوا للتذويب الثقافي في الكتلة البربرية
من الرحل، قام هؤلاء باستمالتها إليهم واحتوائها.
لقد يسّر التطابق في أنماط العيش هذا الاندماج. وإنه لشيء مثير أن يقول
البربر الرحل عن أنفسهم إنهم هم كذلك من العرب، وأن يكتسبوا الاعتبار ويصير
لهم وضع الفاتحين، بلهَ وضع الأشراف أي المنتسبين إلى النبي. وزاد في
تيسير الاندماج كذلك حيلة قانونية؛ فالمجموعة أو الفخدة إذا صارت تابعة
لأسرة عربية صار لها الحق في أن تحمل اسم رب هذه الأسرة، كأنما يتعلق الأمر
بتَبن جماعي. كما وأن وجود ممارسات مماثلة لدى البربر أنفسهم قد زاد في
تيسير هذه العملية.
وعليه فالتعريب وقع في البداية على القبائل البربرية من الرحل، خاصة
القبائل الزناتية. ولقد كان تعريباً كاملاً حتى إنه لم يبق اليوم شيء من
لهجات الرحل الزناتيين، وأما اللهجات التي ما زالت تتمتع بشيء من الحياة
فهي التي لا يزال يتكلمها الزناتيون المستقرون إما في الجبال (الورشنيس) أو
في واحات الصحراء الشمالية (مزاب).
وإلى الاتفاق في أنماط العيش، وهو عامل قوي من عوامل التعريب، انضافت
اللعبة السياسية التي كان يأتيها الحكام البربر؛ فقد كانوا لا يترددون في
تسخير تلك القدرة على التحرك عند القادمين الجدد وما كان لهم من قوة عسكرية
ضد أبناء جلدتهم. وبفعل الضغط المزدوج من نزوح الرعاة والأعمال الحربية
وما يرافقها من أعمال النهب والحرق، أو أعمال السرقة في أقل تقدير، إذا أن
مد الرحل، الذي بات يقع يومئذ في القسم الأعظم من المغرب الكبير بموازاة مع
تعرّب البدو، قد صار إلى اتساع مستمر، وبات يتأكَّل الدول ويقضي على حياة
الاستقرار في السهول. فإذا المناطق الناطقة بالبربرية قد انحسرت فما عادت
تزيد عن جزر جبلية. وإلى هذه الأسباب ذات الطبيعة العرقية والاجتماعية
تنضاف التغيرات المناخية، وهي التي صارت، صُعداً مع القرن السابع، تساعد
على نمط العيش الرعوي والترحالي وتضيّق على المزارعين المستقرين.

تأكيدات وحقائق
لكن هذه الرسيمة قاطعة بإفراط بحيث لا يمكن أن تصح على التفاصيل. فلا يمكن
أن نُعمل مثل هذه الثنائية على الواقع الإنساني للمغرب الكبير. فالرحل لم
يتعربوا جميعاً، ولا تزال هنالك مناطق شاسعة يتنقل فيها الرّحل الناطقون
بالبربرية. كما لا تزال لهم الغلبة في وسط الصحراء وجنوبها كله في الدول
[المغاربية] الثلاث. فلا تزال قبائل آيت عطا الكبيرة المتمركزة حول جبل
صاغرو في جنوب المغرب مستمرة على حياة الترحال البربرية بين المجموعات
العربية في تافيلالت التي كان منها مجيء الأسرة الشريفة، والرحل من الصحراء
الغربية الذين يقولون إنهم ينحدرون من قبائل [بني] معقل العربية، والذين
باتوا يخضعون اليوم لسيطرة [قبائل] الرقيبات. وينبغي كذلك أن نأخذ في
الحسبان أشباه الرحل ضمن مجموعة البرابر ذات الشأن في الأطلس الأوسط، ويدخل
فيها زيان وبني مكيلد وآيت سغروشن.
ولا ينبغي في المقابل أن يذهب بنا الاعتقاد إلى أن العرب جميعاً هم من
الرحل فحسب، فقبل مجيء الفرنسيين، وهم الذين شجعوا على الفلاحة وحياة
الاستقرار، ولو لم يكن إلا بغرض نشر الأمن، كانت بعض المجموعات الناطقة
بالعربية تعيش قبل ذلك بقرون حياة الاستقرار من حول المدن وفي القرى أشدّها
انزواء. وسأضرب لما أقول مثالاً لأنه هو النموذج الأمثل ولأنه يقوم نقيضاً
للرسيمة الشائعة؛ نريد سكان منطقة القبائل الصغرى وسكان مجموع السلاسل
الجبلية والجبال الساحلية المتوسطة في شرق الجزائر وفي شمال تونس. فكل
هؤلاء الجبليين وسكان التلال قد عُربوا منذ عهد بعيد، غير أن عيشهم على
الغابة وعلى فلاحة أقرب إلى البستنة والتشجير جعلهم يستمرون على نمط من
العيش مستقر يرتكز على تربية الأبقار. ويمكن أن نمثل لهذا الأمر كذلك
بنماذج مشابهة من الريف الشرقي [في المغرب] ومن الورشنيس الغربي.
لكن هذا الذي ذكرنا لا يمنع اليوم أن كل المناطق الناطقة بالبربرية هي
مناطق جبلية، باستثناء الصحراء، فكأن تلك المناطق كانت معاقل وملاجئ يلوذ
بها السكان الذين كانوا يتخلون بالتدريج عن المناطق المستوية للرّحل وأشباه
الرّحل المشتغلين بتربية المواشي الصغيرة من العرب والمستعربين. وكان هذا
هو السبب وراء الانقلابات السكانية التي شهدتها منطقة شمال إفريقيا في
القرن التاسع عشر؛ فجبال وتلال ذات تربة فقيرة يقطنها مزارعون، وهم من
الكثافة بما يفوق بكثير سكان السهول والأودية الكبيرة ذات التربة الخصيبة؛
وتتنقل فيها مجموعات صغيرة من مربي المواشي.
وبعض المجموعات الجبلية قليلة تلاؤم مع ظروف العيش في الجبال، وربما كان
هذا الأمر مدعاة للبحث عن أصولها في مناطق أخرى. فبعض الجزئيات المتعلقة
باللباس لدى هذه المجموعات، وخاصة جهلها ببعض الممارسات الزراعية، من قبيل
الزراعة في المدرجات في منطقة الأطلس التَّلي، تحمل على الاعتقاد بأن
الجبال لم تكن حصوناً ومعاقل لمقاومة التعريب فحسب، بل كانت كذلك ملاذات
حقيقية قد تجمّع فيها المزارعون الهاربون من السهول التي تُركت لنهب الرعاة
من الرحل.
وإذا كانت الزراعة في المدرجات شيئاً لا يعرف به مزارعو الجبال في منطقة
التل (بينما هي واسعة الانتشار في البلدان والجزر المتوسطية الأخرى)، فإنها
تعتبر في المقابل شيئاً يتقنه البربر في الأطلس الصحراوي وفي السلاسل
الجبلية المجاورة ويبرعون فيه، ومن المؤكد أنهم خبروا هذه الزراعة منذ
العصور القديمة. وتوجد أجمل المدرجات عند الشلوح في الأطلس (المغرب)،
والزراعة لديهم في جبال القصور وفي الأوراس (الجزائر) ولدى قبائل مطماطة
(تونس) تجري بصورة طبيعية في مدرجات يحيطونها بالكثير من العناية.
ومهما تكن أصول البربر الذين يقطنون الجبال في منطقة التل فإن أعدادهم
كبيرة وهم يعيشون على أرض فقيرة ومحدودة، بما يضطرهم إلى الهجرة. وهذه
الظاهرة ذات الأهمية الكبيرة في منطقة القبائل ليست بجديدة. والقبائليون،
كمثل ما كان السفويون في القرنين الثامن والتاسع عشر، يشتغلون باعة متجولين
أو يختصون ببعض الحرف في المدن، من قبيل تجارة الزيت والخضار...
وكان التزايد الديمغرافي الناتج عن الاستعمار سبباً في توافد الجبليين
الناطقين بالبربرية بكثافة على السهول المزروعة وإقبالهم على المدن. وقد
كان يمكن لهذه الحركة أن تؤدي إلى ما يشبه الغزو الثاني اللغوي والثقافي
على حساب اللغة العربية، ولكن لم يحدث شيء من ذلك. بل حدث العكس، فالبربري،
سواء القبائلي أو الريفي أو الشلحي أو الشاوي، الذي يجيء إلى البلاد
العربية يتخلى عن لسانه، وما أكثر ما يهجر عاداته، وما أسهل ما يستعيدهما
متى عاد إلى بلاده.
وبما أن الجبال البربرية لا تزال تعتبر الخزان الديمغرافي الكبير في
الجزائر كما في المغرب، فإن هنالك أمراًَ يبدو تناقضاً في الظاهر، ويتمثل
في أن الدم العربي النادر أصلاً في هذين البلدين يزداد انحساراً وتقلصاً
بما يتزايد تعريبهما الثقافي واللغوي.

عابرون من غير عقب ثقافي
الوندال والبيزنطيون
سوف لا نتوقف طويلاً عند ردود الأفعال التي كانت من البربر على حكم الوندال
والبيزنطيين الذي لم يعمر إلا لقرنيين من الزمان أو يزيدان قليلاً. ولم
يخلف هؤلاء العابرون، الذين سرعان ما ذهبت بهم رياح التاريخ، في إفريقيا
شيئاً، وإلا فالنزر الزهيد. ولا يمكن أن ننكر أن عملية التمسيح قد استمرت
جارية على الرغم من النزاعات اللاهوتية التي كانت لا تفتأ تنال من سلطة
الملوك والحكام والأساقفة.
إن الوندال، الذين كان عددهم حين نزولهم في إفريقيا يقدر بـ 000 80 حسب
فيكتور دو فيتا، أو 000 160، إذا كان الرقم الأول لا يمثل إلا الرجال
والأطفال الذكور، قد صاروا إلى زوال بعد الهزيمة التي وقعت لجليمير وموته.
ولم يفلح البيزنطيون على الرغم من جهودهم العسكرية الكبيرة في احتلال غير
جزء زهيد من المقاطعات الرومانية القديمة. وأهم ما بقي من مرورهم في
إفريقيا تلك القلاع العظيمة التي شادوها من الحجر المقصوب الذي استخرجوه من
المدن المجاورة. وقد كانت هذه المدن كثيراً ما تتعرض للتخريب بسبب الفتن
والاضطرابات التي ظلت منذ سقوط الحكم الروماني في اتساع واشتداد.
غير أن العهدين الوندالي والبيزنطي لا يعدمان أهمية على موضوعنا في هذا
الكتاب. فلقد شهد هذان العهدان انبعاثاً للتقاليد البربرية بسبب الانحدار
الذي وقع للنزعة اللاتينية. وتقوّت هذه البربرية الكامنة على أيدي البدو
الجمالين من الزناتيين، بينما تكونت لدى الموريين شتى الممالك، وكانت
نخبتها تتكون من رومان المدن. وقد رأينا أن هذه الممالك البربرية المسيحية
كانت تقوم على قواعد هشة واهية فلم تجدها فتيلاً في الصمود طويلا للضربات
القاصمة التي وقعت عليها من الجيوش العربية.
وذهب كـ. كورتوا إلى الاعتقاد أن في القرن السادس كانت توجد قرابة ثماني
ممالك، تبدو لي بعضها مثاراً للكثير من الشك. وأعتقد شخصياً أن ما أسماه
مملكة ألطافا ومملكة الورشينيس لم يكونا يزيدان عن كيان ترابي واحد كان
يغطي غرب موريتانيا القيصرية، ونعرف على الأقل ملكه، ماسونا، الذي تولى
الحكم سنة 508، وربما كان لا يزال في الحكم إلى سنة 535.
يظهر هذا الانبعاث البربري جلياً كذلك في فنون الزخرفة؛ التي صارت تطغى
عليها التخطيطية الهندسية دون سواها. فكأنما هبت على تلك الفنون رياح
الصحراء الجافة فما أسرع ما ذهبت بتلك المرونة التي كانت تميز الأشكال
الزهرية فيها، فصارت إلى الأشكال المستطيلة التي لا نزال نراها عليها إلى
الوقت الحاضر في البوادي المغربية. وصارت صور الإنسان والحيوان فيها إلى
تصلب وباتت خيالات هندسية مسكوكة. وهبت تلك الريح الجافة نفسها على كل
مظاهر النقش والرسم والهندسة، وعلى فن سرعان ما نسي، لأنه شعبي ولأنه خاصة
قروي، القواعدَ المعقدة التي تقوم عليها الأساليب الكلاسية. فهذا أدى إلى
انبعاثات غريبة؛ فنحن نرى النقيشات في هذا العهد أقرب إلى النقائش
والمنوحوتات النادرة السابقة على العهد الروماني منها إلى الأعمال الحضرية
التي تعود إلى القرون السابقة.
ألسنا نجد الظاهرة نفسها، مع مراعاة جميع الفروق، قد كانت هي الممهد في
بلاد الغال لنشوء هذا الفن الروماني، الذي عادت لتطفو على سطحه التقاليد
السلتية القديمة، التي كانت قد انطمست لبعض الوقت بطغيان معايير الفن
الرسمي الروماني؟

الإسلام وتعريب البربر
كيف أصبح شمال إفريقيا، بساكنته من البربر المتروّم بعضهم والمتمسّح
بعضهم، خلال قرون معدودة مجموعاً من البلدان المسلمة بالكامل والمعربة إلى
حد بعيد، وإلى درجة أن غالبية هؤلاء السكان يقولون عن أنفسهم، أو يعتقدون،
أنهم من أصول عربية؟
يبدو لي أن السعي إلى بيان آلية التعريب سيكون أكثر إيجابية من البحث
عن الأسباب التي كانت من وراء الفشل النسبي الذي منيت به عملية الرومنة.




4/8/2012

izarine
izarine

ذكر عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

غابرييل كامب  : البربر - ذاكرة وهوية - صفحة 2 Empty رد: غابرييل كامب : البربر - ذاكرة وهوية

مُساهمة من طرف izarine الإثنين 6 أغسطس 2012 - 14:14




29) صارت بلاد البربر مسلمة في أقل من قرنين من الزمن، بينما لا تزال لم
تتعرب بالكامل حتى الآن، بعد مرور ثلاثة عشر قرناً على الغزو العربي الأول.

نشر الإسلام ليس نشر العربية
من المهم في البداية أن نميز بين الإسلام والعروبة. حقاً إن هذين
المفهومين، وأحدهما ديني والآخر عراقي اجتماعي، قريبان جداً إلى بعضهما لأن
الإسلام ظهر لدى العرب، وكانوا هم في البداية من قاموا على نشره، وأن
هنالك أقواماً من العرب أو المستعربين قد بقوا على مسيحيتهم (في سوريا
ولبنان وفلسطين والعراق ومصر)، وملايين من المسلمين الذين ليسوا من العرب
ولا من المستعربين (السود الأفارقة والبربر والأتراك والكرد والألبان
والإيرانيون والأفغان والباكستانيون والأندونيسيون...). وقد كان يمكن
للبربر أن يدخلوا جميعاً في الإسلام، مع البقاء على هويتهم، والمحافظة على
لغتهم وتنظيمهم الاجتماعي وثقافتهم، أسوة بالفرس والترك. بل إن هذا الأمر
كان من الناحية النظرية سيكون عليهم أسهل وأيسر، ذلك بأنهم كانوا أكثر
عدداً من بعض الأقوام الذين حافظوا على هويتهم في صلب أمة الإسلام، وأنهم
كانوا أبعد عن المركز الذي كانت منه انطلاقة الإسلام.
وكيف نفسر أن تكون إفريقيا ونوميديا، وحتى الموريتانيتان، التي وقع عليها
التمسيح بالوتيرة نفسها التي وقع على المقاطعات الأخرى من الإمبراطورية،
وكانت لها كنائس تتميز بالشدة والصرامة، كيف نفسر أن تكون تحولت بالكامل
إلى الإسلام، بينما بعض الأقوام على أبواب شبه الجزيرة العربية قد لبثوا
على المسيحية؛ كالقبط في بلاد النيل، والموارنة في لبنان، والنسطوريين
واليعاقبة في سوريا والعراق؟

نهاية عالم
دخل الإسلام إلى إفريقيا، كما دخل إلى الشرق الأدنى، بطريق الغزو العربي،
وهذه من المسلمات. ولقد رأينا مدى الجهل الذي يرين على وقائع ذلك الغزو؛
وهي وقائع تزيد في إرباكها الحكايات الأسطورية الكثيرة التي وضعت بهدف
الإشادة بمنجزات مقاتلين جُعلوا على رأس سلالات قوية. وإن بعض ما أورده ابن
عبد الحكم والنويري قد كان يغلب عليه النفس الملحمي للأناشيد البطولية.
وكان في ضعف البيزنطيين ما يسَّر الغزو الإسلامي. وكان البطريق غريغوار
الذي هُزم وقتل في معركة سبيطلة هو نفسه تمرد على إمبراطور القسطنطينية.
وكانت إفريقيا قبل قرنين من ذلك العهد نهباً للفوضى؛ فلقد اجتمعت كل عوامل
الاختلال والخراب الاقتصادي على هذا البلد البائس. فمنذ عهد الوندال بقي
القسم الأكبر من المقاطعات القديمة متأبياً عن إدارة الدول وريثة روما، وما
كانت مملكة الوندال في إفريقيا تغطي غير تونس الحالية وجزءاً صغيراً من
شرق الجزائر تحده في الجنوب الأوراس وفي الشرق خط الطول في سيرتا. وقد بيّن
كـ. كورتوا، بالاستناد إلى روايات بروكوبيوس وكوريبوس، أن الرّحل الجمالين
توغلوا تحت قيادة كاباون في بيزاسين، وذلك منذ نهاية حكم ثراساموند في سنة
520م أو نحوها. ومنذ هذا التاريخ كان على الوندال والبيزنطيين أن يتصدوا
لهجمات الرحل الجمّالين المتواصلة يشنونها من الجنوب الشرقي. وخلال ذلك
الصراع المتجدد كان الوندال يجدون في بعض الأحيان حلفاء من الرؤساء أو
الملوك على الأقوام الجبليين المستقرين أو أشباه الرحل، لكن كان يتعين
عليهم في كثير من الأحيان كذلك أن يواجهوا تحالف المجموعتين البربريتين
المجتمعتين تحت اسم الموريين.
وأما ما تبقى من إفريقيا، ذلك القسم الذي أسماه كـ. كورتوا «إفريقيا
المنسية»، فلا نعرف منه في هذه الفترة الممتدة على قرنين من الزمن غير
أسماء الرؤساء ونصب مقابرية قليلة جداً، من قبيل الجدارات بالقرب من سعيدة
أو الكور بالقرب من مكناس وكتابات ماستيس الشهيرة في أريس (الأوراس)
وكتابات ماسونا في ألتافا (منطقة وهران). ويذهب بنا الظن، من خلال قراءتنا
للنتف التي نقلها إلينا المؤرخون ومن خلال محتوى هذه الكتابات، إلى أن
المخاطر وانعدام الأمن لم تكن بالشيء اليسير في هذه المناطق «المحررة».
وكان هنالك مصدر آخر للفوضى والتدهور الاقتصادي؛ نريد التفكك الذي وقع في
خطوط الدفاع والمراقبة التي كانت تصد الرُّحل. وقد شكل اختفاء مناطق
الزراعة الجنوبية أول إضرار بحياة الاستقرار في المناطق الداخلية من
البلاد.
وفي الأخير فالنزاعات اللاهوتية عند مسيحي إفريقيا لم تكن أقل حدة مما عند
مسيحيّي المشرق. فالكنيسة التي كانت تلاقي عنتاً كبيراً في التصدي
للدوناتية قد ضعُفت في مملكة الوندال من جراء عمليات الاضطهاد، ذلك بأن
الأريوسية صارت الدين الرسمي للدولة. ولئن عادت العقَدية الدينية إلى
الانتصار من جديد تحت حكم هيلديريك، فإن المجمع الذي دعا إليه بونيفاتيوس
أسقف قرطاج وكبير أساقفة إفريقيا في سنة 525، يمكن اعتباره بمثابة فشل،
بالنظر إلى العدد المحدود من الأساقفة الممثلين فيه. ويُتبين من القوائم
الأسقفية لهذا المجمع والمجامع التي انعقدت بعده مدى العنت الشديد الذي
وقعت فيه الكنائس الإفريقية منذ عهد القديس أغسطين. فلم يقتصر الأمر على
اختفاء الكثرة الكثيرة من الأساقفة، بل تدخل فيه كذلك خصوصيتها المحلية
والانكماش الذي صارت إليه من جراء تفكك الدولة الرومانية.
وكان الغزو البيزنطي الثاني من هذه الناحية أبلغ أضراراً. فقد أدخل من جديد
إلى إفريقيا نزاعات جديدة حول طبيعة المسيح؛ فقد كانت فاتحة الحقبة
البيزنطية في إفريقيا بالجدال حول الطبيعة الواحدة للمسيح ونزاع المجالس
الدينية الثلاثة تحت حكم جوستينيان، وكانت خاتمتها بمحاولة المصالحة التي
قام بها هرقل، والإدانة التي وقعت على الوحدانية بدورها إذ اعتُبرت بدعة
جديدة. ومع بداية الغزو العربي نشأ نزاع جديد من المبادرة التي قام بها
الإمبراطور كونستان الثاني؛ إنه نزاع تيب، الذي استمر يمزق إفريقيا
المسيحية (648).
وفي الوقت نفسه تزايدت التعقيدات الاجتماعية، بل والعرقية، في البلاد.
فالرومان الإفريقيون الذين كانوا يسكنون المدن والقرى، الموغل بعضها في
الجنوب، من قبيل المجتمع الفلاحي الذي كشفت عنه الصفائح الألبرتينية على
بعد مائة كلم جنوبي تبسة، والموريون غير المترومين والمنحدرون من بعض
الأقوام من البربر القدامى، انضاف إليهم الرّحل الزناتيون وبقايا الوندال
والجنود الغزاة والإداريون البيزنطيون وهم الشرقيون. وصار هذا المجتمع
يزداد انقساماً في بلد قد امّحى فيه حتى مفهوم الدولة.
وجملة القول إن الغزاة العرب، وقد كانوا قليلي العدد لكن بواسل، لم يجدوا
في مواجهتهم دولة على استعداد لمقاومة ذلك الاجتياح، بل تصدى لهم معارضون
متتابعون؛ فيهم البطريق البيزنطي ثم الرؤساء البربر، وإمارات بعد ممالك
وقبائل بعد اتحادات. وأما الساكنة الرومانية الإفريقية، المنغلقة خلف أسوار
مدينتها، فهي على الرغم من كثرتها الكثيرة لم تكن تملك لا الوسيلة ولا
الإرادة للدخول في مقاومة طويلة لهؤلاء السادة الجدد المبعوثين من عند
الله. ثم إن الجزية التي فرضها عليها العرب لم تكن بأثقل من الضرائب التي
كانت تقع عليها من البيزنطيين، وقد كانت جبايتها تبدو في بادئ في الأمر على
الأقل في صورة مساهمة استثنائية في التخفيف من مآسي الحرب أكثر مما هي
فريضة دائمة. وأما ما كان يأتي فرسان الله من عمليات السلب وأخذ الغنائم
فما كانت من الإجحاف إلا بقدر ما كان يقع عليهم من ممارسات الموريين منذ
قرنين من الزمن.

سبل الهداية
لقد قلنا بوجوب التمييز بين الأسلمة والتعريب. فالأولى تقع بوتيرة أسرع
بكثير من الثاني. فقد صارت بلاد البربر مسلمة في أقل من قرنين من الزمن،
بينما لا تزال لم تتعرب بالكامل حتى الآن، بعد مرور ثلاثة عشر قرناً على
الغزو العربي الأول.
كانت الأسلمة والتعريب الأول ذوي طابع حضري في البداية. فقد انغرست ديانة
الغزاة في المدن القديمة التي كان يزورها المقاتلون الدعاة ثم العلماء، وهم
رحالة متمرسون على المناقشات اللاهوتية. وساهم إنشاء مدن جديدة، وقد كانت
مراكز دينية حقيقية، كالقيروان، وهي أول منشأة إسلامية (670م)، وفاس التي
أسسها إدريس الثاني سنة (809م)، في الترسيخ للإسلام على طرفيّ البلاد.
لقد كان تحوّل البربر في القرى، من صهناجة وزناتة، إلى الإسلام في صورة
شديدة الغموض. فقد كانوا مهيإين للتوحيدية المطلقة التي جاء بها الإسلام
بفعل التطور الذي شهدته المسيحية في ذلك الوقت، وبسبب من نوع من التبشير
اليهودي الذي كان يجري لدى قبائل الجنوب من الرحل، وربما بسبب كذلك من ذكرى
تلك القدرة الهائلة التي كانت للإله الإفريقي العظيم، الذي يسميه اللاتين
ساتورن، وهو خليفة بعل حمون البونيقي الذي كان تفوقه على الآلهة الآخرين
ممهداً للتوحيد.
وعلى كل حال فإن تحول رؤساء الاتحادات القبلية الكبيرة قد أدى إلى نشر
الإسلام بين الساكنة البربرية. كما وأن الغزوات الظافرة التي خاضها
المقاتلون البربر تحت قيادة هؤلاء الرؤساء وراية الإسلام قد كان من الطبيعي
أن تتأدى بهم للانقلاب إلى الإسلام.
ولجأ الدعاة المسلمون إلى ضرب المثل ليستميلوا إليهم قلوب السكان في المدن،
خاصة في القرى. فقد كان ينبغي أن يظهروا لهؤلاء المغاربيين، الذين كانوا
شديدي تديّن على الدوام، كيف تكون الجماعة الحقيقية للمدافعين عن العقيدة.
فكان الرباط، وهو دير أو قلعة يسكنها جنود من العبّاد المستعدين على الدوام
للدفاع عن أرض الإسلام ضد الكفار والمبتدعة، والمستمدين تعاليمهم من منابع
العقَدية أكثرها تشدداً. وكان هؤلاء المرابطون يعرفون أن يتحولوا عند
الاقتضاء إلى مصلحين متحمسين ونافذين. وكان أولئك من لمتونة الذين أقاموا
رباطاً بالقرب من السنغال (أو في جزيرة على نهر السنغال) من وراء تأسيس
إمبراطورية المرابطين التي استمدت تسميتها من اسمهم، ولحقها تحريف إلى
الإسبانية بإكراهات التاريخ.
وعندما بات الإسلام مضطراً للركون إلى سياسة دفاعية صار الرباط العسكري
يحمي الساحل من غارات البيزنطيين ثم الفرنجة ونورمانديّي صقلية؛ وبعض هذه
الرباطات، كالتي في سوسة وفي الموناستير، تعتبر قلاعاً حقيقية.
وأما المناطق غير المهددة فإن الرباط فقد فيها طابعه العسكري ليصير مقراً
للدعاة الدينيين الذين يحظون بالكثير من التوقير. وقامت في وقت قريب إلينا
زوايا سيكون من المبالغة أن نعتبرها المطابق للهيئات الدينية المسيحية،
بحكم استنادها إلى مراكز الدرس الديني؛ فكانت الزوايا هي الوريثة للرباطات
القديمة. وترتبط هذه الحركة، التي غالباً ما داخلتها صوفية شعبية،
بالأولياء أو المرابطين، وهو اسم آخر اشتُق كذلك من «الرباط». وقد ساهمت
ظاهرة الأولياء كثيراً في إتمام أسلمة البوادي والقرى مع القبول ببعض
الممارسات السابقة على الإسلام، لكنها لا تنال من إيمان المؤمن.
وأما الخطر الأكبر على العقَدية السنية فقد جاءها من الدعاة الخوارج الذين
وفدوا من المشرق في القرون الأولى للإسلام. فلئن قاموا بنشر الإسلام بين
القبائل، خاصة منها الزناتية، فلقد قاموا بفصل جزء من البربر عن العقَدية
الإسلامية. ولئن تسبب الشيعة الخوارج لبلدان المغرب في الكثير من الويلات
فإن الفضل يعود إليهم في المحافظة خلال كل العصور، بما فيها العصر الحالي،
على قوة دينية أقلية، لكن مثالية بصلابة إيمانها والتشدد الذي يميز طباعها
وعاداتها.
وظهر دعاة آخرون ورحالة كبار اضطلعوا بنشر المذهب الشيعي. ونعرف بالنجاح
الباهر الذي تحقق لأحدهم؛ ذلك هو أبو عبد الله، لدى قبائل كتامة، فلقد كان
من وراء قيام الدولة الفاطمية. وينبغي القول إن تلك العصور التي يبدو لنا
أن الناس فيها كانوا في أوروبا كما في إفريقيا محكومين بحياة أقرب إلى حياة
المعتقلات بسبب من انعدام الأمن، قد كان فيها الدعاة الدينيون يسافرون
كثيراً ويضربون بعيداً في أنحاء المعمور ويتلقون العلم من مشاهير العلماء
وينذرون أنفسهم لخدمتهم إلى اليوم الذي يتحقق لهم فيه الوعي بما باتوا
يحوزون من معرفة ومن سلطان فيصيرون بدورهم شيوخاً، ومنهم من يستن لنفسه
مذهباً جديداً. ومن جملة هؤلاء كان ابن تومرت، مؤسس الحركة الموحدية. وقد
كان ابن ياسين من قبله اضطلع بهذا الدور في تأسيس الحركة المرابطية.
لكن كانت هنالك أجزاء من بلاد البربر لم يدخلها الإسلام إلا في وقت متأخر؛
ولا نريد بها الجهات حيث كانت المجموعات الملتحمة من الجبليين المستقرين،
فلقد وجدنا هؤلاء على العكس سرعان ما صاروا يضطلعون بدور مهم في الإسلام
المغاربي، على غرار ما فعل كتامة ومصمودة، بل نريد الجهات حيث كان كبار
الرحل في الهقار القصي وفي جنوب الصحراء. والذي يبدو، حسب ما تدلنا تقاليد
الطوارق، أن هؤلاء قد تحولوا إلى الإسلام في وقت مبكر جداً، على أيدي صحابة
الرسول، لكن هذا التحول إلى الإسلام، ما لم يكن شيئاً خرافياً، فإنه لم
يكد يكون له من نتائج. ويدخل في هذه الحكايات كذلك حضور عقبة إلى فزّان من
قبل حتى أن يتم بناء القيروان. وبقي لعبادة الأوثان وجود عند السبإيين إلى
حين تعرضهم للغزو الطوارقي. وقد قام بعض الدعاة، أو الأنبياء [كذا!]،
بإعادة إدخال الإسلام إلى الهقار، ولكن لم يحوزوا فيه نجاحاً كبيراً. ولا
يبدو في الواقع أن الأسلمة الحقيقية لهذه الأقوام قد وقعت قبل القرن الخامس
عشر.
بل إن هنالك بلداً ناطقاً بالبربرية لم يتحول أبداً إلى الإسلام؛ إنها جزر
الكناري التي كان سكانها الأصليون، القونشيون، إلى حين تعرضهم للغزو
الإسباني النورماندي في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، لا يزالون على
الوثنية.


6/8/2012

izarine
izarine

ذكر عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

غابرييل كامب  : البربر - ذاكرة وهوية - صفحة 2 Empty رد: غابرييل كامب : البربر - ذاكرة وهوية

مُساهمة من طرف izarine الثلاثاء 7 أغسطس 2012 - 12:39


إن
الآثار الدالة على عبادة البربر للنجوم نادرة، في ما عدا رسوم الآله الشمس
والإله القمر التي تظهر في صورة موكب ساتورن على شواهد عديدة من العهد
الروماني.

إن القرون التي عمّرها الحكم الروماني هي التي تتيح أفضل إحاطة بالعناصر
الرئيسية في الديانة التي كانت للبربر قبل أن تنتشر لديهم المسيحية. وتحفل
ديانة الإفريقيين القدامى بجوانب وأوجه على تنوع كبير، ولا تخلوا من تناقض؛
باعتبارها، كما المجتمع الذي كانت تصدر عنه، اجتماعاً وتراكماً لمعتقدات
وممارسات تعود إلى أعراق ومستويات ثقافية مختلفة.

من الآلهة المورية قديماً
إلى الجن حديثاً
لن نعرض بالدراسة في هذا الفصل إلى غير المعتقدات الشعبية المعبرة عن
هموم الإفريقيين وآمالهم بمنأى عن أي تأثير تقليدي. وليس من اليسير أن نسعى
إلى تسليط الضوء على معتقدات البربر المتخفِّية تحت غطاء الوحدانية
الظاهرية للديانة الرومانية الرسمية. فنحن لا نعرف الشيء الكثير عن هذه
المعتقدات؛ إذ كان طابعها الشعبي سبباً حرمها الوسائل التعبيرية التي تهيأت
للدين الرسمي الحضري. فآلهة الفقراء والجن قليلو الحظ هم في حد ذاتهم
كيانات محدودة السلطان وضعيفة النفوذ؛ فهم لا يتعدون بتأثيرهم الإقليم أو
القبيلة. فكيف تأتّى لذكراهم أن تظل قائمة على مر القرون، بينما المؤمنون
بهم قد كانوا لا يقدر معظمهم على التعبير بالكتابة؟ فلهذه الأسباب المختلفة
كان التوثيق الكتابي في غاية الفقر وكان عرضة للتحريف أو الإفراغ من بعض
مكونه الديني، إذ وقع التعبير عنه في لغة ليست هي لغة معتنقيه.
والمصدر الآخر لمعارفنا تكوّنه بعض النتف المستقاة من الأدب القديم،
خاصة عند المؤلفين الإفريقيين المسيحيين الذين كانوا هم المؤهلين لينقلوا
إلينا هذه المعتقدات. لكن من أسف أننا لا نستطيع أن نطلب من أسقف أو من أحد
آباء الكنيسة أن يعمل عمل المؤرخ أو عمل عالم العِراقة. فنحن لا نقع على
إلماعات إلى المعتقدات الوثنية الإفريقية الصرفة في غير ثنايا موعظة أو في
إدانة لممارسات مدخولة بالوثنية المحلية، أو في تشهير بآلهة غير حقيقية،
تتألف من شياطين أو أوثان من خشب أو حجر لا تنفع ولا تضر. وإن جماع هذه
التدوينات الكتابية والأدبية يظل غير كاف. كما أنه لا ينبغي الإفراط في
البحث فيها لاستخلاص حجة دامغة على المقاومة الإفريقية للحكم الروماني.

جبال وكهوف وصخور مقدسة
نتعرف في التصورات السحرية والدينية لدى الإفريقيين القدامى على خليط
متنافر من ظواهر طبيعية مقدسة وجن غير مسمى وكيانات قد ارتقت إلى مصاف
الآلهة المتفردة، ونتعرف فيها على موقف أساسي قوامه الحذر والخوف والتقديس
تتأدى بنا إلى عبادة قد تحقق لها قدر معين من التنظيم. فقد كان الإفريقيون،
كمثل معظم الأقوام البدائيين، مدركين لوجود قوة منتشرة في الطبيعة ويمكن
أن تسفر عن نفسها في كل لحظة، في نتوء تضاريسي كما في ظاهرة غير مألوفة.
لكن المقدس قد يقع على حيوان أو يلحقه من غير أن يصير هذا الحيوان بالضرورة
إلهاً جديداً. ويمكن للإله أن يظهر كذلك للإنسان من غير وسيط؛ فهو يتمثل
له بدرجات متفاوتة في الحلم وفي الرؤيا وفي التجلي.
وأكثر تجليات المقدس بروزاً وأكثرها انتشاراً في العالم، وأكثر تلك
التجليات التي قيّض لها أن تُحفظ فوق غيرها، هي ما سندعوه بالنتوء
التضاريسي؛ ويأتي في مقدمته الجبل، كما تدخل فيه الصخرة البسيطة. فهل يكون
شكل الجبل هو ما يجذب إليه الألوهية، أو يكون ارتفاعه الذي يقرب الإنسان
إلى السماء وهي مقر الإله الجبار، هو الذي يبرر التقديس الذي يحاط به؟ إن
هاتين الوضعتين المتناقضتين في الظاهر، لأن إحداهما تحأرضية والأخرى
سماوية، يمكن أن تكونا ساهمتا مجتمعتين في إضفاء طابع القداسة على الجبل.
سنقتصر من هذه الأماكن المقدسة على المعابد البونيقية، أو المنتمية إلى
التقاليد البونيقية، من قبيل معبد ساتورن المسمى بالكارنيسيس على جبل
بوقرنين الذي ينتصب خياله المائز في عمق خليج قرطاج. وربما ذهب بنا
الاعتقاد إلى أن تلك المعابد التي أقيمت لبعل أو ساتورن فوق المرتفعات تعود
إلى التقاليد السامية، غير أن المصائر التي كانت تعرفها هذه المعابد؛ حيث
تتعاقب أحياناً المعابد القديمة المفتوحة والمعبد البونيقي أو الروماني
والكنيسة المسيحية البدائية والأضرحة، تكشف لنا عن عمق هذا التقديس وعن
قِدَمه. وتشهد على الطابع المحلي لتقديس هذه المعابد مآثر أخرى عديدة،
وبعضها أشد قدماً، من قبيل النقائش الصخرية ذات الدلالة الدينية، نراها
مجمَّعة فوق قمم بعض جبال الأطلس الكبير في المغرب الأقصى (ياغور وغات).
فهذه الأشكال التي باتت اليوم معروفة للجميع منها ما يعود إلى [العصر]
الحجري الحديث، لكن معظمها يعود إلى العصر البرونزي وبداية العصر الحديدي.
وقد استمرت زيارة الناس بوتيرة كبيرة نسبياً لهذه الأماكن، حتى بعد أن
انتشر الإسلام، فحافظت لها على طابعها الديني المكين.
وقال بلين الأكبر عن جبال الأطلس كذلك إنها تأتلق في الليل بألف شعلة
وتتصادى فيها أصوات آلهة الرعاة والساتيريين الذين ينفخون في المزامير
ويضربون على الطبول. فكيف نستغراب للرهبة الدينية تستولي على من يقترب من
تلك الأماكن؟ وزعم ماكسيم دي تير أن الأطلس معبد وإله في وقت واحد. وقد آخذ
القديس أغسطين أتباعه بعادتهم في تسلق الجبال ليكونوا قريبين إلى الله.
ثم نجد الغوانش في جزر الكناري، وهم الذين لم يتمسّحوا ولا أسلموا، قد
حافظوا على المعتقدات الأساسية للإفريقيين القدامى، مع تطويرهم لديانة
أصيلة، فكانوا يسمون الإله، حسب الإسباني غالندو ، باسم من المؤكد أنه قد
أسيئت كتابته، هو «أتغوايشافونتمان»? أي «رافع السماوات»، وهو الاسم الذي
كان يطلق كذلك على رأس تينيريف. وقد كان يقوم في [جزيرة] كناريا الكبرى
رأسان منفصلان، هما صخرتان مقدستان، ذانكما هما «تيسمار» و»فيمينيا» اللذان
يُحج إليهما. فإذا جاء الزائر هذا المكان المقدس صب حليباً وزبدة على
الصخرتين وهو يترنم بأنغام شجية، ثم يتوجه إلى شاطئ البحر فيجعل يضرب الماء
بعُصيات وهو يطلق صراخاً حاداً. وكانت تجتمع في هذه الزيارة بعض الممارسات
لاستنزال المطر (كصب الخمر والصراخ وضرب البحر...) مع عبادة الصخور.
ولا يزال هذا الجبل إلى اليوم موضعاً لمعتقدات ملتبسة غامضة. ومن تلك القمم
المسكونُ بالجن إلى حد يجعله يكاد يكون ممنوعاً عن بني البشر، وهذا اعتقاد
نجده قوياً جداً لدى الطوارق في الهقار (قارة الجنون)، كما في إيِّر (جبل
جريبون). فكيف لا نجد في هذه المحظورات صدى لما ذكر بلين عن الأطلس؟ فينبغي
مقارنة عبادة الجبل، أو العبادة فوق الجبل (لأن الجبل قد يكون مجرد رافعة
للمقدس)، بالتقديس الذي كان من البربر للمغارات والكهوف في سائر العصور.
فوجود المغارة أو الكهف في جوف الأرض يتيح الاتصال بالآلهة الأرضية، وربما
أتاح الاتصال كذلك بالإله الأعلى؛ فقد كان بعض معاصري القديس أغسطين
يعتقدون أنهم يقتربون من الله إذا غاصوا في أعماق الأرض.
ونحن لا نعرف من أسماء الآلهة الذين كان قدماء الإفريقيين يتعبدون بهم في
المغارات والكهوف إلا اسماً واحداً؛ هو الرب «باكاكس» في جبل طاية
[بوحمدان] على مقربة من المدينة الرومانية تيبليس (عنونة). وفي سفح الجبل
يوجد «غار الجماعة» الذي كان واليا المقاطعة يحجان إليه في فصل الربيع من
كل سنة. ولاشك أنهما كانا يقدمان قرباناً وينقشان إهداء للإله باكاكس
أغسطيس. ومثيلة لهذه العبادة كان يقوم بها والي كاستلوم فوينسيوم في جبل
شطابة في منطقة قسطنطينة. ولا تزال تجد هذه الممارسات القديمة المرتبطة
بالنتوءات الطبيعية كثيرة وجارية في قرى شمال إفريقيا. ولا تجد إلا القلة
القليلة من الثقوب في الصخر أو تجاويف المغارات التي لم تتحول إلى معابد
بسيطة (مزارات أو حويطات) توضع فيها بعض القرابين والنذور من الفخار
والقناديل والبقجات، بله الحلاوي وكرات المحكومين، لأن تلك الثقوب يتردد
عليها بعض الجن أو أحصيص («الحراس»)، الذين تُستحسن استضافتهم، أو ينبغي
على الأقل اتقاء شرهم.

ماء السماء ونسغ الأرض
إن البلاد التي تعيش مناخاً شبه جاف، لا تسلم منه غير حافة ضيقة تنعم
بالمناخ المتوسطي، تكون فيها مشكلة المياه مبعثاً لقلق وانشغال دائمين لدى
الجماعات الزراعية والرعوية. وقد كان الإلهان نيبتون ونيمفيس الحاميان
للمنابع يحظيان في العهد الروماني بالكثير من التوقير. وكانت المقارّ التي
شيدت لحوريات الماء في العهد الروماني غاية في العظم. وأشهر هذه المقار هو
المعبد الكبير للمياه في زغوان [في تونس]، ومنه تنطلق القناة الرئيسية التي
تزود عاصمة الإقليم بالمياه. وقد كان للمياه المبرئة كذلك نصيبها من مظاهر
التقديس، وأشهر هذه المظاهر هي المتعلقة بـ «مياه سبتميانا» في تيمجاد.
وتصور كلمة إهداء مؤرخة في سنة 213م بناء أروقة فريداريوم مزيناً بالرسوم،
ومقدمة هيكل وواقياً مكوناً من حاجز من البرونز من حول النبع. كما كانت بعض
الآبار موضوع تقديس؛ كذلك شأنها في قلعة ديميدى ، ولا تزال ترى لها وجوداً
إلى اليوم في بئر بروطة في القيروان.
وفي ما خلا هذه العبادات الرسمية لا يبعد أن يكون السكان الإفريقيون قد
كانوا كثيري الإقبال، كفعل البربر اليوم، على الممارسات السحرية لاستدرار
المطر. وأشهر هذه الممارسات وأوسعها انتشاراً هو التطواف بـ»ـعروس المطر»،
وهي لا تزيد عن مغرفة من الخشب تُلبَس من الخرق والأسمال. إنها ترميز ساذج
يقوم على تقديم العروس نفسَها لتحبل من المطر (أنزار، الذي هو اسم مذكر [في
الأمازيغية]). وفي الإطار نفسه يقبل الناس على التراش بالمياه المباركة
تنزل في المنقلب الصيفي، ويُعرف هذا الطقس باسم «أوسو»، وهو شيء معروف
كثيراً في ليبيا وفي تونس، وله شيوع كذلك في المغرب. ولقد استنكر القديس
أغسطين هذه الممارسة؛ فقد آخذ أهل زمانه بأنهم كانوا يستحمون عراة في يوم
المنقلب الصيفي فيثيرون شهوة المتفرجين. وإن هذه الأعمال من التراش بالماء
والاستحمام فيه، التي يتم خلالها رج أدفاق الماء، بل وضرب الغوانش للبحر،
إنما الهدف الأخير منه هو إسقاط المطر من السماء. وكانت النساء في هيبون
يستحممن فيه عاريات؛ فهي دعوة إلى تلقيح الأرض الجافة.
والحقيقة أن لهذه الممارسات اتصالاً وثيقاً، عن طريق سحر قائم على
المحاكاة، بالرمزية الجنسية. فالمطر وخصوبة الأرض وتلقيح الماشية هي في
تصور الناس أمور مترابطة ببعضها يحدثونها بممارساتهم الجنسية. وقد وجدنا
الديانات أكثرها تطوراً تجيز هذا الترابط، سواء أكان في شكله الفج أو
بتقنيعه بحجب شفافة من الخرافة. ويرى ج. كاركوبينو أن الحظوة التي تحاط بها
عبادة الآلهة عند النومديين مردها على وجه التحديد إلى محافظة هذه الآلهة
على مخزون طبيعي قديم من الحضارة المتوسطية القديمة التي تضرب فيها هذه
العبادة بجذور بعيدة. وقد كانت عبادة تيلوس وكوري وهما من الآلهة، بحكم
منزعها الاتحادي الجنسي وذلك التواصل فيها مع القوى التي تلقح الطبيعة، هي
أقرب العبادات إلى الانشغالات السحرية عند المزارع الإفريقي. ولقد انصرف
البربر عن أعياد ديميتر التي باتت في اليونان ليس لها غير طابع رمزي،
وصاروا يفضلون الحفلات ذات الطابع الواقعي الملموس، كما تجسدها «ليلة
الخطيئة»، التي صور نيقولاس دو داماس، وهي مطابقة من كل الوجوه لما لا
يزال يجري منها إلى اليوم في بعض القرى والبوادي، في الظهرة [في الجزائر]
كما في جنوب المغرب. وقد أقر الحسن الوزان في القرن السادس عشر بوجود
الممارسات نفسها في منطقة صفرو من المغرب.



7/8/2012

izarine
izarine

ذكر عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

غابرييل كامب  : البربر - ذاكرة وهوية - صفحة 2 Empty النجوم

مُساهمة من طرف izarine الأربعاء 8 أغسطس 2012 - 11:13



الماء، مثل الحياة، يأتي من السماء، وفي السماء مقام كبار آلهة
الإفريقيين القدامى. والشواهد على هذا الأمر قديمة وهي تحاط بالكثير من
التوقير. يقول هيرودوت إن كل الليبين كانوا يقدمون القرابين للإله الشمس
والإله القمر، في ما خلا أولئك الذين كانوا يسكنون على ضفاف بحيرة
تريتونيس. وقد جاء كل من بلين الأكبر وديودور يؤكدان هذه الأطروحة. وكذلك
قال بها ابن خلدون؛ إذ أكد أنه قد كان بين البربر في إبان الغزو العربي من
يعبد الشمس والقمر. وأما النص الأساس فهو في ما نرى ذلك الذي يعود إلى
شيشيرون. وعندما استقبل ماسينيسا، وهو المتشبع مع ذلك بالثقافة البونيقية،
سكيبيون إميليان لم يذكر لا بعل حمون ولا تانيت، فقد قال : «أحمدك أيتها
الشمس العالية، وأنت أيتها الآلهة الأخرى في السماء، على أن مكنتني قبل أن
أترك الحياة الدنيا من أن أرى ب. كورنيلوس سكيبيون في بيتي ومملكتي... «.
وبطبيعة الحال فلا يمكننا أن نجزم بصحة هذا النص، ولكن إذا كان شكله قد
أسبغت عليه بعض المحسنات من قلم شيشيرون فإن مضمونه يبقى محتمل الصدق، ثم
إنه لا يخلو في مجموعه من نفحة عظمة.
غير أن الآثار الدالة على عبادة [البربر] النجوم نادرة، في ما عدا رسوم
الآله الشمس والإله القمر التي تظهر في صورة موكب ساتورن على شواهد عديدة
من العهد الروماني.
ومن غير أن ننسى الصلات التي توجد بين الإله الشمس والإله الأسد، وهما
اللذان يكثر رسمهما ويتسم بطابع نجمي واضح، فإن من المهم أن نذكر برسوم قرص
الشمس أو رسوم النجمية التي تزين الكثير من الحوانيت والكهوف الجنائزية
وشواهد الدلمنات.
والإهداء المكرس للإله إيرو هو الكتابة الوحيدة التي تتحدث عن إله القمر في
شكله البربري ومن غير حاشية من النجوم، وهو إله مذكر (Eior, Iour).
إن نقص الشواهد المتعلقة بالآلهة التي تعيش في أعماق الأرض والآلهة التي
تعيش في الماء والتي تعيش في السماء، أو بالأحرى عدم دقةتلك الشواهد، يثبط
كل محاولة للتثبت على المعتقدات الأساسية للبربر القدامى. غير أن هذا النقص
في الشواهد لا يدل بالضرورة على فقر في المعتقدات. ولا يجوز لنا أن نجزم،
كما فعل كثيرون، بأن البربر لم يكن لهم غير ديانة بسيطة. فسيكون حكمنا على
الأقوام الناطقين باللغة الحامية السامية بأنهم هم وحدهم المبتلون بهذا
النقص أو العجز الميتافيزيقي.
والحقيقة أن التقديس كان وظل واسع الانتشار في الطبيعة؛ وعلى الرغم من
الغلبة التي تحققت للإسلام فلا يزال [هنالك اعتقاد] إلى اليوم بأن عدداً
كبيراً من الجن يسكنون الصخور والكهوف والأشجار والينابيع. ومع أن الإسلام
لا ينكر وجود «الجْنون» فإنه لم يتمكن من القضاء على الكثير من الممارسات
المشوبة بالسحر الجبري والتقديس والتي تدور حول هذه الجن. فهي ممارسات
موغلة في القدم، ولذلك فليس من المستغرب أن يقع عالم الآثار في المقابر
التي تعود إلى عهود قبيْل التاريخ على نذور من الفخاريات الصغيرة جداً
مطابقة تماماً للنذور التي تقدم في الوقت الحاضر إلى هذه الجن في مزاراتها
البائسة.

الحيوانات والتقديس

هل عرف الإفريقيون القدامى عبادة الحيوانات في العصور القديمة؟ يجيب
المؤلفون عامة عن هذا السؤال بالإيجاب، على الرغم من أن الوثائق المكتوبة
والمرسومة [الدالة على هذا الأمر] خلال الفترة التي عمرتها الإمبراطورية
الرومانية ليست بالوفيرة ولا المقنعة كثيراً. ولا ترى المؤلفين يهتمون
كثيراً للتتابع الزمني أو يعتدون باستمرارية المعتقدات، ولذلك تراهم
يستندون عن طيب خاطر إلى النقوش الصخرية، وخاصة منها الرسوم الكثيرة جداً؛
تلك التي تظهر فيها الكباش برؤوسها شبه الكروية المزينة بالريش أو بأغصان
الأشجار. وقد كانت هذه الرسوم واسعة الانتشار في سائر جهات الأطلس الصحراوي
مصدراً لكتابات كثيرة. فقد رأى أصحاب تلك الكتابات فيها لبعض الوقت صورة
للإله المصري آمون رع، واعتبروا تلك الرأس شبه الكروية معادلاً لقرص الشمس
المصري. وقد باتت أوجه التقدم التي تحققت في التتابع الزمني لما قبل تاريخ
شمال إفريقيا يحتم الرفض التام لهذه التأويلات. إن تلك النقائش تنتمي إلى
حقبة قديمة من العصر الحجري الأخير، وهو عهد سابق بكثير على الرسوم المصرية
التي نشأت عن اندماج إله طيبة آمون مع الإله الشمس.
ولا يسمح لنا تحليل المناظر التي تظهر فيها الكباش ذات الرؤوس شبه
الكروية بالتأكيد على أن هذه الحيوانات كانت معدودة في الآلهة. ففي معظم
الحالات تكون هذه الحيوانات تتبع رجلاً في هيأة المصلي، فيكون لذلك يدير
لها ظهره. فهذا يحملنا على الاعتقاد بأن فعل الصلاة يكون موجهاً إلى كيان
آخر وأن الكبش المغطى رأسه بغطاء باذخ، والحامل أحياناً عقداً مجدولاً، لا
يزيد عن قربان يقدم إلى الآلهة. وتلك الصورة هي ما بقي لنا بالفعل عبر آلاف
السنين، خاصة في الطقوس السامية.
والكبش يظهر بالتنافس مع الثور، وهو بدوره ضحية أثيرة، على عدد كبير من
الشواهد المكرسة لساتورن، وتفيدنا النصوص الشهيرة في نقاوس N?Gaous
(الجزائر) أن الإفريقيين الذين ظلوا لوقت طويل يداومون على تقديم القراببين
الواجبة في البواكير قد ارتضوا في القرن الثالث للميلاد بشيء من التردد،
وبالاستمساك بالاحتياطات الطقوسية، التي كأنها شيء قانوني، أن يستبدلوا
الطفل المولود الأول الذي يطلبه الإله بالحمَل نفساً بنفس ودماً بدم وحياة
بحياة. ولم يكن في هذا الاستبدال من أثر لعبادة الحيوانات.
والحقيقة أن الإشارة الوحيدة الواضحة إلى عبادة الكبش في شمال إفريقيا قد
جاءت عند البكري، وهي تهم قبيلة من سكان الجبال في جنوب المغرب. وقد جاءت
هذه الإشارة مختصرة جداً ولا تفيدنا بالفحوى الحقيقي لهذه العبادة، لكنها
ممارسة كانت في غاية الشذوذ والخزي بحيث إن أولئك الكفرة كانوا يخفون
هويتهم عندما يذهبون عند قبائل أخرى.
وقد كان الثور معدوداً في الحيوان المقدسة. وكان كذلك الضحية المهيبة، التي تُقدم قرباناً إلى ساتورن كما تُقدم إلى جوبيتر.
وتحدث كوريبوس في القرن السادس للميلاد عن معتقد خاص كان عند اللواتيين،
وهم قوم من سيرت، فقد كانوا يطلقون على عدوهم ثوراً يمثلون به لإلههم
كورزيل الذي ولد من تزاوج بين آمون وبقرة. وقد كانت لدى اللواتيين أصنام من
خشب ومعدن ترمز إلى كورزيل. وهذا هو النص الوحيد المتعلق بعبادة الثور، مع
مراعاة وجوب النظر إلى الحيوان على أنه مجرد صورة للإله، وليس في هذه
الممارسة كذلك ما يذكرنا بالتوقير الذي كان المصريون على سبيل التمثيل
يحملونه للثور أبيس.
ويفيدنا ديودور أن القرود كانت تتمتع في منطقة يحتمل حسب هذا النص أن يكون
موقعها على تخوم الجزائر وتونس في ما وراء سلاسل الجبال الساحلية، من
المزايا حتى ليمكن أن نقف في هذه المنطقة على آثار لطوطمية حقيقية. ويقول
ديودور إن تلك القرود تحتل المساكن ومخازن المؤن دون أن يسعى أحد إلى طردها
منها؛ لأن السكان يعتبرونها بمثابة آلهة، فيكون في قتلها انتهاك لأحد
المحرمات يستحق صاحبه عقوبة الإعدام.
وكانت الثعابين، وهي مصدر للخوف والتقديس معاً، موضوعاً لبعض العبادات.
ونعرف بوجود العديد من الإهداءات المقدمة إلى دراكو؛ وبينها وحدة في تكنيكا
وأخرى في نوملولي يمكن أن نجد لهما نسباً إلى الخرافة التي تقول إن فيالق
ريكولوس قد اضطُرت، حسبما ما ذكر بلين، إلى محاربة ثعبان عظيم في وادي
بكردا نفسه (مجردة). وقد كانت عبادة دراكو تمتد إلى نوميديا وإلى
موريتانيا. وكانت الحية في أكواي فلافياني تُجمع إلى الحوريات. ونستفيد من
آلام القديسة سالسا أن في تيبازا في موريتانيا قد كان يوجد صنم من البرونز
يمثل حية برأس مذهب.
يوجد في المعبد النيوبونيقي في تينيسوت القريب إلى بئر بورقبة، تمثال من
الطين المحروق يمثل إلهة بجسم إنسان ورأس أسد. ونرى الصورة نفسها على نقود
ميتيلوس سكيبيون مصحوبة بالشرح الذي يُقرأ في العادة. والأسد هو أكثر
الحيوانات حظوة بعلامات التقديس. وكانت لبدته المتموجة المسعفة على توظيفها
في التشكيلات الإشعاعية تسعف منذ وقت مبكر على التمثيل بالأسد لإله الشمس.
لكن الأسد كانت له كذلك دلالات أخرى. فهو يلعب دوراً مهماً في الزخارف
المنحوتة في كثير من النصب الجنائزية. كما ينبغي أن نأخذ في الحسبان الجمع
الشائع للأسد بساتورن في الشواهد المكرسة للإله الإفريقي العظيم. وقد كان
الجمع بينهما وثيقاً إلى درجة أن ملك الحيوانات يأخذ أحياناً مكان الإله
بين ديوسكوريس أو بين الإله الشمس والإله القمر. وقد بين أرنوب بما لا يقبل
الشك ذلك الارتباط القائم بين الأسد وفروجيفير Grugifer، أي ساتورن.
ويمكننا أن نتصور أن الأسد والشمس، وهي التي تظهر كذلك في زخارف القبور،
هما صورتان لإله واحد، وأن حضورهما في القبر ينوّر الميت ويرشده ويجمله، هو
الذي جُعل تحت حماية الإله المعظم سيد الزمن والحياة والموت.
وعليه فقد بقيت عبادة الحيوانات عند الإفريقيين القدامى، أو على الأقل خلال
العصور القديمة، أمراً يتنازعه الغموض والالتباس. وأن تكون الحيوانات لشتى
الأسباب تتصل بالمقدس بروابط متينة، وأن تكون تمتعت بامتيازات خاصة
(كالقرود والثعابين وبعض أنواع الطيور)، وأن تكون حيوانات أخرى قد اعتاد
الناس أن يؤثروا تقديمها برسم القرابين، وخلاصة القول أن تكون هذه
الحيوانات استفادت من العلاقة الوثيقة التي كانت تقوم بينها والآلهة (خاصة
منها الكباش)، وأن حيوانات أخرى مثل الثور عند الإله كورزيل أو الأسد عند
الإله الشمس أو ساتورن قد جُعلت صوراً حية لتجسيد الآلهة، فذلك لا يكفي
إثباتاً لوجود عبادة للحيوانات. وقد وجدت في إفريقيا الشمالية، ولا تزال
توجد إلى اليوم، بعض الحيوانات المقدسة، أو الموقرة في أقل تقدير، لكن لم
تعرف هذه المنطقة وجود آلهة حيوانات. وما كان للقديس أغسطين أن يؤكد أن
المصريين هم وحدهم الذين كانوا يعبدون الحيوانات لو أن عبادة الحيوانات كان
لها جود عند الإفريقيين على زمنه؟
لم يكن الوضع على هذه الصورة في العصر الحجري الحديث، أو على الأقل في
المناطق الصحراوية؛ فقد تم العثور فيها على عدد كبير من المنحوتات
الحيوانية على الصخور الصلبة؛ تدخل فيها الكباش والثيران والوعول التي لا
يمكن أن تكون إلا أصناماً، بالإضافة إلى النقوش والرسوم الصخرية التي لا
يكون في الإمكان استبانة دلالتها الدينية جميعاً. ولكن يجدر بنا أن نكرر
القول إن هذه التمظهرات سابقة بزمن طويل على العهد الروماني بما يجعل من
المتعذر اعتمادها. بل إن من المحتمل أن يكون الصحراويون الرحل، أسلاف
الطوارق، قد عرفوا بشكل معين من عبادة الحيوانات أو التوقير الكبير لبعض
الحيوانات. ولا تزال تجد هؤلاء الرحل إلى اليوم يحملون أسماء بعض الحيوانات
: أميّاس (الفهد) وإيلو (الفيل) وأبيجي (الذئب). كما أن لبعض العشائر في
كل ريلا أسلافاً من الحيوانات أو من أشخاص يحملون أسماء حيوانات (كالغزال
والأرنب، إلخ...).




8/8/2012

izarine
izarine

ذكر عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

صفحة 2 من اصل 2 الصفحة السابقة  1, 2

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى