صدى الزواقين Echo de Zouakine
مرحبا بك عزيزي الزائر. المرجو منك أن تعرّف بنفسك و تدخل المنتدى معنا ...اذا لم تكن قد تسجلت بعد نتشرف بدعوتك للتسجيل في المنتدى.

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

صدى الزواقين Echo de Zouakine
مرحبا بك عزيزي الزائر. المرجو منك أن تعرّف بنفسك و تدخل المنتدى معنا ...اذا لم تكن قد تسجلت بعد نتشرف بدعوتك للتسجيل في المنتدى.
صدى الزواقين Echo de Zouakine
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الهويّة : بين الثابت والمتحوّل

اذهب الى الأسفل

الهويّة : بين الثابت والمتحوّل  Empty الهويّة : بين الثابت والمتحوّل

مُساهمة من طرف izarine الأحد 20 سبتمبر 2015 - 16:08

ما الهويّة؟ بالرجوع إلى القواميس والمناجد يتحدد هذا المفهوم في جملة الخصائص والميزات التي تمكّن من تعريف واضح للموضوع أو الشيء والتعبير عنه أو مجموعة من المقاييس الدائمة والمتواصلة والقارّة التي تمكّن من تعريف شيء ما. من وجهة النظر الفلسفية الهوية هي خاصية وميزة الشيء الذي يبقى مساويا ومشابها لنفسه والشروط التي تبقي على الشيء كما هو. الهويّة من وجهة النظر الاجتماعية التاريخية هي جملة الدلالات المخيالية الاجتماعية التي تؤطّر المجتمع. فهي تؤسس لنظرة خاصّة وتمثّل للعالم والكون، تحدد الغايات والأهداف، تنظّم النشاطات أي ما هو مسموح به وما هو ممنوع، تكيّف المهج والعواطف وأبرز هذه الدلالات هو ذاك التمثّل للذات : أنا عربي، أنا مسلم، أنا يوناني، أنا بوذي، أنا الفرد والمجتمع الذي أريد أن أكون. فهي إذن تمثّل للذات في شكلها الفردي والجماعي، هي تلك الصورة التي نريد أن نكون فيها وهي الوسيلة الأساسية للدفاع ضدّ التلاشي.

لكن هذا التعريف يظلّ وحيد الجانب لأنه لا يتعرّض إلاّ إلى المجتمع المُؤَسَّس. فهناك أيضا المجتمع المُؤَسِّّس. فمهما برز لنا استقرار وتواصل وانسجام مجتمع مؤَسَّس فإنه يخضع وبصفة دائمة إلى عملية تغيير جذريّ يحدثها ذاك المخيال البشريّ الجذري الذي لا يتوقّف على المعهود والساكن ليتجاوز المألوف ويخلق الجديد وبالتالي فإن الهويّة تخضع هي الأخرى لمتغيّرات وتحوّلات تطال أعماقها. الخطأ الذي يسقط فيه البعض هو مقارنتهم المؤسسات والمجتمعات والهوية بالكائنات الحيّة. فإذا كان الكائن الحيّ يحافظ على “ذاتيته” من خلال الحفاظ على التوازنات الفيزيولوجية والكيميائية ومن خلال عمليات ردّ الفعل الداخلي والضبط الذاتي فيحافظ على خاصياته، فإن الكائن البشري بصفته كائنا عاقلا وقادرا على التخيّل والخلق لا يتعامل مع العوامل الخارجية بالحفاظ على تماسكه وعلى عناصره وخاصياته الذاتية والتقوقع، فهو يتفاعل إيجابيا إذ هو يخلق الجديد ويتجاوز الحصن الذي يحيط به ويخترق السياج. لهذا بالذات عرفت البشرية حضارات وثقافات وشعوبا مختلفة وعرف التاريخ تحوّلات كبرى كانت من فعل الإنسان والبشر.

الهويّة هي في الحقيقة هويات بما أنّ تعريفها مرتبط بمجال وزمان متغيرين ومتداخلين، كما أنها تحيل إلى الآخر سواء كان مغايرا أو ذاك الذي يشاركنا هويتنا فردا كان أم مجموعة. فعندما أقول “أنا عربي” فمعنى ذلك أنا الفرد الذي أشترك مع آخرين في انتمائهم لهذه الصفة. الشعور بالانتماء إلى مجموعة أو جماعة يستند على عناصر يمكن تعيينها ولكنه أيضا بناء مخيالي وهذا لا يعني البتة أنه أسطوري أو لا عقلاني لأنه لا وجود لعقلانية خالصة من دون مخيال وإحساس وإرادة وتمثّل وهذا ما يميّز الإنسان إضافة إلى قدراته العقلية. الهويّة يمكن “تعريفها” في مجالات مختلفة ومستويات متباينة. فعندما يتعلّق الأمر بالفرد الواحد يجرّنا الحديث عن الهويّة إلى الشخصية وهذه الأخيرة تخضع لعديد العوامل النفسية منها والعقلية كما تخضع لتأثيرات المحيط العائلي والاجتماعي. فلا وجود لفرد مجرّد معزول وإن تباين الأفراد وتباينت ميولهم وقدراتهم وتوجّهاتهم. فالفرد هو قبل كل شيء كائن اجتماعي تاريخي، ولا يمكن أن نتصوّر إنسانا من دون مجتمع يحضنه. لكن تعامل الفرد مع هويّته الجماعية قد تتخذ أشكالا واتجاهات متباينة. فالعلاقة بالمحيط يمكن أن تتلوّن من الخضوع التام والمطالبة بالحماية إلى التجاوز وإبراز الشخصية والفرادة والقدرة على الإبداع والتغيير وصولا إلى رفض الإطار الجامع بما في ذلك مفهوم الهويّة السائد. ففي الحقيقة فإنّ مفهوم الهويّة يرتبط هو الآخر بالدلالات والمعاني المهيمنة ويتغيّر بتغيّرها. أمّا إذا تعلّق الأمر بمجموعة فبقدر ما تتسع هذه الأخيرة أو تتلوّن تتعدّد الهويّات (سكنية، محلية، جهوية، وطنية، قومية، مهنية، لغويّة، إثنية،…) كلّ هذه الهويّات الجزئيّة تتداخل. ولكن حتّى وإن تمكننا من تحديد هذه الهويّات وعرفنها فرديّة كانت أم جماعيّة فهي ما تلبث أن تنفلت وتتغيّر.

I – من الهويّة القوميّة إلى الدولة/الأمّة

قلنا أنّ الهويّة عناصر ثابتة ومحدّدة ولكنّها أيضا بناء مخيالي وتأسيس متواصل وهذا لا يعني أنّها خاطئة أو لا عقلانية، فلا عقل دون تمثّل ومخيال وتأسيس وإرادة ومهج. هناك خلط كبير يقوم به البعض في اختزال الهويات الثقافية والقومية في الدولة الأمّة كما عرفتها أوروبا غداة الثورة الديمقراطية وحتى في هذه الحالة فإنّ نشأة مختلف الأمم الغربية لم يخضع لنفس النهج والقانون.

ارتبط ظهور الدولة / الأمّة في الغرب بصعود البرجوازية وبحركة اجتماعية- تاريخية وفكرية تجاوزت الإطار القديم وأرست على أنقاضه قيما وقوانين ومؤسسات جديدة. صحيح أنّ ذلك قد استند إلى عناصر ثابتة وموحّدة في المجتمع ولكنّ ظهور هذه الكيانات وأسلوب تأسيسها لم يخضع لقانون موضوعي وإنما كان خلقا متميّزا.

لقد أنشأت الطبقات البرجوازية منذ بروزها في أحضان المجتمع القديم مجموعات سياسية واقتصادية وعمرانية جديدة وروّجت لمفاهيم ورؤى مثلت القاعدة التي انبثق على أساسها المجتمع الجديد الذي تجاوز مؤسساته ليرسي مؤسسات على أنقاضها. ارتبطت هذه النشأة بالتساؤل حول شرعية المؤسسات الموجودة وعدالتها وهكذا برز تصوّر جديد للعالم فأدّى ذلك إلى قطيعة (لا بمفهوم القطع الجذري) والنتيجة هي بروز فرد ومجتمع جديدين. ولكن وحتى في حالة الدولة/ الأمة الغربية فإن بروزها وانبثاقها التاريخي قد عرف أسلوبين بالأساس :

الاستناد أساسا إلى العامل السياسي الموحّد وثانويا على العناصر الثقافية من لغة وتراث وعادات وهذه حالة فرنسا.
الاستناد إلى العناصر الثقافية في حال انعدام السلطة المركزية كما كان ذلك في بلدان أوروبا الشرقية لكن سواء تغلب العنصر الثقافي على السياسي أو العكس فإنّ ذلك لا يعني وجود تعارض تامّ بينهما.

ارتبطت نشأة الدولة/الأمّة برفض الخصوصيات المحلية والجهوية واللغوية. اعتمد المجتمع قاعدة قانونية شاملة تجعل من كل فرد مواطنا يخضع لنفس القوانين ويلتزم بنفس الواجبات. منذ تأسيسها كانت الدولة/الأمة في الغرب المعاصر اختزالا لكل الاختلافات فرفضت الطبقات الجديدة الحاكمة كل توسّط بين الدولة والفرد ولم تعترف بحق التجمع خارج الإطار الواحد (لم يعترف بحق الجمعيات في فرنسا إلاّ في سنة 1901). الدولة/الأمة أدمجت وألغت. فلقد ألغت جزء هاما من المجتمع ووضعت شروطا مجحفة لممارسة حق الانتخاب وألغت النساء والفقراء والمستعمرات. الفرد والفردانية والتحكم العقلاني في الكون ومراكمة الإنتاج واعتبار الاقتصاد محور الحياة، كلّها معايير ودلالات تأسست على قاعدتها الدولة/الأمة الجديدة التي ارتبط وجودها بالمستعمرات والتوسّع في الخارج ولم يخل من عنف في الدّاخل.

II – الهوية القومية والثقافية

إنّ بروز هويّة ما غالبا ما يقع باستبعاد أو إضعاف هويّات أخرى سابقة وكلّ ذلك يخضع لعوامل شتّى ويسلك معابر وسبلا متباينة. فالتونسيون هم قرطاجنيون ورومان وبرابرة قبل أن يصبحوا عربا ولكنّ شعورهم بالانتماء للعروبة قد تغلّب تاريخيا على شعورهم بالانتماء لهويّات أخرى. فالتوسّع العربي الإسلامي قد مكّن من استعراب الغالبية من المغرب العربي الكبير. اليوم تتعايش الأغلبية العربية مع الأقلية البربرية وقد ساهموا جنبا إلى جنب في مقاومة الاستعمار دون اعتبار الفوارق والاختلافات. يعود انتصار الهوية العربية الإسلامية إلى اختلال موازين القوى من ناحية مع أنه ناتج أيضا عن الإمكانيات الجديدة التي وعد بها الإطار الجديد ووفّرها وذلك من قيم ودلالات ومهج وغايات وقدرة على تحريك النوازع وتجييش الشعوب في سبيل تحقيق الأهداف. أمّا فهم العوامل التي أدّت إلى استعراب شعوب دون أخرى فهو أمر شديد التعقيد لأن المسألة تتعلّق بتصادم ثقافات ومخاييل وقيم ومصالح لا يمكن استبطانها وتمثّلها اليوم وبعد قرون من الزمن. كلّ ما يمكن ملاحظته هو أنه هناك شعوب تقبّلت الدين الإسلامي الذي انتشر بين ربوعها دون أن تتخلّى عن هويّتها الثقافية (الفرس، الأتراك،

الإندونيسيين،…). فلم تصبح اللغة العربية اللغة الرسميّة بالرغم من انتشار المدارس القرآنية. فحافظت هذه الشعوب على خصوصياتها وانتشرت في أوساطها مذاهب وفرق وطقوس خاصّة أخذت عن الماضي ونهلت من التراث الثقافي والفكري ما قبل إسلامي. البعض يعلّل ذلك بتقدم هذه الحضارات على العرب غداة الفتح الإسلامي وذلك في ميادين شتّى (المعمار، الفن، الفكر،…) وهو ما حدا بالعرب إلى اعتماد ليونة في التعامل مع هذه الشعوب للأخذ منها والاستفادة من خبراتها. هذا لم يمنع العرب من التوجّس من غير العرب واستبعادهم من مراكز القرار.

لقد ترسّخ شعور لدى الشعوب العربية بالانتماء إلى مجال ثقافي و فنّي ولغوي واحد وهذا بالرغم من واقع التجزئة الذي عرفته الشعوب العربية ماضيا وحاضرا وبالرغم من الخصوصيات التي يتميّز بها كل شعب من ذلك اختلاف تاريخهم القديم والجديد، تعدد اللهجات، تنوّع التجارب السياسية، تنوّع المؤثرات التي خلّفها الاستعمار، اختلاف درجة ارتباط العامل الديني بالعامل السياسي،… . فهذه الشعوب تتفاعل مع القضايا التي تمسّ كل واحد منها وهناك تصوّر مشترك مفاده أن مستقبل هذه الشعوب واحد وأنّ مصير الشعب الواحد مرتبط بالآخر.

III – الهويّة بين الفكر الموروث وتحدّيات المستقبل

إذن الهوية لا يمكن مقاربتها من وجهة نظر الفكر الموروث الذي يعتمد التعيين والتحديد المطلق Déterminismeوالنهائيّ. نعم هناك شعب فرنسي وهناك شعب ألماني وهناك شعب عربي، ولكن ماذا يعني أن تكون فرنسيّا أو ألمانيا أو عربيا؟ هل يوجد تعريف دقيق وثابت لذلك؟ فالدال لا يعبر تعبيرا شاملا ونهائيا عن المدلول.

إنّ الماضي المشترك الذي يؤسس للهوية هو في جانب منه تصور لأنه ليس في الحقيقة مشتركا تماما. عندما نقول ذلك فإننا لا نتنكر كما يتراءى للبعض لانتمائنا العربي ولكننا ننفي ان تكون الهويّة جملة الخاصيات الثابتة فهذه الخاصيات يمكن أن تهترئ وتتلاشى بمرور الزمن. الغريب أن المنطق الذي يعتمده البعض للتأكيد على الهوية بالرجوع للماضي والثوابت هي ذاتها التي يعتمدها الطرف المقابل الذي ينفي وجود هذه الهويّات. في هذا المجال لا يفوتنا أن نذكّر بكتابات ستالين حول الأمة وهي مرجع لعديد التيارات اليسارية وتمثّل قمّة التحجّر والدوغمائيّة وهي تكشف عن تمركز روسي لا ريب فيه.

الهويّة هي إذن من ناحية عناصر “ثابتة” يمكن تعيينها إلاّ أنها بالأخصّ بناء مخيالي إلى أبعد الحدود، وهذا لا يعني أنها غير ذات معنى أو دلالة أو أنها مجرّد وهم خادع أو أكذوبة. لاحظوا أننا بصدد التطرّق لقضيّة المعرفة ذاتها. فكما أن المعرفة ليست انعكاسا آليا للواقع الذي لا نشك لحظة في حقيقته بل وأيضا بناء يستند على الخيال الخلاّق وهذا ما تشهد عليه الثورات المتتالية في المفاهيم العلمية كذلك، فالهوية وإن استندت على معطيات لا نشكّ لحظة في وجودها إلاّ أنها أيضا تصوّر وبناء مخيالي يتداخل فيه العقل والمخيال والمهج ويتفاعل فيه وعينا بلا وعينا. مادامت الهويّة في جانب هامّ منها نظرة وتصوّرا خاصّا للذات، بناء مخياليا فهي تصوّر وبناء وتمثّل في الحاضر للماضي وللمستقبل بالخصوص. فلا يمكن لنا أن نبني موقفا خاصّا من هويتنا بالتوجه فقط إلى الماضي والحاضر بل إنّ ذلك يقع في علاقة وطيدة برؤية مستقبلية. فالسؤال : من نكون ومن نحن هو ذاته التساؤل : ماذا نريد أن نكون وما هو مصير هذه الشعوب العربية وكيف نأكّد حضورها في المستقبل.

نعود ونقول أنّ الهويّة في جانب منها بناء مخيالي ونحن لا نقصد بذلك إلى بناء أسطوري أو وهمي لأننا لا نفهم المخيال بصفته محرّفا أو مشوّها للواقع ونقيضا للعقل. لا عقل دون مخيال ولا هويّة دون تمثل. لكننا نريد تمثّلا يخرجنا من حالة التمزّق والانحطاط. نريد تمثّلا يفتح لنا الآفاق لا يضيّق علينا الخناق ويحبسنا في الثوابت والمحدّدات. نريد تمثّلا وتصوّرا يحرّر العقول ويفتح إمكانيات للفعل والخلق. في تعاملنا مع مسألة الهويّة لا نكتفي بالمعاينة والملاحظة بل نخلق الجديد ونتصوّر ما لم نتعوّد على تصويره ونتمثّل المغاير وغير المعهود وذلك لا يكون من دون تمزيق الأساس الموجود والأفق المعطى ومن دون ابتكار وخلق. صحيح أننا بدون لغة واتفاق و”مرجع” يحيل إلى الحقيقة وإلى تراث معرفي لا يمكن لنا أن ننتج سوى أوهاما خاصة بنا ولكن الصحيح أيضا أننا نحن الذين ننشئ الحقيقة ونوجدها. كل معرفة هي تعيين جديد وتمثل خاص مصدره ذلك الفيض الذي لا ينضب من الخيال الخلاق. فالتفكيك والتركيب والتأويل كما البحث عن العناصر المضيئة في الهوية والبناء عليها أو الاستئناف والتواصل كلها لا تجدينا نفعا لأنها تركز على الثوابت وتحكم علينا بالسجن المطبق.

IV – الهوية القاتلة أو وهم إعادة البناء والتأسيس

دعاة الهوية القاتلة (التعبير لأمين معلوف) يأكدون على ضرورة البناء والتأسيس انطلاقا من الثوابت ويستحضرون الماضي استحضارا أسطوريا وينطلقون من عناصر الوحدة والتوحيد للتأكيد عليها وتثبيتها. برامجهم تصاغ في عالم لا يمت للواقع المعاش واستنتاجاتهم لا تخلو من وثوقية بحيث يمكن تطبيقها مهما كانت الظروف. في نفس الوقت الذي يعشش فيه الآخر في مخيلاتهم فإنهم يتطرقون إلى الهوية باستبعاده وكأنه طرف ملغى من المعادلة. هم يؤكدون على الخصوصية الثقافية وعلى أحقيتنا في النهضة والريادة ويستعيدون الأمجاد والعصور الذهبية ويبنون قصورا ويحلمون باستعادة الماضي وينفون التنوع والاختلاف داخل الوحدة وعندما يتطرقون للتراث لا يركزون سوى على الثقافة العالمة أما ما تبقى من إرث فني وعمراني وعادات ومعارف فتلك قضايا لا يتعرضون لها. نعود ونقول إن التأكيد على الهوية بصفتها ركيزة الشخصية الجماعية وكل شخصية فردية لا تخلو من مفارقة فالهوية قابلة لكل الاختراقات والتأثيرات ومعرضة لتحولات عميقة. فنحن عرب ولكن ذلك لا يعني البتة أن تاريخنا واحد ومتجانس، نحن مسلمون ولكن ألم يصطبغ الإسلام ويتلون بشتى الألوان أينما حل وانتشر. فبين الإسلام السعودي وإسلام إيران وأفريقيا السوداء والمغرب العربي الكبير وباكستان وإندونيسيا فروق شاسعة وإن كانت تعاليم الدين الإسلامي واحدة.

الهوية كما يشخصها التراثيون من كل المشارب هي بمثابة الانتماء في المفهوم الرياضي : كأن نقول هذه المجموعة (أ) تنتمي إلى المجموعة(ب) (sous ensemble) وكأننا بصدد كيانات جامدة.

العديد من المفكرين العرب يؤكدون على الخصوصية والامتياز والفرادة وينادون ببناء أمة على الطريقة الألمانية أمة نختزلها في فرد جماعي يهيمن على العناصر المكونة وعلى أعضائها. من المعلوم أن نشأة الأمة الألمانية واندماجها في الأنوار قد ارتكز على مفهوم خاص ركز على الثقافة واللغة وهذا خلافا لنشأة الأمة الفرنسية التي ركزت على الجانب الكوني والسياسي، فبينما استمد المواطن الألماني مفهومه للأمة ولذاته من خاصياته كألماني فإن الفرنسي وعلى لسان مونتسكيو كان يصرح” أنا إنسان بالطبع والطبيعة وفرنسي عرضا” أي أنه كان يعتقد أن مواطنته تستمد جذورها من خصوصية الثورة الفرنسية وريادتها في رفع المبادئ الجديدة. المفكرون العرب المعاصرون في معظمهم متأثرون بمثال ألمانيا وبأسلوب نشأة الأمة الألمانية وهذا جلي لدى محمد عابد الجابري وحسن حنفي وأبي يعرب المرزوقي.

لقد شغلت الهوية العرب منذ أكثر من قرن وكان ذلك في صراع مع الخلافة العثمانية من ناحية وفي تصادم مع الاستعمار الغربي الغازي. تعددت الدعوات إلى الإصلاح السياسي والديني فهذا يدعو إلى هبة دينية وآخر إلى تدعيم العروة الوثقى وآخر يدعو إلى إتمام ما بدأه الأوائل وانتقاء العناصر المضيئة والعقلانية في حضارتنا العربية الإسلامية للانطلاق منها. الكل يبحث على الثوابت وان اختلفت التقديرات والمعاينات.

النتيجة هي أن مشاريعهم نخبوية فوقية ومشحونة بالمتناقضات. هي تلونات لموقف واحد يركز على الجوانب الثابتة في الهوية والدفاع عنها من خطر الاندثار وترسيخ ذلك من خلال حزب أو حركة ورمز. النتيجة هي الانغلاق والتسلط والتوجس من ظهور تعبيرات فذة والتأكيد على سلامة الاختيار والدعوة إلى الحفاظ على نقاوة الفكر الجامع. النتيجة الأخرى هي أن الحركات السياسية التي تدعو لاستعادة الهوية والتمسك بالثوابت قد عرفت اهتزازات وانشقاقات وتصفيات داخلية. فبقدر سعيها إلى التوحيد والوحدة بقدر ما اتسمت مسيرتها بالتجزيء والانقسام.

البعض يشبه هوس الهوية والانتماء بالحالة الانطوائية التي يصاب بها طفل يرفض التعامل مع العالم الخارجي. دعاة الهوية القاتلة يخلطون بين الوفاء ( الوفاء للأم والحبيب والوطن والحضارة…) وبين التبعية والتذيل التام. نرجسية داعي الهوية القاتلة هي من طبيعة نرجسية الرضع والأطفال الصغار الذين يتمسكون بأمهاتهم ويعتبرونهن جزءا متصلا بكيانهم والحال أنه لبروز شخصية مستقلة لابد لهذا الطفل أن يقطع مع هذا التصور لكي يتمكن من الاندماج في المجتمع وهذا لا يعني أنه يتنكر لأمه. يغلب على دراسة التاريخ والأصول الجانب التقريضي والانتقائي وتقع من وجهة نظر الغالب. فالتأكيد على التراث لا ينبع من وعي بضرورة المراجعة والنقد لتحرير الفكر بقدر ما ينم عن هروب من دراسة الواقع المعاش والاختفاء وراء التراث والماضي ولو بـ”نقده” والسقوط في ما سماه البعض في لعبة النصوص وفي التفكيك والتركيب والتأويل.

دعاة الهوية القاتلة ينادون بالنهضة انطلاقا من التراث أو من صورة وهمية عنه. في دراستهم للتراث اعتنوا فقط بالثقافة المكتوبة أو كما يسميها البعض بالثقافة العالمة والحال أنه وكما لاحظ ذلك علي أومليل ليست سوى جزء من الثقافة كان ضئيل الحضور إن لم يكن هامشيا كالفلسفة الإسلامية وحتى وهم يدرسون ذلك التراث المكتوب فإنهم لم يتساءلوا عن أسباب غياب المجتمع والسياسة كما كانا في الواقع الفعلي في الأدب السياسي الإسلامي، ما الذي جعل معظم الفلاسفة العرب والمسلمين لا يرون في المجتمع موضوعا حقيقيا لعلمهم؟ يتوجه التراثيون إلى الفلسفة العربية الإسلامية فيخلصون إلى استنتاجات تعيدهم إلى منطلقاتهم و أحكامهم الأولية يثبتونها ويدللون على صحتها. فهذا يدعو إلى البحث في “بنية العقل العربي” ويفتش عن “القطيعة الابستمولوجية” في الفلسفة العربية ليخلص إلى أن النهضة لا تكون إلا من داخل التراث (الجابري) وآخر يدعو إلى تفكيك النصوص و إلى معالجتها ويبحث عن المسكوت عنه فيها ليسقط في أحابيلها فإذا به يقر بالمعجزات والخوارق (علي حرب) وهذا يبحث عن دلائل تثبت حضور هذا الفكر أو ذاك (الفكر المادي – الفكر العقلاني…) في الفلسفة العربية الإسلامية (الماركسيون) فيستنتج بأنّ “بواكير الفكر العقلاني … أو المادي … أو الديمقراطي” موجودة في التراث العربي الإسلامي (محمد أركون). الكل يبحث عن العنصر النيّر في التراث ليتمّم على قاعدته ما بدأه الأوّلون. أما العيوب والأخطاء والانحرافات ومظاهر الاستبداد فتُلقى على الشعوبيين وأصحاب الفكر الهرمسي الدخيل على العقلية العربية. فعلى سبيل المثال هذا مطاع صفدي يعتبر أنّ “التخلّف الذي أصاب المجتمع العربي مصدره الشعوب الوافدة على الإسلام من غير العرب لأنّ هذه الحضارات الغريبة منعته من تطور اقتصادي وثقافي قادر على … تجاوز القبلية والطائفية والإقليمية.”

من يحمل مثل هذه الرؤية وهذا التقييم لا يمكن له أن يتقدّم باتجاه المستقبل مادام يعتقد في نقاوة الفكر العربي وتعاليه وقدسيته ومادام يعتبر الآخر الوافد غريبا ومشوّها للتاريخ وعائقا أمام النهضة. الحقيقة عكس ذلك. في الحقيقة إنّ استعراب الشعوب التي ندعوها عربية ما كان ليحصل لولا التوسّع الإسلامي، ومن هذا المنطلق فإنّ التعرّض للهويّة العربية لابدّ له أن يراعي هذا المعطى الأساسي. لقد تداخلت ثقافات عديدة ولذلك فالثقافة العربية هي في الأصل ثقافة عربية إسلاميّة. فالفلسفة العربية هي بالأساس عربية إسلامية والفنون العربية هي بالأساس فنون عربية إسلامية. فعلى سبيل المثال المقامات الموسيقية العربية هي بالأساس من أصل فارسي وتركي أُخذت عن شعوب آسيا الوسطى كما تدلّ على ذلك أسماء المقامات (رست، نهوند، بياتي، جهاركه، سيكة،…) و كذلك الحال بالنسبة لكل الفنون الأخرى.

يرتبط التأكيد على الخصوصية وعلى الثوابت بجزم بأنّه لكل شعب طريقته في ممارسة السلطة بل إلى اعتبار أنماط السلطة التي تعاقبت علينا أسلوبا خاصّا لممارسة الحرية (علي حرب). آخرون يريدون العودة إلى الشورى وإلى العصور الذهبية الأولى. لكن ماذا تعني الشورى في القرن الواحد والعشرين؟ كيف تطبق في عصر تداخلت فيه الشعوب وتقاطعت مصالحها ورهاناتها. المفارقة الكبيرة أن يدعو البعض من قلب عاصمة غربيّة بالرجوع إلى الخلافة والإمامة والحال أنّه يستفيد من حرّية التعبير التي مكّنته منها النضالات التي قامت بها الشعوب هناك من أجل الحقوق السياسية والاجتماعية. هم يستفيدون من نضال دام قرونا و بفضله تحصلت هذه الشعوب على جزء من حقوقها السياسية التي هي اليوم محل مراجعة من طرف العولمة الجارفة والنيوليبرالية. ثم هم يشيرون لأزمة الديمقراطية في الغرب الناتجة عن هجوم النيوليبرالية وتخلّف المواطن عن ممارسة حقوقه وانصهاره في مجتمع الاستهلاك ويعتبرون أنه لنا في تراثنا السياسي ما يغنينا عن تجارب الآخرين ويرفضون التعرض للاستبداد الذي مارسه أجدادنا لأنه لا يمكن لنا أن “نحاكم نظما تاريخية بمعايير معاصرة” فلا “يعرف الحقّ بالرجل بل يعرف الرجال بالحقّ”. فنحن محكومون بالتراث والإرث ولا مجال للإصلاح إلاّ بإعادة بناء علم العقائد لينسجم الحكم مع التصوّر (صلاح الدين الجورشي) و”إعادة قراءة النصّ التأسيسي” (لطفي الحاجي) وتأويله ومن ثمّة بناء تصوّر للسلطة ينطلق من هذه الأسس الأولى ويرسي “عقدا سياسيا جديدا ووطنيا يستمدّ الحقوق والواجبات من التراث الديني والمدني” (شكري المامني). لكن من سيؤول ومن سيراجع ومن سيبني العلوم؟ من الذي شرع لهؤلاء الحق في وضع الدساتير؟ بأي حق ينصب البعض أنفسهم أوصياء على التاريخ؟ هل نفهم من ذلك أننا سنظل كما كنا في السابق محكومين بالمرجعيات والراسخين في العلم أيا كانوا ومهما كانت منطلقاتهم؟ من يضمن لنا أن لا تخون هذه المرجعيات شعوبها و تفتي للاستعمار والاستبداد كما عودتنا سابقا؟

أعتقد أنه من بين العوامل التي جعلت من قضية الهوية مسألة محورية في الفكر العربي تلك المتعلقة باغتصاب فلسطين وفرض كيان بديل أوكلت له مهمة مراقبة الشعوب العربية والحيلولة دون نهضتها بل ومحاصرتها وحماية المصالح الغربية في المنطقة فكان الرد بأن ظهرت مختلف الاتجاهات التي تدعو إلى استعادة الأمجاد وتجسدت في ما عرفته الأمة العربية من حركات قومية ودينية متعددة المشارب والاتجاهات. لكن ومع مرور الزمن وبعد نكسات وتجارب فاشلة عاشتها هذه الشعوب وانهيار الأيديولوجيات الوثوقية بدأت هذه الحركات نفسها تراجع مسلماتها وأحكامها وبدأنا نستشعر وعيا جديدا بأهمية القضايا التي تواجهنا بقطع النظر عن معتقداتنا وأدياننا وجهاتنا وميولنا. فمع العولمة الجارفة التي لا تستثني أي أمة أو شعب أو بلاد أو منطقة ومع بروز الحركات العالمية المناهضة لها عدّلت بعض الاتجاهات من خياراتها. نحن نعتقد أن ممارسة الشعب لحقوقه ودخوله حلبة الفعل التاريخي رغم المضايقات وعوامل التكبيل العضوية الكامنة في مجتمعاتنا هي وحدها الكفيلة بإبراز هوية عربية معاصرة. فكل انتصار تحققه الشعوب العربية في صراعها من أجل التحرر والإنعتاق وفي مقاومتها للغطرسة الصهيونية يفيقها على قدرات كامنة فيها وقع كبتها بجميع الوسائل إما بالقمع أو بوسائل الدعاية الاستهلاكية التي تلغي كل شخصية وفرادة لهذه الشعوب. كلما أعادت الشعوب العربية اكتشاف تراثها ومخزونها وطورت مضامين وأدوات جديدة وخلاقة إلا وأبرزت هويتها. فلا يمكن البتة أن نتقدم نحو المستقبل وأعناقنا مشرئبة نحو الوراء وإن كان من الضروري أن نلتفت بين الفينة والأخرى. لا يمكن أن نحافظ على هويتنا ونحن نراوح نفس المكان. لا يمكن أن نساهم في نحت مجتمع عالمي عادل إذا لم نساهم مثلنا مثل باقي الشعوب في الخلق الفكري والإبداع السياسي ومقاومة مختلف أشكال المسخ الثقافي. لا يمكن أن ننصهر كليا في مجتمع الاستهلاك ونقتني “أحدث” المواد المستوردة من الغرب ونتمسك ببعض السلوكيات المتحجرة على أنها جزء من هويتنا. تلك هي في الحقيقة المفارقة التي تلخصت في مقولة لطالما لاكها البعض “الأصالة والتفتح”. الأصالة تعني كل الموروث البالي والمتحجر والمستبد والحداثة تعني مواكبة عصر الاستهلاك والاندماج فيه. فلا الأصالة أصالة ولا التفتح تفتح. كل ما في الأمر خنوع ورضوخ لأحكام الماضي وقبول بالواقع. هم يريدون اللحاق ب”ركب الحضارة” والمساهمة في تخريب الكون وهم بذلك يستبطنون نفس المفاهيم “الغربية” التي يدعون رفضها. يخيل للبعض أن قضية الهوية يمكن طرحها وحلها من خلال النقاش وتبادل الرؤى والتصورات. فلقد تعددت الملتقيات والندوات حول هذه المسألة ولكنها ظلت أساسا تجتر نفس المواضيع بحيث تمسك كل واحد برؤيته. فالمسألة تتجاوز النقاش والتحليل إلى الفعل والخلق والتأسيس. مهما كانت تصوراتنا وأسلحتنا الفكرية التي نقارب بها هذه المسألة فإنها تظل محدودة وعاجزة عن تقديم كل الحلول. يظل البراكسيس الفيصل الذي من خلاله نعدل مواقفنا ونستعيد رؤانا نقدا ومراجعة.

-V الهوية القاتلة أو وهم إعادة البناء والتأسيس

مشاريع الوحدة أو كما عبّر عنها البعض بمشاريع “استرجاع الهويّة” قادتها نُخَب وطنية بورجوازية وبورجوازية صغيرة اصطدمت من ناحية بمؤامرات الإمبريالية العالمية ومن ناحية أخرى بعوائق داخلية لعلّ أهمّها غياب العنصر الاجتماعي أو تخلّفه وانعدام أفق فكري وسياسي يتجاوز المؤسسات والأطر البالية. باسم الوحدة والتوحيد والحفاظ على التماسك الداخلي والدفاع عن الهويّة من خطر الاختراق وقع تلجيم كل الأصوات والترويج لخطاب واحد. المضمون المعادي للاستعمار والهيمنة الخارجية لا يفي بالحاجة خصوصا إذا ما تراءى للمواطن بأنه الرقم الغائب في المعادلة. فالدعوة إلى الوحدة قد اقترنت عادة بنزعة نحو التوحيد وفرض التطابق وبالاستبداد السياسي والفكري وتبرير السلبيات بالمؤامرات الخارجية.

فشلت الحركات السياسية في إنجاز المهمة التي أوكلتها إلى نفسها وقد ولّد انهيار مشروع الوحدة شعورا بالهزيمة وأثار لدى بعض النخب ردّة فعل معاكسة تجلّت في خطاب يركّز على الهويّة والإرث ويدعو إلى استعادة العصور الذهبية. جاء الخطاب غريزيا متشنجا ومن هنا جاءت مشاريع النهضة المختلفة. الغائب في هذه المشاريع هو المواطن العربي، كما غابت المواقف من القضايا الشائكة التي تعترض البشرية كقضايا البيئة والعلاقة بين العلم والمجتمع وقضايا الزراعة والماء والقضايا المتعلقة بالحقوق السياسية وقضايا الحرية والعلاقة بين الشعوب والحضارات وكل الملفات الشائكة التي تعترضنا وتعترض البشرية جمعاء. مما لا شك فيه أن الشعوب العربية في أمسّ الحاجة لتغيير أوضاعها المتردية ولكن لا يمكن فصل ذلك عما يحدث في العالم من مقاومة متصاعدة للنيوليبرالية الجارفة ومجتمع الاستهلاك ونقد الأسس التي بنيت على قاعدتها الحداثة من دلالات وقيم وولوج كل ميادين الحياة اليومية. النهضة كما يتصوّرها التراثيون وأدعياء الهويّة القاتلة هي برامج تصوغها النخب في قباب عاجية تستلهمها من الماضي التليد لتؤكد على حضور الأمة (عربية أو إسلامية) في الصراع القائم من أجل الهيمنة، لذلك فإنها لا تتوانى عن استدعاء الأدوات العلمية والتقنية التي جعلت الغرب يفرض سلطانه وهيمنته ولكن من دون التخلّي عن الهويّة أو عن تصوّر أسطوري لها. لكن غاب عن هؤلاء أن استدعاء الأدوات هو استدعاء للسياق والروح والدلالات والأهداف.

أيّ وحدة نريد؟ هل هي بناء الدولة/الأمة على شاكلة الأمم الغربية؟ ثم متى كان التاريخ يخضع للقوانين والأنماط إن هو ليس سوى خلق بشري وابتكار متواصل وصياغة متجددة. كما سبق وأن لاحظنا فلقد ظهرت الأمم في الغرب بارتباط بنشأة البرجوازية وبالقضاء على سلطة الكنيسة، وتجسّد ذلك من خلال توحيد البلاد حول مفاهيم وقيم ودلالات جديدة. لقد اعتبرت الحقوق الفردية طبيعية وأن المجال الوحيد للتعبير عن طموحات الشعب هو مجال الدولة/الأمة ورفضت التوسطات بينها وبين الفرد وقاومت الخصوصيات المحلية الجهوية، فتوحّدت اللغة وانصهرت الأقليات في المجتمع الواحد وقد ساهم “التعليم الجمهوري” في فرض هذا النهج التوحيدي والتطابقي ولم يكن ذلك بالطرق السلمية فالعنف كان السمة البارزة في عملية التوحيد وقد تأثرت الفلسفة بهذه النزعة التوحيدية فحملت معها أنساقا مغلقة ونهائية.

منذ الأنوار عاشت البلدان الغربية صراعا داخل هذه الوحدة الجديدة. إنه صراع بين اتجاه التثبيت واتجاه التجاوز والتنوّع وقد اتخذ صورا وأشكالا متعددة اجتماعية وسياسية وفكرية فكانت الفصول العديدة من نضال الشعوب الغربية ضد الاستغلال وكان نقد العقلانية الأدواتية وفكرة الهيمنة المطلقة للإنسان على الكون، والديمقراطية الشكلية والتقدم ….. اقتحم المفكرون والمؤرخون وعلماء الاجتماع ميادين مختلفة من الحياة اليومية ونقدوا مختلف مؤسسات المجتمع (التعليم، الثقافة، الفن، الإنتاج، العلم …). لم يتوقّف الصراع بين المجتمع المُؤَسَّس والمجتمع المُؤَسِّّس وإن عرف تراجعا خلال الثلاثين سنة الأخيرة. مع العولمة الجارفة تراجعت الدولة/الأمة في الغرب لحساب رسملة العالم وتداخل المصالح الاقتصادية وبدأت تبرز قضايا محلية وجهوية إذ أنّ العولمة لا تعترف بالمجال وتعمل على القضاء على كل أشكال التنوّع والاختلاف، فاتجاهها هو المزيد من الإدماج والإخضاع. فنحن نعاين اندثار اللغات واللهجات والثقافات وهذا أسوة باندثار الكائنات الحية والبذور وما يمثّله ذلك من تهديد وخطر على البيئة وعلى الإنسان.

نشأة الدولة/الأمة على الطريقة الغربية وكما عرفتها الأنوار قد ولّت وانتهت لأن العناصر والعوامل التي جعلت منها حقيقة تاريخية قد ولّت هي الأخرى ولأنّ القضايا والرهانات تداخلت،. فهي في ذات الوقت محلّية وجهوية وقومية وعالمية أيضا. إذن مشروع النهضة القومي المستقل لم يعد يمثّل إمكانا تاريخيّا ( لا من حيث موازين القوى العالمية ولا من حيث طبيعة القوى التي ستدفع نحو ذلك)، كما أنّ الصيغة التي تشكّلت بها الدولة/الأمة في الغرب والتي عملت على رفض التنوّع والاختلاف داخل الوحدة ونفي الخصوصيات المحلية و إخضاع المستعمرات وصولا إلى محق بعض الحضارات كالهنود الحمر لا يمكن أن تشكّل المثال الذي يجب الاقتداء به. الصراع الحالي ضدّ العولمة الجارفة هو في جانب منه صراع من أجل الحفاظ على التنوّع ومن أجل إرساء علاقات مغايرة بين مختلف الحضارات والثقافات.

لا وحدة إلاّ مع التنوّع، والشعوب العربية هي واحدة ولكنها تمتاز بخصوصيات بل إنه داخل البلد العربي الواحد هناك تنوّع وخصوصيات لا يمكن القفز عليها. كل الشعوب العربية ترنو إلى نهضة حقيقية وإلى وحدة لا تصادر حرّيتها وتستعيض عن الواقع الحالي بسلطة مستبدة حتى وإن رفعت شعارات الهوية والوطنية. لذلك فإن كل مكسب تحققه الشعوب العربية في مجال الحرية يقربها من الوحدة الحقيقية. كل انتصار ضد الاستبداد والهيمنة في بلد عربي هو انتصار لكل الشعوب العربية.

الهوية العربية التي نبتغيها تستند إلى المواطن ككائن فردي واجتماعي تاريخي وكمصدر أوّل ومنبع. هي هويّة عربية مدنية تنفتح على العالم. فنحن لا نبتغي قدما في عالم الهيمنة وتخريب المحيط والتسلّط على الشعوب. نحن مع الهوية التي ترفض التطابق وتتجاوز الطائفية والتعصّب وتتخلّص من أدران الماضي دون أن تقطع معه بل تستعيده نقدا ومراجعة لا تشبثا وتمجيدا. لا نريد حوار الحضارات ولا صدامها ولا تسابقها بل نبتغي تضامن شعوب العالم من أجل مستقبل مغاير. أما الدعوة إلى حوار الحضارات المشبوه وتسامح الأديان الكاذب أو إلى بناء مركز ثقل عربي أوروبي أو فلسفة الخلاص التي نبنيها على أساس الانتماء والعرق أو الدين فمآلها أن ترمى في سلّة المهملات لأنها لا تنطلق من دراسة للواقع ومن تقييم مسؤول لماضينا وحاضرنا ولماضي الشعوب الأخرى وحاضرها.

منطق الهويّة في أشكاله التراثية ردّ طفولي بدائيّ غريزي على الأزمة التي تمرّ بها شعوبنا، يرهن المستقبل ويقيّده بقيود الماضي وهو بالتالي منطق ارتدادي كما أنه يضع الحواجز دوننا ودون باقي الشعوب. لا “استرجاع لهويّة” قاتلة وإنّما خلق هويّة مغايرة وإن استندت على عناصر تقارب وتوحّد. فالسؤال من نحن هو نفس السؤال ماذا نريد أن نكون.


-------------------------------
http://tinyurl.com/ntuh9ch
izarine
izarine

ذكر عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى