الأصولية و الحداث
صفحة 1 من اصل 1
الأصولية و الحداث
من أسئلة راهننا الفكري والثقافي..
الأصولية و الحداثة
عبد الجليل بادو (*)
حين توجه أسئلة التحديث في اتجاه استيعاب قيم الحداثة، تطرح الأصولية
الدينية مسألة مرجعية الحداثة و كيف ينبغي التمييز بين المرجعية الإيمانية
و المرجعية اللائكية ، و هنا تأخذ أسئلة التحديث مسارا آخر يريد بديلا
للحداثة يتميز في قيمه و مبادئه، بل و يطرح من جديد مسألة الموقف من
الحداثة، و هكذا تتوزع المواقف بين رافض لها أو متحفظ في شأنها. علما أن
الحداثة مسار متناسق لا ينفصل فيه التحديث الثقافي ( الديني ) عن التحديث
الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي . فلماذا تتكرر إذن مسألة الموقف من
الحداثة ؟ و هل يمكن للأصولية قراءة الدين بشكل لا يتنافى معها ؟ و إلى أي
حد يمكن ربط رؤية أصولية للعالم برؤية حداثية ؟.
1- بين النسبي و المطلق :
كثيرة
هي المحاولات التي تراهن على كسب المصداقية لموقفها من خلال عملية التوفيق
بين قيم الدين و قيم الحداثة؛ و لإبراز مدى التصالح بين الطرفين يعتمد على
أسلوب الانتقاء كمنهج مناسب لهذا الغرض ، حيث يتم الوقوف عند معطى ديني أو
واقعة تاريخية دينية قصد استخلاص مبدإ أو قيمة تنسجم مع مبادئ و قيم
الحداثة. و توظف في هذا الشأن اصطلاحات من قبيل الاعتدال و المرونة و
الوسطية، لتجاوز اصطلاحات أخرى مثل التطرف و التشدد و التصلب.
إذا كانت
محاولات التوفيق بين الدين و الحداثة تحضر بقوة اليوم في الثقافة العربية
الإسلامية ، فإن جذورها التاريخية يمكن العودة بها إلى تلك المحاولات التي
قام فلاسفة الإسلام
للتوفيق بين العقل و النقل أو الفلسفة و الدين. و
الغرض كان و لازال دائما هو تذويب ما يمكن أن يظهر من اختلاف بين بنيتين
فكريتين و بالتالي رؤيتين للعالم يختلفان في الثوابت قبل أن يختلفا في
المقاصد.
آلية التوفيق تعترضها صعوبات كبيرة لأنها تسعى إلى الجمع بين
عناصر متباينة و ثوابت متعارضة من أجل الحفاظ على الرؤيتين معا و ضمان
استمرارهما بإيجاد "حلول" لأشكال التمايز بينهما. هذا ما جعل محاولات
التوفيق في سعي دائم للربط بين ثنائيات من قبل : العقل و النقل، الفلسفة ،
و الدين ، الأصالة و المعاصرة ، ثم الحداثة و التراث.
ما هو مؤكد الآن
هو أن محاولات التوفيق لم تتمكن من تحقيق مشروعها الأمر الذي اقتضى إعادة
النظر في طبيعة العلاقة بين الحداثة و التراث بشكل يتيح فهم مجالات كل
منهما والتمييز بين عالم الطبيعة و عالم ما بعد الطبيعة و الفصل بين العقل
و النقل كما ذهب إلى ذلك ابن رشد.
ليس الغرض هنا هو طرح الدين كموضوع
للسؤال الفلسفي و لا طرح الحداثة لنفس السؤال و إنما الغرض معرفة لماذا
يستمر حضور النزعة الأصولية في النظرة للحداثة.
بقدر ما توجد اليوم
قراءات دينية للحداثة ، توجد كذلك قراءات حداثية للدين ، و إذا كانت
الأولى تتمسك بمرجعيتها فتعتبر الحداثة دخيلا يمس بالهوية الدينية في
الجوهر ، الأمر الذي يفرض اتخاذ موقف منها ، فإن الثانية تسعى لاعتبار
"الحقيقة مبطنة في الطبيعة و أنها لم تعد تأملية و لا متعالية كما كانت في
العصور السابقة" كما يقول فرانسوا بوريلا François Borella. صحيح أن
الأصولية لا تنكر العلم ، إلا أنها لا تستطيع تعميم هذا التصور على
الإنسان باعتباره كائنا طبيعيا ، فهي تحتفظ بالمطلقات فلا تنظر للطبيعة
الإنسانية في جوهرها المادي و الروحي كظاهرة قابلة للدراسة التاريخية و
الاجتماعية و الأنترولوجية.
إن ما يميز النزعات الوثوقية (dogmatismes)
عامة هو انسياقها مع إطلاقية المعرفة لا مع نسبيتها ، و النتيجة الطبيعية
لذلك هي رفض الاختلاف بل و التطلع لإلغاء التنوع ليس ثقافيا فحسب ، و لكن
كذلك اجتماعيا و حتى سياسيا.
يصعب إذن ربط نسبة المعرفة بإطلاقيتها و
قراءة الحداثة بالعقيدة مهما كانت محاولات التوفيق أو التأويل في هذا
الشأن، علما أن الأصولية تنطلق من احتكارها لتأويل المقدس و لذلك لا ترى
مانعا في ربط الدين بالهوية و اعتبار الحداثة تهديدا لها بل تهديد للتوازن
الشخصي الدنيوي و الأخروي. فهل الهوية هي أساسا هوية دينية ؟ و هل يمكن
فصلها عن التراكمات المتعاقبة عبر التاريخ؟.
ما يميز فلاسفة عصر
التنوير هو جرأتهم على نقد الوثوقيات الراسخة ، لقد كان ڤولتير وديدرو
وغيرهما يحاربون التعصب الأصولي و الإكراه في الدين الذي كانت تمثله
الكنيسة الكاثوليكية في شخص رجال الدين الذين أتقنوا طرق نشر الوثوقيات و
أفكار التعصب واللامعقول، و كان مشروع فلسفة الأنوار هو فصل الديني عن
السياسي للدخول إلى مرحلة التحضير للعقلانية و التقدم، ولا أحد ينكر اليوم
أهمية هذه الخطوة الجبارة و ما لاقته من صعاب قبل تحقيقها.
2- تدبير الحداثة :
إذا
كانت الحداثة ( حسب هيغل ) قد أضفت طابعا زمنيا على المسيحية، فهي بصدد
إضفاء نفس الطابع على غيرها من العقائد ، إذ لا يمكن نفي فعل التاريخ ،
رغم أن الوتيرة لا تأخذ إيقاعا واحدا. في هذا الإطار تطرح الأصولية مسألة
الموقف من الحداثة باستحضار مسألة الهوية و ضرورة الحرص عليها و كيف أن
الحداثة تهديد لها أو قضاء عليها ، و هنا تطرح إشكالية أهم تتعلق بعلاقة
الهوية بالمعتقد الديني و مدى تأسيس الدين لها ، إضافة إلى مسألة الثبات و
التطور فيما يعد هوية و يراد الحفاظ عليه.
انطلاقا من مبدأ الثبات
تعتبر الأصولية أن الدين هو ما كان قائما و ليس ما هو قائم فعلا من تجليات
عقائدية و ممارسات تعبدية و اعتبارات روحية أو صوفية دائمة التجدد ، علما
أن لا أحد يستطيع نفي التاريخ ، و ما هو قائم فعلا لا ينفصل عن تاريخه، و
تاريخ الأديان و السوسيولوجيا و الأنترولوجيا مناهج تساعد جدا على فهم
أنماط التفكير و اختلافها و تطورها ، إضافة إلى مدى اقترابها أو ابتعادها
عن بعضها البعض.
لقد أوضح "دوركايم" في كتاب "الأشكال الأولية للحياة
الدينية" كيف تتبلور في الدين مفاهيم خاصة به ، ترتبط في ثنائية مع بعضها
مثل مفهوم المقدس ? المدنس ، كما أوضح كيف تظهر الممارسات و الطقوس
الدينية و كيف يدخلها التطور و التغير ، تماما كما يحصل في جميع الظواهر
الاجتماعية التي منها ظاهرة الدين ، كما أبرز أهمية القيم الدينية حين
تصبح قيما اجتماعية تفرض نفسها في السلوك الفردي و الجماعي. و إذا كانت
هذه القيم تحدد فعلا الهوية فإن المقاربة العلمية لها تؤكد أنها - في
تطورها مع المجتمع الحديث ? تصبح قيما علمانية أوسع من أن تقف عند حدود
الانتماء الديني.
الحداثة أتت بقيم جديدة ترتبت عنها رؤية جديدة كذلك
للعالم و للعلاقات بين الدول والثقافات و حتى الأشخاص. و هي تدعو إلى قيم
الحرية و الديمقراطية و الحق في الاختلاف و تقبل التمييز بين العمل الديني
و العمل السياسي باعتبار أن الدين مجال للعبادات يختلف عن السياسة مجال
تدبير العلاقات بين الناس و المجتمع و العالم و الطبيعة. و مع هذه القيم
تعتبر الحداثة انتصارا للعقل ضد اللاعقل و هذا ما يتجلى في المنجزات
العلمية و العقلية و الحضارية الهائلة التي تميز الحياة الإنسانية اليوم و
التي تفرض نفسها كأمر واقع . لكن الملاحظة التي ينبغي إبرازها هنا هي أن
اللاعقل لم يستسلم لمنجزات الحداثة بل و يعمل من أجل فرض نفسه كأمر واقع
كذلك، لكن ليس من خلال منجزات أو انجازات و إنما من خلال ردود أفعال تعرقل
مسار التحديث و الحداثة و تؤثر فيهما.
صحيح أن هناك اليوم من يتحدث عن
نقد الحداثة "آلان تورين Alain Touraine" إلا أن النقد مهما حاول أن يبلغ
من حدة و من إبراز لبعض التناقضات ، فإنه لا يقوى على رفض قيم الحداثة ،
العقلانية و الحرية و الديمقراطية كمستندات أساسية لها ، و بذلك تبقى
الحداثة حسب تعبير «هابرماس» (Habermas) ، «مشروع لم يكتمل بعد»، إذ لم
يتم بعد الوصول إلى تطبيق المنهج العقلاني التواصلي في كافة المجالات و لم
تسد بعد قيم المساواة بين الأفراد و لا القيم الإنسانية و الأخلاقية
المختلفة.
كيف يمكن إذن تجاوز الوثوقيات اللاتاريخية بكل أشكالها ؟ إن
فلسفة الأنوار قدمت خدمات هائلة في هذا الشأن و اليوم تتحدث العقلانية
التنويرية التواصلية عن تنظيم علاقة الفرد بالدولة و المجتمع في إطار
المؤسسة القانونية التي يتحول فيها الإنسان العادي إلى مواطن لا يخضع فقط
للسلطة ، و إنما يشارك في إنجازها و يقرر من خلال ذلك في شأن الحياة
الاجتماعية. إنه عمل سياسي بل يعيد للسياسة دور الصدارة ما دام الأمر
يتعلق بتدبير الممكنات المقبولة و المتفق عليها بكيفية عقلانية.
مع
العقلانية و الحرية و الديمقراطية يتم قبول الاختلاف و تجاوز الوثوقات ، و
حين يتكرر مع ذلك طرح مسألة الموقف من الحداثة ، يمكن التساؤل لماذا يتوقف
استمرار البناء في اتجاه الحداثة ؟ لماذا تحدث تراجعات ؟ هل هناك عوائق
ذاتية ؟ هل هناك عوائق موضوعية ؟ لابد من طرح السؤال.
(*) أستاذ الفلسفة بالمدرسة العليا للأساتذة . تطوان.
2008/6/13
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى