صدى الزواقين Echo de Zouakine
مرحبا بك عزيزي الزائر. المرجو منك أن تعرّف بنفسك و تدخل المنتدى معنا ...اذا لم تكن قد تسجلت بعد نتشرف بدعوتك للتسجيل في المنتدى.

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

صدى الزواقين Echo de Zouakine
مرحبا بك عزيزي الزائر. المرجو منك أن تعرّف بنفسك و تدخل المنتدى معنا ...اذا لم تكن قد تسجلت بعد نتشرف بدعوتك للتسجيل في المنتدى.
صدى الزواقين Echo de Zouakine
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

السُّنّـة والتاريــخ

3 مشترك

اذهب الى الأسفل

السُّنّـة والتاريــخ Empty السُّنّـة والتاريــخ

مُساهمة من طرف abdelhamid الجمعة 17 أكتوبر 2008 - 17:36

السُّنّـة والتاريــخ 1/3

كمن يَقْتَعِدُ كرسيَّ اعترافٍ في كنيسةٍ، يبُوح الأستاذ عبد الله العروي
لسائلته الأمريكية بعفويةِ مَن يتخفَّف من عبء: «كنتُ أميل إلى التجريد
فلم أنفلت منه إلاّ بمعانقة التاريخ، عندما قررت، في لحظة ما، الاندماج
الكلي في المجموعة البشرية التي أنتمي إليها وأن أربط نهائيّاً مآلي
بمآلها. الخروج من الدائرة الخاصة، التعالي عن أنانية الشباب، يعني اكتشاف
الواقع المجتمعي الذي لا يدرَك حقّاً إلا في منظور التاريخ. مرَّ عليَّ
وقتٌ طويل قبل أن أفهم أن ما يحرك المجتمع ليس الحق بقدر ما هو المنفعة».
يضيف: «لا أحد مُجْبَرٌ على التماهي مع مجتمعه. لكن إذا ما قرَّر أن يفعل،
في أي ظرف كان، فعليه إذن أن يتكلم بلسانه (المجتمع)، أن ينطق بمنطقه، أن
يخضع لقانونه» (ص 6 – 7).

اعترافٌ ثمين من مؤرخٍ كبير يعرف معنى التاريخ، ويقدّر قيمة التاريخ
في المعرفة. التاريخ وحده يُصَالِحُ المرءَ مع محيطه، يعيد إليه ماهيةً
اجتماعية قد تَضيع في تضاعيف التجريد والاعتكاف في معبد «الحقيقة».

ليس اعترافاً يتيماً ذاك الاعترافُ، ليس ومضةً شَعَّت في لحظَةِ
تَجَلٍّ أو صفاءٍ وانصرمت. تَكَرَّر في النصّ كثيراً: أفصحَ عن نفسِهِ
جَهرةً وأَوْمَأَ وأَوْحَى في المُعْظم. اعترف أنه عزف طويلاً «عن مراجعة
مراجع الآخرين، توراة اليهود وأناجيل النصارى»، وحين بدأ يقرأ «الكتاب
المقدس» في إحدى البلاد البروتستانتية، قال معترفاً: «لم أتجاوز الصفحة
الأولى إذ لم أجد فيه ما أجد في القرآن، تلك النغمة التي ترغمني على
مواصلة القراءة» (ص 78. ثم عاد وقرأ الكتابين (التوراة والأناجيل) نادماً
على الانقطاع، ناصحاً المترددين: («عكس ما يخشاه بعضُنا ويتمنّاه غيرنا،
لا يَنْتُج عن المطالعة أدنى ضرر بل العكس هو الحاصل. يخرج القرآن من
المقارنة أقوى تأثيراً وأكبر قيمة» (ص 78، ذلك أن «مَن لم يُحْيِهِ
القرآن فهو إلى الأبد ميت» (ص 115). اعترفَ بما يشدُّهُ إلى النبيّ، ما
يحمله في نفسه من مشاعر حيال «فتىً عربيّ سكن مكة وحمل اسماً يؤدي معنى
الحمد» (ص 88. قال معترفاً: «هذا النبي العربي، الذي أصبح بِتوافُق
الأحداث نَبيِّي أنا، أَحَبُّ إلى قلبي من أولئك الغائبين جميعاً...
أتماثل معه الآن لأني أرتاح إلى كل ما اختارهُ لنفسه... رَفَضَ النبيُّ
العربي سُنَّةَ اليهود والنصارى. فعل ذلك بحزمٍ وإنْ بوقار واحترام.
واليوم في قرارة قلبي أرفض بالحزم نفسِه ما رفض» (ص 201).

ما كان غريباً، إذن، أن ينصح مسائلتَه الأمريكية بقراءة «كتابنا
العزيز» (ص 8، بعدم ازدراء الماضي، مذكّراً إياها بأن السبيل «مفتوح لمن
يودّ التوبة إلى الذات، لمن يقرّر ألا يخاطب أبداً إلاّ الفرد في الإنسان»
(ص 11).

يعترف العروي في مستهل كتابه (ص 5) أن أفكاراً كثيرة خالجَتْهُ
طويلاً وبَحَثَ لشهور عن وسيلة للتعبير: نصّ فكري: حواريّ، اعترافات؟
وتكافأت عنده الأدلة فأتت رسالةُ السائلة الأمريكية تستدرجه إلى أسلوب
البَوْح والاعتراف. وحسناً فَعَل إذِ انحاز إلى هذا السبيل من الكتابة
والتعبير، فلقد كانت ثمرتُه قطعةً جميلة من الأدب النظريّ الرفيع. كتبَ
بأناقة لغوية وتعبيرية باذخة. أماط اللثام عن معرفة رصينة بالتراث
الإسلامي جاوزتْ حدود توقُّعنا عن صلته بالموروث الثقافي. أخرج الكتابةَ
الفكرية من رتابتها التقريرية وقاموسها النظري الصارم وزجَّ بها في
جماليات التعبير. مارس أعلى درجات التقشف في اللفظ والقول على طريقة أمراء
البيان. أرهقَ قارءَه لأنه انتزع قراءةَ القارئ من عادةِ استِبْدَاهِ
المعطى المقروء. مرتان وثلاثٌ وأكثر تحتاج منك الفقرة كي تَفُك استغلاقها،
لا لغرابةٍ في اللفظ بل لكثافةٍ عالية في معنى النصّ الذي يَعْرِض نفسَه،
في كلَّ جملةٍ فيه، على نحوٍ بالغِ التركيب.

موضوعات الكتابة كثيفة، متعددة، متداخلة ويفسِّر بعضُها بعضاً. قد
يوحي أسلوب الكتابة المفتوح وكأن النصّ نثري خارج عن ضوابط العروي
المنهجية الصارمة، عن الفكرة الناظمة التي تتوزع في النسيج وتغذي
التفاصيل. قراءتان للكتاب، ثلاث، تسمح بإعادة إدراك المنثور في منظومِهِ
الذي يؤلف بينه. هي طريقة جديدة في الكتابة عنده، غير مألوفة. لكنها تلتزم
-وإن من وراء حجاب- تقاليد منهجية دَرَجَ عليها العروي ولم يبارحها. نحاول
-في هذه القراءة- أن نُطِل على أطروحة الكتاب من نوافذ ثلاث فَتَحَها.

1 - حاكمية العهد الهلينستي

لا يَرِدُ الحديثُ، في الكتاب، في الفلسفة والكلام والميثولوجيا
والأديان الإبراهيمية والعلم عَفْواً، أو من باب التأْريخ، أو من جهة بيان
ما بينها من فروق وتمايزات. يَرِدُ في امتدادِ هاجسٍ معرفيّ آخر: إعادة
وضع هذه الأنماط من المعرفة في نطاق أطرها الثقافية الحاكِمة من أجل فهم
أفضل للفكر في تاريخيته. يأخذ عبد الله العروي بمبدأ الزمن الطويل أو
المدة الطويلة la Longue durée، المستعار من مدرسة الحوليات التاريخية (من
فرنان بروديل خاصة)، كي يقرأ تاريخ أفكارٍ لا تتبيَّن من منظور الزمن
القصير، الزمن الذي يقاس بالعقود أو ببضع مئات من السنين. لا يُقرأ
التاريخُ الثقافيُّ والدينيّ العربيّ، بهذا المقتضى، إلاّ بما هو جزء من
-وإعادة إنتاج- للثقافة الهلستينية (أو الهلنسية على نحو ما يسميها) حيث
ساد عهدُها منذ القرن الرابع قبل الميلاد حتى السادس الميلادي (غِبَّ ظهور
الإسلام).

الميثولوجيا، الفلسفة، الثيولوجيا، جميعُها هلستينية و«من يتفلسف
اليوم، بالمعنى التقليدي، «يتهلسن» بالضرورة» (ص 18. لا يريد الفلاسفة أن
يعترفوا بذلك حتى بعد أن انتهت وظيفة الفلسفة كمنظومة وباتت تندسّ اليوم
في كل العلوم فتزيد ضياعاً، أي بعد أن لم «تَعُد (= العلوم) بحاجة إلى
نظيم» (ص 19)، فما عاد أمام الفلسفة من وظيفٍ فعليّ سوى التحليل: «تحليل
المفردات، العبارات، الإفادات، الإيحاءات، التضمينات، العلاقات» من دون
التطلع إلى هدف أعلى مثل «الجبر بعد الكسر، التشييد بعد الهدم، الالتحام
بعد التجزئة» (ص 19 – 20). لم يقع انقطاعٌ بين الفلسفة (الميتافيزيقا)
والميثولوجيا، بين العلم التجريبي والفلسفة كما قرّر أوغست كونت، وإنما
استمر السابق في اللاحق. واليوم «نعيش... عهداً هلستينيّاً جديداً حيث
تختلط المناهج الأربعة: الميثولوجيا، الميتافيزيقا، الثيولوجيا، العلم
الموضوعي» (ص 18. ثمة ما يبقيها حية: عجز العلم عن تجاوز الحاجة إليها
جميعاً، «وهذا العجز النسبي يبقي على الفلسفة، ينعش الثيولوجيا ويُحيي
الميثولوجيا» (ص 34).

علم الكلام (= الثيولوجيا الإسلامية) نَهَلَ كغيره من معين الثقافة
الهلستينية، وفي عهده المتأخر استعار أسئلة الفلسفة الإغريقية. يَجِدُّ
المتكلم جدّاً ليستعمل منطق الفيلسوف ولغته فيمزج البرهان بالجدل والخطابة
«مشوّشاً على العامة، عاجزاً عن إقناع الخاصة» (ص 26). يرفض الفيلسوف
أخلاطه فيدعوه إلى دخول الفلسفة من أبوابها أو اختيار الخطابة ومزاحمة
الخطابيين. لكنهما يتجاوران معاً ويتسابقان على خطاب ودّ السلطة. حجة
الفيلسوف هنا أقوى في مخاطبة السلطان: «صناعة الكلام تضر ولا تنفع، تضعف
المجتمع ولا تقويه، إذ تشجع الجميع على ممارسة الجدال». والمجتمع ما عاد
فسيفسائياً بعد أن وحَّدتْه السُّنّة، فـ»أية فائدة في بقاء المتكلم الذي
يعتمد إحياء إشكالات منسيّة»؟ (ص 26). لكن مشكلة الفيلسوف والمتكلم معاً
أن فكرهما ينتهي إلى «الانحلال في مسائل». وإذا كانا ينجحان في تركيبها
فلأن «بينهما أكثر من تماثل». يبدي العروي حياداً أمام أجوبة الفيلسوف
والمتكلم عن مسائلهما وإعجاباً بالشكل والترتيب، وبعض حسرةٍ على الوأد
السريع للكلام الاعتزالي.

ورثة الإبراهيمية هم أيضاً أبناء العهد الهلستيني والتراث الديني
التوحيدي جزءٌ منه، «كل شيء يبدأ مع إبراهيم، وكل شيء ينتهي إليه» (ص 51).
إبراهيم المؤسّس يرى ويدعو، يثور على قومه ويجادلهم، ثم يهتدي إلى
التوحيد. «فيه وبه تحصل القطيعة الكبرى» (ص 51) فيكون «خاتمة حقبة» (ص 59)
لأن عناصر الرؤية تجمعت جمعيُها فيه ثم تدفقت في الأحفاد: في هذه التجربة
نفسها، ثم ها هي تجربته «تتكرر وتؤوَّل في إطار الثقافة الهلستينية» (ص
67) مع المسيحية والإسلام خاصة.

عبدالاله بلقزيز**المساء-16-10-2008
[/justify]

abdelhamid
abdelhamid
مشرف (ة)
مشرف (ة)

ذكر عدد الرسائل : 4741
العمر : 66
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

السُّنّـة والتاريــخ Empty السُّنّـة والتاريــخ.. 2/3

مُساهمة من طرف ربيع السبت 18 أكتوبر 2008 - 23:44

عرضٌ لكتـاب« السُّنّـة والإصـلاح» لعبد الله العروي

يسلّم الإسلام بما سبقه من رسالات و«على غرار إبراهيم وعلى أثره يختزل...
الماضي بهدف نفيه، تجاوزه مع الحفاظ عليه...» ص (71). يعرف أن اليهودية
والنصرانية انحرفتا عن الجادة الإبراهيمية وأنه لا يكون إسلاماً «إلا إذا
وضع نفسَه في خاتمة المسيرة الإبراهيمية، إلا إذا غالب وغلب كل نزعة
تجسيدية» (ص 72). أدرك المتكلمون «قبل سبينوزا والنقد التاريخي الحديث» (ص
78 الفرق بين كتابهم وبين التوراة والإنجيل، «قالوا ليهود ونصارى زمانهم:
ما بأيديكم ليس كلام الله الواحد الأحد، فهو في أحسن الأحوال مجرد صدى.
النسخة التي عندكم مهذارة مكرارة، متناقضة، وأحياناً سخيفة خرقاء» (ص 79).
حجتهم قوية في نظر العروي ولذلك أطنبوا في مناظرة اليهود دون النصارى لأن
أناجيل الأخيرين لا تدعي أنها كلام الله «وإنِ ادَّعتْ -هو أمرٌ أشنع- أن
المسيح هو الربّ مجسَّداً» (ص 81).

هل كان يسوع (عيسى ابن مريم) ينتمي إلى العالم اليهودي كما يصوّره
الإنجيل؟ لا يعتقد متكلمو المسلمين ذلك ويوافقهم العروي على اعتقادهم
بالتأكيد على أنه «ينتمي إلى الثقافة الهلستينية» (ص 81). يقول المتكلمون:
«المسيحية التاريخية لا تنتمي إلى العالم القديم، عالم إبراهيم المحدود
ببلاد الرافدين ومصر، بل تنتمي إلى العالم الجديد [يقصد العروي: العالم
الهلستيني] الذي أنشأه اسكندر المقدوني وكرَّسه يوليس قيصر تمهيداً، كما
تقول الكنيسة، لظهور المسيح. قد يندرج في العالم القديم عيسى النبي، عيسى
المسلمين، لا يسوع النصارى يسوع الإله» (ص 81 – 82). إنها النتيجة عينُها
التي وَصَل إليها -قبل عشر سنوات- المؤرخ اللبناني كمال صليبي في حفرياته
في الأناجيل في كتابه البحث عن يسوع.


هل من دليل؟


لا بد من إعادة قراءة الأناجيل الأربعة ومضاهاة بعضها ببعض لاكتشاف
تناقضات السرد كما فعل كمال صليبي. ثم لا بد من إعادة قراءة معنى اعتناق
الإمبراطورية الرومانية للمسيحية «بعد ممانعة دامت ثلاثة قرون»، أليس «لأن
هذا الدين نشأ في أحضانها وليس، كما يبدو، على أطرافها»؟ (ص 82). تأخرنا
في إدراك هذه الحقائق، لكن متكلمينا -يقول العروي- لم يكونوا واقعين مثلنا
تحت تأثير رواية الكنيسة ففصلوا بين تجربة إبراهيم وتجربة اليهود و«قالوا:
هناك بنو إسرائيل وهناك بنو إسماعيل»؛ كما «فصلوا فصلاً تامّاً وواضحاً
مأساة عيسى بن مريم عن ذلك المؤلّف العقائدي الناشئ داخل الثقافة
الهلستينية (التثليت، التجسيد، الصليب، الحب، الخلاص) الذي عُنْوِن باسم
المسيح واتُّخِذ ديناً للإمبراطورية الرومانية» (ص 83).

هذه معطيات مختلفة: ثقافية، دينية، نفسية، متغيرة من شعب إلى شعب، من
فترة من الزمن إلى أخرى، لكنها تنهل جميعُها من نفسِ المعين الذي يحكُمها
ويوحِّد بين ملامحها على اختلاف: العهد الهلستيني. استنتاج يَعْسُر الوصول
إليه إن لم يأخذِ المؤرّخ ومؤرّخ الأفكار بقاعدة الزمن الطويل المعتمدة في
الدراسات التاريخية المعاصرة.

2 - العرب والنبي في السياق التوحيدي الإبراهيمي


ما كانت العربُ شعباً من البدو المعزولين عن العالم في الصحراء. يصحّ
أن يقال ذلك عن عرب الوسط. أما عرب الشرق، المندمجون في العالم الفارسي،
وعرب الجنوب، المتواصلون مع العالم الإفريقي، فأقل بداوة. بينما يظل عرب
الشمال الغربي أكثر تحضراً، وفيهم ظهرت الرسالة. هؤلاء «ارتبطوا منذ قرون
بعلاقات وثيقة ومنتظمة بمؤسسي الحضارة القديمة في الشام ومصر»، و«هؤلاء هم
شعب النبي»، «الشعب التاريخي العريق» (ص 96). لا أحد يعرف «من أين جاؤوا؟
ما موطنهم الأصلي؟ ما سرّ إعرابهم، بلاغتهم؟ لغتهم المُبِينَة المتينة
كالمنسوخة عن مكتوب حتى قبل أن تكتب؟ شعرهم؟ حِرَفهم؟ أخلاقهم؟...» (ص
91). ولكنَّا نعرف أنهم عاشوا طوال ألف عام يتذكرون إبراهيم وجدّهم
إسماعيل، ورافقوا الإمبراطورية الرومانية في عهديْها الوثني والمسيحي (ص
94)، وأن محمداً بن عبد الله شاركهم التجربةَ التاريخية أربعين عاماً «قبل
أن يتبرأ منهم ويعتزلهم» (ص 94).

ما الذي مَنَعَ عرب الشمال الغربي، المتواصلين مع مصر ومع بلاد الشام
– التي «عُرّبت، بشريّاً وثقافيّاً، ثلاثة قرون قبل الإسلام» (ص 90) – من
اعتناق اليهودية والنصرانية؟ (إذ «لو كانوا بالفعل أجانبَ دخلاء
لَسَايَرُوا الجموع» (ص 97)). ما سرُّ امتناعهم عن الاندماج؟ سؤال يطرحه
العروي فيجيب: «عرب الشمال الغربي، الملحَقون بالمجتمع الهلستيني منذ
أزمان، لا بدّ وأن يكونوا قد حملوا فكرةً خاصةً بهم، ميزة تفصلهم عن غيرهم
وتمنعهم من الانصهار في أولئك الغير. وهذه الميزة التي تجعل منهم أمة
رافضة لكل اندماجٍ، لاصقة بهم منذ قرون» (ص 98. لا بدّ، إذن، أنهم لم
يشاطروا أهل العقائد التوحيدية الأخرى توحيديةً خدشت المعنى الإبراهيمي في
ذاكرتهم. فرضية؟ ربّما.

يؤكد العروي بطريقة غير مباشرة وجاهة هذا الافتراض حين يسجّل تفوُّق
دعوة النبي «هذا الداعي الجديد، الذي ليس دَعيّاً ولا مدَّعيّاً» (ص 100)
بارتفاعها عن نصاب التجسيد والوثنية المنسابتين من اليهودية والنصرانية.
فهو لا يدعي أن الله يكلمه، ولا يدعي بنوَّته من الله، وإنما «يقول
بتواضع: أنا اليتيم، أن الأمّيّ، في ظلام الليل وعزلة الخلاء، سمعتُ ما
سمعت ورأيتُ ما رأيت، وها أنا أوافيكم بما رَسَخ في الوجدان بلغةٍ يفهمهما
قومي» (ص 101). كلام متواضع، بشريّ، عاديّ، لكنه صادق. ولذلك السبب يفهمه
قومُه. إذ «هل يُتصوَّر أن يكون النبي عرض على قومه، وهم أصحاب ذكر وحفظ،
نسباً، مادياً وروحياً، غير الذي توارثوهُ جيلاً عن جيل منذ أقدم العصور؟
لو أقدم على ذلك، أمَا كان ذلك أقوى حجةً عليه؟ لو جاء بغير المعهود، لو
قرَّر نبذ المألوف، كيف كان يتعامل مع العادات القائمة والمنسوبة إلى
إبراهيم: الختان، الاحتفال بواقعة الذبح، تقديس البيت، التبرك بماء
البئر... هذه أشياء سابقة على عهد النبي. لو أقدم على تجاهُلها لكذَّب
دعواه» (ص 101).

إذن هو المأثور والموروث الإبراهيمي في الذاكرة الجماعية ما مَنَعَ
العرب من التهوُّد والتنصُّر وما دفعهم إلى إجابة دعوة النبي التي نطقت
بمفردات إبراهيمية. ولكن ما القول في صدِّ دعوته من قريش وأشرافها
والأقربين؟ كان ذلك ابتداءً، حين لم يدرك أشرافُ القوم ما تقدمه لهم
الرسالة وفكرة التوحيد. حينها، كان النبيّ وحيداً «يلاحظ ما لا يلاحظ
غيره. يؤثر في وجدانه تأثيراً يقلقه، يذهله، يؤرقه ما لا يلفت أنظار ذويه
ولا يحرّك منهم ساكناً وهم العقلاء الفضلاء أصحاب همّة ومروءة»، وإذن
«ماذا يعني الأمر إن لم يَعْن أن الفتى يجتاز تجربة فريدة، غير عادية بين
أبناء جلدته» (ص 105)، ويتساءل أحياناً لماذا اصطُفِيَ هو بالذات من دون
سائر أشراف قومه وكبرائهم منزلةً اجتماعية. كان «يدرك جيداً أن لا تناسُبَ
بين مقاله ومقامه، بين جسامة ما يدعو إليه ودوره المتواضع في المجتمع» (ص
113). لكنه –ورغم الصدّ والخذلان– قاوم وثابر و«أحْيَى نداء جدّه إبراهيم»
(ص 117).

كان على النبي أن يواجه الصدّ والخذلان بالانفصال عن المجتمع المكّيّ
النابذ. هل كان له من خيار آخر: «أن يعتنق اليهودية؟ الأمر مستحيل نظرياً
وعملياً... أن يعتنق النصرانية؟ الأمر مستحيل عقلاً وأخلاقاً... أن
يُعْرِض عن أهل مكة؟ الأمر مستحيل إذْ ما كان لأهل مكة أن يُعْرِضوا عنه
وهم مقتنعون أنه يمثل خطراً قاتلاً على تجارتهم...» (ص 120). لكن الهجرة
ستبدِّل بعضاً ممّا كان في دعوته الإبراهيمية في مكة. ستدفعه إلى
«الانغماس في دوّامة التاريخ» (ص 121)، إلى إقامة الدولة. في مكة «كان
وحيداً مهجوراً، مستضعفاً مضطهداً، فوجد الله وسَعِدَ به. في المدينة كان
مكرَّماً مُبَجَّلاً، محاطاً بالأنصار والأتباع، فاكتشف الإنسان وشَقِيَ
به. آراؤُهُ تُنَاقش، أحكامُهُ تُعَارض، بل الوحيُ ذاتُه كان أحياناً
موضوع تساؤل. لذلك بالضبط جاء التأكيد تلو التأكيد على أن طاعةَ الرسول
طاعةُ الله وحكمَ الرسول حكمُ الله... لولا التنطُّع لما جاء التأكيد» (ص
123). تحوُّلٌ ما كان منه بدّ كي تخرج دعوة التوحيد من ضائقتها الطويلة في
مكة. ألم يحصل ذلك في اليهودية قبْلاً؟ «من يتقمص رداء موسى يسير بالضرورة
على خُطاه» (ص 123).

مع الهجرة بدأ الإسلام التاريخي و«بالتدريج تأخَّر إبراهيم الخليل
تاركاً الواجهة لموسى الكليم» (ص 118). للهجرة دلالة هي أن «الدعوة لا
تجدي بمفردها. الخطاب وحده... لا يشرح صدر أحد ولا يلين قلب أحد».
والمدينة مكان مختلف «أحوج إلى قائد حاكم منها إلى مصلح مهذِّب». ولذلك
«ما إن حلَّ بها النبي حتى دُفع دفعاً إلى تقمُّص دور موسى» (ص 119 –
120). لكن مسار الإسلام التاريخي سيتعمق أكثر فأكثر بعد غيابه وحلول
الخلفاء محله في مركز القيادة.
ربيع
ربيع

ذكر عدد الرسائل : 1432
العمر : 48
تاريخ التسجيل : 04/07/2008

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

السُّنّـة والتاريــخ Empty السُّنّـة والتاريــخ..3/3

مُساهمة من طرف said الأحد 19 أكتوبر 2008 - 19:54

جماعات ثلاث تصارعت على السلطة في الإسلام بعد حقبة النبوة: أشراف مكة
وخاصة المؤلفة قلوبُهم، والخوارج، والشيعة. آلتِ الأمور إلى أشراف مكة
الذين «سيفرضون فهمهم للنصّ» و«سيضعون أسس السنة» (ص 130). ما كان أمام
المخالفين سوى الانشقاق (= الخوارج) أو «تأسيس سنّة موازية» (=الشيعة) (ص
130). منذ ذلك الحين ساد إسلام الجماعة، وحُسِمَ في أمر تفسير النصّ
القرآني بردّه (=التفسير) إلى السنة «أي الطريقة التي تصرَّف بها النبي في
المدينة كما يشهد بها عدد محصور من الصحابة» هم أهم الإجماع (ص 132 –
133). وحين مال المخالفون إلى التفكير في مسائل عقدية كالإيمان (=الخوارج)
أو الحكم الشرعي (=الشيعة) «كانت... النخبة المحنكة تنصح بإغفال المشكلتين
أصلاً والنهوض بما هو أهمّ وأنفع: تشييد مملكة الإسلام» (134 – 135). لذلك
فرضت رؤيتَها وسلطانها في تاريخ الإسلام.
يقف العروي مطوَّلاً أمام أشكال التعبير المختلفة عن الفكرة السنية في
الثقافة الإسلامية: كلاماً وفقهاً وفلسفةً. جادل المعتزلةُ غيرَ المسلمين
مدافعين عن فكرة التوحيد، لكنهم تحاشوا الخوض في شرعية الخلافة رغم
إلحاحهم على مسألة العدل، ووفّروا للدولة أيديولوجيتها بمقدار ما خدموها
(ص 137 – 138). لكن كلام السنة النصيين -متحالفين مع السلطة- سينتصر
بمقدار ما تنتصر السلطة في توحيد المجتمع وإخماد أصوات المخالفين. سيبدأ
الفقه مع أبي حنيفة في العراق. سيكون الرأي عمادُهُ في مجتمعٍ متباين
الأهواء. لكن مالك بن أنس سيعيد تأسيسَه على المتواتر في المدينة مزيحاً
الرأي من صدارة مصادر التشريع. وسيحافظ الشافعي على مكانته مؤصِّلاً السنة
كمبدأ أصولي، وحينها لا بأس من القياس لأنه معمول به في السنة. ثم لا يلبث
ابن حنبل أن يسند كل شيء إلى الحديث (ص 140 – 141). أما ظاهرية ابن حزم
-التي لا يخفي العروي إعجاباً بتماسك حجتها رغم رفضه إياها- فأتت تستكمل
بناء الصرح السنيّ منطلقة من وضع الأندلس الحرج.
والنتيجة؟ «تراجع الرأي لصالح الحديث...»، و«تراجع العقل لصالح النقل...»،
و»تراجع الباطن لصالح الظاهر...» (ص 143). وهكذا: «في الفقه نبدأ مع أبي
حنيفة وننتهي بابن حنبل. في الكلام نبدأ مع المعتزلة وننتهي بمذهب الظاهر.
في الماورائيات نبدأ بالفلسفة وننتهي مع التصوف النظري» (ص 157). وهكذا
حكمت السنة، في رأي العروي، على التاريخ أن يتوقف عند لحظةٍ مرجعية منه لا
يبرحها، فلا يتجدد أو يتطور. ولم يعد ممكناً استئناف الحركة فيه «إلاّ
بدافع خارجي» (ص 150)، الأمر الذي يضاعف من درجة الانكفاء، إذِ السنة
«دائماً حذرة، دائماً متأهبة. تخشى باستمرار إما هجمةَ الخارج وإمّا مروق
الداخل، فتتصرف كالسلحفاة، كلما استشعرت الخطر تقوقعت لتستمسك وتصمد» (ص
169). أما التجديد عندها، فليس يعني تصحيحاً أو تطعيماً، وإنما يعني
«استحضارَها بعد نسيان، استئنافَها بعد تعثّر، استجلاءَها بعد خفاء» (ص
170). عدوّ السنة هو التاريخ لأنه يقوِّض بنيانها، يُخرجُها من الحَدّ
والحّصْر ويُدخلها في الصيرورة، و«الزمن هو منبع كل المفارقات التي تواجه
المذهب السنيّ، بل هو فكر تقليدي» (ص 190).
هل يمتنع التجدُّد عن السنّة تماماً؟ وكيف تستطيع الصمود في محيط التغيّر
الهادر؟ قد «تتجدّد» في نظر العروي، وحينها يتكون «سنة مبتدعة» أو
«نيو-سنة» (ص 192) وإن لم تعتبر أنها كذلك (كما لا تعتبر أنها «في أية
لحظة من تاريخها پوست-سُنّة» (ص 192)). تختزل السنة كل شيء: الوحي في
الشرع، والشرع في عمل مجموعة محدودة، وترسم الطريق المَحَجَّة: تقليد
الجماعة. لكن هذه اللعبة التي قد تحمي الداخل لا تقوى على جبه التحدي
الخارجي. وحين يداهمها الاستعمار، «ينثُر ما نظمته» من دون توليد نقيضها.
أليس ذلك سبباً للاعتقاد بأن مشروع الإصلاح أخفق لأنه تم في ظل الاستعمار؟
(ص 204 – 205).
بعد مطالعته مفارقاتها، ينتهي العروي إلى إطلاق دعوة صريحة: «واجب علينا
إنقاذ العلم والسياسة، لا من الدين... بل من التأويل الذي فرضته السنة،
والسنة مؤسسة بشرية: رسمية كانت أم لا، منظمة كانت أم لا..» (ص 210):
إنقاذ يكون بإلغاء الوسيط الذي يؤوِّل لأنه ليس محايداً.
هذا كتاب إشكالي، جريء، يفتح جروحاً في التاريخ الثقافي والسياسي العربي
كي نفهم الأسباب التي أخذت ذلك التاريخ إلى التراجع، في ضوء التاريخانية.
أسئلة لا حصر لها يقذفها في وجه البداهات المتكلسة السائدة. مرة أخرى يلق
ي العروي حجراً في الماء الثقافي الآسن، كما فعل قبل نيّف وأربعين عاماً.
إن لم يفتح -هو بالذات- ورشةَ تفكير عميق في الفكر العربي، فما أحدٌ غيره
يفعل.
said
said
مشرف (ة)
مشرف (ة)

ذكر عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى