ليوطي المغربي
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
ليوطي المغربي
بين يوم وصوله إلى الدارالبيضاء في 14 ماي 1912 بعد تعيينه مقيما عاما لفرنسا في المغرب، ويوم مغادرته ذات المدينة في 12 أكتوبر 1925، استطاع أوبير ليوطي أن يطبع مسار مملكة الحماية وأن يهدي الجمهورية إمبراطورية. مؤخرا صدرت الطبعة الثانية من السيرة الشاملة التي خصصها أرنو تيسيي لـ "مهندس المغرب الحديث"، سيرة نقدم للقراء عرضا لفصولها المتمحورة حول مغرب ليوطي.
* الاتحاد الاشتراكي
* الاتحاد الاشتراكي
عدل سابقا من قبل said في السبت 30 يناير 2010 - 18:59 عدل 1 مرات
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: ليوطي المغربي
-1-
ليوطي يستمع للشعر بينما المغاربة يهاجمون فاس
ليوطي يستمع للشعر بينما المغاربة يهاجمون فاس
يوم 30 مارس 1912، بعد أسبوع من المفاوضات جد العسيرة، سينتزع أوجين رينيو من السلطان مولاي حفيظ التوقيع على عقد الحماية، حاصلا في ذات الآن على منصب مقيم عام لفرنسا في المغرب وفق النظام القائم في تونس. لكن وزارة خارجية باريس لم تنتبه، وقتها، إلى مدى السخط السائد في أوساط المغاربة إثر سنوات من التفكك البطئ للسلطة المركزية. هكذا، ومثل النار في الهشيم، انتشرت إشاعة كون مولاي حفيظ باع المغرب لفرنسا، لتنتفض «الطوابير»، أي كتائب المشاة في الجيش الشريفي، يوم 17 ابريل 1912 وتقوم بتصفية ضباطها والسيطرة على مدينة فاس العتيقة. وخلال نهب «الملاح» سيلقى العشرات من الأوربيين حتفهم، بينما سيحاصر آلاف المحاربين الوافدين من القبائل المجاورة العاصمة. الجنرال موانيي، قائد القوات الفرنسية في المغرب، سيبذل كل جهده قصد حشد دعم عسكري أكبر، محاولا إعادة استتباب النظام، لكنه سيأمر، لبلوغ مبتغاه، بالعديد من الإعدامات بدون محاكمة مما سيؤدي إلى تزايد حجم الانتفاضة. هذه الأخيرة كانت موجهة، في الآن ذاته، ضد الفرنسيين وضد السلطان، علما أن الهيبة انتصب منافسا لمولاي حفيظ. تراكمت الأخطاء لتدفع المغرب برمته إلى الانخراط ببطء في صفوف المنتفضين. حينها، قررت الحكومة الفرنسية مواجهة الأوضاع بحزم، فاقترحت على غالييني منصب المقيم العام، لكنه رفض بسبب تقدمه في السن، موصيا بتعيين ليوطي. وبعد أيام من التردد من قبل صناع القرار الاستعماري في باريس، عين الجنرال دوكور دارمي مقيما عاما لفرنسا في المغرب. قبل الحلول في المغرب، سيؤمن ليوطي بأن موقفين متناقضين تفاعلا في الساحة المغربية ليترتب عنهما زيغان الانتفاضة في فاس: التساهل المفرط ليرينيو من جهة أولى، والتشدد القمعي المفرط كذلك لموانيي من جهة ثانية. وفي اعتقاده، فالأوضاع كانت تستلزم اللجوء إلى قمع واسع وفوري، لكن شرط أن لا تستغرق العملية سوى مدة وجيزة، وبعدها إعمال ديبلوماسية ذكية لتدجين المنتفضين، أي القوة الوحشية والمهيبة أولا، ثم الإقناع ثانيا. وهو يستعد للمجيء إلى البيضاء على متن الباخرة المنطلقة من مارسيليا والتي ستمر عبر وهران،مرس الكبير وطنجة، سيتساءل ليوطي عن المصير الجديد الذي ينتظره، هو البالغ من العمر 57 سنة: «كيفما كانت الاحتمالات الخطيرة والأخطار المأساوية التي سأواجهها مستقبلا، فأنا أحب نمط الحياة هذا أكثر من أي شيء آخر». في الدار البيضاء، حيث حل يوم 14 ماي 1912سيكتشف ليوطي أوضاعا أكثر تدهورا مما كان يتخيله. أجل، إنه لم يقدر الأمور حق قدرها: التوتر الدولي حول المسألة المغربية الذي دام أعواما طويلة والإحساس بالاحتقار السياسي السائد لدى النخبة المحلية. حين الوصول إلى العاصمة المهددة بهجوم مناوىء وشيك، يوم 25 ماي، سيستقبل الجنرال من طرف السلطان رسميا، رغم أن مولاي حفيظ عبر عن «غضبه الشديد» جراء تعيين عسكري مقيما عاما لفرنسا. وبمجرد ما بدأت ظلمة المساء تعم فاس ، تعرضت المدينة لهجوم عنيف لم تصده إلا بفضل المشاة والقوات التي جلبت من مكناس المجاورة. لم يكد يمر يومان على حلول المقيم العام في فاس، حتى هاجمها المنتفضون ليلا. وقد تمكنوا، في هذه المرة الثانية، من ولوجها، بل والوصول إلى مسجد مولاي إدريس حيث ظفروا بعدة غنائم. والعاصمة تسعى إلى صد المهاجمين، سيتصرف ليوطي بشكل لايخلو من غرابة ويرفع الحجاب على «طباعه الفريدة». تحت النجوم المتلألئة في سماء فاس، وبعد إصدار أوامره واتخاذ جميع الإجراءات الدفاعية، سيصعد ليوطي إلى شرفة إقامته، وهناك سيطلب من ضابط شغوف بكتابة الشعر أن يقرأ له بعض الأبيات! لم يكن ليوطي في حاجة إلى كثير من الوقت للوعي بخطورة الأوضاع: ثمة من جهة سلطة مركزية مفتتة وسلطان لايبتغي سوى مغادرة فاس والذهاب إلى الرباط في أسرع وقت ممكن، وهناك بالمقابل قوات الأهالي التي يتزايد عددها يوما بعد يوم، قوات تهدد العاصمة وتطمح إلى بسط نفوذها على البلاد كلها، قوات يشحذ همتها «الجهاد» ورفض الأجنبي الدخيل في ذات الآن. بعد معاينة الأوضاع، سيقتنع ليوطي أن واجبه يفرض عليه «إعادة بناء البلاد باستعجال» أو، بصيغة أخرى، «فتح ورش التجديد المحافظ»، وأن تهدئة المغرب تستلزم إعادة خلق الدولة، إعادة السلطة السياسية والدينية للسلطان وإعادة الثقة للنخب. وفي اعتقاد المقيم العام، فالشرط الأول لنجاح «سياسته الأهلية» يتمثل في إخماد نار الانتفاضة واستتباب الأمن. لكنه شرط مرهون بإعادة البناء السياسي. ولذا فلا مناص، ودون إهدار للوقت، من إعادة بناء «واجهة للمخزن»، ربط الاتصال ببعض الزعماء المحليين الأكثر نفوذا، وإحياء مظاهر السلطة الأكثر منظورية. هكذا، وبعد حلوله بشكل رسمي مهيب بالعاصمة واستقباله من قبل السلطان، سيعقد اجتماعات مع أعيان وعلماء فاس. وفي السياق ذاته، سيصدر الجنرال عفوا على بعض المهددين بالإعدام دون محاكمة، مثلما سيعفى أهل فاس من دفع ضريبة الحرب المفروضة عليهم سابقا، كما أنه لن يتردد في نقد العسكريين الذين عاملوا أعيان وعلماء العاصمة بشكل مهين مماثل لمعاملتهم لأي منتفض بسيط، وهو السلوك الذي ولد مناخا من الكراهية إزاء فرنسا في أوساط النخبة الفاسية. 30-1-2010 | ||
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: ليوطي المغربي
-2-
كيف تنازل مولاي حفيظ عن العرش
بعد تسلمه لمهامه كمقيم عام لفرنسا، دأب ليوطي على استقبال أعيان فاس
يوميا، وجعل من الفرنسيين المقيمين بها منذ مدة وسطاء بينه وبينهم، مثلما
أعفى المدينة من أداء ضريبة الحرب المفروضة عليها من قبل موانيي. ورغم ذلك،
بقي الاضطراب سيد الموقف طوال أيام، ولم تنقشع غيومه إلا في بداية شهر
يونيو 1912 ، مع وفود طابور غورو الذي فرَّق القوات المحاصرة للعاصمة
بمساعدة فيالق المدفعية.
لم يخلُ هذا الحدث، هو الآخر، من إخراج مسرحي مضبوط: مساء 2 يونيو، يلج
غورو ورجاله العاصمة منتصرين، ويقومون باستعراض عسكري أمام السلطان
والمقيم العام. وقد كانت الرسالة واضحة: استمرار حضور السلطان وعدم تلاشي
السلطة.
ومع ذلك، فالوضع مايزال يتسم بالهشاشة، إذ تعوز الإمكانيات ليوطي لبسط
نفوذه على باقي المناطق رغم سيطرته على فاس، ومنها المناطق الأقرب إلى
العاصمة. ولكسب رهانه هذا، يعرف الجنرال أن غورو يوفر له ورقة عسكرية
رابحة، خاصة وقد سبق له تحقيق انتصارات مبهرة في النيجر وموريتانيا.
ويتمتع الرجل هذا بالشجاعة والبساطة، وبوفاء نموذجي، مما جعله يصبح أحد
المقربين من المقيم العام. وبمناسبة أول إحياء للعيد الوطني الفرنسي
بالمغرب في ظل الحماية (14 يوليوز 1912)، سيطلب منه ليوطي المشاركة في
الاستعراض المنظم في العاصمة: «استحضر أهمية هذا العيد الوطني الأول
للحماية بفاس، الوقع الذي سيخلفه في فرنسا وفي هذا البلد، الطابع السياسي
الذي سيضفيه عليه حضور الفيالق التسعة المكونة لطابورك المنتصر، غنائمك و
الزعماء المحليين المرافقين لك، واستحضر كذلك إشعاع وحمولة هذا الحضور لدى
المخزن والشعب والأجانب».
في نهاية يوليوز 1912، سيراسل ليوطي أحد أصدقائه السياسيين، مؤكدا أن
التهدئة النهائية للمغرب مهمة تستلزم نفسا طويلا، أنه لن يجعل منها شرطا
مسبقا وأنه سيباشر الفعل بدون انتظار إقرارها عبر إعادة بناء الدولة
المغربية، وحسبه دائما، فأول إشكالية يجب حلها إشكالية سياسية تتعلق بمصير
مولاي حفيظ.
يعتقد ليوطي أنه لا يمكن منح السلطان، رغم فقدانه للحظوة، ثقة عمياء من
طرف سلطات الحماية، بل إنه يشكل خطرا محتملا عليها نظرا لاستمرار صلاته مع
القبائل المنتفضة من جهة، ونظرا، من جهة ثانية، لسلطته الدينية التي تشرعن
إعلانه للجهاد في أي وقت. ومن وجهة نظر الجنرال، فمولاي حفيظ لن يقبل
التعاون بالشكل المطلوب معه كمقيم عام، ومن ثمة فمن اللازم تحييده أولا
قبل تغييره.
رغم حدسه بأن مبادرة خلع السلطان الشرعي محفوفة بالمخاطر مما دفعه إلى
تأجيل الإقدام عليها عدة شهور، سيقنع ليوطي وزارة خارجية فرنسا بالأمر
ويباشر مفاوضات «عسيرة» مع مولاي حفيظ قصد إقناعه بالتنازل عن العرش.
يوم 12 غشت 1912، سيسدل الستار على مسلسل «المساومات المؤثت بنوبات غضب
السلطان وبمواقف تجمع بين المأساة والمهزلة»، ويوقع مولاي حفيظ الوثيقة
المطلوبة، حاصلا على «شيك مهم ومعاش محترم مع آفاق إقامة رغيدة في فرنسا».
لكن، وقبل السفر إلى الديار الفرنسية، سيقوم السلطان بإتلاف الرموز المقدسة
للعائلة العلوية الحاكمة، مؤكدا بذلك أن تخليه عن العرش فرض عليه تحت
الإكراه.
لاحقا، في شتنبر 1912، ورغم استعادة الفرنسيين لمراكش من أيدي المنتفضين
بقيادة الهيبة، فإن ليوطي سيسجل أنه في حضرة مغربين اثنين: «واحد نحتله،
لكنه منعدم الطاقة الحربية وذو مخزن بلا قوة ولاهيبة، ومغرب ثان أهم بكثير
يضم الجماهير الأمازيغية، مرتج الأعماق، متزمت، زاخر بالموارد الحربية،
مغرب يمكنه الوقوف برمته وقفة رجل واحد ضدنا بفعل تأثيرات لا نستطيع
التحكم فيها».
أيامها، كان ليوطي يؤمن إيمان العجائز أن العمليات العسكرية ليست كافية
بمفردها لبلوغ الهدف، بل أنه من الواجب تنظيم الدولة المغربية وفق نموذج
مختلف جذريا عن نماذج «الحماية» و«الاستعمار» في البلدان الأخرى، وخاصة دول
الجوار. في هذا الصدد، سيقول المقيم العام لمجموعة من رجال الأعمال من
مدينة ليون: «تذكروا أن المغرب يتوفر، إلى حدود الآن (1914)، على شخصيات
كانت، قبل ست سنوات فقط، سفيرة لبلدها المستقل لدى بيترسبورغ، لندن،
برلين، مدريد أو باريس، يرافقها في مهامها كتاب ومستشارون، شخصيات ذات
ثقافة واسعة تباحثت على قدم المساواة مع رجال الدولة الأوربيين، ولديها
إلمام بالقضايا السياسية ونزوع إليها. إنه واقع لا مثيل له لا في الجزائر
ولا في في تونس».
كيف السبيل إذن إلى إقناع النخب المغربية بأن فرنسا لا تهدف إلى تدبير شوؤن
بلادهم و فق «النموذج الجزائري»؟ إنه السؤال الذي ظل يؤرق ليوطي طوال
الثلاث عشرة سنة التي قضاها في المغرب، ساعيا إلى إقناع هذه النخب بأن
مشروعه مختلف تماما عن النموذج الجزائري، وبأن المشروع ذاك ليس مشروعه
بمفرده، بل مشروع فرنسا وحكومتها.
مولاي يوسف (32 سنة) هو من سيتحمل مسؤولية خلافة أخيه مولاي حفيظ الصعبة،
و«سيرعاه ليوطي بأبوة، مجهدا نفسه على إخفاء هذه الأبوية».
في شهر أكتوبر 1912، سيشرع المقيم العام في إعمال خطة عمله الرامية إلى
إعادة بسط السلطة الشريفة على المناطق الخاضعة للسيطرة الفرنسية، وخاصة في
جهة مراكش، عبر إعداد زيارة السلطان الجديد إلى مدينة النخيل.
خارطة طريق الإقامة العامة تتضمن أيضا ضمان النظام والأمن، تعبيد الطريق
للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتوفير العدالة والمساواة «تحت يافطة
السلطة التقليدية»، وذلك بواسطة تأسيس شرطة محلية وإنشاء بنيات تعليمية
وصحية. وفي إطار هذا المشروع ذاته، سيتسلح ليوطي ببراغماتية جلية: الاعتماد
على كبار القواد في بعض المناطق وعلى النخب البورجوازية في مناطق أخرى،
مع عدم إغفال تهييء شروط المصالحة مع الهيبة.
يعتقد ليوطي إذن أن تهدئة المغرب ليست مرتبطة بحجم الجنود والعتاد العسكري،
بل إنها مشروطة بالعمل السياسي والتجهيزات التحتية. ووفق هذا المنحى،
فمولاي يوسف يجسد «أكبر نجاح» لليوطي، إذ لن تلتصق به صورة «الدمية» أو
«صنيعة النصارى». يقول ليوطي في هذا الصدد: "اعتنيت بتركه بعيدا عن
الأوربيين، عن السيارات وحفلات العشاءحيث يتم احتساء الشامبانيا. أحطته
بشيوخ مغاربة محافظين على الطقوس. أما البقية، فتكفل بها طبعه كمسلم ورع
وكرجل أمين. لقد أعاد إحياء الطقوس العتيقة لصلاة الجمعة والاحتفاء بأعياد
الفطر بأبهة واحترام للتقاليد افتقدت منذ مولاي الحسن(...) مما جعله يحظى
بصورة سلطان حقيقي".
كيف تنازل مولاي حفيظ عن العرش
بعد تسلمه لمهامه كمقيم عام لفرنسا، دأب ليوطي على استقبال أعيان فاس
يوميا، وجعل من الفرنسيين المقيمين بها منذ مدة وسطاء بينه وبينهم، مثلما
أعفى المدينة من أداء ضريبة الحرب المفروضة عليها من قبل موانيي. ورغم ذلك،
بقي الاضطراب سيد الموقف طوال أيام، ولم تنقشع غيومه إلا في بداية شهر
يونيو 1912 ، مع وفود طابور غورو الذي فرَّق القوات المحاصرة للعاصمة
بمساعدة فيالق المدفعية.
لم يخلُ هذا الحدث، هو الآخر، من إخراج مسرحي مضبوط: مساء 2 يونيو، يلج
غورو ورجاله العاصمة منتصرين، ويقومون باستعراض عسكري أمام السلطان
والمقيم العام. وقد كانت الرسالة واضحة: استمرار حضور السلطان وعدم تلاشي
السلطة.
ومع ذلك، فالوضع مايزال يتسم بالهشاشة، إذ تعوز الإمكانيات ليوطي لبسط
نفوذه على باقي المناطق رغم سيطرته على فاس، ومنها المناطق الأقرب إلى
العاصمة. ولكسب رهانه هذا، يعرف الجنرال أن غورو يوفر له ورقة عسكرية
رابحة، خاصة وقد سبق له تحقيق انتصارات مبهرة في النيجر وموريتانيا.
ويتمتع الرجل هذا بالشجاعة والبساطة، وبوفاء نموذجي، مما جعله يصبح أحد
المقربين من المقيم العام. وبمناسبة أول إحياء للعيد الوطني الفرنسي
بالمغرب في ظل الحماية (14 يوليوز 1912)، سيطلب منه ليوطي المشاركة في
الاستعراض المنظم في العاصمة: «استحضر أهمية هذا العيد الوطني الأول
للحماية بفاس، الوقع الذي سيخلفه في فرنسا وفي هذا البلد، الطابع السياسي
الذي سيضفيه عليه حضور الفيالق التسعة المكونة لطابورك المنتصر، غنائمك و
الزعماء المحليين المرافقين لك، واستحضر كذلك إشعاع وحمولة هذا الحضور لدى
المخزن والشعب والأجانب».
في نهاية يوليوز 1912، سيراسل ليوطي أحد أصدقائه السياسيين، مؤكدا أن
التهدئة النهائية للمغرب مهمة تستلزم نفسا طويلا، أنه لن يجعل منها شرطا
مسبقا وأنه سيباشر الفعل بدون انتظار إقرارها عبر إعادة بناء الدولة
المغربية، وحسبه دائما، فأول إشكالية يجب حلها إشكالية سياسية تتعلق بمصير
مولاي حفيظ.
يعتقد ليوطي أنه لا يمكن منح السلطان، رغم فقدانه للحظوة، ثقة عمياء من
طرف سلطات الحماية، بل إنه يشكل خطرا محتملا عليها نظرا لاستمرار صلاته مع
القبائل المنتفضة من جهة، ونظرا، من جهة ثانية، لسلطته الدينية التي تشرعن
إعلانه للجهاد في أي وقت. ومن وجهة نظر الجنرال، فمولاي حفيظ لن يقبل
التعاون بالشكل المطلوب معه كمقيم عام، ومن ثمة فمن اللازم تحييده أولا
قبل تغييره.
رغم حدسه بأن مبادرة خلع السلطان الشرعي محفوفة بالمخاطر مما دفعه إلى
تأجيل الإقدام عليها عدة شهور، سيقنع ليوطي وزارة خارجية فرنسا بالأمر
ويباشر مفاوضات «عسيرة» مع مولاي حفيظ قصد إقناعه بالتنازل عن العرش.
يوم 12 غشت 1912، سيسدل الستار على مسلسل «المساومات المؤثت بنوبات غضب
السلطان وبمواقف تجمع بين المأساة والمهزلة»، ويوقع مولاي حفيظ الوثيقة
المطلوبة، حاصلا على «شيك مهم ومعاش محترم مع آفاق إقامة رغيدة في فرنسا».
لكن، وقبل السفر إلى الديار الفرنسية، سيقوم السلطان بإتلاف الرموز المقدسة
للعائلة العلوية الحاكمة، مؤكدا بذلك أن تخليه عن العرش فرض عليه تحت
الإكراه.
لاحقا، في شتنبر 1912، ورغم استعادة الفرنسيين لمراكش من أيدي المنتفضين
بقيادة الهيبة، فإن ليوطي سيسجل أنه في حضرة مغربين اثنين: «واحد نحتله،
لكنه منعدم الطاقة الحربية وذو مخزن بلا قوة ولاهيبة، ومغرب ثان أهم بكثير
يضم الجماهير الأمازيغية، مرتج الأعماق، متزمت، زاخر بالموارد الحربية،
مغرب يمكنه الوقوف برمته وقفة رجل واحد ضدنا بفعل تأثيرات لا نستطيع
التحكم فيها».
أيامها، كان ليوطي يؤمن إيمان العجائز أن العمليات العسكرية ليست كافية
بمفردها لبلوغ الهدف، بل أنه من الواجب تنظيم الدولة المغربية وفق نموذج
مختلف جذريا عن نماذج «الحماية» و«الاستعمار» في البلدان الأخرى، وخاصة دول
الجوار. في هذا الصدد، سيقول المقيم العام لمجموعة من رجال الأعمال من
مدينة ليون: «تذكروا أن المغرب يتوفر، إلى حدود الآن (1914)، على شخصيات
كانت، قبل ست سنوات فقط، سفيرة لبلدها المستقل لدى بيترسبورغ، لندن،
برلين، مدريد أو باريس، يرافقها في مهامها كتاب ومستشارون، شخصيات ذات
ثقافة واسعة تباحثت على قدم المساواة مع رجال الدولة الأوربيين، ولديها
إلمام بالقضايا السياسية ونزوع إليها. إنه واقع لا مثيل له لا في الجزائر
ولا في في تونس».
كيف السبيل إذن إلى إقناع النخب المغربية بأن فرنسا لا تهدف إلى تدبير شوؤن
بلادهم و فق «النموذج الجزائري»؟ إنه السؤال الذي ظل يؤرق ليوطي طوال
الثلاث عشرة سنة التي قضاها في المغرب، ساعيا إلى إقناع هذه النخب بأن
مشروعه مختلف تماما عن النموذج الجزائري، وبأن المشروع ذاك ليس مشروعه
بمفرده، بل مشروع فرنسا وحكومتها.
مولاي يوسف (32 سنة) هو من سيتحمل مسؤولية خلافة أخيه مولاي حفيظ الصعبة،
و«سيرعاه ليوطي بأبوة، مجهدا نفسه على إخفاء هذه الأبوية».
في شهر أكتوبر 1912، سيشرع المقيم العام في إعمال خطة عمله الرامية إلى
إعادة بسط السلطة الشريفة على المناطق الخاضعة للسيطرة الفرنسية، وخاصة في
جهة مراكش، عبر إعداد زيارة السلطان الجديد إلى مدينة النخيل.
خارطة طريق الإقامة العامة تتضمن أيضا ضمان النظام والأمن، تعبيد الطريق
للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتوفير العدالة والمساواة «تحت يافطة
السلطة التقليدية»، وذلك بواسطة تأسيس شرطة محلية وإنشاء بنيات تعليمية
وصحية. وفي إطار هذا المشروع ذاته، سيتسلح ليوطي ببراغماتية جلية: الاعتماد
على كبار القواد في بعض المناطق وعلى النخب البورجوازية في مناطق أخرى،
مع عدم إغفال تهييء شروط المصالحة مع الهيبة.
يعتقد ليوطي إذن أن تهدئة المغرب ليست مرتبطة بحجم الجنود والعتاد العسكري،
بل إنها مشروطة بالعمل السياسي والتجهيزات التحتية. ووفق هذا المنحى،
فمولاي يوسف يجسد «أكبر نجاح» لليوطي، إذ لن تلتصق به صورة «الدمية» أو
«صنيعة النصارى». يقول ليوطي في هذا الصدد: "اعتنيت بتركه بعيدا عن
الأوربيين، عن السيارات وحفلات العشاءحيث يتم احتساء الشامبانيا. أحطته
بشيوخ مغاربة محافظين على الطقوس. أما البقية، فتكفل بها طبعه كمسلم ورع
وكرجل أمين. لقد أعاد إحياء الطقوس العتيقة لصلاة الجمعة والاحتفاء بأعياد
الفطر بأبهة واحترام للتقاليد افتقدت منذ مولاي الحسن(...) مما جعله يحظى
بصورة سلطان حقيقي".
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: ليوطي المغربي
-3-
المخزن
يستعيد هيبته وليوطي يرفض سياسة التفرقة
سهر ليوطي على
أن تطبع الأبهة ومظاهر الجلالة رحلة السلطان مولاي يوسف من فاس إلى الرباط،
مع الحرص على غياب القوات الفرنسية شبه التام من الموكب الملكي، مثلما
نجحت الزيارة السلطانية لمراكش وحققت الأهداف التي رسمها لها المقيم العام.
ورغم شعور هذا الأخير بالحاجة إلى مزيد من الوقت للسيطرة تماما على
الأوضاع، فصورة السلطان ترممت إلى حد كبير، ولذا سيقول له، بمناسبة زيارة
رسمية عقبت عودة مولاي يوسف من مراكش إلى الرباط (20 أكتوبر 1912): «يمكنك،
صاحب الجلالة، أن تتأكد من عزم حكومة الجمهورية على مساعدتك، بناء على
الاتفاقيات السابقة، في تهدئة إمبراطوريتك وتنمية خيراتها وتقدم مؤسساتها،
وذلك في إطار الاحترام التام لتقاليدها ودينها».
لقد حافظ ليوطي على المظاهر والشكليات، وهي ذات وقع كبير. هكذا، كان يوافق
على ظهائر السلطان ويصدرها بوصفه مقيما عاما «مؤتمنا على ظهائر السلطان
ويصدرها بوصفه مقيما عاما، مؤتمنا على جميع سلطات الجمهورية في المغرب».
ومن جهتهم، ظل كبار القواد، الوافدين من المناطق الجبلية والساحلية، يزورون
ليوطي لحضور حفلاته التي لا تخلو من أبهة. وإذا كان بعض تلك الحفلات ينظم
من مقر إقامته، فبعضها الآخر كانت تحتضنه مقرات إقاماتهم هم بمدينة مراكش،
وهي «قصور حقيقية» تتوفر على «ديكورات بابلية» تنتشر وسطها "قطع الأثاث
الأوربية، الأواني الفضية الفاخرة وموائد الأكل المقدم على الطريقة
الفرنسية».
دأب المقيم العام على التنقل في البلاد وسط الصخب والأبواق العسكرية،
مرفوقا بضباطه وفرسانه، علما أن هذه الاستعراضات للقوة والهيبة تضفي أيضا
المصداقية على حساباته السياسية المحضة، مثلما تُعتبر سعادته بها أحد مصادر
قوته التي اكتسبها من تجاربه الكولوينالية السابقة (الجزائر، الهند
الصينية ومدغشقر). إن ليوطي عاشق لـ «صفوف الفوانيس» والهدايا الطقوسية
(الخيول المسرجة، «المكاحل» المرصعة والخناجر المنحوتة)، وهي كلها، في
تقديره، مظاهر للاحترام المتبادل. في إحدى رسائله، يصف ليوطي المظاهر التي
استقبل بها بمناسبة حلوله بمراكش ذات «صباح مشع»: «الحشود العربية، بذخ
الفرسان، الرايات العملاقة المبسوطة، المواكب المتعاقبة، أبواق قواتنا
الفرحة، رائحة النصر والحبور، الخلفية المكونة من الأطلس الكبير المكسو
بالثلوج، مخيم الطابور الظافر في حدائق السلطان الكبرى، استقبال الضباط في
قصر غارق في الخضرة، استحضار جيش مصر، إقامتي في جناح نزهة صغير تحيط به
أشجار الليمون والرمان والزيتون والسرو، قاعة استقبالاتي بعلوها البالغ
عشرة أمتار وجدرانها المزينة بالفسيفساء، مخيم حاشيتي المنتشر وسط حدائق
تشبه حدائق شهرزاد، حكايات المعارك، الفرسان وهم يقدمون لي سيوفهم المدمية
والملوية...».
هذا، وليس صدفة أن يشير ليوطي إلى إقطاعيي القرن الرابع عشر في سياق حديثه
عن كبار القواد المغاربة، فهو يعتبر نفسه بمثابة سيد فيودالي، بمثابة رجل
من صنف «قادة المرتزقة القدامى في إيطاليا» في رحم القرون الوسطى الإسلامية
هذه، هنا في هذا البلد حيث يحضر الماضي في كل حركة من حركات الحياة.
في نهاية شهر شتنبر 1912 ستزوره أخته لتجده متعبا ومتحمسا في ذات الآن بسبب
جسامة المهمة الملقاة على عاتقه. إنه مشرف على سنته الستين، كما أنه لم
يتمتع أبدا ببنية جسدية قوية ومنهك جراء إقاماته السابقة في المستعرات
الفرنسية. ومع ذلك، فهو «حيوان في مجال العمل» وفق تعريفه لنفسه، يغترف
طاقته من جسامة المهمة الموكولة إليه.
وضع ليوطي، في تلك المرحلة، نصب عينيه ضرورة إعادة بناء المخزن، معتبرا
الأمر مستعجلا. عليه إذن، ضمن أولويات خارطة طريقة، أن يعمل على استرجاع
الإدارة المغربية لقوتها ومصداقيتها، مع الحرص على السيطرة عليها وفق
نموذج التدبير الكولونيالي البريطاني. لقد بلغت سلطة المخزن اوجها، إذا صح
التعبير، إبان عهد الحسن الأول، قبل اندحارها سريعا خلال حكم المولى عبد
العزيز وتبخرها تماما بسبب الحضور الجلي لشخصيات أجنبية إلى جانبها. وتجدر
الإشارة إلى أن الإدارة المغربية لم تستطع أبدا الرقي إلى درجة تطور
مثيلاتها في تونس ومصر.
ومن جهة أخرى، فنصف البلاد هو الذي ظل خاضعا تقليديا لسلطة السلطان، الجزء
الأكثر تمدنا، أي «بلاد المخزن» الشاملة للسهول الأطلسية والشرقية، حيث
تتجسد هذه السلطة عمليا في استخلاص الضرائب وتجنيد المحاربين. وفي المقابل،
فـ«بلاد السيبة»، أي المناطق الجبلية التي يزعم البعض أنها«بؤر للانشقاق»
بسبب أسلمتها السطحية والانقسامات بين القبائل، جهات تحتضن «التمرد» أو
«التدفق الحر للأحداث» وفق التوصيف الشعري لجاك بيرك. أما ليوطي، فيوظف
وصفا أقل بلاغة إذ يطلق على «بلاد السيبة» نعت «بلاد الفوضى». وفي الواقع،
فالفرق ليس واضحا بهذا الشكل الحاسم بين أقاليم الإمبراطورية، كما لا يمكن
الإقرار بوجود تناقض جوهري بين المناطق المعربة في السهول والمناطق
الجبلية الأمازيغية المنفلتة من سيطرة المخزن.
لقد دفعت المقاربة السطحية لواقع «بلاد المخزن» و«بلاد السيبة» ضباط شؤون
الأهالي الفرنسيين إلى الاعتقاد، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بأن
«السيطرة» على المغرب وتأبيد «انقساماته» يستلزمان الفصل التام بين مكونات
مجتمعه العربية المسلمة المدينية وبين مكونه الفيودالي. أما ليوطي
فقدرفض، نظرا لتجربته في جنوب وهران بالجزائر، بناء سياسته المغربية على
أساس هذه الصورة النمطية، إذ كان يعلم علم اليقين أن عدم استقرار مواقف
القبائل مشروط باعتبارات أكثر تعقيدا، اعتبارات عصية على الاستيعاب بدقة،
مما جعله لا يراهن على كون إسلام القبائل الأمازيغية في المغرب (والمنتمية
لمنطقة القبائل بالجزائر) أقل انغراسا في تربتها المجتمعية، مثلما آمن بأن
التلاعب بسلطة السلطان رهان خير، ولذا فقد اعتبر أن ورقته الرابحة تتمثل
في وحدة المملكة الشريفة. ولهذا السبب، ظل ليوطي مناهضا باستمرار لكل سياسة
ترمي إلى إبراز النزعة الأمازيغية. وبالمقابل، فإنه كان واعيا بخصوصية
الحضارة الأمازيغية، باسم البراغماتية دائما، وهو ما جلعه يقلص سلطة
المخزن المباشرة على القبائل التواقة أكثر إلى الاستقلال عنه.
بنفس الروح، سيجري ليوطي تعديلا شاملا في صفوف المخزن، ويقوم، تدريجيا،
بتنحية الصدر الأعظم المقري والمقربين منه، علما أنهم كانوا موسومين جميعا
بالارتشاء، لصالح سي محمد الكَباص، أحد أبرز أعيان فاس والذي راكم تجربة
إدارية حقيقية.
ولبلوغ مبتغاه هذا، لن يتصرف المقيم العام بفظاظة بسبب حرصه على هيبة
السلطان المسترجعة، بل سيمارس مقاربة التعديلات الجزئية المتتالية. ويجسد
هذا السبيل الذي سلكه ليوطي مؤشرا على حنكة الجنرال السياسية، كما أنه، بدل
إقبار المخزن في شكله التقليدي بطريقة تفاخرية، سيقوم بإحداث مديريات
جديدة ويكلفها بنفس مهام الأجهزة التقليدية. هكذا، وبعد مرور خمسة عشر شهرا
أصبحت هذه المديريات هي السيرة والمدبرة الفعلية لشؤون البلاد مكان
الإدارة المخزنية العتيقة.
لقد تغير المخزن إذن على يد ليوطي، لكن دون تغيير المظاهر، وهو الأمر الذي
نال رضى السلطان الحريص قبل كل شيء على الحفاظ على إطار ممارسة السلطة
الشريفة واستمراره.
المخزن
يستعيد هيبته وليوطي يرفض سياسة التفرقة
سهر ليوطي على
أن تطبع الأبهة ومظاهر الجلالة رحلة السلطان مولاي يوسف من فاس إلى الرباط،
مع الحرص على غياب القوات الفرنسية شبه التام من الموكب الملكي، مثلما
نجحت الزيارة السلطانية لمراكش وحققت الأهداف التي رسمها لها المقيم العام.
ورغم شعور هذا الأخير بالحاجة إلى مزيد من الوقت للسيطرة تماما على
الأوضاع، فصورة السلطان ترممت إلى حد كبير، ولذا سيقول له، بمناسبة زيارة
رسمية عقبت عودة مولاي يوسف من مراكش إلى الرباط (20 أكتوبر 1912): «يمكنك،
صاحب الجلالة، أن تتأكد من عزم حكومة الجمهورية على مساعدتك، بناء على
الاتفاقيات السابقة، في تهدئة إمبراطوريتك وتنمية خيراتها وتقدم مؤسساتها،
وذلك في إطار الاحترام التام لتقاليدها ودينها».
لقد حافظ ليوطي على المظاهر والشكليات، وهي ذات وقع كبير. هكذا، كان يوافق
على ظهائر السلطان ويصدرها بوصفه مقيما عاما «مؤتمنا على ظهائر السلطان
ويصدرها بوصفه مقيما عاما، مؤتمنا على جميع سلطات الجمهورية في المغرب».
ومن جهتهم، ظل كبار القواد، الوافدين من المناطق الجبلية والساحلية، يزورون
ليوطي لحضور حفلاته التي لا تخلو من أبهة. وإذا كان بعض تلك الحفلات ينظم
من مقر إقامته، فبعضها الآخر كانت تحتضنه مقرات إقاماتهم هم بمدينة مراكش،
وهي «قصور حقيقية» تتوفر على «ديكورات بابلية» تنتشر وسطها "قطع الأثاث
الأوربية، الأواني الفضية الفاخرة وموائد الأكل المقدم على الطريقة
الفرنسية».
دأب المقيم العام على التنقل في البلاد وسط الصخب والأبواق العسكرية،
مرفوقا بضباطه وفرسانه، علما أن هذه الاستعراضات للقوة والهيبة تضفي أيضا
المصداقية على حساباته السياسية المحضة، مثلما تُعتبر سعادته بها أحد مصادر
قوته التي اكتسبها من تجاربه الكولوينالية السابقة (الجزائر، الهند
الصينية ومدغشقر). إن ليوطي عاشق لـ «صفوف الفوانيس» والهدايا الطقوسية
(الخيول المسرجة، «المكاحل» المرصعة والخناجر المنحوتة)، وهي كلها، في
تقديره، مظاهر للاحترام المتبادل. في إحدى رسائله، يصف ليوطي المظاهر التي
استقبل بها بمناسبة حلوله بمراكش ذات «صباح مشع»: «الحشود العربية، بذخ
الفرسان، الرايات العملاقة المبسوطة، المواكب المتعاقبة، أبواق قواتنا
الفرحة، رائحة النصر والحبور، الخلفية المكونة من الأطلس الكبير المكسو
بالثلوج، مخيم الطابور الظافر في حدائق السلطان الكبرى، استقبال الضباط في
قصر غارق في الخضرة، استحضار جيش مصر، إقامتي في جناح نزهة صغير تحيط به
أشجار الليمون والرمان والزيتون والسرو، قاعة استقبالاتي بعلوها البالغ
عشرة أمتار وجدرانها المزينة بالفسيفساء، مخيم حاشيتي المنتشر وسط حدائق
تشبه حدائق شهرزاد، حكايات المعارك، الفرسان وهم يقدمون لي سيوفهم المدمية
والملوية...».
هذا، وليس صدفة أن يشير ليوطي إلى إقطاعيي القرن الرابع عشر في سياق حديثه
عن كبار القواد المغاربة، فهو يعتبر نفسه بمثابة سيد فيودالي، بمثابة رجل
من صنف «قادة المرتزقة القدامى في إيطاليا» في رحم القرون الوسطى الإسلامية
هذه، هنا في هذا البلد حيث يحضر الماضي في كل حركة من حركات الحياة.
في نهاية شهر شتنبر 1912 ستزوره أخته لتجده متعبا ومتحمسا في ذات الآن بسبب
جسامة المهمة الملقاة على عاتقه. إنه مشرف على سنته الستين، كما أنه لم
يتمتع أبدا ببنية جسدية قوية ومنهك جراء إقاماته السابقة في المستعرات
الفرنسية. ومع ذلك، فهو «حيوان في مجال العمل» وفق تعريفه لنفسه، يغترف
طاقته من جسامة المهمة الموكولة إليه.
وضع ليوطي، في تلك المرحلة، نصب عينيه ضرورة إعادة بناء المخزن، معتبرا
الأمر مستعجلا. عليه إذن، ضمن أولويات خارطة طريقة، أن يعمل على استرجاع
الإدارة المغربية لقوتها ومصداقيتها، مع الحرص على السيطرة عليها وفق
نموذج التدبير الكولونيالي البريطاني. لقد بلغت سلطة المخزن اوجها، إذا صح
التعبير، إبان عهد الحسن الأول، قبل اندحارها سريعا خلال حكم المولى عبد
العزيز وتبخرها تماما بسبب الحضور الجلي لشخصيات أجنبية إلى جانبها. وتجدر
الإشارة إلى أن الإدارة المغربية لم تستطع أبدا الرقي إلى درجة تطور
مثيلاتها في تونس ومصر.
ومن جهة أخرى، فنصف البلاد هو الذي ظل خاضعا تقليديا لسلطة السلطان، الجزء
الأكثر تمدنا، أي «بلاد المخزن» الشاملة للسهول الأطلسية والشرقية، حيث
تتجسد هذه السلطة عمليا في استخلاص الضرائب وتجنيد المحاربين. وفي المقابل،
فـ«بلاد السيبة»، أي المناطق الجبلية التي يزعم البعض أنها«بؤر للانشقاق»
بسبب أسلمتها السطحية والانقسامات بين القبائل، جهات تحتضن «التمرد» أو
«التدفق الحر للأحداث» وفق التوصيف الشعري لجاك بيرك. أما ليوطي، فيوظف
وصفا أقل بلاغة إذ يطلق على «بلاد السيبة» نعت «بلاد الفوضى». وفي الواقع،
فالفرق ليس واضحا بهذا الشكل الحاسم بين أقاليم الإمبراطورية، كما لا يمكن
الإقرار بوجود تناقض جوهري بين المناطق المعربة في السهول والمناطق
الجبلية الأمازيغية المنفلتة من سيطرة المخزن.
لقد دفعت المقاربة السطحية لواقع «بلاد المخزن» و«بلاد السيبة» ضباط شؤون
الأهالي الفرنسيين إلى الاعتقاد، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بأن
«السيطرة» على المغرب وتأبيد «انقساماته» يستلزمان الفصل التام بين مكونات
مجتمعه العربية المسلمة المدينية وبين مكونه الفيودالي. أما ليوطي
فقدرفض، نظرا لتجربته في جنوب وهران بالجزائر، بناء سياسته المغربية على
أساس هذه الصورة النمطية، إذ كان يعلم علم اليقين أن عدم استقرار مواقف
القبائل مشروط باعتبارات أكثر تعقيدا، اعتبارات عصية على الاستيعاب بدقة،
مما جعله لا يراهن على كون إسلام القبائل الأمازيغية في المغرب (والمنتمية
لمنطقة القبائل بالجزائر) أقل انغراسا في تربتها المجتمعية، مثلما آمن بأن
التلاعب بسلطة السلطان رهان خير، ولذا فقد اعتبر أن ورقته الرابحة تتمثل
في وحدة المملكة الشريفة. ولهذا السبب، ظل ليوطي مناهضا باستمرار لكل سياسة
ترمي إلى إبراز النزعة الأمازيغية. وبالمقابل، فإنه كان واعيا بخصوصية
الحضارة الأمازيغية، باسم البراغماتية دائما، وهو ما جلعه يقلص سلطة
المخزن المباشرة على القبائل التواقة أكثر إلى الاستقلال عنه.
بنفس الروح، سيجري ليوطي تعديلا شاملا في صفوف المخزن، ويقوم، تدريجيا،
بتنحية الصدر الأعظم المقري والمقربين منه، علما أنهم كانوا موسومين جميعا
بالارتشاء، لصالح سي محمد الكَباص، أحد أبرز أعيان فاس والذي راكم تجربة
إدارية حقيقية.
ولبلوغ مبتغاه هذا، لن يتصرف المقيم العام بفظاظة بسبب حرصه على هيبة
السلطان المسترجعة، بل سيمارس مقاربة التعديلات الجزئية المتتالية. ويجسد
هذا السبيل الذي سلكه ليوطي مؤشرا على حنكة الجنرال السياسية، كما أنه، بدل
إقبار المخزن في شكله التقليدي بطريقة تفاخرية، سيقوم بإحداث مديريات
جديدة ويكلفها بنفس مهام الأجهزة التقليدية. هكذا، وبعد مرور خمسة عشر شهرا
أصبحت هذه المديريات هي السيرة والمدبرة الفعلية لشؤون البلاد مكان
الإدارة المخزنية العتيقة.
لقد تغير المخزن إذن على يد ليوطي، لكن دون تغيير المظاهر، وهو الأمر الذي
نال رضى السلطان الحريص قبل كل شيء على الحفاظ على إطار ممارسة السلطة
الشريفة واستمراره.
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: ليوطي المغربي
-4-
ليوطي يدافع
عن تعدد الزوجات ويرفض مماثلة المغرب بالجزائر
حسب العديد من المؤرخين الذين أعادوا قراءة تجربة ليوطي على رأس الإقامة
العامة بالمغرب، فسياسته الموسومة بـ «سياسة الأهالي» المزعومة لم تكن في
العمق، سوى قناع لاستعمار كلاسيكي، استعمار مؤسس على الإدارة المباشرة
وإيلاء الأهمية القصوى للمصالح الفرنسية.
إن الجنرال لا يقبل بديلا عن حكم المغرب فعليا،ليس عبر الاختفاء خلف مبرر
سلطة شريفة وهمية، بل عن طريق التوظيف الكامل لمبدأ الوحدة الذي يجسده
السلطان سياسيا ودينيا.
نظام الحماية، وفق منظور ليوطي، مماثل للنظام الملكي البريطاني، حيث يجسد
العاهل الوحدة والتقاليد، بينما يدير الوزير الأول دواليب الحكم فعليا، مع
ضرورة وجود الاثنين، لكن ثمة فرق جوهري بين نمطي الحكم في انجلترا والمغرب،
ذلك أننا في حضرة وضع استعماري بالنسبة للمغرب، وأن المقيم العام ليس
مغربيا بخلاف الوزير الأول البريطاني، وهو اختلاف عميق كثيرا ما يتناساه
الجنرال!
ليس نظام الحماية، حسب ليوطي، مجرد معادلة نظرية انتقالية، بل «واقعا
متواصلا زمنيا»، وهي الفكرة التي يفصح عنها بدون لف ولا دوران حين يكتب في
تقرير حرره سنة 1914 بأن التوغل الاقتصادي والأخلاقي في أوساط شعب ما
لايمكن أن يتحقق عن طريق إخضاعه «لقوتنا ولا حتى لحرياتنا»، بل بواسطة
«شراكة وطيدة ندير شؤونه في إطارها بسلم عبر هيئاته الحكومية الذاتية ووفق
تقاليده و مفهومه الخاص للحريات».
هناك و ثيقة أساسية تميط اللثام أكثر على مقاربة ليوطي لنظام الحماية، وهو
التقرير الذي بعثه إلى وزير الخارجية الفرنسي في 15 يونيو 1915، لمناقشة
مقترح قانون كان يرمي إلى تيسير سبل منح الجنسية الفرنسية للجنود وقدماء
المحاربين في صفوف الجيش الفرنسي المنحدرين من الجزائر وتونس والمغرب. في
هذه المراسلة، يعتبر المقيم العام أن تطبيق إجراء من هذا القبيل في المملكة
الشريفة يمثل قرارا لا منطقيا بشكل مطلق، وأنه سيخلق فوضى عارمة. إنه فكرة
سيئة منبثقة من إرادة تنميط ما ليس قابلا للتنميط في شمال إفريقيا، ومن
جهل شامل لواقع الحماية وعقليات الأهالي.
ويضيف ليوطي في تقريره أن «منح الجنسية الفرنسية سيولد فئة من المنبوذين
داخل المجتمع المغربي، طبقة من العكسريين مقتلعة من جذورها ومحتقرة». ومن
جهة أخرى، أثار فصل مقترح القانون الذي يقصي المغاربة متعددي الزوجات من
الحصول على الجنسية الفرنسية، أثار حفيظة الجنرال مما جعله يؤكد بأن تعدد
الزوجات «يمثل إلى مدى بعيد عماد التنظيم العائلي في المغرب»، مضيفا «إعلان
كون الزواج الأحادي أسمى وكونه الطبيعي بمفرده والقانوني من وجهة النظر
الفرنسية، إعلان سيجسد تحديا للعادات والتقاليد الاجتماعية والدينية،
وإهانة حقيقية للسلطان أولا، وكذلك للنخبة برمتها ولعموم المغاربة».
وعلى مستوى آخر، فقد شعر ليوطي بالغضب جراء «المماثلة» التي قام بها
البرلمانيون، في إطار مقترح قانون «التجنيس»، بين المغرب والجزائر، ولذا
نجده يكتب بأن المغاربة يعتبرون هذه الأخيرة (الجزائر) أرضا مغلوبة ومسيطر
عليها. أضف إلى ذلك أن الجزائر لم تشكل أبدا دولة قائمة متوفرة على تنظيم
اجتماعي حقيقي، بينما المغرب مملكة حقيقية رغم معاناته مؤخرا من الانحطاط.
وفي سياق معارضته لهذه المماثلة البرلمانية بين المغرب والجزائر، يذهب
المقيم العام إلى حد أبعد عبر مقارنة الاستقبالات التي عرفها في وهران (
حيث كان الأعيان الجزائريون يهمشون ويعاملون بلامبالاة) بالاحترام الدائم
المباشَر إزاء أعضاء المخزن وكبار قواد مراكش في المغرب. وأكثر من هذا،
فمقترح «التجنيس» ينتهك، في رأيه، سلطات السلطان ويخرق مبدأ الحماية.
سيواصل ليوطي إذن جهوده الرامية إلى إحكام نفوذ سلطات الحماية على المغرب
عسكريا وإداريا. هكذا، سيطالب باريس بتوحيد القيادة العسكرية الفرنسية،
مغربيا، تحت رئاسته لتجاوز الازدواجية القائمة على أرض الواقع، حيث كانت
القيادة العسكرية العليا موكولة للمقيم العام، بينما قيادة جيش الاحتلال
بين يدي الجنرال فرانشي ديسبيري الذي خلف موانيي في هذا المنصب. أما
إداريا، فسيستقطب ليوطي الموظفين السامين من «مدرسة العلوم السياسية» التي
كانت تقوم، أيامها، بتكوين الأطر العليا قبل إنشاء «المدرسة الوطنية
للإدارة». أما في المغرب، فسينظم مباريات لتوظيف «مراقبين مدنيين» ليضطلعوا
بمهام «التأطير والتسيير» في دواليب إدارة الحماية.
سنة إذن بعد حلوله في المغرب، سيتوفر الجنرال على الآليات المؤسساتية
اللازمة لإعمال منظوره للحماية. سيظل المخزن التقليدي مكلفا، في إطار هذا
المعمار، بكل ما يمت للدين بصلة وبتدبير شؤون المجتمع المغربي، وذلك تحت
مراقبة الكتابة العامة للحكومة الشريفة المكلفة أيضا، وبشكل مباشر،
بالقضايا الإقتصادية والجبائية والعسكرية. ومن جهته، فالمقيم العام هو
المسؤول المباشر عن الحرب والديبلوماسية. وكانت كل النصوص المحضرة من قبل
الكتابة العامة والمتعلقة بشؤون الأهالي تستلزم التنسيق مع مصالح الصدر
الأعظم، مثلما تتطلب، قبل إقرارها النهائي، موافقة هذا الأخير والسلطان.
وتشكل هذه الآلية، حسب ليوطي «حقا فعليا للمراقبة»، حق ستتمتع به مناصفة
مؤسسة أخرى سيسهر المقيم العام على إنشائها وتطويرها: «مجلس الوزراء».
ليوطي يدافع
عن تعدد الزوجات ويرفض مماثلة المغرب بالجزائر
حسب العديد من المؤرخين الذين أعادوا قراءة تجربة ليوطي على رأس الإقامة
العامة بالمغرب، فسياسته الموسومة بـ «سياسة الأهالي» المزعومة لم تكن في
العمق، سوى قناع لاستعمار كلاسيكي، استعمار مؤسس على الإدارة المباشرة
وإيلاء الأهمية القصوى للمصالح الفرنسية.
إن الجنرال لا يقبل بديلا عن حكم المغرب فعليا،ليس عبر الاختفاء خلف مبرر
سلطة شريفة وهمية، بل عن طريق التوظيف الكامل لمبدأ الوحدة الذي يجسده
السلطان سياسيا ودينيا.
نظام الحماية، وفق منظور ليوطي، مماثل للنظام الملكي البريطاني، حيث يجسد
العاهل الوحدة والتقاليد، بينما يدير الوزير الأول دواليب الحكم فعليا، مع
ضرورة وجود الاثنين، لكن ثمة فرق جوهري بين نمطي الحكم في انجلترا والمغرب،
ذلك أننا في حضرة وضع استعماري بالنسبة للمغرب، وأن المقيم العام ليس
مغربيا بخلاف الوزير الأول البريطاني، وهو اختلاف عميق كثيرا ما يتناساه
الجنرال!
ليس نظام الحماية، حسب ليوطي، مجرد معادلة نظرية انتقالية، بل «واقعا
متواصلا زمنيا»، وهي الفكرة التي يفصح عنها بدون لف ولا دوران حين يكتب في
تقرير حرره سنة 1914 بأن التوغل الاقتصادي والأخلاقي في أوساط شعب ما
لايمكن أن يتحقق عن طريق إخضاعه «لقوتنا ولا حتى لحرياتنا»، بل بواسطة
«شراكة وطيدة ندير شؤونه في إطارها بسلم عبر هيئاته الحكومية الذاتية ووفق
تقاليده و مفهومه الخاص للحريات».
هناك و ثيقة أساسية تميط اللثام أكثر على مقاربة ليوطي لنظام الحماية، وهو
التقرير الذي بعثه إلى وزير الخارجية الفرنسي في 15 يونيو 1915، لمناقشة
مقترح قانون كان يرمي إلى تيسير سبل منح الجنسية الفرنسية للجنود وقدماء
المحاربين في صفوف الجيش الفرنسي المنحدرين من الجزائر وتونس والمغرب. في
هذه المراسلة، يعتبر المقيم العام أن تطبيق إجراء من هذا القبيل في المملكة
الشريفة يمثل قرارا لا منطقيا بشكل مطلق، وأنه سيخلق فوضى عارمة. إنه فكرة
سيئة منبثقة من إرادة تنميط ما ليس قابلا للتنميط في شمال إفريقيا، ومن
جهل شامل لواقع الحماية وعقليات الأهالي.
ويضيف ليوطي في تقريره أن «منح الجنسية الفرنسية سيولد فئة من المنبوذين
داخل المجتمع المغربي، طبقة من العكسريين مقتلعة من جذورها ومحتقرة». ومن
جهة أخرى، أثار فصل مقترح القانون الذي يقصي المغاربة متعددي الزوجات من
الحصول على الجنسية الفرنسية، أثار حفيظة الجنرال مما جعله يؤكد بأن تعدد
الزوجات «يمثل إلى مدى بعيد عماد التنظيم العائلي في المغرب»، مضيفا «إعلان
كون الزواج الأحادي أسمى وكونه الطبيعي بمفرده والقانوني من وجهة النظر
الفرنسية، إعلان سيجسد تحديا للعادات والتقاليد الاجتماعية والدينية،
وإهانة حقيقية للسلطان أولا، وكذلك للنخبة برمتها ولعموم المغاربة».
وعلى مستوى آخر، فقد شعر ليوطي بالغضب جراء «المماثلة» التي قام بها
البرلمانيون، في إطار مقترح قانون «التجنيس»، بين المغرب والجزائر، ولذا
نجده يكتب بأن المغاربة يعتبرون هذه الأخيرة (الجزائر) أرضا مغلوبة ومسيطر
عليها. أضف إلى ذلك أن الجزائر لم تشكل أبدا دولة قائمة متوفرة على تنظيم
اجتماعي حقيقي، بينما المغرب مملكة حقيقية رغم معاناته مؤخرا من الانحطاط.
وفي سياق معارضته لهذه المماثلة البرلمانية بين المغرب والجزائر، يذهب
المقيم العام إلى حد أبعد عبر مقارنة الاستقبالات التي عرفها في وهران (
حيث كان الأعيان الجزائريون يهمشون ويعاملون بلامبالاة) بالاحترام الدائم
المباشَر إزاء أعضاء المخزن وكبار قواد مراكش في المغرب. وأكثر من هذا،
فمقترح «التجنيس» ينتهك، في رأيه، سلطات السلطان ويخرق مبدأ الحماية.
سيواصل ليوطي إذن جهوده الرامية إلى إحكام نفوذ سلطات الحماية على المغرب
عسكريا وإداريا. هكذا، سيطالب باريس بتوحيد القيادة العسكرية الفرنسية،
مغربيا، تحت رئاسته لتجاوز الازدواجية القائمة على أرض الواقع، حيث كانت
القيادة العسكرية العليا موكولة للمقيم العام، بينما قيادة جيش الاحتلال
بين يدي الجنرال فرانشي ديسبيري الذي خلف موانيي في هذا المنصب. أما
إداريا، فسيستقطب ليوطي الموظفين السامين من «مدرسة العلوم السياسية» التي
كانت تقوم، أيامها، بتكوين الأطر العليا قبل إنشاء «المدرسة الوطنية
للإدارة». أما في المغرب، فسينظم مباريات لتوظيف «مراقبين مدنيين» ليضطلعوا
بمهام «التأطير والتسيير» في دواليب إدارة الحماية.
سنة إذن بعد حلوله في المغرب، سيتوفر الجنرال على الآليات المؤسساتية
اللازمة لإعمال منظوره للحماية. سيظل المخزن التقليدي مكلفا، في إطار هذا
المعمار، بكل ما يمت للدين بصلة وبتدبير شؤون المجتمع المغربي، وذلك تحت
مراقبة الكتابة العامة للحكومة الشريفة المكلفة أيضا، وبشكل مباشر،
بالقضايا الإقتصادية والجبائية والعسكرية. ومن جهته، فالمقيم العام هو
المسؤول المباشر عن الحرب والديبلوماسية. وكانت كل النصوص المحضرة من قبل
الكتابة العامة والمتعلقة بشؤون الأهالي تستلزم التنسيق مع مصالح الصدر
الأعظم، مثلما تتطلب، قبل إقرارها النهائي، موافقة هذا الأخير والسلطان.
وتشكل هذه الآلية، حسب ليوطي «حقا فعليا للمراقبة»، حق ستتمتع به مناصفة
مؤسسة أخرى سيسهر المقيم العام على إنشائها وتطويرها: «مجلس الوزراء».
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: ليوطي المغربي
-5-
انطلاق الأوراش الكبرى ورفض قرارات باريس
بعد اختياره الرباط مقرا للإقامة العامة، سيشرع ليوطي في تهيئة المدينة وفق
تصميم يفصل بين «المدينة العتيقة» و«المدينة الأوربية». شغفه
بالمعمارسيبلغ ذروته في الدار البيضاء التي كانت قد تطورت بشكل عشوائي
طيلة خمس عشرة سنة، ليشكل تشييد مينائها نقطة انطلاق ورش ضخم سيغير صورة
المدينة جذريا.
محليا، سيسعى المقيم العام «ليس إلى منح الأهالي سلطة وهمية، بل اختصاصات
فعلية في التدبير، وسلطة حقيقية قصد الحفاظ على تقاليدهم وحماية حرياتهم».
لذا، وعلى غرار ما أقدم عليه في فاس منذ بداية ولايته، سيشرع في إصلاح
التنظيم البلدي عبر إحداث «المجالس»، تلك الهيئات التي سيجد الأهالي نفسهم
داخلها «مع بعضهم البعض» وليس «مجرد ممثلين صامتين» وسط «هيمنة
الأوروبيين». وفي هذا السياق سيكتب: «إن الحل النموذجي الذي يجب السعي إلى
إقراره يتمثل في مجلسين اثنين مختلفين، واحد للأوروبيين وآخر للأهالي (...)
يضمن لنا هذا الحل بمفرده، الآن، تمثيلية حقيقية للأهالي واستقلالية تامة
لرأيهم».
سيولي ليوطي، كذلك، أهمية خاصة لإصلاح النظام التعليمي المحلي، مستحضرا
هدفا بسيطا وحاسما: تكوين فئة جديدة من الموظفين الإداريين المغاربة الذين
يتوفرون «على إلمام ومعرفة بقوانينهم وحضارتهم الذاتية» من جهة، ويكونون من
جهة ثانية وفي ذات الآن، منفتحين على القضايا العصرية وقادرين على تفهم
مصالحنا مثلما نتفهم مصالحهم». هكذا سيضع ليوطي العمود الفقري لتعليم ثانوي
إسلامي يشمل تدريس اللغة الفرنسية، تعليم يرتكز على المواد الأدبية وذو
غاية محددة: تكوين موظفين مغاربة مسلمين. وفي انتظار تحقق هذا الهدف، سيوظف
ليوطي «متدربين» من أبناء الأعيان في صفوف المخزن. وبقدر ما سيهتم
بالتعليم والصحة («المعلم والطبيب هما العمودان الأساسيان لسياسة الأهالي
التي نمارسها في المغرب» كما قال)، بقدر ما سيشرع في إنجاز الموانئ والطرق
وخطوط السكة الحديدية. ومنذ 1914 ، سيشكل إصلاح التنظيم القضائي أهم مصدر
فخر بالنسبة لليوطي، وهو إصلاح ابتغى المقيم العام من خلاله توفير كافة
الضمانات للأوروبيين في مجال القانون، لكن دون المساس بالتقاليد المغربية
الموغلة في القدم.
مع مطلع عام 1914 ، وبعد تهدئة المناطق «المحكومة» من قبله، سيقرر ليوطي
ربط هذه المناطق بالمغرب الشرقي عبر هجوم مكثف على تازة، وهو القرار الذي
ستقبله باريس أولا قبل أن تتراجع عن ذلك بمبرر بروز مؤشرات اندلاع الحرب في
أوروبا وقرب الانتخابات الفرنسية. لكن المقيم العام لن يأخذ موقف حكومته
بعين الاعتبار، فيقرر بداية العمليات العسكرية التي ستؤدي إلى سقوط تازة.
رغم اندلاع الحرب في غشت 1914، فليوطي يشعر بالاطمئنان إزاء الأوضاع
مغربيا، وكيف لا والجبهة الداخلية هادئة حربيا، كما أن أوراش الإصلاح
الكبرى انطلقت؟ ومع ذلك، فقد انتابه قلق كبير بفعل سؤال عريض: ما مآل
المغرب؟ هل ستترك له حكومة باريس الإمكانيات الكافية «للصمود» إلى حين
نهاية المواجهات في أوروبا؟ ومصيره شخصيا، هل ستستدعيه فرنسا لقيادة أحد
جيوشها أم تراه سيكلف بمهمة أسمى؟
بعد إعلان التعبئة العامة فرنسيا في 4 غشت، لن يجد ليوطي حلا بديلا عن
إرسال جزء من قوات الحماية إلى أوروبا (فرقتان عسكريتان، 37 كتيبة مشاة،
لواء خيالة، ست سريات مدفعية، ثلاث فرق هندسية وفريقان متخصصان في
التلغراف). هكذا، وشهرا بعد اندلاع الحرب، لن يتوفر ليوطي لضبط المغرب سوى
على 23 كتيبة مشاة وسريات خيالة ومدفعية معدودة على رؤوس الأصابع. ورغم
ذلك، فقد نجح المقيم العام في الحفاظ على «شمولية الحماية» بفعل عدم
انضباطه لقرار حكومته القاضي بتراجع قواته المتبقية إلى المناطق الساحلية
والاكتفاء بمراقبة الطرق الكبرى مع إخلاء باقي الجهات الداخلية. لقد كان
رده واضحا وحاسما: سأحافظ على المغرب، سأحافظ عليه بأدنى تكلفة عبر اللجوء
إلى إعمال القوة والعمل السياسي في نفس الوقت!
4/2/2010
انطلاق الأوراش الكبرى ورفض قرارات باريس
بعد اختياره الرباط مقرا للإقامة العامة، سيشرع ليوطي في تهيئة المدينة وفق
تصميم يفصل بين «المدينة العتيقة» و«المدينة الأوربية». شغفه
بالمعمارسيبلغ ذروته في الدار البيضاء التي كانت قد تطورت بشكل عشوائي
طيلة خمس عشرة سنة، ليشكل تشييد مينائها نقطة انطلاق ورش ضخم سيغير صورة
المدينة جذريا.
محليا، سيسعى المقيم العام «ليس إلى منح الأهالي سلطة وهمية، بل اختصاصات
فعلية في التدبير، وسلطة حقيقية قصد الحفاظ على تقاليدهم وحماية حرياتهم».
لذا، وعلى غرار ما أقدم عليه في فاس منذ بداية ولايته، سيشرع في إصلاح
التنظيم البلدي عبر إحداث «المجالس»، تلك الهيئات التي سيجد الأهالي نفسهم
داخلها «مع بعضهم البعض» وليس «مجرد ممثلين صامتين» وسط «هيمنة
الأوروبيين». وفي هذا السياق سيكتب: «إن الحل النموذجي الذي يجب السعي إلى
إقراره يتمثل في مجلسين اثنين مختلفين، واحد للأوروبيين وآخر للأهالي (...)
يضمن لنا هذا الحل بمفرده، الآن، تمثيلية حقيقية للأهالي واستقلالية تامة
لرأيهم».
سيولي ليوطي، كذلك، أهمية خاصة لإصلاح النظام التعليمي المحلي، مستحضرا
هدفا بسيطا وحاسما: تكوين فئة جديدة من الموظفين الإداريين المغاربة الذين
يتوفرون «على إلمام ومعرفة بقوانينهم وحضارتهم الذاتية» من جهة، ويكونون من
جهة ثانية وفي ذات الآن، منفتحين على القضايا العصرية وقادرين على تفهم
مصالحنا مثلما نتفهم مصالحهم». هكذا سيضع ليوطي العمود الفقري لتعليم ثانوي
إسلامي يشمل تدريس اللغة الفرنسية، تعليم يرتكز على المواد الأدبية وذو
غاية محددة: تكوين موظفين مغاربة مسلمين. وفي انتظار تحقق هذا الهدف، سيوظف
ليوطي «متدربين» من أبناء الأعيان في صفوف المخزن. وبقدر ما سيهتم
بالتعليم والصحة («المعلم والطبيب هما العمودان الأساسيان لسياسة الأهالي
التي نمارسها في المغرب» كما قال)، بقدر ما سيشرع في إنجاز الموانئ والطرق
وخطوط السكة الحديدية. ومنذ 1914 ، سيشكل إصلاح التنظيم القضائي أهم مصدر
فخر بالنسبة لليوطي، وهو إصلاح ابتغى المقيم العام من خلاله توفير كافة
الضمانات للأوروبيين في مجال القانون، لكن دون المساس بالتقاليد المغربية
الموغلة في القدم.
مع مطلع عام 1914 ، وبعد تهدئة المناطق «المحكومة» من قبله، سيقرر ليوطي
ربط هذه المناطق بالمغرب الشرقي عبر هجوم مكثف على تازة، وهو القرار الذي
ستقبله باريس أولا قبل أن تتراجع عن ذلك بمبرر بروز مؤشرات اندلاع الحرب في
أوروبا وقرب الانتخابات الفرنسية. لكن المقيم العام لن يأخذ موقف حكومته
بعين الاعتبار، فيقرر بداية العمليات العسكرية التي ستؤدي إلى سقوط تازة.
رغم اندلاع الحرب في غشت 1914، فليوطي يشعر بالاطمئنان إزاء الأوضاع
مغربيا، وكيف لا والجبهة الداخلية هادئة حربيا، كما أن أوراش الإصلاح
الكبرى انطلقت؟ ومع ذلك، فقد انتابه قلق كبير بفعل سؤال عريض: ما مآل
المغرب؟ هل ستترك له حكومة باريس الإمكانيات الكافية «للصمود» إلى حين
نهاية المواجهات في أوروبا؟ ومصيره شخصيا، هل ستستدعيه فرنسا لقيادة أحد
جيوشها أم تراه سيكلف بمهمة أسمى؟
بعد إعلان التعبئة العامة فرنسيا في 4 غشت، لن يجد ليوطي حلا بديلا عن
إرسال جزء من قوات الحماية إلى أوروبا (فرقتان عسكريتان، 37 كتيبة مشاة،
لواء خيالة، ست سريات مدفعية، ثلاث فرق هندسية وفريقان متخصصان في
التلغراف). هكذا، وشهرا بعد اندلاع الحرب، لن يتوفر ليوطي لضبط المغرب سوى
على 23 كتيبة مشاة وسريات خيالة ومدفعية معدودة على رؤوس الأصابع. ورغم
ذلك، فقد نجح المقيم العام في الحفاظ على «شمولية الحماية» بفعل عدم
انضباطه لقرار حكومته القاضي بتراجع قواته المتبقية إلى المناطق الساحلية
والاكتفاء بمراقبة الطرق الكبرى مع إخلاء باقي الجهات الداخلية. لقد كان
رده واضحا وحاسما: سأحافظ على المغرب، سأحافظ عليه بأدنى تكلفة عبر اللجوء
إلى إعمال القوة والعمل السياسي في نفس الوقت!
4/2/2010
عدل سابقا من قبل said في الجمعة 5 فبراير 2010 - 21:22 عدل 1 مرات
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: ليوطي المغربي
-6-
الإشادة بالشعب المغربي وسلطانه وتضحيات أبنائه في الحرب
الإشادة بالشعب المغربي وسلطانه وتضحيات أبنائه في الحرب
| ||||
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: ليوطي المغربي
-7-
الاستقالة من وزارة الحرب والاهتمام بالمغرب حصريا
الاستقالة من وزارة الحرب والاهتمام بالمغرب حصريا
«هل يمكنك قبول منصب وزير الحرب لما أُعيّن وزيرا أول، دون أن يؤثر الأمر على الأوضاع في المغرب. الجواب جد مستعجل»، هو ذا نص التلغراف الذي توصل به الجنرال ليوطي ليلة 11/10 دجنبر 1916 من طرف أريستيد بريان. وتعتبر إشارة البرقية إلى مصير المغرب استباقا للمبرر الذي سيرتكز عليه، بدون شك، المقيم العام لرفض العرض. وإثر تعيين غورو على رأس الإقامة العامة بالمغرب خلفا له، سيغضب ليوطي لأن القرار "تناسى" التأكيد على أن هذا التعيين "مؤقت"، ومع ذلك سيقبل منصب وزارة الحرب ليخدم بلاده في المعارك الدائرة في القارة العجوز. قبل مغادرة المغرب من ميناء فضالة بيومين، أي يوم 16 دجنبر، سيعقد آخر اجتماع له مع الضباط والموظفين المشكلين للعمود الفقري للحماية، ويكشف لهم أنه سيرحل "بقلب مهشم"، فهنا، على عكس التراب الفرنسي "أعرف ميداني، وأعلم علم اليقين ما الذي كنا بصدد إنجازه. لقد أحببتُ مهمتنا لأنني أعتقد فيها بكل قلبي وروحي، بكل إيماني". لن يمكث ليوطي طويلا في الحكومة، إذ سيستقيل من وزارة الحرب في مارس 1917، ليعود إلى معانقة الأراضي المغربية، حيث سيستقبل من قبل السلطان (2 يونيو) ليصرح أمامه: "ليس ثمة عربون ثقة، من طرف حكومة الجمهورية، أكبر حبا لي من تعييني مجددا في مسؤولية مقيم عام بالمغرب، وهو ما يشكل مصدر سعادتي". خلال السنوات التي أعقبت عودته إلى الرباط، سيحصل انقلاب في ممارسة ليوطي لمهامه، إذ لن يكتفي بمتابعة أوراشه السالفة بنفس الطاقة والتصميم، بل سيشرع في إنجاز أوراش أخرى مما سيضفي عليه صورة فعلية لـ "والي على النمط الروماني"، مثلما ستتدعم هيبته وسمعته. وكما كتب ذلك دانييل ريفي، فالجميع كان يقدر ويحترم الجنرال في فرنسا، لكن شرط أن "يمكث بعيدا"، كما لو أن الناس هناك "ينكرون جميل" رجل "يشيد الأجانب بأسلوب ومنهجية حكمه". أما بالنسبة للمغاربة، فقد "فرض نفسه وانغرس في مخيلتهم كشخصية استثنائية، شخصية من طينة خاصة تتموقع وسط المسافة الفاصلة بين المسلمين والمسيحيين، كرجل مختلف مثلما يؤكد ذلك لقبه: مارشال الإسلام. إنهم يحبونه، وبفعل هذا الحب فهم يفصلونه عن جذوره". ومع ذلك، فالواقع ليس ورديا بهذا الجلاء، إذ عاد "الوزير المستقيل" إلى المغرب بناء على رغبته وطلبه. وإذا كان قد رجع إلى بلاد يحبها بعمق ويتصرف في شؤونها بدون قيود، فإن المغرب صار "خشبة مسرح ضيقة" وفق اعترافه بنفسه. إنه يبتغي نسيان فرنسا وطي صفحة طموحه ومشاريعه بها: «المغرب وحده هو المهم. لدي هدف واحد انطلاقا من الآن: المغرب. ورش واحد: المغرب. وبعد ذلك، يمكن ليد المنون أن تختطفني». انتبه غيوم دو طارد بذكاء إلى الوضع الجديد الذي أصبح ليوطي أسيرا له في مغرب "لا يوفر أفقا أفسح من جغرافيته"، مغرب يشكل "مأزقا ظافرا" أزاح عن ليوطي تطلعاته الوطنية سياسيا، ويقوده نحو "متحف ليوطي الافريقي". إثر ذلك، يضيف الكاتب، ستنطلق "السنوات الثمان الرائعة التي ستوطد انتصاره مغربيا وتؤسس أسطورته كونيا"، سنوات ستعرف تشييد مرفأ الدار البيضاء الكبير، إعادة هيكلة الموانئ الثانوية، توسيع الشبكة الطرقية، إنجاز خطوط السكة الحديدية، ميلاد مدن جديدة إلى جانب المدن العتيقة... لكن، هل دفعت كل هذه الأوراش الضخمة "ليوطي الافريقي" إلى التخلي عن طموحاته السياسية فرنسيا؟ أبدا!! أجل لم يتغير الجنرال وظل مسكونا بالشك والقلق، وغير راض تماما عن مصيره. وبالإضافة إلى هذا، فثمة أنواع شتى من التكريم تنتظره، ومعها فرص للفعل على المستوى الوطني: الاستقبال المؤجل منذ 1912 في صفوف الأكاديمية الفرنسية، الحصول على نياشين مارشال، أسمى رتبة عسكرية، المناخ السياسي الجديد المنبثق عن انتخابات نونبر 1919 وحصول "الكتلة الوطنية" على الأغلبية، انتخاب ألكسندر ميلران في رئاسة الجمهورية... | ||
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: ليوطي المغربي
-8-
ليوطي يحذر المغاربة من مساندة ألمانيا، والأكاديمية الفرنسية تصفه بالعاهل!
ليوطي يحذر المغاربة من مساندة ألمانيا، والأكاديمية الفرنسية تصفه بالعاهل!
في غشت 1918، وبمناسبة العمليات الهجومية لجيوش التحالف التي ستقود إلى انتصارها في الحرب العالمية الأولى، سيوجه الجنرال ليوطي تصريحا للشعب المغربي، تصريح لن يشير ضمنه إطلاقا للسلطان، وهو عبارة عن إنذار شديد اللهجة لكل من من قد تسول له نفسه سلكو منحى الانتفاضة. بعد التنديد بالحملة الدعائية الألمانية والتركية في المغرب وفضح زعماء الانتفاضة المأجورين، حسبه، من طرف الأجانب، سيعلن المقيم العام في بيانه قرب انتصار قوات التحالف التي انضمت إليها الولايات المتحدة الأمريكية، منذرا: "سنمنح السلم والازدهار لكل الذين سيلتحقون بنا. سنضمن المغفرة والعفو لكل الذين سيعترفون بالأخطاء التي ارتكبوها سابقا. أما الذين سيصرون على موقفهم، فنعلن لهم بأنه لم يعد باستطاعتهم الاعتماد على ألمانيا التي صارت هزيمتها مؤكدة، اليوم، بشكل لا يرقى إليه الشك، وبأننا لن نعامل برحمة من سيستمر في الوقوف ضدنا. وسيجد هؤلاء أمامهم، غدا، فرنسا متحررة من كل الهواجس، أقوى مما كانت عليه في الماضي وعاقدة العزم على جعل النظام والعدالة يسودان المغرب تحت سلطة السلطان، في احترام تام للإسلام وللتقاليد. عليكم أن تختاروا خندقكم بسرعة!". يريد ليوطي، عن طريق هذه الرسالة، خلق رجة سيكولوجية قوية ستساعده على تهدئة المغرب بشكل نهائي، وعلى توطيد الدعائم الختامية للحماية. ومع انتصار 11 نونبر، سيبدو أن النجاح صار حليفه، إذ سيخصص له فرنسيو الدار البيضاء استقبالا احتفاليا باهرا. لكن المظاهر لن تخدع الرجل، هو المعروف بانعدام تفاؤله الطبيعي، وكيف لا والانتصار سيؤدي إلى إعلان فك التعبئة العامة، ومن ثمة إلى سحب "الجنود القاريين" من المغرب وتقليص عدد القوات المتوفرة لديه، بينما البلاد تشهد مجموعة من القلاقل؟ وبقدر ما ستدفع نهاية الحرب المقيم العام إلى التخوف من تسرب أفكار القومية العربية والمبادئ الاستقلالية إلى أوساط النخبة المغربية، بقدر ما سيتعرض لضغط المعمرين، وعلى وجه الخصوص "لوبي" معمري الجزائر المنتقدين لبطء عمل الحماية في المغرب. أجل، فالمعمرون الأوروبيون يشعرون بالقلق ولا يترددون في التصريح بتوجساتهم، هم الذين تزايد حجمهم كثيرا في المغرب بحيث انتقل، بين 1911 و1926، من حوالي عشرة آلاف نسمة إلى حوالي مائة ألف شخص، رغم أن المقيم العام بذل قصارى جهده لكي لا يتكرر مغربيا ما وقع في الجزائر. كانت الجالية الفرنسية تمثل نصف المعمرين تقريبا، تستقر أساسا في الدار البيضاء، تتشكل أغلبيتها من العمال والتجار ولا تضم سوى نسبة ضئيلة من الفلاحين. وعقب الحرب، ستتفتح شهيتها للحصول على امتيازات سريعة وحاسمة، على غرار الوضع القائم في الجزائر، وهي مطالب تمحورت حول الامتيازات التجارية مع إقرار نظام تفضيلي لصالحها، والامتيازات الضريبية وشروط اقتناء الأراضي. لكن هذه المطالب ستصطدم بلا مبالاة ليوطي الجلية، خصوصا أنه لم يعد بحاجة إلى حشد صفوف تلك الجالية وتعبئتها مثلما كان الأمر عليه أثناء الحرب العالمية الأولى. سيؤدي موقف ليوطي هذا إلى توتر سياسي، توتر ستنجلي معالمه الأولى في الحملات الصحفية التي سيتعرض لها المقيم العام، ومعه العاملون تحت إمرته في دواليب إدارة الحماية، مع اتهامهم جميعا بـ "المغالاة في محاباة الأهالي". وستتمحور تيمات الحملات هذه حول كون الإقامة العامة وكرا للبيروقراطية التي تعيق تطور المغرب، مثلما ستصف المقيم العام نفسه بالاستبداد، مضيفة أنه يغفل خدمة الجمهورية ليكرس جهوده برمتها لخدمة نفسه. لن تشكل الانتقادات الصحفية بمفردها مؤشرا على هيمنة التوتر السياسي المناهض لليوطي، بل ستصاحبها حركات احتجاجية عمالية تعتبر استمرارا إفريقيا للنضالات العمالية والشيوعية في أوروبا. وحسب ليوطي، فالمسؤولون عن هذه الحركية الاجتماعية هم "العمال الجزائريون" العاملون في المغرب، أولئك العمال الذين ينقلون إلي المملكة الشريفة الإحباطات وخيبات الأمل التي طالتهم في مجتمعهم. لن يتوقف الضغط الممارس ضد المقيم العام، بل إنه سيتضاعف بسبب حدوث أزمة نقدية ومالية عميقة. هكذا، وفي شتنبر 1919 ، ستشير "لا كسيون ماروكين" إلى أن السلطان "مجرد خدعة"، مستغلة زيارة ليوطي إلى فرنسا لتكتب بأنه "انتزع" المغرب من قوانين الجمهورية. وفي أكتوبرمن الستة نفسها، سينقل أحد صحفيي الجريدة ذاتها، بالبنط العريض، الأخبار الرائجة التي تتهم "كبار موظفي الحماية بالشذوذ". وستلتحق "لا فيجر ماروكين" بجوقة منتقدي ليوطي فتتهمه بالتسلط. أما المقيم العام، فسيتعامل مع مجمل هذه المنابر باحتقار تارة، وباللجوء إلى القضاء تارة أخرى، مع التطبيق الصارم للنصوص التشريعية والتنفيذية المتعلقة بمراقبة الصحافة، متذرعا في ذلك بكون المغرب "في حالة حرب" بسبب عدم انتهاء تهدئته. وفي نونبر 1919، حين ستطبع معاداة السامية الحملات الصحفية في الدار البيضاء، فسيقدم ليوطي على إبعاد مجموعة من الصحفيين من "محميته". لكن، ورغم كل مظاهر التوتر هذه، سيبعث كليمونسو برقية إلى المقيم العام لحكومته في المغرب، معبرا ضمنها، بشكل صريح، على مساندته لـ "ممثل الجمهورية" (18 نونبر 1919): " لحكومة الجمهورية، التي قررت استمرار المقيم العام في منصبه، كامل الثقة في شخصه كي يتخذ، في عين المكان، كل الإجراءات اللازمة لتجاوز الوضعية النقدية الناجمة عن ظروف عامة تهدد العالم برمته". هذا، وفي 1920، بعد الاطمئنان على استقرار الأوضاع في المغرب وانتصار أصدقائه السياسيين المنتمين لـ "الكتلة الوطنية" في الانتخابات التشريعية، سيسافر ليوطي إلى فرنسا حيث سيمكث مدة طويلة. وهناك، سيسعى إلى الاضطلاع على المواقف السائدة لدى السياسيين والرأي العام، وإلى لقاء معارفه الذين أبعدتهم الحرب عنه، مثلما سيلقي خطابا بمناسبة تكريس عضويته في الأكاديمية الفرنسية (8 يوليوز)، وهي المداخلة التي سيعقب عليها أحد أعضاء الهيئة ليصرح، موجها كلامه إلى المقيم العام: "لست أدري إن كانت جنيات منطقة لا لورين قد تنبأن بمستقبلك وقلن لك: ستصبح ملكا! لكنك تمتلك السلطة الملكية في الواقع، رغم عدم حملك للقب رسميا، مثلما أنك عاهل مؤسس لإمبراطورية". | ||
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: ليوطي المغربي
-9-
المغاربة يقرأون «اللطيف» لشفاء المقيم العام!
المغاربة يقرأون «اللطيف» لشفاء المقيم العام!
بعد الحصول على موافقة باريس على منح قرض جديد للمغرب والموافقة على عقود جديدة تهم السكك الحديدية، سيغادر ليوطي فرنسا ويعود إلى المغرب في شتنبر 1920 مثقلا بالأسئلة القلقة. لقد اقتنع بأن الأغلبية الحكومية المشكلة من «الكتلة الوطنية» عاجزة عن مباشرة الإصلاحات الكبرى التي يعتقدها ضرورية ومستعجلة. وفي ذات الآن، بدا له مستقبله في المغرب معتماً وبدون أفق، مثلما تمحورت الانتقادات حول شخصه وأفكاره وسياسته، لذا، أصابه سؤال المخرج المرتقب من هذه الأوضاع بالأرق. كان المقيم العام صادقاً بدون شك يوم صّرح، في الدار البيضاء، أمام الجالية الفرنسية بمناسبة اجتماع لغرفة الفلاحة: «لا أرى مانعا في البوح لكم، بكل صراحة، أنني، حين غادرت المغرب قبل خمسة شهور، كنت عاقداً العزم على عدم العودة. لقد خلفت لدي سنة 1919 بعض المرارة. إنني أشعر بنوع من الألم جراء الانتقادات المتواصلة رغم أنني أخصص لعملي كل وقتي وكل جهدي، وهي انتقادات تطال أيضا أفضل المساعدين الذين يعملون بجانبي». في 18 نونبر 1920، سيرسل ليوطي تقريراً حول حال ومآل الحماية، سيظل سرياً الى مطلع خمسينيات القرن الماضي. في تقريره هذا، يكتب المقيم العام: «لقد حان الوقت لتغيير وجهة النظر في سياسة الأهالي تغييراً جذريا، ومعها مشاركة العنصر المسلم في الشأن العام»، مستحضراً الوضع الجديد الذي أعقب الحرب وانتشار فكرة حق الشعوب في تقرير مصيرها عالميا. ولم يتردد ليوطي، كذلك، في توجيه سهام نقده إلى محدودية ولوج النخبة المغربية الشابة الى مناصب المسؤولية في هرم إدارة الحماية. ومن جهة ثانية، فإنه سيقر ضمنيا بفشله، إذ تظل تعليماته مجرد «حبر على ورق» محذراً من كون الشبان المسلمين النشطاء، الذين يحرمون من العمل، قد يوظفون طاقاتهم المعطلة ضد فرنسا. لقد صار البون شاسعاً، حسب رأيه، بين إدارة الحماية ودواليب المخزن، مثلما أصبحت هذه الادارة تمضي في اتجاه «إدارة مباشرة» لشؤون البلاد، وهو ما يعارضه المغاربة بقوة. إن هؤلاء، يواصل ليوطي، ليسوا «لا همجيين ولا جامدين»، وشبيبتهم تتطلع إلى التعلم والعمل. «من المؤكد أنه، يضيف التقرير، إلى جانبنا وخارج سيطرتنا، تتخلق حركة فكرية وتنعقد اجتماعات وتبزغ تعليقات تقارب كلها الأحداث العالمية ووضع الإسلام. وسيأتي يوم تنظم خلاله هذه المستويات نفسها في إطار وتنتفض، وذلك إذا لم نأخذها بعين الاعتبار وإذا لم نبادر، باستعجال، للتحكم في قيادة الأمور». فكرة ليوطي واضحة ولا غبار عليها: منح النخبة المغربية «وسائل التطور» والاضطلاع بدور «الوصي» عليها إلى أن تدق ساعة «انعتاقها». لكن آلة الحماية تجاوزت الرجل نفسه، وصار «نسقها السياسي والاداري» قويا الى درجة العمل بـ «استقلالية»، مما جعله ينفصل تدريجيا عن الواقع الذي يعيشه الأهالي وعن مؤسسات المخزن التي استحالت مجرد «ديكور» وفي الأفق المنظور ،يعتقد ليوطي، تتطلع النخب المحلية والشباب الى الاستقلال اذا لم يتغير وضع الحماية القائم. وفي 14 ابريل 1925 بمناسبة اجتماع لمجلس سياسة الاهالي بالرباط، سيوسع ليوطي دائرة تحذيره لتشمل باقي المنطقة، معتبرا أنه «بعد أمد قد يقصر وقد يطول» ستنفصل افريقيا الشمال عن فرنسا. ومن الواجب حينذاك ان يحصل الانفصال بدون الم وأن تظل نظرة الاهالي لفرنسا موسومة بالمودة. بعد حيازته رتبة مارشال (19 فبراير 1921) سينال المقيم العام هيبة و احتراما اكبر مثلما سيتميز تدبيره لشؤون مغرب ما بعد الحرب بسلطوية اعمق، لكن الى متى ستستمر خطوته هذه. ويكتسي السؤال مشروعيته من تقدمه في السن ومن حلول عهد جديد مغربيا، عهد المقاولين والمستثمرين. ولذا، وبعد مدة وجيزة. سيبدو المارشال متجاوزا ومنقطعا عن واقع مغرب يتطور بوتيرة متسارعة. وبموازاة تقدمه في السن، ستنتاب ليوطي عدة وعكات صحية هكذا، وخلال سفره الى باريس (صيف 1922 ) ستفرض عليه آلام الكبد ملازمة الفراش طوال اسابيع، مما سيحرمه من تسلم شارة المشيرية ابان استعراضات العيد الوطني الفرنسي (14 يوليوز ) وفي بداية 1923. اثناء اقامته بقصر بوجلود، في فاس، سيصاب بالتهاب خطير في الكبد، مما سيدفع العديدين الى الاعتقاد في وشوك انتقاله الى جوار ربه. اصابة المارشال هذه، سيصاحبها حدث لا يخلو من عجائبية، اذ سيقرأ المصلون «اللطيف» في المساجد الفاسية وفي البلاط نفسه، متوسلين من القدرة الإلهية شفاءه مثلما ستحتضن مدن البلاد الاخرى مظاهر تلقائية للتعاطف معه. وبعد تماثل ليوطي للشفاء سيطلب منه أهل فاس، للرد على تضرعهم الى الله، بأن يكون اول مكان يزوره، هو مسجد مولاي ادريس الكبير. و بالطبع سيستجيب لطلبهم، لكنه سيحرص، قبل ذلك على التوقف في مصلى المدينة الكاثوليكي، وكيف له فعل غير ذلك، هو الحريص منذ الأبد على الرمزية السياسية لكل أفعاله؟ |
9/2/2010 |
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: ليوطي المغربي
-10-
ليوطي يستقبل محمد الخامس والحسن الثاني قبيل وفاته
ليوطي يستقبل محمد الخامس والحسن الثاني قبيل وفاته
في عشرينيات القرن الماضي، لم يكن المرض بمفرده مصدر عياء ووهن ليوطي، بل كذلك الشعور بأن سلطته ما انفكت تغضب عدة أوساط، ليس في المغرب فقط، بل في فرنسا أيضاً، حيث كان يبدو لصحافة اليسار «مناهضا للجمهورية» وللأوساط اليمينية المعتدلة «مربكا». وحسب العديد من المؤرخين، فالمارشال انساق، في المراحل الأخيرة من تحمله مسؤولية الإقامة العامة بالمغرب، لشراك «أنوية مفرطة»، بل «لجنون العظمة»، وأصبح أسيراً لتجليات وفاء محيطه الزائدة عن اللازم، لعزلة الحكم ولمظاهر البلاطات، مثله في ذلك مثل جل القادة المتقدمين في السن. هذا، وستتكفل «حرب الريف» بدق آخر مسمار في نعش «ليوطي المغربي». هكذا، ويوم 12 أبريل 1925، ستشن ثلاث «حرْكات» من قوات عبد الكريم الخطابي هجوما ستهدد عبره مباشرة فاس وتازة، بعد انضمام عدة قبائل لصفوفها. لكن، وبما أن «المغرب الفرنسي» ليس «المغرب الإسباني»، فقد استقطب ليوطي قواد الأطلس وفرسانهم إلى خندق القوات الفرنسية. وبين أبريل ويوليوز، ستستمر المعارك حامية الوطيس بين الطرفين في غياب كبار قادة الحماية العسكريين الذين غادروا المغرب إبان الحرب العالمية الأولى، لكن ليوطي سيجد في الطيران المنبثق قوات ضاربة ستساعده في مواجهة انتفاضة الريف. وفي تلك الحقبة بالذات، غادر إدوار هيريو وزارة الخارجية، تاركاً مقعده لبول بانلوفي الذي كان مصراً على «ذهاب المارشال» وتعويضه بمدني على رأس الإقامة العامة. لكن وزارة الدفاع كانت، آنذاك، هي الوكر الرئيسي لأعداء «الأسد العجوز» الذي ظهرت عليه علامات «فقدان التوازن» لأول مرة منذ عشرين سنة. وفي رحاب مقر وزارة الدفاع، ستفك عقد الألسنة: ليوطي جاهل تماما بشروط الحرب الحديثة، لقد أرهق مساعديه، أعماه شغفه بالسلطة ونرجسيته المفرطة. ولم يعد مسؤولو وزارة الدفاع يترددون في إبراز وتسجيل تناقضات المقيم العام إزاء عبد الكريم الخطابي، التناقضات التي تعددت وتراكمت خلال الشهور الأخيرة حسبهم. وعلى مستوى آخر، لن تقدر باريس القوات الريفية حق قدرها، معتقدة أن انتصاراتها السالفة على الإسبانيين تعود أساسا الى ضعف هؤلاء الأخيرين، ولذا سترفض إمداد ليوطي بما طالب به من رجال وعتاد. سيستطيع المقيم العام «إنقاذ المغرب النافع» من زحف الثورة الريفية، بل إنه سيفكر في «الاعتراف بالجمهورية الريفية» لاستئصالهامن «مغربه»! وبالمقابل، لن توافقه القيادة العسكرية العليا في باريس الرأي، داعية إلى الحرب الشاملة قصد القضاء نهائياً على الخطابي. أجل، لقد تغيرت مقاربة فرنسا للحماية جذريا، حسب العديد من المؤرخين، وهيمن على صناع القرار بها منطق المعمرين والتوسع الإمبريالي «وفق النموذج الجزائري». معتنقو مبدأ «الحرب العصرية» سينتصرون على ليوطي، ويفرضون إرسال المارشال بيتان إلى عين المكان بذريعة أداء مهمة تفتيش، لكنه سيعين بسرعة قائداً عاما للعمليات الميدانية، مع منحه موارداً بشرية وعتاداً بحجم لم يسبق له مثيل. وهكذا، سيجد المقيم العام اختصاصاته منحصرة في تدبير «سياسة الأهالي»، وهو ما يعني تهميشه تدريجياً وعملياً. في شتنبر 1925، سيطلب المارشال، الذي استوعب الرسالة، إعفاءه من مسؤوليته بشكل رسمي، وكيف له غير ذلك بعد قرار الحكومة الفرنسية فصل القيادة السياسية عن القيادة العسكرية، أي إقبار روح وآليات نسق ليوطي القائم على وحدة الفعل العسكري والعمل السياسي؟ يوم 12 أكتوبر 1925، عقب جولة وداع استمرت عشرة أيام عبر ربوع «مغربه الحبيب»، سيتناول ليوطي آخر وجبة غذاء في الإقامة العامة بالدار البيضاء، ليلتحق بعدها مباشرة بالميناء مفعما بأحاسيس تمزج «الظفر بالجنائزية» وفق وصف أندري مالرو، الميناء حيث وجد في انتظاره باخرة «أنفا» وحشودا متراصة من الفرنسيين والمغاربة، ومن القواد القادمين من قبائل جد نائية. في قرية ثوري غير المعروفة، سيغادر ليوطي العالم في نهاية غشت 1934، ويوارى الثرى بها «مؤقتا»، قبل نقل قبره، حسب وصيته، إلى «مغربه»، قبره الذي تقول شاهدته: «هنا يرقد لويس هوبير ليوطي، أول مقيم عام لفرنسا في المغرب ( 1925/1912 )، المتوفى في رحم الديانة الكاثوليكية التي حصل في إطار إيمانه العميق بها على آخر الأسرار المسيحية، والذي كان يحترم بعمق تقاليد الأسلاف والدين الإسلامي الذي حافظ عليه ومارسه سكان المغرب العربي». وشاءت صدف الحياة أن يستقبل المارشال، هناك في قرية ثوري، أسابيع قليلة قبل وفاته، ضيفا استثنائيا: سلطان المغرب، سيدي محمد بن يوسف، مصحوبا بابنه مولاي الحسن، وعمره حينذاك خمس سنوات، ومعهما رئيس البروتوكول، سي قدور بن غبريط. وكانت هذه الزيارة آخر استقبال رسمي لليوطي، آخر التفاتة للحياة. |
10/2/2010 |
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
المخلوطي- عدد الرسائل : 376
العمر : 59
Localisation : Salé
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى