من أجل تطــوير الذائقة الشعرية
صفحة 1 من اصل 1
من أجل تطــوير الذائقة الشعرية
لا شك أن الذي اقترح موضوع الذائقة الشعرية لهذا اللقاء لم يشأ حصْرَه في الذائقة الشعرية النابعة من نصوص معبرة بصيغة فنية عن تجارب إنسانية تتسم بمواصفات خاصة في التركيب من لغة وخيال وصورة وإيقاع. لأن هذا الحصر سيدفع بنا إلى الدوران في مجال مُسيَّج يُعْنى به المبدعون والمهتمون.
لا شك إذن أن المقترح شاء أن يتسع دور الذائقة الشعرية ليشمل مجتمعا أكبر في رحابته.
ولأنه
موضوع شائك مترامي الأبعاد فقد آثرت في هذا اللقاء أن أبتعد عن قصد عن
الخوض في عناصر ذات صلة بموضوعنا ولكنها ستدفع بنا إلى مناح لا يسمح بها
الحيِّز الزمني. فلم أتطرق مثلا إلى مفهوم الشعر، ولا إلى صلة الشعر
بالشعرية (Poésie et poétique) ولا إلى اللغة الشعرية عند جان كوهن، ولا
الشعرية عند تودوروف، ولا الشعرية العربية عند جمال الدين بن الشيخ.
وسأحاول في هذا الحديث أن أكون واضحا قدر المستطاع لأخلص إلى نتائج قد نتفق حولها وقد نختلف.
وقبل
أن أحدد النقاط التي سأدير حولها حديثي أشير إلى أنني لا أرغب في التمييز
بين لغة الشعر الفصيح ولغة الشعر غير الفصيح لأنهما معا يتوفران على
الذائقة الشعرية المنشودة.
النقاط الثلاثة التي سأناقشها هي:
1- ماذا نقصد بالذائقة الشعرية أو الذوق الشعري؟
2- ما هو مجال الذائقة الشعرية وما هي إشكالاتها؟
3- مقترحات لتطوير الذائقة الشعرية.
1- ماذا نقصد بالذائقة الشعرية؟
يحدد
المعجم الفلسفي لجميل صليبا معنى الذوق بقوله: «هو قوة إدراكية لها اختصاص
بإدراك لطائف الكلام ومحاسنه الخفية،، أو على حذق النفس في تقدير القيم
الخلقية والفنية كقدرتها على الحكم على الآثار الفنية كالشعر والموسيقى
والرسم بطريقة الإحساس والتجربة الشخصية دون التقيد بقواعد معينة».
من
هذا التعريف يبدو لنا أن الذائقة أو الذوق يمتد إلى آفاق واسعة تتجاوز فنا
واحدا إلى فنون أخرى؛ دون تمييز بين الشعر والموسيقى والرسم، كما تخرج من
دائرة السمع والعين إلى الإحساس الباطني وإلى القيِّم.
وبهذا المفهوم
تصبح الذائقة الشعرية هي الذائقة الفنية، فإذا تأملنا الشعر نجده يوافق
هذا التعريف لأن بالشعر كتبت القصيدة والأغنية والنشيد، ولكن به كتبت كذلك
الملحمة والمسرحية وهي عالم من الوقائع والأحداث والشخوص والعصور
والأساطير مما يقر بها من موضوعات اشتهر النثر بالخوض فيها.
2- مجال الذائقة الشعرية
هو
أوسع من النصوص المألوفة إلى فضاءات إنسانية أرحب؛ هي فضاءات الفنون بصفة
عامة، هذا المجال الرحب اللامنتهي قاد إلى محاولة فهم عناصر الذائقة
الشعرية وما تواتر فيها من إشكالات وهي في عمقها طبيعية لأن جوهرها
الإنسان مبدعا ومتلقيا.
أول هذه إشكالات اللغة... اللغة العربية في
عمومها واللغة الشعرية في خصوصيتها. وسأوجز القول في هذه القضية، فلا
أتحدث عن الفصحى والعامية لأنهما - كما ذكرت من قبل - يتوفران على الذائقة
الشعرية. ولن أتحدث عن اللغة العربية في عصرنا هذا ولا في وطننا وما تلقاه
من تنكر وتغريب.
فقد شهدت اللغة العربية معركة طويلة، فعباس العقاد
مثلا يرى أن اللغة العربية أفضل اللغات، وخاصة اللغة الشعرية، في بحث
مستفيض سماه اللغة الشاعرة، وهو في رأيه هذا يؤكد ما قاله أحمد شوقي في
بيت شعري مشهور:
إن الذي ملأ اللغات محاسنا
جعل الجمال وحُسْنَهُ في الضَّادِ
أما
لويس عوض فيري أن اللغة العربية وسيادتها في الأدب المصري هي التي حالت
بين مصر وإنجاب شاعر كبير.. وقد غالى بعضهم فنادى باستعمال الحرف اللاتيني
بدل العربي مثلما فعل شاعر مرموق هو سعيد عقل فكتب ديوانه «لارا» بالحروف
اللاتينية.
وثار أدونيس على مصدر ذائقتنا الشعرية وهو التراث العربي
فقال إن علينا ألا نعود إلى التراث العربي الإسلامي لأن هناك أكثر من
تراث. هناك مجموعة من الإنتاجات الثقافية التاريخية التي تتباين حتى درجة
التناقض، فعلينا أن نبتعد عن كثير من نصوص التراث لأنها لم تعد ملائمة
ونبحث عن جذور أخرى مطموسة نُحْييهَا وننطلق منها.
وذهبت فئة أخرى إلى
تلمس الذائقة الشعرية من خلال العين لا الأذن فكتبت نصوصها بالخط المغربي
باعتباره غاية ووسيلة مع توزيع الجمل الشعرية توزيعا خاصا على الورقة، ومن
هؤلاء الشعراء: عبد اللّه راجع وبنسالم حميش واحمد بلبداوي.
إشكال ثان يبرز أمامنا ونحن نبحث عن الذائقة الشعرية يتعلق بالمبدع وبالمتلقي.
فالمبدعون
مذاهب شتى من كلاسيكيين يعتمدون العقل والقواعد الثابتة في التراث، إلى
رومانسيين ثائرين عى تلك القواعد مفسحين المجال لعبقرية الفرد، إلى
واقعيين يتغلغلون في ثنايا المجتمع لتسجيل أحواله المادية والنفسية، إلى
برناسيّين يزعمون أن الشعر لاغاية له بل هو غاية ووسيلة في حد ذاته.. إلى
آخر المذاهب من وجودية وسوريالية إلى حداثية وما بعد الحداثة.
إذا كان
ذلك شأن المبدعين، فإن المتلقين أصنافا تختلف أذواقهم باختلاف درجة
الثقافة والاستعداد الفطري، لكن من التجني أن نزعم أن الذائقة الفنية
مصاحبة فقط للمثقف؛ لأن نشأة التذوق تنمو في المجتمعات بوسائل كثيرة، بل
إن كثيرا من المبدعين لم يعرفوا العروض الشعري، ولا المعهد الموسيقي أو
كلية الفنون، وهذا شأن المبدعين في العصور الماضية.
ولأن الذائقة
الشعرية ليست بسيطة حتى ندرك جوهرها، فإن اختلافها بين الناس أو بين
الشعوب تبدو طبيعية، فبعض الشباب مثلا يرددون أغاني بالهندية بكلماتها
التي لايفهمونها.
كما أن بعض المنظومات الشعرية الوطنية خاصة تهزنا وإن
لم تكن ذات صياغة جيدة. وقد حدثت قصة طريفة لمحمد عبد الوهاب في هذا
الشأن. كان محمد عبد الوهاب مع أحمد شوقي ذات صيف في لبنان وكان معهما
شاعر غير مشهور اسمه فخري البارودي وقد توفي عام 1966 فقرأ عليهما نشيدا
أصبح ذائعا في الأقطار العربية بعد ذلك لأسباب تاريخية لأن أكثرها كان تحت
النفوذ الاستعماري تقول أبياته:
بلاد العرب أوطاني
من الشام لبغدان
ومن نجد إلى يمن
إلى مصر فتطوان
فطلب
من عبد الوهاب أن يلحنه، لكن عبد الوهاب طلب من الشاعر أن يدخل عليه
تغييرات، فاعتذر الشاعر لأن النشيد كتب لإبراز الوحدة العربية من أقصى
مدينة في المشرق إلى أقصى مدينة في المغرب، فأجاب عبد الوهاب إجابة طريفة:
«طيب يافخري بيهْ انْتَ فاكرني ملحن جغرافيا».
الأذواق إذن تختلف لدى الشعراء ولدى المتلقين إلا إذا كانوا مجاملين كما قال شاعر ظريف:
أهيم بالحسن كما ينبغي *** وأرحَمُ القُبح فأهواهُ
وإذا كان فخري البارودي قد رَصَّ مجموعة من أسماء المدن فلم يجد فيها فناننا
الكبير أيَّ رواء للجمال الذي يبتغيه فإن بعض المغنين لدينا يستخدمون
كلاماً مُسِفاً حَشَرَ فيه أحدهم مصطلحاً رياضيا ومن رياضة الملاكمة
تحديدا. سمعته يقول:
وكُولي كَاوْكاوْ *** لاَاطّيحِي كَاوْ
من
خلال المجال الواسع الذي يدور فيه الشعر يتبين لنا أنه جزء ملتحم بالفن
عامة من موسيقى ورسم ومسرح وملحمة؛ بل إن بعض النصوص النثرية طافحة بروح
الشعر، ففي كتابات جبران، ومحمد الصباغ، وطه حسين، ومحمد نجيب العوفي جمل
صافية رائقة في خيالها وإيقاعها. فإذا تأملنا أكثر وجدنا الذائقة الشعرية
تصبح ذائقة فنية ممتزجة بالفكر والإحساس جميعا، ومن ثم تصبح رؤية للعالم
وللناس وهي رؤية تعمقها الثقافة وتوجهها ولكنها ليست قاصرة على المثقفين
وحدهم، لسبب بسيط هو أن العالم كله شعر، إنه كتاب مفتوح لجميع البشر، هو
أشبه بالنصوص الشعرية الخالدة؛ انظر الى تقلب الفصول من شتاء وثلوج وسيول
ورعد، الى صيف صافي السماء، لاهب الشمس والرمل، إلى خريف مصفر غائم ذابل،
إلى ربيع باسم أخضر مثمر. بل انظر إلى الإنسان الشرير والخير، الطويل
والقزم، الباسم والعبوس، إلى حُسن المرأة أو إلى شراستها، وإلى الكريم
والبخيل.
الرؤية الى العالم تتجاوز النظرة الآنية إلى الجميل والقبيح
من الناس، إلى الجميل والقبيح في القيم والسلوك؛ فالظلم قبح، وقلة العدالة
وعدم تكافؤ الفرص قبح، والقمع والاحتلال قبح. ومن ثم لا تصبح الرؤية متعة
حالمة بل ثقافة وسلوكا تستلذ أو تتَمرَّدُ وتثور وفق السائد حولها داخل
المجتمع الصغير كالأسرة وداخل الجماعة النقابية أو الحزبية، وداخل المجتمع
الإنساني ككل.
أدرك أن الوصول إلى هذه الذائقة الشعرية الكونية حلم صعب
المنال خاصة في عصرنا المضطرب الطافح بالعنف والاستبداد؛ أعرف أن هذه
الذائقة الشعرية/الرؤية أمل في مدينة فاضلة، والمدن الفاضلة قد ولَّت مع
أفلاطون والفارابي.. ولكن كل المنجزات الإنسانية الكبرى كانت أحلاما في
بدايتها.
3 ـ فكيف نطور هذه الذائقة الشعرية؟
بديهي أن الذائقة ليست
مادة ملموسة نستطيع أن نطورها فهي مرتبطة بأدق بواطن الإنسان الموهوب؛
ولكننا نستطيع أن نجازف بالقول: إن التربية الأولى للطفل هي الأساس،
فالتربية الفنية يجب أن تكون ضمن المقررات، ولو في أبسط صورها، من نصوص
شعرية جميلة مناسبة، وتعلم أولي لخلط الألوان، وترديد الأناشيد، وتقديم
عروض مسرحية. إن لوحة فنان معلقة في الفصل، أو مزماراً مركونا في البيت
أقوى تأثيرا في ذائقة الطفل من النصائح والنواهي التقليدية. لكن على
الدولة بدورها أن تسهم في رعاية هذه الذائقة خارج المدرسة بتنظيف الأحياء
وتوفير المساحات الخضراء، وإشاعة المتاحف، وتقريب المعاهد الفنية وتسهيل
ولوجها لأغلب أبناء المجتمع؛ ورصد ما يروج في وسائل الإعلام من إذاعة
وتلفزة لا بالمصادرة ولكن باختيار الأجود؛ ولو أننا لا نقوى على إيقاف
المد الزاحف من المنافذ الإعلامية التي لا تحصى.
لكن، رغم كل ما
اقترحناه أو حَلُمْنا به، فإن العِلم يترصدنا بمنافعه الكثيرة وبمضاره.
فقد خلق لنا العلم جمالا مصنوعا، فالورود والأشجار بلاستيكية، والمرأة
أعيدت صياغَتُها ، فالشفاه الدقيقة تمتلئ، والصدر الكسيح يصبح ناتئا
والأنف الأفطس يستقيم..
وقد تطور اليوم علم الجينات فأصبح العلماء
يرصدون الجينات البشرية فيُحدِّدون جينات العنف، وجينات الضعف، ويعرفون
قابلية الإنسان لما سيكون عليه بعد سنين، وقد يرصدون غدا جينات الشعوب
فيدركون مكامنَ ضعفها فيصيبونها في مقتل... هذا الْعِلْمُ الكاسح قد يصيب
أذواق الأجيال اللاحقة فتتغير نظرتها للجمال؛ فعيون المها الواسعة السوداء
التي كنا نعجب بها مثلا قد تتحول إلى عشق العيون الصينية الشبيهة بدوائر
صغيرة مشقوقة. وبعد أن كانت مغنيتنا تردد:
عينيك جَابُوا الهَوَى من شيشاوة
ستغني:
عيـنيـك جَابُـو لَهْـوَى من الشِّنْوَا
كل الاحتمالات واردة في المستقبل، واللَّه وحده العالم بها.
* عنوان هذا العرض هو موضوع ندوة اقترحتها وزارة الثقافة بمعرض الكتاب وقد تعذر عليَّ تقديمه بين زملائي المشاركين في الندوة.
-العلم الثقافي19/3/2010ولأنه
موضوع شائك مترامي الأبعاد فقد آثرت في هذا اللقاء أن أبتعد عن قصد عن
الخوض في عناصر ذات صلة بموضوعنا ولكنها ستدفع بنا إلى مناح لا يسمح بها
الحيِّز الزمني. فلم أتطرق مثلا إلى مفهوم الشعر، ولا إلى صلة الشعر
بالشعرية (Poésie et poétique) ولا إلى اللغة الشعرية عند جان كوهن، ولا
الشعرية عند تودوروف، ولا الشعرية العربية عند جمال الدين بن الشيخ.
وسأحاول في هذا الحديث أن أكون واضحا قدر المستطاع لأخلص إلى نتائج قد نتفق حولها وقد نختلف.
وقبل
أن أحدد النقاط التي سأدير حولها حديثي أشير إلى أنني لا أرغب في التمييز
بين لغة الشعر الفصيح ولغة الشعر غير الفصيح لأنهما معا يتوفران على
الذائقة الشعرية المنشودة.
النقاط الثلاثة التي سأناقشها هي:
1- ماذا نقصد بالذائقة الشعرية أو الذوق الشعري؟
2- ما هو مجال الذائقة الشعرية وما هي إشكالاتها؟
3- مقترحات لتطوير الذائقة الشعرية.
1- ماذا نقصد بالذائقة الشعرية؟
يحدد
المعجم الفلسفي لجميل صليبا معنى الذوق بقوله: «هو قوة إدراكية لها اختصاص
بإدراك لطائف الكلام ومحاسنه الخفية،، أو على حذق النفس في تقدير القيم
الخلقية والفنية كقدرتها على الحكم على الآثار الفنية كالشعر والموسيقى
والرسم بطريقة الإحساس والتجربة الشخصية دون التقيد بقواعد معينة».
من
هذا التعريف يبدو لنا أن الذائقة أو الذوق يمتد إلى آفاق واسعة تتجاوز فنا
واحدا إلى فنون أخرى؛ دون تمييز بين الشعر والموسيقى والرسم، كما تخرج من
دائرة السمع والعين إلى الإحساس الباطني وإلى القيِّم.
وبهذا المفهوم
تصبح الذائقة الشعرية هي الذائقة الفنية، فإذا تأملنا الشعر نجده يوافق
هذا التعريف لأن بالشعر كتبت القصيدة والأغنية والنشيد، ولكن به كتبت كذلك
الملحمة والمسرحية وهي عالم من الوقائع والأحداث والشخوص والعصور
والأساطير مما يقر بها من موضوعات اشتهر النثر بالخوض فيها.
2- مجال الذائقة الشعرية
هو
أوسع من النصوص المألوفة إلى فضاءات إنسانية أرحب؛ هي فضاءات الفنون بصفة
عامة، هذا المجال الرحب اللامنتهي قاد إلى محاولة فهم عناصر الذائقة
الشعرية وما تواتر فيها من إشكالات وهي في عمقها طبيعية لأن جوهرها
الإنسان مبدعا ومتلقيا.
أول هذه إشكالات اللغة... اللغة العربية في
عمومها واللغة الشعرية في خصوصيتها. وسأوجز القول في هذه القضية، فلا
أتحدث عن الفصحى والعامية لأنهما - كما ذكرت من قبل - يتوفران على الذائقة
الشعرية. ولن أتحدث عن اللغة العربية في عصرنا هذا ولا في وطننا وما تلقاه
من تنكر وتغريب.
فقد شهدت اللغة العربية معركة طويلة، فعباس العقاد
مثلا يرى أن اللغة العربية أفضل اللغات، وخاصة اللغة الشعرية، في بحث
مستفيض سماه اللغة الشاعرة، وهو في رأيه هذا يؤكد ما قاله أحمد شوقي في
بيت شعري مشهور:
إن الذي ملأ اللغات محاسنا
جعل الجمال وحُسْنَهُ في الضَّادِ
أما
لويس عوض فيري أن اللغة العربية وسيادتها في الأدب المصري هي التي حالت
بين مصر وإنجاب شاعر كبير.. وقد غالى بعضهم فنادى باستعمال الحرف اللاتيني
بدل العربي مثلما فعل شاعر مرموق هو سعيد عقل فكتب ديوانه «لارا» بالحروف
اللاتينية.
وثار أدونيس على مصدر ذائقتنا الشعرية وهو التراث العربي
فقال إن علينا ألا نعود إلى التراث العربي الإسلامي لأن هناك أكثر من
تراث. هناك مجموعة من الإنتاجات الثقافية التاريخية التي تتباين حتى درجة
التناقض، فعلينا أن نبتعد عن كثير من نصوص التراث لأنها لم تعد ملائمة
ونبحث عن جذور أخرى مطموسة نُحْييهَا وننطلق منها.
وذهبت فئة أخرى إلى
تلمس الذائقة الشعرية من خلال العين لا الأذن فكتبت نصوصها بالخط المغربي
باعتباره غاية ووسيلة مع توزيع الجمل الشعرية توزيعا خاصا على الورقة، ومن
هؤلاء الشعراء: عبد اللّه راجع وبنسالم حميش واحمد بلبداوي.
إشكال ثان يبرز أمامنا ونحن نبحث عن الذائقة الشعرية يتعلق بالمبدع وبالمتلقي.
فالمبدعون
مذاهب شتى من كلاسيكيين يعتمدون العقل والقواعد الثابتة في التراث، إلى
رومانسيين ثائرين عى تلك القواعد مفسحين المجال لعبقرية الفرد، إلى
واقعيين يتغلغلون في ثنايا المجتمع لتسجيل أحواله المادية والنفسية، إلى
برناسيّين يزعمون أن الشعر لاغاية له بل هو غاية ووسيلة في حد ذاته.. إلى
آخر المذاهب من وجودية وسوريالية إلى حداثية وما بعد الحداثة.
إذا كان
ذلك شأن المبدعين، فإن المتلقين أصنافا تختلف أذواقهم باختلاف درجة
الثقافة والاستعداد الفطري، لكن من التجني أن نزعم أن الذائقة الفنية
مصاحبة فقط للمثقف؛ لأن نشأة التذوق تنمو في المجتمعات بوسائل كثيرة، بل
إن كثيرا من المبدعين لم يعرفوا العروض الشعري، ولا المعهد الموسيقي أو
كلية الفنون، وهذا شأن المبدعين في العصور الماضية.
ولأن الذائقة
الشعرية ليست بسيطة حتى ندرك جوهرها، فإن اختلافها بين الناس أو بين
الشعوب تبدو طبيعية، فبعض الشباب مثلا يرددون أغاني بالهندية بكلماتها
التي لايفهمونها.
كما أن بعض المنظومات الشعرية الوطنية خاصة تهزنا وإن
لم تكن ذات صياغة جيدة. وقد حدثت قصة طريفة لمحمد عبد الوهاب في هذا
الشأن. كان محمد عبد الوهاب مع أحمد شوقي ذات صيف في لبنان وكان معهما
شاعر غير مشهور اسمه فخري البارودي وقد توفي عام 1966 فقرأ عليهما نشيدا
أصبح ذائعا في الأقطار العربية بعد ذلك لأسباب تاريخية لأن أكثرها كان تحت
النفوذ الاستعماري تقول أبياته:
بلاد العرب أوطاني
من الشام لبغدان
ومن نجد إلى يمن
إلى مصر فتطوان
فطلب
من عبد الوهاب أن يلحنه، لكن عبد الوهاب طلب من الشاعر أن يدخل عليه
تغييرات، فاعتذر الشاعر لأن النشيد كتب لإبراز الوحدة العربية من أقصى
مدينة في المشرق إلى أقصى مدينة في المغرب، فأجاب عبد الوهاب إجابة طريفة:
«طيب يافخري بيهْ انْتَ فاكرني ملحن جغرافيا».
الأذواق إذن تختلف لدى الشعراء ولدى المتلقين إلا إذا كانوا مجاملين كما قال شاعر ظريف:
أهيم بالحسن كما ينبغي *** وأرحَمُ القُبح فأهواهُ
وإذا كان فخري البارودي قد رَصَّ مجموعة من أسماء المدن فلم يجد فيها فناننا
الكبير أيَّ رواء للجمال الذي يبتغيه فإن بعض المغنين لدينا يستخدمون
كلاماً مُسِفاً حَشَرَ فيه أحدهم مصطلحاً رياضيا ومن رياضة الملاكمة
تحديدا. سمعته يقول:
وكُولي كَاوْكاوْ *** لاَاطّيحِي كَاوْ
من
خلال المجال الواسع الذي يدور فيه الشعر يتبين لنا أنه جزء ملتحم بالفن
عامة من موسيقى ورسم ومسرح وملحمة؛ بل إن بعض النصوص النثرية طافحة بروح
الشعر، ففي كتابات جبران، ومحمد الصباغ، وطه حسين، ومحمد نجيب العوفي جمل
صافية رائقة في خيالها وإيقاعها. فإذا تأملنا أكثر وجدنا الذائقة الشعرية
تصبح ذائقة فنية ممتزجة بالفكر والإحساس جميعا، ومن ثم تصبح رؤية للعالم
وللناس وهي رؤية تعمقها الثقافة وتوجهها ولكنها ليست قاصرة على المثقفين
وحدهم، لسبب بسيط هو أن العالم كله شعر، إنه كتاب مفتوح لجميع البشر، هو
أشبه بالنصوص الشعرية الخالدة؛ انظر الى تقلب الفصول من شتاء وثلوج وسيول
ورعد، الى صيف صافي السماء، لاهب الشمس والرمل، إلى خريف مصفر غائم ذابل،
إلى ربيع باسم أخضر مثمر. بل انظر إلى الإنسان الشرير والخير، الطويل
والقزم، الباسم والعبوس، إلى حُسن المرأة أو إلى شراستها، وإلى الكريم
والبخيل.
الرؤية الى العالم تتجاوز النظرة الآنية إلى الجميل والقبيح
من الناس، إلى الجميل والقبيح في القيم والسلوك؛ فالظلم قبح، وقلة العدالة
وعدم تكافؤ الفرص قبح، والقمع والاحتلال قبح. ومن ثم لا تصبح الرؤية متعة
حالمة بل ثقافة وسلوكا تستلذ أو تتَمرَّدُ وتثور وفق السائد حولها داخل
المجتمع الصغير كالأسرة وداخل الجماعة النقابية أو الحزبية، وداخل المجتمع
الإنساني ككل.
أدرك أن الوصول إلى هذه الذائقة الشعرية الكونية حلم صعب
المنال خاصة في عصرنا المضطرب الطافح بالعنف والاستبداد؛ أعرف أن هذه
الذائقة الشعرية/الرؤية أمل في مدينة فاضلة، والمدن الفاضلة قد ولَّت مع
أفلاطون والفارابي.. ولكن كل المنجزات الإنسانية الكبرى كانت أحلاما في
بدايتها.
3 ـ فكيف نطور هذه الذائقة الشعرية؟
بديهي أن الذائقة ليست
مادة ملموسة نستطيع أن نطورها فهي مرتبطة بأدق بواطن الإنسان الموهوب؛
ولكننا نستطيع أن نجازف بالقول: إن التربية الأولى للطفل هي الأساس،
فالتربية الفنية يجب أن تكون ضمن المقررات، ولو في أبسط صورها، من نصوص
شعرية جميلة مناسبة، وتعلم أولي لخلط الألوان، وترديد الأناشيد، وتقديم
عروض مسرحية. إن لوحة فنان معلقة في الفصل، أو مزماراً مركونا في البيت
أقوى تأثيرا في ذائقة الطفل من النصائح والنواهي التقليدية. لكن على
الدولة بدورها أن تسهم في رعاية هذه الذائقة خارج المدرسة بتنظيف الأحياء
وتوفير المساحات الخضراء، وإشاعة المتاحف، وتقريب المعاهد الفنية وتسهيل
ولوجها لأغلب أبناء المجتمع؛ ورصد ما يروج في وسائل الإعلام من إذاعة
وتلفزة لا بالمصادرة ولكن باختيار الأجود؛ ولو أننا لا نقوى على إيقاف
المد الزاحف من المنافذ الإعلامية التي لا تحصى.
لكن، رغم كل ما
اقترحناه أو حَلُمْنا به، فإن العِلم يترصدنا بمنافعه الكثيرة وبمضاره.
فقد خلق لنا العلم جمالا مصنوعا، فالورود والأشجار بلاستيكية، والمرأة
أعيدت صياغَتُها ، فالشفاه الدقيقة تمتلئ، والصدر الكسيح يصبح ناتئا
والأنف الأفطس يستقيم..
وقد تطور اليوم علم الجينات فأصبح العلماء
يرصدون الجينات البشرية فيُحدِّدون جينات العنف، وجينات الضعف، ويعرفون
قابلية الإنسان لما سيكون عليه بعد سنين، وقد يرصدون غدا جينات الشعوب
فيدركون مكامنَ ضعفها فيصيبونها في مقتل... هذا الْعِلْمُ الكاسح قد يصيب
أذواق الأجيال اللاحقة فتتغير نظرتها للجمال؛ فعيون المها الواسعة السوداء
التي كنا نعجب بها مثلا قد تتحول إلى عشق العيون الصينية الشبيهة بدوائر
صغيرة مشقوقة. وبعد أن كانت مغنيتنا تردد:
عينيك جَابُوا الهَوَى من شيشاوة
ستغني:
عيـنيـك جَابُـو لَهْـوَى من الشِّنْوَا
كل الاحتمالات واردة في المستقبل، واللَّه وحده العالم بها.
* عنوان هذا العرض هو موضوع ندوة اقترحتها وزارة الثقافة بمعرض الكتاب وقد تعذر عليَّ تقديمه بين زملائي المشاركين في الندوة.
إبراهيم السولامي |
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى