المشروع النهضوي العربي
صفحة 1 من اصل 1
المشروع النهضوي العربي
بدأت فكرة
المشروع النهضوي العربي في التبلور منذ عام 1988 في أعقاب انتهاء مركز
دراسات الوحدة العربية من إنجاز مشروعه العلمي الكبير الذي حمل اسم: مشروع
استشراف مستقبل الوطن العربي (الذي أصدر المركز دراساته الجزئية
والتركيبية) وطرحت توصياته - في جملة ما طرحت - الحاجة الى مشروع نهضوي
(1).
وقد أدرج المركز ضمن مخططه العلمي الموضوعات والقضايا التي تمثل مادة
المشروع النهضوي كمسائل فكرية ذات أولوية في برامج النشر والندوات من أجل
توفير مادة علمية يبنى عليها لبلورة رؤية نهضوية. في هذه الاثناء، كلف
المركز بعض اصدقائه الباحثين بتقديم مقترحات حول تصور المشروع ومخططه،
وتوصل الى مجموعة منها عرضت على مناقشات داخلية في عام 1996 وفي ماي 1997
عقد المركز حلقة نقاشية في القاهرة حضرها عدد من الباحثين العرب تدارست
على مدى يومين مخطط المشروع الأولي، وادخلت عليه تعديلات، كما وضعت المخطط
الاولي لندوة المشروع الحضاري النهضوي العربي.
وقد عقد المركز هذه الندوة في فاس في عام 2001، وشارك فيها ما يزيد عن
المئة باحث من التيارات الفكرية كافة، تناولت بحوثها ومناقشاتها - على
مدار اربعة ايام - القضايا النهضوية الست التي تشكل اهداف المشروع وهي:
الوحدة العربية، والديمقراطية، والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية،
والاستقلال الوطني والقومي، والتجدد الحضاري، ونشر المركز الوقائع الكاملة
للندوة ضمن كتاب صدر عنه في نهاية العام نفسه (2)، وشكل المركز، عقب
الندوة مباشرة، لجنة صياغة مخطط المشروع في ضوء بحوث الندوة ومناقشاتها،
وقد عقدت اجتماعها التمهيدي التشاوري في فاس. وكلف المركز باحثين بإعداد
مقترحات لمخطط المشروع لعرضه على اللجنة في اجتماع قادم. وقد عقد الاجتماع
هذا في لبنان في يوليوز 2001، وتناول خلال يومين من المداولات - مواد
المخطط الأولي بالدرس والتدقيق، منتهيا الى اقرار صيغة شبه نهائية له، ما
لبث المركز أن أقرها في صيغة نهائية في غشت 2001 مشكلا فريقا لتحرير فصوله
من اعضاء لجنة الصياغة.
وقد أعدت اللجنة الأوراق الثماني الخلفية لنص المشروع، في ضوء حصيلة ندوة
فاس ومرفقات أخرى من مواد مرجعية للاستعانة بها لهذا الغرض. ثم سمي المركز
أحد اعضاء لجنة الصياغة منسقا، وكلفه في صيف عام 2004 بتحرير المسودة
الاولى لنص المشروع اعتمادا الى اوراق وبحوثه الخلفية ومادة ندوة فاس. و
بعد انجاز المسودة الاولى، دعا المركز الى عقد اجتماع للجنة الصياغة في
القاهرة (يوليوز 2005) لمناقشة المسودة حضره خمسة عشر عضوا من اعضائها
الثمانية عشر، وبعد يومين من المناقشة أحيلت الملاحظات الى منسق التحرير
قصد ادخال التعديلات اللازمة على النص. ثم دعيت لجنة الصياغة الى الاجتماع
ثانية في القاهرة في يوليوز 2006 لمناقشة المسودة الثانية. غير ان العدوان
الصهيوني على لبنان في حرب يوليوز 2006 واغلاق المطار والحصار الذي ضرب
على لبنان حال دون سفر خمسة من اعضائها الى القاهرة، مما اضطر الى تأجيله
لينعقد في شكل ندوة موسعة في بيروت في نونبر 2006، دعي الى المشاركة فيها
باحثون من خارج لجنة الصياغة. ثم ادخل منسق التحرير ثانية التعديلات على
مسودة النص لتعرض المسودة الثالثة بعد ذلك باشهر على المؤتمر القومي
العربي (2007) وترسل الى عدد كبير من الشخصيات الفكرية والسياسية العربية
لإبداء الرأي فيها، وتنشر على الموقع الالكتروني للمركز لعموم القراء
العرب، للغاية نفسها.
وبعد أن تجمعت حصيلة وفيرة من تعليقات لجان المؤتمر القومي العربي، وآراء
المفكرين والباحثين والخبراء، كلف احد اعضاء لجنة الصياغة بإدخال
التعديلات الواجبة على المشروع ليصير إلى مسودته الرابعة، وعقب ذلك عقدت
لجنة الصياغة اجتماعا نهائيا في بيروت في 2009 لإبداء الرأي في المسودة
لإدخال آخر تعديلات عليها.
لقد حرص مركز دراسات الوحدة العربية، منذ بداية عمله في هذا المشروع، على
مشاركة التيارات الفكرية كافة في انجازه (من قوميين واسلاميين ويساريين
وليبراليين) حتى يأتي ممثلا نظرة الاطياف الفكرية والسياسية كافة بحسبانه
مشروعا للأمة جمعاء لا لفريق منها دون آخر. ولقد كان الجميع مشاركا في
المراحل كافة: من اعداد المقترحات والتصورات، الى فرق العمل التي ناقشت
المخطط واقرته، الى الباحثين والمشاركين في ندوة فاس، الى اعضاء لجنة
الصياغة وفريق التحرير. وهاهو المركز يطرح المشروع النهضوي العربي في
صورته النهائية على الامة، واثقا من انه سوف يكون دافعا قويا لنضالها من
أجل تجسيد اهدافه الستة في الواقع العربي، وناظما فعالا لهذا النضال.
مركز دراسات الوحدة العربية
ثانيا: السياق العالمي
والإقليمي للتدهور
1 ـ على الصعيد العالمي
في أعقاب الانتكاسة التي منيت بها محاولة النهوض العربي في خمسينيات القرن
الماضي وستينياته بفعل العدوان الاسرائيلي في 1967 بدا، لوهلة، أن النظام
العالمي باق على نموذجه السائد في ذلك الحين، بل لقد بدا في عقد
السبعينيات أن القوة الأمريكية آخذة في التراجع بفعل الهزيمة العسكرية
القاسية في فيتنام وفقدان مواقع مهمة للتأثير والنفوذ، كما حدث بعد نجاح
الثورة الإيرانية في 1979، غير أن السياسة الهجومية للإدارة الأمريكية
اليمينية الجديدة منذ مطلع الثمانينيات استطاعت أن تستعيد تدريجياً القدرة
الأمريكية على التأثير في الساحة العالمية، وذلك في الوقت الذي بدأت فيه
عوامل الوهن الداخلي في الاتحاد السوفياتي تحدث آثارها في كيان القوة
العظمى الثانية في قيادة النظام العالمي. وعندما تولى غورباتشوف قيادة
الاتحاد السوفياتي في 1985 راهن كثير من المحللين على قدرته على وقف تراجع
القوة السوفياتية، غير أن خيوط اللعبة أفلتت تماماً من يديه (إذا استبعدنا
ما يصرّ عليه البعض من أنه كان شريكاً في مؤامرة على الاتحاد السوفياتي)،
وانتهى الأمر باختفاء الاتحاد السوفياتي من خريطة العالم في دجنبر 1991،
وحلول خمس عشرة جمهورية مستقلة محله، هي كل ما كان الكيان السوفياتي يضمّه
من جمهوريات فيدرالية. ولقد ورثت روسيا القوة النووية السوفياتية ومعظم
عناصر القوة في الكيان المتفكّك، غير أن استسلامها التام للمعسكر
الرأسمالي، في ظل رئاسة يلتسين، أفقدها أي تأثير أو نفوذ بالمعايير
العالمية، وساعد ذلك، دون شك، على بلورة وضع عالمي جديد تمثلت أهم معالمه
في بروز القيادة الأمريكية الأحادية للنظام العالمي، وفقدت الدول المتوسطة
والصغرى بذلك عالم القطبية الثنائية الذي وفّر لمن يملك الإرادة منها
قدراً من حرية الحركة في الساحة الدولية، وأصبح عليها إما أن تقنع
بالتبعية المطلقة للولايات المتحدة، أو تحاول الحفاظ على استقلالها، أو
على الأقل على قدر منه في ظل ظروف عالمية بالغة التعقيد، تهدد بضرب كل من
يتجاسر على تحدي الإرادة الأمريكية. وكان للدول العربية بطبيعة الحال
نصيبها الخاص من هذه التداعيات السلبية بسبب ضخامة المصالح الأمريكية في
الوطن العربي، وعلى رأسها المصالح النفطية.
ولقد ساد في حينه جدل داخل الوطن العربي وخارجه حول طبيعة تلك التحولات،
وانقسمت الآراء في هذا الصدد، فرأى فريق أنها قد أفضت إلى نظام عالمي جديد
أحادي القطبية، سوف يُقدر له أن يسود التفاعلات الدولية لمرحلة كاملة من
مراحل تطور العلاقات الدولية، وذلك بالنظر الى التفوق الواضح للقوة
الأمريكية، ووجود مشروع متبلور لقيادة العالم لدى نخبتها الحاكمة، والسلوك
الأمريكي التدخلي في القضايا الدولية الذي يجعل هذه القيادة أمراً واقعاً.
غير أن فريقا آخر رأى في هذه التحولات وضعاً مؤقتاً، لأن ثمة تنامياً
متزيداً لأقطاب عالمية جديدة لعل الصين أبرزها، ولأن المشروع الأمريكي
لقيادة العالم القائم على الهيمنة هو في حد ذاته مصدر تآكل للقطبية
الأحادية بقدر الممانعة الدولية له، ولأن السلوك الأمريكي في الشؤون
الدولية أحدث من الارتباك والفوضى أكثر مما أوجد من التماسك والاستقرار.
مع ذلك، فإن الفريقين لم يختلفا على أن اللحظة كانت تشير إلى انفراد
أمريكي ظاهر بمقاليد القرار في الشؤون العالمية. وفي تلك الظروف، وقع
احتلال العراق في 2003، وبدا لوهلة أن الولايات المتحدة تشقّ طريقها بثبات
نحو تحقيق الهيمنة على الوطن العربي. غير أن المقاومة العراقية والأوضاع
الاقتصادية المتدهورة في الولايات المتحدة أوقفت تقدم المشروع الأمريكي،
وبدأت عوامل عالمية أخرى في التبلور على النحو الذي يؤيد وجهة النظر التي
تنبأت بعودة قيادة النظام العالمي الى نموذج التعددية، فواصلت القوة
الصينية تقدمها بثبات، واستعادت روسيا الاتحادية في ظل قيادة بوتين مقومات
قوتها العسكرية، وتجاوزت محنتها الاقتصادية، وبدأت في تبني سياسة تعكس
مصالحها الوطنية، بما أفضى إليه ذلك من تعقيدات في العلاقة بينها وبين
الولايات المتحدة بصفة خاصة. يضاف إلى ذلك، عودة اليسار إلى السلطة في
بلدان أمريكا اللاتينية، عبر صناديق الاقتراع. وإذ رفعت هذه العودة العزلة
عن كوبا وفنزويلا، أذنت بتحجيم النفوذ الأمريكي في القارة اللاتينية التي
كانت حديقة شبه خلفية لذلك النفوذ، وبكسر حلقة الإطباق الأمريكي على مصائر
شعوب وبلدان العالم الثالث، وتوسعة رقعة الممانعة الدولية للسياسات
العدوانية الأمريكية في العالم.
ولاشك أن مجيء الادارة الأمريكية الجديدة في مطلع 2009، وخطابها السياسي
التصالحي، وبعض مبادراتها تجاه بعض الخصوم، قد أفضى إلى تراجع التوتر في
عدد من الساحات التي شهدت أقصى درجات العدوانية الأمريكية في عهد الرئيس
الأمريكي جورج بوش الإبن. ومع ذلك، فإن إمعان النظر يظهر أن المحصلة
النهائية لهذه التطورات لم تمس جوهر السياسات الأمريكية، ناهيك عن التمسك
بالتصعيد في أفغانستان، الأمر الذي يؤكد من جديد أن مفتاح التغيير إلى
الأفضل بيد العرب وحدهم.
ولا يمكن أن يكتمل تحليل السياق العالمي دون الإشارة إلى التغيرات الكبرى
التي حدثت في بنية المجتمع العالمي، التي تبلورت في ظاهرة العولمة، التي
أصبحت تؤثر بشكل مباشر في سياسات الدول في كافة المجالات. وبناء على ذلك،
يمكن القول إن صانع القرار القطري قد فقد حرية الحركة النسبية التي كانت
له قبل بزوغ عصر العولمة، الذي ساد على وجه الخصوص بعد تفكك الاتحاد
السوفياتي.
وإذا كان صحيحاً أن العولمة الراهنة تكشف عن ذروة من ذرى تطور النظام الرأسمالي العالمي، فإن التاريخ سيتجاوز هذه اللحظة،
وسيكشف المستقبل المنظور عن أن العولمة ستتجاوز شروط نشأتها لتصبح عملية
عالمية واسعة المدى، ستنقل الإنسانية كلها إلى آفاق عليا من التطور الفكري
والعلمي والتكنولوجي والسياسي والاجتماعي. وبعبارة أخرى، ستحدث آثارا
إيجابية لم تكن متصورة لدى من صمموا عملية العولمة، بل ستتجاوز هذه الآثار
مخططاتهم التي كانت تهدف إلي الهيمنة والسيطرة على النظام العالمي، وسيثبت
التاريخ أنه لن يتاح لدولة واحدة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، أو حتى
لمجموعة من الدول، أن تهيمن هيمنة كاملة على العالم اقتصاديا وسياسيا
وتكنولوجيا وعلميا، وإلا حكمنا على شعوب الأرض جميعا بالعقم وعدم الفاعلية.
وفي هذا الإطار، ثمة حاجة ملحة إلى منهج صحيح للتعامل مع ظاهرة العولمة
بكل أبعادها، فالعولمة عملية تاريخية غير قابلة للارتداد، وبذلك يعد منطقا
متهافتا ما يدعو إليه البعض من ضرورة محاربتها، لاستحالة الوقوف أمام نهر
متدفق، هو عبارة عن حصاد تقدم إنساني، تم عبر القرون الماضية، وأسهمت فيه
شعوب وحضارات شتى، وإنما الأجدى هو تحليل تأثيرات العولمة في الوطن
العربي، وما تفرضه من تحديات، يتعين علينا العمل على التوصل إلى السبل
المثلى لمواجهتها.
لاشك أن للعولمة تجليات اقتصادية وثقافية يمكن في سياقها تحليل تلك
التأثيرات. فبالنسبة الى التجليات الاقتصادية للعولمة تتضح معالمها في
تزايد الاعتماد المتبادل بين اقتصادات الدول على مستوى العالم، ووحدة
الأسواق المالية والنقدية، وفتح الحدود أمام التجارة الحرة بلاقيود، إلا
أن أبرز رمز معاصر للعولمة الاقتصادية يظل تأسيس منظمة التجارة العالمية.
وإذا كانت غالبية الدول العربية قد وافقت على المعاهدة الخاصة بإنشاء هذه
المنظمة التي أخذت على عاتقها فتح الحدود لحرية التجارة، وإزالة كافة
القيود وأنماط الدعم التي تفضلها بعض الدول، فإن أخطر ما يرتبط بها أنه
بعد نهاية فترة السماح التي أعطيت لبعض الدول، سوف يفتح المجال واسعا
عريضا أمام حقبة التنافس بغير قيود، ويفترض التنافس العالمي أن كافة
الدول، غنيّها وفقيرها، ستكون على قدم المساواة، ومن هنا ينبغي أن تلتفت
الدول العربية الى أهمية الارتقاء الى مستوى المنافسة العالمية.
ويخطئ صناع القرار العرب لو ظنوا أن تحديات عصر المنافسة العالمية هي
تحديات اقتصادية بحتة تتصل بزيادة الصادرات أو رفع معدل الإنتاج، أو
الارتقاء بمستوى الجودة. ذلك أن أخطر التحديات في هذا المجال بالذات هو
التحدي الثقافي، وهنا تتعين الإشارة، على وجه الخصوص، إلى الارتفاع الخطير
في معدلات الأمية في الوطن العربي، التي تصل في بعض التقديرات إلى 20%،
وهو ما يعني أن 20% من الشعب العربي لن يكونوا قادرين على التعامل بكفاءة
مع عصر الثورة العلمية والتكنولوجية، ومع حقبة ثورة الاتصالات الكبرى،
ونشوء مجتمع المعلومات العالمي. وهكذا يمكن القول إن الوطن العربي يحتاج
الى ثورة تعليمية كاملة لا تقضي على الأمية فحسب، وإنما تعيد بناء مؤسسات
التعليم العام من حيث الشكل والمضمون، وترفع مستوى الأداء في المؤسسة
الجامعية وفي المراكز البحثية.
أما بالنسبة الى التجليات السياسية للعولمة ، فإنه يمكن القول إنها تتركز
في رفع شعارات الديمقراطية أو التعددية الفكرية والسياسية، واحترام حقوق
الإنسان. وفي مواجهة كل شعار من هذه الشعارات، تجابه الدول العربية جميعا
تحديات خطيرة، فقد قطعت بعض الدول العربية خطوات في طريق الانتقال من
السلطوية إلى الديمقراطية والتعددية السياسية، إلا أن هذه التعددية
السياسية ما زالت مقيدة، كما أن عددا لا بأس به من الدول العربية لم يخط
الخطوة الأولى في طريق الديمقراطية. ومن المشكلات المثارة في هذا المجال
ما يطرح حول: أي نظرية ديمقراطية يمكن تطبيقها في الوطن العربي؟ فهناك
أنصار الديمقراطية الغربية الذين يرون ضرورة تطبيقها بحذافيرها، وهناك
معارضون لهذا التوجه يدافعون عن الخصوصية الثقافية في هذا المجال، ويرفعون
شعار الشورى في مواجهة الديمقراطية الغربية، أو يطالبون بتأسيس ديمقراطية
عربية تتفق مع الظروف السياسية والاقتصادية والثقافية للمجتمع العربي.
أما حقوق الإنسان، فهي تمثل تحديات للممارسات السياسية في كثير من أقطار
الوطن العربي، لأن بعض الدول العربية لا يريد أن يطبق المعايير الدولية
لحقوق الإنسان، زعما بأنها تتعارض مع سمات الخصوصية الثقافية. وعلى الدول
العربية أن تستعد لخوض حرب شرسة في هذا المجال مع الهيئات الدولية
والمنظمات غير الحكومية التي تضغط لتطبيق المعايير العالمية لحقوق الإنسان.
ويمكن القول إن من أخطرتحديات العولمة السياسية ما برز في ميدان العلاقات
الدولية، فقد أصبح حق التدخل يفرض فرضا على بعض الدول أساسا من خلال تحكم
الولايات المتحدة وسيطرتها على مجلس الأمن الدولي. وهكذا، وإعمالا لهذا
الحق الذي يستند - كما يقال - إلى الشرعية الدولية حوصرت شعوب عربية
لأسباب مختلفة. ويعتبر حق التدخل من أخطر التحديات الجديدة التي تواجه
الوطن العربي وهو ما يدعو دوله إلى بذل جهد متصل في مجالين:
أولهما، تعديل الأوضاع التي أدت إلى فرض هذه العقوبات تعديلا جذريا، بحيث تنتهي العوامل المرتبطة باستمرار فرضها بشكل واضح.
وثانيهما، جهد سياسي وفكري يقع على عاتق رجال الدبلوماسية والقانون الدولي
والمفكرين، في تقديم مبادرات دولية تناقش على المستوى العالمي لتقنين حق
التدخل، ومنع الازدواجية، خاصة ما يتعلق بإخلاء ساحة اسرائيل في هذا
المجال، وعدم تطبيق أية عقوبات عليها رغم جرائمها اليومية ضد الشعب
الفلسطيني.
وأخيرا، فإن القضية المطروحة في إطار تحليل التجليات الثقافية للعولمة هي
الدعوة إلى بناء ثقافة كونية تتضمن نسقا متكاملا من القيم والمعايير
لفرضها على كافة الشعوب، مما قد يؤثر في الخصوصية الثقافية للشعب العربي.
وهكذا يمكن القول إن تحديات العولمة للوطن العربي متعددة، ومعقدة، وهي -
كما تمت الإشارة - ذات أبعاد سياسية واقتصادية وثقافية، تحتاج إلى جهد
كبير من قبل صناع القرار العربي، والجامعات ومراكز الدراسات العربية
للتعامل معها، لأن الطريق الوحيد أمامنا هو التفاعل الإيجابي الخلاق مع
المتغيرات العالمية الجديدة.
السياق العالمي والإقليمي للتدهور
2- على الصعيد الإقليمي
لاشك أن الكيان الصهيوني قد لعب دوره في التدهور الذي ألم بمحاولة النهضة
العربية، فقد كان هو الأداة التي وجهت الضربة العسكرية إلى الدولة القائدة
لهذه المحاولة في 1967، واستطاع هذا الكيان، على الرغم من الإنجاز العربي
في حرب الاستنزاف عقب عدوان 1967، وحرب 1973، أن يثابر على سياسته
العنصرية التوسعية بسند أمريكي مطلق، وفي هذا الإطار حدث الاختراق
الاسرائيلي الكبير للأمة العربية بتوقيع معاهدة السلام مع مصر في 1979
والأردن في 1994، وما تبع ذلك من هرولة، غير مبررة، من قبل عدد من الدول
العربية باتجاه اسرائيل، الأمر الذي عزز الانقسام العربي بشأن سبل
المواجهة مع إسرائيل. وعلى الرغم من ان المقاومة الفلسطينية والمقاومة
اللبنانية قد حققتا انتصارات لافتة في هذه المواجهة، وبصفة خاصة في العقد
الاول من القرن الحادي والعشرين، فإن غياب ظهير عربي قوي لهما، واستشراء
الانقسام الداخلي بين فصائل المقاومة الفلسطينية قد مثلا قيدا واضحا على
هذه المقاومة.
في السياق الاقليمي ايضا، اخفق النظام العربي في التوصل الى معادلة صحيحة
للعلاقة مع جارتيه الآسيويتين الكبيرتين إيران وتركيا. في البدء كانت
إيران الشاهنشاهية جزءا لايتجزأ من المشروع الامريكي المناهض لآمال الامة
وغاياتها، وعندما نجحت الثورة الايرانية في 1979 تبادلت إيران الادوار مع
عرب المد القومي في ستينيات القرن العشرين. غير أن التشدد القومي الواضح
للثورة الايرانية والتناقض بين مشروعها «الاسلامي» والنظم العربية عامة،
والخليجية خاصة، أوجد احتقانا في العلاقات العربية - الايرانية بلغ ذروته
بانفجار الحرب العراقية - الايرانية (1988/1980) لتكون أطول حرب نظامية
يشهدها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد كان لتلك الحرب أسوأ
الآثار في تدمير مقومات القوة العربية، وتعثر مسيرة الأمة على طريق
التنمية. وبين دور إيراني في العراق مرفوض عربيا، وإمكانات عمل عربي -
إيراني مشترك لمواجهة محاولات الهيمنة الصهيو - أمريكية، مازال النظام
العربي غير قادر على أن يجد المعادلة الصحيحة لعلاقته بإيران على النحو
الذي يعظم القواسم المشتركة، ويحفظ المصالح العربية في آن واحد.
وبالنسبة الى تركيا، فشل النموذج التركي الذي أيده الغرب، وبصفة خاصة
الولايات المتحدة، لتحقيق نهضة اقليمية في الشرق الاوسط، في أن يحصل على
قبول من جانب النخب السياسية في الوطن العربي لأسباب كثيرة، منها العامل
التاريخي، ومنها ايضا طبيعة العلاقة بين تركيا، كدولة أطلنطية، والولايات
المتحدة التي لعبت دورا رئيسيا في وأد مشروع النهضة العربية في خمسينيات
القرض الماضي وستينياته. وتضاف الى ذلك عوامل التوتر في العلاقات العربية
- التركية بخصوص قضايا حيوية كالمياه ولواء الاسكندرونة والعلاقات التركية
- الاسرائيلية، ومع ذلك فإن التطورات الداخلية في تركيا في العقود
الاخيرة، وانكشاف حقيقة الرغبة الغربية في عدم قبول تركيا دولة ناهضة في
مجتمع الدول الغربية المتقدمة، قد ولدا توجهات جديدة في السياسة التركية
تجاه الوطن العربي فتحت آفاقا رحبة لتطوير العلاقات العربية - التركية،
وبصفة خاصة في ضوء التطورات الايجابية في الموقف التركي تجاه الصراع
العربي - الاسرائيلي، وبالذات منذ العدوان الاسرائيلي على غزة (2009/2008).
وعلى صعيد القارة الافريقية، أخفق النظام العربي في تحقيق علاقات تعاونية
مستقرة مع الجانب الافريقي تجعل من الطرفين حليفين في السعي نحو النهضة
والتصدي لمحاولات الهيمنة. كان للنظام العربي في مرحلة المد القومي في
خمسينيات القرن الماضي وستينياته دوره الفاعل في معارك التحرر الافريقية،
غير أن هذا الدور واجه دوما عقبة التغلغل الاسرائيلي في افريقيا. وعلى
الرغم مما بدا ان التعاون العربي - الافريقي قد بلغ ذروته بعقد القمة
العربية - الافريقية في مارس 1977 الا أن الآمال المعقودة على هذا التعاون
سرعان ما انحسرت مع بداية الانقسام العربي حول التسوية مع اسرائيل في
السنة نفسها، ومع تفاقم الانقسام العربي، واستمرار النشاط الاسرائيلي،
ودخول قوى عالمية جديدة على رأسها الولايات المتحدة والصين الى ساحة
التنافس داخل القارة الافريقية، بدا أن الحضور العربي في افريقيا أضعف من
أن يولد تعاضدا عربيا - افريقيا من أجل نهضة شاملة.
ويعني ماسبق ان السياق العالمي والاقليمي لمحاولات النهضة العربية لم يكن
دوما مواتيا أو غير موات، فقد بقي قدر من حرية الحركة في النظام العالمي
عقب هزيمة 1967، لكن النظام العربي لم يحسن استغلاله دوما. وعندما تحولت
قيادة النظام العالمي الى نموذج الاحادية القطبية، واجه النظام العربي
واحدة من أسوأ مراحله، ويكفي ان احتلال العراق قد تم أثناءها، غير أن هذا
النظام بسبب عوامل الضعف الداخلي فيه بدا حتى الآن غير قادر على الاستفادة
من التطورات العالمية المواتية التي بدأت قسماتها تتضح في أعقاب احتلال
العراق والصحوة الروسية والتقدم الصيني المطرد. ويعني هذا انه ما لم تحدث
تحولات داخلية مواتية في النظام العربي، فإن التطورات العالمية باتجاه
العودة الى تعددية القيادة في النظام العالمي لن يكون لها أثر يذكر في
مسيرة نهضته، والامر نفسه ينطبق على نحو أفضل ما حققه من انجازات في صراعه
مع الكيان الصهيوني، والقواسم المشتركة مع الثورة الايرانية والسياسة
التركية والبلدان الافريقية، غير أن هذا النظام ظل غير قادر على إيجاد
المعادلة الصحيحة في مجمل علاقاته الاقليمية.
الاتحاد الاشتراكي
29/4/2010
المشروع النهضوي العربي في التبلور منذ عام 1988 في أعقاب انتهاء مركز
دراسات الوحدة العربية من إنجاز مشروعه العلمي الكبير الذي حمل اسم: مشروع
استشراف مستقبل الوطن العربي (الذي أصدر المركز دراساته الجزئية
والتركيبية) وطرحت توصياته - في جملة ما طرحت - الحاجة الى مشروع نهضوي
(1).
وقد أدرج المركز ضمن مخططه العلمي الموضوعات والقضايا التي تمثل مادة
المشروع النهضوي كمسائل فكرية ذات أولوية في برامج النشر والندوات من أجل
توفير مادة علمية يبنى عليها لبلورة رؤية نهضوية. في هذه الاثناء، كلف
المركز بعض اصدقائه الباحثين بتقديم مقترحات حول تصور المشروع ومخططه،
وتوصل الى مجموعة منها عرضت على مناقشات داخلية في عام 1996 وفي ماي 1997
عقد المركز حلقة نقاشية في القاهرة حضرها عدد من الباحثين العرب تدارست
على مدى يومين مخطط المشروع الأولي، وادخلت عليه تعديلات، كما وضعت المخطط
الاولي لندوة المشروع الحضاري النهضوي العربي.
وقد عقد المركز هذه الندوة في فاس في عام 2001، وشارك فيها ما يزيد عن
المئة باحث من التيارات الفكرية كافة، تناولت بحوثها ومناقشاتها - على
مدار اربعة ايام - القضايا النهضوية الست التي تشكل اهداف المشروع وهي:
الوحدة العربية، والديمقراطية، والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية،
والاستقلال الوطني والقومي، والتجدد الحضاري، ونشر المركز الوقائع الكاملة
للندوة ضمن كتاب صدر عنه في نهاية العام نفسه (2)، وشكل المركز، عقب
الندوة مباشرة، لجنة صياغة مخطط المشروع في ضوء بحوث الندوة ومناقشاتها،
وقد عقدت اجتماعها التمهيدي التشاوري في فاس. وكلف المركز باحثين بإعداد
مقترحات لمخطط المشروع لعرضه على اللجنة في اجتماع قادم. وقد عقد الاجتماع
هذا في لبنان في يوليوز 2001، وتناول خلال يومين من المداولات - مواد
المخطط الأولي بالدرس والتدقيق، منتهيا الى اقرار صيغة شبه نهائية له، ما
لبث المركز أن أقرها في صيغة نهائية في غشت 2001 مشكلا فريقا لتحرير فصوله
من اعضاء لجنة الصياغة.
وقد أعدت اللجنة الأوراق الثماني الخلفية لنص المشروع، في ضوء حصيلة ندوة
فاس ومرفقات أخرى من مواد مرجعية للاستعانة بها لهذا الغرض. ثم سمي المركز
أحد اعضاء لجنة الصياغة منسقا، وكلفه في صيف عام 2004 بتحرير المسودة
الاولى لنص المشروع اعتمادا الى اوراق وبحوثه الخلفية ومادة ندوة فاس. و
بعد انجاز المسودة الاولى، دعا المركز الى عقد اجتماع للجنة الصياغة في
القاهرة (يوليوز 2005) لمناقشة المسودة حضره خمسة عشر عضوا من اعضائها
الثمانية عشر، وبعد يومين من المناقشة أحيلت الملاحظات الى منسق التحرير
قصد ادخال التعديلات اللازمة على النص. ثم دعيت لجنة الصياغة الى الاجتماع
ثانية في القاهرة في يوليوز 2006 لمناقشة المسودة الثانية. غير ان العدوان
الصهيوني على لبنان في حرب يوليوز 2006 واغلاق المطار والحصار الذي ضرب
على لبنان حال دون سفر خمسة من اعضائها الى القاهرة، مما اضطر الى تأجيله
لينعقد في شكل ندوة موسعة في بيروت في نونبر 2006، دعي الى المشاركة فيها
باحثون من خارج لجنة الصياغة. ثم ادخل منسق التحرير ثانية التعديلات على
مسودة النص لتعرض المسودة الثالثة بعد ذلك باشهر على المؤتمر القومي
العربي (2007) وترسل الى عدد كبير من الشخصيات الفكرية والسياسية العربية
لإبداء الرأي فيها، وتنشر على الموقع الالكتروني للمركز لعموم القراء
العرب، للغاية نفسها.
وبعد أن تجمعت حصيلة وفيرة من تعليقات لجان المؤتمر القومي العربي، وآراء
المفكرين والباحثين والخبراء، كلف احد اعضاء لجنة الصياغة بإدخال
التعديلات الواجبة على المشروع ليصير إلى مسودته الرابعة، وعقب ذلك عقدت
لجنة الصياغة اجتماعا نهائيا في بيروت في 2009 لإبداء الرأي في المسودة
لإدخال آخر تعديلات عليها.
لقد حرص مركز دراسات الوحدة العربية، منذ بداية عمله في هذا المشروع، على
مشاركة التيارات الفكرية كافة في انجازه (من قوميين واسلاميين ويساريين
وليبراليين) حتى يأتي ممثلا نظرة الاطياف الفكرية والسياسية كافة بحسبانه
مشروعا للأمة جمعاء لا لفريق منها دون آخر. ولقد كان الجميع مشاركا في
المراحل كافة: من اعداد المقترحات والتصورات، الى فرق العمل التي ناقشت
المخطط واقرته، الى الباحثين والمشاركين في ندوة فاس، الى اعضاء لجنة
الصياغة وفريق التحرير. وهاهو المركز يطرح المشروع النهضوي العربي في
صورته النهائية على الامة، واثقا من انه سوف يكون دافعا قويا لنضالها من
أجل تجسيد اهدافه الستة في الواقع العربي، وناظما فعالا لهذا النضال.
مركز دراسات الوحدة العربية
ثانيا: السياق العالمي
والإقليمي للتدهور
1 ـ على الصعيد العالمي
في أعقاب الانتكاسة التي منيت بها محاولة النهوض العربي في خمسينيات القرن
الماضي وستينياته بفعل العدوان الاسرائيلي في 1967 بدا، لوهلة، أن النظام
العالمي باق على نموذجه السائد في ذلك الحين، بل لقد بدا في عقد
السبعينيات أن القوة الأمريكية آخذة في التراجع بفعل الهزيمة العسكرية
القاسية في فيتنام وفقدان مواقع مهمة للتأثير والنفوذ، كما حدث بعد نجاح
الثورة الإيرانية في 1979، غير أن السياسة الهجومية للإدارة الأمريكية
اليمينية الجديدة منذ مطلع الثمانينيات استطاعت أن تستعيد تدريجياً القدرة
الأمريكية على التأثير في الساحة العالمية، وذلك في الوقت الذي بدأت فيه
عوامل الوهن الداخلي في الاتحاد السوفياتي تحدث آثارها في كيان القوة
العظمى الثانية في قيادة النظام العالمي. وعندما تولى غورباتشوف قيادة
الاتحاد السوفياتي في 1985 راهن كثير من المحللين على قدرته على وقف تراجع
القوة السوفياتية، غير أن خيوط اللعبة أفلتت تماماً من يديه (إذا استبعدنا
ما يصرّ عليه البعض من أنه كان شريكاً في مؤامرة على الاتحاد السوفياتي)،
وانتهى الأمر باختفاء الاتحاد السوفياتي من خريطة العالم في دجنبر 1991،
وحلول خمس عشرة جمهورية مستقلة محله، هي كل ما كان الكيان السوفياتي يضمّه
من جمهوريات فيدرالية. ولقد ورثت روسيا القوة النووية السوفياتية ومعظم
عناصر القوة في الكيان المتفكّك، غير أن استسلامها التام للمعسكر
الرأسمالي، في ظل رئاسة يلتسين، أفقدها أي تأثير أو نفوذ بالمعايير
العالمية، وساعد ذلك، دون شك، على بلورة وضع عالمي جديد تمثلت أهم معالمه
في بروز القيادة الأمريكية الأحادية للنظام العالمي، وفقدت الدول المتوسطة
والصغرى بذلك عالم القطبية الثنائية الذي وفّر لمن يملك الإرادة منها
قدراً من حرية الحركة في الساحة الدولية، وأصبح عليها إما أن تقنع
بالتبعية المطلقة للولايات المتحدة، أو تحاول الحفاظ على استقلالها، أو
على الأقل على قدر منه في ظل ظروف عالمية بالغة التعقيد، تهدد بضرب كل من
يتجاسر على تحدي الإرادة الأمريكية. وكان للدول العربية بطبيعة الحال
نصيبها الخاص من هذه التداعيات السلبية بسبب ضخامة المصالح الأمريكية في
الوطن العربي، وعلى رأسها المصالح النفطية.
ولقد ساد في حينه جدل داخل الوطن العربي وخارجه حول طبيعة تلك التحولات،
وانقسمت الآراء في هذا الصدد، فرأى فريق أنها قد أفضت إلى نظام عالمي جديد
أحادي القطبية، سوف يُقدر له أن يسود التفاعلات الدولية لمرحلة كاملة من
مراحل تطور العلاقات الدولية، وذلك بالنظر الى التفوق الواضح للقوة
الأمريكية، ووجود مشروع متبلور لقيادة العالم لدى نخبتها الحاكمة، والسلوك
الأمريكي التدخلي في القضايا الدولية الذي يجعل هذه القيادة أمراً واقعاً.
غير أن فريقا آخر رأى في هذه التحولات وضعاً مؤقتاً، لأن ثمة تنامياً
متزيداً لأقطاب عالمية جديدة لعل الصين أبرزها، ولأن المشروع الأمريكي
لقيادة العالم القائم على الهيمنة هو في حد ذاته مصدر تآكل للقطبية
الأحادية بقدر الممانعة الدولية له، ولأن السلوك الأمريكي في الشؤون
الدولية أحدث من الارتباك والفوضى أكثر مما أوجد من التماسك والاستقرار.
مع ذلك، فإن الفريقين لم يختلفا على أن اللحظة كانت تشير إلى انفراد
أمريكي ظاهر بمقاليد القرار في الشؤون العالمية. وفي تلك الظروف، وقع
احتلال العراق في 2003، وبدا لوهلة أن الولايات المتحدة تشقّ طريقها بثبات
نحو تحقيق الهيمنة على الوطن العربي. غير أن المقاومة العراقية والأوضاع
الاقتصادية المتدهورة في الولايات المتحدة أوقفت تقدم المشروع الأمريكي،
وبدأت عوامل عالمية أخرى في التبلور على النحو الذي يؤيد وجهة النظر التي
تنبأت بعودة قيادة النظام العالمي الى نموذج التعددية، فواصلت القوة
الصينية تقدمها بثبات، واستعادت روسيا الاتحادية في ظل قيادة بوتين مقومات
قوتها العسكرية، وتجاوزت محنتها الاقتصادية، وبدأت في تبني سياسة تعكس
مصالحها الوطنية، بما أفضى إليه ذلك من تعقيدات في العلاقة بينها وبين
الولايات المتحدة بصفة خاصة. يضاف إلى ذلك، عودة اليسار إلى السلطة في
بلدان أمريكا اللاتينية، عبر صناديق الاقتراع. وإذ رفعت هذه العودة العزلة
عن كوبا وفنزويلا، أذنت بتحجيم النفوذ الأمريكي في القارة اللاتينية التي
كانت حديقة شبه خلفية لذلك النفوذ، وبكسر حلقة الإطباق الأمريكي على مصائر
شعوب وبلدان العالم الثالث، وتوسعة رقعة الممانعة الدولية للسياسات
العدوانية الأمريكية في العالم.
ولاشك أن مجيء الادارة الأمريكية الجديدة في مطلع 2009، وخطابها السياسي
التصالحي، وبعض مبادراتها تجاه بعض الخصوم، قد أفضى إلى تراجع التوتر في
عدد من الساحات التي شهدت أقصى درجات العدوانية الأمريكية في عهد الرئيس
الأمريكي جورج بوش الإبن. ومع ذلك، فإن إمعان النظر يظهر أن المحصلة
النهائية لهذه التطورات لم تمس جوهر السياسات الأمريكية، ناهيك عن التمسك
بالتصعيد في أفغانستان، الأمر الذي يؤكد من جديد أن مفتاح التغيير إلى
الأفضل بيد العرب وحدهم.
ولا يمكن أن يكتمل تحليل السياق العالمي دون الإشارة إلى التغيرات الكبرى
التي حدثت في بنية المجتمع العالمي، التي تبلورت في ظاهرة العولمة، التي
أصبحت تؤثر بشكل مباشر في سياسات الدول في كافة المجالات. وبناء على ذلك،
يمكن القول إن صانع القرار القطري قد فقد حرية الحركة النسبية التي كانت
له قبل بزوغ عصر العولمة، الذي ساد على وجه الخصوص بعد تفكك الاتحاد
السوفياتي.
وإذا كان صحيحاً أن العولمة الراهنة تكشف عن ذروة من ذرى تطور النظام الرأسمالي العالمي، فإن التاريخ سيتجاوز هذه اللحظة،
وسيكشف المستقبل المنظور عن أن العولمة ستتجاوز شروط نشأتها لتصبح عملية
عالمية واسعة المدى، ستنقل الإنسانية كلها إلى آفاق عليا من التطور الفكري
والعلمي والتكنولوجي والسياسي والاجتماعي. وبعبارة أخرى، ستحدث آثارا
إيجابية لم تكن متصورة لدى من صمموا عملية العولمة، بل ستتجاوز هذه الآثار
مخططاتهم التي كانت تهدف إلي الهيمنة والسيطرة على النظام العالمي، وسيثبت
التاريخ أنه لن يتاح لدولة واحدة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، أو حتى
لمجموعة من الدول، أن تهيمن هيمنة كاملة على العالم اقتصاديا وسياسيا
وتكنولوجيا وعلميا، وإلا حكمنا على شعوب الأرض جميعا بالعقم وعدم الفاعلية.
وفي هذا الإطار، ثمة حاجة ملحة إلى منهج صحيح للتعامل مع ظاهرة العولمة
بكل أبعادها، فالعولمة عملية تاريخية غير قابلة للارتداد، وبذلك يعد منطقا
متهافتا ما يدعو إليه البعض من ضرورة محاربتها، لاستحالة الوقوف أمام نهر
متدفق، هو عبارة عن حصاد تقدم إنساني، تم عبر القرون الماضية، وأسهمت فيه
شعوب وحضارات شتى، وإنما الأجدى هو تحليل تأثيرات العولمة في الوطن
العربي، وما تفرضه من تحديات، يتعين علينا العمل على التوصل إلى السبل
المثلى لمواجهتها.
لاشك أن للعولمة تجليات اقتصادية وثقافية يمكن في سياقها تحليل تلك
التأثيرات. فبالنسبة الى التجليات الاقتصادية للعولمة تتضح معالمها في
تزايد الاعتماد المتبادل بين اقتصادات الدول على مستوى العالم، ووحدة
الأسواق المالية والنقدية، وفتح الحدود أمام التجارة الحرة بلاقيود، إلا
أن أبرز رمز معاصر للعولمة الاقتصادية يظل تأسيس منظمة التجارة العالمية.
وإذا كانت غالبية الدول العربية قد وافقت على المعاهدة الخاصة بإنشاء هذه
المنظمة التي أخذت على عاتقها فتح الحدود لحرية التجارة، وإزالة كافة
القيود وأنماط الدعم التي تفضلها بعض الدول، فإن أخطر ما يرتبط بها أنه
بعد نهاية فترة السماح التي أعطيت لبعض الدول، سوف يفتح المجال واسعا
عريضا أمام حقبة التنافس بغير قيود، ويفترض التنافس العالمي أن كافة
الدول، غنيّها وفقيرها، ستكون على قدم المساواة، ومن هنا ينبغي أن تلتفت
الدول العربية الى أهمية الارتقاء الى مستوى المنافسة العالمية.
ويخطئ صناع القرار العرب لو ظنوا أن تحديات عصر المنافسة العالمية هي
تحديات اقتصادية بحتة تتصل بزيادة الصادرات أو رفع معدل الإنتاج، أو
الارتقاء بمستوى الجودة. ذلك أن أخطر التحديات في هذا المجال بالذات هو
التحدي الثقافي، وهنا تتعين الإشارة، على وجه الخصوص، إلى الارتفاع الخطير
في معدلات الأمية في الوطن العربي، التي تصل في بعض التقديرات إلى 20%،
وهو ما يعني أن 20% من الشعب العربي لن يكونوا قادرين على التعامل بكفاءة
مع عصر الثورة العلمية والتكنولوجية، ومع حقبة ثورة الاتصالات الكبرى،
ونشوء مجتمع المعلومات العالمي. وهكذا يمكن القول إن الوطن العربي يحتاج
الى ثورة تعليمية كاملة لا تقضي على الأمية فحسب، وإنما تعيد بناء مؤسسات
التعليم العام من حيث الشكل والمضمون، وترفع مستوى الأداء في المؤسسة
الجامعية وفي المراكز البحثية.
أما بالنسبة الى التجليات السياسية للعولمة ، فإنه يمكن القول إنها تتركز
في رفع شعارات الديمقراطية أو التعددية الفكرية والسياسية، واحترام حقوق
الإنسان. وفي مواجهة كل شعار من هذه الشعارات، تجابه الدول العربية جميعا
تحديات خطيرة، فقد قطعت بعض الدول العربية خطوات في طريق الانتقال من
السلطوية إلى الديمقراطية والتعددية السياسية، إلا أن هذه التعددية
السياسية ما زالت مقيدة، كما أن عددا لا بأس به من الدول العربية لم يخط
الخطوة الأولى في طريق الديمقراطية. ومن المشكلات المثارة في هذا المجال
ما يطرح حول: أي نظرية ديمقراطية يمكن تطبيقها في الوطن العربي؟ فهناك
أنصار الديمقراطية الغربية الذين يرون ضرورة تطبيقها بحذافيرها، وهناك
معارضون لهذا التوجه يدافعون عن الخصوصية الثقافية في هذا المجال، ويرفعون
شعار الشورى في مواجهة الديمقراطية الغربية، أو يطالبون بتأسيس ديمقراطية
عربية تتفق مع الظروف السياسية والاقتصادية والثقافية للمجتمع العربي.
أما حقوق الإنسان، فهي تمثل تحديات للممارسات السياسية في كثير من أقطار
الوطن العربي، لأن بعض الدول العربية لا يريد أن يطبق المعايير الدولية
لحقوق الإنسان، زعما بأنها تتعارض مع سمات الخصوصية الثقافية. وعلى الدول
العربية أن تستعد لخوض حرب شرسة في هذا المجال مع الهيئات الدولية
والمنظمات غير الحكومية التي تضغط لتطبيق المعايير العالمية لحقوق الإنسان.
ويمكن القول إن من أخطرتحديات العولمة السياسية ما برز في ميدان العلاقات
الدولية، فقد أصبح حق التدخل يفرض فرضا على بعض الدول أساسا من خلال تحكم
الولايات المتحدة وسيطرتها على مجلس الأمن الدولي. وهكذا، وإعمالا لهذا
الحق الذي يستند - كما يقال - إلى الشرعية الدولية حوصرت شعوب عربية
لأسباب مختلفة. ويعتبر حق التدخل من أخطر التحديات الجديدة التي تواجه
الوطن العربي وهو ما يدعو دوله إلى بذل جهد متصل في مجالين:
أولهما، تعديل الأوضاع التي أدت إلى فرض هذه العقوبات تعديلا جذريا، بحيث تنتهي العوامل المرتبطة باستمرار فرضها بشكل واضح.
وثانيهما، جهد سياسي وفكري يقع على عاتق رجال الدبلوماسية والقانون الدولي
والمفكرين، في تقديم مبادرات دولية تناقش على المستوى العالمي لتقنين حق
التدخل، ومنع الازدواجية، خاصة ما يتعلق بإخلاء ساحة اسرائيل في هذا
المجال، وعدم تطبيق أية عقوبات عليها رغم جرائمها اليومية ضد الشعب
الفلسطيني.
وأخيرا، فإن القضية المطروحة في إطار تحليل التجليات الثقافية للعولمة هي
الدعوة إلى بناء ثقافة كونية تتضمن نسقا متكاملا من القيم والمعايير
لفرضها على كافة الشعوب، مما قد يؤثر في الخصوصية الثقافية للشعب العربي.
وهكذا يمكن القول إن تحديات العولمة للوطن العربي متعددة، ومعقدة، وهي -
كما تمت الإشارة - ذات أبعاد سياسية واقتصادية وثقافية، تحتاج إلى جهد
كبير من قبل صناع القرار العربي، والجامعات ومراكز الدراسات العربية
للتعامل معها، لأن الطريق الوحيد أمامنا هو التفاعل الإيجابي الخلاق مع
المتغيرات العالمية الجديدة.
السياق العالمي والإقليمي للتدهور
2- على الصعيد الإقليمي
لاشك أن الكيان الصهيوني قد لعب دوره في التدهور الذي ألم بمحاولة النهضة
العربية، فقد كان هو الأداة التي وجهت الضربة العسكرية إلى الدولة القائدة
لهذه المحاولة في 1967، واستطاع هذا الكيان، على الرغم من الإنجاز العربي
في حرب الاستنزاف عقب عدوان 1967، وحرب 1973، أن يثابر على سياسته
العنصرية التوسعية بسند أمريكي مطلق، وفي هذا الإطار حدث الاختراق
الاسرائيلي الكبير للأمة العربية بتوقيع معاهدة السلام مع مصر في 1979
والأردن في 1994، وما تبع ذلك من هرولة، غير مبررة، من قبل عدد من الدول
العربية باتجاه اسرائيل، الأمر الذي عزز الانقسام العربي بشأن سبل
المواجهة مع إسرائيل. وعلى الرغم من ان المقاومة الفلسطينية والمقاومة
اللبنانية قد حققتا انتصارات لافتة في هذه المواجهة، وبصفة خاصة في العقد
الاول من القرن الحادي والعشرين، فإن غياب ظهير عربي قوي لهما، واستشراء
الانقسام الداخلي بين فصائل المقاومة الفلسطينية قد مثلا قيدا واضحا على
هذه المقاومة.
في السياق الاقليمي ايضا، اخفق النظام العربي في التوصل الى معادلة صحيحة
للعلاقة مع جارتيه الآسيويتين الكبيرتين إيران وتركيا. في البدء كانت
إيران الشاهنشاهية جزءا لايتجزأ من المشروع الامريكي المناهض لآمال الامة
وغاياتها، وعندما نجحت الثورة الايرانية في 1979 تبادلت إيران الادوار مع
عرب المد القومي في ستينيات القرن العشرين. غير أن التشدد القومي الواضح
للثورة الايرانية والتناقض بين مشروعها «الاسلامي» والنظم العربية عامة،
والخليجية خاصة، أوجد احتقانا في العلاقات العربية - الايرانية بلغ ذروته
بانفجار الحرب العراقية - الايرانية (1988/1980) لتكون أطول حرب نظامية
يشهدها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد كان لتلك الحرب أسوأ
الآثار في تدمير مقومات القوة العربية، وتعثر مسيرة الأمة على طريق
التنمية. وبين دور إيراني في العراق مرفوض عربيا، وإمكانات عمل عربي -
إيراني مشترك لمواجهة محاولات الهيمنة الصهيو - أمريكية، مازال النظام
العربي غير قادر على أن يجد المعادلة الصحيحة لعلاقته بإيران على النحو
الذي يعظم القواسم المشتركة، ويحفظ المصالح العربية في آن واحد.
وبالنسبة الى تركيا، فشل النموذج التركي الذي أيده الغرب، وبصفة خاصة
الولايات المتحدة، لتحقيق نهضة اقليمية في الشرق الاوسط، في أن يحصل على
قبول من جانب النخب السياسية في الوطن العربي لأسباب كثيرة، منها العامل
التاريخي، ومنها ايضا طبيعة العلاقة بين تركيا، كدولة أطلنطية، والولايات
المتحدة التي لعبت دورا رئيسيا في وأد مشروع النهضة العربية في خمسينيات
القرض الماضي وستينياته. وتضاف الى ذلك عوامل التوتر في العلاقات العربية
- التركية بخصوص قضايا حيوية كالمياه ولواء الاسكندرونة والعلاقات التركية
- الاسرائيلية، ومع ذلك فإن التطورات الداخلية في تركيا في العقود
الاخيرة، وانكشاف حقيقة الرغبة الغربية في عدم قبول تركيا دولة ناهضة في
مجتمع الدول الغربية المتقدمة، قد ولدا توجهات جديدة في السياسة التركية
تجاه الوطن العربي فتحت آفاقا رحبة لتطوير العلاقات العربية - التركية،
وبصفة خاصة في ضوء التطورات الايجابية في الموقف التركي تجاه الصراع
العربي - الاسرائيلي، وبالذات منذ العدوان الاسرائيلي على غزة (2009/2008).
وعلى صعيد القارة الافريقية، أخفق النظام العربي في تحقيق علاقات تعاونية
مستقرة مع الجانب الافريقي تجعل من الطرفين حليفين في السعي نحو النهضة
والتصدي لمحاولات الهيمنة. كان للنظام العربي في مرحلة المد القومي في
خمسينيات القرن الماضي وستينياته دوره الفاعل في معارك التحرر الافريقية،
غير أن هذا الدور واجه دوما عقبة التغلغل الاسرائيلي في افريقيا. وعلى
الرغم مما بدا ان التعاون العربي - الافريقي قد بلغ ذروته بعقد القمة
العربية - الافريقية في مارس 1977 الا أن الآمال المعقودة على هذا التعاون
سرعان ما انحسرت مع بداية الانقسام العربي حول التسوية مع اسرائيل في
السنة نفسها، ومع تفاقم الانقسام العربي، واستمرار النشاط الاسرائيلي،
ودخول قوى عالمية جديدة على رأسها الولايات المتحدة والصين الى ساحة
التنافس داخل القارة الافريقية، بدا أن الحضور العربي في افريقيا أضعف من
أن يولد تعاضدا عربيا - افريقيا من أجل نهضة شاملة.
ويعني ماسبق ان السياق العالمي والاقليمي لمحاولات النهضة العربية لم يكن
دوما مواتيا أو غير موات، فقد بقي قدر من حرية الحركة في النظام العالمي
عقب هزيمة 1967، لكن النظام العربي لم يحسن استغلاله دوما. وعندما تحولت
قيادة النظام العالمي الى نموذج الاحادية القطبية، واجه النظام العربي
واحدة من أسوأ مراحله، ويكفي ان احتلال العراق قد تم أثناءها، غير أن هذا
النظام بسبب عوامل الضعف الداخلي فيه بدا حتى الآن غير قادر على الاستفادة
من التطورات العالمية المواتية التي بدأت قسماتها تتضح في أعقاب احتلال
العراق والصحوة الروسية والتقدم الصيني المطرد. ويعني هذا انه ما لم تحدث
تحولات داخلية مواتية في النظام العربي، فإن التطورات العالمية باتجاه
العودة الى تعددية القيادة في النظام العالمي لن يكون لها أثر يذكر في
مسيرة نهضته، والامر نفسه ينطبق على نحو أفضل ما حققه من انجازات في صراعه
مع الكيان الصهيوني، والقواسم المشتركة مع الثورة الايرانية والسياسة
التركية والبلدان الافريقية، غير أن هذا النظام ظل غير قادر على إيجاد
المعادلة الصحيحة في مجمل علاقاته الاقليمية.
الاتحاد الاشتراكي
29/4/2010
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: المشروع النهضوي العربي
المشروع النهضوي العربي
الاتحاد الاشتراكي
6/4/2010
بدأت
فكرة المشروع النهضوي العربي في التبلور منذ عام 1988 في أعقاب انتهاء
مركز دراسات الوحدة العربية من إنجاز مشروعه العلمي الكبير الذي حمل اسم:
مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي (الذي أصدر المركز دراساته الجزئية
والتركيبية) وطرحت توصياته - في جملة ما طرحت - الحاجة الى مشروع نهضوي
(1).
وقد أدرج المركز ضمن مخططه العلمي الموضوعات والقضايا التي تمثل مادة
المشروع النهضوي كمسائل فكرية ذات أولوية في برامج النشر والندوات من أجل
توفير مادة علمية يبنى عليها لبلورة رؤية نهضوية. في هذه الاثناء، كلف
المركز بعض اصدقائه الباحثين بتقديم مقترحات حول تصور المشروع ومخططه،
وتوصل الى مجموعة منها عرضت على مناقشات داخلية في عام 1996 وفي ماي 1997
عقد المركز حلقة نقاشية في القاهرة حضرها عدد من الباحثين العرب تدارست
على مدى يومين مخطط المشروع الأولي، وادخلت عليه تعديلات، كما وضعت المخطط
الاولي لندوة المشروع الحضاري النهضوي العربي.
وقد عقد المركز هذه الندوة في فاس في عام 2001، وشارك فيها ما يزيد عن
المئة باحث من التيارات الفكرية كافة، تناولت بحوثها ومناقشاتها - على
مدار اربعة ايام - القضايا النهضوية الست التي تشكل اهداف المشروع وهي:
الوحدة العربية، والديمقراطية، والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية،
والاستقلال الوطني والقومي، والتجدد الحضاري، ونشر المركز الوقائع الكاملة
للندوة ضمن كتاب صدر عنه في نهاية العام نفسه (2)، وشكل المركز، عقب
الندوة مباشرة، لجنة صياغة مخطط المشروع في ضوء بحوث الندوة ومناقشاتها،
وقد عقدت اجتماعها التمهيدي التشاوري في فاس. وكلف المركز باحثين بإعداد
مقترحات لمخطط المشروع لعرضه على اللجنة في اجتماع قادم. وقد عقد الاجتماع
هذا في لبنان في يوليوز 2001، وتناول خلال يومين من المداولات - مواد
المخطط الأولي بالدرس والتدقيق، منتهيا الى اقرار صيغة شبه نهائية له، ما
لبث المركز أن أقرها في صيغة نهائية في غشت 2001 مشكلا فريقا لتحرير فصوله
من اعضاء لجنة الصياغة.
وقد أعدت اللجنة الأوراق الثماني الخلفية لنص المشروع، في ضوء حصيلة ندوة
فاس ومرفقات أخرى من مواد مرجعية للاستعانة بها لهذا الغرض. ثم سمي المركز
أحد اعضاء لجنة الصياغة منسقا، وكلفه في صيف عام 2004 بتحرير المسودة
الاولى لنص المشروع اعتمادا الى اوراق وبحوثه الخلفية ومادة ندوة فاس. و
بعد انجاز المسودة الاولى، دعا المركز الى عقد اجتماع للجنة الصياغة في
القاهرة (يوليوز 2005) لمناقشة المسودة حضره خمسة عشر عضوا من اعضائها
الثمانية عشر، وبعد يومين من المناقشة أحيلت الملاحظات الى منسق التحرير
قصد ادخال التعديلات اللازمة على النص. ثم دعيت لجنة الصياغة الى الاجتماع
ثانية في القاهرة في يوليوز 2006 لمناقشة المسودة الثانية. غير ان العدوان
الصهيوني على لبنان في حرب يوليوز 2006 واغلاق المطار والحصار الذي ضرب
على لبنان حال دون سفر خمسة من اعضائها الى القاهرة، مما اضطر الى تأجيله
لينعقد في شكل ندوة موسعة في بيروت في نونبر 2006، دعي الى المشاركة فيها
باحثون من خارج لجنة الصياغة. ثم ادخل منسق التحرير ثانية التعديلات على
مسودة النص لتعرض المسودة الثالثة بعد ذلك باشهر على المؤتمر القومي
العربي (2007) وترسل الى عدد كبير من الشخصيات الفكرية والسياسية العربية
لإبداء الرأي فيها، وتنشر على الموقع الالكتروني للمركز لعموم القراء
العرب، للغاية نفسها.
وبعد أن تجمعت حصيلة وفيرة من تعليقات لجان المؤتمر القومي العربي، وآراء
المفكرين والباحثين والخبراء، كلف احد اعضاء لجنة الصياغة بإدخال
التعديلات الواجبة على المشروع ليصير إلى مسودته الرابعة، وعقب ذلك عقدت
لجنة الصياغة اجتماعا نهائيا في بيروت في 2009 لإبداء الرأي في المسودة
لإدخال آخر تعديلات عليها.
لقد حرص مركز دراسات الوحدة العربية، منذ بداية عمله في هذا المشروع، على
مشاركة التيارات الفكرية كافة في انجازه (من قوميين واسلاميين ويساريين
وليبراليين) حتى يأتي ممثلا نظرة الاطياف الفكرية والسياسية كافة بحسبانه
مشروعا للأمة جمعاء لا لفريق منها دون آخر. ولقد كان الجميع مشاركا في
المراحل كافة: من اعداد المقترحات والتصورات، الى فرق العمل التي ناقشت
المخطط واقرته، الى الباحثين والمشاركين في ندوة فاس، الى اعضاء لجنة
الصياغة وفريق التحرير. وهاهو المركز يطرح المشروع النهضوي العربي في
صورته النهائية على الامة، واثقا من انه سوف يكون دافعا قويا لنضالها من
أجل تجسيد اهدافه الستة في الواقع العربي، وناظما فعالا لهذا النضال.
الفصل الخامس
التنمية المستقلة
أولا: ضرورة التنمية المستقلة
يعاني الاقتصاد العربي تخلفا
اقتصاديا واجتماعيا وعلميا بكافة المعايير، نتيجة للسياسات الاقتصادية
المطبقة خلال العقود الثلاثة الماضية، من ناحية، ونتيجة علاقات التبعية
التي انتهكت سيادة الدولة القطرية واخضعتها لإملاءات القوى المالية
والاقتصادية الدولية، من ناحية اخرى، وهو ما ترتبت عليه آثار سلبية ضخمة
في نمط تكوين واستخدام الفائض الاقتصادي، وتوجهات تراكم رأس المال، ومن ثم
في مسارات التنمية في المجتمع العربي.
وفضلا عن ذلك، ازداد الاعتماد على النقط ومشتقاته زيادة كبيرة، مما عمق من
الطبيعة الريعية للاقتصاد العربي، لقد تحول الاقتصاد العربي تدريجيا إلى
اقتصاد ريعي يقوم على المضاربات العقارية والمالية، وتراجعت القطاعات
المنتجة الزراعية والصناعية تراجعا ملموسا، وهو ما اسفر عن تزايد الانكشاف
على الخارج الى مستويات خطيرة. كما ادى نمط توزيع الريع وإعادة تدويره في
المجتمع العربي الى مزيد من البطالة والفقر والتهميش الاقتصادي والاجتماعي
لفئات واسعة من سكان الوطن العربي.
وفي ضوء ما تقدم تعتبر «التنمية المستقلة» ضرورة تاريخية لتصحيح المسار
التنموي، حيث انها ترد الاعتبار الى مفهوم الدولة التنموية التي غابت عن
الوطن العربي، وغاب معها دورها الريادي والتوجيهي الضروري للخروج من
التخلف و التبعية. والتنمية المستقلة ضرورة اقتصادية واجتماعية لضبط
اتجاهات التراكم الانتاجي والتطور التكنولوجي في القطاعين العام والخاص من
جهة، ولتأمين عدالة توزيع ثمار النمو الاقتصادي من جهة اخرى. وفضلا عن
ذلك، فإن التنمية المستقلة ضرورة سياسية لحماية القرار الوطني وصيانة
استقلاليته، على الصعيدين القطري والقومي.
وحتى لا ينظر البعض الى مقولة التنمية المستقلة على انها مجرد حنين الى
الماضي، او على انها تشبث بمثاليات لم يعد هناك مجال لتحقيقها في زمن
العولمة، فسوف تلقي فيما يلي المزيد من الاضواء على مفهوم التنمية
المستقلة، وعلى المبادئ التي يجسدها، والركائز التي يقوم عليها، التي يمكن
الاهتداء بها، فيما لو انعقد العزم على تحقيق التنمية المستقلة في الوطن
العربي.
ثانيا: مفهوم التنمية المستقلة
من الخطأ الاعتقاد بأن الحديث عن التنمية المستقلة في عصر العولمة يمثل
ضربا من الخلط النظري، أو نوعا من الحنين غير العقلاني الى عهد مضى، وهذا
الخطأ ناجم عن فرضيتين مغلوطتين عن التنمية المستقلة: اولاهما، افتراض أن
التنمية المستقلة تعني الاكتفاء الذاتي او الانقطاع عن العالم. وهو ما لم
يقبل به احد ممن دافعوا عنها في الماضي وفي الحاضر. وثانيتهما، افتراض أن
ادماج الاقتصادات النامية في السوق العالمي بالشكل المطلق الذي فرضته
القوى الاقتصادية المهيمنة، يمكن ان يؤدي الى تنمية حق. واذ يجانب فهم
الشروع النهضوي العربي للتنمية المستقلة هذين الفهمين الخاطئين لهذا، فإن
المضمون الحقيقي لهذا المفهوم سوف يزداد وضوحا بتناول ثلاث نقاط في غاية
الاهمية، وذلك على النحو التالي:
1 - الاستقلال والاعتماد الذاتي صنوان
إن استقلالية التنمية لا تعني العزلة او القطيعة الكاملة مع العالم
الخارجي، والانكفاء على الذات او «الاكتفاء الذاتي المطلق» فليس هذا من
الامور الممكنة في العالم المعاصر، فضلا عن انه يجافي المنطق الاقتصادي
السليم. وانما جوهر استقلالية التنمية هو توفير اكبر قدر من حرية الفعل
للارادة الوطنية المستندة الى تأييد شعبي حقيقي، في مواجهة عوامل الضغط
التي تفرزها آليات الرأسمالية، وفي مواجهة القيود التي تفرضها المؤسسات
الراعية والحارسة للنظام الرأسمالي العالمي، ومن ثم توافر القدرة على
التعامل مع الأوضاع الخارجية بما يصون المصالح الوطنية.
ان الاستقلال في عالم اليوم هو امر نسبي بالضرورة. والمراد به هو تأمين
مستوى معقول من السيطرة الاجتماعية على شروط تجدد الانتاج و تسخير
العلاقات الخارجية لخدمة مصالح التطور الداخلي، مع استهداف اشباع الحاجات
الاساسية للسكان، وبناء هيكل اقتصادي متطور ذي تشابكات قوية فيما بين
قطاعاته المختلفة.
ولما كان الاستقلال نقيض التبعية والاعتماد على الخارج، فإن استقلالية
التنمية تعني - ضمن ما تعني - ا عتماد التنمية على القوى الذاتية للمجتمع
في المقام الاول. وفي مقدمة هذه القوى القدرات البشرية والمدخرات الوطنية،
وذلك دون استبعاد اللجوء الى الخارج للحصول على معونات او قروض او
استثمارات او تكنولوجيا، وذلك بشروط مؤاتية، ودونما قيود تجور على حرية
الارادة الوطنية، وباعتبارها عوامل ثانوية تكمل الجهد الوطني وتعززه،
ولكنها لا تحل محله ولا تغني عنه.
2- التعامل الصحيح مع العولمة
ان العولمة ليست كتابا مقدسا، اما ان يؤخذ كله، واما ان يترك كله، ذلك ان
تباين مستويات التطور الاقتصادي والاجتماعي للدول يستوجب ان يكون لديها
مجال للانتقاء والاختيار من مكونات العولمة. فتأخذ كل منها ما يتلاءم مع
ظروفها ومستوى تطورها. وليس هناك ما يحول دون تفكيك حزمة العولمة، وافساح
المجال امام الدول النامية لاختيار ما يناسب اوضاعها.
ولقد تعاملت الدول الغنية مع العولمة على أنها حزمة قابلة للتفكيك،
وفككتها فعلا، وانتقت منها ما يوافق مصالحها. ولكنهالا ترغب في اتاحة مثل
هذه الفرصة للدول النامية. بل انها تمارس ضغوطا شتى عليها كي تلتزم
بالتحرير المتعجل والشامل لتجارتها، وكي تلغي الدعم عن صناعاتها الناشئة،
وكي تزيل القيود على دخول الاستثمارات الاجنبية اليها، وتلتزم التزاما
اعمى بجميع اتفاقات منظمة التجارة العالمية، وكي تدخل في مناطق حرة او
شراكات مع الدول المتقدمة. وان الرسالة التي يمكن استخلاصها من تجارب
التنمية الناجحة هي ان على البلد المعني السعي الى تنمية نفسه بنفسه
اعتمادا على قدراته الذاتية، مع الاستفادة المحددة من بعض جوانب العولمة،
مثل التقدم في المعلوماتية والاتصالات، والاستثمار الاجنبي، واسواق المال
الدولية.
3 - المبادئ الناظمة للتنمية المستقلة
ان مفهوم التنمية المستقلة في المشروع النهضوي العربي يستند الى مبادئ خمسة ناظمة تؤسسه و تميزه.
المبدأ الأول، هو تحرير القرار التنموي القطري والقومي من السيطرة
الأجنبية، دون ان يعني ذلك الانقطاع عن افضل منجزات البشرية في العالم
المعاصر، ويتطلب ذلك تعبئة الموارد الذاتية للامة وتنميتها وتوظيفها باقصى
كفاءة ممكنة.
والمبدأ الثاني، هو اعتماد مفهوم واسع للرفاء الانساني- كغاية تنموية -
يتجاوز التعريفات الضيقة المقتصرة على الوفاء بالحاجات المادية للبشر الى
التمتع بالمكونات المعنوية للتنعم الانساني مثل الحرية (حرية الفرد
والمجتمع والوطن)، والمعرفة، والجمال.
والمبدأ الثالث، هو أن المعرفة مصدر أساسي للقيمة في العالم المعاصر، وذلك
بالطبع إلى جانب تراكم الاصول الانتاجية. ولذا، فإن إقامة مجتمع المعرفة
صارت عنصرا من العناصر الجوهرية للتنمية الحقيقية.
والمبدأ الرابع، هو إنشاء نسق مؤسسي فعال موجه نحو التكامل القومي، وصولا
الى ما يمكن تسميته «منطقة مواطنة حرة عربية». ومن المهم هنا التمييز بين
مرحلتين: الاولى مرحلة التنمية التكاملية التي يتولاها كل قطر لتحقيق
تكامل داخله وفيما بين الاقطار، والثانية مرحلة تكامل إنمائي يتولى فيه
الكيان التكاملي تسيير دفة التنمية. وتتوافق المرحلة الاولى مع مرحلة بناء
المشروع النهضوي، بينما تتوافق المرحلة الثانية مع مرحلة تسييره.
والمبدأ الخامس، هو الانفتاح الايجابي على العالم المعاصر، بغرض الاستفادة من أفضل منجزات البشرية، كما سيرد لاحقا.
وانطلاقا من هذه المبادىء تتحدد ركائز المشروع النهضوي للتنمية المستقلة، على النحو الآتي:
ثالثا: ركائز التنمية المستقلة
يقوم بنيان التنمية المستقلة على سبع ركائز أساسية:
الركيزة الاولى: تسليح الاقتصاد بأكبر قدر من قوة الدفع الذاتي وتمكينه من مواجهة الصدمات الخارجية.
تسعى التنمية المستقلة الى بناء أكبر قدر من قوة الدفع في الاقتصاد.
والمقصود بهذا هو أن تكون عمليات التنمية متمركزة حول نفسها. ويقاس ذلك
بقوة علاقات التشابك وعلاقات الترابط الامامية والخلفة في بنية الانتاج في
الاقتصاد العربي، على الصعيدين القطري والقومي. ويمكن تحديد تلك الدرجة من
التماسك للهيكل الانتاجي، من خلال تحديد تلك «النواة» الصلبة التي تشمل
مجموعة السلع والخدمات الرئيسية التي تعتمد عليها أنشطة الاقتصاد العربي
بصفة مباشرة. فبقدر ما تكون تلك النواة متماسكة قطريا وقوميا، بقدر ما
يتمكن الاقتصاد العربي من امتلاك مقومات الاستقلال الذاتي. وبإيجاز فإن
التنمية المستقلة تستدعي انتقال الاقتصاد العربي من الحالة «الربعية»
السائدة حاليا الى الحالة «الانتاجية».
ومن المهم تقوية قدرات الاقتصاد العربي على مقاومة الصدمات الخارجية، وذلك
من خلال وسائل مختلفة، من أبرزها الوسائل الثلاث التالية:
- تخفيض الاعتماد المفرط على الاستيراد السلعي والخدمي، ولاسيما في مجال
الحبوب الغذائية والسلع الوسيطة والرأسمالية، والمعارف الانتاجية،
والخدمات العلمية التكنولوجية. ويجب ان تحظى مسألة تحقيق أكبر قدر من
الامن الغذائي والمائي بأولوية عليا. وفي هذا الصدد يجب ان تتضافر جهود
التنمية من أجل توسيع الاستثمار في قطاع الزراعة بشكل عام، وفي إنتاج
الحبوب بشكل خاص (ولاسيما القمح)، وذلك في الاقطار العربية ذات المزايا
النسبية في زراعة الحبوب، والتعاون في تنفيذ البرامج والمشروعات اللازمة
للوفاء بمتطلبات الامن الغذائي العربي، وتقليص الاعتماد المفرط على
استيراد الحبوب. ويرتبط بذلك تطوير المصادر التقليدية وغير التقليدية
للمياه، سعيا الى تحقيق أكبر قدر من الامن المائي على صعيد الوطن العربي.
- تنويع سلة الصادرات السلعية والخدمية للاقتصاد العربي وتحسين نوعية
المنتجات أيضا، اذ أن تنويع وتطوير سلة الصادرات - بما يقلل من الاعتماد
المفرط على النفط ومشتقاته - يعتبران ضرورة لحماية الاقتصاد العربي من
التقلبات الدورية للنظام الاقتصادي العالمي، والتدهور في «شروط التبادل».
- حصر حجم الدين العام الخارجي - ان كان هناك ما يدعو إليه أصلا - وأعباء
خدمته، في حدود السلامة والامان، وذلك لمقاومة الضغوط الخارجية، ولتفادي
ابتزاز الدائنين لصناع القرارات العربية.
الركيزة الثانية: الاعتماد على الذات ماديا وبشريا
لما كان اعتماد التنمية على القوى الذاتية للمجتمع يعني في الاساس
الاعتماد على القدرات البشرية وعلى المدخرات الوطنية، فإن عناية خاصة
ينبغي ان توجه الى النهوض بهذين العنصرين، وذلك على النحو التالي:
- تقوية رصيد رأس المال البشري
يتطلب هذا العنصر تطوير نظم التعليم والتدريب، على الصعيدين القطري
والعربي، والارتقاء بالتركيب المهاري لقوة العمل العربية، بما يجعل
الاعتماد على الخبرة الاجنبية في أضيق الحدود. ويقتضي ذلك، الشروع في
عملية التعميق التكنولوجي، ودفع «أنشطة البحوث والتطوير»، وتطوير الانتاج
القائم على المعرفة، باعتبارها شروطا ضرورية لإحداث زيادة ملموسة في
مستويات الانتاجية في مختلف فروع النشاط الاقتصادي، وجعل الاقتصاد العربي
أكثر قوة ومتعة، وخاصة على صعيد التنافسية في المستويين الاقليمي والدولي.
وتنطلق نظرة المشروع النهضوي العربي الى دور المعرفة في التنمية المستقلة من توجهات استراتيجية ثلاثة:
- يتمثل التوجه الاول في بناء رأسمال بشري راقي النوعية، عن طريق تعميم
التعليم وإطالة مدته الإلزامية الى عشر سنوات على الاقل، وإحداث نسق مؤسسي
لتعليم الكبار مستمر مدى الحياة، وإدخال وسائل ضمن مراحل التعليم كافة
تكفل الترقية المستمرة لنوعية التعليم. ولاشك في أن ذلك يستوجب ان توفر
البلدان العربية موارد أضخم للتعليم، وأن تزيد من كفاءة استغلالها.
ويتمثل التوجه الثاني في صوغ علاقة تضافر قوية بين التعليم والمنظومة
الاجتماعية والاقتصادية على النحو الذي يترابط فيه التعليم مع التنمية،
ويتحول الى أولوية في عمل الدولة وقطاع الاعمال والمجتمع المدني. غير أنه
من الضروري ان تصاغ العلاقة بين التعليم والمنظومة الاجتماعية والاقتصادية
بحيث لاتقف عند جعل التعليم مطلبا لرفع مستوى الانتاجية، بل تعتبر التعليم
ركنا أساسيا من أركان نوعية راقية للحياة، والإسهام في بناء نهضة حضارية
متجددة.
والتوجه الثالث يتمثل في إقامة برنامج لتطوير التعليم على الصعيد العربي
يقوم على أساس شراكة قوية بين الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني، اذ
أن الحاجة أضحت ماسة اليوم الى قيام سلطة تعليمية فوق - قطرية وفعالة على
الصعيد العربي. وسوف يكون من المهام الاولى لهذه السلطة مواجهة الاختراقات
الاجنبية لمنظومة التعليم التي من خلالها تتوارى اللغة العربية، وتفرض قيم
مجتمعية غريبة نفسها على المجتمعات العربية.
إن هذه التوجهات الاستراتيجية هي عينها التي تحكم الرؤية الى قطاع البحث
العلمي والتقني ودوره المركزي في عملية التنمية، والحاجة الى تطوير هذا
القطاع على الصعيد الوطني، وعلى الصعيد العربي لسد احتياجات الوطن العربي،
والحد من اللجوء إلى استيراد ما يمكن توفيره ذاتيا من خبرة علمية ومن
تقانة.
وربما يمكن سد جانب من العجز الذي يعانيه الوطن العربي في مجال رأس المال
البشري العالي النوعية، وبوجه خاص في قطاع البحث العلمي، فضلا على رؤوس
الاموال، من خلال الاستعانة بالعقول والاموال العربية في الخارج، وهو ما
يقتضي تقوية الاواصر بين الكفاءات المهاجرة وأوطانها، وتنفيذ برامج تحقق
الاستفادة من خبرة هذه الكفاءات حتى مع استمرار عملها في الخارج، ودعم
البلدان العربية لتنظيمات الكفاءات المهاجرة حتى تصبح شكلا مؤسسيا لعلاقة
ذات اتجاهين تقوم بين المهاجرين وأوطانهم. على أن هذه السياسة ينبغي ان
توازيها سياسة أخرى عمادها العمل على الحد من هجرة الكفاءات الى الخارج،
وذلك من خلال تعطيل الآليات التي تؤدي الى نشوء ظاهرة هجرة الكفاءات،
وتوفير المناخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي المناسب الذي يؤمن لها فرص
العمل الكريم ويشجعها على البقاء في أوطانها.
- إحداث زيادة ضخمة في المدخرات الوطنية
ان إحداث زيادة ضخمة في معدل الادخار المحلي شرط لا غنى عنه لاستقلالية
التنمية واطرادها، مهما ترتب عن ذلك من تضحيات ومشاق، ذلك ان التنمية التي
قدر لها الاستمرار والتواصل في الزمن الحديث هي تلك التي قامت على
المدخرات الوطنية وتراكم رأس المال. ولا مجال هذا لتكرار نمط الاستهلاك
الغربي المسرف والمبدد للموارد.
كما أنه من الخطأ تصور أن التنمية يمكن ان تحدث على نطاق يعتد به، اعتمادا
على أن المعونات الاجنبية والاستثمار الاجنبي يمكن ان يحل محل الادخار
المحلي في انجاز التنمية. وفي الحقيقة ان الاستثمار الاجنبي المباشر على
المستوى العالمي، لم يتدفق بغزارة، بشكل عام، إلا على البلدان التي نجحت
في الارتفاع بمعدلات ادخارها المحلية ارتفاعاً كبيراً.
ومن جهة أخرى، وفيما يتعلق برأس المال العربي، والقادم من البلدان العربية
المنتجة للنفط أساساً، فإنه ينبغي تصويب حركته نحو الداخل العربي، والحد
من تدفقه نحو الخارج، ضماناً لحسن الاستفادة منه في عملية التنمية على
المستوى العربي.
الركيزة الثالثة: الدولة التنموية
والتخطيط الشامل
إن خبرات التنمية في العالم المعاصر تشير إلى أن الدولة كان لها دور محوري
في تحريك قوى التنمية، وفي تأمين اطرادها، وأن دور الدولة لا يكون تنموياً
بحق إذا اقتصر على التوجيه والتحفيز، وعلى تهيئة المناخ الاستثماري وتحسين
البنية الأساسية، بل يلزم أن يضاف إلى هذه المهام ثلاث مهام، لا غنى عنها:
المهمة الأولى، السيطرة على الفائض الاقتصادي ومركزته، وذلك من خلال العمل
على ترشيد الاستهلاك والاستيراد بغية رفع معدل الادخار المحلي رفعاً
محسوساً، والسعي إلى تحويل أكبر قدر من الفائض الاقتصادي المحتمل إلى فائض
اقتصادي فعلي.
المهمة الثانية، الاشتراك المباشر للدولة في مجال الإنتاج والاستثمار
الإنتاجي، حيث تقصر السوق والرأسماليات المحلية والاستثمار الأجنبي عن
تنفيذ برنامج متكامل للتصنيع والتنمية الشاملة. واتصالا بهذه المهمة، فإن
التصدي لمشكلات القطاع العام لا يكون بالخصخصة في حد ذاتها، وإنما بتوفير
سبل العلاج الفني والاداري والمالي والتسويقي لهذا القطاع، وبمحاربة
الفساد فيه، وفي المجتمع ككل.
المهمة الثالثة، النهوض بالقدرات العلمية والتكنولوجية الوطنية، وتأمين
تكامل الأنشطة العلمية والتكنولوجية الوطنية مع متطلبات البرنامج المتكامل
للتصنيع والتنمية الشاملة.
وإن أداء هذه المهام لا يستقيم ما لم تحتويها وتنسّق بينها خطة للتنمية
الشاملة. والقول بذلك لا يعني استبعاد آليات السوق كليا، وإنما يعني أن
يُنظر الى التخطيط كأداة أساسية ورئيسية لتوجيه حركة الاقتصاد والمجتمع،
وأن يُنظر الى السوق كأداة مساعدة تعمل في الحدود التي ترسمها الخطة
الشاملة.
وكما يُعهد الى التخطيط بمهمة التوجيه الاقتصادي، دونما استبعاد لقوى
السوق، تفترض التنمية المستقلة أن تتولى الدولة ـ من خلال قطاع عام كفي ـ
عجلة القيادة الاقتصادية الحقيقية، وذلك مع إتاحة المجال لنشاط للقطاع
الخاص الوطني المنتج، الذي تتكامل نشاطاته مع الخطة، لا مع توجهات الشركات
الدولية.
الركيزة الرابعة: عدالة توزيع الدخل والثروة
من المتفق عليه، أنه كلما ازداد تمركز توزيع الدخل والثروة في أدي ألية
مترفة في قمة التوزيع، ساعد ذلك على إضعاف تماسك النسيج الاجتماعي، إذ إن
غياب العدالة في توزيع الدخل والثروة على مدار الزمن يوسّع الهوة بين نخبة
اقتصادية واجتماعية متنفذّة من ناحية، وأغلبية من السكان من الفئات الوسطى
ومحدودة الدخل والقدرة من ناحية أخرى. ولذا، فإن التنمية المستقلة تستوجب
التوزيع العادل للدخل ولثمار النمو، وذلك على النحو المبين في الفصل الخاص
بالعدالة الاجتماعية من هذه الوثيقة.
إن التوزيع العادل للدخل والثروة يشكل قوة مقاومة للأمة في مواجهة المحن
والأزمات، وذلك بفضل ما يتولّد عنه من شعور بالتماسك والتضامن والتكافل.
وعلى العكس من ذلك، فإن التفاوتات الواسعة في توزيع الدخل والثروة تضعف
الانتماء الى الأمة، وتنشر الإحباط، وتزيد من نزيف العقول والمهارات إلى
الخارج.
وفضلا على ما تقدم، فإن لعدالة توزيع الدخل والثروة دور إيجابي مهم في
النمو الاقتصادي، وذلك بفعل ما ينتج عنها من تحسين في القدرات البشرية
والإمكانيات الإنتاجية وإشباع الاحتياجات الاستهلاكية للعاملين في المجتمع.
وثمة أهمية قصوى أيضاً لتضييق الفوارق الاجتماعية من حيث الدخل والثروة،
من منظور تشييد ركيزة أخرى من ركائن التنمية المستقلة، وهي الديمقراطية
التشاركية أو ديمقراطية المشاركة، التي نتناولها في البند التالي:
الركيزة الخامسة: «الديمقراطية التشاركية»، ومكافحة الفساد
ترتبط التنمية المستقلة بمسألة التحول الديمقراطي في البلدان العربية، بما
له من دلالات إزاء توجهات السلطة العامة. ونشير هنا، بصفة خاصة، إلى ضرورة
تحرير القرار القطري والقومي من السيطرة الأجنبية، مما يستوجب وجود سلطة
سياسية ونخب قيادية في المجتمع ترتبط عضويا بمصالح شعوبها وتطلعاتها.
والمشاركة السياسية للمواطن العربي حق من الحقوق الأساسية للإنسان، التي
تحتل مكانة مرموقة في نهج التنمية المستقلة. كما أن المشاركة الشعبية في
اتخاذ القرارات ومتابعة تنفيذها هي المدخل الصحيح الى توليد الطاقة
المعنوية والروحية التي لا تتحقق التنمية في غيابها. والحق أن المشاركة
الفعالة يجب أن تتجاوز «الديمقراطية التمثيلية» التي تقوم على علاقة غير
مباشرة بين المواطنين والدولة من خلال المجالس المنتخبة، إلى «الديمقراطية
التشاركية» التي تضيف الى التمثيل النيابي، روابط أكثر مباشرة بين
المواطنين والدولة، مثلا من خلال إتاحة فرص مشاركة المواطنين في مجالس
إدارة المرافق العامة ووحدات الإنتاج.
إن الديمقراطية التشاركية هي صمام الأمان ضد الفساد، وهي الوسيلة الناجعة
لمكافحته. ولعله من المستقر الآن، أن استشراء الفساد وتغلغله في دوائر
الحكم والأعمال في الوطن العربي، يُضعفان فرص استقلالية القرار على
المستويين القطري والقومي. كما أنه يؤدي الى ضعف المناحة المجتمعية
وتآكلها. ولذا، فلابد من تقوية آليات المكاشفة والرقابة والمساءلة، حتى
يمكن كشف الفساد وتصفية جيوبه قبل أن يستفحل، حماية لمسيرة التنمية
المستقلة.
الركيزة السادسة: الانفتاح الإيجابي وضبط العلاقات الاقتصادية مع الخارج
على خلاف ما يذهب إليه أنصار العولمة الرأسمالية والليبرالية الاقتصادية
الجديدة من أن مجرد تحرير التجارة وفتح الاقتصادات وتوجّهها نحو الخارج
يحفز النمو الاقتصادي، يذهب أنصار التنمية المستقلة إلى أن النمو هو قاطرة
التجارة، لا العكس، وأن ما يجذب الاستثمار الأجنبي هو توافر إمكانات
حقيقية للنمو في الاقتصاد الوطني من خلال معدل مرتفع للادخار والاستثمار،
وأن «تحرير» حركة الاقتصاد قبل إحراز تقدم ملموس في بناء الطاقات
الإنتاجية للدولة، وتكوين مزايا تنافسية يعتد بها، يمكن أن يقوّض فرص
التنمية.
وليس معنى هذا أن انفتاح الاقتصاد الوطني على الاقتصاد العالمي مرفوض من
حيث المبدأ، وإنما المقصود هو أن يكون مثل هذا الانفتاح متدرّجاً
وانتقائيا ومحسوباً في كل الأحوال، في ضوء الشوط الذي قطعته كل دولة على
طريق التقدم، وهذا هو «الانفتاح الإيجابي».
الركيزة السابعة: التكامل الاقتصادي العربي والتعاون مع دول الجنوب
تستوجب التحديات المشتركة التي تجبه البلدان العربية وسائر دول الجنوب في
سعيها الى التنمية في الظروف العالمية الراهنة أن تتعاون هذه الدول فيما
بينها الى أقصى حد ممكن. فالقدرة على مواجهة هذه التحديات جماعيا ستكون
أكبر، بلاشك، من قدرة كل دولة منفردة على مواجهتها.
وإذا كان التعاون فيما بين دول الجنوب واجباً، فإن التعاون فيما بين
البلدان العربية أوجب لأسباب كثيرة باتت في حكم البديهيات، من فرط تكرار
الحديث عنها. وحسبنا أن نشير في هذا الصدد إلى الأهمية التنموية للتعاون
والتكامل العربيين. إن حجم الاقتصادات القطرية يشكل قيداً مهما يعوق
إمكانات التنمية المستقلة.
فكلما صغر حجم الاقتصاد القطري، ازدادت صعوبة تحقيق التنمية المستقلة
زيادة قد تصل الى حد الاستحالة، وذلك مهما حسنت أو صدقت النوايا. وهكذا،
فإن هناك حجما أدنى للفضاء الاقتصادي الذي يسمح بتحقيق «وفورات النطاق»
اللازمة لتحقيق مستوى ملموس من التنمية. ولذا، فإن خلق منطقة تكاملية
اقتصادية عربية تعتبر ضرورة اليوم أكثر من أي وقت مضى. فمن خلال هذه
المنطقة يمكن فتح الأسواق القطرية ودمجها، وإقامة صناعات حديثة وأنشطة
خدمية وتكنولوجية متطورة، يكون لها مردود اقتصادي وعائد إنمائي وتكاملي
ملموس. كما أن إنشاء مثل هذه المنطقة يساعد في تطوير إطار عربي للتفاوض مع
الشركات الدولية النشاط والمؤسسات المالية الدولية، من أجل تعظيم المكاسب
وتقليل الخسائر للاقتصاد العربي.
وأخيراً، إن تحقيق شروط الحد الأدنى للحجم يساعد على تشكيل الكتلة الحرجة
الضرورية لتحقيق حد أدنى من مقومات التنمية المستقلة على الصعيد العربي،
الأمر الذي يشكل أساساً موضوعياً لاكتمال عناصر القوة الاقتصادية للأمة
العربية.
فكرة المشروع النهضوي العربي في التبلور منذ عام 1988 في أعقاب انتهاء
مركز دراسات الوحدة العربية من إنجاز مشروعه العلمي الكبير الذي حمل اسم:
مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي (الذي أصدر المركز دراساته الجزئية
والتركيبية) وطرحت توصياته - في جملة ما طرحت - الحاجة الى مشروع نهضوي
(1).
وقد أدرج المركز ضمن مخططه العلمي الموضوعات والقضايا التي تمثل مادة
المشروع النهضوي كمسائل فكرية ذات أولوية في برامج النشر والندوات من أجل
توفير مادة علمية يبنى عليها لبلورة رؤية نهضوية. في هذه الاثناء، كلف
المركز بعض اصدقائه الباحثين بتقديم مقترحات حول تصور المشروع ومخططه،
وتوصل الى مجموعة منها عرضت على مناقشات داخلية في عام 1996 وفي ماي 1997
عقد المركز حلقة نقاشية في القاهرة حضرها عدد من الباحثين العرب تدارست
على مدى يومين مخطط المشروع الأولي، وادخلت عليه تعديلات، كما وضعت المخطط
الاولي لندوة المشروع الحضاري النهضوي العربي.
وقد عقد المركز هذه الندوة في فاس في عام 2001، وشارك فيها ما يزيد عن
المئة باحث من التيارات الفكرية كافة، تناولت بحوثها ومناقشاتها - على
مدار اربعة ايام - القضايا النهضوية الست التي تشكل اهداف المشروع وهي:
الوحدة العربية، والديمقراطية، والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية،
والاستقلال الوطني والقومي، والتجدد الحضاري، ونشر المركز الوقائع الكاملة
للندوة ضمن كتاب صدر عنه في نهاية العام نفسه (2)، وشكل المركز، عقب
الندوة مباشرة، لجنة صياغة مخطط المشروع في ضوء بحوث الندوة ومناقشاتها،
وقد عقدت اجتماعها التمهيدي التشاوري في فاس. وكلف المركز باحثين بإعداد
مقترحات لمخطط المشروع لعرضه على اللجنة في اجتماع قادم. وقد عقد الاجتماع
هذا في لبنان في يوليوز 2001، وتناول خلال يومين من المداولات - مواد
المخطط الأولي بالدرس والتدقيق، منتهيا الى اقرار صيغة شبه نهائية له، ما
لبث المركز أن أقرها في صيغة نهائية في غشت 2001 مشكلا فريقا لتحرير فصوله
من اعضاء لجنة الصياغة.
وقد أعدت اللجنة الأوراق الثماني الخلفية لنص المشروع، في ضوء حصيلة ندوة
فاس ومرفقات أخرى من مواد مرجعية للاستعانة بها لهذا الغرض. ثم سمي المركز
أحد اعضاء لجنة الصياغة منسقا، وكلفه في صيف عام 2004 بتحرير المسودة
الاولى لنص المشروع اعتمادا الى اوراق وبحوثه الخلفية ومادة ندوة فاس. و
بعد انجاز المسودة الاولى، دعا المركز الى عقد اجتماع للجنة الصياغة في
القاهرة (يوليوز 2005) لمناقشة المسودة حضره خمسة عشر عضوا من اعضائها
الثمانية عشر، وبعد يومين من المناقشة أحيلت الملاحظات الى منسق التحرير
قصد ادخال التعديلات اللازمة على النص. ثم دعيت لجنة الصياغة الى الاجتماع
ثانية في القاهرة في يوليوز 2006 لمناقشة المسودة الثانية. غير ان العدوان
الصهيوني على لبنان في حرب يوليوز 2006 واغلاق المطار والحصار الذي ضرب
على لبنان حال دون سفر خمسة من اعضائها الى القاهرة، مما اضطر الى تأجيله
لينعقد في شكل ندوة موسعة في بيروت في نونبر 2006، دعي الى المشاركة فيها
باحثون من خارج لجنة الصياغة. ثم ادخل منسق التحرير ثانية التعديلات على
مسودة النص لتعرض المسودة الثالثة بعد ذلك باشهر على المؤتمر القومي
العربي (2007) وترسل الى عدد كبير من الشخصيات الفكرية والسياسية العربية
لإبداء الرأي فيها، وتنشر على الموقع الالكتروني للمركز لعموم القراء
العرب، للغاية نفسها.
وبعد أن تجمعت حصيلة وفيرة من تعليقات لجان المؤتمر القومي العربي، وآراء
المفكرين والباحثين والخبراء، كلف احد اعضاء لجنة الصياغة بإدخال
التعديلات الواجبة على المشروع ليصير إلى مسودته الرابعة، وعقب ذلك عقدت
لجنة الصياغة اجتماعا نهائيا في بيروت في 2009 لإبداء الرأي في المسودة
لإدخال آخر تعديلات عليها.
لقد حرص مركز دراسات الوحدة العربية، منذ بداية عمله في هذا المشروع، على
مشاركة التيارات الفكرية كافة في انجازه (من قوميين واسلاميين ويساريين
وليبراليين) حتى يأتي ممثلا نظرة الاطياف الفكرية والسياسية كافة بحسبانه
مشروعا للأمة جمعاء لا لفريق منها دون آخر. ولقد كان الجميع مشاركا في
المراحل كافة: من اعداد المقترحات والتصورات، الى فرق العمل التي ناقشت
المخطط واقرته، الى الباحثين والمشاركين في ندوة فاس، الى اعضاء لجنة
الصياغة وفريق التحرير. وهاهو المركز يطرح المشروع النهضوي العربي في
صورته النهائية على الامة، واثقا من انه سوف يكون دافعا قويا لنضالها من
أجل تجسيد اهدافه الستة في الواقع العربي، وناظما فعالا لهذا النضال.
الفصل الخامس
التنمية المستقلة
أولا: ضرورة التنمية المستقلة
يعاني الاقتصاد العربي تخلفا
اقتصاديا واجتماعيا وعلميا بكافة المعايير، نتيجة للسياسات الاقتصادية
المطبقة خلال العقود الثلاثة الماضية، من ناحية، ونتيجة علاقات التبعية
التي انتهكت سيادة الدولة القطرية واخضعتها لإملاءات القوى المالية
والاقتصادية الدولية، من ناحية اخرى، وهو ما ترتبت عليه آثار سلبية ضخمة
في نمط تكوين واستخدام الفائض الاقتصادي، وتوجهات تراكم رأس المال، ومن ثم
في مسارات التنمية في المجتمع العربي.
وفضلا عن ذلك، ازداد الاعتماد على النقط ومشتقاته زيادة كبيرة، مما عمق من
الطبيعة الريعية للاقتصاد العربي، لقد تحول الاقتصاد العربي تدريجيا إلى
اقتصاد ريعي يقوم على المضاربات العقارية والمالية، وتراجعت القطاعات
المنتجة الزراعية والصناعية تراجعا ملموسا، وهو ما اسفر عن تزايد الانكشاف
على الخارج الى مستويات خطيرة. كما ادى نمط توزيع الريع وإعادة تدويره في
المجتمع العربي الى مزيد من البطالة والفقر والتهميش الاقتصادي والاجتماعي
لفئات واسعة من سكان الوطن العربي.
وفي ضوء ما تقدم تعتبر «التنمية المستقلة» ضرورة تاريخية لتصحيح المسار
التنموي، حيث انها ترد الاعتبار الى مفهوم الدولة التنموية التي غابت عن
الوطن العربي، وغاب معها دورها الريادي والتوجيهي الضروري للخروج من
التخلف و التبعية. والتنمية المستقلة ضرورة اقتصادية واجتماعية لضبط
اتجاهات التراكم الانتاجي والتطور التكنولوجي في القطاعين العام والخاص من
جهة، ولتأمين عدالة توزيع ثمار النمو الاقتصادي من جهة اخرى. وفضلا عن
ذلك، فإن التنمية المستقلة ضرورة سياسية لحماية القرار الوطني وصيانة
استقلاليته، على الصعيدين القطري والقومي.
وحتى لا ينظر البعض الى مقولة التنمية المستقلة على انها مجرد حنين الى
الماضي، او على انها تشبث بمثاليات لم يعد هناك مجال لتحقيقها في زمن
العولمة، فسوف تلقي فيما يلي المزيد من الاضواء على مفهوم التنمية
المستقلة، وعلى المبادئ التي يجسدها، والركائز التي يقوم عليها، التي يمكن
الاهتداء بها، فيما لو انعقد العزم على تحقيق التنمية المستقلة في الوطن
العربي.
ثانيا: مفهوم التنمية المستقلة
من الخطأ الاعتقاد بأن الحديث عن التنمية المستقلة في عصر العولمة يمثل
ضربا من الخلط النظري، أو نوعا من الحنين غير العقلاني الى عهد مضى، وهذا
الخطأ ناجم عن فرضيتين مغلوطتين عن التنمية المستقلة: اولاهما، افتراض أن
التنمية المستقلة تعني الاكتفاء الذاتي او الانقطاع عن العالم. وهو ما لم
يقبل به احد ممن دافعوا عنها في الماضي وفي الحاضر. وثانيتهما، افتراض أن
ادماج الاقتصادات النامية في السوق العالمي بالشكل المطلق الذي فرضته
القوى الاقتصادية المهيمنة، يمكن ان يؤدي الى تنمية حق. واذ يجانب فهم
الشروع النهضوي العربي للتنمية المستقلة هذين الفهمين الخاطئين لهذا، فإن
المضمون الحقيقي لهذا المفهوم سوف يزداد وضوحا بتناول ثلاث نقاط في غاية
الاهمية، وذلك على النحو التالي:
1 - الاستقلال والاعتماد الذاتي صنوان
إن استقلالية التنمية لا تعني العزلة او القطيعة الكاملة مع العالم
الخارجي، والانكفاء على الذات او «الاكتفاء الذاتي المطلق» فليس هذا من
الامور الممكنة في العالم المعاصر، فضلا عن انه يجافي المنطق الاقتصادي
السليم. وانما جوهر استقلالية التنمية هو توفير اكبر قدر من حرية الفعل
للارادة الوطنية المستندة الى تأييد شعبي حقيقي، في مواجهة عوامل الضغط
التي تفرزها آليات الرأسمالية، وفي مواجهة القيود التي تفرضها المؤسسات
الراعية والحارسة للنظام الرأسمالي العالمي، ومن ثم توافر القدرة على
التعامل مع الأوضاع الخارجية بما يصون المصالح الوطنية.
ان الاستقلال في عالم اليوم هو امر نسبي بالضرورة. والمراد به هو تأمين
مستوى معقول من السيطرة الاجتماعية على شروط تجدد الانتاج و تسخير
العلاقات الخارجية لخدمة مصالح التطور الداخلي، مع استهداف اشباع الحاجات
الاساسية للسكان، وبناء هيكل اقتصادي متطور ذي تشابكات قوية فيما بين
قطاعاته المختلفة.
ولما كان الاستقلال نقيض التبعية والاعتماد على الخارج، فإن استقلالية
التنمية تعني - ضمن ما تعني - ا عتماد التنمية على القوى الذاتية للمجتمع
في المقام الاول. وفي مقدمة هذه القوى القدرات البشرية والمدخرات الوطنية،
وذلك دون استبعاد اللجوء الى الخارج للحصول على معونات او قروض او
استثمارات او تكنولوجيا، وذلك بشروط مؤاتية، ودونما قيود تجور على حرية
الارادة الوطنية، وباعتبارها عوامل ثانوية تكمل الجهد الوطني وتعززه،
ولكنها لا تحل محله ولا تغني عنه.
2- التعامل الصحيح مع العولمة
ان العولمة ليست كتابا مقدسا، اما ان يؤخذ كله، واما ان يترك كله، ذلك ان
تباين مستويات التطور الاقتصادي والاجتماعي للدول يستوجب ان يكون لديها
مجال للانتقاء والاختيار من مكونات العولمة. فتأخذ كل منها ما يتلاءم مع
ظروفها ومستوى تطورها. وليس هناك ما يحول دون تفكيك حزمة العولمة، وافساح
المجال امام الدول النامية لاختيار ما يناسب اوضاعها.
ولقد تعاملت الدول الغنية مع العولمة على أنها حزمة قابلة للتفكيك،
وفككتها فعلا، وانتقت منها ما يوافق مصالحها. ولكنهالا ترغب في اتاحة مثل
هذه الفرصة للدول النامية. بل انها تمارس ضغوطا شتى عليها كي تلتزم
بالتحرير المتعجل والشامل لتجارتها، وكي تلغي الدعم عن صناعاتها الناشئة،
وكي تزيل القيود على دخول الاستثمارات الاجنبية اليها، وتلتزم التزاما
اعمى بجميع اتفاقات منظمة التجارة العالمية، وكي تدخل في مناطق حرة او
شراكات مع الدول المتقدمة. وان الرسالة التي يمكن استخلاصها من تجارب
التنمية الناجحة هي ان على البلد المعني السعي الى تنمية نفسه بنفسه
اعتمادا على قدراته الذاتية، مع الاستفادة المحددة من بعض جوانب العولمة،
مثل التقدم في المعلوماتية والاتصالات، والاستثمار الاجنبي، واسواق المال
الدولية.
3 - المبادئ الناظمة للتنمية المستقلة
ان مفهوم التنمية المستقلة في المشروع النهضوي العربي يستند الى مبادئ خمسة ناظمة تؤسسه و تميزه.
المبدأ الأول، هو تحرير القرار التنموي القطري والقومي من السيطرة
الأجنبية، دون ان يعني ذلك الانقطاع عن افضل منجزات البشرية في العالم
المعاصر، ويتطلب ذلك تعبئة الموارد الذاتية للامة وتنميتها وتوظيفها باقصى
كفاءة ممكنة.
والمبدأ الثاني، هو اعتماد مفهوم واسع للرفاء الانساني- كغاية تنموية -
يتجاوز التعريفات الضيقة المقتصرة على الوفاء بالحاجات المادية للبشر الى
التمتع بالمكونات المعنوية للتنعم الانساني مثل الحرية (حرية الفرد
والمجتمع والوطن)، والمعرفة، والجمال.
والمبدأ الثالث، هو أن المعرفة مصدر أساسي للقيمة في العالم المعاصر، وذلك
بالطبع إلى جانب تراكم الاصول الانتاجية. ولذا، فإن إقامة مجتمع المعرفة
صارت عنصرا من العناصر الجوهرية للتنمية الحقيقية.
والمبدأ الرابع، هو إنشاء نسق مؤسسي فعال موجه نحو التكامل القومي، وصولا
الى ما يمكن تسميته «منطقة مواطنة حرة عربية». ومن المهم هنا التمييز بين
مرحلتين: الاولى مرحلة التنمية التكاملية التي يتولاها كل قطر لتحقيق
تكامل داخله وفيما بين الاقطار، والثانية مرحلة تكامل إنمائي يتولى فيه
الكيان التكاملي تسيير دفة التنمية. وتتوافق المرحلة الاولى مع مرحلة بناء
المشروع النهضوي، بينما تتوافق المرحلة الثانية مع مرحلة تسييره.
والمبدأ الخامس، هو الانفتاح الايجابي على العالم المعاصر، بغرض الاستفادة من أفضل منجزات البشرية، كما سيرد لاحقا.
وانطلاقا من هذه المبادىء تتحدد ركائز المشروع النهضوي للتنمية المستقلة، على النحو الآتي:
ثالثا: ركائز التنمية المستقلة
يقوم بنيان التنمية المستقلة على سبع ركائز أساسية:
الركيزة الاولى: تسليح الاقتصاد بأكبر قدر من قوة الدفع الذاتي وتمكينه من مواجهة الصدمات الخارجية.
تسعى التنمية المستقلة الى بناء أكبر قدر من قوة الدفع في الاقتصاد.
والمقصود بهذا هو أن تكون عمليات التنمية متمركزة حول نفسها. ويقاس ذلك
بقوة علاقات التشابك وعلاقات الترابط الامامية والخلفة في بنية الانتاج في
الاقتصاد العربي، على الصعيدين القطري والقومي. ويمكن تحديد تلك الدرجة من
التماسك للهيكل الانتاجي، من خلال تحديد تلك «النواة» الصلبة التي تشمل
مجموعة السلع والخدمات الرئيسية التي تعتمد عليها أنشطة الاقتصاد العربي
بصفة مباشرة. فبقدر ما تكون تلك النواة متماسكة قطريا وقوميا، بقدر ما
يتمكن الاقتصاد العربي من امتلاك مقومات الاستقلال الذاتي. وبإيجاز فإن
التنمية المستقلة تستدعي انتقال الاقتصاد العربي من الحالة «الربعية»
السائدة حاليا الى الحالة «الانتاجية».
ومن المهم تقوية قدرات الاقتصاد العربي على مقاومة الصدمات الخارجية، وذلك
من خلال وسائل مختلفة، من أبرزها الوسائل الثلاث التالية:
- تخفيض الاعتماد المفرط على الاستيراد السلعي والخدمي، ولاسيما في مجال
الحبوب الغذائية والسلع الوسيطة والرأسمالية، والمعارف الانتاجية،
والخدمات العلمية التكنولوجية. ويجب ان تحظى مسألة تحقيق أكبر قدر من
الامن الغذائي والمائي بأولوية عليا. وفي هذا الصدد يجب ان تتضافر جهود
التنمية من أجل توسيع الاستثمار في قطاع الزراعة بشكل عام، وفي إنتاج
الحبوب بشكل خاص (ولاسيما القمح)، وذلك في الاقطار العربية ذات المزايا
النسبية في زراعة الحبوب، والتعاون في تنفيذ البرامج والمشروعات اللازمة
للوفاء بمتطلبات الامن الغذائي العربي، وتقليص الاعتماد المفرط على
استيراد الحبوب. ويرتبط بذلك تطوير المصادر التقليدية وغير التقليدية
للمياه، سعيا الى تحقيق أكبر قدر من الامن المائي على صعيد الوطن العربي.
- تنويع سلة الصادرات السلعية والخدمية للاقتصاد العربي وتحسين نوعية
المنتجات أيضا، اذ أن تنويع وتطوير سلة الصادرات - بما يقلل من الاعتماد
المفرط على النفط ومشتقاته - يعتبران ضرورة لحماية الاقتصاد العربي من
التقلبات الدورية للنظام الاقتصادي العالمي، والتدهور في «شروط التبادل».
- حصر حجم الدين العام الخارجي - ان كان هناك ما يدعو إليه أصلا - وأعباء
خدمته، في حدود السلامة والامان، وذلك لمقاومة الضغوط الخارجية، ولتفادي
ابتزاز الدائنين لصناع القرارات العربية.
الركيزة الثانية: الاعتماد على الذات ماديا وبشريا
لما كان اعتماد التنمية على القوى الذاتية للمجتمع يعني في الاساس
الاعتماد على القدرات البشرية وعلى المدخرات الوطنية، فإن عناية خاصة
ينبغي ان توجه الى النهوض بهذين العنصرين، وذلك على النحو التالي:
- تقوية رصيد رأس المال البشري
يتطلب هذا العنصر تطوير نظم التعليم والتدريب، على الصعيدين القطري
والعربي، والارتقاء بالتركيب المهاري لقوة العمل العربية، بما يجعل
الاعتماد على الخبرة الاجنبية في أضيق الحدود. ويقتضي ذلك، الشروع في
عملية التعميق التكنولوجي، ودفع «أنشطة البحوث والتطوير»، وتطوير الانتاج
القائم على المعرفة، باعتبارها شروطا ضرورية لإحداث زيادة ملموسة في
مستويات الانتاجية في مختلف فروع النشاط الاقتصادي، وجعل الاقتصاد العربي
أكثر قوة ومتعة، وخاصة على صعيد التنافسية في المستويين الاقليمي والدولي.
وتنطلق نظرة المشروع النهضوي العربي الى دور المعرفة في التنمية المستقلة من توجهات استراتيجية ثلاثة:
- يتمثل التوجه الاول في بناء رأسمال بشري راقي النوعية، عن طريق تعميم
التعليم وإطالة مدته الإلزامية الى عشر سنوات على الاقل، وإحداث نسق مؤسسي
لتعليم الكبار مستمر مدى الحياة، وإدخال وسائل ضمن مراحل التعليم كافة
تكفل الترقية المستمرة لنوعية التعليم. ولاشك في أن ذلك يستوجب ان توفر
البلدان العربية موارد أضخم للتعليم، وأن تزيد من كفاءة استغلالها.
ويتمثل التوجه الثاني في صوغ علاقة تضافر قوية بين التعليم والمنظومة
الاجتماعية والاقتصادية على النحو الذي يترابط فيه التعليم مع التنمية،
ويتحول الى أولوية في عمل الدولة وقطاع الاعمال والمجتمع المدني. غير أنه
من الضروري ان تصاغ العلاقة بين التعليم والمنظومة الاجتماعية والاقتصادية
بحيث لاتقف عند جعل التعليم مطلبا لرفع مستوى الانتاجية، بل تعتبر التعليم
ركنا أساسيا من أركان نوعية راقية للحياة، والإسهام في بناء نهضة حضارية
متجددة.
والتوجه الثالث يتمثل في إقامة برنامج لتطوير التعليم على الصعيد العربي
يقوم على أساس شراكة قوية بين الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني، اذ
أن الحاجة أضحت ماسة اليوم الى قيام سلطة تعليمية فوق - قطرية وفعالة على
الصعيد العربي. وسوف يكون من المهام الاولى لهذه السلطة مواجهة الاختراقات
الاجنبية لمنظومة التعليم التي من خلالها تتوارى اللغة العربية، وتفرض قيم
مجتمعية غريبة نفسها على المجتمعات العربية.
إن هذه التوجهات الاستراتيجية هي عينها التي تحكم الرؤية الى قطاع البحث
العلمي والتقني ودوره المركزي في عملية التنمية، والحاجة الى تطوير هذا
القطاع على الصعيد الوطني، وعلى الصعيد العربي لسد احتياجات الوطن العربي،
والحد من اللجوء إلى استيراد ما يمكن توفيره ذاتيا من خبرة علمية ومن
تقانة.
وربما يمكن سد جانب من العجز الذي يعانيه الوطن العربي في مجال رأس المال
البشري العالي النوعية، وبوجه خاص في قطاع البحث العلمي، فضلا على رؤوس
الاموال، من خلال الاستعانة بالعقول والاموال العربية في الخارج، وهو ما
يقتضي تقوية الاواصر بين الكفاءات المهاجرة وأوطانها، وتنفيذ برامج تحقق
الاستفادة من خبرة هذه الكفاءات حتى مع استمرار عملها في الخارج، ودعم
البلدان العربية لتنظيمات الكفاءات المهاجرة حتى تصبح شكلا مؤسسيا لعلاقة
ذات اتجاهين تقوم بين المهاجرين وأوطانهم. على أن هذه السياسة ينبغي ان
توازيها سياسة أخرى عمادها العمل على الحد من هجرة الكفاءات الى الخارج،
وذلك من خلال تعطيل الآليات التي تؤدي الى نشوء ظاهرة هجرة الكفاءات،
وتوفير المناخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي المناسب الذي يؤمن لها فرص
العمل الكريم ويشجعها على البقاء في أوطانها.
- إحداث زيادة ضخمة في المدخرات الوطنية
ان إحداث زيادة ضخمة في معدل الادخار المحلي شرط لا غنى عنه لاستقلالية
التنمية واطرادها، مهما ترتب عن ذلك من تضحيات ومشاق، ذلك ان التنمية التي
قدر لها الاستمرار والتواصل في الزمن الحديث هي تلك التي قامت على
المدخرات الوطنية وتراكم رأس المال. ولا مجال هذا لتكرار نمط الاستهلاك
الغربي المسرف والمبدد للموارد.
كما أنه من الخطأ تصور أن التنمية يمكن ان تحدث على نطاق يعتد به، اعتمادا
على أن المعونات الاجنبية والاستثمار الاجنبي يمكن ان يحل محل الادخار
المحلي في انجاز التنمية. وفي الحقيقة ان الاستثمار الاجنبي المباشر على
المستوى العالمي، لم يتدفق بغزارة، بشكل عام، إلا على البلدان التي نجحت
في الارتفاع بمعدلات ادخارها المحلية ارتفاعاً كبيراً.
ومن جهة أخرى، وفيما يتعلق برأس المال العربي، والقادم من البلدان العربية
المنتجة للنفط أساساً، فإنه ينبغي تصويب حركته نحو الداخل العربي، والحد
من تدفقه نحو الخارج، ضماناً لحسن الاستفادة منه في عملية التنمية على
المستوى العربي.
الركيزة الثالثة: الدولة التنموية
والتخطيط الشامل
إن خبرات التنمية في العالم المعاصر تشير إلى أن الدولة كان لها دور محوري
في تحريك قوى التنمية، وفي تأمين اطرادها، وأن دور الدولة لا يكون تنموياً
بحق إذا اقتصر على التوجيه والتحفيز، وعلى تهيئة المناخ الاستثماري وتحسين
البنية الأساسية، بل يلزم أن يضاف إلى هذه المهام ثلاث مهام، لا غنى عنها:
المهمة الأولى، السيطرة على الفائض الاقتصادي ومركزته، وذلك من خلال العمل
على ترشيد الاستهلاك والاستيراد بغية رفع معدل الادخار المحلي رفعاً
محسوساً، والسعي إلى تحويل أكبر قدر من الفائض الاقتصادي المحتمل إلى فائض
اقتصادي فعلي.
المهمة الثانية، الاشتراك المباشر للدولة في مجال الإنتاج والاستثمار
الإنتاجي، حيث تقصر السوق والرأسماليات المحلية والاستثمار الأجنبي عن
تنفيذ برنامج متكامل للتصنيع والتنمية الشاملة. واتصالا بهذه المهمة، فإن
التصدي لمشكلات القطاع العام لا يكون بالخصخصة في حد ذاتها، وإنما بتوفير
سبل العلاج الفني والاداري والمالي والتسويقي لهذا القطاع، وبمحاربة
الفساد فيه، وفي المجتمع ككل.
المهمة الثالثة، النهوض بالقدرات العلمية والتكنولوجية الوطنية، وتأمين
تكامل الأنشطة العلمية والتكنولوجية الوطنية مع متطلبات البرنامج المتكامل
للتصنيع والتنمية الشاملة.
وإن أداء هذه المهام لا يستقيم ما لم تحتويها وتنسّق بينها خطة للتنمية
الشاملة. والقول بذلك لا يعني استبعاد آليات السوق كليا، وإنما يعني أن
يُنظر الى التخطيط كأداة أساسية ورئيسية لتوجيه حركة الاقتصاد والمجتمع،
وأن يُنظر الى السوق كأداة مساعدة تعمل في الحدود التي ترسمها الخطة
الشاملة.
وكما يُعهد الى التخطيط بمهمة التوجيه الاقتصادي، دونما استبعاد لقوى
السوق، تفترض التنمية المستقلة أن تتولى الدولة ـ من خلال قطاع عام كفي ـ
عجلة القيادة الاقتصادية الحقيقية، وذلك مع إتاحة المجال لنشاط للقطاع
الخاص الوطني المنتج، الذي تتكامل نشاطاته مع الخطة، لا مع توجهات الشركات
الدولية.
الركيزة الرابعة: عدالة توزيع الدخل والثروة
من المتفق عليه، أنه كلما ازداد تمركز توزيع الدخل والثروة في أدي ألية
مترفة في قمة التوزيع، ساعد ذلك على إضعاف تماسك النسيج الاجتماعي، إذ إن
غياب العدالة في توزيع الدخل والثروة على مدار الزمن يوسّع الهوة بين نخبة
اقتصادية واجتماعية متنفذّة من ناحية، وأغلبية من السكان من الفئات الوسطى
ومحدودة الدخل والقدرة من ناحية أخرى. ولذا، فإن التنمية المستقلة تستوجب
التوزيع العادل للدخل ولثمار النمو، وذلك على النحو المبين في الفصل الخاص
بالعدالة الاجتماعية من هذه الوثيقة.
إن التوزيع العادل للدخل والثروة يشكل قوة مقاومة للأمة في مواجهة المحن
والأزمات، وذلك بفضل ما يتولّد عنه من شعور بالتماسك والتضامن والتكافل.
وعلى العكس من ذلك، فإن التفاوتات الواسعة في توزيع الدخل والثروة تضعف
الانتماء الى الأمة، وتنشر الإحباط، وتزيد من نزيف العقول والمهارات إلى
الخارج.
وفضلا على ما تقدم، فإن لعدالة توزيع الدخل والثروة دور إيجابي مهم في
النمو الاقتصادي، وذلك بفعل ما ينتج عنها من تحسين في القدرات البشرية
والإمكانيات الإنتاجية وإشباع الاحتياجات الاستهلاكية للعاملين في المجتمع.
وثمة أهمية قصوى أيضاً لتضييق الفوارق الاجتماعية من حيث الدخل والثروة،
من منظور تشييد ركيزة أخرى من ركائن التنمية المستقلة، وهي الديمقراطية
التشاركية أو ديمقراطية المشاركة، التي نتناولها في البند التالي:
الركيزة الخامسة: «الديمقراطية التشاركية»، ومكافحة الفساد
ترتبط التنمية المستقلة بمسألة التحول الديمقراطي في البلدان العربية، بما
له من دلالات إزاء توجهات السلطة العامة. ونشير هنا، بصفة خاصة، إلى ضرورة
تحرير القرار القطري والقومي من السيطرة الأجنبية، مما يستوجب وجود سلطة
سياسية ونخب قيادية في المجتمع ترتبط عضويا بمصالح شعوبها وتطلعاتها.
والمشاركة السياسية للمواطن العربي حق من الحقوق الأساسية للإنسان، التي
تحتل مكانة مرموقة في نهج التنمية المستقلة. كما أن المشاركة الشعبية في
اتخاذ القرارات ومتابعة تنفيذها هي المدخل الصحيح الى توليد الطاقة
المعنوية والروحية التي لا تتحقق التنمية في غيابها. والحق أن المشاركة
الفعالة يجب أن تتجاوز «الديمقراطية التمثيلية» التي تقوم على علاقة غير
مباشرة بين المواطنين والدولة من خلال المجالس المنتخبة، إلى «الديمقراطية
التشاركية» التي تضيف الى التمثيل النيابي، روابط أكثر مباشرة بين
المواطنين والدولة، مثلا من خلال إتاحة فرص مشاركة المواطنين في مجالس
إدارة المرافق العامة ووحدات الإنتاج.
إن الديمقراطية التشاركية هي صمام الأمان ضد الفساد، وهي الوسيلة الناجعة
لمكافحته. ولعله من المستقر الآن، أن استشراء الفساد وتغلغله في دوائر
الحكم والأعمال في الوطن العربي، يُضعفان فرص استقلالية القرار على
المستويين القطري والقومي. كما أنه يؤدي الى ضعف المناحة المجتمعية
وتآكلها. ولذا، فلابد من تقوية آليات المكاشفة والرقابة والمساءلة، حتى
يمكن كشف الفساد وتصفية جيوبه قبل أن يستفحل، حماية لمسيرة التنمية
المستقلة.
الركيزة السادسة: الانفتاح الإيجابي وضبط العلاقات الاقتصادية مع الخارج
على خلاف ما يذهب إليه أنصار العولمة الرأسمالية والليبرالية الاقتصادية
الجديدة من أن مجرد تحرير التجارة وفتح الاقتصادات وتوجّهها نحو الخارج
يحفز النمو الاقتصادي، يذهب أنصار التنمية المستقلة إلى أن النمو هو قاطرة
التجارة، لا العكس، وأن ما يجذب الاستثمار الأجنبي هو توافر إمكانات
حقيقية للنمو في الاقتصاد الوطني من خلال معدل مرتفع للادخار والاستثمار،
وأن «تحرير» حركة الاقتصاد قبل إحراز تقدم ملموس في بناء الطاقات
الإنتاجية للدولة، وتكوين مزايا تنافسية يعتد بها، يمكن أن يقوّض فرص
التنمية.
وليس معنى هذا أن انفتاح الاقتصاد الوطني على الاقتصاد العالمي مرفوض من
حيث المبدأ، وإنما المقصود هو أن يكون مثل هذا الانفتاح متدرّجاً
وانتقائيا ومحسوباً في كل الأحوال، في ضوء الشوط الذي قطعته كل دولة على
طريق التقدم، وهذا هو «الانفتاح الإيجابي».
الركيزة السابعة: التكامل الاقتصادي العربي والتعاون مع دول الجنوب
تستوجب التحديات المشتركة التي تجبه البلدان العربية وسائر دول الجنوب في
سعيها الى التنمية في الظروف العالمية الراهنة أن تتعاون هذه الدول فيما
بينها الى أقصى حد ممكن. فالقدرة على مواجهة هذه التحديات جماعيا ستكون
أكبر، بلاشك، من قدرة كل دولة منفردة على مواجهتها.
وإذا كان التعاون فيما بين دول الجنوب واجباً، فإن التعاون فيما بين
البلدان العربية أوجب لأسباب كثيرة باتت في حكم البديهيات، من فرط تكرار
الحديث عنها. وحسبنا أن نشير في هذا الصدد إلى الأهمية التنموية للتعاون
والتكامل العربيين. إن حجم الاقتصادات القطرية يشكل قيداً مهما يعوق
إمكانات التنمية المستقلة.
فكلما صغر حجم الاقتصاد القطري، ازدادت صعوبة تحقيق التنمية المستقلة
زيادة قد تصل الى حد الاستحالة، وذلك مهما حسنت أو صدقت النوايا. وهكذا،
فإن هناك حجما أدنى للفضاء الاقتصادي الذي يسمح بتحقيق «وفورات النطاق»
اللازمة لتحقيق مستوى ملموس من التنمية. ولذا، فإن خلق منطقة تكاملية
اقتصادية عربية تعتبر ضرورة اليوم أكثر من أي وقت مضى. فمن خلال هذه
المنطقة يمكن فتح الأسواق القطرية ودمجها، وإقامة صناعات حديثة وأنشطة
خدمية وتكنولوجية متطورة، يكون لها مردود اقتصادي وعائد إنمائي وتكاملي
ملموس. كما أن إنشاء مثل هذه المنطقة يساعد في تطوير إطار عربي للتفاوض مع
الشركات الدولية النشاط والمؤسسات المالية الدولية، من أجل تعظيم المكاسب
وتقليل الخسائر للاقتصاد العربي.
وأخيراً، إن تحقيق شروط الحد الأدنى للحجم يساعد على تشكيل الكتلة الحرجة
الضرورية لتحقيق حد أدنى من مقومات التنمية المستقلة على الصعيد العربي،
الأمر الذي يشكل أساساً موضوعياً لاكتمال عناصر القوة الاقتصادية للأمة
العربية.
الاتحاد الاشتراكي
6/4/2010
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: المشروع النهضوي العربي
بدأت فكرة
المشروع النهضوي العربي في التبلور منذ عام 1988 في أعقاب انتهاء مركز
دراسات الوحدة العربية من إنجاز مشروعه العلمي الكبير الذي حمل اسم: مشروع
استشراف مستقبل الوطن العربي (الذي أصدر المركز دراساته الجزئية
والتركيبية) وطرحت توصياته - في جملة ما طرحت - الحاجة الى مشروع نهضوي
(1).
وقد أدرج المركز ضمن مخططه العلمي الموضوعات والقضايا التي تمثل مادة
المشروع النهضوي كمسائل فكرية ذات أولوية في برامج النشر والندوات من أجل
توفير مادة علمية يبنى عليها لبلورة رؤية نهضوية. في هذه الاثناء، كلف
المركز بعض اصدقائه الباحثين بتقديم مقترحات حول تصور المشروع ومخططه،
وتوصل الى مجموعة منها عرضت على مناقشات داخلية في عام 1996 وفي ماي 1997
عقد المركز حلقة نقاشية في القاهرة حضرها عدد من الباحثين العرب تدارست
على مدى يومين مخطط المشروع الأولي، وادخلت عليه تعديلات، كما وضعت المخطط
الاولي لندوة المشروع الحضاري النهضوي العربي.
وقد عقد المركز هذه الندوة في فاس في عام 2001، وشارك فيها ما يزيد عن
المئة باحث من التيارات الفكرية كافة، تناولت بحوثها ومناقشاتها - على
مدار اربعة ايام - القضايا النهضوية الست التي تشكل اهداف المشروع وهي:
الوحدة العربية، والديمقراطية، والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية،
والاستقلال الوطني والقومي، والتجدد الحضاري، ونشر المركز الوقائع الكاملة
للندوة ضمن كتاب صدر عنه في نهاية العام نفسه (2)، وشكل المركز، عقب
الندوة مباشرة، لجنة صياغة مخطط المشروع في ضوء بحوث الندوة ومناقشاتها،
وقد عقدت اجتماعها التمهيدي التشاوري في فاس. وكلف المركز باحثين بإعداد
مقترحات لمخطط المشروع لعرضه على اللجنة في اجتماع قادم. وقد عقد الاجتماع
هذا في لبنان في يوليوز 2001، وتناول خلال يومين من المداولات - مواد
المخطط الأولي بالدرس والتدقيق، منتهيا الى اقرار صيغة شبه نهائية له، ما
لبث المركز أن أقرها في صيغة نهائية في غشت 2001 مشكلا فريقا لتحرير فصوله
من اعضاء لجنة الصياغة.
وقد أعدت اللجنة الأوراق الثماني الخلفية لنص المشروع، في ضوء حصيلة ندوة
فاس ومرفقات أخرى من مواد مرجعية للاستعانة بها لهذا الغرض. ثم سمي المركز
أحد اعضاء لجنة الصياغة منسقا، وكلفه في صيف عام 2004 بتحرير المسودة
الاولى لنص المشروع اعتمادا الى اوراق وبحوثه الخلفية ومادة ندوة فاس. و
بعد انجاز المسودة الاولى، دعا المركز الى عقد اجتماع للجنة الصياغة في
القاهرة (يوليوز 2005) لمناقشة المسودة حضره خمسة عشر عضوا من اعضائها
الثمانية عشر، وبعد يومين من المناقشة أحيلت الملاحظات الى منسق التحرير
قصد ادخال التعديلات اللازمة على النص. ثم دعيت لجنة الصياغة الى الاجتماع
ثانية في القاهرة في يوليوز 2006 لمناقشة المسودة الثانية. غير ان العدوان
الصهيوني على لبنان في حرب يوليوز 2006 واغلاق المطار والحصار الذي ضرب
على لبنان حال دون سفر خمسة من اعضائها الى القاهرة، مما اضطر الى تأجيله
لينعقد في شكل ندوة موسعة في بيروت في نونبر 2006، دعي الى المشاركة فيها
باحثون من خارج لجنة الصياغة. ثم ادخل منسق التحرير ثانية التعديلات على
مسودة النص لتعرض المسودة الثالثة بعد ذلك باشهر على المؤتمر القومي
العربي (2007) وترسل الى عدد كبير من الشخصيات الفكرية والسياسية العربية
لإبداء الرأي فيها، وتنشر على الموقع الالكتروني للمركز لعموم القراء
العرب، للغاية نفسها.
وبعد أن تجمعت حصيلة وفيرة من تعليقات لجان المؤتمر القومي العربي، وآراء
المفكرين والباحثين والخبراء، كلف احد اعضاء لجنة الصياغة بإدخال
التعديلات الواجبة على المشروع ليصير إلى مسودته الرابعة، وعقب ذلك عقدت
لجنة الصياغة اجتماعا نهائيا في بيروت في 2009 لإبداء الرأي في المسودة
لإدخال آخر تعديلات عليها.
لقد حرص مركز دراسات الوحدة العربية، منذ بداية عمله في هذا المشروع، على
مشاركة التيارات الفكرية كافة في انجازه (من قوميين واسلاميين ويساريين
وليبراليين) حتى يأتي ممثلا نظرة الاطياف الفكرية والسياسية كافة بحسبانه
مشروعا للأمة جمعاء لا لفريق منها دون آخر. ولقد كان الجميع مشاركا في
المراحل كافة: من اعداد المقترحات والتصورات، الى فرق العمل التي ناقشت
المخطط واقرته، الى الباحثين والمشاركين في ندوة فاس، الى اعضاء لجنة
الصياغة وفريق التحرير. وهاهو المركز يطرح المشروع النهضوي العربي في
صورته النهائية على الامة، واثقا من انه سوف يكون دافعا قويا لنضالها من
أجل تجسيد اهدافه الستة في الواقع العربي، وناظما فعالا لهذا النضال.
الفصل السادس
العدالة الاجتماعية
العدالة الاجتماعية من القيم الانسانية الكبرى، وشددت عليها الثقافة
العربية الاسلامية في العهد الوسيط، وهي ايضا من اهداف النهضة ومن
مقوماتها. فليس لمجتمع ان ينهض من دون ان تكون العدالة الاجتماعية أساسا
للنظام الاجتماعي فيه. وهي كناية عن تكافؤ الفرص في توزيع الدخل والثروة،
ومقاومة كافة اشكال التفاوت الطبقي والاستغلال والفقر والتهميش، وتنمية
علاقات التضامن والتكافل بين ابناء الوطن. وقد توارت العدالة الاجتماعية
مؤخرا في ظل تطبيق النموذج الاقتصادي الليبرالي، واصبحت مطروحة لمجرد
تصحيح اخطائه، فتصبح بذلك حامية لليبرالية ومسكنا للتمرد عليه، ولذلك فمن
الاهمية بمكان أن نتعمق في خصائص النظم التي تفضي الى تراجع العدالة
الاجتماعية والممارسات المجتمعية التي تعزز هذا التراجع كي لا تكون نظرتنا
الى مسألة العدالة الاجتماعية نظرة مثالية.
وفي النظر إلى العدالة الاجتماعية من منظور المشروع النهضوي لابد من بنية
ملائمة لملكية وسائل الانتاج، ومنظومة سياسات يتعين اتباعها، والتفكير في
آليات تسهيل تجسيد العدالة الاجتماعية في الواقع العربي وتعززه.
أولا: ملكية وسائل الانتاج في منظومة العدالة الاجتماعية
لا يمكن للعدالة الاجتماعية، من منظور نهضوي،أن تتحقق الا اذا اعيد للدولة
اعتبارها في الميدان الاقتصادي والاجتماعي، وتدخلها الحاسم في وضع سقوف
لملكية وسائل وادوات الانتاج لاتصال ذلك بالعدالة في تلبية الحقوق
الاجتماعية. وفي هذا الصدد اكد ميثاق العمل الوطني في مصر 1961
«ان سيطرة الشعب على كل ادوات الانتاج لا تستلزم تأميم كل وسائل الانتاج،
ولا تلغي الملكية الخاصة، و لا تمس حق الارث الشرعي المترتب عليها، ويمكن
الوصول إلى ذلك بطريقتين
اولاهما: خلق قطاع عام قوي وقادر يقود التقدم والتحديث في جميع المجالات، ويتحمل المسؤولية الرئيسية في خطة التنمية
وثانيتهما: وجود قطاع خاص وطني يشارك في عملية التنمية في اطار الخطة الشاملة للدولة دون استغلال للعاملين والمستهلكين.
كذلك يجب ان تكون المرافق الرئيسية المساندة لعملية الانتاج، كالسكك
الحديدية والطرق والموانئ والمطارات وطاقات القوى المحركة والسدود، وغيرها
من المرافق العامة، في نطاق الملكية العامة للشعب (اي القطاع العام).
ولذا ينبغي ان توضع سقوف للملكيات الزراعية و العقارية، وحد اقصى لتمركز
رؤوس الاموال الصناعية والتجارية والخدمية الخاصة، وذلك منعا لتكون مراكز
احتكارية في الاقتصاد العربي. على ان يطبق هذا المبدأ بقدر عال من
المرونة، ووفق نوعية النشاط الاقتصادي وطبيعته، دون المساس بالملكية
الخاصة للمشروعات الصغيرة ومتوسطة الحجم. كما ينبغي تحريك تلك السقوف مع
مرور الزمن وكلما دعت الحاجة والتطورات الاقتصادية الى ذلك.
وقد ادى النكوص عن هذه الرؤية في ظل سياسات التكيف الهيكلي التي طبقت في
معظم الاقطار العربية منذ بداية التسعينات الى سلب الشعب حقوقه التي رعتها
الملكية العامة، وتقليص الموارد المخصصة لاغراض الانفاق على الخدمات
الاساسية الذي تستلزمه العدالة الاجتماعية. كما افضى اللهث وراء الاستثمار
الاجنبي المباشر الى تصاعد نسبة الملكية الأجنبية على النحو الذي اضاف الى
قضية العدالة الاجتماعية بعدا وطنيا وقوميا.
ثانيا: منظومة سياسات العدالة الاجتماعية
اذا كان وجود بنية معينة لملكية وسائل الانتاج على النحو السابق بيانه يعد
متطلبا اساسيا للعدالة الاجتماعية، فإن تجسيدها على أرض الواقع غير ممكن
بدون منظومة سياسات، يأتي على رأسها ما يلي:
1 - سياسات الانتاج السلعي الرأسمالي والاستهلاكي بما فيه المنتجات
الثقافية وتسعيرها. وتشمل تحديد دائرة السلع العامة المطلوبة، وذلك بهدف
امداد الجمهور بالسلع والخدمات الاساس، وعلى وجه التحديد: الاحتياجات
الغذائية الاساس والخدمات التعليمية، والخدمات الصحية، والاسكان اللائق،
والمواصلات العامة، و الثقافة والترفيه.
2 - سياسات الاجور والأسعار. وتقوم اساسا على تأمين حق العيش الكريم على
مقتضى مبدأ الخبز مع الكرامة«، ومنه الحق في الحصول على عمل منتج، والحق
في أجر عادل لقوة العمل بما يمنع استغلالها، ويضمن حدا ادنى للاجور يدفع
عنها على الاقل غائلة التضخم. وبالمقابل لابد من سياسات للاسعار في مجال
الاستهلاك الضروري تحقق التناسب في منظومة الاجور والاسعار، وبصفة خاصة
لدى ذوي الدخل المحدود، وتضمن منع استغلال المستهلكين، وتضع حدا لممارسات
التسعير الاحتكاري في فروع النشاط الاقتصادي كافة. و لابد في هذا السياق
من تقوية المالية العامة للدولة بحيث تصبح قادرة على توفير جانب كبير من
السلع الاساسية للطبقات الوسطى ومحدودة الدخل باسعار تتناسب وقدرتها
الشرائية.
3 - إعادة توزيع الدخول في المجتمع العربي من خلال السياسات المالية
والاجتماعية المناسبة بما يحد من الاستقطاب الطبقي فيه. والواقع ان الفجوة
في الدخول في الاقطار العربية قد تفاقمت الى حد بات يهدد الاستقرار
الاجتماعي ومن ثم السياسي، وذلك نتيجة الولوج غير الرشيد في نهج ما يسمى
بسياسات التحرير الاقتصادي والمخصخصة، واستباحة المال العام في غياب
الرقابة الديمقراطية وشيوع الفساد.
ويتطلب العمل على إعادة توزيع الدخل عددا من الإجراءات من أهمها:
أ- إعادة هيكلة النفقات العامة، حيث تقوم هذه بدور هام في اعادة توزيع
الدخل، ولا سيما النفقات التحويلية التي تستمد اهميتها من تأثيرها في
إعادة توزيع الدخل القومي. ويقع في قلب النفقات العامة المطلوبة دعم
الدولة للسلع والخدمات، وخاصة تلك التي يستهلكها السواد الاعظم من
المواطنين.
ب - التدخل لتنظيم العلاقات الايجارية بين الملاك والمستأجرين في الريف
والمدينة بما يضمن تأمين حق السكن في اطار من العدالة والأمان للمستأجرين.
ج - توفير الحقوق التأمينية ضد البطالة، وحوادث العمل، والعجز الكلي او
الجزئي بحسبانها من حقوق الانسان الاساس. وتقوم صناديق التأمين والضمان
الاجتماعي بدور هام في تأمين الانسان ضد مخاطر الحياة والخوف من المستقبل.
ولذا، فان شمول التغطية التأمينية لكافة المخاطر المرتبطة بمجريات الحياة
اليومية من ناحية، ومخاطر المستقبل من ناحية أخرى، يعتبر من اهم عناصر
منظومة العدالة الاجتماعية، التي تشكل الاساس المادي والمعنوي لمفهوم
الأمان الاجتماعي و الانساني.
د - اعادة تكييف السياسات الضريبية بحيث تتجه الى تقليص الفوارق بين
الدخول والثروات في المجتمع العربي، وإلى الحد من الفوارق الطبقية.
ه - احياء دور الحركة التعاونية التي لعبت بشقيها الانتاجي
والاستهلاكي دورا كبيرا في الماضي خاصة في بداية القرن العشرين.
(و) التشديد على ضرورة التزام السياسات التعليمية بضمانة عدالة الفرص امام
المواطنين في مجال التعليم والتوظيف على اختلاف أوضاعهم الاجتماعية
ومواقعهم الطبقية، باعتبار ذلك الالتزام ضرورة لا غنى عنها لضمان الحراك
الاجتماعي على أساس عادل.
(ز) امتداد مفهوم العدالة الاجتماعية لتشمل العدالة على أساس «النوع»،
وذلك بوضع استراتيجية قومية للنهوض بالمرأة العربية في جميع المجالات،
والعمل على تطوير قانون عربي للأسرة يضمن الحقوق الكاملة لكل مكوناتها.
وكذلك امتداد مفهوم العدالة الاجتماعية لتشمل العدالة الاجتماعية لتشمل
العدالة بين أقاليم الدولة، قطرية كانت أم قومية، بما في ذلك «التجمعات
الاقليمية» على النحو الذي يوفر قاعدة للتماسك الاجتماعي والعدالة
الاقليمية.
ثالثا: بعض الآليات لتعزيز العدالة الاجتماعية
لاشك ان البنية المؤاتية لملكية وسائل الانتاج ومنظومة السياسات المتكاملة
التي أشير إليها سلفا سوف تضمن توفير المقومات الاساسية لتحقيق العدالة
الاجتماعية على النحو الذي نبتغيه في المشروع النهضوي العربي. وثمة آليات
تعزيزية يمكن اللجوء إليها في هذا الصدد، منها:
ا- احداث صناديق لمكافحة الفقر على الصعيدين الوطني والقومي، وذلك لمنع
إعادة انتاج الفقر بين الفئات والطبقات والمناطق الفقيرة.
2- تفعيل دور «صناديق الزكاة» و«مؤسسة الوقف»، في إطار المجتمع الاهلي، في
ضوء ما أكدته الخبرة العربية الاسلامية بما يحقق درجة أكبر من الرعاية
والتكافل بين المواطنين، ويعزز دورهما في مواجهة غائلة الحاجة.
الفصل السابع
الاستقلال الوطني والقومي
يعد الوطن العربي أكثر مناطق العالم احتكاكا بالعالم الخارجي، وتأثرا
بالعوامل الخارجية، لعدة أسباب، منها موقعه الجغرافي الذي يتوسط العالم،
ويتحكم في أهم خطوط مواصلاته، ومكانته الثقافية والحضارية باعتباره مهدا
للديانات السماوية الثلاث، ولعدد من أهم الحضارات القديمة، كما لأهميته
الاستراتيجية والاقتصادية كمستودع لأكبر مخزون لاحتياطيات النفط المؤكدة
في العالم. ولقد كانت هذه العوامل والمعطيات تضيف عناصر قوة الى الوطن
العربي، في مراحل صعوده، وتدعم مكانته على المسرح الدولي. لكنها كانت تشكل
ايضا عبئا ثقيلا عليه في مراحل التراجع والانكسار، بمقدار ما تغري القوى
الخارجية بالتدخل فيه او بسط السيطرة عليه وافقاده استقلاله.
لقد كان الاستقلال الوطني والقومي - ومازال - شرطا بديهيا من شروط النهضة،
وركيزة أساسا من ركائزها، اذ لايمكن لأي شعب أن ينهض ويتقدم اذا كان فاقدا
لإرادته، او كانت إرادته مقيدة، كما لايمكنه ان يحمي استقلالية إرادته
وقراره وان لم ينجح في حماية أمنه الوطني او القومي. ولأن أي مشروع للنهضة
هو، في جوهره، مشروع للاستقلال والامن في آن معا، فمن الطبيعي ان يصبح
الامن أحد أهم أهداف المشروع النهضوي العربي.
وللوطن العربي اليوم خصوصية يتعذر في إطارها إحداث فصل كامل بين البعد
الوطني والبعد القومي لقضيتي الاستقلال والامن. ومع ان مفهوم الاستقلال
الوطني يبدو أقرب الى واقع الحالة العربية الراهنة من مفهوم الاستقلال
القومي - لأن الموجود فعلا دول وطنية «مستقلة» او معترف لها بالاستقلالية
من منظور القانون الدولي وليس دولة عربية قومية جامعة ومستقلة - إلا أن
الاستقلال الوطني نفسه مازلا يعاني النقص والانتقاص الشديدين. فإلى جانب
ان مفهوم الاستقلال الوطني يشمل استقلالية القرار الوطني، ويفترض الامن
الاقتصادي والغذائي من مقوماته، وهذا مما ليس متحققا، فإن قسما غير قليل
من البلدان العربية مازالت أراضيه رازحة تحت الاحتلال: كلا او بعضا، وما
زالت سيادته متراوحة بين الفقدان الكامل والفقدان الجزئي والاستباحة
الدائمة! فإلى فلسطين المحتلة منذ عام 1948 من قبل الحركة الصهيونية،
انضاف احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا وحليفاتهما في
2003، بينما ظل الجولان السوري ومزارع شبعا اللبنانية قيد الاحتلال
الصهيوني، وظلت مدينتا سبتة ومليلية والجزر الجعفرية المغربية محتلة منذ
مئات السنين من طرف اسبانيا، وجزر «طنب الكبرى» و«طنب الصغرى» و«أبو موسى
الاماراتية محتلة من قبل إيران منذ سبعينيات القرن الماضي، وخضع جزء من
أراضي الصومال لتدخل إثيوبي مسلح منذ 2006. هذا فضلا على أراض عربية أخرى
تم الاستيلاء عليها ولم تعد الدول العربية المعنية تطالب بها.
ان خطورة مسألة الاستقلال الوطني والقومي، والامن الوطني والقومي
استطرادا، تدفعها الى موقع الاولوية من ضمن أولويات أخرى في المشروع
النهضوي، وتفرض الحاجة الى صوغ استراتيجية عمل شاملة لتناولهما في وجهيها
المترابطين: الاستقلال والامن، لاتصال ذلك بتأمين القاعدة الارتكازية
لتحقيق سائر عناصر المشروع النهضوي العربي وأهدافه الاخرى. وتتزايد الحاجة
الى هذه الاستراتيجية في ضوء الخبرة التاريخية التي أثبتت أنه كلما أخفق
الوطن العربي في صناعة أمنه القومي وحماية استقلال إرادته وقراره، اخفق في
صون أمنه وحماية اراضيه وسيادته من الاطماع الاجنبية بل من جيوش الغزاة
الزاحفين عليها. وكان فشله في تسوية نزاعاته الداخلية - ومنها النزاعات
الحدودية بين دوله - مدخلا الى تمكين القوى الاجنبية المعادية من التدخل
في شؤونه والنيل من سيادته، كذلك أصبح احتلال هذه القوى المعادية أراضيه،
وبصفة خاصة الاحتلال الصهيوني لفلسطين والاحتلال الامريكي للعراق، مدخلا
الى إعادة تمزيق كياناته الوطنية من خلال دق الاسفين بين الجماعات
المختلفة المكونة للجماعة الوطنية، وتوظيف تمايزاتها الثقافية او الاثنية
في توليد انقسامات سياسية وانتاج فتن طائفية وحروب أهلية ترهن الوطن برمته
لسياسات الدول الاستعمارية وإدارتها.
أولا: استراتيجية الاستقلال الوطني والقومي
يقع ضمن هذه الاستراتيجية تحقيق أهداف خمسة: تحرير الارض من الاحتلال،
مواجهة المشروع الصهيوني، تصفية القواعد العسكرية الاجنبية، مقاومة
الهيمنة الاجنبية، بناء القدرة الاستراتيجية الذاتية.
1- تحرير الأرض العربية
لا يستقيم استقلال وطني أو قومي ولا يكتمل إلا ببسط السيادة على كامل
الأرض العربية وتحريرها من أي احتلال أجنبي. ومن أجل هذا الهدف، يتعين
استخدام كافة الوسائل المتاحة، وفي مقدمتها المقاومة بكل أشكالها
ومستوياتها، لاسيما العسكرية، الشعبية منها والنظامية حيث أمكن.
لقد أثبتت تجارب الأمة السابقة والمعاصرة سلامة خيار المقاومة لتحرير
الأرض واستعادة الحقوق، وأكدت أن المقاومة معركة إثر معركة، ومرحلة بعد
مرحل، بدأت تتحول الى عامل حاسم في صيانة الأمن القومي، وإلحاق الهزيمة
بمشاريع أعداء الأمة، الأمر الذي يتطلب انكبابا عربيا شاملا، شعبيا
ورسميا، على دعم المقاومة واحتضان فصائلها ومناضليها، وإبراز أبعادها
الاستراتيجية والسياسية والثقافية والإعلامية والاقتصادية و التربوية،
والسعي الى توحيد فصائلها على مستوى القطر، وعلى مستوى الأمة، من أجل
تعزيز فعاليتها وتسريع إنجازاتها في تحرير الأرض وطرد المحتل.
إن تنامي الاعتماد على المقاومة، سلاحا وخيارا، في مواجهة أعداء الأمة،
يتطلب أيضا من حركات المقاومة تطوير أدائها وخطابها، وتعميق علاقاتها
الوطنية والقومية والدولية، بما يعزز الوحدة على مستوى الأقطار وعلى مستوى
الأمة، ويحول دون استدراجها الى حالات انقسامية أو ممارسات فئوية تبعدها
عن هدفها الرئيسي.
2- تصفية القواعد العسكرية الأجنبية
إن وجود أية قاعدة عسكرية أجنبية علي أية بقعة من الأرض العربية مظهر خطير
من مظاهر فقدان الأمن والاستقلال والسيادة. وقد ناضلت الحركة القومية
العربية، في سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، من أجل تصفية
القواعد الأجنبية وإلغاء التسهيلات العسكرية الممنوحة لقوى أو لأحلاف
خارجية. ولقد أتت هذه القواعد تطل برأسها من جديد على منطقتنا بعد
التحولات التي طرأت في النظامين العالمي والإقليمي منذ انهيار الاتحاد
السوفياتي والحرب الأطلسية على العراق في مطالع التسعينيات من القرن
الماضي. واليوم، تعج أجزاء كثيرة من الوطن العربي بقواعد وتسهيلات عسكرية
أصبحت تتجاوز مجرد فرض القيد على القرار والإرادة والاستقلال إلى تهديد
أمن الوطن العربي وسلامته.
إن تصفية هذه القواعد، وإلغاء هذه الامتيازات والتسهيلات العسكرية
الممنوحة للقوات الأجنبية، تقع في مقدمة الأهداف التي على حركة النضال
العربي، المسترشدة بالرؤية النهضوية الشاملة، العمل من أجل تحقيقها صونا
لأمن الوطن وسلامة أبنائه، وحماية لإرادته واستقلالية قراره. وإن نجاح قوى
المشروع النهضوي العربي في تصفية هذه القواعد سيرتبط - من ضمن ما سيرتبط
به - بمدى نجاحها في استيلاد آليات فعالة لتسوية المنازعات العربية -
العربية بالوسائل السلمية من جهة، وإيجاد نظام فعال للأمن الجماعي القومي
يدرأ التهديدات الخارجية، ويدفع الأخطار المحدقة بالوطن العربي.
3- مواجهة المشروع الصهيوني
بات يتعبن على الأمة العربية ونخبها وقواها الحية أن تستعيد إدراكها
لخطورة المشروع الصهيوني على مستقبل الوطن العربي ومصيره - وضمنه مستقبل
فلسطين ومصيرها - و أن تطلق برنامجا قوميا لمواجهة طويلة الأمد، مرتكزا
إلى العناصر والأسس التالية:
1- تعزيز وحدة الشعب الفلسطيني وتمسكه بأرضه وحقوقه كاملة، وتقديم الدعم
المادي والسياسي له عبر إحداث صندوق خاص لهذا الغرض يفي بسائر احتياجاته
الحياتية والمدنية، ويرفع عنه ضائقة الحاجة والفقر والتهميش، ويضمن
للاجئين من أبنائه في البلدان العربية حقوقهم المدنية والسياسية كافة، مع
التمسك برفض مبدأ التوطين باعتباره آلية لتصفية حق العودة.
ب- التشديد على إفلاس نهج التسوية مع اسرائيل، وتقديم الدعم والإسناد
للمقاومة وللمؤسسات الوطنية في فلسطين، ورعاية حوار دائم بينها من أجل
تعزيز الوحدة الوطنيةووحدة قوى المقاومة، وتطوير منظمة التحرير
الفلسطينية، بما يواكب التغير في الخريطة السياسية الفلسطينية.
ج- التمسك العربي بالثوابت القومية المتمثلة في عدم التفريط بأي حق من
حقوق الأمة العربية في فلسطين، وفي عدم الاعتراف بشرعية الكيان الصهيوني،
أو التنازل له، أو عقد اتفاقات معه،و التمسك بمبدأ مقاطعته اقتصاديا
ومقاطعة المؤسسات المتعاملة معه.
د- الضغط من أجل تفعيل معاهدة الدفاع العربي المشترك، وتبني استراتيجية
دفاعية لمواجهة خطر المشروع الصهيوني تسخر لها - و فيها - كافة الموارد
العسكرية والمالية والسياسية المطلوبة والمناسبة.
هـ- أن يؤخذ بعين الاعتبار في رسم السياسات الخارجية العربية تجاه القوى
الدولية والإقليمية موقفها من الصراع العربي - الصهيوني ومن الحقوق
الوطنية الفلسطينية والحقوق القومية العربية، واستعمال العرب أوراق الضغط
التي في حوزتهم، وبصفة خاصة النفط، والأرصدة المالية لدفع القوى الحليفة
للكيان الصهيوني الى مراجعة مواقف الانحياز لديها.
4- مقاومة الهيمنة الأجنبية بأشكالها كافة
ولقد زادت وطأة هذه الهيمنة بعد زوال الحرب الباردة وانهيار التوازن
الدولي وانفراد القطب الواحد الأمريكي بإدارة شؤون العالم، ثم بانهمار
وقائع العولمة وما في جوفها من تحولات باعدت الفجوة بين الأقوياء
والمستضعفين في العالم .وإذا كان دفع تحديات الهيمنة والعولمة يحتاج إلى
ترتيب الداخل العربي من خلال إجراء الإصلاحات السياسية والاقتصادية
والاجتماعية المطلوبة، قصد التكيف مع عالم أصبح ينهض فيه العلم والتقانة
والمعلومات بدور حاسم في تشكيل معايير القوة ومحدداتها ومؤشراتها، وقصد كف
الأشكال المختلفة من الاستباحة التي يتعرض لها الوطن العربي للاستيلاء على
موارده وثرواته أو لمصادرة حرية قراره وفرض شروط أو صفقات غير متكافئة
عليه. فإن نهوضه بأمر مواجهة تلك التحديات قد يتجاوز قدرته وإمكانياته
الذاتية وحده، إن لم ينخرط في علاقات من التعاون والتنسيق مع كافة الأمم
والدول والقوى المتضررة من فعل قوى الهيمنة العالمية، والمناهضة للعولمة
المجحفة أو المطالبة بعولمة أكثر إنسانية، والداعية إلى قيام نظام عالمي
متعدد ومتوازن القوى والمصالح.
5- بناء القدرة الاستراتيجية الذاتية
إن الوطن العربي لا يملك حماية استقلاله وأمنه ومكتسباته دون حيازة قدرة
استراتيجية ذاتية: دفاعية وتنموية وعلمية وتقانية، يتحصن بها الاستقلال
والأمن. إنه في حاجة إلى انتهاج استراتيجية تستهدف الاستخدام الأمثل
للموارد والقدرات المتاحة بشكل منهجي ومدروس وتجنيدها في سياسات تنموية
قادرة على توفير أجوبة للحاجات الاقتصادية الاجتماعية للوطن والمواطنين.
وهو في حاجة إلى تنمية علمية يتغذى منها المجال المعرفي وتتغذى منها
التنمية الاقتصادية،وهو في حاجة إلى إعادة توطين التقانة وصولا إلى
انتاجها. ثم إنه في حاجة إلى تطوير منظومته الدفاعية بتطوير البحث العلمي
في المجال الدفاع وبناء صناعة عسكرية عربية مشتركة متقدمة وعصرية لتحرير
القرار الدفاعي العربي من شروط وإملاءات القوى المتحكمة في سوق السلاح.
وليس في وسع أية دولة عربية بمفردها أن تنهض بذلك لأن مواردها المحدودة لا
تسمح به. وعليه، لا مناص من إطلاق استراتيجية قومية عربية للتنمية تعتمد
التكامل والاندماج من أجل تعظيم القوة وبلوغ هدف حيازة القدرة
الاستراتيجية الذاتية.
ولكي تضمن استراتيجية حماية الاستقلال الوطني والأمن القومي العربي النجاح
في مواجهة التحديات والضغوط الخارجية، وبصفة خاصة الصهيونية والأمريكية،
لا محيد لها عن أن تكون جزءا من استراتيجية ممانعة كونية بين القوى
المتضررة من الهيمنة الأمريكية على مصير العالم، والرافضة لتلك الهيمنة،
في أفق تصحيح حال الخلل القائمة في التوازن الدولي، وإصلاح مؤسسات الأمم
المتحدة على مقتضى العدالة والديمقراطية والمشاركة المتوازنة في صناعة
القرار، وبما يضمن مصالح الإنسانية جمعاء، وخاصة شعوب «العالم الثالث»، من
أجل بناء نظام عالمي جديد حقا للأمن والسلم التعاون والفرص المتكافئة.
ولاشك أن القوى التي تجمعنا بها قواسم حضارية مشتركة تأتي في مقدمة القوى
المؤهلة، لأن تكون حليفة للعرب في مسعاهم من أجل بناء هذه الاستراتيجية.
ثانيا: استراتيجية الأمن الوطني والقومي
إن نقطة الانطلاق في تصحيح وضعية الاستباحة للأمن العربي بشقيه الوطني
والقومي تكمن في صياغة مفهوم عربي مشترك يستند إلى المصلحة القومية، ويضع
المصالح القطرية في اعتباره، مع التشديد على أن هذه المصالح لا يجب أن
تشكل أدنى تهديد للأمن العربي ككل.
1 ـ استراتيجية الرّدع
وتقوم على مبدأ تنمية المقومات والعناصر اللازمة لردع العدو عن القيام بأي
عمل عسكري ضد أية بقعة من بقاع الوطن العربي. وهذا يتطلب بناء منظومة
دفاعية من قوات بحرية وجوية وبرية عصرية مجهزة بأحدث المعدات ومدرَّبة على
أحدث فنون القتال وبأعداد كبيرة، ومن نظام معلومات ورصد واستخبار عسكري
متطور. ومن دون قيام صناعة عسكرية عربية متقدمة تلبي احتياجات الجيوش،
سيظل استيراد السلاح قيداً على استراتيجية الردع، كما أنه من دون حيازة
قوة ردع استراتيجية مثل السلاح النووي ـ إذا ما تعذر إخلاء منطقة الشرق
الأوسط من الأسلحة النووية ـ لن يكون في وسع الوطن العربي رد الأخطار التي
تُحدق بأمنه واستقلاله. وهذا ما أدركته، في السابق، دول مثل الصين والهند
وباكستان وكوريا الشمالية، فكان حافزاً لها على الانصراف الى إقامة صناعة
عسكرية تلبي احتياجاتها، وإلى بناء منظومة ردع نووي تقيها الأخطار
الخارجية.
2 ـ مواجهة التهديدات غير العسكرية
وفي مقدمتها الأطماع الغربية التي لم تتوقف منذ اتفاقية سايكس ـ بيكو، تلك
التي قسمت الوطن العربي الى مناطق نفوذ. فقد ظلت الدول الغربية حتى في
مرحلة ما بعد الاستقلال حريصة على ربط الوطن العربي من خلال سلسلة من
المشروعات استهدفت تكريس تجزئته، وضمان استمرار تبعيته، كان آخرها مشروع
الشرق الأوسط الكبير أو الموسع، وغيرها من المشروعات المماثلة، التي
تعاقبت موجاتها خلال الحقب المختلفة. ولن يستطيع الوطن العربي الفكاك من
إسار التبعية ومواجهة محاولات اختراقه من الخارج، إلا إذا تصدى بنجاح لهذه
المشروعات، واتخذ منها موقفاً موحداً، وتبنى منهجا جماعياً في التعامل
معها.
ولأن مصادر تهديد الأمن القومي العربي لا تقتصر على الأطماع الخارجية
واحتمالات غزوه واحتلاله عسكرياً، وإنما تتسع لتشمل مصادر أخرى غير عسكرية
تتعدد أوجهها وأبعادها، فمن الأهمية بمكان أن يتبنى النظام العربي مفهوما
شاملا للأمن يتضمن بالإضافة الى البعد العسكري والسياسي ـ الاستراتيجي،
أبعاداً أخرى تشمل:
أ ـ الأمن الغذائي
حيث يواجه الوطن العربي انكشافاً غذائياً خطيراً بسبب عدم قدرته على تحقيق
الاكتفاء الغذائي في السلع الأساسية، إذ إنه يعاني عجزاً غذائياً أخذ
يتزايد في السنوات الأخيرة على نحو خطير بسبب الزيادة السكانية وعوامل
التصحر وشح المياه وتدهور الإنتاجية الزراعية في عدد من البلدان العربية،
مما يعرضه للرضوخ للضغوط الخارجية، ويهدد استقراره الاجتماعي.
لذا يتعين على الوطن العربي أن يشرع فوراً في وضع المخططات اللازمة لسد
الفجوة الغذائية من خلال زيادة الاستثمارات وتحقيق التكامل في السياسات
الزراعية.
ب ـ الأمن المائي
يواجه العالم وضعاً حرجاً بسبب تناقص الموارد المائية المتاحة واللازمة
لسد احتياجاته المتزايدة، خاصة في مجالات النشاط الإنتاجي كالزراعة
والصناعة وغيرها. ونظراً الى الخلل الشديد في توزيع الموارد المائية
المتاحة على صعيد الوطن العربي تبدو الحاجة ماسة الى بلورة خطط لتنمية
الموارد المائي وترشيد استهلاك المياه وتحقيق التكامل المائي على مستوى
الوطن العربي ككل، وضمان حقوقه المائية التي يكفلها له القانون الدولي
تجاه الدول المحيطة التي تأتي منها النسبة الأكبر من الموارد المائية
السطحية العربية.
ج ـ الأمن البيئي
مع تزايد المخاطر البيئية التي يتعرض لها كوكب الأرض، خاصة بسبب التغيرات
المناخية والارتفاع المستمر في درجة الحرارة وما سيصاحبهما من ظواهر
عديدة، سوف تتعرض مناطق كثيرة داخل الوطن العربي للغرق أو التصحر أو
الجفاف، مما يفرض عليه إنشاء معاهد رصد، وإجراء البحوث اللازمة لدراسة
التأثيرات البيئية والتحسب للمخاطر الناجمة عنها، ووضع الخطط والبرامج
الكفيلة بمواجهة هذه المخاطر وتداعياتها.
د ـ الأمن الاجتماعي
تواجه مناطق كثيرة في الوطن العربي، خاصة في الدول النفطية قليلة السكان،
ظواهر اجتماعية خطيرة، في مقدمتها ظاهرة العمالة الأجنبية الوافدة التي
ازدادت بشكل لافت للنظر خلال السنوات الأخيرة إلى درجة أن نسبة عدد
المواطنين الى الأجانب أصبحت في بعض الأحيان أقل من 5.1 ولا يخفى ما لهذه
الظاهرة من آثار سلبية في الهوية الوطنية والقومية، وفي الاستقرار السياسي
والاجتماعي. ومع التشديد على ضرورة حصول العمالة الوافدة للدول العربية
على حقوقها الاقتصادية والاجتماعية، فإنه يتعين في الوقت نفسه وضع
استراتيجية قومية للعمالة والتوظيف تستهدف، على المدى الطويل، تصحيح الخلل
القائم، والمحافظة على الهويات الوطنية والقومية لمختلف الأقطار العربية.
الاتحاد الاشتراكي
7/5/2010
المشروع النهضوي العربي في التبلور منذ عام 1988 في أعقاب انتهاء مركز
دراسات الوحدة العربية من إنجاز مشروعه العلمي الكبير الذي حمل اسم: مشروع
استشراف مستقبل الوطن العربي (الذي أصدر المركز دراساته الجزئية
والتركيبية) وطرحت توصياته - في جملة ما طرحت - الحاجة الى مشروع نهضوي
(1).
وقد أدرج المركز ضمن مخططه العلمي الموضوعات والقضايا التي تمثل مادة
المشروع النهضوي كمسائل فكرية ذات أولوية في برامج النشر والندوات من أجل
توفير مادة علمية يبنى عليها لبلورة رؤية نهضوية. في هذه الاثناء، كلف
المركز بعض اصدقائه الباحثين بتقديم مقترحات حول تصور المشروع ومخططه،
وتوصل الى مجموعة منها عرضت على مناقشات داخلية في عام 1996 وفي ماي 1997
عقد المركز حلقة نقاشية في القاهرة حضرها عدد من الباحثين العرب تدارست
على مدى يومين مخطط المشروع الأولي، وادخلت عليه تعديلات، كما وضعت المخطط
الاولي لندوة المشروع الحضاري النهضوي العربي.
وقد عقد المركز هذه الندوة في فاس في عام 2001، وشارك فيها ما يزيد عن
المئة باحث من التيارات الفكرية كافة، تناولت بحوثها ومناقشاتها - على
مدار اربعة ايام - القضايا النهضوية الست التي تشكل اهداف المشروع وهي:
الوحدة العربية، والديمقراطية، والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية،
والاستقلال الوطني والقومي، والتجدد الحضاري، ونشر المركز الوقائع الكاملة
للندوة ضمن كتاب صدر عنه في نهاية العام نفسه (2)، وشكل المركز، عقب
الندوة مباشرة، لجنة صياغة مخطط المشروع في ضوء بحوث الندوة ومناقشاتها،
وقد عقدت اجتماعها التمهيدي التشاوري في فاس. وكلف المركز باحثين بإعداد
مقترحات لمخطط المشروع لعرضه على اللجنة في اجتماع قادم. وقد عقد الاجتماع
هذا في لبنان في يوليوز 2001، وتناول خلال يومين من المداولات - مواد
المخطط الأولي بالدرس والتدقيق، منتهيا الى اقرار صيغة شبه نهائية له، ما
لبث المركز أن أقرها في صيغة نهائية في غشت 2001 مشكلا فريقا لتحرير فصوله
من اعضاء لجنة الصياغة.
وقد أعدت اللجنة الأوراق الثماني الخلفية لنص المشروع، في ضوء حصيلة ندوة
فاس ومرفقات أخرى من مواد مرجعية للاستعانة بها لهذا الغرض. ثم سمي المركز
أحد اعضاء لجنة الصياغة منسقا، وكلفه في صيف عام 2004 بتحرير المسودة
الاولى لنص المشروع اعتمادا الى اوراق وبحوثه الخلفية ومادة ندوة فاس. و
بعد انجاز المسودة الاولى، دعا المركز الى عقد اجتماع للجنة الصياغة في
القاهرة (يوليوز 2005) لمناقشة المسودة حضره خمسة عشر عضوا من اعضائها
الثمانية عشر، وبعد يومين من المناقشة أحيلت الملاحظات الى منسق التحرير
قصد ادخال التعديلات اللازمة على النص. ثم دعيت لجنة الصياغة الى الاجتماع
ثانية في القاهرة في يوليوز 2006 لمناقشة المسودة الثانية. غير ان العدوان
الصهيوني على لبنان في حرب يوليوز 2006 واغلاق المطار والحصار الذي ضرب
على لبنان حال دون سفر خمسة من اعضائها الى القاهرة، مما اضطر الى تأجيله
لينعقد في شكل ندوة موسعة في بيروت في نونبر 2006، دعي الى المشاركة فيها
باحثون من خارج لجنة الصياغة. ثم ادخل منسق التحرير ثانية التعديلات على
مسودة النص لتعرض المسودة الثالثة بعد ذلك باشهر على المؤتمر القومي
العربي (2007) وترسل الى عدد كبير من الشخصيات الفكرية والسياسية العربية
لإبداء الرأي فيها، وتنشر على الموقع الالكتروني للمركز لعموم القراء
العرب، للغاية نفسها.
وبعد أن تجمعت حصيلة وفيرة من تعليقات لجان المؤتمر القومي العربي، وآراء
المفكرين والباحثين والخبراء، كلف احد اعضاء لجنة الصياغة بإدخال
التعديلات الواجبة على المشروع ليصير إلى مسودته الرابعة، وعقب ذلك عقدت
لجنة الصياغة اجتماعا نهائيا في بيروت في 2009 لإبداء الرأي في المسودة
لإدخال آخر تعديلات عليها.
لقد حرص مركز دراسات الوحدة العربية، منذ بداية عمله في هذا المشروع، على
مشاركة التيارات الفكرية كافة في انجازه (من قوميين واسلاميين ويساريين
وليبراليين) حتى يأتي ممثلا نظرة الاطياف الفكرية والسياسية كافة بحسبانه
مشروعا للأمة جمعاء لا لفريق منها دون آخر. ولقد كان الجميع مشاركا في
المراحل كافة: من اعداد المقترحات والتصورات، الى فرق العمل التي ناقشت
المخطط واقرته، الى الباحثين والمشاركين في ندوة فاس، الى اعضاء لجنة
الصياغة وفريق التحرير. وهاهو المركز يطرح المشروع النهضوي العربي في
صورته النهائية على الامة، واثقا من انه سوف يكون دافعا قويا لنضالها من
أجل تجسيد اهدافه الستة في الواقع العربي، وناظما فعالا لهذا النضال.
الفصل السادس
العدالة الاجتماعية
العدالة الاجتماعية من القيم الانسانية الكبرى، وشددت عليها الثقافة
العربية الاسلامية في العهد الوسيط، وهي ايضا من اهداف النهضة ومن
مقوماتها. فليس لمجتمع ان ينهض من دون ان تكون العدالة الاجتماعية أساسا
للنظام الاجتماعي فيه. وهي كناية عن تكافؤ الفرص في توزيع الدخل والثروة،
ومقاومة كافة اشكال التفاوت الطبقي والاستغلال والفقر والتهميش، وتنمية
علاقات التضامن والتكافل بين ابناء الوطن. وقد توارت العدالة الاجتماعية
مؤخرا في ظل تطبيق النموذج الاقتصادي الليبرالي، واصبحت مطروحة لمجرد
تصحيح اخطائه، فتصبح بذلك حامية لليبرالية ومسكنا للتمرد عليه، ولذلك فمن
الاهمية بمكان أن نتعمق في خصائص النظم التي تفضي الى تراجع العدالة
الاجتماعية والممارسات المجتمعية التي تعزز هذا التراجع كي لا تكون نظرتنا
الى مسألة العدالة الاجتماعية نظرة مثالية.
وفي النظر إلى العدالة الاجتماعية من منظور المشروع النهضوي لابد من بنية
ملائمة لملكية وسائل الانتاج، ومنظومة سياسات يتعين اتباعها، والتفكير في
آليات تسهيل تجسيد العدالة الاجتماعية في الواقع العربي وتعززه.
أولا: ملكية وسائل الانتاج في منظومة العدالة الاجتماعية
لا يمكن للعدالة الاجتماعية، من منظور نهضوي،أن تتحقق الا اذا اعيد للدولة
اعتبارها في الميدان الاقتصادي والاجتماعي، وتدخلها الحاسم في وضع سقوف
لملكية وسائل وادوات الانتاج لاتصال ذلك بالعدالة في تلبية الحقوق
الاجتماعية. وفي هذا الصدد اكد ميثاق العمل الوطني في مصر 1961
«ان سيطرة الشعب على كل ادوات الانتاج لا تستلزم تأميم كل وسائل الانتاج،
ولا تلغي الملكية الخاصة، و لا تمس حق الارث الشرعي المترتب عليها، ويمكن
الوصول إلى ذلك بطريقتين
اولاهما: خلق قطاع عام قوي وقادر يقود التقدم والتحديث في جميع المجالات، ويتحمل المسؤولية الرئيسية في خطة التنمية
وثانيتهما: وجود قطاع خاص وطني يشارك في عملية التنمية في اطار الخطة الشاملة للدولة دون استغلال للعاملين والمستهلكين.
كذلك يجب ان تكون المرافق الرئيسية المساندة لعملية الانتاج، كالسكك
الحديدية والطرق والموانئ والمطارات وطاقات القوى المحركة والسدود، وغيرها
من المرافق العامة، في نطاق الملكية العامة للشعب (اي القطاع العام).
ولذا ينبغي ان توضع سقوف للملكيات الزراعية و العقارية، وحد اقصى لتمركز
رؤوس الاموال الصناعية والتجارية والخدمية الخاصة، وذلك منعا لتكون مراكز
احتكارية في الاقتصاد العربي. على ان يطبق هذا المبدأ بقدر عال من
المرونة، ووفق نوعية النشاط الاقتصادي وطبيعته، دون المساس بالملكية
الخاصة للمشروعات الصغيرة ومتوسطة الحجم. كما ينبغي تحريك تلك السقوف مع
مرور الزمن وكلما دعت الحاجة والتطورات الاقتصادية الى ذلك.
وقد ادى النكوص عن هذه الرؤية في ظل سياسات التكيف الهيكلي التي طبقت في
معظم الاقطار العربية منذ بداية التسعينات الى سلب الشعب حقوقه التي رعتها
الملكية العامة، وتقليص الموارد المخصصة لاغراض الانفاق على الخدمات
الاساسية الذي تستلزمه العدالة الاجتماعية. كما افضى اللهث وراء الاستثمار
الاجنبي المباشر الى تصاعد نسبة الملكية الأجنبية على النحو الذي اضاف الى
قضية العدالة الاجتماعية بعدا وطنيا وقوميا.
ثانيا: منظومة سياسات العدالة الاجتماعية
اذا كان وجود بنية معينة لملكية وسائل الانتاج على النحو السابق بيانه يعد
متطلبا اساسيا للعدالة الاجتماعية، فإن تجسيدها على أرض الواقع غير ممكن
بدون منظومة سياسات، يأتي على رأسها ما يلي:
1 - سياسات الانتاج السلعي الرأسمالي والاستهلاكي بما فيه المنتجات
الثقافية وتسعيرها. وتشمل تحديد دائرة السلع العامة المطلوبة، وذلك بهدف
امداد الجمهور بالسلع والخدمات الاساس، وعلى وجه التحديد: الاحتياجات
الغذائية الاساس والخدمات التعليمية، والخدمات الصحية، والاسكان اللائق،
والمواصلات العامة، و الثقافة والترفيه.
2 - سياسات الاجور والأسعار. وتقوم اساسا على تأمين حق العيش الكريم على
مقتضى مبدأ الخبز مع الكرامة«، ومنه الحق في الحصول على عمل منتج، والحق
في أجر عادل لقوة العمل بما يمنع استغلالها، ويضمن حدا ادنى للاجور يدفع
عنها على الاقل غائلة التضخم. وبالمقابل لابد من سياسات للاسعار في مجال
الاستهلاك الضروري تحقق التناسب في منظومة الاجور والاسعار، وبصفة خاصة
لدى ذوي الدخل المحدود، وتضمن منع استغلال المستهلكين، وتضع حدا لممارسات
التسعير الاحتكاري في فروع النشاط الاقتصادي كافة. و لابد في هذا السياق
من تقوية المالية العامة للدولة بحيث تصبح قادرة على توفير جانب كبير من
السلع الاساسية للطبقات الوسطى ومحدودة الدخل باسعار تتناسب وقدرتها
الشرائية.
3 - إعادة توزيع الدخول في المجتمع العربي من خلال السياسات المالية
والاجتماعية المناسبة بما يحد من الاستقطاب الطبقي فيه. والواقع ان الفجوة
في الدخول في الاقطار العربية قد تفاقمت الى حد بات يهدد الاستقرار
الاجتماعي ومن ثم السياسي، وذلك نتيجة الولوج غير الرشيد في نهج ما يسمى
بسياسات التحرير الاقتصادي والمخصخصة، واستباحة المال العام في غياب
الرقابة الديمقراطية وشيوع الفساد.
ويتطلب العمل على إعادة توزيع الدخل عددا من الإجراءات من أهمها:
أ- إعادة هيكلة النفقات العامة، حيث تقوم هذه بدور هام في اعادة توزيع
الدخل، ولا سيما النفقات التحويلية التي تستمد اهميتها من تأثيرها في
إعادة توزيع الدخل القومي. ويقع في قلب النفقات العامة المطلوبة دعم
الدولة للسلع والخدمات، وخاصة تلك التي يستهلكها السواد الاعظم من
المواطنين.
ب - التدخل لتنظيم العلاقات الايجارية بين الملاك والمستأجرين في الريف
والمدينة بما يضمن تأمين حق السكن في اطار من العدالة والأمان للمستأجرين.
ج - توفير الحقوق التأمينية ضد البطالة، وحوادث العمل، والعجز الكلي او
الجزئي بحسبانها من حقوق الانسان الاساس. وتقوم صناديق التأمين والضمان
الاجتماعي بدور هام في تأمين الانسان ضد مخاطر الحياة والخوف من المستقبل.
ولذا، فان شمول التغطية التأمينية لكافة المخاطر المرتبطة بمجريات الحياة
اليومية من ناحية، ومخاطر المستقبل من ناحية أخرى، يعتبر من اهم عناصر
منظومة العدالة الاجتماعية، التي تشكل الاساس المادي والمعنوي لمفهوم
الأمان الاجتماعي و الانساني.
د - اعادة تكييف السياسات الضريبية بحيث تتجه الى تقليص الفوارق بين
الدخول والثروات في المجتمع العربي، وإلى الحد من الفوارق الطبقية.
ه - احياء دور الحركة التعاونية التي لعبت بشقيها الانتاجي
والاستهلاكي دورا كبيرا في الماضي خاصة في بداية القرن العشرين.
(و) التشديد على ضرورة التزام السياسات التعليمية بضمانة عدالة الفرص امام
المواطنين في مجال التعليم والتوظيف على اختلاف أوضاعهم الاجتماعية
ومواقعهم الطبقية، باعتبار ذلك الالتزام ضرورة لا غنى عنها لضمان الحراك
الاجتماعي على أساس عادل.
(ز) امتداد مفهوم العدالة الاجتماعية لتشمل العدالة على أساس «النوع»،
وذلك بوضع استراتيجية قومية للنهوض بالمرأة العربية في جميع المجالات،
والعمل على تطوير قانون عربي للأسرة يضمن الحقوق الكاملة لكل مكوناتها.
وكذلك امتداد مفهوم العدالة الاجتماعية لتشمل العدالة الاجتماعية لتشمل
العدالة بين أقاليم الدولة، قطرية كانت أم قومية، بما في ذلك «التجمعات
الاقليمية» على النحو الذي يوفر قاعدة للتماسك الاجتماعي والعدالة
الاقليمية.
ثالثا: بعض الآليات لتعزيز العدالة الاجتماعية
لاشك ان البنية المؤاتية لملكية وسائل الانتاج ومنظومة السياسات المتكاملة
التي أشير إليها سلفا سوف تضمن توفير المقومات الاساسية لتحقيق العدالة
الاجتماعية على النحو الذي نبتغيه في المشروع النهضوي العربي. وثمة آليات
تعزيزية يمكن اللجوء إليها في هذا الصدد، منها:
ا- احداث صناديق لمكافحة الفقر على الصعيدين الوطني والقومي، وذلك لمنع
إعادة انتاج الفقر بين الفئات والطبقات والمناطق الفقيرة.
2- تفعيل دور «صناديق الزكاة» و«مؤسسة الوقف»، في إطار المجتمع الاهلي، في
ضوء ما أكدته الخبرة العربية الاسلامية بما يحقق درجة أكبر من الرعاية
والتكافل بين المواطنين، ويعزز دورهما في مواجهة غائلة الحاجة.
الفصل السابع
الاستقلال الوطني والقومي
يعد الوطن العربي أكثر مناطق العالم احتكاكا بالعالم الخارجي، وتأثرا
بالعوامل الخارجية، لعدة أسباب، منها موقعه الجغرافي الذي يتوسط العالم،
ويتحكم في أهم خطوط مواصلاته، ومكانته الثقافية والحضارية باعتباره مهدا
للديانات السماوية الثلاث، ولعدد من أهم الحضارات القديمة، كما لأهميته
الاستراتيجية والاقتصادية كمستودع لأكبر مخزون لاحتياطيات النفط المؤكدة
في العالم. ولقد كانت هذه العوامل والمعطيات تضيف عناصر قوة الى الوطن
العربي، في مراحل صعوده، وتدعم مكانته على المسرح الدولي. لكنها كانت تشكل
ايضا عبئا ثقيلا عليه في مراحل التراجع والانكسار، بمقدار ما تغري القوى
الخارجية بالتدخل فيه او بسط السيطرة عليه وافقاده استقلاله.
لقد كان الاستقلال الوطني والقومي - ومازال - شرطا بديهيا من شروط النهضة،
وركيزة أساسا من ركائزها، اذ لايمكن لأي شعب أن ينهض ويتقدم اذا كان فاقدا
لإرادته، او كانت إرادته مقيدة، كما لايمكنه ان يحمي استقلالية إرادته
وقراره وان لم ينجح في حماية أمنه الوطني او القومي. ولأن أي مشروع للنهضة
هو، في جوهره، مشروع للاستقلال والامن في آن معا، فمن الطبيعي ان يصبح
الامن أحد أهم أهداف المشروع النهضوي العربي.
وللوطن العربي اليوم خصوصية يتعذر في إطارها إحداث فصل كامل بين البعد
الوطني والبعد القومي لقضيتي الاستقلال والامن. ومع ان مفهوم الاستقلال
الوطني يبدو أقرب الى واقع الحالة العربية الراهنة من مفهوم الاستقلال
القومي - لأن الموجود فعلا دول وطنية «مستقلة» او معترف لها بالاستقلالية
من منظور القانون الدولي وليس دولة عربية قومية جامعة ومستقلة - إلا أن
الاستقلال الوطني نفسه مازلا يعاني النقص والانتقاص الشديدين. فإلى جانب
ان مفهوم الاستقلال الوطني يشمل استقلالية القرار الوطني، ويفترض الامن
الاقتصادي والغذائي من مقوماته، وهذا مما ليس متحققا، فإن قسما غير قليل
من البلدان العربية مازالت أراضيه رازحة تحت الاحتلال: كلا او بعضا، وما
زالت سيادته متراوحة بين الفقدان الكامل والفقدان الجزئي والاستباحة
الدائمة! فإلى فلسطين المحتلة منذ عام 1948 من قبل الحركة الصهيونية،
انضاف احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا وحليفاتهما في
2003، بينما ظل الجولان السوري ومزارع شبعا اللبنانية قيد الاحتلال
الصهيوني، وظلت مدينتا سبتة ومليلية والجزر الجعفرية المغربية محتلة منذ
مئات السنين من طرف اسبانيا، وجزر «طنب الكبرى» و«طنب الصغرى» و«أبو موسى
الاماراتية محتلة من قبل إيران منذ سبعينيات القرن الماضي، وخضع جزء من
أراضي الصومال لتدخل إثيوبي مسلح منذ 2006. هذا فضلا على أراض عربية أخرى
تم الاستيلاء عليها ولم تعد الدول العربية المعنية تطالب بها.
ان خطورة مسألة الاستقلال الوطني والقومي، والامن الوطني والقومي
استطرادا، تدفعها الى موقع الاولوية من ضمن أولويات أخرى في المشروع
النهضوي، وتفرض الحاجة الى صوغ استراتيجية عمل شاملة لتناولهما في وجهيها
المترابطين: الاستقلال والامن، لاتصال ذلك بتأمين القاعدة الارتكازية
لتحقيق سائر عناصر المشروع النهضوي العربي وأهدافه الاخرى. وتتزايد الحاجة
الى هذه الاستراتيجية في ضوء الخبرة التاريخية التي أثبتت أنه كلما أخفق
الوطن العربي في صناعة أمنه القومي وحماية استقلال إرادته وقراره، اخفق في
صون أمنه وحماية اراضيه وسيادته من الاطماع الاجنبية بل من جيوش الغزاة
الزاحفين عليها. وكان فشله في تسوية نزاعاته الداخلية - ومنها النزاعات
الحدودية بين دوله - مدخلا الى تمكين القوى الاجنبية المعادية من التدخل
في شؤونه والنيل من سيادته، كذلك أصبح احتلال هذه القوى المعادية أراضيه،
وبصفة خاصة الاحتلال الصهيوني لفلسطين والاحتلال الامريكي للعراق، مدخلا
الى إعادة تمزيق كياناته الوطنية من خلال دق الاسفين بين الجماعات
المختلفة المكونة للجماعة الوطنية، وتوظيف تمايزاتها الثقافية او الاثنية
في توليد انقسامات سياسية وانتاج فتن طائفية وحروب أهلية ترهن الوطن برمته
لسياسات الدول الاستعمارية وإدارتها.
أولا: استراتيجية الاستقلال الوطني والقومي
يقع ضمن هذه الاستراتيجية تحقيق أهداف خمسة: تحرير الارض من الاحتلال،
مواجهة المشروع الصهيوني، تصفية القواعد العسكرية الاجنبية، مقاومة
الهيمنة الاجنبية، بناء القدرة الاستراتيجية الذاتية.
1- تحرير الأرض العربية
لا يستقيم استقلال وطني أو قومي ولا يكتمل إلا ببسط السيادة على كامل
الأرض العربية وتحريرها من أي احتلال أجنبي. ومن أجل هذا الهدف، يتعين
استخدام كافة الوسائل المتاحة، وفي مقدمتها المقاومة بكل أشكالها
ومستوياتها، لاسيما العسكرية، الشعبية منها والنظامية حيث أمكن.
لقد أثبتت تجارب الأمة السابقة والمعاصرة سلامة خيار المقاومة لتحرير
الأرض واستعادة الحقوق، وأكدت أن المقاومة معركة إثر معركة، ومرحلة بعد
مرحل، بدأت تتحول الى عامل حاسم في صيانة الأمن القومي، وإلحاق الهزيمة
بمشاريع أعداء الأمة، الأمر الذي يتطلب انكبابا عربيا شاملا، شعبيا
ورسميا، على دعم المقاومة واحتضان فصائلها ومناضليها، وإبراز أبعادها
الاستراتيجية والسياسية والثقافية والإعلامية والاقتصادية و التربوية،
والسعي الى توحيد فصائلها على مستوى القطر، وعلى مستوى الأمة، من أجل
تعزيز فعاليتها وتسريع إنجازاتها في تحرير الأرض وطرد المحتل.
إن تنامي الاعتماد على المقاومة، سلاحا وخيارا، في مواجهة أعداء الأمة،
يتطلب أيضا من حركات المقاومة تطوير أدائها وخطابها، وتعميق علاقاتها
الوطنية والقومية والدولية، بما يعزز الوحدة على مستوى الأقطار وعلى مستوى
الأمة، ويحول دون استدراجها الى حالات انقسامية أو ممارسات فئوية تبعدها
عن هدفها الرئيسي.
2- تصفية القواعد العسكرية الأجنبية
إن وجود أية قاعدة عسكرية أجنبية علي أية بقعة من الأرض العربية مظهر خطير
من مظاهر فقدان الأمن والاستقلال والسيادة. وقد ناضلت الحركة القومية
العربية، في سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، من أجل تصفية
القواعد الأجنبية وإلغاء التسهيلات العسكرية الممنوحة لقوى أو لأحلاف
خارجية. ولقد أتت هذه القواعد تطل برأسها من جديد على منطقتنا بعد
التحولات التي طرأت في النظامين العالمي والإقليمي منذ انهيار الاتحاد
السوفياتي والحرب الأطلسية على العراق في مطالع التسعينيات من القرن
الماضي. واليوم، تعج أجزاء كثيرة من الوطن العربي بقواعد وتسهيلات عسكرية
أصبحت تتجاوز مجرد فرض القيد على القرار والإرادة والاستقلال إلى تهديد
أمن الوطن العربي وسلامته.
إن تصفية هذه القواعد، وإلغاء هذه الامتيازات والتسهيلات العسكرية
الممنوحة للقوات الأجنبية، تقع في مقدمة الأهداف التي على حركة النضال
العربي، المسترشدة بالرؤية النهضوية الشاملة، العمل من أجل تحقيقها صونا
لأمن الوطن وسلامة أبنائه، وحماية لإرادته واستقلالية قراره. وإن نجاح قوى
المشروع النهضوي العربي في تصفية هذه القواعد سيرتبط - من ضمن ما سيرتبط
به - بمدى نجاحها في استيلاد آليات فعالة لتسوية المنازعات العربية -
العربية بالوسائل السلمية من جهة، وإيجاد نظام فعال للأمن الجماعي القومي
يدرأ التهديدات الخارجية، ويدفع الأخطار المحدقة بالوطن العربي.
3- مواجهة المشروع الصهيوني
بات يتعبن على الأمة العربية ونخبها وقواها الحية أن تستعيد إدراكها
لخطورة المشروع الصهيوني على مستقبل الوطن العربي ومصيره - وضمنه مستقبل
فلسطين ومصيرها - و أن تطلق برنامجا قوميا لمواجهة طويلة الأمد، مرتكزا
إلى العناصر والأسس التالية:
1- تعزيز وحدة الشعب الفلسطيني وتمسكه بأرضه وحقوقه كاملة، وتقديم الدعم
المادي والسياسي له عبر إحداث صندوق خاص لهذا الغرض يفي بسائر احتياجاته
الحياتية والمدنية، ويرفع عنه ضائقة الحاجة والفقر والتهميش، ويضمن
للاجئين من أبنائه في البلدان العربية حقوقهم المدنية والسياسية كافة، مع
التمسك برفض مبدأ التوطين باعتباره آلية لتصفية حق العودة.
ب- التشديد على إفلاس نهج التسوية مع اسرائيل، وتقديم الدعم والإسناد
للمقاومة وللمؤسسات الوطنية في فلسطين، ورعاية حوار دائم بينها من أجل
تعزيز الوحدة الوطنيةووحدة قوى المقاومة، وتطوير منظمة التحرير
الفلسطينية، بما يواكب التغير في الخريطة السياسية الفلسطينية.
ج- التمسك العربي بالثوابت القومية المتمثلة في عدم التفريط بأي حق من
حقوق الأمة العربية في فلسطين، وفي عدم الاعتراف بشرعية الكيان الصهيوني،
أو التنازل له، أو عقد اتفاقات معه،و التمسك بمبدأ مقاطعته اقتصاديا
ومقاطعة المؤسسات المتعاملة معه.
د- الضغط من أجل تفعيل معاهدة الدفاع العربي المشترك، وتبني استراتيجية
دفاعية لمواجهة خطر المشروع الصهيوني تسخر لها - و فيها - كافة الموارد
العسكرية والمالية والسياسية المطلوبة والمناسبة.
هـ- أن يؤخذ بعين الاعتبار في رسم السياسات الخارجية العربية تجاه القوى
الدولية والإقليمية موقفها من الصراع العربي - الصهيوني ومن الحقوق
الوطنية الفلسطينية والحقوق القومية العربية، واستعمال العرب أوراق الضغط
التي في حوزتهم، وبصفة خاصة النفط، والأرصدة المالية لدفع القوى الحليفة
للكيان الصهيوني الى مراجعة مواقف الانحياز لديها.
4- مقاومة الهيمنة الأجنبية بأشكالها كافة
ولقد زادت وطأة هذه الهيمنة بعد زوال الحرب الباردة وانهيار التوازن
الدولي وانفراد القطب الواحد الأمريكي بإدارة شؤون العالم، ثم بانهمار
وقائع العولمة وما في جوفها من تحولات باعدت الفجوة بين الأقوياء
والمستضعفين في العالم .وإذا كان دفع تحديات الهيمنة والعولمة يحتاج إلى
ترتيب الداخل العربي من خلال إجراء الإصلاحات السياسية والاقتصادية
والاجتماعية المطلوبة، قصد التكيف مع عالم أصبح ينهض فيه العلم والتقانة
والمعلومات بدور حاسم في تشكيل معايير القوة ومحدداتها ومؤشراتها، وقصد كف
الأشكال المختلفة من الاستباحة التي يتعرض لها الوطن العربي للاستيلاء على
موارده وثرواته أو لمصادرة حرية قراره وفرض شروط أو صفقات غير متكافئة
عليه. فإن نهوضه بأمر مواجهة تلك التحديات قد يتجاوز قدرته وإمكانياته
الذاتية وحده، إن لم ينخرط في علاقات من التعاون والتنسيق مع كافة الأمم
والدول والقوى المتضررة من فعل قوى الهيمنة العالمية، والمناهضة للعولمة
المجحفة أو المطالبة بعولمة أكثر إنسانية، والداعية إلى قيام نظام عالمي
متعدد ومتوازن القوى والمصالح.
5- بناء القدرة الاستراتيجية الذاتية
إن الوطن العربي لا يملك حماية استقلاله وأمنه ومكتسباته دون حيازة قدرة
استراتيجية ذاتية: دفاعية وتنموية وعلمية وتقانية، يتحصن بها الاستقلال
والأمن. إنه في حاجة إلى انتهاج استراتيجية تستهدف الاستخدام الأمثل
للموارد والقدرات المتاحة بشكل منهجي ومدروس وتجنيدها في سياسات تنموية
قادرة على توفير أجوبة للحاجات الاقتصادية الاجتماعية للوطن والمواطنين.
وهو في حاجة إلى تنمية علمية يتغذى منها المجال المعرفي وتتغذى منها
التنمية الاقتصادية،وهو في حاجة إلى إعادة توطين التقانة وصولا إلى
انتاجها. ثم إنه في حاجة إلى تطوير منظومته الدفاعية بتطوير البحث العلمي
في المجال الدفاع وبناء صناعة عسكرية عربية مشتركة متقدمة وعصرية لتحرير
القرار الدفاعي العربي من شروط وإملاءات القوى المتحكمة في سوق السلاح.
وليس في وسع أية دولة عربية بمفردها أن تنهض بذلك لأن مواردها المحدودة لا
تسمح به. وعليه، لا مناص من إطلاق استراتيجية قومية عربية للتنمية تعتمد
التكامل والاندماج من أجل تعظيم القوة وبلوغ هدف حيازة القدرة
الاستراتيجية الذاتية.
ولكي تضمن استراتيجية حماية الاستقلال الوطني والأمن القومي العربي النجاح
في مواجهة التحديات والضغوط الخارجية، وبصفة خاصة الصهيونية والأمريكية،
لا محيد لها عن أن تكون جزءا من استراتيجية ممانعة كونية بين القوى
المتضررة من الهيمنة الأمريكية على مصير العالم، والرافضة لتلك الهيمنة،
في أفق تصحيح حال الخلل القائمة في التوازن الدولي، وإصلاح مؤسسات الأمم
المتحدة على مقتضى العدالة والديمقراطية والمشاركة المتوازنة في صناعة
القرار، وبما يضمن مصالح الإنسانية جمعاء، وخاصة شعوب «العالم الثالث»، من
أجل بناء نظام عالمي جديد حقا للأمن والسلم التعاون والفرص المتكافئة.
ولاشك أن القوى التي تجمعنا بها قواسم حضارية مشتركة تأتي في مقدمة القوى
المؤهلة، لأن تكون حليفة للعرب في مسعاهم من أجل بناء هذه الاستراتيجية.
ثانيا: استراتيجية الأمن الوطني والقومي
إن نقطة الانطلاق في تصحيح وضعية الاستباحة للأمن العربي بشقيه الوطني
والقومي تكمن في صياغة مفهوم عربي مشترك يستند إلى المصلحة القومية، ويضع
المصالح القطرية في اعتباره، مع التشديد على أن هذه المصالح لا يجب أن
تشكل أدنى تهديد للأمن العربي ككل.
1 ـ استراتيجية الرّدع
وتقوم على مبدأ تنمية المقومات والعناصر اللازمة لردع العدو عن القيام بأي
عمل عسكري ضد أية بقعة من بقاع الوطن العربي. وهذا يتطلب بناء منظومة
دفاعية من قوات بحرية وجوية وبرية عصرية مجهزة بأحدث المعدات ومدرَّبة على
أحدث فنون القتال وبأعداد كبيرة، ومن نظام معلومات ورصد واستخبار عسكري
متطور. ومن دون قيام صناعة عسكرية عربية متقدمة تلبي احتياجات الجيوش،
سيظل استيراد السلاح قيداً على استراتيجية الردع، كما أنه من دون حيازة
قوة ردع استراتيجية مثل السلاح النووي ـ إذا ما تعذر إخلاء منطقة الشرق
الأوسط من الأسلحة النووية ـ لن يكون في وسع الوطن العربي رد الأخطار التي
تُحدق بأمنه واستقلاله. وهذا ما أدركته، في السابق، دول مثل الصين والهند
وباكستان وكوريا الشمالية، فكان حافزاً لها على الانصراف الى إقامة صناعة
عسكرية تلبي احتياجاتها، وإلى بناء منظومة ردع نووي تقيها الأخطار
الخارجية.
2 ـ مواجهة التهديدات غير العسكرية
وفي مقدمتها الأطماع الغربية التي لم تتوقف منذ اتفاقية سايكس ـ بيكو، تلك
التي قسمت الوطن العربي الى مناطق نفوذ. فقد ظلت الدول الغربية حتى في
مرحلة ما بعد الاستقلال حريصة على ربط الوطن العربي من خلال سلسلة من
المشروعات استهدفت تكريس تجزئته، وضمان استمرار تبعيته، كان آخرها مشروع
الشرق الأوسط الكبير أو الموسع، وغيرها من المشروعات المماثلة، التي
تعاقبت موجاتها خلال الحقب المختلفة. ولن يستطيع الوطن العربي الفكاك من
إسار التبعية ومواجهة محاولات اختراقه من الخارج، إلا إذا تصدى بنجاح لهذه
المشروعات، واتخذ منها موقفاً موحداً، وتبنى منهجا جماعياً في التعامل
معها.
ولأن مصادر تهديد الأمن القومي العربي لا تقتصر على الأطماع الخارجية
واحتمالات غزوه واحتلاله عسكرياً، وإنما تتسع لتشمل مصادر أخرى غير عسكرية
تتعدد أوجهها وأبعادها، فمن الأهمية بمكان أن يتبنى النظام العربي مفهوما
شاملا للأمن يتضمن بالإضافة الى البعد العسكري والسياسي ـ الاستراتيجي،
أبعاداً أخرى تشمل:
أ ـ الأمن الغذائي
حيث يواجه الوطن العربي انكشافاً غذائياً خطيراً بسبب عدم قدرته على تحقيق
الاكتفاء الغذائي في السلع الأساسية، إذ إنه يعاني عجزاً غذائياً أخذ
يتزايد في السنوات الأخيرة على نحو خطير بسبب الزيادة السكانية وعوامل
التصحر وشح المياه وتدهور الإنتاجية الزراعية في عدد من البلدان العربية،
مما يعرضه للرضوخ للضغوط الخارجية، ويهدد استقراره الاجتماعي.
لذا يتعين على الوطن العربي أن يشرع فوراً في وضع المخططات اللازمة لسد
الفجوة الغذائية من خلال زيادة الاستثمارات وتحقيق التكامل في السياسات
الزراعية.
ب ـ الأمن المائي
يواجه العالم وضعاً حرجاً بسبب تناقص الموارد المائية المتاحة واللازمة
لسد احتياجاته المتزايدة، خاصة في مجالات النشاط الإنتاجي كالزراعة
والصناعة وغيرها. ونظراً الى الخلل الشديد في توزيع الموارد المائية
المتاحة على صعيد الوطن العربي تبدو الحاجة ماسة الى بلورة خطط لتنمية
الموارد المائي وترشيد استهلاك المياه وتحقيق التكامل المائي على مستوى
الوطن العربي ككل، وضمان حقوقه المائية التي يكفلها له القانون الدولي
تجاه الدول المحيطة التي تأتي منها النسبة الأكبر من الموارد المائية
السطحية العربية.
ج ـ الأمن البيئي
مع تزايد المخاطر البيئية التي يتعرض لها كوكب الأرض، خاصة بسبب التغيرات
المناخية والارتفاع المستمر في درجة الحرارة وما سيصاحبهما من ظواهر
عديدة، سوف تتعرض مناطق كثيرة داخل الوطن العربي للغرق أو التصحر أو
الجفاف، مما يفرض عليه إنشاء معاهد رصد، وإجراء البحوث اللازمة لدراسة
التأثيرات البيئية والتحسب للمخاطر الناجمة عنها، ووضع الخطط والبرامج
الكفيلة بمواجهة هذه المخاطر وتداعياتها.
د ـ الأمن الاجتماعي
تواجه مناطق كثيرة في الوطن العربي، خاصة في الدول النفطية قليلة السكان،
ظواهر اجتماعية خطيرة، في مقدمتها ظاهرة العمالة الأجنبية الوافدة التي
ازدادت بشكل لافت للنظر خلال السنوات الأخيرة إلى درجة أن نسبة عدد
المواطنين الى الأجانب أصبحت في بعض الأحيان أقل من 5.1 ولا يخفى ما لهذه
الظاهرة من آثار سلبية في الهوية الوطنية والقومية، وفي الاستقرار السياسي
والاجتماعي. ومع التشديد على ضرورة حصول العمالة الوافدة للدول العربية
على حقوقها الاقتصادية والاجتماعية، فإنه يتعين في الوقت نفسه وضع
استراتيجية قومية للعمالة والتوظيف تستهدف، على المدى الطويل، تصحيح الخلل
القائم، والمحافظة على الهويات الوطنية والقومية لمختلف الأقطار العربية.
الاتحاد الاشتراكي
7/5/2010
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
مواضيع مماثلة
» منذ حوالي 50 سنة لم نتقدم في المغرب العربي ، ومنذ 50 سنة تقدم المشروع الأوربي
» في مكونات المشروع الحداثي
» فتاوى واراء..
» الحلم العربي!
» من شعر العربي المساري
» في مكونات المشروع الحداثي
» فتاوى واراء..
» الحلم العربي!
» من شعر العربي المساري
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى