صورة المرأة في القصة القصيرة المغربية، أحمد بوزفور نموذجا
صفحة 1 من اصل 1
صورة المرأة في القصة القصيرة المغربية، أحمد بوزفور نموذجا
1 -البحث في
موضوعة «المرأة» في الأشكال التعبيرية الأدبية، أو الفنون التصويرية كالنحت
والرسم، موضوعة معروفة وتناولها الباحثون من زوايا متعددة، ولكنها تبقى
شديدة الحضور، لبعدها الإنساني، والجمالي،والفكري. واليوم، أصبحت وحدات
دراسية جامعية مغربية وعربية وعالمية متخصصة في البحث في موضوعة «المرأة»
سواء فيما تكتبه المرأة ذاتها أو ما يكتبه الرجل عنها، واعتمدت هذه الوحدات
على الخصوصية النوعية لما تنتجه المرأة كوعي وإبداع فني وأدبي، بل بتنا
نسمع عن أدب نسائي ونسوي، وعن علم نسائي يقوم على الاختلاف البيولوجي
والنفسي بين الجنسين.
2- هنا لن أتحدث عن الاختلاف القائم في النقد الأدبي بين مفهوميِ الأدب
النسائي والأدب النسوي، وهو ما قمت به في مجال آخر، اليوم أثارتني موضوعة
المرأة في «ديوان السندباد»؛ الكتاب القصصي للقاص المبدع أحمد بوزفور. لقد
لفت أحمد بوزفور إليه اهتمام الدارسين والنقاد والباحثين المغاربة من مختلف
الأجيال والتجارب، باشتغاله الحثيث على تطوير أشكال التعبير القصصي،
والقصة القصيرة خاصة. وقد ركز الباحثون على الجوانب الشكلية أو على لغة
الكتابة القصصية عند الكاتب، مسايرين في ذلك نقطة ارتكاز في تشييد الفضاء
الحكائي عند أحمد بوزفور. لكن ألا يمكن للموضوعات الأثيرة عند الكاتب أن
تصبح بمثابة اللحم الذي يكسو ذلك الهيكل الصارم والمتجدد؟ ألا يمكن
للموضوعات أن تكون نقطة ارتكاز أيضا عند الكاتب، ويمكنها أن تبرز جوانب
خفية عنده؟ ألا يمكنها؛ أي الموضوعات، أن تكون محددة لزاوية الرؤية إلى
العالم، وتكشف عن مواقف الكاتب الجمالية وبعض القيم التي ينتصر لها؟
3 -كل ذلك جائز، فالأدب ليس شكلا خالصا، بل هو موضوعات واحدة أو شتى ومعارف
ومواقف في آن، وأنها تتحكم في الرؤية السردية، وتحدد طبيعة الصيغة السردية
ووجهة النظر.
في كتاب «ديوان السندباد» للكاتب أحمد بوزفور تحتل «المرأة» مكانة واسعة من
فضاء الكتابة، ومكانة هامة في تفكير الكاتب، وتقوم بأدوار جمالية ووظيفية:
في بناء معنى النص والحكاية. تظهر المرأة في صور «الأم» أكثر من غيرها من
التجليات الأخرى، كالزوجة، والخطيبة، والحبيبة، والمرأة المشتهاة، والمرأة
الكتابة أو المرأة التنين، والمرأة الموت، والمرأة المحلوم بها، وزوجة
الأب، والمرأة «الزيزوار» العنيفة والدموية...إلخ.
وقد حاول الكاتب تحديد صورة أو مفهوما للمرأة إبداعيا في قصة «الكأس
المكعبة» ضمن الحوار التالي:
«... فيم كنا نتحدث؟
- عن المرأة.
- آه .. المرأة. بم تعرف المرأة أنت؟
- المرأة؟
- نعم المرأة، امرأة تعرفها، ولنقل إنك تحبها، وهي مقبلة من بعيد مختلطة
بالنساء والرجال في الشارع.
- بوجهها طبعا.
- قبل أن تتبينه.
- بملابسها.
- بدلتها- ينبغي أن تعرف- ولبست ثيابا جديدة.
- لست أدري، قد لا أعرفها.
- بلى، بالرائحة.
- الرائحة؟
- نعم، الرائحة، وكنت أحسبه نوع العطر في البداية، قبل أن تعلمني النساء أن
لهن روائح كالأزهار خاصة وفريدة. هي ليست رائحة بالضبط، هي رائحة امتزاج
الروائح: الشعر والبشرة والعرق والدم والمغابن والتثنيات والصدر وباطن
الركبة.. كل جزء، كل ميلمتر نجم مستقل يرسل رائحته بسرعة الضوء، فتختلط
الرسائل في الفضاء الخارجي وتكون مزيجا كيميائيا كالإكسير لا يمس رجلا إلا
حوله ذهبا كله: قويا أنيقا لطيفا خدوما مفعما بالود أربعة وعشرين قيراطا.
لكن حذرا. ليست كل امرأة كذلك. أحيانا تهزني إحداهن بيديها معا فلا أحس
بها.. أنا أحدثك عنها هي» ص (130.129)
هذا المجتزأ قطعة أدبية نادرة وصريحة في التعريف بالمرأة، يبدأ بصعوبة
تعريف المرأة كمفهوم عام وشامل يطلق على الجنس الآخر المؤنث، لكنه يتدرج
نحو الوضوح والخصوصية، فالمرأة ليست واحدا متجانسا بل هي واحد متعدد مختلف،
ولا يمكننا تعريف المختلف والمتنوع والمتناقض إلا من خلال الواحد
المتجانس، الواحد الذي هو المحبوبة؛ هي ذاتها «أنا أحدثك عنها هي» يقول
النص، وليس عن غيرها.
4 -وكل نوع من الأنواع يولد نمطا من المحكي القصصي، ويؤثر كذلك في اللغة
القصصية، وفي تشكيل رؤية وموقف الكاتب.
ولاشك أن القارئ والناقد أو الباحث سيندهشون عندما يجدون هذا التشابه بين
النص القصصي الثاني «الغراب» والنص الأخير «أمي» في «ديوان السندباد» راسما
انغلاق الدائرة. يقول في قصة «الغراب:» في الحجرة الأولى كنت أنا، وفي
الحجرة الثانية أمي وأخواتي، أما في الزريبة المسقوفة فكانت الأربع معزات
وجداؤهن الثلاثة، ومن السماء كان الثلج يسقط أبيض في صمت. «تبارك الذي بيده
الملك وهو على كل شيء قدير ... تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير
... تبارك الذي بيده .. باسم الله الرحمان الرحيم تبارك الذي بيده ..» ص
(17). ويقول في قصة «أمي:» كانت تمسك لوحي، وهي الأمية، وأنا أعرض ما حفظت
عن ظهر قلب:« تبارك الذي بيده الملك، وهو على كل شيء قدير ...» فإذا نسيتُ،
فعدت إلى الوراء، أو قفزت إلى الأمام، استوقفتني باسمة، وهي تهز سبابتها
في وجهي وتقول: - أخطأتَ.» ص (349)..
إن الحديث عنها عن امرأة واحدة رغم المساحة الورقية والمدة الزمنية
الفاصلة بين النصين القصصيين. هي الأم ذاتها والحادثة واحدة وركائز الفضاء
المتخيل واحدة: الأم الأمية، والطفل، والآية القرآنية، ومجاهدة الذاكرة
والحفظ.
5 -الأم/الرؤوم: يقدم لنا محتوى النصين المجتزأين النموذج الأول من صور
المرأة: المرأةِ المهيمنةِ وقويَّةِ الحضورِ في النصوص القصصية لأحمد
بوزفور، إنها الأم الرؤوم، الحانية، العطوف، أو باختصار جوهر الأمومة. هناك
بالقرب منها ينتفي فعل الزمان، ويتحول الحاضر إلى ماض بعيد، مختلف، ويقف
السارد على حدود الطفولة الأولى أو الثانية لا يفارقهما. وهنا بالذات بين
حنان الأم وشغف الطفولة، وأحلامها، وأسئلتها التي لا تنتهي يُشَيِّدُ أحمد
بوزفور عالمه التخييلي، وتطاوعه اللغة، والفكرة، ويتدفق السرد ساخنا كحليب
الأم.
عند الكتابة عن الأم الرؤوم لايكتب أحمد بوزفور عن «المرأة» ككائن بيولوجي،
أو وضعية اجتماعية (ربت بيت)، وإنما يكتب عنها كمحور محدد لأفق السرد، أي
يكتب عن العوالم المحيطة بها: كالطفولة الأولى، بدايةِ التعلم، والتلعثمِ
الأول في تهجي أبجدية الحياة القادمة، ومَعِينٍ الأسئلة الذي لا يَنْضُبُ،
والمساحاتِ الواسعةِ للأحلام. لذلك نجد حضور الأم الرؤومِ متزامنا وحضورَ
الطفل (الطفولة)، وفضائهما.
والناظر في قصص «ديوان السندباد»، والمتتبع لمسار تحول الكتابة القصصية عند
أحمد بوزفور منذ «النظر في الوجه العزيز» حتى «قالت نملة» يجد أن عوالم
الكتابة عنده لا تخرج عن الأقانيم التالية: المرأة، والطفولة، والحلم،
والكتابة. فإذا كان الحلم مرتبطا بنمط الحياة في الطفولة حيث تنتفي الفوارق
والحدود، فإن المرأة ترتبط بالكتابة، وهو ما ذهب إليه كثيرون، فالسيف نقيض
الكتابة عند أبي تمام، فالسيفُ يقينٌ والكتابةُ غيره، التيه والمغامرة
نقيض الحياكة عند هوميروس، فمعارك اوليس فعلٌ يقينٌ وحياكةُ بينيلوبَ
تسويفٌ ومماطلةٌ، أما حكاية شهرزاد فحياكة للدرع الواقي من ضرب العنق. وقد
مزج الكاتبُ نفسُهُ بين المرأة والكتابة في قصة «نانا» حيث يقول:« السيدة
التي تحدثت عنها فيما سبق، ماتت منذ زمن بعيد وأنا صغير. ولم أعد أتذكر
الآن عنها شيئا على الإطلاق. لقد كنت أتحدث -ربما- عن علاقتي بالكتابة،
ولذلك، أرجو أن يعيد القارئ -على ضوء هذه الملاحظة- قراءة النص السابق من
جديد.« [ويضيف] »قد يحتاج الأمر مع ذلك إلى قراءة ثالثة (هل الثالثة
ثابتة؟) إذ أنني لا أدري في الحقيقة عمن أو عماذا كنت أتحدث. أما الكتابة!
فمن يستطيع الحديث عنها؟ من يستطيع أن يشرب الراح مع التنين في الصيف. كما
يقول الجميل أبو نواس؟ من؟...» ص (179).
6 -الأم/ الأُمَّةُ: هناك صورة الأم التي تتحمل أكثر مما تَحْمِلُهُ
الجبالُ، الأم التي تقف وحدها في وجه التنين، الأم التي تؤمن فقط بفلذة
كبدها، وتتحمل النظر إلى ولدها وهو مهزوم يقاد إلى «الحجيم». هذه ليست
أمّاً فحسب، هي أُمَّةٌ لوحدها، كل في واحد (all in one). هي ذاتها الأم
التي تنصحه في قصة «أمي» بأن يكون ذاته وألا يتشبه بغيره :« ربما، لكن
الأحسن من هذا وذاك أن تكون كما أنت: ابني» ص (351). وتوصيه بنفسه لأنه
كثيرا ما ينساها :«أوصيك بنفسك. فأنا أعرفُ أنكَ ما أكثر ما تنساها» ص
(352).
يصف السارد الأمَّ التي بحجم الأُمَّةِ فيقول:« الأم العجوز الضئيلة الجسم،
في الصف، أمام باب السجن، طرحت سلتها على الأرض، خدها على يدها، أسرارها
على سطح وعيها، ورأت ابنها المعتقل»، ويضيف: «اختلطت أسرارها المطروحة حتى
الغموض، طرحت كَلّها كومة واحدة يحجب بعضُها بعضًا. لم تكن أما، كانت
أُمَّةً تطرح أسرارها (هوامشها، مكبوتاتها، محرماتها، ممنوعاتها، هزائمها،
مذابحها) مختلطة معجونة بالعرق والدموع والدم والسعال والنفي والبعاد
والعناد والعناد والعناد. ثم فجأة، قرقع الباب الحديدي الكبير. جمعت المرأة
أسرارها وعَقَدَتْهَا في رأسها الأشيب كخمار، ونظرت إلى الأمام في تحفز
واستعداد» ص (222.221).
إن الأم الأمة دائما على استعداد للتضحية، ومتحفزة لخوض المغامرة من أجل
فلذة الكبد، وإنها مستعدة دائما لطرح مشاغلها ومشاكلها جانبا، بل ليس لها
الوقت الكافي للنظر في شؤونها، فهي قد وهبت نفسها للولد «صغيرا وكبيرا،
وقارئا للعلوم والألسن، ساهرا، نائما، مريضا، خائفا، حالما، متكلما، غاضبا،
باسما، مقبِّلا، مقبِّلا، مقبِّلا، مقبَّلا» ص (221).
7 -الأم الأَمَةُ: هناك الأم الأَمَةُ (الجارية) التي تشعر بالغربة والعزلة
والتخلّي، يموت عنها زوجها فتتحول إلى جارية في بيت ابنها وزوجته، أو
خادمة في بيت ربيبها كما ورد في قصة «الأعرج يتزوج»، يقول النص:« ... فقد
مات الحاج المهدي، مات وسط ضجة الاحتفال بالاستقلال فلم يأبه أحد بالهمسات
الخافتة التي تسارَّتْ بها النساء عن سبب موته، ولكنه لم يمت حتى ترك
مرزوقة حاملا، فولدت محمادي، وغدت خادمة في بيت ربيبها «المختار» تشطب
وتحطب وتجلب الماء وتحكي لابنها الصغير عن أبيه وعن زمن الرجال» ص (65).
تعرض الأم الأَمَةُ وضعية المرأة في زمانٍ كانت وما تزال المرأة مجردةً من
إنسانيتها، مكتفية بالرؤية الاجتماعية التي جعلت منها أداة للإنجاب والحطب
والكنس. لذلك نجد النص أعلاه يميز بين زمنين: زمن الرجال (قبل الاستقلال/
الحاج المهدي) وزمن غير الرجال، أي الزمن الذي كانت فيه المرأة في كنف زوج
يحميها ويحفظ كرامتها من المهانة، وبين زمن ابتذلت فيه، فأصبحت تعيش بإحساس
المتروكةِ كما في الحوار التالي بين الأم والأب حول ابنهما في قصة «النظر
في الوجه العزيز»:
«الأب: أنا لا أعرف لي ابنا؟ أنا أعرف الذي يعرفني.
الأم: وهل عرفني أنا؟ منذ سنوات وهو غائب فهل عرف أمه ونسيك أنتَ؟ هل كحلت
عيني برؤيته منذ ذلك اليوم البعيد؟ هل جاء إلى حضني ونادى يا أمي؟ الغائب
القاسي، يتركني وحدي مع أبيه القاسي.» ص (92) والتشديد مني.
أما في قصة «السعال» فيأتي الإحساس بالإهمال والتخلي، خاصة تخلي الأبناء عن
الأمهات، قائما على الصراع الأبدي بين الأم وزوجة الابن (الكنَّة)، لكن
النص التالي يعبر أكثر عن تحول موضوعة المرأة من مجرد مادة للحكي إلى رؤية
سردية، وإلى إمكانية لتشكيل الفضاء القصصي، إن الحديث عن المرأة عامة وعن
الأم خاصة عند أحمد بوزفور حديث عن الكتابة، وعن الفضاء القصصي، وعن
(البؤرة) المنطقة الحميمة التي يتولد منها السرد القصصي. أي أن القاص يسعى
سعيا إلى خلق مثل هذه العوالم القريبة والأسرية والحميمة حتى يتدفق السرد
ويكون أقرب إلى الذات، نابعا منها لا من خارجها.
تقول الأم: «البغل»... يتيه في المطر والبرد، ويطرق أبواب الناس، و«العقرب»
تأكل خبز القمح وحدها في الخفاء... يا خيبة الأولاد! مدت يدها إلى الرف،
وتناولت كسرة الخبز اليابسة ووضعتها على المجمر. أبوه هو الذي زوجه، بحث في
كل الجحور حتى اختار له «العقرب الصفراء» وزوجه بها ثم طرده... حين تتذكر
الماضي تتحسر على العمر الذي قضته تحطب وتشطب وتخبز... كالعبدة كانت، حين
رحلت بناتها إلى دورهن تزوج عليها «شيبة الحمار» وطردها إلى دار ابنها
لتحطب وتشطب من جديد في دار «العقرب الصفراء». شمت الرائحة فاختطفت الكسرة
المحترقة ونظرت إليها ثم أعادتها إلى الرف.. لولا هذا السعال.. كانت السعلة
واقفة في جوفها تهم بالخروج فتزم شفتيها وتحبسها في الداخل.. لو انطلقت
لما وقف الكح حتى تلفظ الدم. الريح تعوي في الخارج كالكلبة، والبيت طويل
وخاو وبارد كالقبر. وحين تتذكر العمر الطويل تطلب الموت ولا تجده، والعقرب
الصفراء تحيط نفسها بأولادها وتمضغ.. هل يحقر الرجل أمه وينساها بدون سحر؟
سحرت له العقرب الصفراء.. سحرت له.» ص (50.49).
يتجاوب في هذا المجتزأ صوت السارد، وصوت الأم في تناغم وترتيب دقيق بين
الحوار الداخلي للأم، وتعليق السارد المسؤول على نظام أحداث و(فقرات/
متواليات) الحكاية. يتناوب في هذه المتوالية السردية صوت الخارج وصوت
الداخل، فيتحول صوت الأم (الشخصية) إلى أسلوب يخترق صوت السارد الخارجي
الوثوقي، معلنا عن الحضور الفعلي للشخصية القصصية. ومن ثمة يمكن التمييز
بين صوت السارد المنظم للحكاية (= السرد)، وبين الحكاية (= القصة) كعمود
فقري في العالم القصصي عند أحمد بوزفور، بالتركيز على مكون الشخصية.
الأم المكلومة:
كل أُمٍّ في «ديوان السندباد» مكلومة، ومفجوعة، ومضيومة، وسبب حزنها
وآلامها نابع من نهر أمومتها الذي لا ينضب، وخوفها الشديد على فلذاتها،
ونابع من تقلبات الزمان، كالترمل، وزواج الزوج بأخرى. هنا أيضا تكون الأم
رؤية سرديَّةٍ، وزواية للتعبير عن موقفٍ فكريٍّ واجتماعيٍّ، وهي كذلك من
الركائز التي ينهض عليها الفضاء القصصي لدى أحمد بوزفور، فالمرأة/الأم
تستدعي الطفل/الابن والجامع. إن السارد غالبا ما يكون طفلا، يروي الوقائع
عبر رؤية سردية استرجاعية، تضع الزمن الماضي في مسار الزمن الحاضر، أي وضع
الأحداث المنتهية في سياقٍ سرديٍّ مُحَيَّنٍ. ولعل جمالية قصص أحمد بوزفور
تكمن في هذه المنطقة بالذات، عندما يحل الماضي في الحاضر، أو يحل المستقبل
في الحاضر كما في التعبير التالي:« لو أنها تبقى هكذا... لا تصل أبدا ولا
تغيب أبدا، مرزوقة... مرزوقة... مرز..» ص (63).
و«مرزوقة» نموذج الأم المكلومة، الأم الثكلى التي قُتِلَ وليدها بعدما
أَهَانَهَا الزمانُ بموتِ زوجِهَا، وَحَوَّلَهَا ربيبُها إلى أَمَةٍ،
والناسُ إلى مَجْنُونَةٍ. لكنها ستنتقم من ابن ربيبها بقتله ليلة عرسه
(دُخْلَتِهِ). يقول النص: «يا المختار.. ابنها مات» ولكن المختار يرد على
الناس:
أعرج ومات.. هل مات النبي؟ كان أخي أنا أيضا ودفعت من جيبي نفقات الجنازة
وصدقة السابع.. الموتى الله يرحمهم، والأحياء بطونهم مفتوحة.
يا المختار.. الناس..
على الأقل تشطب الدار، تربط البقر.. تجلب الماء.. تحلل الخبز الذي تأكله.
هل تريد أن يلعب الشيطان برأسها وتجرك إلى المحاكم؟
أنا أيضا شيطان، والشرع هو الذي شيبني، ليجربوني.
يا المختار.. السياسة خير من صداع الراس.
وهل أنا لا أحب السياسة. أنا سأزوج ابني والدار ضيقة.. لماذا لا يحوزها
الذين يتكلمون؟» ص (70).
ويضيف النص:« وسألت: ماذا فعلت مرزوقة؟ ولم يد ر أحد.. ماذا فعلت مرزوقة؟..
رد أحد الأطفال مدهوشا: لم تعرف؟ قتلت عروسة عبد السلام بالسكين.» ص (71).
محمد معتصم
الملحق الثقافي / الاتحاد الاشتراكي
موضوعة «المرأة» في الأشكال التعبيرية الأدبية، أو الفنون التصويرية كالنحت
والرسم، موضوعة معروفة وتناولها الباحثون من زوايا متعددة، ولكنها تبقى
شديدة الحضور، لبعدها الإنساني، والجمالي،والفكري. واليوم، أصبحت وحدات
دراسية جامعية مغربية وعربية وعالمية متخصصة في البحث في موضوعة «المرأة»
سواء فيما تكتبه المرأة ذاتها أو ما يكتبه الرجل عنها، واعتمدت هذه الوحدات
على الخصوصية النوعية لما تنتجه المرأة كوعي وإبداع فني وأدبي، بل بتنا
نسمع عن أدب نسائي ونسوي، وعن علم نسائي يقوم على الاختلاف البيولوجي
والنفسي بين الجنسين.
2- هنا لن أتحدث عن الاختلاف القائم في النقد الأدبي بين مفهوميِ الأدب
النسائي والأدب النسوي، وهو ما قمت به في مجال آخر، اليوم أثارتني موضوعة
المرأة في «ديوان السندباد»؛ الكتاب القصصي للقاص المبدع أحمد بوزفور. لقد
لفت أحمد بوزفور إليه اهتمام الدارسين والنقاد والباحثين المغاربة من مختلف
الأجيال والتجارب، باشتغاله الحثيث على تطوير أشكال التعبير القصصي،
والقصة القصيرة خاصة. وقد ركز الباحثون على الجوانب الشكلية أو على لغة
الكتابة القصصية عند الكاتب، مسايرين في ذلك نقطة ارتكاز في تشييد الفضاء
الحكائي عند أحمد بوزفور. لكن ألا يمكن للموضوعات الأثيرة عند الكاتب أن
تصبح بمثابة اللحم الذي يكسو ذلك الهيكل الصارم والمتجدد؟ ألا يمكن
للموضوعات أن تكون نقطة ارتكاز أيضا عند الكاتب، ويمكنها أن تبرز جوانب
خفية عنده؟ ألا يمكنها؛ أي الموضوعات، أن تكون محددة لزاوية الرؤية إلى
العالم، وتكشف عن مواقف الكاتب الجمالية وبعض القيم التي ينتصر لها؟
3 -كل ذلك جائز، فالأدب ليس شكلا خالصا، بل هو موضوعات واحدة أو شتى ومعارف
ومواقف في آن، وأنها تتحكم في الرؤية السردية، وتحدد طبيعة الصيغة السردية
ووجهة النظر.
في كتاب «ديوان السندباد» للكاتب أحمد بوزفور تحتل «المرأة» مكانة واسعة من
فضاء الكتابة، ومكانة هامة في تفكير الكاتب، وتقوم بأدوار جمالية ووظيفية:
في بناء معنى النص والحكاية. تظهر المرأة في صور «الأم» أكثر من غيرها من
التجليات الأخرى، كالزوجة، والخطيبة، والحبيبة، والمرأة المشتهاة، والمرأة
الكتابة أو المرأة التنين، والمرأة الموت، والمرأة المحلوم بها، وزوجة
الأب، والمرأة «الزيزوار» العنيفة والدموية...إلخ.
وقد حاول الكاتب تحديد صورة أو مفهوما للمرأة إبداعيا في قصة «الكأس
المكعبة» ضمن الحوار التالي:
«... فيم كنا نتحدث؟
- عن المرأة.
- آه .. المرأة. بم تعرف المرأة أنت؟
- المرأة؟
- نعم المرأة، امرأة تعرفها، ولنقل إنك تحبها، وهي مقبلة من بعيد مختلطة
بالنساء والرجال في الشارع.
- بوجهها طبعا.
- قبل أن تتبينه.
- بملابسها.
- بدلتها- ينبغي أن تعرف- ولبست ثيابا جديدة.
- لست أدري، قد لا أعرفها.
- بلى، بالرائحة.
- الرائحة؟
- نعم، الرائحة، وكنت أحسبه نوع العطر في البداية، قبل أن تعلمني النساء أن
لهن روائح كالأزهار خاصة وفريدة. هي ليست رائحة بالضبط، هي رائحة امتزاج
الروائح: الشعر والبشرة والعرق والدم والمغابن والتثنيات والصدر وباطن
الركبة.. كل جزء، كل ميلمتر نجم مستقل يرسل رائحته بسرعة الضوء، فتختلط
الرسائل في الفضاء الخارجي وتكون مزيجا كيميائيا كالإكسير لا يمس رجلا إلا
حوله ذهبا كله: قويا أنيقا لطيفا خدوما مفعما بالود أربعة وعشرين قيراطا.
لكن حذرا. ليست كل امرأة كذلك. أحيانا تهزني إحداهن بيديها معا فلا أحس
بها.. أنا أحدثك عنها هي» ص (130.129)
هذا المجتزأ قطعة أدبية نادرة وصريحة في التعريف بالمرأة، يبدأ بصعوبة
تعريف المرأة كمفهوم عام وشامل يطلق على الجنس الآخر المؤنث، لكنه يتدرج
نحو الوضوح والخصوصية، فالمرأة ليست واحدا متجانسا بل هي واحد متعدد مختلف،
ولا يمكننا تعريف المختلف والمتنوع والمتناقض إلا من خلال الواحد
المتجانس، الواحد الذي هو المحبوبة؛ هي ذاتها «أنا أحدثك عنها هي» يقول
النص، وليس عن غيرها.
4 -وكل نوع من الأنواع يولد نمطا من المحكي القصصي، ويؤثر كذلك في اللغة
القصصية، وفي تشكيل رؤية وموقف الكاتب.
ولاشك أن القارئ والناقد أو الباحث سيندهشون عندما يجدون هذا التشابه بين
النص القصصي الثاني «الغراب» والنص الأخير «أمي» في «ديوان السندباد» راسما
انغلاق الدائرة. يقول في قصة «الغراب:» في الحجرة الأولى كنت أنا، وفي
الحجرة الثانية أمي وأخواتي، أما في الزريبة المسقوفة فكانت الأربع معزات
وجداؤهن الثلاثة، ومن السماء كان الثلج يسقط أبيض في صمت. «تبارك الذي بيده
الملك وهو على كل شيء قدير ... تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير
... تبارك الذي بيده .. باسم الله الرحمان الرحيم تبارك الذي بيده ..» ص
(17). ويقول في قصة «أمي:» كانت تمسك لوحي، وهي الأمية، وأنا أعرض ما حفظت
عن ظهر قلب:« تبارك الذي بيده الملك، وهو على كل شيء قدير ...» فإذا نسيتُ،
فعدت إلى الوراء، أو قفزت إلى الأمام، استوقفتني باسمة، وهي تهز سبابتها
في وجهي وتقول: - أخطأتَ.» ص (349)..
إن الحديث عنها عن امرأة واحدة رغم المساحة الورقية والمدة الزمنية
الفاصلة بين النصين القصصيين. هي الأم ذاتها والحادثة واحدة وركائز الفضاء
المتخيل واحدة: الأم الأمية، والطفل، والآية القرآنية، ومجاهدة الذاكرة
والحفظ.
5 -الأم/الرؤوم: يقدم لنا محتوى النصين المجتزأين النموذج الأول من صور
المرأة: المرأةِ المهيمنةِ وقويَّةِ الحضورِ في النصوص القصصية لأحمد
بوزفور، إنها الأم الرؤوم، الحانية، العطوف، أو باختصار جوهر الأمومة. هناك
بالقرب منها ينتفي فعل الزمان، ويتحول الحاضر إلى ماض بعيد، مختلف، ويقف
السارد على حدود الطفولة الأولى أو الثانية لا يفارقهما. وهنا بالذات بين
حنان الأم وشغف الطفولة، وأحلامها، وأسئلتها التي لا تنتهي يُشَيِّدُ أحمد
بوزفور عالمه التخييلي، وتطاوعه اللغة، والفكرة، ويتدفق السرد ساخنا كحليب
الأم.
عند الكتابة عن الأم الرؤوم لايكتب أحمد بوزفور عن «المرأة» ككائن بيولوجي،
أو وضعية اجتماعية (ربت بيت)، وإنما يكتب عنها كمحور محدد لأفق السرد، أي
يكتب عن العوالم المحيطة بها: كالطفولة الأولى، بدايةِ التعلم، والتلعثمِ
الأول في تهجي أبجدية الحياة القادمة، ومَعِينٍ الأسئلة الذي لا يَنْضُبُ،
والمساحاتِ الواسعةِ للأحلام. لذلك نجد حضور الأم الرؤومِ متزامنا وحضورَ
الطفل (الطفولة)، وفضائهما.
والناظر في قصص «ديوان السندباد»، والمتتبع لمسار تحول الكتابة القصصية عند
أحمد بوزفور منذ «النظر في الوجه العزيز» حتى «قالت نملة» يجد أن عوالم
الكتابة عنده لا تخرج عن الأقانيم التالية: المرأة، والطفولة، والحلم،
والكتابة. فإذا كان الحلم مرتبطا بنمط الحياة في الطفولة حيث تنتفي الفوارق
والحدود، فإن المرأة ترتبط بالكتابة، وهو ما ذهب إليه كثيرون، فالسيف نقيض
الكتابة عند أبي تمام، فالسيفُ يقينٌ والكتابةُ غيره، التيه والمغامرة
نقيض الحياكة عند هوميروس، فمعارك اوليس فعلٌ يقينٌ وحياكةُ بينيلوبَ
تسويفٌ ومماطلةٌ، أما حكاية شهرزاد فحياكة للدرع الواقي من ضرب العنق. وقد
مزج الكاتبُ نفسُهُ بين المرأة والكتابة في قصة «نانا» حيث يقول:« السيدة
التي تحدثت عنها فيما سبق، ماتت منذ زمن بعيد وأنا صغير. ولم أعد أتذكر
الآن عنها شيئا على الإطلاق. لقد كنت أتحدث -ربما- عن علاقتي بالكتابة،
ولذلك، أرجو أن يعيد القارئ -على ضوء هذه الملاحظة- قراءة النص السابق من
جديد.« [ويضيف] »قد يحتاج الأمر مع ذلك إلى قراءة ثالثة (هل الثالثة
ثابتة؟) إذ أنني لا أدري في الحقيقة عمن أو عماذا كنت أتحدث. أما الكتابة!
فمن يستطيع الحديث عنها؟ من يستطيع أن يشرب الراح مع التنين في الصيف. كما
يقول الجميل أبو نواس؟ من؟...» ص (179).
6 -الأم/ الأُمَّةُ: هناك صورة الأم التي تتحمل أكثر مما تَحْمِلُهُ
الجبالُ، الأم التي تقف وحدها في وجه التنين، الأم التي تؤمن فقط بفلذة
كبدها، وتتحمل النظر إلى ولدها وهو مهزوم يقاد إلى «الحجيم». هذه ليست
أمّاً فحسب، هي أُمَّةٌ لوحدها، كل في واحد (all in one). هي ذاتها الأم
التي تنصحه في قصة «أمي» بأن يكون ذاته وألا يتشبه بغيره :« ربما، لكن
الأحسن من هذا وذاك أن تكون كما أنت: ابني» ص (351). وتوصيه بنفسه لأنه
كثيرا ما ينساها :«أوصيك بنفسك. فأنا أعرفُ أنكَ ما أكثر ما تنساها» ص
(352).
يصف السارد الأمَّ التي بحجم الأُمَّةِ فيقول:« الأم العجوز الضئيلة الجسم،
في الصف، أمام باب السجن، طرحت سلتها على الأرض، خدها على يدها، أسرارها
على سطح وعيها، ورأت ابنها المعتقل»، ويضيف: «اختلطت أسرارها المطروحة حتى
الغموض، طرحت كَلّها كومة واحدة يحجب بعضُها بعضًا. لم تكن أما، كانت
أُمَّةً تطرح أسرارها (هوامشها، مكبوتاتها، محرماتها، ممنوعاتها، هزائمها،
مذابحها) مختلطة معجونة بالعرق والدموع والدم والسعال والنفي والبعاد
والعناد والعناد والعناد. ثم فجأة، قرقع الباب الحديدي الكبير. جمعت المرأة
أسرارها وعَقَدَتْهَا في رأسها الأشيب كخمار، ونظرت إلى الأمام في تحفز
واستعداد» ص (222.221).
إن الأم الأمة دائما على استعداد للتضحية، ومتحفزة لخوض المغامرة من أجل
فلذة الكبد، وإنها مستعدة دائما لطرح مشاغلها ومشاكلها جانبا، بل ليس لها
الوقت الكافي للنظر في شؤونها، فهي قد وهبت نفسها للولد «صغيرا وكبيرا،
وقارئا للعلوم والألسن، ساهرا، نائما، مريضا، خائفا، حالما، متكلما، غاضبا،
باسما، مقبِّلا، مقبِّلا، مقبِّلا، مقبَّلا» ص (221).
7 -الأم الأَمَةُ: هناك الأم الأَمَةُ (الجارية) التي تشعر بالغربة والعزلة
والتخلّي، يموت عنها زوجها فتتحول إلى جارية في بيت ابنها وزوجته، أو
خادمة في بيت ربيبها كما ورد في قصة «الأعرج يتزوج»، يقول النص:« ... فقد
مات الحاج المهدي، مات وسط ضجة الاحتفال بالاستقلال فلم يأبه أحد بالهمسات
الخافتة التي تسارَّتْ بها النساء عن سبب موته، ولكنه لم يمت حتى ترك
مرزوقة حاملا، فولدت محمادي، وغدت خادمة في بيت ربيبها «المختار» تشطب
وتحطب وتجلب الماء وتحكي لابنها الصغير عن أبيه وعن زمن الرجال» ص (65).
تعرض الأم الأَمَةُ وضعية المرأة في زمانٍ كانت وما تزال المرأة مجردةً من
إنسانيتها، مكتفية بالرؤية الاجتماعية التي جعلت منها أداة للإنجاب والحطب
والكنس. لذلك نجد النص أعلاه يميز بين زمنين: زمن الرجال (قبل الاستقلال/
الحاج المهدي) وزمن غير الرجال، أي الزمن الذي كانت فيه المرأة في كنف زوج
يحميها ويحفظ كرامتها من المهانة، وبين زمن ابتذلت فيه، فأصبحت تعيش بإحساس
المتروكةِ كما في الحوار التالي بين الأم والأب حول ابنهما في قصة «النظر
في الوجه العزيز»:
«الأب: أنا لا أعرف لي ابنا؟ أنا أعرف الذي يعرفني.
الأم: وهل عرفني أنا؟ منذ سنوات وهو غائب فهل عرف أمه ونسيك أنتَ؟ هل كحلت
عيني برؤيته منذ ذلك اليوم البعيد؟ هل جاء إلى حضني ونادى يا أمي؟ الغائب
القاسي، يتركني وحدي مع أبيه القاسي.» ص (92) والتشديد مني.
أما في قصة «السعال» فيأتي الإحساس بالإهمال والتخلي، خاصة تخلي الأبناء عن
الأمهات، قائما على الصراع الأبدي بين الأم وزوجة الابن (الكنَّة)، لكن
النص التالي يعبر أكثر عن تحول موضوعة المرأة من مجرد مادة للحكي إلى رؤية
سردية، وإلى إمكانية لتشكيل الفضاء القصصي، إن الحديث عن المرأة عامة وعن
الأم خاصة عند أحمد بوزفور حديث عن الكتابة، وعن الفضاء القصصي، وعن
(البؤرة) المنطقة الحميمة التي يتولد منها السرد القصصي. أي أن القاص يسعى
سعيا إلى خلق مثل هذه العوالم القريبة والأسرية والحميمة حتى يتدفق السرد
ويكون أقرب إلى الذات، نابعا منها لا من خارجها.
تقول الأم: «البغل»... يتيه في المطر والبرد، ويطرق أبواب الناس، و«العقرب»
تأكل خبز القمح وحدها في الخفاء... يا خيبة الأولاد! مدت يدها إلى الرف،
وتناولت كسرة الخبز اليابسة ووضعتها على المجمر. أبوه هو الذي زوجه، بحث في
كل الجحور حتى اختار له «العقرب الصفراء» وزوجه بها ثم طرده... حين تتذكر
الماضي تتحسر على العمر الذي قضته تحطب وتشطب وتخبز... كالعبدة كانت، حين
رحلت بناتها إلى دورهن تزوج عليها «شيبة الحمار» وطردها إلى دار ابنها
لتحطب وتشطب من جديد في دار «العقرب الصفراء». شمت الرائحة فاختطفت الكسرة
المحترقة ونظرت إليها ثم أعادتها إلى الرف.. لولا هذا السعال.. كانت السعلة
واقفة في جوفها تهم بالخروج فتزم شفتيها وتحبسها في الداخل.. لو انطلقت
لما وقف الكح حتى تلفظ الدم. الريح تعوي في الخارج كالكلبة، والبيت طويل
وخاو وبارد كالقبر. وحين تتذكر العمر الطويل تطلب الموت ولا تجده، والعقرب
الصفراء تحيط نفسها بأولادها وتمضغ.. هل يحقر الرجل أمه وينساها بدون سحر؟
سحرت له العقرب الصفراء.. سحرت له.» ص (50.49).
يتجاوب في هذا المجتزأ صوت السارد، وصوت الأم في تناغم وترتيب دقيق بين
الحوار الداخلي للأم، وتعليق السارد المسؤول على نظام أحداث و(فقرات/
متواليات) الحكاية. يتناوب في هذه المتوالية السردية صوت الخارج وصوت
الداخل، فيتحول صوت الأم (الشخصية) إلى أسلوب يخترق صوت السارد الخارجي
الوثوقي، معلنا عن الحضور الفعلي للشخصية القصصية. ومن ثمة يمكن التمييز
بين صوت السارد المنظم للحكاية (= السرد)، وبين الحكاية (= القصة) كعمود
فقري في العالم القصصي عند أحمد بوزفور، بالتركيز على مكون الشخصية.
الأم المكلومة:
كل أُمٍّ في «ديوان السندباد» مكلومة، ومفجوعة، ومضيومة، وسبب حزنها
وآلامها نابع من نهر أمومتها الذي لا ينضب، وخوفها الشديد على فلذاتها،
ونابع من تقلبات الزمان، كالترمل، وزواج الزوج بأخرى. هنا أيضا تكون الأم
رؤية سرديَّةٍ، وزواية للتعبير عن موقفٍ فكريٍّ واجتماعيٍّ، وهي كذلك من
الركائز التي ينهض عليها الفضاء القصصي لدى أحمد بوزفور، فالمرأة/الأم
تستدعي الطفل/الابن والجامع. إن السارد غالبا ما يكون طفلا، يروي الوقائع
عبر رؤية سردية استرجاعية، تضع الزمن الماضي في مسار الزمن الحاضر، أي وضع
الأحداث المنتهية في سياقٍ سرديٍّ مُحَيَّنٍ. ولعل جمالية قصص أحمد بوزفور
تكمن في هذه المنطقة بالذات، عندما يحل الماضي في الحاضر، أو يحل المستقبل
في الحاضر كما في التعبير التالي:« لو أنها تبقى هكذا... لا تصل أبدا ولا
تغيب أبدا، مرزوقة... مرزوقة... مرز..» ص (63).
و«مرزوقة» نموذج الأم المكلومة، الأم الثكلى التي قُتِلَ وليدها بعدما
أَهَانَهَا الزمانُ بموتِ زوجِهَا، وَحَوَّلَهَا ربيبُها إلى أَمَةٍ،
والناسُ إلى مَجْنُونَةٍ. لكنها ستنتقم من ابن ربيبها بقتله ليلة عرسه
(دُخْلَتِهِ). يقول النص: «يا المختار.. ابنها مات» ولكن المختار يرد على
الناس:
أعرج ومات.. هل مات النبي؟ كان أخي أنا أيضا ودفعت من جيبي نفقات الجنازة
وصدقة السابع.. الموتى الله يرحمهم، والأحياء بطونهم مفتوحة.
يا المختار.. الناس..
على الأقل تشطب الدار، تربط البقر.. تجلب الماء.. تحلل الخبز الذي تأكله.
هل تريد أن يلعب الشيطان برأسها وتجرك إلى المحاكم؟
أنا أيضا شيطان، والشرع هو الذي شيبني، ليجربوني.
يا المختار.. السياسة خير من صداع الراس.
وهل أنا لا أحب السياسة. أنا سأزوج ابني والدار ضيقة.. لماذا لا يحوزها
الذين يتكلمون؟» ص (70).
ويضيف النص:« وسألت: ماذا فعلت مرزوقة؟ ولم يد ر أحد.. ماذا فعلت مرزوقة؟..
رد أحد الأطفال مدهوشا: لم تعرف؟ قتلت عروسة عبد السلام بالسكين.» ص (71).
محمد معتصم
الملحق الثقافي / الاتحاد الاشتراكي
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
مواضيع مماثلة
» صورة المرأة في القصة القصيرة المغربية، أحمد بوزفور نموذجا / محمد معتصم
» أحمد بوزفور
» الشخصية قي القصة القصيرة
» القصة القصيرة والمدينة / عبد الرحيم مؤذن
» القصة القصيرة التسعينية في المغرب.. شاهدُ عُـمْـر
» أحمد بوزفور
» الشخصية قي القصة القصيرة
» القصة القصيرة والمدينة / عبد الرحيم مؤذن
» القصة القصيرة التسعينية في المغرب.. شاهدُ عُـمْـر
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى