أعطى كل شيء خلقه ثم هدى
صفحة 1 من اصل 1
أعطى كل شيء خلقه ثم هدى
أعطي كل شئ خلقه ثم هدي |
يقول الله تعالي في محكم تنزيله "قال ربنا الذي أعطي كل شئ خلقه ثم هدي" "طه:50". يقول المفسرون: قال نبي الله موسي عليه السلام رداًً علي تهكم فرعون حين سأله هو وأخاه هارون عليهم السلام مستنكراً أن يكون هناك رباً غيره: فمن ربكما يا موسي؟. قال صاحب المعجم: التهكم: هو الاستهزاء والاستخفاف. فأجابه موسي عليه السلام إجابة جامعة مانعة قاطعة في غابة البلاغة والبيان لاختصارها ودلالتها علي جميع الموجودات بأسرها: "ربنا الذي أعطي كل شئ خلقه ثم هدي" أي: ربنا سبحانه هو الذي أبدع كل شئ خلقه ثم هداه لمنافعه ومصالحه. وفي المعجم: هدي فلاناً: هدي وهدايا وهداية: أرشده ودله.. و"هدي" فلانا الطريق وللطريق وإلي الطريق: عرفه وبينه له و"اهتدي" استرشد واستهدي فلان: طلب الهدي . و"الهدي": الرشاد. و"الهادي": من أسماء الله الحسني. و"الهادي" أيضاً: الدليل. ولقد وردت مادة "هدي" ومشتقاتها في القرآن الكريم نحو ثلاثمائة وسبعة عشر "317" مرة. يقول الإمام القرطبي: أعطي كل شئ زوجه من جنسه. ثم هداه إلي مطعمه ومشربه ومسكنه وأموره كلها.. وقال مجاهد: أعطي كل شئ صورته. وسوي خلق كل دابة. وقال الحسن وقتاده: أعطي كل شئ صلاحه. وهداه لما يصلحه. وأعطي كل شئ صورته: لم يجعل خلق الإنسان كخلق البهائم. ولا خلق البهائم كخلق الإنسان. ولكن خلق كل شئ فقدره تقديراً. وقال الضحاك: أعطي كل شئ من المنفعة المنوطة به المطابقة له. يعني اليد للبطش. والرجل للمشي. واللسان للنطق. والعين للنظر والأذن للسمع. وقال الشيخ السعدي صاحب تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: قال فرعون لموسي عليه السلام علي وجه الإنكار: "قال فمن ربكما يا موسي" "طه: 49". فأجاب موسي عليه السلام بجواب شاف كاف واضح فقال: "ربنا الذي أعطي كل شئ خلقه ثم هدي" "طه:50" أي: ربنا الذي خلق جميع المخلوقات وأعطي كل مخلوق خلقه اللائق به. علي حسن صنعة من خلقه. من كبر الجسم وصغره وتوسطه وجميع صفاته. ثم هدي كل مخلوق إلي ما خلقه له وهذه الهداية الكاملة المشاهدة في جميع المخلوقات فكل مخلوق تجده يسعي لما خلق له من المنافع. كسعيه لدفع المضار عنه. حتي أن الله تعالي أعطي الحيوان البهيم من الفطرة والخلقة ما يتمكن به من ذلك وهذا كقوله تعالي "الذي أحسن كل شئ خلقه" "السجدة: الآية 7" فالذي خلق المخلوقات وأعطاها خلقها الحسن. الذي لا تقترح العقول فوق حسنه. وهداها لمصالحها. هو الرب علي الحقيقة. فإنكاره إنكار لأعظم الأشياء وجوداً. وهو مكابرة ومجاهرة بالكذب. ويقول الدكتور عبدالله عبد الدايم: إن كل شئ في الخليقة هو إعجاز رباني والإعجاز هنا في الهداية بعد الخلق. وهنا الهداية ليست الهداية الإيمانية. بل الهداية إلي أمور تضمن الحياة والديمومة واستمرار الأجيال. ولو تمعنا في الكائنات الحية نري أن الهداية هذه جلية وهي قدرة هذه الكائنات علي عدة أمور: كتناول طعامها أو الحصول علي رزقها. وبناء مساكنها. وديمومة أجيالها. أو الحفاظ علي جنسها. إن تأمين الغذاء والمكان الآمن للبيضة المخصبة في عالم الحيوان من بديع الإعجاز. ففي الطيور نري أن البيضة تحتوي علي البويضة المخصبة التي لا تشكل منها إلا جزءاً ضئيلاًًًًًًً جداً. والباقي من بياض البيضة وصفارها مواد غذائية تتحول إلي جنين بعد بدء انقسامات البويضة المخصبة هنا أيضاً وفر الله سبحانه للبويضة المخصبة ما تنمو عليه إلي أن يتم تكوين الجنين ثم يخرج الفرخ ليقتدي بأمه وتعلمه طريقة التقاط الحبوب أو تجلب له الأم "أو الأب"َ طعامه ثم تضعه في فمه إلي أن يعتمد علي نفسه. وهناك سلوكيات غريبة تسلكها الحشرات لضمان الغذاء. ومن الحشرات ما تبني كوخاً هرمياً صغيراًً. في قمته فتحة صغيرة تقوم الحشرة هذه باصطياد حشرة أخري وتقتلها وتضعها في الكوخ. ثم تضع بيضها عليها. وتقوم بإغلاق الفتحة العليا للكوخ وعندما تفقس البيضة تتغذي الحشرة الصغيرة علي الحشرة الضحية إلي أن تصبح حشرة كاملة فتخترق القمة العليا وتبدأ بالطيران. انظر إلي عظمة الله تعالي التي أوجدها في أصغر المخلوقات. إن هذه الأمهات ستموت ولن تري الأجيال القادمة. مع ذلك فانها تسلك هذه السلوكيات الغريبة للمحافظة علي نوعها من الانقراض. وغالباً أنها لا تدري لماذا تفعل هذا. لكنه إلهام رباني مبرمج في أدمغتها. مثل برامج الكمبيوتر تنفذه. فهل هناك هداية أروع من هذا؟! وبعد أن يتكامل الجنين ويخرج إلي الدنيا في كثير من الكائنات- وبالذات الثدييات-فإن أول شئ مهم يجب أن يمارسه ولا يستطيع أحد أن يعلمه إياه تعليماً هو الرضاعة. فإن لم يجده فمصيره الموت. فالمولود من الثدييات يجيد الرضاعة. فمن علمه هذا؟! إلا أن تكون هداية ربانية. وبعد الولادة فإن كثيراً من وليد الحيوانات- وكذلك الانسان- يحتاج إلي رعاية زمنية ومتفاوتة وربما يكون الإنسان أطولها وأرهقها للأم. وهنا تبدأ الأمومة وما أدراك ما الأمومة؟ إنها حقاً معجزة. يتحول خلالها الحيوان الوديع إلي وحش كاسر ويظهر سلوكيات عجيبة لحماية الوليد الصغير ورعايته. وكلها عوامل لاستمرارية الأجيال والحفاظ عليها من الانقراض. إن الرعب والرهبة التي تكون في نفس القط تجاه الكلب تتلاشي في فترة الأمومة ونلاحظها تحتضن أولادها وترضعهم معظم أوقاتها. وإذا اقترب منهم كلب تراها تكشر عن أنيابها وتبرز مخالبها وتنفخ وتتحدي وتتأهب للهجوم علي الكلب. بينما هي في أوقات غير الأمومة تطلق أرجلها للريح. وتعدو مسرعة لتنجو بنفسها - بمجرد رؤية الكلب من بعيد- والدجاجة في فترة الأمومة تتحدي القط والكلب والأفعي وأي كائن آخر يقترب من صغارها وهناك عقارب تحمل صغارها علي ظهرها الي ان تستطيع الاعتماد علي النفس ومعظم الطيور تجلب لصغارها الطعام وعيونها لم تتفتح علي الدنيا بعد. فتلقمه إياها والصغار لا تعرف غير فتح فمها وابتلاع الطعام. أما السلوكيات التي تسلكها الحيوانات للحصول علي رزقها. فجميع الحيوانات تسعي حثيثاً للحصول علي ما تقتات عليه وتسد رمقها. ولهذا نري أن الأجناس والأنواع المختلفة من الحيوانات لها تصرفات وحركات ذات مهارة عالية. وربما لو حاول الإنسان العادي أن يقلدها فلن يستطيع فالعنكبوت تبني بيتاً خفيفاً واهياً لكنه ذو هندسة جميلة وتتحرك حركات بزوايا محدودة ومسافات معلومة لعمل خيط. وآخر بزاوية أخري ومسافة أخري. والثانية والثالثة والرابعة إلي أن تراها قد أكملت شكلاً هندسياً جميلاً. ثم تراها تجلس في إحدي الزوايا منتظرة حشرة تقع في هذا الشرك. فتسارع إلي لف خيوط أخري حولها وتكبلها حتي تصبح بلا حول ولا قوة. ثم تغرس أنيابها في جسمها وترتشف عصارة جسمها فلا يبقي فيها إلا القشرة الخارجية. وأنت تنظر إليها وكأنها سليمة ولا تدري أن العنكبوت قد أمتص كل عصارتها. ويقول الشيخ الإمام عبد الله سراج الدين: لا تظن أن الذي خلقك وأبدعك. وجملك وكملك كما قال سبحانه: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم" "التين 4". وأبدع كل شئ خلقه قال تعالي: "صنع الله الذي أتقن كل شئ إنه خبير بما تفعلون" "النمل: من الآية88". لا تظننه سبحانه قد خلقك وأهملك. فلقد خلقك ثم هداك لما فيه مصلحة وبقاء وجودك. وهذا هو الهدي العام. "أعطي كل شئ خلقه ثم هدي" طه: "الآية 50" أي: لما فيه بقاؤه ووجوده. وبعد هذه المرحلة هدي سبحانه الناس هدياً خاصاً بواسطة الرسل. فدلوهم علي كل خير وحذروهم من كل شر لينالوا سعادة الدنيا والآخرة. قال تعالي: "ألا له الخلق والأمر" "الأعراف: من الآية 54". لقد أرسل الله تعالي رسله إلي الأمم كي يصلحوا أمور الناس في الدنيا فتكون العاقبة الحسني في الآخرة كما قال تعالي: "فإما يأتينكم مني هدي" "البقرة: من الآية 38" أي: من عندي أنزله علي رسول من رسلي يهدي الناس إليه "فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقي" "طه: من الآية 123" أي: ينال سعادة الدنيا والآخرة. وكل هدي لم ينزل من عند الله علي رسله فلا يعتبر هدياً. لأنه لا يعلم حاجة العباد ومصالحهم إلا من خلقهم قال سبحانه: "ألا يعلم من خلق.." "الملك: 14" إنه الله تعالي. فلذلك خلقهم ولم يتركهم في الجهل والفوضي وإنما نزل عليهم هدياً وشريعة حتي تنصلح أمورهم وتنتظم حياتهم وينالوا سعادة الدنيا والآخرة. وإن مهمة كل رسول أن يدل أمته علي كل خير ويحذرهم من كل شر كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته علي خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم. وإن أمتكم هذه جعلت عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها أي: آخر الزمان من أشراط الساعة وتجئ فتنة فيرفق بعضها بعضاً أي: متتابعة تجئ الفتنة فيقول المؤمن. هذه مهلكتي ثم ينكشف. وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه. ثم تنكشف. فمن أحب أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتدركه منيته وفي رواية الإمام ابن ماجة في سننه: موتته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر. وليأت إلي الناس بما يحب أن يؤتي إليه. فلقد دل رسول الله صلي الله عليه وسلم علي كل خير. وحذرهم من كل شر. فلا غني للإنسان عن رسول الله صلي الله عليه وسلم. |
فؤاد الدقس
المصدر : جريدة عقيدتي
العدد 18أيار (مايو )2010
أبو الحزم- عدد الرسائل : 22
العمر : 56
تاريخ التسجيل : 12/02/2010
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى