معارك ضارية حول القرآن
صفحة 1 من اصل 1
معارك ضارية حول القرآن
ما من شك أن
موضوع جمع القرآن، ضمانا لحمايته كنص مقدس، عمل «ابتكره» الخليفة عثمان بن
عفان. غير أن هذا العمل أثيرت حوله الشبهات وطرح إشكالات كبرى لم يقع
تجاوزها تماما، إلا عبر اختيارات إيديولوجية مملاة،. ذلك أن مجموعة من
الروايات تذهب إلى أن «المشروع العثماني» قام على مصادرة سلطة القراء
(الحفاظ) كمؤتمنين على الذاكرة الشفوية، ومنهم أزواج الرسول، ومجموعة من
الصحابة. ولعل هذا ما فتح الباب أمام القائلين بأن عثمان- الذي أمر بحرق
المصاحف-كان وراء انفساخ العلاقة بين تلقي الحدث القرآني وبين الأثر
المكتوب والمرتب في «المصحف». بل سمح لمجموعة من الباحثين «القرآنيين»-
القدامى والمعاصرين- بتقديم بيانات حول وقوع التحريف في القرآن والتغيير
في آياته وترتيبه وسقوط أشياء منه»..
إعداد: سعيد منتسب-الاتحاد الاشتراكي
موضوع جمع القرآن، ضمانا لحمايته كنص مقدس، عمل «ابتكره» الخليفة عثمان بن
عفان. غير أن هذا العمل أثيرت حوله الشبهات وطرح إشكالات كبرى لم يقع
تجاوزها تماما، إلا عبر اختيارات إيديولوجية مملاة،. ذلك أن مجموعة من
الروايات تذهب إلى أن «المشروع العثماني» قام على مصادرة سلطة القراء
(الحفاظ) كمؤتمنين على الذاكرة الشفوية، ومنهم أزواج الرسول، ومجموعة من
الصحابة. ولعل هذا ما فتح الباب أمام القائلين بأن عثمان- الذي أمر بحرق
المصاحف-كان وراء انفساخ العلاقة بين تلقي الحدث القرآني وبين الأثر
المكتوب والمرتب في «المصحف». بل سمح لمجموعة من الباحثين «القرآنيين»-
القدامى والمعاصرين- بتقديم بيانات حول وقوع التحريف في القرآن والتغيير
في آياته وترتيبه وسقوط أشياء منه»..
إعداد: سعيد منتسب-الاتحاد الاشتراكي
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
هل غير عثمان بن عفان كلام الله؟
لقي جمع القرآن معارضة قوية من طرف بعض أتباع النبي وأزواجه- وهذا ثابت تاريخيا وليس ضربا من الأقاويل- مما عصف بالالتزام بالأثر المكتوب للنص وقوى التشكيك في الوحي؛ حتى إن بعض الكتابات، مثل كتابات آرثر جفري التي نقلها الباحث السوري نبيل فياض، تعود- كي تثبت «دنيوية الوحي»- إلى روايات تنقل ما وقع للنبي مع بعض صحابته، أمثال عبد الله بن أبي سرح الذي كان من كتبة الوحي قبل ارتداده عن الإسلام. ذلك أن كتب السنة تنقل، بدون مركبات نقص، هذا النوع من الحكايات التي يستخف بعض أبطالها بالوحي، وأحيانا يرتابون بأصالته: يقدم المورخ البلاذري- رواية عن الواقدي- مؤرخ «لحظات الإسلام الأولى»، في نهاية كتابه «فتوح البلدان» صورة عما يفعله كتاب الوحي بما يملي عليه النبي: «قال الواقدي: وأول من كتب له من قريش عبد الله بن سعد بن أبى سرح، ثم ارتد ورجع إلى مكة وقال لقريش: «أنا آتى بمثل ما يأتي به محمد». وكان يملي عليه «الظالمين» فيكتب «الكافرين»، ويملي عليه «سميع عليم» فيكتب غفور رحيم. وأشباه ذلك. وعن سبب ارتداده يقول القرطبي في تفسيره: «وسبب ذلك فيما ذكر المفسرون أنه لما نزلت الآية: «ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين» (المؤمنون:12) دعاه النبي (ص) فأملاها عليه؛ فلما انتهى إلى قوله «ثم أنشأناه خلقا آخر» (المؤمنون: 14) عجب عبد الله في تفصيل خلق الإنسان؛ فقال: «تبارك الله أحسن الخالقين» (المؤمنون: 14). فقال رسول الله (ص): «وهكذا أنزلت عليّ»؛ فشك عبد الله حينئذ؛ وقال: «لئن كان محمد صادقاً لقد أوحي إليّ كما أوحي إليه، ولئن كان كاذباً لقد قلت كما قال». فارتدّ عن الإسلام ولحق بالمشركين، فذلك قوله: «ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله» رواه الكلبي عن ابن عباس» (1341). ويقول الصفدي في الوافي نقلاً عن ابن أبي سرح: «إني كنت أصرف محمداً حيث أريد - كان يملي عليّ «عزيز حكيم»؛ فأقول: أو «عليم حكيم». فيقول: «كلٌّ صواب» (2394)، ويختصرها أبو الفداء بقوله: «وكان عبد الله المذكور قد أسلم قبل الفتح، وكتب الوحي، فكان يبدّل القرآن، ثم ارتدّ». (السابق). وفي العقد الفريد: «كان عبدُ اللّه بن سعد بن أبي سرح يكتب له، ثم ارتدّ ولَحِق بالمُشركين، وقال: «إنّ محمداً يكتب بما شِئْتُ» (537). ويروى أنه لما كان يوم فتح مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله. فكلمه فيه عثمان بن عفان وقال: أخى من الرضاع وقد أسلم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتركه، وولاه عثمان مصر». ولم تتوقف شهية آرثر جفري، الذي كرس سنوات من عمره لتأليف كتابه الموسوعي «مواد من أجل تاريخ نص القرآن»، عن محاولات دحض كل ما من شأنه ثبيت «كلام الله الذي أقام في ذاكرة النبي» في مصحف عثمان، ثم في ذاكرة صحابته الأنداد والمتنافسين والمتعارضين، في حياته وبعد مماته، ذلك أنه اهتم بـ«فروقات المصاحف» مقابل «قرار ترسيخ القرآن إلى الأبد» في مصحف عثمان. بل إن الأنتروبولوجي التونسي يوسف صديق، لم يتردد في إلقاء اللائمة على الخليفة عثمان وتحميله مسؤولية «تسبيت» النص القرآني، معتبرا أن «أول من انتهك النموذج النبوي الذي جعل من الرسول محمد مجرد مبلغ كان هو الخليفة الراشدي الثالث». ومنذ ذلك التاريخ- يقول يوسف صديق- لم يتوقف السياسيون في العالم العربي والإسلامي على «إنتاج البهتان وإقصاء أهل الفكر بتحويلهم إلى مجرد مهرجين أو مؤرخين أو مبكين». لقد أمر عثمان بحرق المصاحف. وأرجع بعض المفسرين إقدامه على ذلك إلى الأسباب التالية: أولا: كان بها بعض العبارات التفسيرية، سواء آخر الآية أو فوقها أو تحتها، مما قد يظن بعد ذلك أنها من القرآن. ثانيا: كانت هذه المصاحف قراءات غير صحيحة وآيات نسخت تلاوة. ثالثا: الطريقة التى كتبت بها هذه المصاحف لا تحتمل وجود الألسن السبعة، بل أكثرها كان يعتبر عن لسان واحد عن قبيلة واحدة. رابعا: اختلاف الطرق الإملائية فى هذه المصاحف، وهذا ما تداركه عثمان فى قصر الخط على يد رجل واحد هو سعيد بن العاص. لكن حرق المصاحف ظل، مقابل ذلك، من الإتهامات الصريحة التى وجهت له قبل مقتله. فقد روى الحافظ ابن عساكر: أن عثمان لما عزم على أهل الدار في الانصراف ولم يبق عنده سوى أهله، تسوروا عليه الدار، وأحرقوا الباب، ودخلوا عليه، وليس فيهم أحد من الصحابة ولا أبنائهم، إلا محمد بن أبي بكر، وسبقه بعضهم فضربوه حتى غشي عليه، وصاح النسوة: فانزعروا، وخرجوا. ودخل محمد بن أبي بكر وهو يظن أنه قد قتل، فلما رآه قد أفاق قال: «على أي دين أنت يا نعثل»؟ قال: «على دين الإسلام، ولست بنعثل ولكني أمير المؤمنين». فقال: «غيرت كتاب الله؟». فقال: «كتاب الله بيني وبينكم». فتقدم إليه وأخذ بلحيته وقال: «إنا لا يقبل منا يوم القيامة أن نقول: «رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا» (الأحزاب: 67)»، وشطحه بيده من البيت إلى باب الدار، وهو يقول: «يا ابن أخي، ما كان أبوك ليأخذ بلحيتي». 11-8-2010 | ||
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
إتلاف الأثر الأصلي للوحي بين عثمان وعبد الله بن مسعود
بصرف النظر عن ذلك النزاع الطبيعي الذي أفرزته «الطبيعة الشفوية» للقرآن (حفظ مجموع الوحي) وبين «إكراه» تدوينه كتابةً حصرا للاقتتال بين المسلمين- حسب ما يدفع به فقهاء السنة، فإن السؤال الذي انشغل به الباحثون القرآنيون، سنة وشيعة وأنتروبولوجيين ومؤرخين ومتكلمين، هو: كيف يمكن «تثبيت» كلام الله الذي أقام في ذاكرة النبي، ثم في ذاكرة صحابته الأنداد والمتنافسين والمتعارضين، في حياته وبعد مماته؟ يقول يوسف الصديق في كتابه المثير للجدل «لم نقرأ القرآن بعد»: إذا كانت الشفوية بالنسبة للمعاصرين للنبي قد حافظت على الكتاب غير المكتوب في التاريخ الحي، فإن قرار ترسيخه للأبد الذي لقي معارضة من طرف أتباع النبي الكبار خلخل كل صيغ التواصل عبر خلق كيان شل دينامية الكلام الذي نعته القرآن قبل ذلك بـ«الكتاب». وإلا كيف يمكننا أن نستوعب المأساة الشخصية التي عاشها أقرب الصحابة إلى الرسول، أبو بكر الصديق، حينما أشار عليه عمر بن الخطاب بـ«تجميع القرآن»؟ عن زيد بن ثابت، قال: «أرسل إليِّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر: إنّ عمر أتاني، فقال: «إنّ القتل استمرّ بقُرّاء القرآن، وإنّي أخشى أن يستمرّ القتل بالقُرّاء في المواطن، فيذهب كثيرٌ من القرآن، وإنّي أرى أن تأمر بجمع القرآن، فقلت لعمر: كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله؟». قال عمر: هو والله خير. فلم يزل يراجعني حتّى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنّك شابّ عاقل، لا نتّهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله. فتتبّع القرآن فاجمعه - فوالله لو كلّفوني نقل جبلٍ من الجبال ما كان أثقل عليَّ ممّا أمرني به من جمع القرآن». وحتى إذا افترضنا أن الخليفتين الأولين (أبو بكر وعمر) حاولا تنقيح وإنتاج «المنظومة» (القرآن). فحسب نفس المصادر التي يجيزها التقليد، فإن الخليفتين معا قاما بتجميع آيات القرآن وفحصها وإكمالها ونسخها على قطع الطين وألواح الحجر والجريد والنخل وقطع الرق والجلود وعظام الكتف وأضلاع الجمال وألواح الخشب. أما الخليفة الثالث (عثمان بن عفان)، فقد ذهب أبعد من ذلك حينما قام بتجميع المصاحف وأمر بحرقها جميعها، حتى يتفوق الأثر الواحد المكتوب للنص المقدس على الذاكرة الشفوية المتعددة. فمما يروى أن الفزع انتاب حذيفة بن اليمان عندما رأى اختلاف الناس وتعصبهم لبعض القراءات، كما بدأت تظهر، مع فتوح البلدان، قراءات كثيرة مليئة بالأخطاء لدخول ألسنة غير عربية على قراءة القرآن، فظهر الكثير من اللحن فى قراءته فكان أن توجه إلى عثمان بن عفان ليتدخل من أجل حصر الضرر، قبل أن تضيع لغة القرآن بين الناس وتحدث فرقة كفرقة أهل الكتاب على كتابهم، فتم اختيار نخبة من الصحابة لجمع القرآن فى مصحف واحد يجتمع عليه الناس، ويحمل فى نفس الوقت صلاحية الأحرف السبعة غير القراءات السبعة، وكانت النخبة التى كونها ثمان من الحفظة المهرة، ومنهم زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام. وقد كان هؤلاء من كتبة الوحى، وكانوا حافظين للقرآن بالسماع المباشر من النبي. فهل مكن اجتماع هؤلاء الكتبة من درء الشبهة عن «مصحف عثمان»، خاصة أن كتابا آخرين للوحي كانوا يؤمنون أن الحرف لا يمكنه أن «يزيح الكلام الإلهى أو أن يعتقل قوته التي ما الحرف إلا صورة لها»؟ وهل كان عثمان خارج إنتاج النص المكتوب؟ أي هل اكتفى بـ«التجميع»، أم تعداه إلى «الترتيب» وتثبيت «الناسخ» ومحو «المنسوخ»؟ يورد السجستاني رواية تضع الخليفة عثمان وجها لوجه مع ابن عباس، ابن عم الرسول، والمنبع الأصلي للسيرة النبوية: «يروي أحمد والنسائي والترمذي والحاكم عن ابن عباس قال: قلت لعثمان: «ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المبين فقرنتموهما بهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموهما في السبع الطوال؟» فقال عثمان: «كان رسول الله كثيرا ما ينزل عليه السورة ذات العدد فإذا نزل عليه الشيء - يعني منها - دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا. وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وبراءة من آخر القرآن وكانت قصتها شبيهة بها فظننت أنها منها وقبض رسول الله ولم يبين لنا أنها منها». لقد اعترف الخليفة، إذن، أنه لم يأخد إلا بـ«رأيه»، وأنه كان يشرف بنفسه على جمع وترتيب القرآن، وإثبات آيات وتعليق أخرى وعدم الفصل بين سورتين بسطر بسم الله الرحمن الرحيم. فعثمان، على الرغم من تبنيه فكرة أن الترتيب توقيفي بأمر الرسول، لم ينف اجتهاده في ترتيب براءة وراء الأنفال وأقر فعله. وهذا مما يؤجج التشويش، ويضع الاختلافات النصية بين المصاحف التي أتلفت ومنعت من الاستعمال في قلب المعادلات السياسية التي تخدم هذا الطرف أو ذاك. وإلا بماذا يمكن تفسير انتفاضة عبد الله بن مسعود الذي اشتهر كمحدّث وكمرجع قرآني، كما تخبرنا الروايات أنه كان أحد أربعة نصح محمد أمته أن تلجأ إليهم في الحصول على معلومات بشأن القرآن؟ وبماذا يمكن تفسير امتناع حفصة عن تعريض «مصحفها» للحرق؟ | ||
12/8/2010 |
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
الشيطان يلقي سمومه في أمنية النبي
لقد أصبح
استعمال مبدأ النسخ- حسب ما انتهى إليه الأنتروبولجي التونسي يوسف الصديق،
عنصرا أساسيا من عناصر الآلة الفقهية بسبب سوء فهم اعترى هذه اللفظة التي
يتم تأويلها قرآنيا كفعل يعتري المكتوب، سواء بمحو الرسم أو بـ«الإبعاد من
الذاكرة» أو بإلغاء «قوته القانونية» رغم الحفاظ على أثره المكتوب.
ويسوق الباحث التونسي حديثا عن الصحابي ابن مسعود الذي كان من أشد معارضي
إقدام الخليفة عثمان على جمع المصاحف في مصحف واحد وإحراق الأخرى، أنه
قال: «لقنني رسول الله آية حفظتها وأثبتها في المصحف فأردت أن اقرأها في
بعض الليالي فلم أتذكرها فرجعت إلى المصحف فوجدت مكانها أبيض فأخبرت
الرسول بذلك فقال نسخت تلك الآية».
ومعنى كلمة «نَسَخَ»، في القواميس: أزال، أو أبطل. وهذا بالطبع غيْرُ
المعنى المعروف، وهو أن ينسخ كتابا أي ينقل صورة منه. وقد جاء في المعجم
الوسيط نسخ الشيء أي أزاله، ويقال نسخ الله الآية: أي أزال حكمها.
ولم تقم المؤسسة الفقهية بمحاولة البحث- عبر المداخل والمخارج اللانهائية
التي يتيحها الفضاء غير المحدود للمصحف- عن حل نهائي لهذا المشكل إلا
لاحقا. فخلسة ينتقل السؤال من حقل الإرادة الإلهية التي تنسخ إلى روح
متلقي الوحي في الفضاء القرآني. وهذا الانتقال يتم وفق خطة هجومية والتفاف
حول ما يسمى «عوارض الرفع» (الآيات المرفوعة) التي تعرف الآن جدلا
«عالميا» باعتبارها «آيات شيطانية». ولذلك يمكننا القول بأن الأمر يتعلق
بوقائع موثوق من صحتها عاشها النبي، وقد تعرض لذلك كبار الفقهاء أمثال
الطبري الذي لم يتوقف عن التناظر بشأنها.
ومن بين الروايات التي تناولت هذا «الحادث»، هناك رواية المؤرخ الأندلسي
عبد الرحمن السهيلي (توفي سنة 1185) الذي يتجنب المواقف الحاسمة ويقدم
الحادث بجرعة لائقة تضع روايته بين رواية الطبري الباردة والمحايدة ورواية
ابن هشام أو ابن كثير المستنكرة:
«لما رأى رسول الله توليِّ قومه الكفار عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم
عما جاءهم به، تمنى في نفسه أن يأتيه من الله تعالى ما يقارب به بينه وبين
قومه، فجلس ذات يوم في ناد من أندية قريش، فأنزل الله تعالى «وَاالنَجمِ
إِذا هَوى» فقرأها رسول الله حتى بلغ «أَفَرَأَيتُمُ اللّاتَ وَالعُزّى
وَمَناتَ الثالِثَةَ الأُخرى» ألقى الشيطان على لسانه لما كان يحدث به
نفسه وتمناه: «تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى»، فلما سمعت قريش
ذلك فرحوا، ومضى رسول الله في قراءته فقرأ السورة كلها، وسجد في آخر
السورة فسجد المسلمون بسجوده وسجد جميع من في المسجد من المشركين، فلم يبق
في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد ... وتفرقت قريش وقد سرهم ما سمعوا
وقالوا: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي
ويميت ويخلق ويرزق لكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، فإن جعل لها محمداً
نصيباً فنحن معه، فلما أمسى رسول الله أتاه جبريل عليه السلام فقال: ماذا
صنعت! تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله سبحانه وتعالى، وقلت ما لم أقل
لك» فحزن رسول الله حزناً شديداً وخاف من الله خوفاً كبيراً، فأنزل الله
تعالى هذه الآية (سورة الحج): «وَما أَرسَلنا مِن قَبلِكَ مِن رَّسولٍ
وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ»..».
ورغم أن حادثة الغرانيق مثبتة في القرآن، ورائجة في كتب التاريخ، إلا أن
البعض أنكرها جملة وتفصيلا: يقول رياض حسن محرم في مقالة عنونها بـ«الآيات
الشيطانية وقصة الغرانيق»: «شكك بعض المتقدمون و المتأخرون فى صحة هذا
الحديث، بل وشكك بعضهم فى القصة برمتها، وقالوا إن هذا إلا محض افتراء على
الله ورسوله، أمثال من شكك فى الواقعة من المتقدمين الحافظ بن كثير،
والغزالى، والبيهقى، وابن حزم والقاضى عياض ومن المتأخرين الشيخ محمد عبدة
فى التفسير والشيخ ناصر الدين الألبانى فى (نصب المنجانيق، لنسف قصة
الغرانيق) ومجمل اعتراضاتهم تتلخص فيما يلى:
الإعتراض الأول: أن النبى لم يتكلم بهذا القول (تلك الغرانيق العلى) ولا
الشيطان تكلم بها ولا أحد، بل كل ما فى الأمر أن الرسول أثناء تلاوته
لسورة النجم أشتبه الأمر على الكفار، لرغبتهم فى الأمر فحسبوا بعض ألفاظه
ما روى من قولهم.
الاعتراض الثانى: أن ما ذكر هو كلام الشيطان , وأنه تلفظ بها من تلقاء
نفسه وأنزلها فى داخل التلاوة, ليظن الكفار أن الكلام لرسول الله, وأن
الذين سمعوه لم يروا أحدا فظنوا أن الذى ينطق هو رسول الله.
الاعتراض الثالث: قالوا أن رسول الله قال هذه الجملة ( تلك الغرانيق
العلا) سهوا كما روى عن قتادة ومقاتل- من الصحابة- أنهما قالا «أنه (ص)
كان يصلى عند المقام، فنعس وجرى على لسانه هاتان الكلمتان (تلك الغرانيق
العلا، منها الشفاعة ترتجى) فلما فرغ من السورة، سجد وسجد كل من فى
المسجد, فأتاه جبريل فاستقرأه السورة, فلما إنتهى من(أفرأيتم اللات
والعزى, ومناة الثالثة الأخرى,تلك الغرانيق العلى, إن شفاعتهن لترتجى) قال
جبريل : لم آتيك بهذا، فحزن الرسول إلى أن نزلت سورة الحج.
الاعتراض الرابع: إن النبى تكلم بهذه الكلمات بفعل الشيطان حسب رواية ابن
عباس. «قال إبن عباس فى رواية عطا: إن شيطان يقال له الأبيض، أتى النبى
على صورة جبريل, وألقى على لسانه هذه الكلمات» تلك الغرانيق العلى» فلما
بلغ تلك الجملة قال جبريل: أنا ما جئتك بذلك، فحزن الرسول وقال أتانى على
صورتك فألقاها على لسانى».
الاعتراض الخامس: أن الرسول تكلم بهذه الكلمات مجبرا، أى أن الشيطان أجبر الرسول على ذلك.
الاعتراض السادس: إن الرسول لشدة حرصه على إيمان القوم من أهله أدخل هذه الكلمات من تلقاء نفسه ثم رجع عنها.
وللتعليق على ما ورد من اعتراضات، يمكن القول:
1-من الصعب التصديق بوقوع الوهم فى السماع لجميع من كان بالمسجد, وليس لآحاد منهم.
2- انه لو تم تصديق أن يكون الشيطان قد قلّد صوت الرسول حتى ليختلط على
السامعين، فلا يستطيعون التمييز بين صوت الرسول وصوت الشيطان، لهو أمر
خطير إذا جاز فانه يرفع الثقة عن القرآن جميعا.
3- لو جاز عن النبي السهو لجاز في مواضع أخرى بحيث يختلط القرآن يبعضه, وهذا طعن خطير على القرآن الكريم.
4- إن ما قيل عن إجبار الشيطان للرسول على قول كلام لا يود قوله، يضعف
الثقة في قدرة آحاد الناس على صد الشيطان, ويرفع الثقة عن الوحي.
5- كما أنه من الخطأ الشديد القول بعدم تمييز الرسول بين جبريل والشيطان, فذلك خلط فادح، وطعن في الوحي عظيم.
6- كما لا يمكن تصور أن يدخل الرسول من عنده أي كلمة في القرآن، فما بالك بمثل هذا الذي قيل.
بقى أن نقول في ذلك كلمات:
(الأولى) أنه من الأفضل أن نقر بصحة حادثة الغرانيق بدلا من الدفاع الساذج الذي يضّر بمصداقية الوحى والرسول والكتاب أكثر مما ينفع.
(الثانية) حتى لو حاولوا التشكيك فى بعض رواة القصة لكن معظم الرواة لا
يمكن الطعن فيهم مثل البّرى والسيوطيوالرازي, خاصة من نقلوها وحاولوا
تبريرها بالخطأ أو السهو كقتادة ومقاتل والياس.
(الثالثة) إن تقييد ما جاء في آية الحج من قوله تعالى «وما أرسلنا من قبلك
من رسول أو نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته» بحادث محدد في ذكره،
يعنى أن يكف الآخرين عن التقول بعموم الحالة.
(الرابعة) القول بأن الله تعالى قد تكفل بحفظ كتابه المحفوظ من العبث به
في قوله «انا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» وأنه ينطبق على هذه القصة
فهذا صحيح, بمعنى أنه لو حاول انس أو جن التلاعب بكلام الله «فينسخ الله
ما يلقى الشيطان ثم يحكم آياته».
(الخامسة) أما الذين يحتجون بالآية الكريمة «وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا
وحى يوحى» بأن كل كلام الرسول (ص) وحيا، ليسوا على صواب، فقد كان الصحابة
يفرقون بين الأمرين، حين يسألون أهو خبر السماء، أم الحرب والرأي
والمشورة..».
14-8-2010
استعمال مبدأ النسخ- حسب ما انتهى إليه الأنتروبولجي التونسي يوسف الصديق،
عنصرا أساسيا من عناصر الآلة الفقهية بسبب سوء فهم اعترى هذه اللفظة التي
يتم تأويلها قرآنيا كفعل يعتري المكتوب، سواء بمحو الرسم أو بـ«الإبعاد من
الذاكرة» أو بإلغاء «قوته القانونية» رغم الحفاظ على أثره المكتوب.
ويسوق الباحث التونسي حديثا عن الصحابي ابن مسعود الذي كان من أشد معارضي
إقدام الخليفة عثمان على جمع المصاحف في مصحف واحد وإحراق الأخرى، أنه
قال: «لقنني رسول الله آية حفظتها وأثبتها في المصحف فأردت أن اقرأها في
بعض الليالي فلم أتذكرها فرجعت إلى المصحف فوجدت مكانها أبيض فأخبرت
الرسول بذلك فقال نسخت تلك الآية».
ومعنى كلمة «نَسَخَ»، في القواميس: أزال، أو أبطل. وهذا بالطبع غيْرُ
المعنى المعروف، وهو أن ينسخ كتابا أي ينقل صورة منه. وقد جاء في المعجم
الوسيط نسخ الشيء أي أزاله، ويقال نسخ الله الآية: أي أزال حكمها.
ولم تقم المؤسسة الفقهية بمحاولة البحث- عبر المداخل والمخارج اللانهائية
التي يتيحها الفضاء غير المحدود للمصحف- عن حل نهائي لهذا المشكل إلا
لاحقا. فخلسة ينتقل السؤال من حقل الإرادة الإلهية التي تنسخ إلى روح
متلقي الوحي في الفضاء القرآني. وهذا الانتقال يتم وفق خطة هجومية والتفاف
حول ما يسمى «عوارض الرفع» (الآيات المرفوعة) التي تعرف الآن جدلا
«عالميا» باعتبارها «آيات شيطانية». ولذلك يمكننا القول بأن الأمر يتعلق
بوقائع موثوق من صحتها عاشها النبي، وقد تعرض لذلك كبار الفقهاء أمثال
الطبري الذي لم يتوقف عن التناظر بشأنها.
ومن بين الروايات التي تناولت هذا «الحادث»، هناك رواية المؤرخ الأندلسي
عبد الرحمن السهيلي (توفي سنة 1185) الذي يتجنب المواقف الحاسمة ويقدم
الحادث بجرعة لائقة تضع روايته بين رواية الطبري الباردة والمحايدة ورواية
ابن هشام أو ابن كثير المستنكرة:
«لما رأى رسول الله توليِّ قومه الكفار عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم
عما جاءهم به، تمنى في نفسه أن يأتيه من الله تعالى ما يقارب به بينه وبين
قومه، فجلس ذات يوم في ناد من أندية قريش، فأنزل الله تعالى «وَاالنَجمِ
إِذا هَوى» فقرأها رسول الله حتى بلغ «أَفَرَأَيتُمُ اللّاتَ وَالعُزّى
وَمَناتَ الثالِثَةَ الأُخرى» ألقى الشيطان على لسانه لما كان يحدث به
نفسه وتمناه: «تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى»، فلما سمعت قريش
ذلك فرحوا، ومضى رسول الله في قراءته فقرأ السورة كلها، وسجد في آخر
السورة فسجد المسلمون بسجوده وسجد جميع من في المسجد من المشركين، فلم يبق
في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد ... وتفرقت قريش وقد سرهم ما سمعوا
وقالوا: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي
ويميت ويخلق ويرزق لكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، فإن جعل لها محمداً
نصيباً فنحن معه، فلما أمسى رسول الله أتاه جبريل عليه السلام فقال: ماذا
صنعت! تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله سبحانه وتعالى، وقلت ما لم أقل
لك» فحزن رسول الله حزناً شديداً وخاف من الله خوفاً كبيراً، فأنزل الله
تعالى هذه الآية (سورة الحج): «وَما أَرسَلنا مِن قَبلِكَ مِن رَّسولٍ
وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ»..».
ورغم أن حادثة الغرانيق مثبتة في القرآن، ورائجة في كتب التاريخ، إلا أن
البعض أنكرها جملة وتفصيلا: يقول رياض حسن محرم في مقالة عنونها بـ«الآيات
الشيطانية وقصة الغرانيق»: «شكك بعض المتقدمون و المتأخرون فى صحة هذا
الحديث، بل وشكك بعضهم فى القصة برمتها، وقالوا إن هذا إلا محض افتراء على
الله ورسوله، أمثال من شكك فى الواقعة من المتقدمين الحافظ بن كثير،
والغزالى، والبيهقى، وابن حزم والقاضى عياض ومن المتأخرين الشيخ محمد عبدة
فى التفسير والشيخ ناصر الدين الألبانى فى (نصب المنجانيق، لنسف قصة
الغرانيق) ومجمل اعتراضاتهم تتلخص فيما يلى:
الإعتراض الأول: أن النبى لم يتكلم بهذا القول (تلك الغرانيق العلى) ولا
الشيطان تكلم بها ولا أحد، بل كل ما فى الأمر أن الرسول أثناء تلاوته
لسورة النجم أشتبه الأمر على الكفار، لرغبتهم فى الأمر فحسبوا بعض ألفاظه
ما روى من قولهم.
الاعتراض الثانى: أن ما ذكر هو كلام الشيطان , وأنه تلفظ بها من تلقاء
نفسه وأنزلها فى داخل التلاوة, ليظن الكفار أن الكلام لرسول الله, وأن
الذين سمعوه لم يروا أحدا فظنوا أن الذى ينطق هو رسول الله.
الاعتراض الثالث: قالوا أن رسول الله قال هذه الجملة ( تلك الغرانيق
العلا) سهوا كما روى عن قتادة ومقاتل- من الصحابة- أنهما قالا «أنه (ص)
كان يصلى عند المقام، فنعس وجرى على لسانه هاتان الكلمتان (تلك الغرانيق
العلا، منها الشفاعة ترتجى) فلما فرغ من السورة، سجد وسجد كل من فى
المسجد, فأتاه جبريل فاستقرأه السورة, فلما إنتهى من(أفرأيتم اللات
والعزى, ومناة الثالثة الأخرى,تلك الغرانيق العلى, إن شفاعتهن لترتجى) قال
جبريل : لم آتيك بهذا، فحزن الرسول إلى أن نزلت سورة الحج.
الاعتراض الرابع: إن النبى تكلم بهذه الكلمات بفعل الشيطان حسب رواية ابن
عباس. «قال إبن عباس فى رواية عطا: إن شيطان يقال له الأبيض، أتى النبى
على صورة جبريل, وألقى على لسانه هذه الكلمات» تلك الغرانيق العلى» فلما
بلغ تلك الجملة قال جبريل: أنا ما جئتك بذلك، فحزن الرسول وقال أتانى على
صورتك فألقاها على لسانى».
الاعتراض الخامس: أن الرسول تكلم بهذه الكلمات مجبرا، أى أن الشيطان أجبر الرسول على ذلك.
الاعتراض السادس: إن الرسول لشدة حرصه على إيمان القوم من أهله أدخل هذه الكلمات من تلقاء نفسه ثم رجع عنها.
وللتعليق على ما ورد من اعتراضات، يمكن القول:
1-من الصعب التصديق بوقوع الوهم فى السماع لجميع من كان بالمسجد, وليس لآحاد منهم.
2- انه لو تم تصديق أن يكون الشيطان قد قلّد صوت الرسول حتى ليختلط على
السامعين، فلا يستطيعون التمييز بين صوت الرسول وصوت الشيطان، لهو أمر
خطير إذا جاز فانه يرفع الثقة عن القرآن جميعا.
3- لو جاز عن النبي السهو لجاز في مواضع أخرى بحيث يختلط القرآن يبعضه, وهذا طعن خطير على القرآن الكريم.
4- إن ما قيل عن إجبار الشيطان للرسول على قول كلام لا يود قوله، يضعف
الثقة في قدرة آحاد الناس على صد الشيطان, ويرفع الثقة عن الوحي.
5- كما أنه من الخطأ الشديد القول بعدم تمييز الرسول بين جبريل والشيطان, فذلك خلط فادح، وطعن في الوحي عظيم.
6- كما لا يمكن تصور أن يدخل الرسول من عنده أي كلمة في القرآن، فما بالك بمثل هذا الذي قيل.
بقى أن نقول في ذلك كلمات:
(الأولى) أنه من الأفضل أن نقر بصحة حادثة الغرانيق بدلا من الدفاع الساذج الذي يضّر بمصداقية الوحى والرسول والكتاب أكثر مما ينفع.
(الثانية) حتى لو حاولوا التشكيك فى بعض رواة القصة لكن معظم الرواة لا
يمكن الطعن فيهم مثل البّرى والسيوطيوالرازي, خاصة من نقلوها وحاولوا
تبريرها بالخطأ أو السهو كقتادة ومقاتل والياس.
(الثالثة) إن تقييد ما جاء في آية الحج من قوله تعالى «وما أرسلنا من قبلك
من رسول أو نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته» بحادث محدد في ذكره،
يعنى أن يكف الآخرين عن التقول بعموم الحالة.
(الرابعة) القول بأن الله تعالى قد تكفل بحفظ كتابه المحفوظ من العبث به
في قوله «انا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» وأنه ينطبق على هذه القصة
فهذا صحيح, بمعنى أنه لو حاول انس أو جن التلاعب بكلام الله «فينسخ الله
ما يلقى الشيطان ثم يحكم آياته».
(الخامسة) أما الذين يحتجون بالآية الكريمة «وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا
وحى يوحى» بأن كل كلام الرسول (ص) وحيا، ليسوا على صواب، فقد كان الصحابة
يفرقون بين الأمرين، حين يسألون أهو خبر السماء، أم الحرب والرأي
والمشورة..».
14-8-2010
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
يوسف الصديق: هناك اعتراف قرآني بإمكانية التدخل الشيطاني
أفرد يوسف
صدديق مبحثا كاملا للما أسماه «التدخل الشيطاني في الوحي». وقال: «إن
مايثير الانتباه قبل القيام ببحث مدقق هذا الحادث هو هذا التسلل أو القفز
الذي يمارسه صاحب الرواية (الطبري)، والذي حول المعنى الأصلي لـ«الأمنية»
أو «الرجاء» (أن يأتيه الله بما يقارب به بينه وبين قومه) إلى مجرد تلاوة
أو إلقاء على اللسان حسب التعبير الذي جاء في الرواية. غير أن الملاحظ أن
فقيها أندلسيا تقليديا آخر، هو ابن حزم، اتخد موقفا من كلمة «أمنية» أو
الرغبة، لكن ليدفع أو لينكر إمكانية رفع الآيات. حيث يقول: ومن قول
الإمامية كلها قديماً وحديثاً انّ القرآن مبدّل زيد فيه ما ليس فيه ونقص
منه كثير وبدّل منه كثير، حاشا علي بن الحسين (الشريف المرتضى) وكان
إمامياً يظاهر بالاعتزال مع ذلك، فإنّه كان ينكر هذا القول ويكفّر من
قاله، وكذلك صاحباه أبو يعلى ميلاد الطوسي وأبو القاسم الرازي». فأبو حزم
يعتبر أن التسليم بالإلقاء الشيطاني الذي أعقب أمنية نبوية ما هو إلا كذب
وبهتان مستدلا على ذلك بأن النبي محمد سبق أن تمنى أن يعتنق عمه أبو طالب
الإسلام. لكن الله لم يستجب لدعائه..
لم يواجه الفقه التقليدي المتأخر والمعاصر هذا الموضوع بمثل هذا القدر من
الشفافية- يؤكد الصديق- وعوض ذلك فضل الفقهاء التقليديون أن يراوغوا أو
«إغراقه»- بدون تأكيد رفع الآيات أو نفيها- في توجهات فضفاضة كما يفعل ابن
كثير، أو أيضا إذا اعترفوا بحقيقتها، فإنهم يفعلون ذلك من أجل نزع فتيل
الأزمة. وهذا معناه أن الكل مجند من أجل إفساح المجال للفقه من أجل إبعاد
مخلفات الاختبار الذي تعرض له النبي، أي مواجهة النص «النقي» بادعاء أن
«الأمنية» تعني «التلاوة»..
هكذا إذن، وهكذا فقط، أراد الفقهاء أن ينقذوا مبدأ إنتاج القرآن. ويذهب
هذا التفسير إلى أن النسخ تقنية إلهية لتشريع القوانين عبر إعمال ما يعرف
بالتدرج في التشريع
حفاظا على مصالح الإنسانية ومرونة القواعد. إنه إبدال تشريع سابق بتشريع
لاحق لان التشريع الجديد يفيد المسلمين أكثر. وهذا ما يعضد ضرورة النسخ.
فقد جاء في القرآن «ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها»
(سورة البقرة. الأية 106).
وقد توقف البغدادي (توفي سنة 1015) طويلا عند سورة النجم ومارس حولها
الصمت، لكنه لما علق على الآية 115 من سورة طه يستطع شيئا أمام الظلال
التي يخلفها سبب النزول. جاء في القرآن:
«فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن
قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا»
(سورة طه الأية:115).
فقد نزلت هذه الأية- حسب مجموعة من المفسرين- في تشريع القوامة وتأديب
المرأة. فقد جاء في الآية: «الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم
على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ
الله واللاتي تخافون نشوزهنَّ فعظوهنَّ وأهجروهنَّ في المضاجع وأضربوهنَّ
فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهنَّ سبيلاً إن الله كان عليماً كبيراً» (سورة
النساء). وقد أفاد الواحدي في أسباب نزول هذه الآية أنها نزلت في سعد بن
الربيع وزوجته حبيبة بنت زيد الذي ضربها بعد نشوزها عليه، فشكاه أبوها إلى
الرسول، فحكم أن تقتص من زوجها، وبعد انصرافهما استدرك الرسول بالقول:
«أرجعوا هذا جبريل عليه السلام أتاني، وأنزل الله تعالى الآية، فقال
الرسول: أردنا أمراً وأراد الله أمراً، والذي أراد الله خير، ورفع القصاص»
(الواحدي، أسباب النزول). فنزلت «ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك»
(سورة طه).
فالبغدادي الذي لاحظ أن هذه الآية تشتغل في القرآن باعتبارها «رفعا» لآية
شيطانية، مثلما وقع مع الرسول في سورة النجم حيث دس إبليس في أمنيته آية
شيطانية، يعود إلى آية لاحقة «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن
رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ
اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (سورة الحج. الأية: 53). إذن
هناك اعتراف قرآني (إلهي) بإمكانية التدخل الشيطاني. أما بالنسبة لما وقع
للنبي محمد حين حكم أن تقتص المرأة من زوجها، فيعتبره البغدادي اختبارا
لمحمد الذي لم يصبح معصوما إلا بعد نزول ثالث آية ناسخة: «سنقرئك القرآن
فلاتنسى». فقد ظل النبي- يقول البغدادي- عاجزا عن تلقي الوحي من جبريل،
وعاجزا عن تبليغ ما يؤمر به خوفا من الخطأ أو النسيان أو التدخل الشيطاني.
ولم ينس الرسول بعد هذه الأية شيئا من القرآن إلى أن لقي ربه.
صدديق مبحثا كاملا للما أسماه «التدخل الشيطاني في الوحي». وقال: «إن
مايثير الانتباه قبل القيام ببحث مدقق هذا الحادث هو هذا التسلل أو القفز
الذي يمارسه صاحب الرواية (الطبري)، والذي حول المعنى الأصلي لـ«الأمنية»
أو «الرجاء» (أن يأتيه الله بما يقارب به بينه وبين قومه) إلى مجرد تلاوة
أو إلقاء على اللسان حسب التعبير الذي جاء في الرواية. غير أن الملاحظ أن
فقيها أندلسيا تقليديا آخر، هو ابن حزم، اتخد موقفا من كلمة «أمنية» أو
الرغبة، لكن ليدفع أو لينكر إمكانية رفع الآيات. حيث يقول: ومن قول
الإمامية كلها قديماً وحديثاً انّ القرآن مبدّل زيد فيه ما ليس فيه ونقص
منه كثير وبدّل منه كثير، حاشا علي بن الحسين (الشريف المرتضى) وكان
إمامياً يظاهر بالاعتزال مع ذلك، فإنّه كان ينكر هذا القول ويكفّر من
قاله، وكذلك صاحباه أبو يعلى ميلاد الطوسي وأبو القاسم الرازي». فأبو حزم
يعتبر أن التسليم بالإلقاء الشيطاني الذي أعقب أمنية نبوية ما هو إلا كذب
وبهتان مستدلا على ذلك بأن النبي محمد سبق أن تمنى أن يعتنق عمه أبو طالب
الإسلام. لكن الله لم يستجب لدعائه..
لم يواجه الفقه التقليدي المتأخر والمعاصر هذا الموضوع بمثل هذا القدر من
الشفافية- يؤكد الصديق- وعوض ذلك فضل الفقهاء التقليديون أن يراوغوا أو
«إغراقه»- بدون تأكيد رفع الآيات أو نفيها- في توجهات فضفاضة كما يفعل ابن
كثير، أو أيضا إذا اعترفوا بحقيقتها، فإنهم يفعلون ذلك من أجل نزع فتيل
الأزمة. وهذا معناه أن الكل مجند من أجل إفساح المجال للفقه من أجل إبعاد
مخلفات الاختبار الذي تعرض له النبي، أي مواجهة النص «النقي» بادعاء أن
«الأمنية» تعني «التلاوة»..
هكذا إذن، وهكذا فقط، أراد الفقهاء أن ينقذوا مبدأ إنتاج القرآن. ويذهب
هذا التفسير إلى أن النسخ تقنية إلهية لتشريع القوانين عبر إعمال ما يعرف
بالتدرج في التشريع
حفاظا على مصالح الإنسانية ومرونة القواعد. إنه إبدال تشريع سابق بتشريع
لاحق لان التشريع الجديد يفيد المسلمين أكثر. وهذا ما يعضد ضرورة النسخ.
فقد جاء في القرآن «ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها»
(سورة البقرة. الأية 106).
وقد توقف البغدادي (توفي سنة 1015) طويلا عند سورة النجم ومارس حولها
الصمت، لكنه لما علق على الآية 115 من سورة طه يستطع شيئا أمام الظلال
التي يخلفها سبب النزول. جاء في القرآن:
«فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن
قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا»
(سورة طه الأية:115).
فقد نزلت هذه الأية- حسب مجموعة من المفسرين- في تشريع القوامة وتأديب
المرأة. فقد جاء في الآية: «الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم
على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ
الله واللاتي تخافون نشوزهنَّ فعظوهنَّ وأهجروهنَّ في المضاجع وأضربوهنَّ
فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهنَّ سبيلاً إن الله كان عليماً كبيراً» (سورة
النساء). وقد أفاد الواحدي في أسباب نزول هذه الآية أنها نزلت في سعد بن
الربيع وزوجته حبيبة بنت زيد الذي ضربها بعد نشوزها عليه، فشكاه أبوها إلى
الرسول، فحكم أن تقتص من زوجها، وبعد انصرافهما استدرك الرسول بالقول:
«أرجعوا هذا جبريل عليه السلام أتاني، وأنزل الله تعالى الآية، فقال
الرسول: أردنا أمراً وأراد الله أمراً، والذي أراد الله خير، ورفع القصاص»
(الواحدي، أسباب النزول). فنزلت «ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك»
(سورة طه).
فالبغدادي الذي لاحظ أن هذه الآية تشتغل في القرآن باعتبارها «رفعا» لآية
شيطانية، مثلما وقع مع الرسول في سورة النجم حيث دس إبليس في أمنيته آية
شيطانية، يعود إلى آية لاحقة «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن
رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ
اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (سورة الحج. الأية: 53). إذن
هناك اعتراف قرآني (إلهي) بإمكانية التدخل الشيطاني. أما بالنسبة لما وقع
للنبي محمد حين حكم أن تقتص المرأة من زوجها، فيعتبره البغدادي اختبارا
لمحمد الذي لم يصبح معصوما إلا بعد نزول ثالث آية ناسخة: «سنقرئك القرآن
فلاتنسى». فقد ظل النبي- يقول البغدادي- عاجزا عن تلقي الوحي من جبريل،
وعاجزا عن تبليغ ما يؤمر به خوفا من الخطأ أو النسيان أو التدخل الشيطاني.
ولم ينس الرسول بعد هذه الأية شيئا من القرآن إلى أن لقي ربه.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
سيد القمني: القضاء على وهم الوجود الكتابي للنص في اللوح المحفوظ
في كتابه «الأسطورة والتراث»، تعرض سيد القمني لحادثة الغرانيق، أي لذلك «التدخل الشيطاني في الوحي» الذي تنفيه المراجع الإسلامية، ويثبته القرآن في آيات من سورتين: (الإسراء: «لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً»، «وإن كادوا ليفتنوك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره، وإذن لاتخذوك خليلا، ولولا أن ثبتناك لقد كدتَ تركن إليهم شيئاً قليلاً»، ثم (الحج: «وما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبي، إلاَّ إذا تمنى، فألقى الشيطان في أمنيته، فينسخ الله ما يلقي الشيطان، ثم يحكم الله آياته». ولم يتناول القمني حادثة الغرانيق إلا في السياق العام الذي سيج رؤيته لـ«تراث الإله الشرير» المعادل الموضوعي لـ«الإله الأزلي الأبدي الكامل لا يصدر عنه إلاَّ الخير فقط»، ذلك أن الشيطان، من خلال بعض الطرائف التي علق فيها المسلمون صدماتهم ومآسيهم واغترابهم، تحول من مجرد رمز ديني إلى مارد كبير يتدخل في حياتنا فيفسد الأخلاق، ويسبب القحط، وتأخر الأمة الحضاري بإغوائه أبنائها عن الطريق القويم. وكل هذه الأدوار التي يقوم بها الشيطان تلمح «لتمكنه من العقل الشرقي»، كما يقول القمني. وتعليقا على حادثة الغرانيق، يرى القمني أن شفعاء قريش لدى الله كانوا رموزاً قبلية أيضًا، وهو ما يدعي أن تلتف القبيلة حوله بصفته ربها وشفيعها (...) وقد فهمت قريش دعوة الرسول لإسقاط الشفعاء أنها دعوة لإذابة الأطر القبلية، التي تحمي المصالح التجارية، أو لنقل الأرستقراطية التجارية في قريش. ولهذا سجدتْ قريش مع الرسول محمد بعدما غيَّر رأيه بمسألة الشفعاء. وقد جاء الوحيُ سريعاً لينسخ تلك الآيات، ولينفي أمنية الشيطان إلى الأبد بإزالتها من نص القرآن الكريم. وهكذا ظهر مبحث «الناسخ والمنسوخ» في علوم القرآن. كما سعى البعض إلى الانشغال بالبحث في المفارقات التي يطرحها تاريخ النص القرآني، وخاصة تلك التي ارتبطت بجمع القرآن والسجالات التي أعقبت حرق المصاحف والاعتداء على بعض كتاب الوحي (عبد الله بن مسعود) الذين مانعوا واحتجوا على «جامع النص» وجادلوا في فحواه، أي في ما رُفع منه وما دس عليه. ونظرا لما لمبحث «الناسخ والمنسوخ» من خطورة بادية، خاصة أنه يطرح التبديل والتغيير مع «علم الله المطلق» الذي لا يقبل التبديل «لا مبدل لكلماته» (الكهف)، لم يتردد سيد القمني في كتابه «الإسلاميات» في التساؤل بشأنه «كيف يمكن التوفيق بين هذه الظاهرة بما يترتب علىها من تعديل للنص بالنسخ والإلغاء، وبين الإيمان الذي شاع واستقر بوجود أزلي للنص في اللوح المحفوظ؟». ويقول في موضع آخر من الكتاب نفسه: «هناك إشكالية ثانية هي إشكالية جمع القرآن. وعن مشكلة الجمع، فإن ما يورده علماء القرآن من أمثلة توضح أن بعض أجزاء النص قد نسيت من الذاكرة الإنسانية، ولم يناقش العلماء ما تؤدي إليه ظاهرة نسخ التلاوة أو حذف النصوص، سواء بقي حكمها أو نسخ أيضا، من قضاء كامل على تصورهم الذي سبقت الإشارة إليه لأزلية الوجود الكتابي للنص في اللوح المحفوظ». مضيفا: «والذي لا شك فيه أيضا أن فهم قضية النسخ عند القدماء لا يؤدي فقط إلى معارضة تصورهم الأسطوري للوجود الأزلي للنص، بل يؤدي أيضا إلى القضاء على مفهوم النص ذاته». وقد تعرض القمني للتقسيم الذي وضعه د.حامد أبو زيد لظاهرة النسخ. - ما نسخت تلاوته وبقي حكمه: كآية «الرجم» التي رفعت من القرآن وبقي حكمها معمولاً به في الشرع الإسلامي. وقد أراد عمر في خلافته أن يضيفها للقرآن. وهناك آية في القرآن: «واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم، فاستشهدوا عليهن أربعة منكم، فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت، حتى يتوفاهن الموت، أو يجعل الله لهن سبيلاً» (النساء)، ذهب العلماء اتفاقاً إلى أن هذه الآية منسوخة -رغم بقاء تدوينها في القرآن- بآية الرجم الغير موجودة في النص القرآني. وقد أثبتت أحكام الرجم بأحاديث نبوية أيضًا. يشير ابن حجر إلى أن آية الرجم رُفعت من القرآن- أي أنها لم تنسخ- مع وجود قرآئن عديدة تدلل لرفض الرسول محمد لتدوين هذه الآية عندما نزلت بعدما سأله عمر بن الخطاب لذلك، ثم أصر زيد بن ثابت الذي جمع القرآن على عدم تضمينها للمصحف. -ما نسخ حكمه، وبقيت تلاوته: يسوق القمني العديد من الأمثلة هنا عن هذا النوع من النسخ، لكنه يشير إلى أيضًا قضية مهمة، وهي ظهور ما اصطلح تسميته بالمنسأ في قضايا الناسخ والمنسوخ. فالمنسوخ يحرم الرجوع إليه بعد نسخه في الحياة اليومية، لكن العلماء استحدثوا «المنسأ» كي يستطيعون الرجوع للأحكام المكية حينما تحقق المصلحة للمسلمين عوضاً عن الآيات الناسخة. من أمثلة ذلك آيات التسامح مع الأديان الأخرى، وخصوصاً أهل الكتاب. ولكن هذه الآيات -آيات التسامح وحرية الأديان- نسخت تالياً بالآيات التي تقرر أن الإسلام هو دين الله، وأن للآخرين السيف، مثال: «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله» (التوبة) «اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم» (التوبة). لهذا «المنسأ» هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون، وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى. بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلة تقتضي ذلك الحكم» هكذا نقل القمني عن السيوطي في الصفحة 362. لهذا تظهر النفعية في نظرية المنسأ حنى يأني أمر الله كما نقرأ في هذه الآية: «فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره». - ما نسخ تلاوته وحكمه: هناك روايات عديدة تشير إلى اختفاء أجزاء من القرآن دون أسباب واضحة. لعل أبرزها ما جاء -من طرق متعددة- عن غياب سورة الأحزاب ذات الآيات المئتين، والتي بقت بضع وسبعين آية. ويعلل د.طه حسين كما أورد القمني ذلك إلى مصحف عثمان، وجبر الدولة الإسلامية لنشره وتعليمه في البلاد الإسلامية وإحراق ما سواه من صحف قرآنية. | ||
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
المصاحف ليست هي النموذج الأصلي للقرآن
جاء في كتاب
«المصاحف» لابن أبي داود: «قال ابن شهاب: ثم أخبرني أنس بن مالك الأنصاري،
أنه اجتمع لغزوة أذربيجان وأرمينية أهل الشام وأهل العراق قال: فتذاكروا
القرآن فاختلفوا فيه حتى كاد يكون بينهم فتنة قال: فركب حذيفة بن اليمان
لما رأى من اختلافهم في القرآن إلى عثمان، فقال: إن الناس قد اختلفوا في
القرآن حتى والله لأخشى أن يصيبهم ما أصاب اليهود والنصارى من الاختلاف
قال: ففزع لذلك عثمان فزعا شديدا، فأرسل إلى حفصة، فاستخرج الصحيفة التي
كان أبو بكر أمر زيدا بجمعها، فنسخ منها مصاحف، فبعث بها إلى الآفاق، فلما
كان مروان أمير المدينة، أرسل إلى حفصة يسألها عن الصحف؛ ليحرقها وخشي أن
يخالف بعض الكتاب بعضا فمنعته إياها».
«قال ابن شهاب: فحدثني سالم بن عبد الله قال: فلما توفيت حفصة أرسل إلى
عبد الله بعزيمة ليرسلن بها، فساعة رجعوا من جنازة حفصة أرسل بها عبد الله
بن عمر إلى مروان ففشاها وحرقها مخافة أن يكون في شيء من ذلك اختلاف لما
نسخ عثمان رحمة الله عليه».
وهنا يتضح- حسب ما انتهى إليه الباحث التونسي يوسف الصديق- كانت مكلفة
بحفظ الأصل المكتوب للقرآن الذي جمعه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب،
وأنها قامت بهذه المهمة باقتدار كبير. فقد كانت «تسترد» دائما «ملكها»
(القرآن) حيث كلما طالبها عثمان بصحيفة لمقارنتها سلمته له لتكون مصاحفه
مستندة إلى أصل أبي بكر المستند بدوره إلى أصل النبي، المكتوب بين يديه
بأمره وتوقيف منه. ولم تأل تلك الكتابات أي جهد لتذكرنا- ربما لتنزع أي
شك- بأن الخليفة نفسه هو الذي أشرف على استنساخ القرآن.
لكن هناك من العلماء- تأسيسا على ما اعترى جمع القرآن من خلاف- يذهب إلى
أن المصاحف لم تكُن إذاً هي القُرآن الكريم، وإنما كان مِمّا كُتِب فيها
بعضٌ مِن القُرآن الكريم ..فكتب كُل صحابي مِنهم بمِقدار ما سمِعهُ وعلى
الحرف الذي سمِعهُ مِن رسول الله صلّى اللهُ عليْهِ وسلّم .. لكِن لم
يُطلق على أي مُصحف مِن مصاحِفِهِم قط أنهُ القُرآن الكريم. وقد كانوا
يُدوِّنون في مصاحِفِهِم هذه ما قد يُساعِدُهُم على الحِفْظِ و
الإستِذكار. فمِنهم- حسب هؤلاء- من أخطأ في الكِتابة، ومِنهم من كتب ما
صار منسوخاً ومِنهم من كتب تفسيراً أو حديثاً ... وجميعُهُم لم يكتُب
القرآن الكريم كامِلاً ولا بِعُرضتِهِ الأخيرة. لِذا لا يُمكِن أن يُطلق
على تِلك المصاحِف أنها القُرآن وإنما بكُل بساطة هي كتابات وكُتُب
الصحابة ومُدوّناتُهُم الخاصة.
وأوضح الباحث الصديق أن هناك بعض الآيات القرآنية التي ظلت تطرح المشاكل،
وتقلق. فمعلوم أن «المقول» القرآني نزل متفرقا (منجما)، وهو ما يترك مساحة
من الشك في «نسخة» (مصحف) عثمان، مثلما هو الشأن بالنسبة للمصاحف الأخرى
التي أتلفت أو منعت من الاستعمال أو النشر. وهذا ما يورده أبو داوود
السجستاني حول المصير الذي رتبه مروان بن الحكم، القائد الأموي ووالي
المدينة، وأحد الوجوه الرمزية للموالين لعثمان ورجال بلاطه.
«فلما كان مروان أمير المدينة أرسل إلى حفصة يسألها عن الصحف ليحرقها وخشي
أن يخالف بعض الكتاب بعضا فمنعته إياها. قال ابن شهاب فحدثني سالم بن عبد
الله قال: فلما توفيت حفصة أرسل إلى عبد الله بعزيمة ليرسلن بها، فساعة
رجعوا من جنازة حفصة أرسل بها عبد الله بن عمر إلى مروان ففشاها وعرفها
مخافة أن يكون في شيء من ذلك اختلاف لما نسخ عثمان».
وهكذا أصبح «المصحف» أكثر اكتمالا من النموذج الأصلي، وهكذا- وعلى وجه
الخصوص- يتبن أن إتلاف الأثر الأصلي للوحي- إذا كنا نستند على المصادر
الإسلامية الأصولية غير المطعون في صحتها- يستجيب للفعل السياسي المرغوب
فيه والمطبق الذي يتضمن شحنة دلالية قوية يلزم أن تكون مرتبطة بفعل آخر
تقدمه الكتابات التقليدية كـ«فعل فاشل»: فالخليفة عثمان نفسه أسقط خاتم
النبي في بئر.
حدثنا بكر بن الهيثم قال: «حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري وقتادة
قالا: «اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمًا من فضة ونقش عليه محمد
رسول الله.
فكان أبو بكر يختم به ثم عمر ثم عثمان وكان في يده فسقط من يده في البئر فنزفت فلم يقدر عليه وذلك في النصف من خلافته.
فاتخذ خاتمًا ونقش عليه محمد رسول الله في ثلاثة أسطر.
قال قتادة: «وحربه كذا».
حدثنا هناد قال: «حدثنا الأسود بن شيبان قال: «أخبرنا خالد بن سمير قال: «انتقش رجل يقال له معن بن زائدة على خاتم الخلافة».
فأصاب مالًا من خراج الكوفة على عهد عمر فبلغ ذلك عمر فكتب إلى المغيرة بن
شعبة: «إنه بلغني أن رجلًا يقال له معن بن زائدة انتقش على خاتم الخلافة
فأصاب به مالًا من خراج الكوفة.. فإذا أتاك كتابي هذا فنفذ فيه أمري وأطع
رسولي. فلما صلى المغيرة العصر وأخذ الناس مجالسهم خرج ومعه رسول عمر».
فاشرأب الناس ينظرون إليه حتى وقف على معن. ثم قال للرسول: «إن أمير
المؤمنين أمرني أن أطيع أمرك فيه فمرني بما شئت». فقال للرسول: «ادع لي
بجامعة أعلقها في عنقه». فأتى بجامعة فجعلها في عنقه وجبذها جبذًا شديدًا.
ثم قال للمغيرة: «احبسه حتى يأتيك فيه أمر أمير المؤمنين». ففعل. وكان
السجن يومئذ من قصب فتمحل معنٌ للخروج وبعث إلى أهله: «أن ابعثوا لي
بناقتي وجاريتي وعباءتي القطوانية». ففعلوا.
فخرج من الليل وأردف جاريته فسار حتى إذا رهب أن يفصحه الصبح أناخ ناقته وعقلها ثم كمن حتى كف عنه الطلب.
فلما أمسى أعاد على ناقته العباءة وشد عليها وأردف جاريته ثم سار حتى قدم
على عمر وهو يوقظ المتهجدين لصلاة الصبح ومعه درته. فجعل ناقته وجاريته
ناحيةً ثم دنا من عمر فقال: «السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمه الله
وبركاته». فقال: «وعليك.. من أنت؟» قال: «معن بن زائدة جئتك تائبًا». قال:
«ائت فلا يحييك الله».
فلما صلى صلاة الصبح قال الناس: «مكانكم». فلما طلعت الشمس قال: «هذا معن
بن زائدة انتقش على خاتم الخلافة فأصاب فيه مالًا من خراج الكوفة فما
تقولون فيه؟» فقال قائل: «اقطع يده». وقال قائل: «اصلبه». وعليٌ ساكت.
فقال له عمر: «ما تقول أبا الحسن». قال: «يا أمير المؤمنين رجل كذب كذبة
عقوبته في بشره». فضربه عمر ضربًا شديدًا - أو قال مبرحًا - وحبسه. فكان
في الحبس ما شاء الله. ثم إنه أرسل إلى صديق له من قريش: أن كلم أمير
المؤمنين في تخلية سبيلي.
فكلمه القرشي فقال: «يا أمير المؤمنين معن بن زائدة قد أصبته من العقوبة
بما كان له أهلًا فإن رأيت أن تخلي سبيله». فقال عمر: «ذكرتني الطعن وكنت
ناسيًا.. علي بمعن». فضربه ثم أمر به إلى السجن. فبعث معن إلى كل صديق له:
«لا تذكروني لأمير المؤمنين». فلبث محبوسًا ما شاء الله. ثم إن عمر انتبه
له فقال: «معن». فأتى به فقاسمه وخلى سبيله.
«المصاحف» لابن أبي داود: «قال ابن شهاب: ثم أخبرني أنس بن مالك الأنصاري،
أنه اجتمع لغزوة أذربيجان وأرمينية أهل الشام وأهل العراق قال: فتذاكروا
القرآن فاختلفوا فيه حتى كاد يكون بينهم فتنة قال: فركب حذيفة بن اليمان
لما رأى من اختلافهم في القرآن إلى عثمان، فقال: إن الناس قد اختلفوا في
القرآن حتى والله لأخشى أن يصيبهم ما أصاب اليهود والنصارى من الاختلاف
قال: ففزع لذلك عثمان فزعا شديدا، فأرسل إلى حفصة، فاستخرج الصحيفة التي
كان أبو بكر أمر زيدا بجمعها، فنسخ منها مصاحف، فبعث بها إلى الآفاق، فلما
كان مروان أمير المدينة، أرسل إلى حفصة يسألها عن الصحف؛ ليحرقها وخشي أن
يخالف بعض الكتاب بعضا فمنعته إياها».
«قال ابن شهاب: فحدثني سالم بن عبد الله قال: فلما توفيت حفصة أرسل إلى
عبد الله بعزيمة ليرسلن بها، فساعة رجعوا من جنازة حفصة أرسل بها عبد الله
بن عمر إلى مروان ففشاها وحرقها مخافة أن يكون في شيء من ذلك اختلاف لما
نسخ عثمان رحمة الله عليه».
وهنا يتضح- حسب ما انتهى إليه الباحث التونسي يوسف الصديق- كانت مكلفة
بحفظ الأصل المكتوب للقرآن الذي جمعه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب،
وأنها قامت بهذه المهمة باقتدار كبير. فقد كانت «تسترد» دائما «ملكها»
(القرآن) حيث كلما طالبها عثمان بصحيفة لمقارنتها سلمته له لتكون مصاحفه
مستندة إلى أصل أبي بكر المستند بدوره إلى أصل النبي، المكتوب بين يديه
بأمره وتوقيف منه. ولم تأل تلك الكتابات أي جهد لتذكرنا- ربما لتنزع أي
شك- بأن الخليفة نفسه هو الذي أشرف على استنساخ القرآن.
لكن هناك من العلماء- تأسيسا على ما اعترى جمع القرآن من خلاف- يذهب إلى
أن المصاحف لم تكُن إذاً هي القُرآن الكريم، وإنما كان مِمّا كُتِب فيها
بعضٌ مِن القُرآن الكريم ..فكتب كُل صحابي مِنهم بمِقدار ما سمِعهُ وعلى
الحرف الذي سمِعهُ مِن رسول الله صلّى اللهُ عليْهِ وسلّم .. لكِن لم
يُطلق على أي مُصحف مِن مصاحِفِهِم قط أنهُ القُرآن الكريم. وقد كانوا
يُدوِّنون في مصاحِفِهِم هذه ما قد يُساعِدُهُم على الحِفْظِ و
الإستِذكار. فمِنهم- حسب هؤلاء- من أخطأ في الكِتابة، ومِنهم من كتب ما
صار منسوخاً ومِنهم من كتب تفسيراً أو حديثاً ... وجميعُهُم لم يكتُب
القرآن الكريم كامِلاً ولا بِعُرضتِهِ الأخيرة. لِذا لا يُمكِن أن يُطلق
على تِلك المصاحِف أنها القُرآن وإنما بكُل بساطة هي كتابات وكُتُب
الصحابة ومُدوّناتُهُم الخاصة.
وأوضح الباحث الصديق أن هناك بعض الآيات القرآنية التي ظلت تطرح المشاكل،
وتقلق. فمعلوم أن «المقول» القرآني نزل متفرقا (منجما)، وهو ما يترك مساحة
من الشك في «نسخة» (مصحف) عثمان، مثلما هو الشأن بالنسبة للمصاحف الأخرى
التي أتلفت أو منعت من الاستعمال أو النشر. وهذا ما يورده أبو داوود
السجستاني حول المصير الذي رتبه مروان بن الحكم، القائد الأموي ووالي
المدينة، وأحد الوجوه الرمزية للموالين لعثمان ورجال بلاطه.
«فلما كان مروان أمير المدينة أرسل إلى حفصة يسألها عن الصحف ليحرقها وخشي
أن يخالف بعض الكتاب بعضا فمنعته إياها. قال ابن شهاب فحدثني سالم بن عبد
الله قال: فلما توفيت حفصة أرسل إلى عبد الله بعزيمة ليرسلن بها، فساعة
رجعوا من جنازة حفصة أرسل بها عبد الله بن عمر إلى مروان ففشاها وعرفها
مخافة أن يكون في شيء من ذلك اختلاف لما نسخ عثمان».
وهكذا أصبح «المصحف» أكثر اكتمالا من النموذج الأصلي، وهكذا- وعلى وجه
الخصوص- يتبن أن إتلاف الأثر الأصلي للوحي- إذا كنا نستند على المصادر
الإسلامية الأصولية غير المطعون في صحتها- يستجيب للفعل السياسي المرغوب
فيه والمطبق الذي يتضمن شحنة دلالية قوية يلزم أن تكون مرتبطة بفعل آخر
تقدمه الكتابات التقليدية كـ«فعل فاشل»: فالخليفة عثمان نفسه أسقط خاتم
النبي في بئر.
حدثنا بكر بن الهيثم قال: «حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري وقتادة
قالا: «اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمًا من فضة ونقش عليه محمد
رسول الله.
فكان أبو بكر يختم به ثم عمر ثم عثمان وكان في يده فسقط من يده في البئر فنزفت فلم يقدر عليه وذلك في النصف من خلافته.
فاتخذ خاتمًا ونقش عليه محمد رسول الله في ثلاثة أسطر.
قال قتادة: «وحربه كذا».
حدثنا هناد قال: «حدثنا الأسود بن شيبان قال: «أخبرنا خالد بن سمير قال: «انتقش رجل يقال له معن بن زائدة على خاتم الخلافة».
فأصاب مالًا من خراج الكوفة على عهد عمر فبلغ ذلك عمر فكتب إلى المغيرة بن
شعبة: «إنه بلغني أن رجلًا يقال له معن بن زائدة انتقش على خاتم الخلافة
فأصاب به مالًا من خراج الكوفة.. فإذا أتاك كتابي هذا فنفذ فيه أمري وأطع
رسولي. فلما صلى المغيرة العصر وأخذ الناس مجالسهم خرج ومعه رسول عمر».
فاشرأب الناس ينظرون إليه حتى وقف على معن. ثم قال للرسول: «إن أمير
المؤمنين أمرني أن أطيع أمرك فيه فمرني بما شئت». فقال للرسول: «ادع لي
بجامعة أعلقها في عنقه». فأتى بجامعة فجعلها في عنقه وجبذها جبذًا شديدًا.
ثم قال للمغيرة: «احبسه حتى يأتيك فيه أمر أمير المؤمنين». ففعل. وكان
السجن يومئذ من قصب فتمحل معنٌ للخروج وبعث إلى أهله: «أن ابعثوا لي
بناقتي وجاريتي وعباءتي القطوانية». ففعلوا.
فخرج من الليل وأردف جاريته فسار حتى إذا رهب أن يفصحه الصبح أناخ ناقته وعقلها ثم كمن حتى كف عنه الطلب.
فلما أمسى أعاد على ناقته العباءة وشد عليها وأردف جاريته ثم سار حتى قدم
على عمر وهو يوقظ المتهجدين لصلاة الصبح ومعه درته. فجعل ناقته وجاريته
ناحيةً ثم دنا من عمر فقال: «السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمه الله
وبركاته». فقال: «وعليك.. من أنت؟» قال: «معن بن زائدة جئتك تائبًا». قال:
«ائت فلا يحييك الله».
فلما صلى صلاة الصبح قال الناس: «مكانكم». فلما طلعت الشمس قال: «هذا معن
بن زائدة انتقش على خاتم الخلافة فأصاب فيه مالًا من خراج الكوفة فما
تقولون فيه؟» فقال قائل: «اقطع يده». وقال قائل: «اصلبه». وعليٌ ساكت.
فقال له عمر: «ما تقول أبا الحسن». قال: «يا أمير المؤمنين رجل كذب كذبة
عقوبته في بشره». فضربه عمر ضربًا شديدًا - أو قال مبرحًا - وحبسه. فكان
في الحبس ما شاء الله. ثم إنه أرسل إلى صديق له من قريش: أن كلم أمير
المؤمنين في تخلية سبيلي.
فكلمه القرشي فقال: «يا أمير المؤمنين معن بن زائدة قد أصبته من العقوبة
بما كان له أهلًا فإن رأيت أن تخلي سبيله». فقال عمر: «ذكرتني الطعن وكنت
ناسيًا.. علي بمعن». فضربه ثم أمر به إلى السجن. فبعث معن إلى كل صديق له:
«لا تذكروني لأمير المؤمنين». فلبث محبوسًا ما شاء الله. ثم إن عمر انتبه
له فقال: «معن». فأتى به فقاسمه وخلى سبيله.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
هل يمكن التمييز بين كلام الله وكلام المصاحف؟
لا يخرج تعريف
الفقهاء للقرآن عن أنه كلام الله المنزل على نبيه محمد باللغة العربية،
بينما المصحف هو مجموع الأوراق التي كتب عليها القرآن. ويميز البعض بين
بين هذين الكيانين على أساس أن القرآن هو كلام الله المسموع، بينما المصحف
هو الكتاب الورقي أو الجلدي الذي كتب فيه كلام الله. ويضع البعض الآخر
تعريفا مثيرا للانتباه، حيث يميز بين القرآن الذي لا يمكن تدنيسه أو
تحريفه لأنه «محفوظ بحفظ الله له». أما المصحف، فقد «يتعرض للاعتداء من
طرف من طرف من ختم الله على قلوبهم». لكن الأنثروبولوجي التونسي يوسف
الصديق يذهب إلى أنه « لا يمكن التمييز، هنا، بين هذين الكيانين: «كلام
الله» و«المصحف» من حيث «كمية النص» التي يوفرها هذا الكيان أو ذاك: فحسب
مقاييس منطقية وموضوعية لا يملك أحد أي فكرة عن الأمر. فالتمييز بين
الاثنين يقتضي التعامل مع ذلك الانفساخ (والطلاق) المستهلك بين الأثر
الشذري وثبات النص. وهو الانفساخ الذي يلغي تطابق أجزاء من الخطاب ومسار
النفس، كما يجمد حياة الرموز والتصورات، أي أنه يقلب معنى الرسالة نفسه.
وفي هذه الحالة من التمييز التي تجعل القرآن كتابا مفتوحا بشكل لا نهائي
حينما يتقد الإدراك و تظهر الرغبة في قراءة العالم مع ما تحمله هذه الرغبة
من احتمالات اقتحام مجال يغلي بالتناقضات.. يصبح «الكلام القرآني» أو
الكتاب مجالا يحوي كل المخاطر بالنسبة لـ«القارئ». وهو الكتاب الذي يصفه
مقطع من القرآن:
هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ
هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء
الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ
اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ
مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ (أل
عمران. 7 و 8).
والاستنتاج الذي ينتهي إليه الفقهاء التقليديون، في تفسيرهم لهذا المقطع،
هو أنه لا أحد بمقدوره- ولا حتى العلماء الراسخون في العلم- تأويل القرآن.
ويفسر بعض الفقهاء، ومنهم الزمخشري هذه الآية بأن الله تعالى حين أنزل
القرآن العظيم «أنزله آيات محكمات هن أم الكتاب لا تشابه فيه، فهو مفهوم
معلوم، وأنزل آيات أخر متشابهات تكلم فيها العلماء مجتهدين، وهم يعلمون أن
اليقين الذي هو الصواب لا يعلمه إلا الله، وذلك مثل المشكلات التي اختلف
المتأولون في تأويلها، وتكلم فيها من تكلم على ما أداه الاجتهاد إليه».
ويضيف الزمخشري معـللا قيام التأويل الذي كان من أجل تأويل الآيات
المتشابهات وردها إلى المحكمات بأن الله تبارك وتعالى لو أنزل القرآن «كله
محكما لتعلق الناس به لسهولة مأخذه، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص
والتأمل من النظر والاستدلال. ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل
إلى معرفة الله وتوحيده إلا به، ولما في المتشابه من الابتلاء والتمييز
بين الثابت على الحق، والمتزلزل فيه، ولما في تقادح العلماء و إتعابهم
القرائح في استخراج معانيه ورده إلى المحكم من الفوائد الجليلة، والعلوم
الجمة، ونيل الدرجات عند الله، ولأن المؤمن المعتقد أن لا مناقضة في كلام
الله ولا اختلاف، إذا رأى فيه ما يتناقض في ظاهره، وأهمه طلب ما يوفق بينه
ويجريه على سنن واحد، ففكر وراجع نفسه وغيره: فتح الله عليه، وتبين مطابقة
المتشابه المحكم، ازداد طمأنينة إلى معتقده، وقوة في إيقانه».
وهذا النص الذي كتبه الزمخشري عن التأويل لدى تفسيره آية آل عمران ،
وخصوصا قوله (هن أم الكتاب) هو أول نص عثر عليه مؤرخو الفكر الإسلامي في
آداب التأويل الإسلامي للنص القرآني. ويتميز هذا بحسن تعليل المتشابه في
القرآن بالقياس إلى المحكم من جهة، كما يتميز بتبيان مزايا التأويل،
وفضائل العقل، ومكارم التفكير من جهة أخرى وذلك كما يلي:
أولا: إن القرآن لو نزل كله محكما، من منظور الزمخشري على الأقل، لزهد
الناس في استعمال الفكر، ولعزفوا عن إتعاب القرائح، وذلك لسهولة المأخذ،
ويسر المأتى.
ثانيا: إن النتيجة الأولى تفضي إلى النتيجة الثانية، وهي تلك الماثلةفي تعطيل الطريق المفضي إلى معرفة الله تعالى وتوحيده.
ثالثا: إن المتشابه من القرآن جاء ضربا من الابتلاء والاختبار للتمييز بين
الثابت على الحق، والمتمكن من نور الإيمان، والمرتاب فيهما.
رابعا: إن من فوائد المتشابه من القرآن الذي أفضى إلى تأسيس علم جديد من
علوم القرآن انطلاقا من توجيه آية آل عمران ، انه يمكن العلماء المسلمين
الراسخين في العلم من سلوكيات العلماء وأدبيات تحاورهم ، ويفتح الطريق
أمام اجتهاداتهم و إعمال العقل لديهم في فهمالنص القرآني الذي أذن الله
لهم وحدهم به حسب تفسيرهم و تأويلهم لقوله تعالى: «وما يعلم تأويله إلا
الله. والراسخون في العلم ...» و هو موقف أكثر القراء وذلك لترك الباب
مفتوحا أمام العلماء لتأويل المتشابه من القرآن، إلا أن هناك من القراء من
يقف على قوله تعالى: «و ما يعلم تأويله إلا الله»، وبذلك يكف ويصد العلماء
عن تأويله.
هناك أيضا طريق آخر بدون مخرج تشير إليه آيات من سورة يونس:
«وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي
مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ. وَمَا
كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن
تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ
فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ
فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ
اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ
بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ
مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ» (يونس.
38.39)...».
الفقهاء للقرآن عن أنه كلام الله المنزل على نبيه محمد باللغة العربية،
بينما المصحف هو مجموع الأوراق التي كتب عليها القرآن. ويميز البعض بين
بين هذين الكيانين على أساس أن القرآن هو كلام الله المسموع، بينما المصحف
هو الكتاب الورقي أو الجلدي الذي كتب فيه كلام الله. ويضع البعض الآخر
تعريفا مثيرا للانتباه، حيث يميز بين القرآن الذي لا يمكن تدنيسه أو
تحريفه لأنه «محفوظ بحفظ الله له». أما المصحف، فقد «يتعرض للاعتداء من
طرف من طرف من ختم الله على قلوبهم». لكن الأنثروبولوجي التونسي يوسف
الصديق يذهب إلى أنه « لا يمكن التمييز، هنا، بين هذين الكيانين: «كلام
الله» و«المصحف» من حيث «كمية النص» التي يوفرها هذا الكيان أو ذاك: فحسب
مقاييس منطقية وموضوعية لا يملك أحد أي فكرة عن الأمر. فالتمييز بين
الاثنين يقتضي التعامل مع ذلك الانفساخ (والطلاق) المستهلك بين الأثر
الشذري وثبات النص. وهو الانفساخ الذي يلغي تطابق أجزاء من الخطاب ومسار
النفس، كما يجمد حياة الرموز والتصورات، أي أنه يقلب معنى الرسالة نفسه.
وفي هذه الحالة من التمييز التي تجعل القرآن كتابا مفتوحا بشكل لا نهائي
حينما يتقد الإدراك و تظهر الرغبة في قراءة العالم مع ما تحمله هذه الرغبة
من احتمالات اقتحام مجال يغلي بالتناقضات.. يصبح «الكلام القرآني» أو
الكتاب مجالا يحوي كل المخاطر بالنسبة لـ«القارئ». وهو الكتاب الذي يصفه
مقطع من القرآن:
هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ
هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء
الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ
اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ
مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ (أل
عمران. 7 و 8).
والاستنتاج الذي ينتهي إليه الفقهاء التقليديون، في تفسيرهم لهذا المقطع،
هو أنه لا أحد بمقدوره- ولا حتى العلماء الراسخون في العلم- تأويل القرآن.
ويفسر بعض الفقهاء، ومنهم الزمخشري هذه الآية بأن الله تعالى حين أنزل
القرآن العظيم «أنزله آيات محكمات هن أم الكتاب لا تشابه فيه، فهو مفهوم
معلوم، وأنزل آيات أخر متشابهات تكلم فيها العلماء مجتهدين، وهم يعلمون أن
اليقين الذي هو الصواب لا يعلمه إلا الله، وذلك مثل المشكلات التي اختلف
المتأولون في تأويلها، وتكلم فيها من تكلم على ما أداه الاجتهاد إليه».
ويضيف الزمخشري معـللا قيام التأويل الذي كان من أجل تأويل الآيات
المتشابهات وردها إلى المحكمات بأن الله تبارك وتعالى لو أنزل القرآن «كله
محكما لتعلق الناس به لسهولة مأخذه، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص
والتأمل من النظر والاستدلال. ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل
إلى معرفة الله وتوحيده إلا به، ولما في المتشابه من الابتلاء والتمييز
بين الثابت على الحق، والمتزلزل فيه، ولما في تقادح العلماء و إتعابهم
القرائح في استخراج معانيه ورده إلى المحكم من الفوائد الجليلة، والعلوم
الجمة، ونيل الدرجات عند الله، ولأن المؤمن المعتقد أن لا مناقضة في كلام
الله ولا اختلاف، إذا رأى فيه ما يتناقض في ظاهره، وأهمه طلب ما يوفق بينه
ويجريه على سنن واحد، ففكر وراجع نفسه وغيره: فتح الله عليه، وتبين مطابقة
المتشابه المحكم، ازداد طمأنينة إلى معتقده، وقوة في إيقانه».
وهذا النص الذي كتبه الزمخشري عن التأويل لدى تفسيره آية آل عمران ،
وخصوصا قوله (هن أم الكتاب) هو أول نص عثر عليه مؤرخو الفكر الإسلامي في
آداب التأويل الإسلامي للنص القرآني. ويتميز هذا بحسن تعليل المتشابه في
القرآن بالقياس إلى المحكم من جهة، كما يتميز بتبيان مزايا التأويل،
وفضائل العقل، ومكارم التفكير من جهة أخرى وذلك كما يلي:
أولا: إن القرآن لو نزل كله محكما، من منظور الزمخشري على الأقل، لزهد
الناس في استعمال الفكر، ولعزفوا عن إتعاب القرائح، وذلك لسهولة المأخذ،
ويسر المأتى.
ثانيا: إن النتيجة الأولى تفضي إلى النتيجة الثانية، وهي تلك الماثلةفي تعطيل الطريق المفضي إلى معرفة الله تعالى وتوحيده.
ثالثا: إن المتشابه من القرآن جاء ضربا من الابتلاء والاختبار للتمييز بين
الثابت على الحق، والمتمكن من نور الإيمان، والمرتاب فيهما.
رابعا: إن من فوائد المتشابه من القرآن الذي أفضى إلى تأسيس علم جديد من
علوم القرآن انطلاقا من توجيه آية آل عمران ، انه يمكن العلماء المسلمين
الراسخين في العلم من سلوكيات العلماء وأدبيات تحاورهم ، ويفتح الطريق
أمام اجتهاداتهم و إعمال العقل لديهم في فهمالنص القرآني الذي أذن الله
لهم وحدهم به حسب تفسيرهم و تأويلهم لقوله تعالى: «وما يعلم تأويله إلا
الله. والراسخون في العلم ...» و هو موقف أكثر القراء وذلك لترك الباب
مفتوحا أمام العلماء لتأويل المتشابه من القرآن، إلا أن هناك من القراء من
يقف على قوله تعالى: «و ما يعلم تأويله إلا الله»، وبذلك يكف ويصد العلماء
عن تأويله.
هناك أيضا طريق آخر بدون مخرج تشير إليه آيات من سورة يونس:
«وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي
مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ. وَمَا
كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن
تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ
فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ
فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ
اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ
بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ
مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ» (يونس.
38.39)...».
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
مفهوم «الكتاب» بين التحقير والتقريظ
«إذا أمعنا
النظر في الكلام القرآني- يقول يوسف صديق- وتحديدا في ذلك الطيف (ما يعلق
حول معنى «الكتاب») الذي يبدأ من معنى «الربط» إلى معنى أعلى، أي ذلك
الاتساع الذي يضيع- حسب الرؤية الإنسانية- في أسرار المعرفة الإلهية،
سنكون أمام تشكيلة من المعاني، حيث يحمل المعنى، في كل مرة، دلالة معينة».
فأولا، إن هذا الكتاب- حينما يتعلق الأمر بمادة منشورة- يحمل غالبا، في
القرآن، معنى خلافيا، أو الأصح معنى محقرا. وكان لهذا ثقله في المعارضة
التي استهدفت الخليفة عثمان، جامع المصحف، من طرف بعض صحابة الرسول، حول
موضوع «توحيد المصحف» وتداوله في الفضاء الفقهي:
«فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ
يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً
فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا
يَكْسِبُونَ» (البقرة. الأية: 79).
أو أيضا في الخطاب الموجه إلى اليهود المعاصرين للنبي بخصوص التوراة:
«وَلَمَّا جَاءَهُمْ [اليهود] كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ
لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ
كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ
اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن
يَكْفُرُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن
فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَاؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى
غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ
بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا
وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ
قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ» (سورة البقرة. الأية 90 و91و92).
غير أن مفهوم «الكتاب»- يقول يوسف صديق- حينما يستعمله القرآن بنية
تقريظية، يعنى الإرادة الإلهية أو البشرية التي تشترع القوانين وتنسب
الزمن، أي تلك التي تجمع وفق ترتيب أسباب وعناصر الكل. والمعنى الأكثر
تداولا الذي يواجه تحليلنا هو الذي يجعل من الكتاب ملءا لفراغ وحلولا
لأجل، أي فاصلا بين المشروع وتحققه، وبين الرغبة ومصيرها، كما جاء في
الآية:
«لكل أجل كتاب» (سورة الرعد. الأية 39).
وهذا معناه أن «الكتاب» عبور (مسيرة) نحو أجل أو اكتمال لدورة وتحقيق
لانتظار أو وفاء بوعد. إنه البياض التي تحاول الرغبة، إلى حين زوالها، أن
تملأه. أما القرآن، فيجعل الإنصات هو المجال الأساسي للاستقباله:
«وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا
فلما قضي ولّوا إلى قومهم منذرينتقالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من
بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا
أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ومن
لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في
ضلال مبين» (سورة الأحقاف: 29.32).
ويعلق القرطبي على الآية: «وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن» بقوله: «هذا
توبيخ لمشركي قريش، أي إن الجن سمعوا القرآن فآمنوا به وعلموا أنه من عند
الله وأنتم معرضون مصرون على الكفر. ومعنى: «صرفنا» وجهنا إليك وبعثنا.
وذلك أنهم صرفوا عن استراق السمع من السماء برجوم الشهب- على ما يأتي- ولم
يكونوا بعد عيسى قد صرفوا عنه إلا عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم».
فرغم أن «الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا» (النساء. 103)، فإن
الكتاب يعرف نفسه أنه في الوقت نفسه وميض مرتبط بطبيعة المتلقي وبتواتر
الأحكام الإلهية الذي لم تتوقف أبدا على إنتاج ترجمة له. فالكتاب بالنسبة
للقرآن، هو أولا، «العالم الموسوعي» الذي كتبه الله:
«وكذبوا بآياتنا كذابا، وكل شيء أحصيناه كتابا، فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا» (سورة النبأ: 28. 29).
والأية الأخرى: «لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ
وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا» (الجن: 28).
وأيضا الآية: «إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا
وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (سورة يس:
12).
ومنذ تأسيس فقه اللغة حول «المصحف»، لم تعد المؤسسة الفقهية تهتم باللغة القرآنية إلا من أجل الدفاع عن مبدأ الإعجاز القرآني.
النظر في الكلام القرآني- يقول يوسف صديق- وتحديدا في ذلك الطيف (ما يعلق
حول معنى «الكتاب») الذي يبدأ من معنى «الربط» إلى معنى أعلى، أي ذلك
الاتساع الذي يضيع- حسب الرؤية الإنسانية- في أسرار المعرفة الإلهية،
سنكون أمام تشكيلة من المعاني، حيث يحمل المعنى، في كل مرة، دلالة معينة».
فأولا، إن هذا الكتاب- حينما يتعلق الأمر بمادة منشورة- يحمل غالبا، في
القرآن، معنى خلافيا، أو الأصح معنى محقرا. وكان لهذا ثقله في المعارضة
التي استهدفت الخليفة عثمان، جامع المصحف، من طرف بعض صحابة الرسول، حول
موضوع «توحيد المصحف» وتداوله في الفضاء الفقهي:
«فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ
يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً
فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا
يَكْسِبُونَ» (البقرة. الأية: 79).
أو أيضا في الخطاب الموجه إلى اليهود المعاصرين للنبي بخصوص التوراة:
«وَلَمَّا جَاءَهُمْ [اليهود] كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ
لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ
كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ
اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن
يَكْفُرُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن
فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَاؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى
غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ
بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا
وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ
قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ» (سورة البقرة. الأية 90 و91و92).
غير أن مفهوم «الكتاب»- يقول يوسف صديق- حينما يستعمله القرآن بنية
تقريظية، يعنى الإرادة الإلهية أو البشرية التي تشترع القوانين وتنسب
الزمن، أي تلك التي تجمع وفق ترتيب أسباب وعناصر الكل. والمعنى الأكثر
تداولا الذي يواجه تحليلنا هو الذي يجعل من الكتاب ملءا لفراغ وحلولا
لأجل، أي فاصلا بين المشروع وتحققه، وبين الرغبة ومصيرها، كما جاء في
الآية:
«لكل أجل كتاب» (سورة الرعد. الأية 39).
وهذا معناه أن «الكتاب» عبور (مسيرة) نحو أجل أو اكتمال لدورة وتحقيق
لانتظار أو وفاء بوعد. إنه البياض التي تحاول الرغبة، إلى حين زوالها، أن
تملأه. أما القرآن، فيجعل الإنصات هو المجال الأساسي للاستقباله:
«وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا
فلما قضي ولّوا إلى قومهم منذرينتقالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من
بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا
أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ومن
لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في
ضلال مبين» (سورة الأحقاف: 29.32).
ويعلق القرطبي على الآية: «وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن» بقوله: «هذا
توبيخ لمشركي قريش، أي إن الجن سمعوا القرآن فآمنوا به وعلموا أنه من عند
الله وأنتم معرضون مصرون على الكفر. ومعنى: «صرفنا» وجهنا إليك وبعثنا.
وذلك أنهم صرفوا عن استراق السمع من السماء برجوم الشهب- على ما يأتي- ولم
يكونوا بعد عيسى قد صرفوا عنه إلا عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم».
فرغم أن «الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا» (النساء. 103)، فإن
الكتاب يعرف نفسه أنه في الوقت نفسه وميض مرتبط بطبيعة المتلقي وبتواتر
الأحكام الإلهية الذي لم تتوقف أبدا على إنتاج ترجمة له. فالكتاب بالنسبة
للقرآن، هو أولا، «العالم الموسوعي» الذي كتبه الله:
«وكذبوا بآياتنا كذابا، وكل شيء أحصيناه كتابا، فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا» (سورة النبأ: 28. 29).
والأية الأخرى: «لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ
وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا» (الجن: 28).
وأيضا الآية: «إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا
وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (سورة يس:
12).
ومنذ تأسيس فقه اللغة حول «المصحف»، لم تعد المؤسسة الفقهية تهتم باللغة القرآنية إلا من أجل الدفاع عن مبدأ الإعجاز القرآني.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
هل أنزل القرآن حقا بلسان عربي واحد؟
يشير أحمد العابد، في مقال له بعنوان «حقيقة تعدّد نصوص القرآن وتعدّد لغاتها»، إلى أن التسليم بأن القرآن أنزل عربيا (لغة ولسانا)، حتى مع ماجاء بشكل صريح في الآية: « «إنّا أنزلناه قرآنًا عربيّاةَ»، ليس سوى «وهم يتعارض ويتناقض مع حقيقة تعدّد لغات نص القرآن في حياة محمّد ولفترة طويلة بعد موته». وللتدليل على قوة وجهة نظره يسوق ما قاله الطبري في مقدّمة تفسيره: «إذ كان ذلك صحيحًا، (أي ما جاء في الآيات من أنّ القرآن أنزل بلسان عربي) في الدّلالة عليه: بأيِّ ألسن العرب أنزل؟ أبألسن جميعها أم بألسن بعضها؟ إذ كانت العرب، وإن جمَع جميعَها اسمُ أنهم عرب، فهم مختلفو الألسن بالبيان، متباينو المنطق والكلامة لم يكن لنا السبيلُ إلى العلم بما عنى الله تعالى ذكرهة إلا ببيان مَنْ جعل إليه بيانَ القرآن، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم»». وقال أحمد العابد «إن مجرّد القول بأنّ القرآن أنزل بـ «لسان عربي» يبقى كلاما بدون دلالة أو معنى لمن ثبت له أنّ من سمّوا «عربا» في وقت من الأوقات كانوا يتكلّمون عددا لا يحصى من اللغات المتباينة في منطقها وبيانها. هذه الحقيقة الّتي عبّر عنها الطبري، بصراحة تحسب له، تدعمها حقائق أخرى اعتمدها علماء المسلمين واللغويون العرب لإثبات وجود نصوص قرآنيّة عديدة وبلغات متعدّدة بقيت متداولة بعد موت محمّد لمدّة لا يمكن حصرها لعدم توفّر معلومات وأدلّة مادّيّة يمكن الوثوق بها». ولتدليل على ذلك يسوق ما قاله البخاري في صحيحه أن «عمر بن الخطّاب يقولُ: سمعتُ هشامَ بن حكيمٍ يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واستمعتُ لقراءتهِ فإذا هو يقرأ على حروفٍ كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلّى الله عليه و سلّم فكدت أساوره في الصّلاة فتصبَّرْتُ حتّى سلّم، فلبَبْتُهُ بردائِهِ (أخذه بردائه عنوة لئلاّ يفلت منه). فقلتُ: من أقرأكَ هذه السّورةَ الّتي سمعتكَ تقرأُ؟ قال : أقرأنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقُلتُ: كَذَبْتَ فإنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أقرأنيها على غير ما قَرَأْتَ. فانطلقْتُ به أَقودُهُ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقُلْتُ : إنّي سمعتُ هذا يقرأُ بسورةِ الفرقانِ على حروفٍ لم تُقرِئْنيها. فقال : رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : أَرْسِلْهُ (اتركه) اقرأ يا هشامُ. فقرأَ عليهِ القراءَةَ الّتي سمعتُهُ يقرأُ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : كذلك أُنْزِلَتْ ثمّ قال اقرأْ يا عمر، فقرأْتُ القراءَةَ الّتي أقرأني. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : كذلك أنزلتْ إنّ هذا القرآن أنزلً على سبعة أحرفٍ فاقرؤوا ما تيسّر منه». كما أورد أيضا ما يفيد بأنّ عبد الله بن مسعود قال أيضا : « سمعت رجلا قرأَ وسمعتُ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقرأُ خِلافها فجئْت به النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأَخبرتُهُ فَعَرفتُ في وجهه الكرَاهِيَةَ وقال: كلاكُما مُحسِنٌ ولا تختلفوا فإنّ من كان قبْلكم اختلفوا فهلكوا». ولتبرير أسباب نزول القرآن بسبع لغات متباينة المنطق والبيان، يقول البخاري في صحيحه أنّ محمّدا قال: «أقرأني جبريل على حرفٍ فراجعتُهُ فلم أزلْ أستزيدُهُ ويزيدني حتّى انتهى إلى سبعة أحرفٍ». وهي ذات الحجّة الّتي نقلها الطّبري في إحدى الرّوايات المنسوبة لأبي بن كعب والتّي جاء فيها قوله: «لقي رسول الله (صلعم) جبريل عند أحجار المراء فقال إنّي بعثت إلى أمّة أمّيين منهم الغلام والخادم والشّيخ الفاني (العاسِي) والعجوز فقال جبريل فليقرؤوا القرآن على سبعة أحرف ولفظ الحديث لأبي أسامة. ويذهب أحمد العابد في مقاله المثير للجدل: «لتبرير اندثار القرآنات الّتي كانت بلغات غير لغة المصحف المتداول وردت في مراجع المنظومة العقائديّة الإسلاميّة العديد من الرّوايات المتباينة في ما يبدو تفاصيل لكنّها متّفقة في الأصل. وحسب هذه الرّوايات فإنّ «الأمّة ضيّعت ما أمرت بحفظه» بفعل وإرادة عثمان الّذي قرّر «جمع» القرآن بـ»لسان قريش» ومنعت اول كلّ ما خالف مصحفه متجاوزا في ذلك إرادة ربّه. من الرّوايات المشهورة والمعتمدة في كتابات علماء المسلمين السنّة، للتّنويه والإشادة بما فعله عثمان عندما جمع مصحفه ومنع ما أمر الله بحفظه، رواية حذيفة بن اليمان الّتي ذكرها الطّبري في مقدّمة تفسيره، والّتي جاء فيها:»ة إن حذيفة بن اليمان قدِم من غزوة كان غزاها بِمَرْج أرْمينِية، فلم يدخل بيته حتى أتى عثمان بن عفان فقال : «يا أمير المؤمنين: أدرِكِ الناس!» فقال عثمان: «وما ذاك؟» قال غزوت مَرْج أرمينية، فحضرها أهلُ العراق وأهلُ الشام، فإذا أهل الشام يقرؤون بقراءة أبيّ بن كعب، فيأتون بما لم يسمع أهلُ العراق، فيكفرهم أهلُ العراق. وإذا أهل العراق يقرؤون بقراءة ابن مسعود، فيأتون بما لم يسمع به أهل الشام، فيكفِّرهم أهلُ الشامة» هذه الرّواية توحي بأنّ عثمان لم يكن يعلم بوجود تلك الخلافات أو على الأقل لم يكن يعي خطورتها على إيمان المسلمين. لكن رواية أخرى ينقلها الطّبري أيضا وفي نفس السّياق تثبت أنّ تلك الخلافات وما انجرّ عنها من تكفير ومشاحنات كانت في يثرب ذاتها. يقول الطّبري: «ة لما كان في خلافة عثمان، جعل المعلِّم يعلِّم قراءة الرجل، والمعلِّم يعلِّم قراءةَ الرجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون، حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين - قال أيوب : فلا أعلمه إلا قال-: حتى كفر بعضهم بقراءة بعض. فبلغ ذلك عثمان، فقام خطيبًا فقال: «أنتم عندي تختلفون فيه وتلحنون، فمن نأى عني من أهل الأمصار أشدّ فيه اختلافًا وأشدّ لحنًا. اجتمعوا يا أصحابَ محمد، فاكتبوا للناس إمامًا». ولا يتردد أحمد العابد في القول بوجود نصوص مختلفة للقرآن كان منتشرا في كلّ أماكن تواجد المسلمين سواء كان ذلك في معسكرات الغزاة أو في يثرب، الشّيء الّذي ينسف تماما ما يروّج له حول حقيقة وحدة النص ووحدة لغته. كما تبرز لنا الأسباب الّتي دفعت بعثمان لمعصيّة ربّه وجعل القرآنات السبعة قرآنا واحدا وبلغة واحدة، لكنّها لا تتطرّق للأسلوب الّذي اتبعه عثمان لتأسيس «قدسيّة وحدة النص القرآني ووحدة لغته» الّتي بدونها لا يمكن فهم الإسلام. | ||
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
منصف الوهايبي: القرآن نص أم نصان؟2/1
يميز منصف الوهايبي في مقالة له بعنوان «في الكتابة: القرآن نص أم نصان» بين نصّين اثنين: «نصّ» الوحي المحكوم بأسباب التّنزيل، ونصّ المصحف المحكوم بأسباب الكتابة ودوافعها ومواقيتها، أو إكراهات الكتابة. ويقول: «إذا استتب لنا القول بأن الكتابة سلطة وأنّ هذه السّلطة منوطة بقيمة الكتابة الاجتماعيّة، أدركنا أن البحث في واقع الكتابة ومدى ذيوعها وانتشارها في المجتمع العربيّ ما قبل الإسلاميّ أو بعده هو من الكمّ الذي لا يعتدّ به كثيرا. فقد يكون المرء، جاهلا بالخطّ ولكنّه ليس جاهلا بالكتابة. ولعّل كتابة القرآن أن تكون خير نموذج لما نحن فيه، فقد كانت تتأدّى بواسطة الإملاء على كتبة الوحي. ولا شكّ أنّ إملاء نّص كالقرآن «محكم» في صيغه وتراكيبه، لا يمكن إلا أن يستدعى أداء «مبنيّا»؛ لأنّ الأمر ـ على ما أوضحنا في مقال سابق ـ لا يتعلّق بنصّ يرتجل وإنّما بنصّ «يمليه» صاحبه على نفسه قبل أن يمليه على غيره. ومثل هذا النّصّ «الوحي» كتابيّ حتّى وإن أعدّ شفهيّا أو ذهنيّا في صمت أي قبل أن يمليه صاحبه على الآخرين، وقبل أن تتدبّره الكتابة وتثبّته في صورة خطّية وتقيّده في هيئة بصريّة. والكتابة بهذا المفهوم تنوب «التّفاعل» الشّفهيّ. فهي لا تحدّ في شيء العلاقة المباشرة بين متكلّم ومستمع، وهي أساس الكلام أو الأداء الشّفهيّ. ذلك أنّ نصّ الوحي مثل الشّعر قول لا يُسمع سمعا، بل يستغرق السّمع استغراقا. نشير في هذا السّياق إلى قول القاضي عبد الجبّار،من أنّ النّبي «كغيره في بون ما بين كلامه وبين القرآن»، فهو قول في غاية الدّقّة. قال: «فلا يصحّ أن يقال: إنّه [النّبي] أتى به لمزيّته في الفصاحة، وحال كلامه كحال كلام غيره، في أنّ القرآن يفوقه، ويفضل عليه؛ وبيّنوا [شيوخنا] أنّه لا يمكن أن يقال: تعمّل له زمنا، وسائر كلامه ارتجله؛ وذلك لأنّ المتقدّم في الفصاحة يقارب المرتجل من كلامه المسموع عنه، بل ربّما فاقه البعض منه، على ما جرت به العادة، إذا كان ممّن يمكنه الارتجال كما يمكنه التّعمّلة» (المغني ص.275). ولعلّ في هذا ما يدلّ على أنّ نصّ «الوحي» كلام «متعمّل» أي مصنوع، وإن لم يقصد القاضي عبد الجبّار إلى ذلك، ولكنّ كلامه يسوق دون تمحّل إلى هذا الاستنتاج. و»نزول» النصّ [القرآن] منجّما أو في مواقيت متباعدة، يعزّز طابع الصّنعة فيه، والمقصود بها ها هنا الكتابة. وكذلك ما يحفل به من تكرير المعاني والموضوعات والصّيغ، فهذا راجع إلى ما يسمّيه المعاصرون «الاستعمال المتواطئ» الذي هو سمة الكلام المكتوب أكثر ممّا هو سمة الشّفوي كما يقع في الظنّ عادة. و»الوحي» من ثمّة، يمكن أن يحدّ من حيث هو أداء كتابيّ حتّى وإن جاء بصيغة صوتيّة غير مخطوطة. فهو نصّ «يُملى»، وكلّما كان إملاء كانت كتابة. ووضعيّة الإملاء تتيح لصاحب النصّ أن يتعهّد نصّه المثبّت في الذّاكرة، حذفا أو زيادة أو تغييرا وأن يمليه دونما استئناس بنصّ مخطوط. وربّما وقع في الظّن أن وضعيّة الإملاء تنطوي على عناصر الاتّصال «الجاكوبسونية» جميعها من سياق ومرسل ومتلقّ، وأنّ النّصّ ينضوي، من ثمّة، إلى الأداء الشّفهيّ وليس إلى الأداء الكتابيّ حيث لا يظهر المرسل ولا يملك المتلقّي سوى الرّسالة وحدها. وهذا في تقديرنا من مدخول الظّنّ وخادع الانطباع، فالوحي محكوم بازدواجية مثيرة: ازدواجيّة السّياق وازدواجية المرسل وازدواجية المتقبّل. أمّا سياقه فسياقان: سياق غائب يرجع إلى «الخطاب الصامت» السّابق على لحظة الإملاء حيث يكون المرسل قد تعهّد نصّه وثبّت الكلمات ومبناها في ذاكرته. وسياق حاضر يرجع إلى مواقيت إملائه ومواقعها. وأمّا المرسل فمرسلان : فالوحي في معتقدات المسلمين وفي متخيّلهم الدّيني، رسالة أوحت بها ذات متعالية مفارقة (الذّات الإلهيّة) إلى متقبّل أوّل (النبيّ). وهذا المتقبّل مرسل ثان ينقل الرّسالة إلى متقبّل ثان لا يحدّ ولا يصنّف أو هو متحرّر من رقّ الزّمان والمكان، لأنه(الإنسان) في كل زمان وفي كلّ مكان. على أنّ هذا المتقبّل في سياق الإملاء، إملاء الوحي «كاتب» يسّجل الوحي ويقيّده بالخطّ. إنّ تقصّي مظاهر الكتابة في نصّ كالقرآن (القرآن / الوحي والقرآن / المصحف) يؤكّد أنّ الجهل بالخط لا يعني ضرورة الجهل بالكتابة. فالوحي «كتاب» أو هو نصّ « كتابيّ مكتوب «ما أخذنا بالاعتبار مفهوم الكتابة عند العرب، من حيث هي بنية أو تجميع وتأليف أي جمع أشياء بعضها إلى بعض ووضع جمل بعضها مع بعض وربط أحداث بعضها إلى بعض، لأداء معنى مفيد. وربّما تعزّز المظهر الكتابيّ في القرآن /الوحي بهذه الإشارات المرئيّة التي نقف عليها في ازدواجيّة عناصر الاتّصال غير الصّوتيّة. وهي ازدواجية قائمة في جذر أيّ تجربة جماليّة يمكن أن تقدّمها الكتابة. على أنّها في «القرآن الوحي»، وربّما في غيره من أجناس القول، ليست كتابة خالصة. فنصّ الوحي يقارب القصيدة طالما كان المرسل هو المتكلّم، وينحو باتجاه المكتوب طالما كان المتكلّم ممايزا من المنشئ (الذّات الإلهيّة). وهو، من ثمّ، نصّ محكوم بهيئة من التّأليف شبه شفويّة وهيئة من التّأليف كتابيّة أو شبه كتابيّة. ومن هذا الجانب فإنّ» التّأليف الشّفهيّ» في ثقافة كتابيّة أو هي عرفت الكتابة بنسبة أو بأخرى، لا يمكن إلاّ أن يختلف عن « قرينة « في ثقافة شفهيّة خالصة. ومهما يكن فإنّ سلطة الكتابة الاجتماعيّة منوطة بنوع الكتابة أو بمفهومها، أكثر منها بكمّها أو بمدى ذيوعها وانتشارها. والقرآن إنّما شدّ العرب بنوع كتابته وهم الذين حاروا فيه، والوحي قريب العهد إليهم، وتحيّروا، فمن قائل إنّه شعر أو سحر وقائل إنّه أساطير الأوّلين أو سجع الكهّان، وقائل ينزّهه عن هذا كلّه فما هو بالشّعر ولا بالسّحر ولا بالكهانة. بل إنّ ابن الرّوندي (أو الرّيوندي) الذي عاش في القرن التّاسع ميلادي، يطعن على القرآن في غير موضع ممّا تبقّى من نقول كتبه، وهي شذرات قليلة جدّا. ويرى فيه تناقضا وكلاما مستحيلا، وأنّه ليس بمنزّل. ونقرأ في «الأغاني» أنّ بشّار بن برد فضّل بعض شعره على سورة «الحشر»، وأنّ أبا العتاهية قال لبعض أصحابه :» قرأت البارحة» عمّ يتساءلون» ثمّ قلت قصيدة أحسن منها». ومع ذلك ففي هذا الزّعم أو ذاك تسليم بأثر أساليب القرآن وبيانه في نفوسهم أي بما هو منضو إلى النوّع و»الحسن» و»الممتع» أو راجع إلى الوظيفة الشّعريّة أو الجماليّة أو إلى»الغريب» أو»غير المتوقّع». | ||
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
منصف الوهايبي: القرآن نص أم نصان؟2/2
وما كلامهم في مباحث الإعجاز، والوحي بعيد العهد عنهم، على» مفارقة القرآن لكلام العرب» وخروج نظمه عن سائر نظومهم» سوى تسليم بنوع من «بيان القلم» لم يكن للعرب به سابق عهد. وبهذا النوّع من الكتابة استطاع النبي على-»أمّيته بالخطّ»-( اختلف المسلمون في هذه الأمّية. والأرجح أنّه لم يكن كذلك. وحتّى لو كان فالأمّية بالخطّ لا تعني ضرورة الأمّية بالكتابة. فضلا عن أنّ للأمية معنى آخر دينيّا لا يعنينا في السّياق الذي نحن به) أن يجمع سلطان النّصّ إلى سلطان النبوّة الاجتماعيّ والسّياسيّ وأن يجعل العرب يعتقدون في اختلافه عنهم، وتميّزه عليهم فيحشدهم في طاعته وفي مراتب قيمه ونسيج نصّه، برغم أنّ المتخيّل الذي ينهض به «النصّ» [القرآن] متخيّل تخاطب كتابيّ يخصّ طائفة من النّاس مأخوذة بالكتابة؛ والحال أنّ الكتابة لم تكن ذائعة شائعة في بيئة هؤلاء العرب القدامى،كما هي الحال اليوم في أكثر بلدان العالم الإسلامي. فلعلّ سلطان الكتابة كان راجعا، في جانب منه، إلى تطابق صريح بين سلطة النّبيّ السّياسيّة وسلطة المتخيّل وطرائق أدائه. والكتابة ـ في ما تبيّنه الدّراسات الحديثة ـ إنّما تكون حامل تصعيد أو حامل تسام أو إعلاء، كلّما استشعرت الجماعة المرتبطة بها، الحاجة إليها من حيث هي صورة من صور التبعيّة للآخر والولاء له. وهذا رأي تثبته شتّى الكتابات الدّينيّة وتنهض به، ونلتقي في «القرآن على القرآن» أو «الخطاب على الخطاب» أدّلة وقرائن كثيرة تتضافر كلّها في صياغة «لغة واصفة» تشير إلى تفكير الذّات المتكلّمة في خطابها من حيث هو الكلام المعجز المبين ووحي السّماء وأساس التّشريع والقانون المنظّم للسّلوك والمرشد إلى معالي الأمور؛ أي التلفّظ» أو» القول» القائم على متكلّم ومستمع، حيث المتكلّم مدفوع برغبة التّأثير في المستمع أو المتقبّل بطرائق وأساليب شتّى. ولا نعدم في مباحث الإعجاز لفتات طريفة إلى الأثر الّنفسيّ في أسلوب القرآن، حيث تطّرد عند علماء الإعجاز مثل الرّماني والخطابي والباقلاّني وعبد القاهر الجرجاني، مفردات مثل « اللذة « و» الحلاوة « و» المهابة» و»الروعة» وما إليها من عبارات تتضافر في صياغة سلطة ذات «كاتبة» غير منظورة، تنفصل ـ وهي تتكلّم ـ عن العالم المتخيّل الذي تنشئه على قدر ما تتّصل به. وعليه فإنّ الأثر النّفسيّ في أسلوب القرآن وكتابته أو «رسوم نظمه» بعبارة الخطابي ـ ولعلّها ليست إلاّ رسوم الكتابة حيث «الحاجة إلى الثّقافة والخدمة فيها أكثر لأنّها لحام الألفاظ وزمام المعاني، وبه ينتظم أخذ الكلام، ويلتئم بعضه ببعض فتقوم له صورة في النّفس يتشكّل بها البيان»، وما يلازم هذا الأثر النّفسيّ من نظرة دهشة وإعجاب ويخلص منه إلى القلب من «اللّذة» و»المهابة» و»الرّوعة»، وما يتلوه من يقظة الإدراك وصحوة العقل، سواء أكان المتقّبل، من النصّ في سهولة مأخذ وحسن تأتّ، أم كان منه بين ارتفاع وصبب ـ مظهر لافت من سلطة الكتابة القرآنيّة، لا ينسرح العقل منها ولا ينفكّ عنها. غير أنّ الكتابة، بقدر ما تثّبت الكلام وتقيّده، فإنّها تسمح أيضا، لسبب ما أو ذريعة ما، بإعادة ترتيبه أو بتصحيفه وتغيير معناه. من ذلك أنّ القرآن / الوحي هو في المعتقد الدّينيّ الكلام الإلهيّ المنزّل الذي لا يتغيّر ولا يتبدّل، ولكنّه، وقد كتب، فإنّ المسلمين، منذ أن نهضوا بجمع القرآن ـ وكان بعضه مسطورا في العسب واللّخاف والأكتافة وبعضه محفوظا في الذّاكرة ـ لم يجدوا غضاضة في إعادة ترتيبه. بل إنّ من الشّيعة من يذهب إلى أنّ عثمان محا الآيات التي تؤيّد علي بن أبي طالب وأتباعه. وعليه يكون من السّائغ أن نتحدّث عن نصّين اثنين: «نصّ» الوحي المحكوم بأسباب التّنزيل، ونصّ المصحف المحكوم بأسباب الكتابة ودوافعها ومواقيتها، أو إكراهات الكتابة، بعبارتنا اليوم. وسواء علينا أحملنا هذين «النصّين» على أنّهما مظهر من مظاهر التّقليد الشّفهيّ في أداء القرآن أم مظهر من»كتابيّته»، فلا مناص من الإقرار بأن سلطة الكتابة نسبيّة وليست مطلقة كما قد يتبادر إلى الذّهن. بل ربّما سوّغنا الرّأي القائل بهشاشة الكتابة وبعدم الإفراط في تقدير «الحقيقة»، حقيقة الكلمة المكتوبة. ويتعزّز هذا الرأي، إذا ما أخذنا بالاعتبار أنّ العربيّة التي كتب بها القرآن، إنّما هي عربيّة «ما قبل الإسلام»، أي عربيّة الشّعر والمثل والخطابة وسجع الكهّان وفنّ التّوقيع. ولا نظنّ أنّ هناك من يجادل في أنّ هذه العربيّة ليست قانونا نافذا على الدّهر، وإنّما هي لغة نسبيّة مقصورة على حقبة بعينها، محدّدة ، أي عالم الذّات التي تعقد أكثر من علاقة بين ملفوظها وفعل تلفّظها، فيما La deixisب «أنا/الآن/هنا»، تتكلّمها في القرآن «ذات» تدور على مطلق، أو هكذا هي تقول». | ||
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
وائل السواح: أسباب النزول ونسبية القرآن (1) (هل الخمر حلال أم حرام؟)
ي مقالة بعنوان «أسباب النزول لفهم نسبية آيات القرآن»، يحاول وائل سواح التدليل على نسبية آيات القرآن من خلال طرح الأسئلة التالية إذا كان نزول بعض الآيات نتيجة لشرط زمانيّ- مكانيّ معيّن، أفلا يعني ذلك أنّ حكمها مشروط بذلك الزمان وذلك المكان؟ وكيف يمكن التوفيق بين سبب النزول وتخليد الحكم في بعض الآيات؟ ويأتي في هذا السياق بمسألة «تحريم الخمر». يقول وائل سواح: « أسباب النزول، عند عديد الفقهاء والباحثين الإسلاميين، هي الشروط التاريخية التي تنزَّل بها القرآن على النبي. وهي تقدّم للقارئ، كما يقول محمد أركون، معطيات عن حال الثقافة وملامح المجتمع في الجزيرة العربية. عن ابن عباس قال: لمّا نزلت الآية «وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ» (الشعراء: 214)، خرج النبيّ حتى صعد الصفا، فهتف: يا صباحاه، فاجتمعوا إليه فقال : «أرأيتكم لو أخبرتكم أنّ خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدّقيّ؟..إلى آخر الحديث المعروف، فقال أبو لهب تباً لك، ألهذا جمعتنا، ثمّ قام، فنزل قوله تعالى «تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ». وعن عبد الله قال: «إنّي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة وهو متّكئٌ على عسيب، فمرّ بنا ناس من اليهود فقالوا: سلوه عن الروح، فقال بعضهم: لا تسألوه فيستقبلكم بما تكرهون، فأتاه نفر منهم فقالوا له: يا أبا القاسم ما تقول في الروح؟ فسكت، ثمّ قام، فأمسك وجهه بيده على جبهته، فعرفت أنه ينزل عليه، فأنزل الله عليه: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا». (الإسراء85.) الروايتان السابقتان تحدّدان لنا ما أسباب النزول. ويبدو أنّ الأخذ بأسباب النزول هو مدخل لازب لفهم بعض آيات القرآن بالنسبة لعدد من الفقهاء. فالواحدي يقول مثلا: «لا يمكن تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها.: ويزيد عليه ابن تيمية بأن «معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب.». ويبدو أنّ الغالبية المطلقة من الفقهاء يأخذون بأسباب النزول ويعتبرونها علما إسلاميا قائما بذاته، مثل علم التفسير وعلم الحديث والفقه، وغيرها. ويميل بعض العقلانيين ذ محقّين ذ إلى اعتبار أسباب النزول محاولة عقلانية لتفسير بعض آيات القرآن، ولكنْ ثمّة سؤالان لا بدّ من الإجابة عليهما قبل المتابعة في هذه الفكرة: إذا كان نزول بعض الآيات نتيجة لشرط زمانيّ- مكانيّ معيّن، أفلا يعني ذلك أنّ حكمها مشروط بذلك الزمان وذلك المكان؟ وكيف يمكن التوفيق بين سبب النزول وتخليد الحكم في بعض الآيات؟ ولنأخذ على سبيل المثال آيات تحريم الخمر. نعرف من بعض آيات القرآن أنّ الخمر لم تكن محرَّمة في صدر الإسلام، بل كانت نعمة من نعم الله مثلها في ذلك مثل الماء واللحم والفاكهة واللبن. ففي سورة النحل (الآيات 65 ذ 67) نقرأ: «وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ، وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ، وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.» لا يمكن لهذه الآية إلا أن تعني أنّ الخمر كانت تُعتبر من نعم الله على البشر، وهو ما يقرُّ به ابن كثير والقرطبي والطبري والسيوطي والمحلي، وإن كانوا يربطون ذلك بفترة ما قبل تحريمها. كان ذلك في مكة، عندما كان النبيّ يسعى إلى إقناع القرشيين بالانضمام إلى مذهبه الجديد. على أنه بعد أن استقام به المقام في يثرب، بدأت رحلة تحريم الخمر. وبدأ التفريق بين خمر الجنّة التي لا تُسكر والتي هي «لذّة للشاربين» (محمد 15) وبين خمر الأرض التي ينبغي تجنّبها. وكانت الحلقة الأولى في رحلة التحريم هي الآية 219 من سورية البقرة التي تقول: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، وَإِثمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا» (البقرة 219). وفي هذه الآية لا نجد تحريما ولا حضّا على تركها، ولكنّنا نجد نوعا من النصيحة بأنّ فيها منافع للناس ولكنّ إثمها أكبر من فائدتها. وعندما طلب المدنيون (أهلتالمدينة) من النبيّ أن يتركهم ينتفعون بها، سكت عنهم، أي أنّه لم ينههم. الحلقة الثانية كانت الآية 43 من سورة النساء والتي تقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا» (الآية). تفههنا تشجيع على التخفيف من الخمر وعلى ألا يأتي المسلم أو المسلمة المسجد وهو سكران أو جنب. والعبرة في عدم السكر هنا هي أن يعرف الناس ما يقولون أثناء الصلاة. وسكارى هي جمع سكران والسكران في القاموس هو من غاب عقله من شدّة السّكر. ويبقى مضمون الآية أنه إذا اغتسل الجنب أو صحا الشارب لما كان عليهما جناح. والخمر هنا هي بمثابة الجنابة، وكما أنّ الجنابة ليست حراما فالخمر ليست حراما أيضا. أما الحلقة الثالثة فكانت الآيتين 90 و91 من سورة المائدة، اللتين تقولان: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ». يعتقد كثيرون أن الآيتين الأخيرتين فيهما تحريم كامل وقطعيّ لشرب الخمر، ولكنّ مؤرخين ومفكّرين إسلاميين يخالفون هذا الرأي، ويفرّق بعضهم، وبينهم مثقّف جليل كأبي حنيفة، بين الخمر والنبيذ. بيد أننا سنركّز هنا على أسباب نزول الآيات، وبالتالي على نسبيتها. ففي الآية الأولى، يروي علماء أسباب النزول أنّ أهل المدينة سألوا النبيّ عن الخمر، هل هي حلال أم حرام، فتنزلَّت الآية: «ُقلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، وَإِثمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا»، وفي الآية الثانية رواية ذكرها أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم عن علي بن أبي طالب قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاةُ فقدّموني (ليؤمَّهم) فقرأت: «قلْ يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون»، فأنزل الله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونة» فقال بعض المسلمين: «يا رسول الله لا نشربها عند اقتراب وقت الصلاة، فسكت عنهم. أما الآيتان الأخيرتان، فقد ورد في صحيح مسلم، أنّ عليا بن أبي طالب قال: «أصبت شارفا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغنم، يوم بدر. وأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم شارفا أخرى. فأنختها يوما عند باب رجل من الأنصار. وأنا أريد أن أحمل عليهما إذخرا لأبيعه، ومعي صائغ من بني قينقاع، فأستعين به على وليمة فاطمة. وحمزة بن عبد المطلب يشرب في ذلك البيت. معه قينة تغنّيه. فقالت: ألا يا حمز للشرف النواء. فثار إليهما حمزة بالسيف. فجبّ أسنمتهما وبقر خواصرهما. ثم أخذ من أكبادهما. قلت لابن شهاب: ومن السنام؟ قال? قد جبّ أسنمتهما فذهب بها. قال ابن شهاب: قال علي: فنظرت إلى منظر أفظعني. فأتيت نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وعنده زيد بن حارثة. فأخبرته الخبر. فخرج ومعه زيد. وانطلقت معه. فدخل على حمزة فتغيّظ عليه. فرفع حمزة بصره. فقال: هل أنتم إلا عبيد آبائي؟ فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقهقر حتى خرج عنهم»، وكان ذلك سببا لنزول الآية. | ||
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
وائل السواح: أسباب النزول ونسبية القرآن (2) (إِني أَرى ربك يسارع لَك فِي هواك)
سنحاول هنا أن
نفكر منطقيا في أسباب النزول. سبب الشيء هو مبرّر حدوثه. ويقول الطبري في
تفسيره إنّ السبب هو «كلّ ما تسبّب به الرجل إلى طَلَبَته وحاجته»، فالحبل
سبب لأنه يوصلك إلى الحاجة التي تريدها والطريق سبب لأنه يوصلك إلى المكان
الذي تطلبه. وأسباب النزول إذن هي أحداث بعينها تطلَّبت أن يتنزل بسببها
الوحي على النبيّ، ليغدو قرآنا. ومن هنا فإننا لا نتجاوز العدل إذا قلنا
إنه لو لم تقع تلك الحادثة لما كان ثمّة سبب (مبرر) لنزول الآية المرتبطة
بها. فلو أنّ أهل المدينة لم يسألوا النبيّ عن الخمر، لما نزلت الآية:
«ُقلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِة» ولو لم يقرأ عليّ
«ونحن نعبد ما تعبدون»، لما أنزل الله -تربما - « لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ
وَأَنْتُمْ سُكَارَىة» ولو أن حمزة شرب باعتدال كما يفعل الرجال
المتمدّنون لربما تأخّرت آية «?يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسرة
الآية.»
لا تريد هذه المقالة أن تناقش مسألة قدسية القرآن. فنحن نزعم أن نزول
القرآن بسبب لا يزيد ولا ينقص من قدسيته عند المؤمنين من المسلمين، ولكنه
يعطيه بعدا تاريخيا. وإذا اتفقنا على أنّ الكثير من الآيات ارتبط نزولها
بأسباب خاصة بمكان معين وزمان معين وشرط ثقافي معين، لما كان صعبا استبعاد
أن حكم الآية يمكن أن يتغير بتغير الظرفين الزماني والمكاني وتطوّر الشرط
الثقافي.
ولعل ما يؤيد هذا النحو هو أن الآيات التي نزلت بأسبابِ نزولٍ خاصة هي
كلها آيات أحكام وليست آيات عقدية، من مثل النبوة والتوحيد والعقاب
والثواب والعلاقة مع غير المسلمين من «مشركين» و»أهل كتاب.» وهذه الآيات
(الأحكام) لا تشكّل سوى 10 بالمائة من مجموع آيات القرآن، وهي جميعا نزلت
على مراحل، ممّا يؤكد صلتها بعلم أسباب النزول. ومن بين آيات الإحكام،
فإنّ أسباب النزول لعبت دورا أكبر في أحكام المعاملات، عنها في أحكام
العبادات. وقد رصد الباحث بسام الجمل 87 آية من آيات أحكام المعاملات عند
الواحدي، في مقابل 26 آية فقط من آيات أحكام العبادات. وهو أيضا ما يؤيد
فكرة نسبية هذه الأحكام ومحدوديتها بحدود الزمان والمكان والشرط الثقافي
الذي نزلت فيه(1).
ولا يقتصر الأمر بالطبع على الخمر، فإنّ آيات كثيرة يمكن إدراجها في هذا
البند، لعل أشهرها الآية 51 من سورة الأحزاب: « تُرْجِي مَنْ تَشَاء
مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْك مَنْ تَشَاء وَمَنْ اِبْتَغَيْت مِمَّنْ
عَزَلْت»، وقد تلت الآية 50: «وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ
نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا
خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَة الآية». وإنه ليتعذّر تفسير
الآيتين المذكورتين بدون أسباب النزول، بسبب خصوصيتهما المفرطة والمتعلقة
بالنبي. يحدِّث الإمام أَحمد عن عائشة أَنها «كَانت تَغِير من النساء
اللاتي وهبن أنفسهن لرسولِ اللَّه صلى اللَّه علَيه وسلم قَالَت ألا
تَستَحيِي الْمرأة أَن تَعرض نفسها بِغَير صداق؟ فأنزل اللَّه عزّ وجل
«تُرْجِي مَنْ تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْك مَنْ تَشَاء» (الآية).
يقول القرطبي في تفسيره للآية إن النبي كان مخيَّرا في أزواجه إن شاء قسم
(عدل بينهن) إن شاء ترك القسم (ميَّز بينهن). فخص النبي بأن جُعِل الأمر
إليه. وهذا كما يمكن للقارئ أن يرى أنّ ثمّة أمورا تخصّ فردا واحدا، ولا
يمكن أن تخصّ غيره ولا بالأحرى أن تعمّ. ولا يفوتنا أن نذكر هنا عبارة
عائشة الشهيرة التي شكّكت بنزاهة الوحي، حين قَالَت «إِني أَرى ربك يسارع
لَك فِي هواك»، وهو ما يفسره القرطبي على أنه «قول أبرزه الدلال والغيرة،
والغيرة يغتفر لأجلها إطلاق مثل ذلك».
وسنضيف إلى الحالات الخاصة حقيقة أن بعض الآيات نزلت تلبية لرغبة أفراد.
أخرج البخاري عن أنس قال: قال عمر(ابن الخطاب): وافقت ربّي في ثلاث. قلت:
يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى، فنزلت: «وَاتَّخِذُوا مِنْ
مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى» (البقرة: 125). وقلت يا رسول الله : إنّ
نساءك يدخل عليهن البرّ والفاجر، فلو أمرتهنّ أن يحتجبن، فنزلت آية
الحجاب، واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة، فقلت
لهنّ: «عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا
خَيْرًا مِنْكُنّ» (التحريم: 5)، فنزلت كذلك.
ومعروفة قصة عبد الله بن أبي سَرْح الذي كان يكتب الوحي للنبي، ثم ارتدّ
ولَحِق بالمشركين. وسبب ذلك فيما ذكر المفسّرون أنه لما نزلت الآية 14 من
سورة المؤمنون ونصها زوَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ
مِنْ طِينٍ» دعاه النبيّ فأملاها عليه، فلما انتهى إلى قوله «ثُمَّ
أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ» عجِب عبد الله في تفصيل خلق الإنسان
فقال:تتبارك الله أحسن الخالقين، فقال النبي: «هكذا أُنزلت عليّ»، فشكّ
عبد الله حينئذ وقال: لئن كان محمد صادقاً، لقد أُوحي إليّ كما أُوحي
إليه، ولئن كان كاذباً لقد قلتُ كما قال. فارتدّ عن الإسلام ولحِق
بالمشركين، فنزلت الآية 93 من سورة الأنعام: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ
افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ
إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ.»
والنقطة التي يمكن الوصول إليها من هذا البحث، هي أنّ أسباب النزول وهو
علم إسلامي معترف به من قبل الغالبية العظمى من الباحثين والمفكرين
الإسلاميين يقرّ بنسبية عدد كبير من الآيات وخاصة تلك التي تتعلق
بالأحكام،. هذا الإقرار يمكن أن يكون المدخل إلى فهم جديد للأحكام العامة،
سواء أكانت أحكاما اجتماعية (الزواج، الحجاب، إلخ،) أو جزائية مثل حدود
السرقة والزنا، إلخ. ولست في هذا البحث بمبتعد عما كان الباحث الإسلامي
الجليل محمد شحرور قاله في كتابه «الكتاب والقران قراءة معاصرة، عندما رفض
مبدأ الترادف في القرآن وميّز بين المفاهيم: فالقرآن ليس هو الفرقان
والرسول لا يعني النبي والإنزال ليس هو التنزيل والعباد ليسوا هم العبيد،
إلى ما هنالك. ويقوم جهد شحرور على التمييز بين أمّ الكتاب والمتشابهات
انطلاقا من الآية 7 من سورة آل عمران « هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ
الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ
مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ
مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ
وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ
إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ». ويرى شحرور أن الكتاب المنزل على محمد
يحتوي على آيات محكمات هي أمّ الكتاب تعبّر عن رسالته، وآيات متشابهات هي
القرآن الكريم، والسبع المثاني وهي تعبّر عن نبوّة محمد، وآيات لا محكمات
ولا متشابهات هي عبارة عن تفصيل للكتاب.
نفكر منطقيا في أسباب النزول. سبب الشيء هو مبرّر حدوثه. ويقول الطبري في
تفسيره إنّ السبب هو «كلّ ما تسبّب به الرجل إلى طَلَبَته وحاجته»، فالحبل
سبب لأنه يوصلك إلى الحاجة التي تريدها والطريق سبب لأنه يوصلك إلى المكان
الذي تطلبه. وأسباب النزول إذن هي أحداث بعينها تطلَّبت أن يتنزل بسببها
الوحي على النبيّ، ليغدو قرآنا. ومن هنا فإننا لا نتجاوز العدل إذا قلنا
إنه لو لم تقع تلك الحادثة لما كان ثمّة سبب (مبرر) لنزول الآية المرتبطة
بها. فلو أنّ أهل المدينة لم يسألوا النبيّ عن الخمر، لما نزلت الآية:
«ُقلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِة» ولو لم يقرأ عليّ
«ونحن نعبد ما تعبدون»، لما أنزل الله -تربما - « لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ
وَأَنْتُمْ سُكَارَىة» ولو أن حمزة شرب باعتدال كما يفعل الرجال
المتمدّنون لربما تأخّرت آية «?يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسرة
الآية.»
لا تريد هذه المقالة أن تناقش مسألة قدسية القرآن. فنحن نزعم أن نزول
القرآن بسبب لا يزيد ولا ينقص من قدسيته عند المؤمنين من المسلمين، ولكنه
يعطيه بعدا تاريخيا. وإذا اتفقنا على أنّ الكثير من الآيات ارتبط نزولها
بأسباب خاصة بمكان معين وزمان معين وشرط ثقافي معين، لما كان صعبا استبعاد
أن حكم الآية يمكن أن يتغير بتغير الظرفين الزماني والمكاني وتطوّر الشرط
الثقافي.
ولعل ما يؤيد هذا النحو هو أن الآيات التي نزلت بأسبابِ نزولٍ خاصة هي
كلها آيات أحكام وليست آيات عقدية، من مثل النبوة والتوحيد والعقاب
والثواب والعلاقة مع غير المسلمين من «مشركين» و»أهل كتاب.» وهذه الآيات
(الأحكام) لا تشكّل سوى 10 بالمائة من مجموع آيات القرآن، وهي جميعا نزلت
على مراحل، ممّا يؤكد صلتها بعلم أسباب النزول. ومن بين آيات الإحكام،
فإنّ أسباب النزول لعبت دورا أكبر في أحكام المعاملات، عنها في أحكام
العبادات. وقد رصد الباحث بسام الجمل 87 آية من آيات أحكام المعاملات عند
الواحدي، في مقابل 26 آية فقط من آيات أحكام العبادات. وهو أيضا ما يؤيد
فكرة نسبية هذه الأحكام ومحدوديتها بحدود الزمان والمكان والشرط الثقافي
الذي نزلت فيه(1).
ولا يقتصر الأمر بالطبع على الخمر، فإنّ آيات كثيرة يمكن إدراجها في هذا
البند، لعل أشهرها الآية 51 من سورة الأحزاب: « تُرْجِي مَنْ تَشَاء
مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْك مَنْ تَشَاء وَمَنْ اِبْتَغَيْت مِمَّنْ
عَزَلْت»، وقد تلت الآية 50: «وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ
نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا
خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَة الآية». وإنه ليتعذّر تفسير
الآيتين المذكورتين بدون أسباب النزول، بسبب خصوصيتهما المفرطة والمتعلقة
بالنبي. يحدِّث الإمام أَحمد عن عائشة أَنها «كَانت تَغِير من النساء
اللاتي وهبن أنفسهن لرسولِ اللَّه صلى اللَّه علَيه وسلم قَالَت ألا
تَستَحيِي الْمرأة أَن تَعرض نفسها بِغَير صداق؟ فأنزل اللَّه عزّ وجل
«تُرْجِي مَنْ تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْك مَنْ تَشَاء» (الآية).
يقول القرطبي في تفسيره للآية إن النبي كان مخيَّرا في أزواجه إن شاء قسم
(عدل بينهن) إن شاء ترك القسم (ميَّز بينهن). فخص النبي بأن جُعِل الأمر
إليه. وهذا كما يمكن للقارئ أن يرى أنّ ثمّة أمورا تخصّ فردا واحدا، ولا
يمكن أن تخصّ غيره ولا بالأحرى أن تعمّ. ولا يفوتنا أن نذكر هنا عبارة
عائشة الشهيرة التي شكّكت بنزاهة الوحي، حين قَالَت «إِني أَرى ربك يسارع
لَك فِي هواك»، وهو ما يفسره القرطبي على أنه «قول أبرزه الدلال والغيرة،
والغيرة يغتفر لأجلها إطلاق مثل ذلك».
وسنضيف إلى الحالات الخاصة حقيقة أن بعض الآيات نزلت تلبية لرغبة أفراد.
أخرج البخاري عن أنس قال: قال عمر(ابن الخطاب): وافقت ربّي في ثلاث. قلت:
يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى، فنزلت: «وَاتَّخِذُوا مِنْ
مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى» (البقرة: 125). وقلت يا رسول الله : إنّ
نساءك يدخل عليهن البرّ والفاجر، فلو أمرتهنّ أن يحتجبن، فنزلت آية
الحجاب، واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة، فقلت
لهنّ: «عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا
خَيْرًا مِنْكُنّ» (التحريم: 5)، فنزلت كذلك.
ومعروفة قصة عبد الله بن أبي سَرْح الذي كان يكتب الوحي للنبي، ثم ارتدّ
ولَحِق بالمشركين. وسبب ذلك فيما ذكر المفسّرون أنه لما نزلت الآية 14 من
سورة المؤمنون ونصها زوَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ
مِنْ طِينٍ» دعاه النبيّ فأملاها عليه، فلما انتهى إلى قوله «ثُمَّ
أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ» عجِب عبد الله في تفصيل خلق الإنسان
فقال:تتبارك الله أحسن الخالقين، فقال النبي: «هكذا أُنزلت عليّ»، فشكّ
عبد الله حينئذ وقال: لئن كان محمد صادقاً، لقد أُوحي إليّ كما أُوحي
إليه، ولئن كان كاذباً لقد قلتُ كما قال. فارتدّ عن الإسلام ولحِق
بالمشركين، فنزلت الآية 93 من سورة الأنعام: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ
افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ
إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ.»
والنقطة التي يمكن الوصول إليها من هذا البحث، هي أنّ أسباب النزول وهو
علم إسلامي معترف به من قبل الغالبية العظمى من الباحثين والمفكرين
الإسلاميين يقرّ بنسبية عدد كبير من الآيات وخاصة تلك التي تتعلق
بالأحكام،. هذا الإقرار يمكن أن يكون المدخل إلى فهم جديد للأحكام العامة،
سواء أكانت أحكاما اجتماعية (الزواج، الحجاب، إلخ،) أو جزائية مثل حدود
السرقة والزنا، إلخ. ولست في هذا البحث بمبتعد عما كان الباحث الإسلامي
الجليل محمد شحرور قاله في كتابه «الكتاب والقران قراءة معاصرة، عندما رفض
مبدأ الترادف في القرآن وميّز بين المفاهيم: فالقرآن ليس هو الفرقان
والرسول لا يعني النبي والإنزال ليس هو التنزيل والعباد ليسوا هم العبيد،
إلى ما هنالك. ويقوم جهد شحرور على التمييز بين أمّ الكتاب والمتشابهات
انطلاقا من الآية 7 من سورة آل عمران « هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ
الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ
مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ
مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ
وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ
إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ». ويرى شحرور أن الكتاب المنزل على محمد
يحتوي على آيات محكمات هي أمّ الكتاب تعبّر عن رسالته، وآيات متشابهات هي
القرآن الكريم، والسبع المثاني وهي تعبّر عن نبوّة محمد، وآيات لا محكمات
ولا متشابهات هي عبارة عن تفصيل للكتاب.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
هل «اخترع» المسلمون قصة سلمان الفارسي؟ (1)
قال الجاحظ:
«وسلمان رجل فارسي، وهذا كان شاهد كسرى، فتوهّم أن حكم الكتاب والسنّة
كحكم تدبير السر والقائمين بالملك، فإنما تكلم على عادته وتربيته (...)
وإن كان سلمان على ما قد وصفتم، وبالمكان الذي وصفتم، من الحكمة والبيان،
فما دعاه إلى أن يكلم العرب والأعراب بالفارسية، وهو عربيّ اللسان فصيح
الكلام، وهو يعلم أنه لم يكن بحضرة المدينة فرس ولا من يتكلم بالفارسية
ولا من يفهمها. وهو إنما أراد الاحتجاج عليهم والإعذار إليهم».
فقد جاء في الأخبار أن «سلمان الفارسي» قال عند بيعة السقيفة (كرْداذ ونكرْداذ) ويشرحها الجاحظ:
«وإن كانت هذه الكلمة حقا، كانت ترجمتها بالعربية صنعتم ولم تصنعوا»، ثم
يرفض الجاحظ هذه الرواية ويعطي عدداً من الأدلة التاريخية التالية:
- لو كان سلمان قد قال ذلك، لكان من أهل الطعن والمخالفة فكيف يكون مع هذا
والياً للنظام الذي عارضه. قال الجاحظ: «فكيف يحتمل لسلمان الطعن والخلاف
ثم لا يرضى له إلا بالولاية على بلاد كسرى، ففي هذا دليل على أن سلمان لم
يقل: كرداذ ونكرداذ».
- انعدام السند التاريخي الموثق لهذا الخبر وفي هذا يقول الجاحظ: «مع إنك
لو طفت في الآفاق تتطلب لكرداذ ونكرداذ إسنادا لما وجدته. ولكنّا قد روينا
أن سلمان قال: «أصبتم الحق وأخطأتم المعدن». ويعلل الجاحظ أن هذا القول قد
صدر عن سلمان تأثرا بنظام الحكم الذي كان موجودا في بلاده التي نشأ فيها
ولم يفهم الفرق بين البيئة العربية والبيئة الأجنبية.
يرى يوسف صديق أن أدلة الجاحظ لم تعمل إلا على إرجاع سلمان إلى بيئته، أي
أنها- بإثارة العامل الإثني في تفسير الخبر- أنكرت عليه حق إبداء رأي
سياسي في موضوع يهم المسلمين. ومع ذلك، فإن سلمان الفارسي يبدو، في كل
الأحوال، بدون وجه أو اسم، اللهم تلك الصفة التي التصقت به (أي الفارسي)،
ولا نعرف عنه إلا أنه كان رجلا فارسيا من أصبهان، أبوه كان دهقان قريته،
وأنه كان مجوسيا ثم نصرانيا قبل أن يعتنق الإسلام. وكل التراجم المرتبطة
بالمؤسسة الفقهية، بل حتى العسقلاني صاحب كتاب «الإصابة في تمييز الصحابة»
وشارح صحيح البخاري كان يصف سلمان بالمعمر، وأنه من معاصري المسيح! أما
البلاذري صاحب كتاب «أنساب الأشراف»، وهو من معاصري الجاحظ، فقد تمكن من
تقديم سلمان الفارسي بشكل أفضل. فقد نقل أنه (سلمان) غادر أصبهان في وقت
مبكر هربا من والده الذي عارض إعجابه بالمسيحية لأن قومه كانوا يعتنقون
الديانة المجوسية. والتحق بالكنيسة وخدم الرهبان، وتنقل في فضاء كان تطغى
عليه الحضارة اليونانية (الهيلينية)، إلى أن التحق بالمدينة بناء على وصية
أحد الرهبان الذي قال له إن نبيا جديدا سيبعث في أرض الحجاز.
ورغم أن يوسف صديق يصر على أن الممحاة رافقت الدور الذي لعبه سلمان
الفارسي في تطوير المشروع الأخلاقي والثقافي والسياسي الجديد (الإسلام)،
وبأنه بدون وجه أو اسم، فإن روايات أخرى، التي حاولت تجميع الأجزاء وتركيب
الصورة (وتحديدا الرواية الشيعية)، تؤكد أن اسمه الحقيقي هو «روزبة»، وأنه
عاش حياة قلقة، إذ لم يجد في معتقدات قومه ما يلبي طموحه، فبدأ رحلة البحث
عن الحقيقة، ولذلك آثر الطواف في أصقاع العالم، تاركاً نصيبه من الجاه
والمكانة الخاصة التي كان ينعم بها ويخصه بها والده «خشفوذان»، الذي كان
يؤثره على بقية أخوته، ولا يكلّفه بأيِّ عمل في مزارعه التي كان يملكها،
شأنه في ذلك شأن بقية المترفين. وقد بدأت رحلة البحث عن الحقيقة هذه عندما
طلب منه والده أن يقوم بالإشراف عن كثب على سير عمل الفلاحين في مزرعة له،
وطلب منه أن لا يتأخر في العودة إليه، كي لا يشغل باله، فمرَّ بكنيسة
للنصارى وهم يصلّون، فأعجبه أمرهم، ورأى أن دينهم أفضل مما يعتقد، وبقي
عندهم حتى غابت الشمس، يسألهم ويستفسر منهم عن ماهية هذا الدين. ولما عاد
سلمان، لم يجد سبيلاً لكتمان ما رأى وسمع، فأخبر والده أنّ دين النصارى
أفضل مما يدين، ولكن والده حاول إقناعه بأحقية ما يدين به وقومه، ولما فشل
في إقناعه وضع القيود في رجليه. وظل سلمان رهين قيده وبيته مدةً من الزمن،
إلى أن علم بتحرك قافلة نحو الشام فألقى الحديد من رجليه، وخرج. ولما وصل
إلى الشام قصد أحد الرهبان، ودخل في خدمته ليتعلم منه الدين المسيحي.
وتنقل بين رهبان أنطاكية والإسكندرية، إلى أن أخبره أحد الرهبان أن الزمن
الذي سيبعث به النبي محمد قد دنا، فخرج يقصد أرض الحجاز، وسار مع ركب
يخدمهم في رحلتهم تلك، لكنه كان لا يشاركهم الطعام، مما عرضه لحقدهم،
لأنهم كانوا وثنيين أو يهودا. فما كان منهم إلا أن أوسعوه ضربا وباعوه
بثلاثمائة درهم إلى رجل يهودي، لم يتردد في تعذيبه، بعد أن علم بأمره. ولم
يمض وقت قصير حتى باعه لامرأة سَلمية، فأحبّته تلك المرأة وأعطته حائطاً
(بستاناً)، حيث مكث معها فترة طويلة يدير لها شؤون بستانها، يسقي الزرع
ويؤبر النخل. وفي تلك الفترة، كان النبي قد ظهر في مكة وخرج يدعو الناس
إلى الإسلام، وسلمان لا يعلم بذلك. ولم يتحقق موعد اللقاء إلا عندما هاجر
النبي إلى المدينة، فسنحت له الفرصة عندما أقبل عليه سبعة رهط، وهو يعمل
كعادته في بستان امرأته، وهم النبي محمد، وعلي بن أبي طالب، والحمزة بن
عبد المطلب، وعقيل بن أبي طالب، وزيد بن حارثة والمقداد وأبو ذر الغفاري..
«وسلمان رجل فارسي، وهذا كان شاهد كسرى، فتوهّم أن حكم الكتاب والسنّة
كحكم تدبير السر والقائمين بالملك، فإنما تكلم على عادته وتربيته (...)
وإن كان سلمان على ما قد وصفتم، وبالمكان الذي وصفتم، من الحكمة والبيان،
فما دعاه إلى أن يكلم العرب والأعراب بالفارسية، وهو عربيّ اللسان فصيح
الكلام، وهو يعلم أنه لم يكن بحضرة المدينة فرس ولا من يتكلم بالفارسية
ولا من يفهمها. وهو إنما أراد الاحتجاج عليهم والإعذار إليهم».
فقد جاء في الأخبار أن «سلمان الفارسي» قال عند بيعة السقيفة (كرْداذ ونكرْداذ) ويشرحها الجاحظ:
«وإن كانت هذه الكلمة حقا، كانت ترجمتها بالعربية صنعتم ولم تصنعوا»، ثم
يرفض الجاحظ هذه الرواية ويعطي عدداً من الأدلة التاريخية التالية:
- لو كان سلمان قد قال ذلك، لكان من أهل الطعن والمخالفة فكيف يكون مع هذا
والياً للنظام الذي عارضه. قال الجاحظ: «فكيف يحتمل لسلمان الطعن والخلاف
ثم لا يرضى له إلا بالولاية على بلاد كسرى، ففي هذا دليل على أن سلمان لم
يقل: كرداذ ونكرداذ».
- انعدام السند التاريخي الموثق لهذا الخبر وفي هذا يقول الجاحظ: «مع إنك
لو طفت في الآفاق تتطلب لكرداذ ونكرداذ إسنادا لما وجدته. ولكنّا قد روينا
أن سلمان قال: «أصبتم الحق وأخطأتم المعدن». ويعلل الجاحظ أن هذا القول قد
صدر عن سلمان تأثرا بنظام الحكم الذي كان موجودا في بلاده التي نشأ فيها
ولم يفهم الفرق بين البيئة العربية والبيئة الأجنبية.
يرى يوسف صديق أن أدلة الجاحظ لم تعمل إلا على إرجاع سلمان إلى بيئته، أي
أنها- بإثارة العامل الإثني في تفسير الخبر- أنكرت عليه حق إبداء رأي
سياسي في موضوع يهم المسلمين. ومع ذلك، فإن سلمان الفارسي يبدو، في كل
الأحوال، بدون وجه أو اسم، اللهم تلك الصفة التي التصقت به (أي الفارسي)،
ولا نعرف عنه إلا أنه كان رجلا فارسيا من أصبهان، أبوه كان دهقان قريته،
وأنه كان مجوسيا ثم نصرانيا قبل أن يعتنق الإسلام. وكل التراجم المرتبطة
بالمؤسسة الفقهية، بل حتى العسقلاني صاحب كتاب «الإصابة في تمييز الصحابة»
وشارح صحيح البخاري كان يصف سلمان بالمعمر، وأنه من معاصري المسيح! أما
البلاذري صاحب كتاب «أنساب الأشراف»، وهو من معاصري الجاحظ، فقد تمكن من
تقديم سلمان الفارسي بشكل أفضل. فقد نقل أنه (سلمان) غادر أصبهان في وقت
مبكر هربا من والده الذي عارض إعجابه بالمسيحية لأن قومه كانوا يعتنقون
الديانة المجوسية. والتحق بالكنيسة وخدم الرهبان، وتنقل في فضاء كان تطغى
عليه الحضارة اليونانية (الهيلينية)، إلى أن التحق بالمدينة بناء على وصية
أحد الرهبان الذي قال له إن نبيا جديدا سيبعث في أرض الحجاز.
ورغم أن يوسف صديق يصر على أن الممحاة رافقت الدور الذي لعبه سلمان
الفارسي في تطوير المشروع الأخلاقي والثقافي والسياسي الجديد (الإسلام)،
وبأنه بدون وجه أو اسم، فإن روايات أخرى، التي حاولت تجميع الأجزاء وتركيب
الصورة (وتحديدا الرواية الشيعية)، تؤكد أن اسمه الحقيقي هو «روزبة»، وأنه
عاش حياة قلقة، إذ لم يجد في معتقدات قومه ما يلبي طموحه، فبدأ رحلة البحث
عن الحقيقة، ولذلك آثر الطواف في أصقاع العالم، تاركاً نصيبه من الجاه
والمكانة الخاصة التي كان ينعم بها ويخصه بها والده «خشفوذان»، الذي كان
يؤثره على بقية أخوته، ولا يكلّفه بأيِّ عمل في مزارعه التي كان يملكها،
شأنه في ذلك شأن بقية المترفين. وقد بدأت رحلة البحث عن الحقيقة هذه عندما
طلب منه والده أن يقوم بالإشراف عن كثب على سير عمل الفلاحين في مزرعة له،
وطلب منه أن لا يتأخر في العودة إليه، كي لا يشغل باله، فمرَّ بكنيسة
للنصارى وهم يصلّون، فأعجبه أمرهم، ورأى أن دينهم أفضل مما يعتقد، وبقي
عندهم حتى غابت الشمس، يسألهم ويستفسر منهم عن ماهية هذا الدين. ولما عاد
سلمان، لم يجد سبيلاً لكتمان ما رأى وسمع، فأخبر والده أنّ دين النصارى
أفضل مما يدين، ولكن والده حاول إقناعه بأحقية ما يدين به وقومه، ولما فشل
في إقناعه وضع القيود في رجليه. وظل سلمان رهين قيده وبيته مدةً من الزمن،
إلى أن علم بتحرك قافلة نحو الشام فألقى الحديد من رجليه، وخرج. ولما وصل
إلى الشام قصد أحد الرهبان، ودخل في خدمته ليتعلم منه الدين المسيحي.
وتنقل بين رهبان أنطاكية والإسكندرية، إلى أن أخبره أحد الرهبان أن الزمن
الذي سيبعث به النبي محمد قد دنا، فخرج يقصد أرض الحجاز، وسار مع ركب
يخدمهم في رحلتهم تلك، لكنه كان لا يشاركهم الطعام، مما عرضه لحقدهم،
لأنهم كانوا وثنيين أو يهودا. فما كان منهم إلا أن أوسعوه ضربا وباعوه
بثلاثمائة درهم إلى رجل يهودي، لم يتردد في تعذيبه، بعد أن علم بأمره. ولم
يمض وقت قصير حتى باعه لامرأة سَلمية، فأحبّته تلك المرأة وأعطته حائطاً
(بستاناً)، حيث مكث معها فترة طويلة يدير لها شؤون بستانها، يسقي الزرع
ويؤبر النخل. وفي تلك الفترة، كان النبي قد ظهر في مكة وخرج يدعو الناس
إلى الإسلام، وسلمان لا يعلم بذلك. ولم يتحقق موعد اللقاء إلا عندما هاجر
النبي إلى المدينة، فسنحت له الفرصة عندما أقبل عليه سبعة رهط، وهو يعمل
كعادته في بستان امرأته، وهم النبي محمد، وعلي بن أبي طالب، والحمزة بن
عبد المطلب، وعقيل بن أبي طالب، وزيد بن حارثة والمقداد وأبو ذر الغفاري..
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
هل «اخترع» المسلمون قصة سلمان الفارسي؟ (2)
ومع ذلك، من هو
سلمان؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه يوسف صديق لأنه يعتبر أن لا شيء، في تلك
الكتابات، يؤكد أن سلمان قد وجد بالفعل، وأنه ينتمي إلى تاريخ الأنصار
الذين أحاطوا بالنبي. فالصحابة الآخرون كان لهم حضور وحيوية بغض النظر عن
كتابات الفقهاء التي كانت تبالغ في رسم ملامحهم وأفعالهم وسيرهم. أما
سلمان فلا نحتفظ له إلا بصورة باهتة، وتحديدا المشورة التي كان يسديها
للمسلمين في حروبهم ضد الشرك، ولا سيّما في غزوة «الخندق»، وذلك عندما
استشار النبي المسلمين في وضع خطة تمنع دخول الأحزاب (حلف قبلي) إلى
المدينة، فأشار سلمان بحفر الخندق، قائلا «كنا بفارس إذا حوصرنا حفرنا
خندقاً يحول بيننا وبين عدوّنا...»، فاستحسن النبي وأصحابه هذا الرأي،
وأمر بحفره، وعندما بدأ المهاجرون والأنصار يبدون تقربهم من سلمان ويدّعي
كل طرف بأنه منهم، حسم الرسول الموقف بقوله: «سلمان منّا أهل البيت».
ولإخراج صورة سلمان الفارسي من التشويش والضبابية، لا مناص إذن- يقول يوسف
صديق- من البحث عن مصادر أخرى، غير عربية، مادام أن الكتابات الإسلامية
نفسها تشير، عندما تتحدث عنه، إلى مجالات جغرافية واسعة تمتد من بلاد
الفرس إلى بيزنطة. فيكفي إذن أن نقارن بين ما قيل عن سلمان وما كتب عنه
(عربيا وإسلاميا) بالكتابات المسيحية التي كانت سائدة في العصر نفسه
لنهتدي إلى صورة مماثلة للصورة التي نقلها المسلمون عن هذا الصحابي: إنها
صورة أناستاسيوس الفارسي. ففي ذلك العصر، كان الصراع الديني بين بيزنطة
والإمبراطورية الفارسية يقود إلى إبدالات فردية كما يرسم العلاقات
الثنائية بين الإمبراطوريتين.
ويوضح الأنتروبولوجي التونسي أن والد أناستاسيوس الفارسي، مثله مثل والد
سلمان، كان كاهنا، وأنه خرج لمحاربة البيزنطيين، لكنه فر من الجيش واعتنق
المسيحية، وقاده طريقه، مثلما قاد سلمان، من بلاده الأصلي إلى عمورية
بهضبة الأناضول، ثم وشى بنفسه لقومه ليستشهد.
ويرى يوسف صديق أن المقلق في النتيجة التي توصل إليها أثناء البحث في
الأرشيف البيزنطي، ليس هو التشابه بين مصيري رجلين متباعدين، بل أيضا ذلك
التفصيل اللغوي. فأنستاسيوس باليونانية له المعني نفسه الذي تحمله لفظة
سلمان بالعربية. فهما معا يعنيان: «الذي خرج سالما من السقوط».
لقد تولى سلمان الفارسي في عهد الخليفة الثاني، عمر بن الخطاب، الإمارة
الساسانية (أي إمارة المدائن) واستمر أميرا عليها عقدا من الزمن إلى أن
استخلف عثمان بن عفان الذي أفشل- كما يقول يوسف صديق- مشروع «الديمقراطية
المواطنة» أو «الشورى». ذلك أن عثمان تولى الخلافة في أجواء قبلية، تثبّت
مبدأ أصبح سائدا فيما بعد (والدين انطلق مع الأمويين)، وهو أن الخلافة
لقريش وليست لعائلة النبي أو لمواصفات شخصية معينة تتوفر في إنسان ما بغض
النظر عن انتمائه القبلي أو أسبقيته في الدين أوتبعيته القومية (سلمان
الفارسي) أو لون بشرته. علما أن عليا الذي لم يكن وعائلته راضيا عن طريقة
الإستخلاف تلك، وعند إستخلافه بعد مقتل عثمان بن عفان، قد كتب الى معاوية
بن أبي سفيان ....» و«إنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على
رجل وسموه إماما كان ذلك رضا لله. فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة
ردوه إلى ما خرجت منه» «(نهج البلاغة).
ويحمل لنا المؤرخون تلك الصورة التي تجمع عثمان وأبو سفيان، الذي كان خصما
عنيدا للرسول محمد قبل اعتناقه الإسلام، وجها لوجه. حيث قال أبو سفيان-
وهو آنذاك أعمى- لابن عشيرته عثمان، بعد انعقاد البيعة له: «يا بني أمية
تلقفوها تلقف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم، ولتصيرن
إلى صبيانكم وراثة».
والملاحظ حتى، ولو لم يشر يوسف صديق إلى ذلك، أن أبا سفيان لم يحلف بوضوح
بما يحلف به المسلمون، مما جعل بعض المفسرين والمؤرخين يومئون إلى أنه كان
يقصد «اللات والعزى»، وهي الآلهة التي كان يعبدها ردحا من الزمن قبل
اضطراره إلى إعلان اسلامه بعد فتح مكة.
والملاحظ أيضا أن أبا سفيان، من خلال الصورة التي جمعته بعثمان- أعاد
عقارب الساعة إلى نقطة الصفر، أي إلى ذلك الصراع الذي كان دائرا بين عبد
الدار وعبد مناف بعد وفاة قصي بن كلاب (مؤسس دولة قريش في مكة) الذي أوصى
بتركته لولده البكر عبد الدار، دون أخيه عبد مناف، مما أشعل الحقد في قلب
عبد مناف على ملك عبد الدار وما حظي به من تشريف؛ فكان أن توارث الأبناء
أحقاد الأباء، واصطرعوا في ما بينهم، ويشرح ابن كثير في قوله: «ثم لما كبر
قصي؛ فوض أمر هذه الوظائف التي كانت إليه من رئاسات قريش وشرفها؛ من
الرفادة والسقاية والحجابة واللواء والندوة إلى ابنه عبد الدار وكان أكبر
ولده.. فلما انقرضوا تشاجر أبناؤهم في ذلك وقالوا: إنما خصص عبد الدار
ليلحقه باخوته؛ فنحن نستحق ما كان آباؤنا يستحقونه، وقال بنو عبد الدار
هذا أمر جعله لنا قصي فنحن أحق به، واختلفوا اختلافاً كبيراً، وانقسمت
بطون قريش فرقتين؛ فرقة بايعت بني عبد الدار وحالفتهم، وفرقة بايعت بني
عبد مناف وحالفوهم على ذلك». ولعل هذا ما يفسر الخطاب الذي وجهه أبو سفيان
إلى عثمان الذي لم يخيب ظنه، حيث عزل جميع الولاة الذين عينهم سلفه عمر
باستثناء ابن عمه معاوية، واستبدلهم بأقاربه من بني أمية. وهو الأمر الذي
عبد الطريق أمام الأمويين، بقيادة معاوية بن أبي سفيان لانقضاض على الأمر
كله. وهو ما يشكل انتصارا- حسب مجموعة من الروايات والقراءات- على بني
هاشم الذي ظهر فيهم الرسول، أي أن هناك انبعاثا لمنطق العصبية الذي كان
سائدا في الجاهلية.
سلمان؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه يوسف صديق لأنه يعتبر أن لا شيء، في تلك
الكتابات، يؤكد أن سلمان قد وجد بالفعل، وأنه ينتمي إلى تاريخ الأنصار
الذين أحاطوا بالنبي. فالصحابة الآخرون كان لهم حضور وحيوية بغض النظر عن
كتابات الفقهاء التي كانت تبالغ في رسم ملامحهم وأفعالهم وسيرهم. أما
سلمان فلا نحتفظ له إلا بصورة باهتة، وتحديدا المشورة التي كان يسديها
للمسلمين في حروبهم ضد الشرك، ولا سيّما في غزوة «الخندق»، وذلك عندما
استشار النبي المسلمين في وضع خطة تمنع دخول الأحزاب (حلف قبلي) إلى
المدينة، فأشار سلمان بحفر الخندق، قائلا «كنا بفارس إذا حوصرنا حفرنا
خندقاً يحول بيننا وبين عدوّنا...»، فاستحسن النبي وأصحابه هذا الرأي،
وأمر بحفره، وعندما بدأ المهاجرون والأنصار يبدون تقربهم من سلمان ويدّعي
كل طرف بأنه منهم، حسم الرسول الموقف بقوله: «سلمان منّا أهل البيت».
ولإخراج صورة سلمان الفارسي من التشويش والضبابية، لا مناص إذن- يقول يوسف
صديق- من البحث عن مصادر أخرى، غير عربية، مادام أن الكتابات الإسلامية
نفسها تشير، عندما تتحدث عنه، إلى مجالات جغرافية واسعة تمتد من بلاد
الفرس إلى بيزنطة. فيكفي إذن أن نقارن بين ما قيل عن سلمان وما كتب عنه
(عربيا وإسلاميا) بالكتابات المسيحية التي كانت سائدة في العصر نفسه
لنهتدي إلى صورة مماثلة للصورة التي نقلها المسلمون عن هذا الصحابي: إنها
صورة أناستاسيوس الفارسي. ففي ذلك العصر، كان الصراع الديني بين بيزنطة
والإمبراطورية الفارسية يقود إلى إبدالات فردية كما يرسم العلاقات
الثنائية بين الإمبراطوريتين.
ويوضح الأنتروبولوجي التونسي أن والد أناستاسيوس الفارسي، مثله مثل والد
سلمان، كان كاهنا، وأنه خرج لمحاربة البيزنطيين، لكنه فر من الجيش واعتنق
المسيحية، وقاده طريقه، مثلما قاد سلمان، من بلاده الأصلي إلى عمورية
بهضبة الأناضول، ثم وشى بنفسه لقومه ليستشهد.
ويرى يوسف صديق أن المقلق في النتيجة التي توصل إليها أثناء البحث في
الأرشيف البيزنطي، ليس هو التشابه بين مصيري رجلين متباعدين، بل أيضا ذلك
التفصيل اللغوي. فأنستاسيوس باليونانية له المعني نفسه الذي تحمله لفظة
سلمان بالعربية. فهما معا يعنيان: «الذي خرج سالما من السقوط».
لقد تولى سلمان الفارسي في عهد الخليفة الثاني، عمر بن الخطاب، الإمارة
الساسانية (أي إمارة المدائن) واستمر أميرا عليها عقدا من الزمن إلى أن
استخلف عثمان بن عفان الذي أفشل- كما يقول يوسف صديق- مشروع «الديمقراطية
المواطنة» أو «الشورى». ذلك أن عثمان تولى الخلافة في أجواء قبلية، تثبّت
مبدأ أصبح سائدا فيما بعد (والدين انطلق مع الأمويين)، وهو أن الخلافة
لقريش وليست لعائلة النبي أو لمواصفات شخصية معينة تتوفر في إنسان ما بغض
النظر عن انتمائه القبلي أو أسبقيته في الدين أوتبعيته القومية (سلمان
الفارسي) أو لون بشرته. علما أن عليا الذي لم يكن وعائلته راضيا عن طريقة
الإستخلاف تلك، وعند إستخلافه بعد مقتل عثمان بن عفان، قد كتب الى معاوية
بن أبي سفيان ....» و«إنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على
رجل وسموه إماما كان ذلك رضا لله. فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة
ردوه إلى ما خرجت منه» «(نهج البلاغة).
ويحمل لنا المؤرخون تلك الصورة التي تجمع عثمان وأبو سفيان، الذي كان خصما
عنيدا للرسول محمد قبل اعتناقه الإسلام، وجها لوجه. حيث قال أبو سفيان-
وهو آنذاك أعمى- لابن عشيرته عثمان، بعد انعقاد البيعة له: «يا بني أمية
تلقفوها تلقف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم، ولتصيرن
إلى صبيانكم وراثة».
والملاحظ حتى، ولو لم يشر يوسف صديق إلى ذلك، أن أبا سفيان لم يحلف بوضوح
بما يحلف به المسلمون، مما جعل بعض المفسرين والمؤرخين يومئون إلى أنه كان
يقصد «اللات والعزى»، وهي الآلهة التي كان يعبدها ردحا من الزمن قبل
اضطراره إلى إعلان اسلامه بعد فتح مكة.
والملاحظ أيضا أن أبا سفيان، من خلال الصورة التي جمعته بعثمان- أعاد
عقارب الساعة إلى نقطة الصفر، أي إلى ذلك الصراع الذي كان دائرا بين عبد
الدار وعبد مناف بعد وفاة قصي بن كلاب (مؤسس دولة قريش في مكة) الذي أوصى
بتركته لولده البكر عبد الدار، دون أخيه عبد مناف، مما أشعل الحقد في قلب
عبد مناف على ملك عبد الدار وما حظي به من تشريف؛ فكان أن توارث الأبناء
أحقاد الأباء، واصطرعوا في ما بينهم، ويشرح ابن كثير في قوله: «ثم لما كبر
قصي؛ فوض أمر هذه الوظائف التي كانت إليه من رئاسات قريش وشرفها؛ من
الرفادة والسقاية والحجابة واللواء والندوة إلى ابنه عبد الدار وكان أكبر
ولده.. فلما انقرضوا تشاجر أبناؤهم في ذلك وقالوا: إنما خصص عبد الدار
ليلحقه باخوته؛ فنحن نستحق ما كان آباؤنا يستحقونه، وقال بنو عبد الدار
هذا أمر جعله لنا قصي فنحن أحق به، واختلفوا اختلافاً كبيراً، وانقسمت
بطون قريش فرقتين؛ فرقة بايعت بني عبد الدار وحالفتهم، وفرقة بايعت بني
عبد مناف وحالفوهم على ذلك». ولعل هذا ما يفسر الخطاب الذي وجهه أبو سفيان
إلى عثمان الذي لم يخيب ظنه، حيث عزل جميع الولاة الذين عينهم سلفه عمر
باستثناء ابن عمه معاوية، واستبدلهم بأقاربه من بني أمية. وهو الأمر الذي
عبد الطريق أمام الأمويين، بقيادة معاوية بن أبي سفيان لانقضاض على الأمر
كله. وهو ما يشكل انتصارا- حسب مجموعة من الروايات والقراءات- على بني
هاشم الذي ظهر فيهم الرسول، أي أن هناك انبعاثا لمنطق العصبية الذي كان
سائدا في الجاهلية.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
جورج طرابيشي: نبي بلا معجزة (1 )
هل أوتي رسول
الإسلام القدرة على اجتراح معجزات خارقة مثل باقي الرسل من قبله؟ هذا هو
السؤال الذي طرحه جورج طرابيشي ليفضي به إلى سؤال أعمق: إذا كانت المعجزة
رفيقة درب كل نبي، فلماذا قضت المشيئة الإلهية أن ينفرد الرسول دون سائر
الرسل والأنبياء بأن يكون نبياً بلا معجزة؟ ويكتسب هذا السؤال أهمية خاصة
إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن غياب المعجزة قد ترجم عن نفسه ليس فقط في
تشكيك المشككين في بعثة الرسول، بل أيضاً ـ وربما كان هذا أخطر ـ في الشك
الذي كان ينتاب الرسول نفسه أحياناً.
ينطلق طرابيشي من المحاورات التي كانت بين الرسول وبين المشركين الذين
كانوا يطالبونه بمعجزة، وخاصة هؤلاء الذين كانوا على اطلاع بقصص الأنبياء
والرسل. فيقول:
«الآيات، بمعنى المعجزات، هي عنوان لمحاورة مركزية في الخطاب القرآني، وإن
كانت منبثّة انبثاثاً في عشرات من سور النص القرآني. الطرفان الرئيسيان في
هذه المحاورة اثنان لا ثالث لهما: اللّه من جهة أولى، والمشكّكون أو
المتشكِّكون في رسالة رسوله من المشركين ومن أهل الكتاب، سواء في مكة أ و
في المدينة، من جهة ثانية. أمّا الرسول نفسه فهو موضوع وليس ذاتاً لهذه
المحاورة: فهو مجرّد وسيط أو ترجمان، وفي الغالب مأمور من مرسله بفعل
القول: «قل».
أمّا موضوع المحاورة فواحد لا يتبدّل، وإن تنوّعت أشكال إخراجه. فالمشركون
والكتابيون يطالبون الرسول بإتيانهم بآية تثبت مصداقية رسالته، والرسول
يُحيل طلبهم إلى اللّه لأن الآيات هي من اختصاصه وحده، واللّه يردّ هذا
الطلب مثنى وثلاثَ ورباعَ ، وبحجج متماثلة تتكرر هي أيضاً مثنى وثلاثَ
ورباعَ.
نموذج هذه المحاورة تقدّمه لنا الآية السابعة والثلاثون من سورة الأنعام:
وقالوا لولا نُزِّل عليه آية من ربه، قل إن اللّه قادر على أن ينزِّل آية،
ولكن أكثرهم لا يعلمون.وكذلك الآية العشرون من سورة يونس: ويقولون لولا
أُنزل عليه آية من ربّه، فقل إنما الغيب للّه، فانتظروا إني معكم من
المنتظرين.والآية التاسعة والأربعون من سورة العنكبوت: وقالوا لولا أُنزل
عليه آيات من ربّه، قل إنما الآيات عند اللّه، وإنما أنا نذير مبين.وفي
بعض الآيات يختفي فعل الأمر: «قل» لفظاً، ولكنه يبقى مضمراً بالمعنى، كما
في الآية السابعة من سورة الرّعد: ويقول الذين كفروا لولا أُنزل عليه آية
من ربّه، إنما أنت منذر، ولكل قوم هادٍ.
وفي بعض الآيات يتحوّل الرسول نفسه إلى طالب آية، وهذا ليس فقط رغبة منه
في تسهيل مهمته في إقناع اللامقتنعين برسالته، بل أيضاً- وهذا أبلغ دلالة
ـ تعبيراً عن شكوكه هو نفسه إزاء صمت اللّه، وإزاء النّصاب الذي خصّه به
دون سائر الأنبياء: نبيّ بلا معجزة . وهكذا فإنّ الآية الخامسة والثلاثين
من سورة الأنعام تستكبر على الرسول أن يكون قد كبُر عليه إعراضُ المعرضين
عنه وأن يكون منّى نفسه بأن يأتي من عنده بمعجزة تسدّ مسدّ المعجزة التي
يضنّ بها اللّه عليه: وإن كان كبُر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي
نفقاً في الأرض أو سلّماً في السماء فتأتيهم بآية، ولو شاء اللّه لجمعهم
على الهدى، فلا تكوننّ من الجاهلين. كما أنّ الآية الثانية عشرة من سورة
هود تحذره من أن يضيق صدره ويترك بعض ما ينزل إليه ما دام غير معضود بآية:
فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز
أو جاء معه ملك، إنما أنت نذير، واللّه على كل شيء وكيل. أما الآيتان
الرابعة والتسعون والخامسة والتسعون من سورة يونس فتذهبان إلى أبعد من ذلك
إذ تتوعّدان الرسول نفسه بأن يكون من الخاسرين إذا امترى وانتابته الشكوك
في ما أنزل إليه لمجرّد أن ما أنزل إليه ليس مسنوداً بمعجزة على خلاف واقع
الحال مع من خلا قبله من الرسل والأنبياء: فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك
فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكوننّ من
الممترين ولا تكوننّ من الذين كذّبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين.
والواقع أنه خلافاً للصورة المتداولة في أدبيات السيرة اللاحقة عن عنت
مشركي مكة في قبول الدعوة، فإن ّالصورة التي تقدّمها عنهم السور القرآنية
المعنية ليست صورة رافضين للدعوة أو مقاومين عتاة لها بقدر ما هي صورة
طالبين للمعجزة ، أو بالأحرى لبرهان المعجزة، كيما يؤمنوا. وهكذا تترى
الآيات: وقال الذين لا يعلمون لولا يكلّمنا اللّه أو تأتينا آية
(البقرة.118)، وأقسموا باللّه جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمننّ بها
(الأنعام.109)، قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل اللّه
(الأنعام.124)، وقالوا لولا يأتينا بآية من ربّه (طه.133)، فليأتنا بآية
كما أُرسل الأولون (الأنبياء.5)، وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربّه
(العنكبوت.50).
وإذا كانت عديدة هي الآيات التي يُطالب فيها الرسول بمعجزة، بأيّ معجزة
كانت دونما تحديد لطبيعتها، فمعدودة هي الآيات التي يُطالب فيها بمعجزة
محدودة، كالآية التي تقدم ذكرها من سورة هود: لولا أنزل عليه كنز، أو
كالآية الثامنة من سورة الفرقان: لولا… يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل
منها. ولئن يكن مطلب معجزة الكنز أو جنة الطعام يعكس عقلية مشركي المجتمع
المكي من حيث هو مجتمع تجارة ومجتمع قلّة في آن معاً، فإنّ المعجزة التي
يطالب بها الكتابيّون من اليهود والنصارى هي من طبيعة لاهوتية بالأحرى.
ومن هذا القبيل مطلبهم، كبرهان على صدق رسالة الرسول، بأن ينزل عليه
القرآن دفعة واحدة ـ لا مُنجَّماً ـ كما نزلت التوراة على موسى في جبل
سيناء، أو أن ينزل في قرطاس كقرطاس الأناجيل. وحتى عندما كان الكتابيون
يطالبون بمعجزة »مادية«، فقد كانوا يطالبون بها على منوال معجزات موسى
وعيسى من تفجير النبع من الصخر أو الارتقاء في السماء، على نحو ما توضحه
الآيات 90 ـ 93 من سورة الإسراء: وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجّر لنا من
الأرض ينبوعاً أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجّر الأنهار خلالها تفجيراً
أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً أو
يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيّك حتى تنزل علينا
كتاباً نقرؤه، قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً. وإزاء جميع هذه
المطالب كان ردّ الرسول دائماً واحداً لا يتغيّر: إنّ المعجزات ليست بيده
بل بيد اللّه، وإنْ هو إلا بشر مثلهم لم يؤتَ أكثر مما أوتوه، ولا يميزه
في بشريته عنهم شيء سوى أنه يوحى إليه:
- قل إنما الآيات عند اللّه (الأنعام.109).
- قل إنما الآيات عند اللّه وإنما أنا نذير مبين (العنكبوت.50).
- وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن اللّه (الرعد.38).
- قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ (الكهف.110).
الإسلام القدرة على اجتراح معجزات خارقة مثل باقي الرسل من قبله؟ هذا هو
السؤال الذي طرحه جورج طرابيشي ليفضي به إلى سؤال أعمق: إذا كانت المعجزة
رفيقة درب كل نبي، فلماذا قضت المشيئة الإلهية أن ينفرد الرسول دون سائر
الرسل والأنبياء بأن يكون نبياً بلا معجزة؟ ويكتسب هذا السؤال أهمية خاصة
إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن غياب المعجزة قد ترجم عن نفسه ليس فقط في
تشكيك المشككين في بعثة الرسول، بل أيضاً ـ وربما كان هذا أخطر ـ في الشك
الذي كان ينتاب الرسول نفسه أحياناً.
ينطلق طرابيشي من المحاورات التي كانت بين الرسول وبين المشركين الذين
كانوا يطالبونه بمعجزة، وخاصة هؤلاء الذين كانوا على اطلاع بقصص الأنبياء
والرسل. فيقول:
«الآيات، بمعنى المعجزات، هي عنوان لمحاورة مركزية في الخطاب القرآني، وإن
كانت منبثّة انبثاثاً في عشرات من سور النص القرآني. الطرفان الرئيسيان في
هذه المحاورة اثنان لا ثالث لهما: اللّه من جهة أولى، والمشكّكون أو
المتشكِّكون في رسالة رسوله من المشركين ومن أهل الكتاب، سواء في مكة أ و
في المدينة، من جهة ثانية. أمّا الرسول نفسه فهو موضوع وليس ذاتاً لهذه
المحاورة: فهو مجرّد وسيط أو ترجمان، وفي الغالب مأمور من مرسله بفعل
القول: «قل».
أمّا موضوع المحاورة فواحد لا يتبدّل، وإن تنوّعت أشكال إخراجه. فالمشركون
والكتابيون يطالبون الرسول بإتيانهم بآية تثبت مصداقية رسالته، والرسول
يُحيل طلبهم إلى اللّه لأن الآيات هي من اختصاصه وحده، واللّه يردّ هذا
الطلب مثنى وثلاثَ ورباعَ ، وبحجج متماثلة تتكرر هي أيضاً مثنى وثلاثَ
ورباعَ.
نموذج هذه المحاورة تقدّمه لنا الآية السابعة والثلاثون من سورة الأنعام:
وقالوا لولا نُزِّل عليه آية من ربه، قل إن اللّه قادر على أن ينزِّل آية،
ولكن أكثرهم لا يعلمون.وكذلك الآية العشرون من سورة يونس: ويقولون لولا
أُنزل عليه آية من ربّه، فقل إنما الغيب للّه، فانتظروا إني معكم من
المنتظرين.والآية التاسعة والأربعون من سورة العنكبوت: وقالوا لولا أُنزل
عليه آيات من ربّه، قل إنما الآيات عند اللّه، وإنما أنا نذير مبين.وفي
بعض الآيات يختفي فعل الأمر: «قل» لفظاً، ولكنه يبقى مضمراً بالمعنى، كما
في الآية السابعة من سورة الرّعد: ويقول الذين كفروا لولا أُنزل عليه آية
من ربّه، إنما أنت منذر، ولكل قوم هادٍ.
وفي بعض الآيات يتحوّل الرسول نفسه إلى طالب آية، وهذا ليس فقط رغبة منه
في تسهيل مهمته في إقناع اللامقتنعين برسالته، بل أيضاً- وهذا أبلغ دلالة
ـ تعبيراً عن شكوكه هو نفسه إزاء صمت اللّه، وإزاء النّصاب الذي خصّه به
دون سائر الأنبياء: نبيّ بلا معجزة . وهكذا فإنّ الآية الخامسة والثلاثين
من سورة الأنعام تستكبر على الرسول أن يكون قد كبُر عليه إعراضُ المعرضين
عنه وأن يكون منّى نفسه بأن يأتي من عنده بمعجزة تسدّ مسدّ المعجزة التي
يضنّ بها اللّه عليه: وإن كان كبُر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي
نفقاً في الأرض أو سلّماً في السماء فتأتيهم بآية، ولو شاء اللّه لجمعهم
على الهدى، فلا تكوننّ من الجاهلين. كما أنّ الآية الثانية عشرة من سورة
هود تحذره من أن يضيق صدره ويترك بعض ما ينزل إليه ما دام غير معضود بآية:
فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز
أو جاء معه ملك، إنما أنت نذير، واللّه على كل شيء وكيل. أما الآيتان
الرابعة والتسعون والخامسة والتسعون من سورة يونس فتذهبان إلى أبعد من ذلك
إذ تتوعّدان الرسول نفسه بأن يكون من الخاسرين إذا امترى وانتابته الشكوك
في ما أنزل إليه لمجرّد أن ما أنزل إليه ليس مسنوداً بمعجزة على خلاف واقع
الحال مع من خلا قبله من الرسل والأنبياء: فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك
فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكوننّ من
الممترين ولا تكوننّ من الذين كذّبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين.
والواقع أنه خلافاً للصورة المتداولة في أدبيات السيرة اللاحقة عن عنت
مشركي مكة في قبول الدعوة، فإن ّالصورة التي تقدّمها عنهم السور القرآنية
المعنية ليست صورة رافضين للدعوة أو مقاومين عتاة لها بقدر ما هي صورة
طالبين للمعجزة ، أو بالأحرى لبرهان المعجزة، كيما يؤمنوا. وهكذا تترى
الآيات: وقال الذين لا يعلمون لولا يكلّمنا اللّه أو تأتينا آية
(البقرة.118)، وأقسموا باللّه جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمننّ بها
(الأنعام.109)، قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل اللّه
(الأنعام.124)، وقالوا لولا يأتينا بآية من ربّه (طه.133)، فليأتنا بآية
كما أُرسل الأولون (الأنبياء.5)، وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربّه
(العنكبوت.50).
وإذا كانت عديدة هي الآيات التي يُطالب فيها الرسول بمعجزة، بأيّ معجزة
كانت دونما تحديد لطبيعتها، فمعدودة هي الآيات التي يُطالب فيها بمعجزة
محدودة، كالآية التي تقدم ذكرها من سورة هود: لولا أنزل عليه كنز، أو
كالآية الثامنة من سورة الفرقان: لولا… يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل
منها. ولئن يكن مطلب معجزة الكنز أو جنة الطعام يعكس عقلية مشركي المجتمع
المكي من حيث هو مجتمع تجارة ومجتمع قلّة في آن معاً، فإنّ المعجزة التي
يطالب بها الكتابيّون من اليهود والنصارى هي من طبيعة لاهوتية بالأحرى.
ومن هذا القبيل مطلبهم، كبرهان على صدق رسالة الرسول، بأن ينزل عليه
القرآن دفعة واحدة ـ لا مُنجَّماً ـ كما نزلت التوراة على موسى في جبل
سيناء، أو أن ينزل في قرطاس كقرطاس الأناجيل. وحتى عندما كان الكتابيون
يطالبون بمعجزة »مادية«، فقد كانوا يطالبون بها على منوال معجزات موسى
وعيسى من تفجير النبع من الصخر أو الارتقاء في السماء، على نحو ما توضحه
الآيات 90 ـ 93 من سورة الإسراء: وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجّر لنا من
الأرض ينبوعاً أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجّر الأنهار خلالها تفجيراً
أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً أو
يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيّك حتى تنزل علينا
كتاباً نقرؤه، قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً. وإزاء جميع هذه
المطالب كان ردّ الرسول دائماً واحداً لا يتغيّر: إنّ المعجزات ليست بيده
بل بيد اللّه، وإنْ هو إلا بشر مثلهم لم يؤتَ أكثر مما أوتوه، ولا يميزه
في بشريته عنهم شيء سوى أنه يوحى إليه:
- قل إنما الآيات عند اللّه (الأنعام.109).
- قل إنما الآيات عند اللّه وإنما أنا نذير مبين (العنكبوت.50).
- وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن اللّه (الرعد.38).
- قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ (الكهف.110).
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
جورج طرابيشي: نبي بلا معجزة (2)
والواقع أن هذه
الآية الأخيرة تلخص جوهر الخلاف بين الرسول ومنكري رسالته. فبشريّته
العارية من دليل النبوة هي بالضبط ما كان موضع استغراب وإنكار منهم،
بالنظر إلى تعارضها مع تصوراتهم الموروثة خلفاً عن سلف عن الأنبياء بصفتهم
كائنات عليا شبه إلهية أوتيت القدرة على اجتراح معجزات خارقة ما أوتي
مثلها الرسول «الأمّيّ» الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق (الفتح.29) كأي
بشر عاديّ. ولا جدال أصلاً في أن الفضاء العقلي والديني الذي ينتمون إليه
كان فضاء مفتوحاً على احتمال مجيء رسول جديد، حامل لرسالة جديدة أو منذر
بنهاية العالم على نحو ما هو متوقع في كتب الكتابيين أو في «أساطير
الأولين» التي كانت تجد لها مرتعاً خصباً في شبه الجزيرة العربية. ولكن
ذلك الفضاء العقلي والديني عينه هو ما كان يملي عليهم أن يجعلوا شرطاً
مسبقاً لتصديق أي رسول جديد أن يكون حاملاً معه للبرهان الذي لا برهان
غيره في النبوة: المعجزة . هكذا كان الملأ من قوم نوح ـ أي رؤساؤهم ـ قد
قالوا لهم: ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم (المؤمنون.24). كما
كان الملأ من القوم الذين تلوهم قد قالوا عن الرسول الذي أتى من بعده: ما
هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشراً
مثلكم إنكم إذاً لخاسرون (المؤمنون.23-24). وكذلك قال قوم ثمود لنبيهم
المرسل إليهم صالح: ما أنت إلا بشر مثلنا فأتِ بآية إن كنت من الصادقين
(الشعراء.154). وكذلك كذّب أصحاب الأيكة رسولهم شعيباً قائلين له: وما أنت
إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين فأسقط علينا كِسفاً من السماء إن كنت
من الصادقين (الشعراء.187). ووفق هذا النمط الذهني عينه استغرب قوم محمد
مبعثه وقالوا: أَبَعث اللّه بشراً رسولاً؟ (الإسراء.94)، وتساءلوا
باستغراب أكبر: ما لِهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق
(الفرقان.7). ثم راحوا يطالبونه، على مدار الحقبة التبشيرية من دعوته،
ببرهان دامغ على نبوته من استنزال كنز أو تفجير نبع أو استدرار نهر أو
استحداث جنة من عنب ونخيل، هذا إن لم يطالبوه بتسيير الجبال أو إسقاط
السماء.
وعلاوة على طلب معجزة إثباتية لنبوته كان اللامصدقون، ولا سيما الكتابيين
منهم، يطرحون عليه أسئلة إعجازية وتعجيزية معاً من طبيعة لاهوتية أو غيبية
أو ما ورائية كسؤاله عن ماهية الروح، أو التكهن بالغيب، أو متى تقوم
الساعة، أو بكل بساطة، ما جنس الجنين الذي في الرحم؟ وتماماً كما في
إجابته عن طلب المعجزات، كان يجيب عن هذه الأسئلة والإشكالات بالإحالة إلى
اللّه:
- ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي (الإسراء.85).
- اللّه يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد (الرعد.8.
- إن اللّه عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام (لقمان.34).
- يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي (الأعراف.187).
- قل لا أقول لكم عندي خزائن اللّه ولا أعلم الغيب (الأنعام. 50).
- وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو (الأنعام.59).
- فقل إنما الغيب للّه فانتظروا إني معكم من المنتظرين (يونس.20).
- قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا اللّه (النمل.65).
ومن منظور الاحتكار الإلهي لعلم الغيب لم يكن الرسول مأموراً بإرجاع الأمر
كله إلى اللّه فحسب: وللّه غيب السماوات والأرض وإليه يُرجع الأمر كلّه
(يوسف.123)، ولا مأموراً بالإعلان عن أنه مكفوف اليد كفاً تاماً فحسب: قل
لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء اللّه ولو كنت أعلم الغيب
لاستكثرت من الخير وما مسني السوء (الأعراف.188)، بل كان مأموراً أيضاً
بألا يستعجل عِلْمَ ما قد يُعْلِمه اللّه أو ما يطالب اللامصدقون بأن
يعلمه إياه: قل… ما عندي ما تستعجلون به، إن الحكم إلا للّه، يقص الحق وهو
خير الفاصلين، قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم،
واللّه أعلم بالظالمين، وعنده مفاتيح الغيب ولا يعلمها إلا هو
(الأنعام.57-58).
هنا ينهض سؤال: إذا كانت المعجزة رفيقة درب كل نبي، فلماذا قضت المشيئة
الإلهية أن ينفرد الرسول دون سائر الرسل والأنبياء بأن يكون نبياً بلا
معجزة؟ ويكتسب هذا السؤال أهمية خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن غياب
المعجزة قد ترجم عن نفسه ليس فقط في تشكيك المشككين في بعثة الرسول، بل
أيضاً ـ وربما كان هذا أخطر ـ في الشك الذي كان ينتاب الرسول نفسه
أحياناً. أفما وجدنا الآية الرابعة والتسعين من سورة يونس تحذر الرسول من
هذا الشك وتتوعده، في حال انضمامه إلى الممترين والمكذبين بآيات اللّه،
بأن يكون من الخاسرين؟ كذلك أما وجدنا الآية الثانية عشرة من سورة هود
تحذّر الرسول من أن يضيق صدره ويترك تبليغ بعض ما أوحي إليه مخافة أن يقول
قائلهم ـ المشككين ـ: لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه مَلَك؟ ولنا على كل
حال أن نفهم »ضيق صدر« الرسول إذ شاء له «حكم اللّه» أن يتبلغ الوحي وأن
يبلّغه بدون سند من معجزة مادية على منوال معجزات سائر الرسل والأنبياء:
إذ لم يكن اللامؤمنون هم وحدهم الذين يطالبونه بمعجزة، بل كذلك المؤمنون
أنفسهم، وهو ما يمكن استنتاجه من السياق الذي نزلت فيه الآية 109 من سورة
الأنعام: وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمننّ بها، قل إنما
الآيات عند اللّه، وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون. فقد ذهب جماعة من
أهل التأويل، على ما يروي الطبري، إلى أن كاف الخطاب في «يشعركم» إنما هي
موجهة إلى أصحاب الرسول، ومستندهم في ذلك أن «الذين سألوا رسول اللّه (ص)
أن يأتي بآية، [هم] المؤمنون به. قالوا: وإنما كان سبب مسألتهم إياه ذلك
أن المشركين حلفوا أن الآية إذا جاءت آمنوا واتبعوا رسول اللّه (ص)، فقال
أصحاب رسول اللّه (ص): سل يا رسول اللّه ربك ذلك، فسأل، فأنزل اللّه فيهم
وفي مسألتهم إياه ذلك: «قلّ ـ للمؤمنين بك يا محمد ـ إنما الآيات عند
اللّه، وما يشعركم ـ أيها المؤمنون بأن الآيات إذا جاءت هؤلاء المشركين
بالله أنهم لا يؤمنون به».
وباستقراء النص القرآني نحصي عشرات من الآيات التي تعلّل، على لسان اللّه
نفسه، امتناعه عن إتيان المعجزات التي يطالبه بها رسوله أو المؤمنون به،
وعلى الأخص اللامؤمنون، سواء أكان هؤلاء الأخيرون صادقين في ما يطالبون به
من برهان المعجزة التي هي معبرهم إلى الإيمان، أم كاذبين مناورين لا غاية
لهم سوى إحراج الرسول وحشره في الزاوية الضيقة. ومن هذا المنطلق
الاستقرائي إياه نستطيع أن نحدد خمسة مستويات للتعليل:
1 ـ التعليل بالتكذيب: فما أكثر من سبقوا الرسول من الأنبياء ممن كذّبهم
قومهم رغم ما أتوه من معجزات، وفي مقدمتهم قوم موسى مع أنه كان من أكثر
الأنبياء معجزة:
- ولقد جاءكم موسى بالبيِّنات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون (البقرة.19).
- وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين (الأعراف.131).
- ولقد جاءهم موسى بالبيِّنات فاستكبروا في الأرض (العنكبوت.39).
وقائمة الأنبياء والمرسلين الذين كذبهم قومهم، سواء أتوهم بالآيات والنذر
أم لم يأتوهم، طويلة لا تنتهي، وقد أحصت سورة الشعراء وحدها خمسة منهم:
-كذَّبت قوم نوح المرسلين (105).
- كذبت عاد [هود] المرسلين (123).
- كذبت ثمود [صالح] المرسلين (141).
- كذبت قوم لوط المرسلين (160).
- كذب أصحاب الأيكة [شعيب] المرسلين (176).
الآية الأخيرة تلخص جوهر الخلاف بين الرسول ومنكري رسالته. فبشريّته
العارية من دليل النبوة هي بالضبط ما كان موضع استغراب وإنكار منهم،
بالنظر إلى تعارضها مع تصوراتهم الموروثة خلفاً عن سلف عن الأنبياء بصفتهم
كائنات عليا شبه إلهية أوتيت القدرة على اجتراح معجزات خارقة ما أوتي
مثلها الرسول «الأمّيّ» الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق (الفتح.29) كأي
بشر عاديّ. ولا جدال أصلاً في أن الفضاء العقلي والديني الذي ينتمون إليه
كان فضاء مفتوحاً على احتمال مجيء رسول جديد، حامل لرسالة جديدة أو منذر
بنهاية العالم على نحو ما هو متوقع في كتب الكتابيين أو في «أساطير
الأولين» التي كانت تجد لها مرتعاً خصباً في شبه الجزيرة العربية. ولكن
ذلك الفضاء العقلي والديني عينه هو ما كان يملي عليهم أن يجعلوا شرطاً
مسبقاً لتصديق أي رسول جديد أن يكون حاملاً معه للبرهان الذي لا برهان
غيره في النبوة: المعجزة . هكذا كان الملأ من قوم نوح ـ أي رؤساؤهم ـ قد
قالوا لهم: ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم (المؤمنون.24). كما
كان الملأ من القوم الذين تلوهم قد قالوا عن الرسول الذي أتى من بعده: ما
هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشراً
مثلكم إنكم إذاً لخاسرون (المؤمنون.23-24). وكذلك قال قوم ثمود لنبيهم
المرسل إليهم صالح: ما أنت إلا بشر مثلنا فأتِ بآية إن كنت من الصادقين
(الشعراء.154). وكذلك كذّب أصحاب الأيكة رسولهم شعيباً قائلين له: وما أنت
إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين فأسقط علينا كِسفاً من السماء إن كنت
من الصادقين (الشعراء.187). ووفق هذا النمط الذهني عينه استغرب قوم محمد
مبعثه وقالوا: أَبَعث اللّه بشراً رسولاً؟ (الإسراء.94)، وتساءلوا
باستغراب أكبر: ما لِهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق
(الفرقان.7). ثم راحوا يطالبونه، على مدار الحقبة التبشيرية من دعوته،
ببرهان دامغ على نبوته من استنزال كنز أو تفجير نبع أو استدرار نهر أو
استحداث جنة من عنب ونخيل، هذا إن لم يطالبوه بتسيير الجبال أو إسقاط
السماء.
وعلاوة على طلب معجزة إثباتية لنبوته كان اللامصدقون، ولا سيما الكتابيين
منهم، يطرحون عليه أسئلة إعجازية وتعجيزية معاً من طبيعة لاهوتية أو غيبية
أو ما ورائية كسؤاله عن ماهية الروح، أو التكهن بالغيب، أو متى تقوم
الساعة، أو بكل بساطة، ما جنس الجنين الذي في الرحم؟ وتماماً كما في
إجابته عن طلب المعجزات، كان يجيب عن هذه الأسئلة والإشكالات بالإحالة إلى
اللّه:
- ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي (الإسراء.85).
- اللّه يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد (الرعد.8.
- إن اللّه عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام (لقمان.34).
- يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي (الأعراف.187).
- قل لا أقول لكم عندي خزائن اللّه ولا أعلم الغيب (الأنعام. 50).
- وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو (الأنعام.59).
- فقل إنما الغيب للّه فانتظروا إني معكم من المنتظرين (يونس.20).
- قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا اللّه (النمل.65).
ومن منظور الاحتكار الإلهي لعلم الغيب لم يكن الرسول مأموراً بإرجاع الأمر
كله إلى اللّه فحسب: وللّه غيب السماوات والأرض وإليه يُرجع الأمر كلّه
(يوسف.123)، ولا مأموراً بالإعلان عن أنه مكفوف اليد كفاً تاماً فحسب: قل
لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء اللّه ولو كنت أعلم الغيب
لاستكثرت من الخير وما مسني السوء (الأعراف.188)، بل كان مأموراً أيضاً
بألا يستعجل عِلْمَ ما قد يُعْلِمه اللّه أو ما يطالب اللامصدقون بأن
يعلمه إياه: قل… ما عندي ما تستعجلون به، إن الحكم إلا للّه، يقص الحق وهو
خير الفاصلين، قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم،
واللّه أعلم بالظالمين، وعنده مفاتيح الغيب ولا يعلمها إلا هو
(الأنعام.57-58).
هنا ينهض سؤال: إذا كانت المعجزة رفيقة درب كل نبي، فلماذا قضت المشيئة
الإلهية أن ينفرد الرسول دون سائر الرسل والأنبياء بأن يكون نبياً بلا
معجزة؟ ويكتسب هذا السؤال أهمية خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن غياب
المعجزة قد ترجم عن نفسه ليس فقط في تشكيك المشككين في بعثة الرسول، بل
أيضاً ـ وربما كان هذا أخطر ـ في الشك الذي كان ينتاب الرسول نفسه
أحياناً. أفما وجدنا الآية الرابعة والتسعين من سورة يونس تحذر الرسول من
هذا الشك وتتوعده، في حال انضمامه إلى الممترين والمكذبين بآيات اللّه،
بأن يكون من الخاسرين؟ كذلك أما وجدنا الآية الثانية عشرة من سورة هود
تحذّر الرسول من أن يضيق صدره ويترك تبليغ بعض ما أوحي إليه مخافة أن يقول
قائلهم ـ المشككين ـ: لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه مَلَك؟ ولنا على كل
حال أن نفهم »ضيق صدر« الرسول إذ شاء له «حكم اللّه» أن يتبلغ الوحي وأن
يبلّغه بدون سند من معجزة مادية على منوال معجزات سائر الرسل والأنبياء:
إذ لم يكن اللامؤمنون هم وحدهم الذين يطالبونه بمعجزة، بل كذلك المؤمنون
أنفسهم، وهو ما يمكن استنتاجه من السياق الذي نزلت فيه الآية 109 من سورة
الأنعام: وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمننّ بها، قل إنما
الآيات عند اللّه، وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون. فقد ذهب جماعة من
أهل التأويل، على ما يروي الطبري، إلى أن كاف الخطاب في «يشعركم» إنما هي
موجهة إلى أصحاب الرسول، ومستندهم في ذلك أن «الذين سألوا رسول اللّه (ص)
أن يأتي بآية، [هم] المؤمنون به. قالوا: وإنما كان سبب مسألتهم إياه ذلك
أن المشركين حلفوا أن الآية إذا جاءت آمنوا واتبعوا رسول اللّه (ص)، فقال
أصحاب رسول اللّه (ص): سل يا رسول اللّه ربك ذلك، فسأل، فأنزل اللّه فيهم
وفي مسألتهم إياه ذلك: «قلّ ـ للمؤمنين بك يا محمد ـ إنما الآيات عند
اللّه، وما يشعركم ـ أيها المؤمنون بأن الآيات إذا جاءت هؤلاء المشركين
بالله أنهم لا يؤمنون به».
وباستقراء النص القرآني نحصي عشرات من الآيات التي تعلّل، على لسان اللّه
نفسه، امتناعه عن إتيان المعجزات التي يطالبه بها رسوله أو المؤمنون به،
وعلى الأخص اللامؤمنون، سواء أكان هؤلاء الأخيرون صادقين في ما يطالبون به
من برهان المعجزة التي هي معبرهم إلى الإيمان، أم كاذبين مناورين لا غاية
لهم سوى إحراج الرسول وحشره في الزاوية الضيقة. ومن هذا المنطلق
الاستقرائي إياه نستطيع أن نحدد خمسة مستويات للتعليل:
1 ـ التعليل بالتكذيب: فما أكثر من سبقوا الرسول من الأنبياء ممن كذّبهم
قومهم رغم ما أتوه من معجزات، وفي مقدمتهم قوم موسى مع أنه كان من أكثر
الأنبياء معجزة:
- ولقد جاءكم موسى بالبيِّنات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون (البقرة.19).
- وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين (الأعراف.131).
- ولقد جاءهم موسى بالبيِّنات فاستكبروا في الأرض (العنكبوت.39).
وقائمة الأنبياء والمرسلين الذين كذبهم قومهم، سواء أتوهم بالآيات والنذر
أم لم يأتوهم، طويلة لا تنتهي، وقد أحصت سورة الشعراء وحدها خمسة منهم:
-كذَّبت قوم نوح المرسلين (105).
- كذبت عاد [هود] المرسلين (123).
- كذبت ثمود [صالح] المرسلين (141).
- كذبت قوم لوط المرسلين (160).
- كذب أصحاب الأيكة [شعيب] المرسلين (176).
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
جورج طرابيشي: نبي بلا معجزة (3)
وتصوغ الآية الرابعة والأربعون من سورة المؤمنين ما يشبه أن يكون قانوناً: كلما جاء أمة رسولها كذبوه. وتستنتج الآية 184 من سورة آل عمران، والخطاب فيها موجه إلى الرسول: فإن كذّبوه فقد كُذّب رسل من قبلك جاءوا بالبيِّنات. وكذلك تفعل الآية 25 من سورة فاطر: وإن يكذِّبوك فقد كذَّب الذين من قبلهم جاءتهم رسُلهم بالبيِّنات، والآيات 42 ـ 44 من سورة الحج: وإن يكذِّبوك فقد كذَّبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكُذِّب موسى. وبناء على هذه التجربة الماضية والمتكررة مع سائر الرسل والأنبياء الذين سبقوا محمداً، تطرح الآية 101 من سورة يونس هذا السؤال: وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون؟ ثم تأتي الآية 59 من سورة الإسراء لتحسم موضوع المعجزات المضنون بها على الرسول، دون سواه من الرسل، حسماً لا يحتمل جدلاً: وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذّب بها الأولون. 2 ـ التعليل بالتأويل السحري: ثمة جملة من الآيات تردّ الاستنكاف الإلهي عن إتيان المعجزات أو الإذن للرسول بإتيانها إلى كون المعجزات التي أتاها المرسلون والأنبياء السابقون قد فُسِّرت من قبل قومهم على أنها فعل من أفعال السحر. والسحر هو إلى الدين ما كانه قابيل لهابيل: شقيقه البكر وغريمه وقاتله. فالسحر كالمعجزة يشل العقل، ولكنه يوظف هذا الشلل لصالح قدرة «إبليسية»، لا لصالح القدرة الإلهية. وقد اضطلع السحر في الديانات الوثنية بنفس الوظيفة التي اضطلعت بها المعجزة في الديانات التوحيدية. والحال أن الرسول ما بُعث إلى «الأميين» ـ قومه ـ إلا ليحوّلهم عن الأولى إلى الثانية. ومن هنا خطورة مطبّ التأويل السحري للمعجزات التي قد يأذن اللّه له بإتيانها. ففي هذه الحال خير له وخير لدين التوحيد الذي بُعث للدعوة إليه ألا يُؤذن له بإتيانها. ومثال الأنبياء الذين تقدموه ناطق بالدلالة من هذا المنظور. فعيسى بن مريم، الذي أذن له اللّه أن يبرئ الأكمه والأبرص وأن يحيي الموتى، ما قوبلت معجزاته من قبل الذين كفروا من قومه إلا بالقول: إنْ هذا إلا سحر مبين (المائدة.110). ومن قبله كان موسى قد لقي الجواب نفسه لما بعثه اللّه إلى قوم فرعون بآياته: ثم بعثنا من بعدهم موسى وهرون إلى فرعون وملأه بآياتنا فاستكبروا و قالوا إن هذا لسحر مبين (يونس.75-76)، أو كذلك: فلما جاءهم موسى بآياتنا بيّناتٍ قالوا ما هذا إلا سحر مفترى (القصص.36). ولئن يكن موسى، وهو الذي أتى ما أتاه من المعجزات والآيات البيِّنات، قد رُمي بأنه ساحر كذّاب (غافر.24)، فما الداعي لأن يركب الرسول المركب نفسه؟ ألم يرمه قومه، حتى بدون أن يأتي بمعجزات، ولمجرد أنه بلغهم رسالات ربه بلسان مبين، بأنه هو الآخر ساحر كذاب؟ وما الحاجة إلى مزيد من المعجزات، ولا سيما المادية منها، ما دامت معجزة القرآن، وهي محض معجزة بيانية، قد وُصفت من قبل قوم محمد بأنها سحر مبين (الأحقاف.7، وسبأ.43)؟. وبكلمة واحدة: ما دام قوم محمد هؤلاء إذا رأوا آية يستسخرون وقالوا إن هذا إلا سحر مبين (الصافات.15)، وما داموا إن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر (القمر.2)، أفليس حجب المعجزات عنهم ـ ولو على مضض من الرسول المبعوث إليهم ـ هو خير سبيل إلى إحباط »استراتيجيتهم«، أو بلغة الفقهاء اللاحقين إلى سد الذرائع عليهم؟ 3 ـ التعليل بالتعذيب: مع ذلك كلّه فإن الباعث لا يضنّ على مبعوثه بأن يلبي له التماساً أخيراً، وإن بشرط شارط رهيب: التعذيب ومضاعفة التعذيب. فما دام مطلب القوم المبعوث إليهم ـ وهم الأميون الذين لم يُبعث إليهم رسول من قبل ـ رفد الرسالة المكلف بتبليغهم إياها بمعجزات تقوم لها مقام البرهان الذي لا يماري فيه ممارٍ، فليكن للرسول كل المدد الذي يطلبه من المعجزات. ولكن الويل ثم الويل لهم بعدئذ إن أصروا على عدم التصديق وعدم الإيمان: فليس بعد برهان المعجزة سوى نار جهنم. هكذا كان أمر من سبقهم من الأقوام الذين كفروا بآيات أنبيائهم، وهكذا سيكون أمرهم إن كفروا بدورهم بآيات رسولهم: - سل بني إسرائيل كم أتيناهم من آية بيّنة ومن يبدل نعمة اللّه من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب (البقرة.211). - ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيِّنات، وأولئك لهم عذاب عظيم (آب عمران.105). - إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب (النساء.56). - قال اللّه إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذّبه أحداً من العالمين (المائدة.115). - فمن أظلم ممن كذب بآيات اللّه وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون (الأنعام.157). - ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم، كلما خبت زدناهم سعيراً، ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا (الإسراء.97.98). وإزاء هول الجزاء الذي ينتظر من يكذب بآيات اللّه، فلنا أن نفهم أن يكون الرسول نفسه عدل عن طلب المعجزات التي يطالبه بها قومه: فبما أن عقاب من يكفر بعد أن يأتيه برهان المعجزة أشد وأدهى بما لا يقاس من عقاب من كان كافراً قبل أن يأتيه هذا البرهان، فقد يكون عدم الرهان خيراً من الرهان، وهذا لصالح قوم الرسول المبعوث إليهم. وهكذا تفيدنا كتب السيرة أنه عندما قال المكيون للرسول: واللّه لن نؤمن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سلّماً، ثم ترقى فيه حتى تأتيها ثم تأتي معك بصكّ، أي كتاب، معه أربعة من الملائكة يشهدون أنك كما تقول ـ وهذا ما أشارت إليه الآيات 90 ـ 93 من سورة الإسراء. | ||
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
جورج طرابيشي: نبي بلا معجزة (4)
«خيّره اللّه تعالى بين أن يعطيه جميع ما سألوا وأنهم إن كفروا بعد ذلك استأصلهم بالعذاب كالأمم السابقة، وبين أن يفتح لهم باب الرحمة والتوبة لعلهم يتوبون وإليه يرجعون، فاختار الثاني لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم من كثير منهم العناد وأنهم لا يؤمنون وإن حصل ما سألوا فيستأصلون بالعذاب. كما تفيدنا في السياق نفسه في حديث مروي عن محمد بن كعب القرظي أن »الملأ من قريش أقسموا للنبي (ص) باللّه عزّ وجلّ أنهم يؤمنون به إذا صار الصفا ذهباً، فقام يدعو اللّه تعالى أن يعطيهم ما سألوه، فأتاه جبريل، فقال له: إن شئت يصبح لهم الصفا ذهباً، فإن لم يؤمنوا أنزلت عليهم العذاب، عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، وإن شئت ألا يصير ذهباً فتحتُ لهم باب الرحمة والتوبة، فقال: لا، بل أن تفتح لهم باب الرحمة والتوبة». 4 ـ التعليل بعدم النجاعة وعدم العلّية: إذ ما الغاية من إنزال المعجزات في خاتمة المطاف؟ أن يصدق اللامصدقون وأن يؤمن اللامؤمنون. ولكن من قال إن الإيمان أو عدمه هو في أيديهم؟ ومن قال إن لهم حرية الاختيار حتى يقتنعوا أو لا يقتنعوا ببرهان المعجزة؟ ثم من قال إن الرسول نفسه هو المكلَّف بإقناعهم؟ فهو ليس له من مهمة أخرى سوى التبليغ. وباستثناء التبليغ فإنه مكفوف اليد: ليس لك من الأمر شيء (آل عمران.128). بل إن ما يبديه من حرص على أن يؤمن المؤمنون قد يضعه في موضع التعارض مع المشيئة الإلهية: إن تحرص على هداهم فإن اللّه لا يهدي من يضل (النحل.37). وقد يعرِّضه أيضاً للمساءلة وللملام: : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (يونس.99)؟ ذلك أنه ما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن اللّه (يونس/100)، ومن يضلل اللّه فلن تجد له سبيلاً (النساء.88). فاللّه ـ وليس أحد سواه ـ هو من يضلّ ومن يهدي. وذلك ما تؤكده آيات عدة من القرآن بصيغة مكررة: - فيضل اللّه من يشاء ويهدي من يشاء (إبراهيم.4). - ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء (النحل.93). - فإن اللّه يضل من يشاء ويهدي من يشاء (فاطر.8. - كذلك يضل اللّه من يشاء ويهدي من يشاء (المدثر.31). إذن ليس بين الإيمان وعدمه وبين المعجزة وعدمها من رابطة علِّية. فلا المعجزة تستتبع الإيمان، ولا عدمها يستتبع عدم الإيمان: إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية (يونس.96-97). وكذلك: وما تأتيهم من آية من آيات ربّهم إلا كانوا عنها معرضين (الأنعام.4). وإن يكن من رابطة علّية فهي حصراً بين المشيئة الإلهية إيجاباً أو سلباً وبين الإيمان أو عدم الإيمان: - من يشأ اللّه يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم (الأنعام.6). - من يهد اللّه فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون (الأعراف.7). - من يضلل اللّه فلا هادي له (الأعراف.186). - من يضلل اللّه فما له من هادٍ(الرعد.33). - من يهد اللّه فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً (الكهف.17). إذن فالمشيئة الإلهية، لا المعجزة، هي التي تتحكم بإيمان الناس أو عدمه: ولو أننا نزّلنا إليهم الملائكة وكلّمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قُبُلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء اللّه (الأنعام.111). وليس مطلوباً أصلاً أن يؤمن الناس جميعاً: ولو شاء ربّك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً (يونس.99). وهذا يصدق على القرآن نفسه من حيث هو المعجزة البيانية الوحيدة التي يستطيع الرسول أن يشهرها دليلاً على رسوليته. فصحيح أن هذا القرآن لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدّعاً (الحشر.21)، ومع ذلك فإن من الناس من إذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون (الانشقاق.21). وما ذلك لأن القرار قرارهم كما قد يتوهمون، بل لأنهم من أولئك الذين لعنهم اللّه فأصمّهم وأعمى أبصارهم (محمد.23). وهنا أيضاً يستخدم القرآن صيغة تتكرر بصورة شبه حرفية في ثلاث آيات: ـ وجعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً (الأنعام.116). | ||
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
جورج طرابيشي: نبي بلا معجزة (5)
-وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباًمستوراً، وجعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً(الإسراء.45-46). - إنا جعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً، وإن تَدْعُهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً( الكهف.57). ولنلاحظ هنا الأهمية الدلالية لحرف الجواب «إذاً». فلأن اللّه هو الذي جعلعلى قلوب اللامؤمنين أكنة وفي آذانهم وقراً، فإنهم لن يهتدوا إذاً أبداًمهما دعاهم الرسول إلى الهدى ومهما آتاهم ـ إذا أَذِن اللّه له أن يؤتيهمـ من المعجزات. ففي حالتهم ستبقى المعجزات خرساء وفائضة عن الحاجة، فضلاًعن أنه لن يكون لها من عاقبة سوى مضاعفة عذابهم في الآخرة. 5 ـ التعليل بالآيات الكونية. إذ ما الحاجة في خاتمة المطاف إلى معجزاتجديدة؟ فمن يطلب برهان المعجزة فما عليه إلا أن يجيل نظره في الكون ليجدهعامراً بالمعجزات التي لا تعدّ ولا تحصى، منذ أن تخلّق من العدم الأول إلىاليوم. فكل ما في الكون معجزة، من النطفة التي تتخلق في الرحم علقة ثممضغة ثم جنيناً ثم إنساناً سوياً إلى الجبال التي تنصب والأرض التي تبسطوالسماء التي ترفع والنجوم المسخرة لهداية الإنسان في ظلمات البر والبحر(الأنعام.97). والآيات الكونية تتخلل شتى سور القرآن، وتكاد تؤلف نصفالقرآن المكي، وهي تحصى بالمئات، وتجد واحداً من أتم نماذجها في الآيات 20ـ 25 من سورة الروم: ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون، ومن آياته أن خلقلكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلكلآيات لقوم يتفكرون، ومن آياته خلقُ السماوات والأرض واختلاف ألسنتكموألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالمين، ومن آياته منامكم بالليل والنهاروابتغاؤكم من فضله، إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون، ومن آياته يريكم البرقخوفاً وطمعاً وينزّل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها، إن في ذلكلآيات لقوم يعقلون، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره، ثم إذا دعاكمدعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون. بل إن سورة بكاملها من القرآن، وهي سورة الرحمن المكية بآياتها الثمانيةوالسبعين، والموجه فيها الخطاب بالمثنى إلى الإنس والجن، تستعرض الآياتالكونية واحدة تلي الأخرى بإيقاع جمالي يندر مثيله في سائر السور، مكررةالسؤال بعد الإشارة إلى كل معجزة: فبأي آلاء ربّكما تكذِّبان؟. والواقع أنه لا يمكن للمرء أن يماري في أنّ ما اصطلح علماء البلاغة علىتسميته بـ »إعجاز القرآن« إنما يجد مبرره الجمالي في هذه السور المكياتالتي تتغنى بسنفونية الكون ولألاء معجزاته. ومع ذلك، ثمة سؤال ختامي يطرحنفسه: فالمعجزات الكونية إن أُريد لها أن تكون شاهداً فهي لا تشهد في هذهالحال إلا على ألوهية اللّه وكلية قدرته. والحال أن طالبي برهان المعجزةمن أميين وكتابيين ما كانوا يمارون في تلك الألوهية ولا في كلية القدرةهذه. وإنما كان مطلبهم معجزة أو معجزات تشهد على رسولية الرسول. وفيأنظارهم على الأقل ما كانت تلك تغني عن هذه. الإعجاز القرآني إنما رداً على تحدي هؤلاء الأميين والكتابيين، الذين لم يتخلوا على مدىاثني عشر عاماً من حوار الرسول معهم عن طلب برهان المعجزة، وهذا رغم كلالحجاج الذي يديره القرآن ضدهم ورغم كل الحجج التي يجنّدها لتفنيد مطلبهم(من عنادهم الدائب في تكذيب الأنبياء، ومن تأويلهم السحري لآياتهم، ومنعدم نجع برهان المعجزة معهم، ومن تهديدهم بمضاعفة عذابهم، فضلاً عنإحالتهم كمسعى أخير إلى المعجزات الكونية التي لا تقع تحت حصر)، نقول إنمارداً على تحدي الأميين والكتابيين ذاك صاغ القرآن تحدياً مضاداً أطلق عليهلاحقاً اسم »الإعجاز القرآني«. وليس لنا هنا أن نخوض في معنى هذا الإعجازالذي يجمعه والمعجزة جذر واحد: فهل النص القرآني هو بحد ذاته المعجِزللناس عن أن يحاكوه ويضارعوه كما ذهب إلى ذلك أكثر أهل التأويل، أم أناللّه هو المعجز للبشر عن إتيان مثله ـ مما يعني ضمنياً أن النص بحد ذاتهقابل للمضارعة ـ كما ذهب إلى ذلك بعض المعتزلة ممن قال بمذهب الصُرفة؟أياً يكن من أمر، فإن كلمة «إعجاز» لم ترد في القرآن، ولا كذلك كلمة«معجزة». وبالمقابل، إنّ تحدّّي الإعجاز صاغته خمس آيات، اثنتان منهامكررتان بصورة شبه حرفية: - وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعواشهداءكم من دون اللّه إن كنتم صادقين، فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقواالنار التي وقودها الناس والحجارة أُعِدَّت للكافرين (البقرة.23-24). - أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون اللّه إن كنتم صادقين (يونس.38). - أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات، وادعوا من استطعتم من دون اللّه إن كنتم صادقين (هود.13). - قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً (الإسراء.88). - أم يقولون تقوَّله بل لا يؤمنون، فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين (الطور.23-24). ولا جدال في أن هذا التحدي أتى مفعوله: فعلاوة على أن فرضية الإعجاز غدتعقيدة مركزية في جميع كتب التفسير وعلم الكلام، فقد بقي القرآن على امتدادأربعة عشر قرناً هجرياً فريد نوعه، لا محاكي له ولا مضارع معترفاً به، وتمتكريسه بوصفه المعجزة الباقية على مدى الزمن لرسول ما أوتي معجزة غيره. | ||
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
المقاربة الانتروبولجية للقرآن: طعن في كلام الله أم إغناء لرسالته؟
يرى محمد أركونأن الأنثروبولوجيا المعاصرة تتيح لنا أن نتحدث عن وجود معرفة ذات نمطأسطوري. وما يجب الانتباه إليه هنا هو أن البعد الأسطوري أو الخيالي أوالمجازي هو أحد الأبعاد الأساسية التي يتكون منها الشخص البشري والثقافةالبشرية على العموم، بالإضافة إلى البعد العقلاني والاقتصادي والحسابي .
بهذا المعنى، تصبح الأسطورة ظاهرة أنثروبولوجية تشترك فيها جميع الثقافاتوالشعوب، ذلك أن «الأسطورة، كما يراها أركون، تحرك التاريخ مثلما تحركهالوعود المحسوسة والماديات. ومن تم فالاسلام السني (الأورثودكسي)، الذييشيطن الإسلام الشيعي والإباضي (فرقة من الخوارج)، ليس في حقيقة الأمر-حسب الفهم الذي يقدمه أركون- الا عبارة عن تنظير عقائدي دوغمائي جاء منأجل تبرير ما حصل وخلع المشروعية عن الأمر الواقع .. فالإسلام السني مرتبطجدا بالسلطات السياسية التي كانت قد تعاقبت منذ الأمويين وحتى يومنا هذا،وبالتالي ينبغي الاعتراف بمشروعية الاسلام الاباضي والاسلام الشيعي-كمايقول اركون- لكي يحصل الحوار مع الاسلام السني ويتم توحيد المذاهبالاسلامية وإطلاق رؤية معرفية فكرية موحدة للاسلام.
ويلاحظ « أركون» أن ‹›الدين›› بمفهومه العام كمعطى سوسيولوجي ومخزون رمزيوروحي هو سجين عاملين إيديولوجيين: العامل الأول هو ‹›الديانة›› كمعطىسياسي في إضفاء الشرعية وتغذية المخيالات الاجتماعية بمثاليات عقيمة.والعامل الثاني هو ‹›التدين›› كانصهار نفسي في الظاهرة العقائدية دون رويةأو تمعن أو استقلالية في التفكير.
إذا كان هذا هو المسعى الذي تذهب إليه الدراسات الأنتروبولجية، فهل معنىذلك أنه يمكن القبول بنتائجها بخصوص دراسة القرآن. هذا هو الانشغال الذيعبرت عنه مقالة للباحث السوري عبد الرحمن الحاج: «الدراسات القرآنية إلىأين تتجه»، حيث اعتبر أن المقاربة الأنتروبولوجية (الاستشراقية) كانت«موظفة في البداية لأغراض إمبريالية؛ إذ نشأت أساساً (بصفتها فرعاً علمياًمستقلاً) لخدمة الاستعمار الغربي للعالم الإسلامي؛ وعندما انتهت الحقبةالكولنيالية (الأولى) لم تعد عموماً كذلك، وبعد أن أصبحت فرعاً علمياًمستقلاً أفرزت كثيراً من الدراسات الجادة (وخصوصاً في مجال الدراساتالقرآنية) ذات الأهمية الخاصة لنا، ولكن الأهم في موضوع الدراسات القرآنيةالاستشراقية أنها جلبت إلى العالم الإسلامي مناهج جديدة في دراسة القرآنالكريم، وقدمت خدمات جليلة للباحثين المختصين في مجال الفهرسة والتوثيق،ولكنها في المقابل أيضاً جلبت معها كثيراً من الإشكالات والتفسيراتالغريبة، بل و»المطاعن» الجديدة في القرآن، وقد كان لذلك كله أثراًمهمَّاً في تحفيز الدراسات القرآنية الحديثة».
ويذهب إلى أن الدراسات التي تصب في توجه الدراسات الأنثربولوجية جاءت فيفي سياق الصراع الأيديولوجي مع الماركسية والاتجاهات العلمانية الحداثيةفي العالم الإسلامي، إذ لجأ بعض المفكرين الماركسيين والحداثيين بدءاً منالسبعينيات ـ وتحت ضغط الإحساس بفشل هذه الأيديولوجيات في النفوذوالانتشار في العالم العربي والإسلامي ـ إلى محاولة خلخلة ثقة جمهورالمسلمين بالقرآن الكريم، وإعادة تفسير القرآن بما يفضي إلى نتائج تلائمالأيدلوجيا التي يؤمنون بها، وفي كلا الأمرين تم الاستعانة بمناهج جديدة،ضمَّت إلى جانب المناهج الاستشراقية مناهج من العلوم الاجتماعية الغربيةالحديثة، ولكن هذه الدراسات والبحوث ـ التي لم تكن نزيهة على الإطلاق ـ لمتستطع أن تحقق هدفها بعد، إلا أنها استنفرت الباحثين المسلمين لمواجهتهاوالدفاع عن القرآن، مما حدا بهم إلى دراسة المناهج الغربية والاتصالبالعلوم الاجتماعية الغربية الحديثة، فسعى هؤلاءالباحثون للكشف عنالمشكلات العلمية والمنهجية الكامنة في هذه الدراسات، وتبيَّن لكثير منهمـ فيما بعد ـ أن التلويح بالمناهج الحديثة الذي تضمنته كان في معظمه نوعمن الإرهاب الفكري لا أكثر».
هل هذا صحيح، وهل يمكن الرد على المقاربات الانتروبولجية بأنها محض إرهابفكري يستعمله هؤلاء الدارسون للنيل من القرآن؟ وهل هي فعلا كتاباتأيديولوجية أو كتابات لا تتسلح بعدة معرفية حقيقية تستحق الاهتمام؟ وهلالدارسون الأنتروبولوجيين، من أمثل أركون ويوسف صديق ومالك شبل وغيرهم، هممن أذيال الاستشراق وأعداء الإسلام؟
تطمح الأنتروبولجيا إلى تخليص الدين من الاستعمال السياسي والإيديولوجيلرموزه ودلالاته، ومن الانفعال النفسي أو التهييج العاطفي الذي يسجنالضمير الفردي أو الجماعي في مخيالات وقوالب تصورية تحكم مصيره وحياتهبرمته، وذلك بالبحث في الأنماط العليا للتخييل، بالمفهوم الذي وضعه جيلبيردوران.
وهذا ما انتبه إليه الباحث الانتروبولوجي يوسف الصديق، إذ يرى أنه «رغمالانقسام والفوضى، ورغم تكاثر المذاهب والجماعات الدينية، التي تقدم نفسهاباعتبارها حاملة لرؤية خاصة وغير مسبوقة للديني، ظلت صيغة وجود النصالقرآني، منذ مقتل عثمان وإثبات الرسالة النبوية في الفضاء المغلق للقرآن،خارج التساؤل. وهي وضعية فريدة يصفها جاك بيرك بدقة:
«إننا نجهل، إذا لم أكن مخطئا، ما هي اللغة التي وعظ بها المسيح، وهذا فيكل الحالات ليس مهما لا بالنسبة للإنجيليين الذين لم يطرحوا هذا السؤال،ولا بالنسبة للمذاهب المسيحية الأخرى. وعلى العكس من ذلك، فأن يكونالتواصل الأصلي قد اختار شكلا خاصا مثبتا في القرآن، وأن يكون هذا الشكلمحملا بالأفعال البشرية المصير الإنساني، وأن ندعي بأنه كلام الله، فهذاالربط الأولي يقدم نفسه كمبدأ ثابت.
كلام بيرك، الباحث الإسلامي، الذي يعتبر نفسه «ضيفا للإسلام» يقصي نهائياالبعد التاريخي لمجيء هذا المبدأ الثابت. ذلك أن لإنشائه بالفعل تاريخاتبعده الكتابات التقليدية بالعنف الذي يدرك بأن «عودة المبعد» تخيف دائما،ويذكر بتحريف كلام الله المحفوظ من المحو. إنه العنف الذي يعتبر أدنىتشكيك في الأثر الممحو فعلا فاحشا. وهذا الإبعاد يجد تفسيره، قبل كل شيء،في التداخل الشائن بين الرؤية السياسية والدينية في المبادرة التي أثبتتالنص».
بهذا المعنى، تصبح الأسطورة ظاهرة أنثروبولوجية تشترك فيها جميع الثقافاتوالشعوب، ذلك أن «الأسطورة، كما يراها أركون، تحرك التاريخ مثلما تحركهالوعود المحسوسة والماديات. ومن تم فالاسلام السني (الأورثودكسي)، الذييشيطن الإسلام الشيعي والإباضي (فرقة من الخوارج)، ليس في حقيقة الأمر-حسب الفهم الذي يقدمه أركون- الا عبارة عن تنظير عقائدي دوغمائي جاء منأجل تبرير ما حصل وخلع المشروعية عن الأمر الواقع .. فالإسلام السني مرتبطجدا بالسلطات السياسية التي كانت قد تعاقبت منذ الأمويين وحتى يومنا هذا،وبالتالي ينبغي الاعتراف بمشروعية الاسلام الاباضي والاسلام الشيعي-كمايقول اركون- لكي يحصل الحوار مع الاسلام السني ويتم توحيد المذاهبالاسلامية وإطلاق رؤية معرفية فكرية موحدة للاسلام.
ويلاحظ « أركون» أن ‹›الدين›› بمفهومه العام كمعطى سوسيولوجي ومخزون رمزيوروحي هو سجين عاملين إيديولوجيين: العامل الأول هو ‹›الديانة›› كمعطىسياسي في إضفاء الشرعية وتغذية المخيالات الاجتماعية بمثاليات عقيمة.والعامل الثاني هو ‹›التدين›› كانصهار نفسي في الظاهرة العقائدية دون رويةأو تمعن أو استقلالية في التفكير.
إذا كان هذا هو المسعى الذي تذهب إليه الدراسات الأنتروبولجية، فهل معنىذلك أنه يمكن القبول بنتائجها بخصوص دراسة القرآن. هذا هو الانشغال الذيعبرت عنه مقالة للباحث السوري عبد الرحمن الحاج: «الدراسات القرآنية إلىأين تتجه»، حيث اعتبر أن المقاربة الأنتروبولوجية (الاستشراقية) كانت«موظفة في البداية لأغراض إمبريالية؛ إذ نشأت أساساً (بصفتها فرعاً علمياًمستقلاً) لخدمة الاستعمار الغربي للعالم الإسلامي؛ وعندما انتهت الحقبةالكولنيالية (الأولى) لم تعد عموماً كذلك، وبعد أن أصبحت فرعاً علمياًمستقلاً أفرزت كثيراً من الدراسات الجادة (وخصوصاً في مجال الدراساتالقرآنية) ذات الأهمية الخاصة لنا، ولكن الأهم في موضوع الدراسات القرآنيةالاستشراقية أنها جلبت إلى العالم الإسلامي مناهج جديدة في دراسة القرآنالكريم، وقدمت خدمات جليلة للباحثين المختصين في مجال الفهرسة والتوثيق،ولكنها في المقابل أيضاً جلبت معها كثيراً من الإشكالات والتفسيراتالغريبة، بل و»المطاعن» الجديدة في القرآن، وقد كان لذلك كله أثراًمهمَّاً في تحفيز الدراسات القرآنية الحديثة».
ويذهب إلى أن الدراسات التي تصب في توجه الدراسات الأنثربولوجية جاءت فيفي سياق الصراع الأيديولوجي مع الماركسية والاتجاهات العلمانية الحداثيةفي العالم الإسلامي، إذ لجأ بعض المفكرين الماركسيين والحداثيين بدءاً منالسبعينيات ـ وتحت ضغط الإحساس بفشل هذه الأيديولوجيات في النفوذوالانتشار في العالم العربي والإسلامي ـ إلى محاولة خلخلة ثقة جمهورالمسلمين بالقرآن الكريم، وإعادة تفسير القرآن بما يفضي إلى نتائج تلائمالأيدلوجيا التي يؤمنون بها، وفي كلا الأمرين تم الاستعانة بمناهج جديدة،ضمَّت إلى جانب المناهج الاستشراقية مناهج من العلوم الاجتماعية الغربيةالحديثة، ولكن هذه الدراسات والبحوث ـ التي لم تكن نزيهة على الإطلاق ـ لمتستطع أن تحقق هدفها بعد، إلا أنها استنفرت الباحثين المسلمين لمواجهتهاوالدفاع عن القرآن، مما حدا بهم إلى دراسة المناهج الغربية والاتصالبالعلوم الاجتماعية الغربية الحديثة، فسعى هؤلاءالباحثون للكشف عنالمشكلات العلمية والمنهجية الكامنة في هذه الدراسات، وتبيَّن لكثير منهمـ فيما بعد ـ أن التلويح بالمناهج الحديثة الذي تضمنته كان في معظمه نوعمن الإرهاب الفكري لا أكثر».
هل هذا صحيح، وهل يمكن الرد على المقاربات الانتروبولجية بأنها محض إرهابفكري يستعمله هؤلاء الدارسون للنيل من القرآن؟ وهل هي فعلا كتاباتأيديولوجية أو كتابات لا تتسلح بعدة معرفية حقيقية تستحق الاهتمام؟ وهلالدارسون الأنتروبولوجيين، من أمثل أركون ويوسف صديق ومالك شبل وغيرهم، هممن أذيال الاستشراق وأعداء الإسلام؟
تطمح الأنتروبولجيا إلى تخليص الدين من الاستعمال السياسي والإيديولوجيلرموزه ودلالاته، ومن الانفعال النفسي أو التهييج العاطفي الذي يسجنالضمير الفردي أو الجماعي في مخيالات وقوالب تصورية تحكم مصيره وحياتهبرمته، وذلك بالبحث في الأنماط العليا للتخييل، بالمفهوم الذي وضعه جيلبيردوران.
وهذا ما انتبه إليه الباحث الانتروبولوجي يوسف الصديق، إذ يرى أنه «رغمالانقسام والفوضى، ورغم تكاثر المذاهب والجماعات الدينية، التي تقدم نفسهاباعتبارها حاملة لرؤية خاصة وغير مسبوقة للديني، ظلت صيغة وجود النصالقرآني، منذ مقتل عثمان وإثبات الرسالة النبوية في الفضاء المغلق للقرآن،خارج التساؤل. وهي وضعية فريدة يصفها جاك بيرك بدقة:
«إننا نجهل، إذا لم أكن مخطئا، ما هي اللغة التي وعظ بها المسيح، وهذا فيكل الحالات ليس مهما لا بالنسبة للإنجيليين الذين لم يطرحوا هذا السؤال،ولا بالنسبة للمذاهب المسيحية الأخرى. وعلى العكس من ذلك، فأن يكونالتواصل الأصلي قد اختار شكلا خاصا مثبتا في القرآن، وأن يكون هذا الشكلمحملا بالأفعال البشرية المصير الإنساني، وأن ندعي بأنه كلام الله، فهذاالربط الأولي يقدم نفسه كمبدأ ثابت.
كلام بيرك، الباحث الإسلامي، الذي يعتبر نفسه «ضيفا للإسلام» يقصي نهائياالبعد التاريخي لمجيء هذا المبدأ الثابت. ذلك أن لإنشائه بالفعل تاريخاتبعده الكتابات التقليدية بالعنف الذي يدرك بأن «عودة المبعد» تخيف دائما،ويذكر بتحريف كلام الله المحفوظ من المحو. إنه العنف الذي يعتبر أدنىتشكيك في الأثر الممحو فعلا فاحشا. وهذا الإبعاد يجد تفسيره، قبل كل شيء،في التداخل الشائن بين الرؤية السياسية والدينية في المبادرة التي أثبتتالنص».
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رضوان السيد يرد على دراسات قرآنية لمستشرقين ألمان
يقدم رضوان السيد ملاحظاته على دراسات حول القرآن
أصدرها المعهد الألماني للأبحاث الشرقية ببيروت بعنوان: «نتائج البحثالمعاصر في القرآن»، إذ لاحظ أن الناشر أضاف إلى العنوان الرئيس عنواناًآخر فرعياً معناه: «مسألة النص التاريخي: النقدي للقرآن»؛ وهي الملاحظةالتي استدعت منه إبداء ثلاث ملاحظات أخرى، أُولاها- يقول رضوان السيد- «أن المناهج التي اتبعها المستشرقون سابقاً في دراسة القرآن، وخلال حوالىالمئة والخمسين عاماً، تدّعي في أكثرها أنها تاريخية أو تاريخانية ونقدية،وما توصلت لأكثر مما توصل إليه تيودور نولدكه الذي يقع كتابه «تاريخالقرآن» في أولها (إذ صدرت صيغته الأولى عام 1859). والملاحظة الثانية أنما انتهى إليه برتزل وجفري أولاً، ثم بلاشير وبارت ثانياً، هو أن الطريقةالتاريخانية النقدية غير مثمرة، لأنها تتعامل مع القرآن كما تعاملت معالنصوص المخطوطة، والتي لها مخطوطات عدة تختلف نصاً وقِدماً ودقة، وأنهاإنما تريد باستعمال اختلافات النسخ الوصول إلى نص محقق أقرب الى ما كتبه«المؤلف» أو تركه. فهناك بالنسبة الى هذه المدرسة نص أول للقرآن غطته أوحرّفته أو حررته نصوص ثوان وألْسنة، وهي تطمح لإعادته للطبعة الأولى أوللمخطوطة الأولى. وقد حكم نولدكه على هذه المحاولة بالخطل منذ البدايةعندما قال إن النص القرآني يعود الى القرن السابع الميلادي، وليس فيه أَوْلَهُ أصولٌ وفروع، بل هو نص واحد «على غرابة ترتيبه وتركيبه». وما منع ذلككلاً من أوتو برتزل - تلميذ نولدكه، والبريطاني آرثر جفري من جمع اختلافاتالقراءات ومخطوطات القرآن الأقدم، وطوال عقود، الى أن تخليا عن المشروع«التحقيقي» و «النقدي» بعد الحرب الثانية. والملاحظة الثالثة أن الدراساتالقرآنية في الغرب في الثلاثين سنة الماضية غادرت المناهج التاريخانية /النقدية التي سادت في الدراسات القرآنية في عوالم ذاك العالم، الى أربع أوخمس مدارس أو قراءات: القراءة المؤامراتية لما اعتبرته تطورات في تكونالنص القرآني، والقراءة البنيوية، والقراءة التفكيكية، والقراءةالأنثروبولوجية، والقراءة الأدبية والأسلوبية. وفي ما عدا القراءةالتحويرية أو المؤامراتية لا تهدف أي من القراءات المستجدة والمستمرةلاستكشاف أصول النص أو مصادر تكونه وتطوره. والدراسات التي تعرضها أعمالمؤتمر العام 2002، باستثناء واحدة أو اثنتين منها سنعود إليهما، تُخضعالقرآن لإحدى مدراس القراءة تلك. ولذلك ما كان هناك مسوِّغ للعنوان الفرعيللكتاب، إلا لأن الناشر لا تزال تفتنه المقاربات التاريخانية والفيلولوجيةالقديمة، والتي تبدو حلوة ومعقولة في حدود معينة، إذا قورنت بالقراءةالتحويرية والمؤامراتية التي تسود معظم دراسات الشبان الغربيين المعاصرينللقرآن».
ويستمر رضوان السيد في الدفاع عن القرآن بقوله: «للقراءة التحويريةوالمؤامراتية للنص القرآني فرعان رئيسيان: الفرع الذي يرى أنه بقيت من عصرالنبي وصحابته والعصر الأموي قطع ونثائر اختلط فيها الشفوي بالمكتوبوالمدوَّن، ثم جُمعت تدريجياً، وصارت بعد الإضافة والحذف والتحوير نصاًقانونياً حوالى القرن الثالث الهجري. والفرع الآخر الذي يرى أن القرآنإنما هو ترجمة عن نص سرياني لإنجيل فرقة مسيحية في الجزيرة العربية هيالفرقة الأبيونية. وقد أُضيف إليه وحُذف منه، وجرى ترتيبه عبر مئة سنة أوأكثر بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلّم). وتُمثل الفرع الأول كتاباتوانسبورو آخر السبعينات من القرن الماضي، بينما تمثل الفرع الثاني أعمالشبان كثيرين منهم ليلنغ الألماني، ولوكسنبرغ (اللبناني المتألمن) وغيرهماوغيرهما. وطبعاً لكل فرع من الفرعين فروع وتفاصيل تختلف كل منهما عنالأخرى. بيد أن خطها العام التأكيد على أن القرآن الكريم ليس نصاً كتبهشخص معين، بل هو «كشكول» تكون بوعي عبر قرنين أو أكثر. باتريشيا كرونمثلاً ما تخلت عن نظرية الأصول اليهودية ليس للقرآن فقط، بل وللإسلامالأول كله. وهناك آخرون يتحدثون عن الأصول المانوية أو الزرادشتية أو حتى…البوذية! والأمر الآخر الذي يجمع هذه النثائر غير «لا نصية» القرآن- وهوما ذكرناه سابقاً - «المؤامرة»، بمعنى أن كل هذه التطورات والتطويرات تمتبوعي، ولإخفاء «حقائق» نشوء القرآن والإسلام باعتبارهما جزءاً موروثاً أومترجماً عن السريان واليهود، ولمصلحة فكرة الدين المستقل والدولةالامبراطورية التي ظهرت في قرن «الإسلام» الأول!
أطول بحوث الكتاب بحث كلود جيليو، الذي أثنى عليه مانفريد كروب في المقدمةالتحريرية. كلود جيليو المعروف من قبل بأعماله عن سريانية القرآن، ما عادللنغمة ذاتها في هذه الدراسة، بل انصرف لـ «جمع» المادة التي يمكناستعمالها في دراسة تاريخ النص القرآني وتطوراته ومنحنياته خلال القرونالأربعة الأولى. وهي مصادر ومراجع عربية، وسريانية وعبرية، وحدثية. لكنالمصادر العربية هي الغالبة من كتب الناسخ والمنسوخ والى كتب القراءاتوكتب التفسير، والنقط والإعجام… وحتى كتب فضائل القرآن. وهذا العمل لايستحق هذا الثناء، وقد قام به من قبل كثيرون أشهرهم آرثر جفري وأوتو برتزلوبرغشتراسر، عندما كانت الطريقة الفيلولوجية لا تزال سائدة في دراسةالتراث الإسلامي كله. والأمر نفسه يمكن قوله جزئياً عن دراسة فرانسوازكوينزا التي كتبت عن «القرآن والمعجمية التاريخية عند العرب». فقد تتبعتتطورات تعامل المعاجم منذ كتابي العين والجيم مع المفردات القرآنية. لكنهاما اقتصرت على ذلك، بل ألمحت الى الإمكانات الأخرى في فهم المفرداتالقرآنية غير ذات الأصول العربية، واحتمال أن تكون آيات كثيرة قد تكونت منحول تلك المفردات بغرض تأويلها وتفسيرها أو فهمها بطريقة مختلفة. أماالبحوث الأخرى فتُعنى عناية خاصة بوجود دلالات الاختلافات في المخطوطاتالقرآنية المبكرة (سرجيو نوسيدا)، أو علائق القرآن بالشعر الجاهلي (فرانس.كريستوف موت)، والذي اتخذ الباحث فيه من «الطير الأبابيل» في سورة الفيلنموذجاً لذلك، أو علائـق تـطور الكتابة العربية بتضاؤل التقليد الشفويالعربي في الإنشاد والتلاوة (جاك غودي)، أو التحولات في الكتابة بالعربيةوتأثيراتها في النص القرآني (فرانسوا دروش)، أو مقترحـات وأفكار في شأنالمنهج الذي ينبغي مقاربة النص القرآني به (منذر صفار).
البحوث المنشودة في الكتاب لا تُمثل كل ما أُلقي في المؤتمر عام 2002. إذكنت قد قرأت ملاحظات مانفريد كروب عن «المرحلة الشفوية» في تلقي النصالقرآني، وهل يمكن استعادتها استناداً للنثائر الموجودة في كتب قراءاتالقرآن، والدراسة المشتركة لياسين ديتون وغارد بوين عن «الآثار» الأولىللقرآن المكتوب، وما بقي منها، في المصادر الأصلية والفرعية، وكيف يمكنالإفادة منها في قراءة تطورات النص القرآني، وتأملات غابرييل رينولدزلكتاب كريستوف لوكسنبرغ في شأن الأصول السريانية للقرآن. وأذكر أخيراًمحاضرة لوتس أدزارد غير المنشورة أيضاً عن اختلافات القراءات القرآنية،وكيف يمكن الإفادة منها في فهم تكون النص القرآني، وتقرير جين ماكولف عنعملها في موسوعة القرآن (التي صدرت في خمسة مجلدات).
ولست أزعم أن ليس من حق أحد التشكيك في قِدم النص القرآني وأصالته، وأنالمصحف الذي بين أيدينا هو كما تركه النبي (صلي الله عليه وسلّم). إذ هذاأمر يتعلق بنا نحن المؤمنين بأن النص القرآني بكامله موحى. بل الذي أراهأن من حق العلم والدراسة العلمية اعتبار القرآن نصاً قائماً ودراسته علىهذا الأساس، وليس قصر التفكير على الأطروحة الذاهبة بداية الى ان ليس هناكنص في الحقيقة، بل تكوُّن تدريجي وصراعي وعبر قرنين أو ثلاثة. إذ مع هذهالمقولة لا تستقيم حتى الدراسة الأدبية أو الأسلوبية. وهذا الأمر لا ينطبقعلى القرآن فقط، بل وعلى نص مثل كليلة ودمنة أو الأدب الكبير لابن المقفع.بل ان المقالات المنشودة في كتاب المؤتمر، والتي تُعنى كثيراً بتطورالكتابة العربية في الخط والإعجام والرسم، تُظهر بعضها (مقالة نوسيدا) أنالخط الحجازي (السابق على الخط الكوفي) في القرن الأول الهجري، لا تُظهرمخطوطاته اختلافات من أي نوع، تُبرر مقولة وانسبورو في تكوّن وتركيب النصالقرآني عبر قرنين!
أصدرها المعهد الألماني للأبحاث الشرقية ببيروت بعنوان: «نتائج البحثالمعاصر في القرآن»، إذ لاحظ أن الناشر أضاف إلى العنوان الرئيس عنواناًآخر فرعياً معناه: «مسألة النص التاريخي: النقدي للقرآن»؛ وهي الملاحظةالتي استدعت منه إبداء ثلاث ملاحظات أخرى، أُولاها- يقول رضوان السيد- «أن المناهج التي اتبعها المستشرقون سابقاً في دراسة القرآن، وخلال حوالىالمئة والخمسين عاماً، تدّعي في أكثرها أنها تاريخية أو تاريخانية ونقدية،وما توصلت لأكثر مما توصل إليه تيودور نولدكه الذي يقع كتابه «تاريخالقرآن» في أولها (إذ صدرت صيغته الأولى عام 1859). والملاحظة الثانية أنما انتهى إليه برتزل وجفري أولاً، ثم بلاشير وبارت ثانياً، هو أن الطريقةالتاريخانية النقدية غير مثمرة، لأنها تتعامل مع القرآن كما تعاملت معالنصوص المخطوطة، والتي لها مخطوطات عدة تختلف نصاً وقِدماً ودقة، وأنهاإنما تريد باستعمال اختلافات النسخ الوصول إلى نص محقق أقرب الى ما كتبه«المؤلف» أو تركه. فهناك بالنسبة الى هذه المدرسة نص أول للقرآن غطته أوحرّفته أو حررته نصوص ثوان وألْسنة، وهي تطمح لإعادته للطبعة الأولى أوللمخطوطة الأولى. وقد حكم نولدكه على هذه المحاولة بالخطل منذ البدايةعندما قال إن النص القرآني يعود الى القرن السابع الميلادي، وليس فيه أَوْلَهُ أصولٌ وفروع، بل هو نص واحد «على غرابة ترتيبه وتركيبه». وما منع ذلككلاً من أوتو برتزل - تلميذ نولدكه، والبريطاني آرثر جفري من جمع اختلافاتالقراءات ومخطوطات القرآن الأقدم، وطوال عقود، الى أن تخليا عن المشروع«التحقيقي» و «النقدي» بعد الحرب الثانية. والملاحظة الثالثة أن الدراساتالقرآنية في الغرب في الثلاثين سنة الماضية غادرت المناهج التاريخانية /النقدية التي سادت في الدراسات القرآنية في عوالم ذاك العالم، الى أربع أوخمس مدارس أو قراءات: القراءة المؤامراتية لما اعتبرته تطورات في تكونالنص القرآني، والقراءة البنيوية، والقراءة التفكيكية، والقراءةالأنثروبولوجية، والقراءة الأدبية والأسلوبية. وفي ما عدا القراءةالتحويرية أو المؤامراتية لا تهدف أي من القراءات المستجدة والمستمرةلاستكشاف أصول النص أو مصادر تكونه وتطوره. والدراسات التي تعرضها أعمالمؤتمر العام 2002، باستثناء واحدة أو اثنتين منها سنعود إليهما، تُخضعالقرآن لإحدى مدراس القراءة تلك. ولذلك ما كان هناك مسوِّغ للعنوان الفرعيللكتاب، إلا لأن الناشر لا تزال تفتنه المقاربات التاريخانية والفيلولوجيةالقديمة، والتي تبدو حلوة ومعقولة في حدود معينة، إذا قورنت بالقراءةالتحويرية والمؤامراتية التي تسود معظم دراسات الشبان الغربيين المعاصرينللقرآن».
ويستمر رضوان السيد في الدفاع عن القرآن بقوله: «للقراءة التحويريةوالمؤامراتية للنص القرآني فرعان رئيسيان: الفرع الذي يرى أنه بقيت من عصرالنبي وصحابته والعصر الأموي قطع ونثائر اختلط فيها الشفوي بالمكتوبوالمدوَّن، ثم جُمعت تدريجياً، وصارت بعد الإضافة والحذف والتحوير نصاًقانونياً حوالى القرن الثالث الهجري. والفرع الآخر الذي يرى أن القرآنإنما هو ترجمة عن نص سرياني لإنجيل فرقة مسيحية في الجزيرة العربية هيالفرقة الأبيونية. وقد أُضيف إليه وحُذف منه، وجرى ترتيبه عبر مئة سنة أوأكثر بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلّم). وتُمثل الفرع الأول كتاباتوانسبورو آخر السبعينات من القرن الماضي، بينما تمثل الفرع الثاني أعمالشبان كثيرين منهم ليلنغ الألماني، ولوكسنبرغ (اللبناني المتألمن) وغيرهماوغيرهما. وطبعاً لكل فرع من الفرعين فروع وتفاصيل تختلف كل منهما عنالأخرى. بيد أن خطها العام التأكيد على أن القرآن الكريم ليس نصاً كتبهشخص معين، بل هو «كشكول» تكون بوعي عبر قرنين أو أكثر. باتريشيا كرونمثلاً ما تخلت عن نظرية الأصول اليهودية ليس للقرآن فقط، بل وللإسلامالأول كله. وهناك آخرون يتحدثون عن الأصول المانوية أو الزرادشتية أو حتى…البوذية! والأمر الآخر الذي يجمع هذه النثائر غير «لا نصية» القرآن- وهوما ذكرناه سابقاً - «المؤامرة»، بمعنى أن كل هذه التطورات والتطويرات تمتبوعي، ولإخفاء «حقائق» نشوء القرآن والإسلام باعتبارهما جزءاً موروثاً أومترجماً عن السريان واليهود، ولمصلحة فكرة الدين المستقل والدولةالامبراطورية التي ظهرت في قرن «الإسلام» الأول!
أطول بحوث الكتاب بحث كلود جيليو، الذي أثنى عليه مانفريد كروب في المقدمةالتحريرية. كلود جيليو المعروف من قبل بأعماله عن سريانية القرآن، ما عادللنغمة ذاتها في هذه الدراسة، بل انصرف لـ «جمع» المادة التي يمكناستعمالها في دراسة تاريخ النص القرآني وتطوراته ومنحنياته خلال القرونالأربعة الأولى. وهي مصادر ومراجع عربية، وسريانية وعبرية، وحدثية. لكنالمصادر العربية هي الغالبة من كتب الناسخ والمنسوخ والى كتب القراءاتوكتب التفسير، والنقط والإعجام… وحتى كتب فضائل القرآن. وهذا العمل لايستحق هذا الثناء، وقد قام به من قبل كثيرون أشهرهم آرثر جفري وأوتو برتزلوبرغشتراسر، عندما كانت الطريقة الفيلولوجية لا تزال سائدة في دراسةالتراث الإسلامي كله. والأمر نفسه يمكن قوله جزئياً عن دراسة فرانسوازكوينزا التي كتبت عن «القرآن والمعجمية التاريخية عند العرب». فقد تتبعتتطورات تعامل المعاجم منذ كتابي العين والجيم مع المفردات القرآنية. لكنهاما اقتصرت على ذلك، بل ألمحت الى الإمكانات الأخرى في فهم المفرداتالقرآنية غير ذات الأصول العربية، واحتمال أن تكون آيات كثيرة قد تكونت منحول تلك المفردات بغرض تأويلها وتفسيرها أو فهمها بطريقة مختلفة. أماالبحوث الأخرى فتُعنى عناية خاصة بوجود دلالات الاختلافات في المخطوطاتالقرآنية المبكرة (سرجيو نوسيدا)، أو علائق القرآن بالشعر الجاهلي (فرانس.كريستوف موت)، والذي اتخذ الباحث فيه من «الطير الأبابيل» في سورة الفيلنموذجاً لذلك، أو علائـق تـطور الكتابة العربية بتضاؤل التقليد الشفويالعربي في الإنشاد والتلاوة (جاك غودي)، أو التحولات في الكتابة بالعربيةوتأثيراتها في النص القرآني (فرانسوا دروش)، أو مقترحـات وأفكار في شأنالمنهج الذي ينبغي مقاربة النص القرآني به (منذر صفار).
البحوث المنشودة في الكتاب لا تُمثل كل ما أُلقي في المؤتمر عام 2002. إذكنت قد قرأت ملاحظات مانفريد كروب عن «المرحلة الشفوية» في تلقي النصالقرآني، وهل يمكن استعادتها استناداً للنثائر الموجودة في كتب قراءاتالقرآن، والدراسة المشتركة لياسين ديتون وغارد بوين عن «الآثار» الأولىللقرآن المكتوب، وما بقي منها، في المصادر الأصلية والفرعية، وكيف يمكنالإفادة منها في قراءة تطورات النص القرآني، وتأملات غابرييل رينولدزلكتاب كريستوف لوكسنبرغ في شأن الأصول السريانية للقرآن. وأذكر أخيراًمحاضرة لوتس أدزارد غير المنشورة أيضاً عن اختلافات القراءات القرآنية،وكيف يمكن الإفادة منها في فهم تكون النص القرآني، وتقرير جين ماكولف عنعملها في موسوعة القرآن (التي صدرت في خمسة مجلدات).
ولست أزعم أن ليس من حق أحد التشكيك في قِدم النص القرآني وأصالته، وأنالمصحف الذي بين أيدينا هو كما تركه النبي (صلي الله عليه وسلّم). إذ هذاأمر يتعلق بنا نحن المؤمنين بأن النص القرآني بكامله موحى. بل الذي أراهأن من حق العلم والدراسة العلمية اعتبار القرآن نصاً قائماً ودراسته علىهذا الأساس، وليس قصر التفكير على الأطروحة الذاهبة بداية الى ان ليس هناكنص في الحقيقة، بل تكوُّن تدريجي وصراعي وعبر قرنين أو ثلاثة. إذ مع هذهالمقولة لا تستقيم حتى الدراسة الأدبية أو الأسلوبية. وهذا الأمر لا ينطبقعلى القرآن فقط، بل وعلى نص مثل كليلة ودمنة أو الأدب الكبير لابن المقفع.بل ان المقالات المنشودة في كتاب المؤتمر، والتي تُعنى كثيراً بتطورالكتابة العربية في الخط والإعجام والرسم، تُظهر بعضها (مقالة نوسيدا) أنالخط الحجازي (السابق على الخط الكوفي) في القرن الأول الهجري، لا تُظهرمخطوطاته اختلافات من أي نوع، تُبرر مقولة وانسبورو في تكوّن وتركيب النصالقرآني عبر قرنين!
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
«اقرأ».. وجها لوجه أمام القرآن
«إقرأ». هل هذا الخطاب (الفعل الجبريلي) موجه إلى الرسول وموقوف عليه، أم أنه خطاب متجدد ومباشر يعني جميع المتلقين؟
يعتبر المفكر التونسي يوسف صديق أن فعل الأمر الإلهي: «إقرأ» الذي أبلغهجبريل (على افتراض أن الملاك يجهل «أمية» النبي) ثلاث مرات إلى محمد، وردعليه بـ«ما أنا بقارئ» تعرض لابتلاع معرفي من طرف خطاب إسلامي تقليدي رجعيادعى تصحيح كل شفرات القراءة النبوية للقرآن، وهي القراءة التي تنبني،لقياس إيمان المؤمن، على القبول بأن القرآن كلام الله المنزل، مثله مثل«الحديث القدسي»، الذي أصبح بعد قرنين من وفاة النبي، كلاما إلاهيا مضاعفامضمنا في السنة، أي مجموع أقوال وسيرة الرسول.
وإذا صدقنا السنة- يقول يوسف صديق- فإن أي قراءة للوحي لا تستند إلىالخطاب التقليدي تصبح كفرا. ومعنى ذلك أن القراءة الصحيحة والنهائية قدتمت ولا سبيل إلى إعادة قراءة الوحي إلا استنادا على ما قيل وما قام بهالشراح والمفسرون السابقون، علما أن هؤلاء يخضعون لمنطق السياق السياسيالذي يوجدون فيه ويعملون داخله.
لقد قال بعض المفسرين بأن «ما» التي وردت في جواب النبي (ما أنا بقارئ) لمتأت في معنى الإنكار والنفي (أي أنا لست بقارئ، أنا لا أقرأ)، بل جاءتبمعنى الاستفهام، كقولك:» «ما أنا بقارئ؟»» بمعنى: ما المطلوب مني قراءته؟ما المطلوب مني «تبليغه»؟، و»ما المطلوب مني الدعوة إليه أو به؟ فيكونالجواب متناسقاً: اقرأ، أي بلِّغ وأصدع وانشر وادعُ بسم ربك. بينما رأىالبعض الآخر في «ما» أداة نفي، ودالة على «أمية» النبي، ويستدلون على ذلكبقولهم: «لو كان محمدا يكتب ويقرأ لارتاب الذين في قلبهم مرض، ولو كانيحسن الخط والقراءة لصار متهماً في أنه ربما طالع كتب الأولين فحصَّل هذهالعلوم من تلك المطالعة. فلما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على العلومالكثيرة من غير تعلم ولا مطالعة؛ كان ذلك من المعجزات». وهناك فريق ثالثيرى أن السر الأكبر في أمية النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية الخطوقراءة المخطوط هي أن أساس الكلام الإنساني هو الأصوات وليس الخطوط، أي أناللغة بالنسبة للنبي كانت، لساناً وأذناً، «كلام وسمع». لأن أي قوم إذاغيروا أبجديتهم فلا يتأثرون أبداً في كلامهم بين بعضهم وفهمهم للغتهم بليتأثرون بقراءة المخطوط. علماً بأن الكتاب جاء إلى النبي وحياً، أي جاءهبصيغة صوتية غير مخطوطة وسماه الكتاب»، بينما هناك فريق رابع ومنهمالجابري الذيذهب إلى أن المعنى الذي أعطي لكلمة «الأمي» من أنه من يقرأولا يكتب، معنى لا يسنده أصل لغوي سليم، ولا استعمال عربي معهود، ولا واقعتاريخي صحيح. فهو لفظ لم يستعمله العرب في جاهليتهم، بل هو مأخوذ عناليهود الذين كانوا يطلقون على غيرهم ممن ليس لهم كتاب منزل لفظ «الأمم»و»الأميين» وعليه فإن «الأمي» مأخوذ من «الأمة» وليس من «الأم». كما أنكثيرا من الدلائل تشير إلى معرفة العرب بالكتابة والقراءة، فضلا عن إلمامالرسول بها.
ولا يرى يوسف صديق في جواب الرسول (ما أنا بقارئ)، الذي تكرر ثلاث مرات،إلا إرساء للعلاقة بين الوحي الإلهي والرسول، أي التمييز بين فعل التبليغوبين فعل القراءة، أي فك شفرة معادلة تتجاوزه وتتجاوز إمكاناته. لقد أدركالرسول- يقول صديق- أنه باختياره أن يكون مجرد مبلغ سيتخلى عن تفسيرالكلام الذي يتوجب عليه تبليغه فحسب. هذا ما تشير إليه رهبة النبي أمامقعل «إقرأ»، وهذا يحمل معنى عميقا وهو أن هذا الأمر لم يوجه إلى إليهكفرد، وإنما وجه للجميع، أي لمن سيأتي بعده ولمن أتى قبله.
إن طموح يوسف صديق- كما أعلن عن ذلك في مقدمة كتابه- هو وضع هذا النصالمترابط، الذي رفض المبلغ (الرسول) أن يلتزم بقراءته (تفسيره وفك شفراته)ويلزم الآخرين بالخضوع لقراءة مؤرخة (محددة في الزمان)، في موضع تساؤل، أيأنه يطمح إلى إعادة النظر في مجموع الدراسات القرآنية ومساءلة مجموع«الوثائق»، وذلك بطرح الأسئلة التي تجنبها المفسرون القدامى والمحدثون أوأهملوها مرغمين، اعتقادا منه أن وراء المظاهر الخادعة لكل هذا الإنجازالقرائي أو التأريخي حقيقة مؤسسة. ويعتبر أن المادة الخام لهذا العمل هيالقرآن، ولا شيء غيره، رغم كثافة الضجيج الذي يحيط به منذ 15 قرنا، أي أنهيضع نفسه وجها لوجه أمام القرآن، عكس الجابري الذي تناول الظاهرة القرآنيةالتي ليس المقصود بها القرآن فقط، كما يتحدث عن نفسه، في الآيات، بل يدرجفيها أيضاً، مختلف الموضوعات التي تطرق إليها المسلمون، وأنواع الفهموالتصورات «العالمة» التي شيدوها لأنفسهم قصد الاقتراب من مضامينه ومقاصده.
يعتبر المفكر التونسي يوسف صديق أن فعل الأمر الإلهي: «إقرأ» الذي أبلغهجبريل (على افتراض أن الملاك يجهل «أمية» النبي) ثلاث مرات إلى محمد، وردعليه بـ«ما أنا بقارئ» تعرض لابتلاع معرفي من طرف خطاب إسلامي تقليدي رجعيادعى تصحيح كل شفرات القراءة النبوية للقرآن، وهي القراءة التي تنبني،لقياس إيمان المؤمن، على القبول بأن القرآن كلام الله المنزل، مثله مثل«الحديث القدسي»، الذي أصبح بعد قرنين من وفاة النبي، كلاما إلاهيا مضاعفامضمنا في السنة، أي مجموع أقوال وسيرة الرسول.
وإذا صدقنا السنة- يقول يوسف صديق- فإن أي قراءة للوحي لا تستند إلىالخطاب التقليدي تصبح كفرا. ومعنى ذلك أن القراءة الصحيحة والنهائية قدتمت ولا سبيل إلى إعادة قراءة الوحي إلا استنادا على ما قيل وما قام بهالشراح والمفسرون السابقون، علما أن هؤلاء يخضعون لمنطق السياق السياسيالذي يوجدون فيه ويعملون داخله.
لقد قال بعض المفسرين بأن «ما» التي وردت في جواب النبي (ما أنا بقارئ) لمتأت في معنى الإنكار والنفي (أي أنا لست بقارئ، أنا لا أقرأ)، بل جاءتبمعنى الاستفهام، كقولك:» «ما أنا بقارئ؟»» بمعنى: ما المطلوب مني قراءته؟ما المطلوب مني «تبليغه»؟، و»ما المطلوب مني الدعوة إليه أو به؟ فيكونالجواب متناسقاً: اقرأ، أي بلِّغ وأصدع وانشر وادعُ بسم ربك. بينما رأىالبعض الآخر في «ما» أداة نفي، ودالة على «أمية» النبي، ويستدلون على ذلكبقولهم: «لو كان محمدا يكتب ويقرأ لارتاب الذين في قلبهم مرض، ولو كانيحسن الخط والقراءة لصار متهماً في أنه ربما طالع كتب الأولين فحصَّل هذهالعلوم من تلك المطالعة. فلما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على العلومالكثيرة من غير تعلم ولا مطالعة؛ كان ذلك من المعجزات». وهناك فريق ثالثيرى أن السر الأكبر في أمية النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية الخطوقراءة المخطوط هي أن أساس الكلام الإنساني هو الأصوات وليس الخطوط، أي أناللغة بالنسبة للنبي كانت، لساناً وأذناً، «كلام وسمع». لأن أي قوم إذاغيروا أبجديتهم فلا يتأثرون أبداً في كلامهم بين بعضهم وفهمهم للغتهم بليتأثرون بقراءة المخطوط. علماً بأن الكتاب جاء إلى النبي وحياً، أي جاءهبصيغة صوتية غير مخطوطة وسماه الكتاب»، بينما هناك فريق رابع ومنهمالجابري الذيذهب إلى أن المعنى الذي أعطي لكلمة «الأمي» من أنه من يقرأولا يكتب، معنى لا يسنده أصل لغوي سليم، ولا استعمال عربي معهود، ولا واقعتاريخي صحيح. فهو لفظ لم يستعمله العرب في جاهليتهم، بل هو مأخوذ عناليهود الذين كانوا يطلقون على غيرهم ممن ليس لهم كتاب منزل لفظ «الأمم»و»الأميين» وعليه فإن «الأمي» مأخوذ من «الأمة» وليس من «الأم». كما أنكثيرا من الدلائل تشير إلى معرفة العرب بالكتابة والقراءة، فضلا عن إلمامالرسول بها.
ولا يرى يوسف صديق في جواب الرسول (ما أنا بقارئ)، الذي تكرر ثلاث مرات،إلا إرساء للعلاقة بين الوحي الإلهي والرسول، أي التمييز بين فعل التبليغوبين فعل القراءة، أي فك شفرة معادلة تتجاوزه وتتجاوز إمكاناته. لقد أدركالرسول- يقول صديق- أنه باختياره أن يكون مجرد مبلغ سيتخلى عن تفسيرالكلام الذي يتوجب عليه تبليغه فحسب. هذا ما تشير إليه رهبة النبي أمامقعل «إقرأ»، وهذا يحمل معنى عميقا وهو أن هذا الأمر لم يوجه إلى إليهكفرد، وإنما وجه للجميع، أي لمن سيأتي بعده ولمن أتى قبله.
إن طموح يوسف صديق- كما أعلن عن ذلك في مقدمة كتابه- هو وضع هذا النصالمترابط، الذي رفض المبلغ (الرسول) أن يلتزم بقراءته (تفسيره وفك شفراته)ويلزم الآخرين بالخضوع لقراءة مؤرخة (محددة في الزمان)، في موضع تساؤل، أيأنه يطمح إلى إعادة النظر في مجموع الدراسات القرآنية ومساءلة مجموع«الوثائق»، وذلك بطرح الأسئلة التي تجنبها المفسرون القدامى والمحدثون أوأهملوها مرغمين، اعتقادا منه أن وراء المظاهر الخادعة لكل هذا الإنجازالقرائي أو التأريخي حقيقة مؤسسة. ويعتبر أن المادة الخام لهذا العمل هيالقرآن، ولا شيء غيره، رغم كثافة الضجيج الذي يحيط به منذ 15 قرنا، أي أنهيضع نفسه وجها لوجه أمام القرآن، عكس الجابري الذي تناول الظاهرة القرآنيةالتي ليس المقصود بها القرآن فقط، كما يتحدث عن نفسه، في الآيات، بل يدرجفيها أيضاً، مختلف الموضوعات التي تطرق إليها المسلمون، وأنواع الفهموالتصورات «العالمة» التي شيدوها لأنفسهم قصد الاقتراب من مضامينه ومقاصده.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى