المحظور والمُباح في الكلام المُتاح: في بعض عوائق البحث في الدين و السياسة
صفحة 1 من اصل 1
المحظور والمُباح في الكلام المُتاح: في بعض عوائق البحث في الدين و السياسة
انعقدت مؤخّرا
بكلية الحقوق -عين السبع- بالدارالبيضاء ندوة دولية تحت عنوان «العلوم
الاجتماعية و العالم العربي»، نظّمها مختبر الدراسات الاجتماعية و
الاقتصادية LISE بالتعاون مع «مركز جاك بيرك».
شارك في هذا الملتقى
عدد من الباحثين المغاربة نذكر من بينهم عبد الله ساعف و حسن رشيق و محمد
كلاوي و محمد طوزي، كما شارك فيها عدد من الباحثين الأجانب، نذكر من بينهم
ميشيل كامو Michel Camau و يف شيمل Y. Schemeil و بودوان دوبريB. Duprét .
و قد تمحورت أشغال هذه الندوة حول عدد من التقاط تهمّ المفاهيم و
المنهجيات، كما ناقشت وضعية عدد من التخصصات العلمية، و خاصة منها العلوم
السياسية و الدراسات الانتربولوجية و كذا الأبحاث الميدانية.
ضمن هذا الملحق نقدّم للقارئ الكريم النص العربي للمداخلة التي ساهم بها الأستاذ عزالدين العلام في هذا الملتقى العلمي.
لا أدّعي
القدرة على الحديث عن «العلوم الاجتماعية» بصيغة الجمع، و لا الحديث عن
وضعيتها قي مجموع «العالم العربي»، كما هو مطروح في عنوان هذا الملتقى.
كما لا أرى نفسي مؤهلا لإجراء أية عمليات تقييم لهذه «العلوم»، بل أعترف
بأنه يصعب عليّ تماما أن أميّز بكل دقة داخل مجمل الإنتاج الثقافي العربي
بين ما هو «علم» و ما ليس كذلك.
ما أقترحه عليكم بالمقابل، هو
التفكير في بعض العوائق و القيود الملازمة للبحث قي مجالين لا يزالا لحدّ
الآن موضوع سؤال و صراع، و هما الدين و السياسة.
تتّخذ هذه العوائق أشكالا عدّة، أذكر منها ثلاثة :
- عوائق ذات طابع مجتمعي، تعود أساسا إلى ما يمكن أن أسميه بالعقلية الجماعية السائدة.
-عوائق ذات طابع سياسي، تتعلّق بتأثير الدولة السلطوي على حريات البحث و التعبير في بعض المجالات المحدّدة.
- عوائق، أو بالأحرى حدود الجهاز المفاهيمي الذي تستعمله شريحة من الباحثين في العلوم السياسية بهدف فهم آليات الحقل السياسي.
قد يمتعض البعض ممّا قيل على أساس أنّ مجموع العوائق المذكورة، تظل ذات
طابع عام و فضفاض، كُتب حولها الكثير، و تمّت الإشارة إليها مرارا و
تكرارا. اعتراض وجيه...غير أنّ ما يسمح لي، ربّما، بالإشارة إليها هنا،
أني سأتحدث عنها انطلاقا من خمس حالات محددة عشتها شخصيا في مساري
المتواضع كباحث. و لا يتعلّق الأمر هنا بسيرة ذاتية شخصية. عكس ذلك تماما،
أعتقد جازما أنّ ما سأحكيه هو تجربة موضوعية، اقتسمها و يقتسمها العديد من
الباحثين.
1- محظورات البحث في المجال الديني
على خلاف ما قد يعتقد الكثير، يبدو أنّ المجتمع أكثر محافظة من
الدولة نقسها في مجال الدين، و خاصة فيما يتعلّق بأوامره و نواهيه. ذلك
أنّ العقلية الجماعية السائدة، و في بعض الحالات، لا تبدي أي تسامح تجاه
ما تراه خرقا للقواعد و الممارسات الدينية.
من الأكيد طبعا أنّ المجتمع يغيّر باستمرار من عاداته و ممارساته ليتلاءم،
بشكل أو بآخر مع مستجدّات الحياة، و مع ذلك، لا مجال للشكّ في وجود قواعد
و أعراف و ممارسات يصعب جدا المساس بها.
لأي شيء يمكن أن نعزوَ كلّ هذا الحضور، و هذه القوة المحسوسة التي يحظى
بها الدين في المجتمعات العربية ؟ سؤال يصعب تحديد الجواب عنه لتداخل
عوامل عدّة. غير أنّ هذا لا يمنع من أن نجد بعض عناصر الجواب في كون
«الإسلام»، بشكل من الأشكال، دين «مدني»، انغرس منذ زمان في قلب حياة
المسلم اليومية. إنّنا غالبا ما ننسى أنّنا نستبطن «الإسلام» في مظاهر شتى
من حياتنا، فنحن نتزوّج ب«عقد نكاح»، و نطلّق ب«إحسان»، و نرث ب«حصّة
للذكر تعادل حصّة الأنثيين»، كما أننا ندفن أمواتنا بكل الشعائر الإسلامية
المعروفة...و هذا دون أن ننسى تقنين «المعاملات» و ضبط «الحدود» اللذين
كانا، إلى عهد قريب، حكرا على الشريعة الإسلامية. كلّ هذه المعطيات تبرز
مدى تجذّر الإسلام في أدق تفاصيل الحياة اليومية، إلى حدّ يمكن معه القول
إنّ المسلم يكاد يعيش دينه بشكل لا شعوري، بل و أحيانا بشكل دنيوي كما هو
الحال في بعض المناسبات الدينية، مثل عيد الأضحى أو شهر الصيام. و الحال
هذه، من الطبيعي أن لا ترى الدولة (أو الدول) الإسلامية أي مصلحة لها في
تكسير قواعد و ممارسات تضمن لها تلقائيا، و دونما عناء، تعايشا اجتماعيا،
و أمنا نفسيا، و هما شرطان أساسيان يستحيل في غيابهما تصور وجود سلطة
سياسية.
بعيدا عن كلّ حكم قيمة في شأن هذه القواعد و الممارسات، لا بدّ من
الاعتراف بأنّ ما يغلّفها من ذهنية أو عقلية سائدة ، تحول في بعض الحالات
المحددة، دون حرية الباحث و الكاتب عموما في التعبير عن آرائه.
- الفكاهة و المقدّس
كلمتان يصعب الجمع بينهما، خاصة في هذه السنوات الأخيرة التي تشهد
نوعا من التشدد المتزايد في الدين، و ما صاحب ذلك من تصاعد للحركات
الإسلامية، المعتدلة منها والراديكالية. تحيل الكلمة الأولى على الطُرفة و
الخفّة و السخرية و الهزل، بينما تحيل الثانية على التبجيل و الخشوع و
التقدير والاحترام. و لكن، هل يتعلّق الأمر فعلا بتعارض لا مجال فيه
للتصالح؟ ألا توجد خيوط واصلة بين الطرائف المسلية و الشعائر الدينية؟ و
كيف نفسّر عشرات الكتابات الساخرة حول الكنيسة و رجال الدين في الغرب
المسيحي؟ و كيف يمكننا قراءة العديد من الدراسات حول «الفكاهة اليهودية»؟
و بالمثل، لا يبدو هناك تعارض مطلق بين الطُرفة و الدين في الحضارة
العربية الإسلامية. و يكفي كدليل على ذلك استقراء أمهات المصادر التراثية
التي خلّفها لنا فقهاء و أدباء، أمثال الجاحظ و الإبشيهي و ابن الجوزي و
التوحيدي و المعرّي و المتنبي و أبونواس و التيفاشي...لنتأكد كيف كان
هؤلاء يوجّهون سهام نقدهم الساخر لبعض رجال الدين من دعاة و معلّمين و
مفسّرين و محدّثين و أئمة و مؤذنين و قضاة و فقهاء، بل و حتّى «خلفاء»
المسلمين أنفسهم، و لنرى أيضا كيف كان هؤلاء يسوقون عشرات الطرائف عن
صحابة الرسول، بل إنهم لم يكونوا ليجدون غضاضة قي الاستشهاد برسول الله، و
هو القائل: «أنا أمزح و لا أقول إلا صدقا».
و اليوم، ما هي وضعية الفكاهة «الإسلامية»؟ أطرح السؤال لأني غامرت يوما،
بمناسبة ندوة دولية حول «الإسلام و المعيش الإسلامي»، بالبحث في موضوع
«النكتة و الدين». هكذا، معزّزا بالعشرات من الطرائف التي يزخر بها تراثنا
الإسلامي، و مستعينا ببعض الدراسات الحديثة حول الفكاهة المسيحية و
اليهودية، قرّرت أن أشتغل على «متن» دراسي يتكوّن من حوالي خمسين «نكتة»
أو طُرفة تتعلّق كلها بالمجال الديني.
و كأي باحث، جاهدت من أجل تفكيك محتويات «المتن»، باحثا عن المعنى
واللامعنى، منتبها للمصرّح به و المسكوت عنه، محللا ما تعجّ به الطرائف من
استعارات و توريات...و أخيرا، اهتديت إلى تقسيم بحثي إلى محورين اثنين،
خصّصت أولهما لما أسميته ب«الفضاءات الدينية»، مثل الجنة و جهنّم و المسجد
و الكنيسة و الأضرحة و الكتّاب القرآني...كما خصصت المحور الثاني للحديث
عمّا أسميته ب«الوجوه الدينية»، مثل الفقيه و الإمام و المؤذن و الولي
الصالح، دون أن ننسى العديد من الطرائف التي تكون الملائكة و الرسل طرفا
في مجريات أحداثها.
لا يتعلّق الأمر هنا بتفصيل مضامين ما بحثت فيه، و لكن بالأحرى الإشارة
إلى الصعوبات الكبرى التي واجهتها و أنا أصوغ فقرات بحثي باللغة العربية.
فبجهد لغوي كبير، من أجل التخفيف من وطأة النكات أو الطرائف التي غالبا ما
تكون صريحة و لاذعة في دلالاتها، و بحرص شديد في انتقاء الكلمات بهدف
اجتناب كل صياغة مباشرة من شأنها خدش المعتقدات، تمكّنت من صياغة المحور
الأول المتعلق بالفضاءات الدينية، دون أن أتمكّن من إنهاء المحور الثاني
الخاص بالوجوه الدينية، اللهم إلا ما مان من بعض الفقرات المتعلقة
ب«الفْقيه» (أي معلم الصبيان بلغة الجاحظ)، و بالمؤذن و «الطُلبة». أما
باقي «الوجوه الدينية»، فبدا لي أمر صعب، إن لم أقل غير آمن، الكتابة عنه،
و خاصة باللغة العربية. و النتيجة أني قررت بكل بساطة أن أراقب ذاتي، و
أعدل عن جزء مهم من بحثي.
و الواقع أنّ رقابتي لذاتي لم تقف عند هذا الحدّ، ذلك أني لم أشارك في
الندوة المذكورة بمداخلة «عرجاء» فقط، بل قررت أيضا، و في آخر لحظة، أن
يكون تدخلي باللغة الفرنسية، أختبئ بين كلماتها. فما يمكن قوله في المغرب
بلغة أجنبية، قد لا يُسمح به باللغة العربية.
- شهر الصيام
في دراسة جماعية بعنوان « الإسلام المعيش: بحث في القيم و الممارسات
الدينية بالمغرب»، كتب الباحث محمد الطوزي : « يصعب أن نحصر شهر رمضان، و
هو شهر الصيام، في دائرة الظواهر الدينية. إذ أنّه واقعة اجتماعية كلية
تتجدد سنويا. إنّ صوم رمضان شأن معياري إلى حدّ أننا لم نجرؤ على إدراجه
مباشرة كسؤال. إذ بدا لنا من المجازفة أن نسأل المغاربة فيما إن كانوا
يصومون رمضان أم لا، خاصة و أنّ الصيام يعتبر الحدّ الفاصل بين المسلم و
غير المسلم (...) و هكذا، فإنّ موقف السلطات العمومية القاضي باعتبار صيام
رمضان أمرا مفروغا منه، و إبطاله علنا بمثابة مسّ بالنظام العام، يجد له
صدى عند أغلبية المستجوَبين، كما وجد له صدى في اختيارنا نحو عدم طرح
السؤال عاريا، و الاكتفاء بمدى درجة الصيام التطوّعي.»
أدرجت هذا الاستشهاد لأبرز كم هو صعب، إن لم يكن أمرا محفوفا بالمخاطر،
مساءلة بعض القضايا التي تهمّ الدين الإسلامي. نعم، لا يمكن أن ننفي
التقدّم الهائل الذي حققته الدراسات المهتمة بالإسلام، و لا أن نغض الطرف
عن الزخم الهائل من الأدبيات التي جعلت منه موضوعا لها، و لكن لا يمكننا
مع ذلك إلا أن نعترف بحدود حرية الباحث، و الكاتب عموما، في التعبير عن
آرائه حول مواضيع «محرّمة»، و على رأسها شهر الصيام الذي ينعدم في شأنه كل
«تسامح»، كما أوضح ذلك الباحث حسن رشيق في نفس الدراسة الجماعية السابقة
الذكر.
في نفس السياق، أودّ منكم أن تشاركوني تجربة شخصية، عشتها عندما كنت أحرّر
كتابا، صدر مؤخرا بعنوان «تحرير الكلام في تجربة الإسلام»، أحكي فيه عن
علاقتي بالدين الإسلامي.
يطرح هذا الكتاب بشكل عام وجوه الإسلام المتعددة التي عشتها و ما أزال.
ففي فترة الطفولة، عشته بشكل تلقائي، عفوي و «ثقافي» (بالمعنى
الأنتربولوجي للكلمة). و في مرحلة المراهقة، رفضته و خاصمته باعتباره
مخدّرا للشعوب و ضدّ العقل، و في مرحلة لاحقة (قد تكون مرحلة النضج) أصبح
الإسلام عندي موضوع بحث و سؤال و استقصاء. لا يتعلّق الأمر هنا، مرّة أخرى
بشرح مضامين كل مرحلة، و لكن فقط الإشارة إلى مدى إحساسي بحريتي في
الكتابة، و أنا أتحدّث عن إسلام «ثقافي» طبع طفولتي، أو عن إسلام أصبح
«موضوع بحث» في دراستي بالجامعة كطالب و تدريسي فيها كأستاذ. مقابل ذلك،
عانيت صعوبات عدّة في التعبير عن رفضي للإسلام و خصامي معه في فترة
مراهقتي، و خاصة عمّا كان يخالجني من أفكار و أحاسيس تخصّ شهر الصيام. و
على الرغم من كل المجهود الذي بذلته في انتقاء كلماتي علّني أليّن حدّة
تجربتي، كنت أراني مسمّرا أمام أوراقي، و جسدي في حالة توقف، مترددا في
مواصلة كتابتي...و أخيرا، و بما أنّ الحذر من طبعي، قررت مرة أخرى أن
أراقب ذاتي، و أنشر حكايتي ناقصة في كتاب مبتور ممّا لا يقلّ عن عشر صفحات
أحكي فيها عن علاقتي بهذه «الشعيرة» الدينية.
سوف يكون من السخافة أن يحصر المرء الموضوع في أداء هذه الفريضة من عدمه.
فأنا أتحدث هنا عمّا يفوق العشر صفحات، و من غير المعقول أن يكرّر الكاتب
طيلة كل هذه الصفحات نفس الجملة التقريرية التي تؤكد أداءه لهذه الشعيرة
أو إهماله لها. الموضوع أعمق من فعل يؤول أمره في نهاية المطاف إلى علاقة
العبد بخالقه، و لا يتعدّى ضرره، إن حصل هناك ضرر، صاحب الفعل نفسه، تماما
كتارك الصلاة، على حدّ تعبير فقهاء الإسلام.
القانون العام الإسلامي !
من بين الأشياء التي تثير الاستغراب في الإنتاج الثقافي العربي، الكمّ
الهائل من الكتابات التي تراكمت منذ عقود، و التي ترى أن لا شيء ينقص في
الإسلام، فهو مطلق و كامل، يتضمّن كل الأشياء. فيه كلّ الحقوق و الواجبات،
القانون و المؤسسات، الديمقراطية و الحريات...قد يكون مثل هذا الكلام
مفهوما حين يتفوّه به دعاة و وعاظ و مبشّرون، بل و حتّى حركيون سياسيون،
لا همّ لهم في البحث و السؤال و لا هم يحزنون. أمّا و أن ينطق به مثقفون و
باحثون و جامعيون، فذاك حقا مدعاة للاستغراب!
لا يتعلّق الأمر هنا بمفكرين متشدّدين رافضين لأسس الحضارة الحديثة، و ما
يأتي منها، بل يشمل أيضا عددا من المفكرين و الباحثين الذين يستنيرون
بمبادئ العقل الحديث. فبعضهم، و إن كان يؤكد على الأساس الغربي للنهضة
العلمية و مقومات الدولة الحديثة، تراه يتلكؤ و يداهن حين يتعلّق الأمر
بالتجربة العربية الإسلامية، فيلفق أقوالا، من هنا و هناك، مفادها غياب أي
تناقض، و انتفاء كل تعارض بين مقدّمات التحديث و مقوّمات الحضارة العربية
الإسلامية.
ما سرّ هذا الخطاب التبريري؟ و كيف يحدث أن يستشهد مفكّر كبير بما يفوق
خمسين آية قرآنية، جنبا لجنب، مع نصوص منتقاة من كتابات «جون لوك» و
«إعلانات حقوق الإنسان» ليقول لنا أننا مثلهم، إن لم نكن سبقناهم في مجال
«الديموقراطية» و «حقوق الإنسان» منذ زمان و زمان؟ و لماذا هذا الخلط
القاتل بين إسلام معياري، ظلّ المسلم، و لا يزال، يحلم به، و إسلام
تاريخي، هو الوحيد الذي يمكن للباحث أن يستقرئ معطياته؟
في سنة 2004، كان علّي أن أدرّس مادة بعنوان «مدخل إلى القانون العام
الإسلامي». أثارني هذا العنوان لسببين: أوّلهما أني كنت بالأمس أنتمي
لشعبة القانون العام كطالب جامعي، و ثانيهما أني اليوم أهتمّ بالتراث
السياسي الإسلامي كأستاذ باحث. أتذكّر كل فروع القانون العام التي درستها،
فلا أجد فيها أثرا للإسلام، و أستعرض أمامي مئات النصوص السياسية
الإسلامية التي تمكّنت من الاطّلاع عليها، فلا أجد أثرا لأي قانون عام. و
تساءلت كيف تسنّى للبعض الجمع في عبارة واحدة بين ما ليس بمجموع؟ بل، و
كيف تمكّن أساتذة جامعيون، في زمن قياسي، من إصدار كُتب-مقرّرات تحمل
عنوان «المدخل إلى القانون العام الإسلامي»؟
و بما أني أصبحت أكثر حرصا على تحاشي كل خطاب إثباتي، ديماغوجي، مفرط في
إيديولوجيته، و تافه بتبريريته، ما كنت لأدرّس طلبتي تشريعات بعض الفقهاء
«المدنية»، معتبرا إياها قواعد سياسية، و ما كنت لأستعرض أمامهم أحلام بعض
الفلاسفة و أمانيهم باعتبارها قواعد عامة، كما نأيت بنفسي عن أن أقرأ
عليهم نصائح و أخلاقيات مؤرخين و أدباء تبرّر الاستبداد السياسي الإسلامي،
و أنا أعرف أنّ القوانين العامة، و على رأسها القانون الدستوري، تسعى لضبط
سلوك الدولة و تقنين مؤسساتها. هكذا قُدّر لي أن أُدرّس هذه المادة سنة
بكاملها لأبرز، من خلال نصوص و وقائع و مقارنات، أن لا وجود لشيء يمكن أن
أسميه حقا «قانونا عاما إسلاميا».
2- محظورات البحث في المجال
السياسي
ما سأتحدّث عنه في هذا المحور الثاني هو، بشكل غير مباشر، وضعية العلوم
السياسية بالمغرب،و هي وضعية متعثرة و هشّة بشهادة العديد من الباحثين.
يقول عبد الله العروي: «إنّ العلم الذي يبحث في اجتماعيات الدولة، أي علم
السياسات مهجور في مجموع البلاد العربية، و إن ّما أنجز من دراسات في هذا
المجال تمّ في إطار معاهد أجنبية.» ، و يضيف في مكان آخر: «إن المسؤولين
العرب يشمئزون من كل بحث موضوعي -في نطاق ما تعنيه الكلمة في العلوم
الإنسانية- حول أصول سلطتهم و وسائل نفوذهم»، ثم يتساءل: «هل تقبل الأنظمة
العربية أن تدرس بكيفية موضوعية حسب المناهج التقديرية الحديثة، لا في
معاهد أجنبية بل في مؤسسات وطنية؟ أن تُدرس الأوضاع السياسية العربية
علميا في الخارج شيء، و أن تُدرس في الداخل شيء آخر...»
و من وجهة أخرى، يلاحظ عبد الله ساعف أنّ علم السياسة في المغرب ضعيف، و
إنتاجه هزيل، و مضمونه غير متبلور بشكل واضح و مستقل.... و عن الفترة
الأخيرة، يلاحظ نفس الباحث أنّ المغرب شهد إنتاجا سياسيا لا بأس به، غير
أنّه يظل هزيلا، و في ارتباط وثيق بالعمل الجامعي _الأكاديمي، إضافة إلى
أنّه في الغالب الأعم لبس لباسا قانونيا شكليا، أو أنه اهتمّ بمجال
«العلاقات الدولية»...
لا وجود لهذا العلم إذن بمعناه المؤسساتي، و ليس أمرا غريبا أنّ يكون علم
السياسة بالمغرب علما «مهاجرا»، ليس فقط بالمعنى المكاني، بل، و على
الخصوص نحو مجالات معرفية أخرى. فلكي يعيش «عالم السياسة»، فإنّه تارة
يتحوّل، كما أشار إلى ذلك محمد الطوزي إلى «مؤرخ» للوقائع و المؤسسات، و
أخرى إلى «مؤرخ» للأفكار...(الأطروحات الجامعية المغربية في العلوم
السياسية تؤكد ذلك) . و من جهته، يوضّح الباحث حسن رشيق كيف أنّ هذا العلم
تتقاسمه نزعتان أساسيتان هما الأنتربولوجيا و التاريخ. «و في الحالتين
معا، تبقى المسلّمة الأساس هي أنّ علم السياسة غير كاف لوحده لفهم بلد مثل
المغرب، و بالتالي لا بدّ من الاستعانة بالأنتربولوجيا أو بالتاريخ. ».
«علم السياسة» بالمغرب إذن، كما لاحظ هؤلاء الباحثون، علم «مهجور» و «مهاجر» و «هزيل».
لا يدخل طبعا في نطاق هذه الدراسة تحليل وضعية العلوم السياسية بالمغرب، و
لكن فقط الإشارة إلى بعض العوائق التي لازمت ظهور هذه العلوم و مسارها
بالمغرب، و ذلك من خلال تجربة شخصية تعكس، في اعتقادي، واقعا موضوعيا
اختبره العديد من الباحثين المهتمين بهذا المجال. تتعلّق الأولى بمدى حرية
الباحث في اختيار مواضيع بحثه و طرق تحليلاته، و تختصّ الثانية بمدى نجاعة
بعض المفاهيم المستعملة في إدراك حقيقة الواقعة السياسية بالمغرب.
- حينما تختبئ العلوم السياسة
في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، كنت واحدا من جماعة من الطلبة،
خريجي شعبة «العلوم السياسية»، أبحث عن موضوع يكون عنوانا لأطروحتي
الجامعية. و بغضّ النظر عن طبيعة المواد التي درستها كطالب طيلة السنوات
التي قضيتها في هذه الشعبة و مدى علاقتها حقّا ب«العلوم السياسية»، وقع
اختياري أخيرا على موضوع «الآداب السلطانية» كعنوان لأطروحتي. لماذا الغطس
في هذا الماضي السحيق بدل البحث في موضوع يهمّ حقا مجال «العلوم
السياسية»؟ تساؤل
تبدّدت عناصر جوابه حينما تصفّحت عناوين أطروحات زملائي التي تحمل معها
أكثر من دلالة. فمنهم من جعل من تاريخ الأفكار السياسية موضوعا له، و منهم
من اكتفى بنصوص القوانين الدستورية عنوانا لأطروحاته، و منهم من عاد
لوقائع و مؤسسات الماضي يبحث فيها، كما كان هناك من بينهم من اختار بعض
الظواهر و الوحدات الاجتماعية ليبحث قي انعكاساتها السياسية، و منهم أيضا
من سافر بعيدا ليبحث في قضايا تهمّ القانون الدولي و العلاقات الدولية.
مهما قيل عن تنوّع مواضيع «العلوم السياسية»، فإنّ موضوعها المركزي، خاصة
إن كانت في بداية تأسيسها كما هو الحال في المغرب، هو البحث في مقوّمات
الدولة، و آليات السلطة السياسية، ليس من وجهة تاريخية تبحث قيما مضى أكثر
من بحثها فيما يقع هنا و الآن، و لا أيضا من منظور قانوني ينحصر مداه في
الحرفية الدستورية. و هنا أتساءل: كيف حدث أن توزّعت، أو بالأحرى اختبأت
أبحاث جيل بكامله في مجالات أخرى تهمّ تاريخ الأفكار و المؤسسات السياسية،
و الدراسات القانونية و الأبحاث الأنتربولوجية؟
لا أملك جوابا قطعيا. هل كان الأمر اختيارا إراديا عفويا؟ هل كانت تمليه
ظروف الجامعة المغربية و المحيط السياسي العام؟ و ألا يكون في نهاية
المطاف حذرا و تهيبا من مناقشة مواضيع تدخل في صلب الواقع السياسي المغربي؟
مهما كان الجواب، يبدو، من خلال تصفحنا لمختلف المنشورات المغربية من كتب
و رسائل و أطروحات جامعية منذ 1956 إلى السنوات القليلة الأخيرة، و فيما
لو قمنا بجرد أولي لمختلف «العناوين» التي تشير من قريب أو من بعيد إلى
المجال السياسي، أنّ العلوم السياسية تظلّ فعلا كما لاحظ ذلك عبد الله
العروي من «أسوأ العلوم حظّا».
هكذا نجد كتابات «تاريخية» تتحدّث عن زمن الدولة و مسار مؤسساتها، أو تؤرخ
لبعض الأحداث السياسية، و حتّى الأفكار السياسية. و كتابات «قانونية»
تتناول بالوصف غالبا، و بالتحليل أحيانا موضوع الدولة و سلطاتها و
مؤسساتها و علاقاتها الخارجية. و كتابات ذات منحى«فلسفي» تتحدّث من وجهة
نظر شمولية عن مشكلات النهضة و الدولة و الإصلاح و المجتمع. و كتابات
«دينية» عامة، و أحيانا فقهية، تحمل في طياتها بعدا سياسيا و تصورا للمجال
السياسي. و كتابات «تراثية» تعتمد على تحقيق و تقديم بعض الإنتاجات
السياسية لمفكرين مغاربة و مشارقة. و كتابات «انتربولوجية» تهتم بمختلف
«الوحدات الاجتماعية»، و علاقاتها مع السلطة. و كتابات «سير ذاتية»، و هي
في الغالب الأعم مذكرات لبعض رجال السياسة في المغرب (وطنيون وقدماء
المقاومين و أعضاء جيش التحرير و بعض زعماء الأحزاب).
وأخيرا هناك كتابات تندرج في إطار علم السياسة، و هي أولا قليلة، و ثانيا
حديثة العهد. و قد تكفي الإشارة هنا إلى أنّ ما صدر في المغرب خلال العشر
أو الخمس عشرة سنة الأخيرة حول الدولة و الأحزاب و الانتخابات و النظام
الدستوري و السياسي...يفوق على هزاله ما صدر خلال أربعين سنة، و لذلك
دلالته التي لا تخفى .
لم يحقق هذا العلم تراكما حقيقيا يسمح للباحث بالوقوف على حقيقة الواقع
السياسي المغربي بمقوّماته و آلياته و فاعليه و محيطه. و لا يملك هذا
العلم بعد، تاريخا يسمح له بفرض نفسه كعلم قائم الذات...أما السبب فواضح:
قديما لم تكن الدولة المغربية (بل و كل الدول التي تعاقبت على الرقعة
العربية الإسلامية)، بحاجة إلى «علم» يعري أسسها، و.يفضح استبدادها. ومع
بداية استقلال المغرب، وإلى غاية بداية التسعينيات، حافظت الدولة، لأسباب
تاريخية و عوامل سياسية، لا مجال لاستحضار تفاصيلها، على قدر غير قليل من
استبدادها، و لم تبزغ تباشير ظهور علم سياسة بالمغرب إلا مؤخرا، و تحديدا
مع إمكانية الحديث «العمومي» عن الديمقراطية و الانتقال الديمقراطي و
التناوب السياسي...الخ. ليس غريبا إذن أن ظلّ الحديث عن السياسة مختبئا ما
يقارب أربعة عقود من استقلال المغرب داخل مجالات معرفية أخرى تهم التاريخ
و القانون و الفلسفة و الدين و الأدب، ليتخلص اليوم شيئا فشيئا من
عباءاتها عساه يحقق ذاته و استقلاليته.
و بناء عليه، ألا يمكن القول أن الانتقال الصعب و المعقد و المؤلم و
المتقطع أحيانا من دولة السلطان التقليدية (التي لا حاجة لها بعلم قد
ينتقدها و يعري أسسها) إلى سلطان الدولة الحديثة (التي تتأسس على قاعدة
الشأن العمومي و قيم المشاركة السياسية) عكَس في كثير من جوانبه هذا
الظهور المتعثر لعلم السياسة.
- في حدود المفاهيم
بالتزامن مع انفتاح الدولة المغربية، و تحرّك المجتمع المدني، ظهر
العديد من الدراسات و المقالات و الكتابات حول الدولة و الأحزاب و
النقابات و الجمعيات و المواطنة و الديمقراطية و حقوق الإنسان و الدستور،
و غيرها من المواضيع التي تهم المجال السياسي. لا ندعي هنا القيام بجرد
لما كُتب حول المشهد السياسي المغربي في السنوات الأخيرة، و لكن، ربّما
يكون علينا توخّي شيء من الحذر أمام كثرة هذه الدراسات، حتّى لا ننتظر من
أغلبها ما هي عاجزة عن تحقيقه.
فإذا كانت العوائق السابقة في أغلبها عوائق موضوعية، قد تكون مجتمعية تخصّ
العقلية الجماعية السائدة، كما قد تكون سياسية ناتجة عن تأثير الدولة
السلطوي، فإنّ هذا العائق الأخير يعود للباحث نفسه، و تحديدا لمدى نجاعة
استعماله لبعض المفاهيم السياسية الحديثة لمعرفة الواقع السياسي المغربي.
للعلوم السياسية، كسائر العلوم الاجتماعية، مفاهيمها الخاصة التي تشتغل
بها مثل: الدولة و المؤسسة و الحزب و الصوت الانتخابي و الحكومة و
البرلمان و الاقتراع و الدستور و الحريات العامة و المواطنة و الحق و
القانون و المشاركة السياسية و المعارضة...وهنا أتساءل: هل يمكن للباحث أن
يستعين بهذه المفاهيم «الحديثة» في تحليله للوقائع السياسية المغربية؟ ألا
يرتكب هذا الباحث خطأ معرفيا قاتلا باستعماله لمفاهيم يبدو أنّ علاقتها
العضوية بالواقع السياسي المغربي غير مؤكّدة. و ألا يصبح استعمالنا لهذه
المفاهيم المرتبطة تاريخيا بمسار الدولة الحديثة، تعبيرا منا عن طموح و
رغبة في أن تتأسس، أكثر مما هي أدوات لتفسير واقع سياسي؟
هذا التساؤل المنهجي هو ما طرحته على نفسي، و أنا بصدد البحث في بعض
المواضيع التي تخصّ المغرب الحديث. ففي إحدى المناسبات، كنت بصدد تهيئ
دراسة حول التاريخ الانتخابي للمغرب المستقل. و كأي باحث، استقصيت كل
المعطيات الضرورية المتعلقة بالقوانين الانتخابية، والحملات الانتخابية
للأحزاب المشاركة، و النتائج النهائية المحصّل عليها، و نسب المشاركة
النسائية و الشبابية، و نسب مشاركة البوادي و المدن الصغرى و الكبرى...و
أمام كل هذه المعطيات، تبيّن لي كم هو صعب أن نستخلص نتائج ذات مصداقية
انطلاقا من هذه المعطيات الظاهرة. فهل نستطيع استنادا على نسب المشاركات
الانتخابية التي عرفها المغرب منذ الاستقلال، أو المشاركة النسائية التي
فاقت مشاركة الرجال في كثير من المحطات، أو نسبة هذه المشاركة في بعض
البوادي المغربية التي فاقت نسبة مشاركة عدد من المدن، هل يحق لنا أن
نستنتج من هذه المعطيات الكمية أن نساء المغرب أكثر تسيّسا من رجاله، وأن
هذه البادية أو تلك أكثر اهتماما بالشأن العام من مدينة عمالية كبيرة مثل
الدارالبيضاء؟ و بكلمة،هل يكون لتطبيق المناهج الاستقرائية والكمية و
الإحصائية من معنى أمام ظاهرة انتخابية يجتمع فيها في آن واحد تدخّل
السلطات، و العمق «الانتروبولوجي» للناخب المغربي؟
كثيرة هي العلامات التي تدفع الباحث في «العلوم السياسية» لمزيد من الحذر
في استخلاص نتائجه. فهل يمكن مثلا تحليل الدولة و النظام السياسي المغربي
بالاكتفاء بمنطوق القوانين الدستورية و المدونات القانونية؟ و متى كانت
القاعدة القانونية مطابقة للحقيقة الاجتماعية والسياسية، وهل بجرة قلم
يمكن أن نمحو الهوة و نذيب المفارقة القائمة بين ما يقوله القانون و ما
ينطق به الواقع؟ و من يكون هذا الباحث اليوم الذي يمكنه أن يدّعي القبض
على منطق السلوك السياسي للأحزاب المغربية، إن كانت هي نفسها غارقة في
تجريبية فجّة، لا عقل سياسي يحكمها؟ و من يستطيع ضبط تحالفاتها، إن كانت
هي نفسها، تقول في الصباح ما لا تفعله في المساء؟
يفترض هذا العلم آليات و ميكانزمات «وضعية» تسيّر الحياة السياسية و تتحكم
فيها، و يكون بالإمكان تحليلها و رصد تفاصيلها و جزئياتها، بل و أيضا
استشراف مآلها. و الحال هذه، لا نبالغ إن قلنا إنّ الحياة السياسية
المغربية تبدو وكأنها موزعة بين حياتين: حياة ظاهرة، تطفو على السطح، نقرأ
عنها في الصحف والكتب ونسمع عنها ونشاهدها في وسائل الإعلام، وحياة باطنة،
هي منبع القرار السياسي، و يصعب خرق أسرارها. وبالتالي، هل يكون«التحليل
السياسي» لمثل هذا الوضع أمرا ممكنا؟ ألا نكون في حاجة إلى «عرفان» سياسي
قادر بحدسه على تفكيك شفرة أسرار وضع سياسي، قد تعجز العلوم السياسية
ب«وضعانيتها» على سبر أغواره؟
إن أكبر صعوبة تعترض هذا «العلم» هي بالضبط الحالة الانتقالية التي يعيشها
المغرب، هذا التشكل المتغير دوما لمختلف فاعليه. فالدولة تحمل معها ماضيها
السلطاني آملة في التخلص من ترسباته، والمواطن يحس بانتمائه الجماعي،
القبلي و الإثني، و بعلاقة «الإرعاء» التي تجمعه مع الحاكمين أكثر ما يحس
بذاته و فردانيته و استقلاليته، و انتخاباتنا المحسوبة على رؤوس الأصابع
تتماوج بين الولاء السلطوي و القبلي، و الاقتناع الفردي الحر...يبدو أننا
في حاجة إلى علم سياسة من نوع خاص، يمكنه القبض على حقيقة واقع سياسي، كل
شيء فيه ينتقل بدءا من الدولة إلى المواطن، مرورا بالأحزاب و النقابات
والجمعيات و المؤسسات...
و أخيرا، ورغم كل ما قيل عن ارتباط العلوم السياسية بتحديث الحقل السياسي
و دمقرطته، و رغم كل المآخذ التي يمكن توجيهها إلى طبيعة الدولة...فإن
الاكتفاء بمثل هذا التصور يظل قاصرا و محدودا لعدة أسباب أهمها أن مفاهيم
التحديث و الديموقراطية ليست فقط مسألة «سياسية» و «إرادوية»، و لكنها
أيضا، و بالأساس مسألة مجتمعية و مدنية تهم الأسرة و الجماعة و المدرسة و
المؤسسة... فبقدر ما لا نكف عن ترديد القول بعسر انتقال المجال السياسي من
التقليد إلى الحداثة، ننسى، و بالتساوق مع ذلك الحديث عن عسر الانتقال
المجتمعي من «رعايا» عليهم «اجتناب الخوض في أسباب السلطان» إلى «مواطنين»
يهمهم أمر الشأن العام، و هذا موضوع آخر...
عزالدين العلام
الاتحاد الاشتراكي (21-1-2011)
بكلية الحقوق -عين السبع- بالدارالبيضاء ندوة دولية تحت عنوان «العلوم
الاجتماعية و العالم العربي»، نظّمها مختبر الدراسات الاجتماعية و
الاقتصادية LISE بالتعاون مع «مركز جاك بيرك».
شارك في هذا الملتقى
عدد من الباحثين المغاربة نذكر من بينهم عبد الله ساعف و حسن رشيق و محمد
كلاوي و محمد طوزي، كما شارك فيها عدد من الباحثين الأجانب، نذكر من بينهم
ميشيل كامو Michel Camau و يف شيمل Y. Schemeil و بودوان دوبريB. Duprét .
و قد تمحورت أشغال هذه الندوة حول عدد من التقاط تهمّ المفاهيم و
المنهجيات، كما ناقشت وضعية عدد من التخصصات العلمية، و خاصة منها العلوم
السياسية و الدراسات الانتربولوجية و كذا الأبحاث الميدانية.
ضمن هذا الملحق نقدّم للقارئ الكريم النص العربي للمداخلة التي ساهم بها الأستاذ عزالدين العلام في هذا الملتقى العلمي.
لا أدّعي
القدرة على الحديث عن «العلوم الاجتماعية» بصيغة الجمع، و لا الحديث عن
وضعيتها قي مجموع «العالم العربي»، كما هو مطروح في عنوان هذا الملتقى.
كما لا أرى نفسي مؤهلا لإجراء أية عمليات تقييم لهذه «العلوم»، بل أعترف
بأنه يصعب عليّ تماما أن أميّز بكل دقة داخل مجمل الإنتاج الثقافي العربي
بين ما هو «علم» و ما ليس كذلك.
ما أقترحه عليكم بالمقابل، هو
التفكير في بعض العوائق و القيود الملازمة للبحث قي مجالين لا يزالا لحدّ
الآن موضوع سؤال و صراع، و هما الدين و السياسة.
تتّخذ هذه العوائق أشكالا عدّة، أذكر منها ثلاثة :
- عوائق ذات طابع مجتمعي، تعود أساسا إلى ما يمكن أن أسميه بالعقلية الجماعية السائدة.
-عوائق ذات طابع سياسي، تتعلّق بتأثير الدولة السلطوي على حريات البحث و التعبير في بعض المجالات المحدّدة.
- عوائق، أو بالأحرى حدود الجهاز المفاهيمي الذي تستعمله شريحة من الباحثين في العلوم السياسية بهدف فهم آليات الحقل السياسي.
قد يمتعض البعض ممّا قيل على أساس أنّ مجموع العوائق المذكورة، تظل ذات
طابع عام و فضفاض، كُتب حولها الكثير، و تمّت الإشارة إليها مرارا و
تكرارا. اعتراض وجيه...غير أنّ ما يسمح لي، ربّما، بالإشارة إليها هنا،
أني سأتحدث عنها انطلاقا من خمس حالات محددة عشتها شخصيا في مساري
المتواضع كباحث. و لا يتعلّق الأمر هنا بسيرة ذاتية شخصية. عكس ذلك تماما،
أعتقد جازما أنّ ما سأحكيه هو تجربة موضوعية، اقتسمها و يقتسمها العديد من
الباحثين.
1- محظورات البحث في المجال الديني
على خلاف ما قد يعتقد الكثير، يبدو أنّ المجتمع أكثر محافظة من
الدولة نقسها في مجال الدين، و خاصة فيما يتعلّق بأوامره و نواهيه. ذلك
أنّ العقلية الجماعية السائدة، و في بعض الحالات، لا تبدي أي تسامح تجاه
ما تراه خرقا للقواعد و الممارسات الدينية.
من الأكيد طبعا أنّ المجتمع يغيّر باستمرار من عاداته و ممارساته ليتلاءم،
بشكل أو بآخر مع مستجدّات الحياة، و مع ذلك، لا مجال للشكّ في وجود قواعد
و أعراف و ممارسات يصعب جدا المساس بها.
لأي شيء يمكن أن نعزوَ كلّ هذا الحضور، و هذه القوة المحسوسة التي يحظى
بها الدين في المجتمعات العربية ؟ سؤال يصعب تحديد الجواب عنه لتداخل
عوامل عدّة. غير أنّ هذا لا يمنع من أن نجد بعض عناصر الجواب في كون
«الإسلام»، بشكل من الأشكال، دين «مدني»، انغرس منذ زمان في قلب حياة
المسلم اليومية. إنّنا غالبا ما ننسى أنّنا نستبطن «الإسلام» في مظاهر شتى
من حياتنا، فنحن نتزوّج ب«عقد نكاح»، و نطلّق ب«إحسان»، و نرث ب«حصّة
للذكر تعادل حصّة الأنثيين»، كما أننا ندفن أمواتنا بكل الشعائر الإسلامية
المعروفة...و هذا دون أن ننسى تقنين «المعاملات» و ضبط «الحدود» اللذين
كانا، إلى عهد قريب، حكرا على الشريعة الإسلامية. كلّ هذه المعطيات تبرز
مدى تجذّر الإسلام في أدق تفاصيل الحياة اليومية، إلى حدّ يمكن معه القول
إنّ المسلم يكاد يعيش دينه بشكل لا شعوري، بل و أحيانا بشكل دنيوي كما هو
الحال في بعض المناسبات الدينية، مثل عيد الأضحى أو شهر الصيام. و الحال
هذه، من الطبيعي أن لا ترى الدولة (أو الدول) الإسلامية أي مصلحة لها في
تكسير قواعد و ممارسات تضمن لها تلقائيا، و دونما عناء، تعايشا اجتماعيا،
و أمنا نفسيا، و هما شرطان أساسيان يستحيل في غيابهما تصور وجود سلطة
سياسية.
بعيدا عن كلّ حكم قيمة في شأن هذه القواعد و الممارسات، لا بدّ من
الاعتراف بأنّ ما يغلّفها من ذهنية أو عقلية سائدة ، تحول في بعض الحالات
المحددة، دون حرية الباحث و الكاتب عموما في التعبير عن آرائه.
- الفكاهة و المقدّس
كلمتان يصعب الجمع بينهما، خاصة في هذه السنوات الأخيرة التي تشهد
نوعا من التشدد المتزايد في الدين، و ما صاحب ذلك من تصاعد للحركات
الإسلامية، المعتدلة منها والراديكالية. تحيل الكلمة الأولى على الطُرفة و
الخفّة و السخرية و الهزل، بينما تحيل الثانية على التبجيل و الخشوع و
التقدير والاحترام. و لكن، هل يتعلّق الأمر فعلا بتعارض لا مجال فيه
للتصالح؟ ألا توجد خيوط واصلة بين الطرائف المسلية و الشعائر الدينية؟ و
كيف نفسّر عشرات الكتابات الساخرة حول الكنيسة و رجال الدين في الغرب
المسيحي؟ و كيف يمكننا قراءة العديد من الدراسات حول «الفكاهة اليهودية»؟
و بالمثل، لا يبدو هناك تعارض مطلق بين الطُرفة و الدين في الحضارة
العربية الإسلامية. و يكفي كدليل على ذلك استقراء أمهات المصادر التراثية
التي خلّفها لنا فقهاء و أدباء، أمثال الجاحظ و الإبشيهي و ابن الجوزي و
التوحيدي و المعرّي و المتنبي و أبونواس و التيفاشي...لنتأكد كيف كان
هؤلاء يوجّهون سهام نقدهم الساخر لبعض رجال الدين من دعاة و معلّمين و
مفسّرين و محدّثين و أئمة و مؤذنين و قضاة و فقهاء، بل و حتّى «خلفاء»
المسلمين أنفسهم، و لنرى أيضا كيف كان هؤلاء يسوقون عشرات الطرائف عن
صحابة الرسول، بل إنهم لم يكونوا ليجدون غضاضة قي الاستشهاد برسول الله، و
هو القائل: «أنا أمزح و لا أقول إلا صدقا».
و اليوم، ما هي وضعية الفكاهة «الإسلامية»؟ أطرح السؤال لأني غامرت يوما،
بمناسبة ندوة دولية حول «الإسلام و المعيش الإسلامي»، بالبحث في موضوع
«النكتة و الدين». هكذا، معزّزا بالعشرات من الطرائف التي يزخر بها تراثنا
الإسلامي، و مستعينا ببعض الدراسات الحديثة حول الفكاهة المسيحية و
اليهودية، قرّرت أن أشتغل على «متن» دراسي يتكوّن من حوالي خمسين «نكتة»
أو طُرفة تتعلّق كلها بالمجال الديني.
و كأي باحث، جاهدت من أجل تفكيك محتويات «المتن»، باحثا عن المعنى
واللامعنى، منتبها للمصرّح به و المسكوت عنه، محللا ما تعجّ به الطرائف من
استعارات و توريات...و أخيرا، اهتديت إلى تقسيم بحثي إلى محورين اثنين،
خصّصت أولهما لما أسميته ب«الفضاءات الدينية»، مثل الجنة و جهنّم و المسجد
و الكنيسة و الأضرحة و الكتّاب القرآني...كما خصصت المحور الثاني للحديث
عمّا أسميته ب«الوجوه الدينية»، مثل الفقيه و الإمام و المؤذن و الولي
الصالح، دون أن ننسى العديد من الطرائف التي تكون الملائكة و الرسل طرفا
في مجريات أحداثها.
لا يتعلّق الأمر هنا بتفصيل مضامين ما بحثت فيه، و لكن بالأحرى الإشارة
إلى الصعوبات الكبرى التي واجهتها و أنا أصوغ فقرات بحثي باللغة العربية.
فبجهد لغوي كبير، من أجل التخفيف من وطأة النكات أو الطرائف التي غالبا ما
تكون صريحة و لاذعة في دلالاتها، و بحرص شديد في انتقاء الكلمات بهدف
اجتناب كل صياغة مباشرة من شأنها خدش المعتقدات، تمكّنت من صياغة المحور
الأول المتعلق بالفضاءات الدينية، دون أن أتمكّن من إنهاء المحور الثاني
الخاص بالوجوه الدينية، اللهم إلا ما مان من بعض الفقرات المتعلقة
ب«الفْقيه» (أي معلم الصبيان بلغة الجاحظ)، و بالمؤذن و «الطُلبة». أما
باقي «الوجوه الدينية»، فبدا لي أمر صعب، إن لم أقل غير آمن، الكتابة عنه،
و خاصة باللغة العربية. و النتيجة أني قررت بكل بساطة أن أراقب ذاتي، و
أعدل عن جزء مهم من بحثي.
و الواقع أنّ رقابتي لذاتي لم تقف عند هذا الحدّ، ذلك أني لم أشارك في
الندوة المذكورة بمداخلة «عرجاء» فقط، بل قررت أيضا، و في آخر لحظة، أن
يكون تدخلي باللغة الفرنسية، أختبئ بين كلماتها. فما يمكن قوله في المغرب
بلغة أجنبية، قد لا يُسمح به باللغة العربية.
- شهر الصيام
في دراسة جماعية بعنوان « الإسلام المعيش: بحث في القيم و الممارسات
الدينية بالمغرب»، كتب الباحث محمد الطوزي : « يصعب أن نحصر شهر رمضان، و
هو شهر الصيام، في دائرة الظواهر الدينية. إذ أنّه واقعة اجتماعية كلية
تتجدد سنويا. إنّ صوم رمضان شأن معياري إلى حدّ أننا لم نجرؤ على إدراجه
مباشرة كسؤال. إذ بدا لنا من المجازفة أن نسأل المغاربة فيما إن كانوا
يصومون رمضان أم لا، خاصة و أنّ الصيام يعتبر الحدّ الفاصل بين المسلم و
غير المسلم (...) و هكذا، فإنّ موقف السلطات العمومية القاضي باعتبار صيام
رمضان أمرا مفروغا منه، و إبطاله علنا بمثابة مسّ بالنظام العام، يجد له
صدى عند أغلبية المستجوَبين، كما وجد له صدى في اختيارنا نحو عدم طرح
السؤال عاريا، و الاكتفاء بمدى درجة الصيام التطوّعي.»
أدرجت هذا الاستشهاد لأبرز كم هو صعب، إن لم يكن أمرا محفوفا بالمخاطر،
مساءلة بعض القضايا التي تهمّ الدين الإسلامي. نعم، لا يمكن أن ننفي
التقدّم الهائل الذي حققته الدراسات المهتمة بالإسلام، و لا أن نغض الطرف
عن الزخم الهائل من الأدبيات التي جعلت منه موضوعا لها، و لكن لا يمكننا
مع ذلك إلا أن نعترف بحدود حرية الباحث، و الكاتب عموما، في التعبير عن
آرائه حول مواضيع «محرّمة»، و على رأسها شهر الصيام الذي ينعدم في شأنه كل
«تسامح»، كما أوضح ذلك الباحث حسن رشيق في نفس الدراسة الجماعية السابقة
الذكر.
في نفس السياق، أودّ منكم أن تشاركوني تجربة شخصية، عشتها عندما كنت أحرّر
كتابا، صدر مؤخرا بعنوان «تحرير الكلام في تجربة الإسلام»، أحكي فيه عن
علاقتي بالدين الإسلامي.
يطرح هذا الكتاب بشكل عام وجوه الإسلام المتعددة التي عشتها و ما أزال.
ففي فترة الطفولة، عشته بشكل تلقائي، عفوي و «ثقافي» (بالمعنى
الأنتربولوجي للكلمة). و في مرحلة المراهقة، رفضته و خاصمته باعتباره
مخدّرا للشعوب و ضدّ العقل، و في مرحلة لاحقة (قد تكون مرحلة النضج) أصبح
الإسلام عندي موضوع بحث و سؤال و استقصاء. لا يتعلّق الأمر هنا، مرّة أخرى
بشرح مضامين كل مرحلة، و لكن فقط الإشارة إلى مدى إحساسي بحريتي في
الكتابة، و أنا أتحدّث عن إسلام «ثقافي» طبع طفولتي، أو عن إسلام أصبح
«موضوع بحث» في دراستي بالجامعة كطالب و تدريسي فيها كأستاذ. مقابل ذلك،
عانيت صعوبات عدّة في التعبير عن رفضي للإسلام و خصامي معه في فترة
مراهقتي، و خاصة عمّا كان يخالجني من أفكار و أحاسيس تخصّ شهر الصيام. و
على الرغم من كل المجهود الذي بذلته في انتقاء كلماتي علّني أليّن حدّة
تجربتي، كنت أراني مسمّرا أمام أوراقي، و جسدي في حالة توقف، مترددا في
مواصلة كتابتي...و أخيرا، و بما أنّ الحذر من طبعي، قررت مرة أخرى أن
أراقب ذاتي، و أنشر حكايتي ناقصة في كتاب مبتور ممّا لا يقلّ عن عشر صفحات
أحكي فيها عن علاقتي بهذه «الشعيرة» الدينية.
سوف يكون من السخافة أن يحصر المرء الموضوع في أداء هذه الفريضة من عدمه.
فأنا أتحدث هنا عمّا يفوق العشر صفحات، و من غير المعقول أن يكرّر الكاتب
طيلة كل هذه الصفحات نفس الجملة التقريرية التي تؤكد أداءه لهذه الشعيرة
أو إهماله لها. الموضوع أعمق من فعل يؤول أمره في نهاية المطاف إلى علاقة
العبد بخالقه، و لا يتعدّى ضرره، إن حصل هناك ضرر، صاحب الفعل نفسه، تماما
كتارك الصلاة، على حدّ تعبير فقهاء الإسلام.
القانون العام الإسلامي !
من بين الأشياء التي تثير الاستغراب في الإنتاج الثقافي العربي، الكمّ
الهائل من الكتابات التي تراكمت منذ عقود، و التي ترى أن لا شيء ينقص في
الإسلام، فهو مطلق و كامل، يتضمّن كل الأشياء. فيه كلّ الحقوق و الواجبات،
القانون و المؤسسات، الديمقراطية و الحريات...قد يكون مثل هذا الكلام
مفهوما حين يتفوّه به دعاة و وعاظ و مبشّرون، بل و حتّى حركيون سياسيون،
لا همّ لهم في البحث و السؤال و لا هم يحزنون. أمّا و أن ينطق به مثقفون و
باحثون و جامعيون، فذاك حقا مدعاة للاستغراب!
لا يتعلّق الأمر هنا بمفكرين متشدّدين رافضين لأسس الحضارة الحديثة، و ما
يأتي منها، بل يشمل أيضا عددا من المفكرين و الباحثين الذين يستنيرون
بمبادئ العقل الحديث. فبعضهم، و إن كان يؤكد على الأساس الغربي للنهضة
العلمية و مقومات الدولة الحديثة، تراه يتلكؤ و يداهن حين يتعلّق الأمر
بالتجربة العربية الإسلامية، فيلفق أقوالا، من هنا و هناك، مفادها غياب أي
تناقض، و انتفاء كل تعارض بين مقدّمات التحديث و مقوّمات الحضارة العربية
الإسلامية.
ما سرّ هذا الخطاب التبريري؟ و كيف يحدث أن يستشهد مفكّر كبير بما يفوق
خمسين آية قرآنية، جنبا لجنب، مع نصوص منتقاة من كتابات «جون لوك» و
«إعلانات حقوق الإنسان» ليقول لنا أننا مثلهم، إن لم نكن سبقناهم في مجال
«الديموقراطية» و «حقوق الإنسان» منذ زمان و زمان؟ و لماذا هذا الخلط
القاتل بين إسلام معياري، ظلّ المسلم، و لا يزال، يحلم به، و إسلام
تاريخي، هو الوحيد الذي يمكن للباحث أن يستقرئ معطياته؟
في سنة 2004، كان علّي أن أدرّس مادة بعنوان «مدخل إلى القانون العام
الإسلامي». أثارني هذا العنوان لسببين: أوّلهما أني كنت بالأمس أنتمي
لشعبة القانون العام كطالب جامعي، و ثانيهما أني اليوم أهتمّ بالتراث
السياسي الإسلامي كأستاذ باحث. أتذكّر كل فروع القانون العام التي درستها،
فلا أجد فيها أثرا للإسلام، و أستعرض أمامي مئات النصوص السياسية
الإسلامية التي تمكّنت من الاطّلاع عليها، فلا أجد أثرا لأي قانون عام. و
تساءلت كيف تسنّى للبعض الجمع في عبارة واحدة بين ما ليس بمجموع؟ بل، و
كيف تمكّن أساتذة جامعيون، في زمن قياسي، من إصدار كُتب-مقرّرات تحمل
عنوان «المدخل إلى القانون العام الإسلامي»؟
و بما أني أصبحت أكثر حرصا على تحاشي كل خطاب إثباتي، ديماغوجي، مفرط في
إيديولوجيته، و تافه بتبريريته، ما كنت لأدرّس طلبتي تشريعات بعض الفقهاء
«المدنية»، معتبرا إياها قواعد سياسية، و ما كنت لأستعرض أمامهم أحلام بعض
الفلاسفة و أمانيهم باعتبارها قواعد عامة، كما نأيت بنفسي عن أن أقرأ
عليهم نصائح و أخلاقيات مؤرخين و أدباء تبرّر الاستبداد السياسي الإسلامي،
و أنا أعرف أنّ القوانين العامة، و على رأسها القانون الدستوري، تسعى لضبط
سلوك الدولة و تقنين مؤسساتها. هكذا قُدّر لي أن أُدرّس هذه المادة سنة
بكاملها لأبرز، من خلال نصوص و وقائع و مقارنات، أن لا وجود لشيء يمكن أن
أسميه حقا «قانونا عاما إسلاميا».
2- محظورات البحث في المجال
السياسي
ما سأتحدّث عنه في هذا المحور الثاني هو، بشكل غير مباشر، وضعية العلوم
السياسية بالمغرب،و هي وضعية متعثرة و هشّة بشهادة العديد من الباحثين.
يقول عبد الله العروي: «إنّ العلم الذي يبحث في اجتماعيات الدولة، أي علم
السياسات مهجور في مجموع البلاد العربية، و إن ّما أنجز من دراسات في هذا
المجال تمّ في إطار معاهد أجنبية.» ، و يضيف في مكان آخر: «إن المسؤولين
العرب يشمئزون من كل بحث موضوعي -في نطاق ما تعنيه الكلمة في العلوم
الإنسانية- حول أصول سلطتهم و وسائل نفوذهم»، ثم يتساءل: «هل تقبل الأنظمة
العربية أن تدرس بكيفية موضوعية حسب المناهج التقديرية الحديثة، لا في
معاهد أجنبية بل في مؤسسات وطنية؟ أن تُدرس الأوضاع السياسية العربية
علميا في الخارج شيء، و أن تُدرس في الداخل شيء آخر...»
و من وجهة أخرى، يلاحظ عبد الله ساعف أنّ علم السياسة في المغرب ضعيف، و
إنتاجه هزيل، و مضمونه غير متبلور بشكل واضح و مستقل.... و عن الفترة
الأخيرة، يلاحظ نفس الباحث أنّ المغرب شهد إنتاجا سياسيا لا بأس به، غير
أنّه يظل هزيلا، و في ارتباط وثيق بالعمل الجامعي _الأكاديمي، إضافة إلى
أنّه في الغالب الأعم لبس لباسا قانونيا شكليا، أو أنه اهتمّ بمجال
«العلاقات الدولية»...
لا وجود لهذا العلم إذن بمعناه المؤسساتي، و ليس أمرا غريبا أنّ يكون علم
السياسة بالمغرب علما «مهاجرا»، ليس فقط بالمعنى المكاني، بل، و على
الخصوص نحو مجالات معرفية أخرى. فلكي يعيش «عالم السياسة»، فإنّه تارة
يتحوّل، كما أشار إلى ذلك محمد الطوزي إلى «مؤرخ» للوقائع و المؤسسات، و
أخرى إلى «مؤرخ» للأفكار...(الأطروحات الجامعية المغربية في العلوم
السياسية تؤكد ذلك) . و من جهته، يوضّح الباحث حسن رشيق كيف أنّ هذا العلم
تتقاسمه نزعتان أساسيتان هما الأنتربولوجيا و التاريخ. «و في الحالتين
معا، تبقى المسلّمة الأساس هي أنّ علم السياسة غير كاف لوحده لفهم بلد مثل
المغرب، و بالتالي لا بدّ من الاستعانة بالأنتربولوجيا أو بالتاريخ. ».
«علم السياسة» بالمغرب إذن، كما لاحظ هؤلاء الباحثون، علم «مهجور» و «مهاجر» و «هزيل».
لا يدخل طبعا في نطاق هذه الدراسة تحليل وضعية العلوم السياسية بالمغرب، و
لكن فقط الإشارة إلى بعض العوائق التي لازمت ظهور هذه العلوم و مسارها
بالمغرب، و ذلك من خلال تجربة شخصية تعكس، في اعتقادي، واقعا موضوعيا
اختبره العديد من الباحثين المهتمين بهذا المجال. تتعلّق الأولى بمدى حرية
الباحث في اختيار مواضيع بحثه و طرق تحليلاته، و تختصّ الثانية بمدى نجاعة
بعض المفاهيم المستعملة في إدراك حقيقة الواقعة السياسية بالمغرب.
- حينما تختبئ العلوم السياسة
في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، كنت واحدا من جماعة من الطلبة،
خريجي شعبة «العلوم السياسية»، أبحث عن موضوع يكون عنوانا لأطروحتي
الجامعية. و بغضّ النظر عن طبيعة المواد التي درستها كطالب طيلة السنوات
التي قضيتها في هذه الشعبة و مدى علاقتها حقّا ب«العلوم السياسية»، وقع
اختياري أخيرا على موضوع «الآداب السلطانية» كعنوان لأطروحتي. لماذا الغطس
في هذا الماضي السحيق بدل البحث في موضوع يهمّ حقا مجال «العلوم
السياسية»؟ تساؤل
تبدّدت عناصر جوابه حينما تصفّحت عناوين أطروحات زملائي التي تحمل معها
أكثر من دلالة. فمنهم من جعل من تاريخ الأفكار السياسية موضوعا له، و منهم
من اكتفى بنصوص القوانين الدستورية عنوانا لأطروحاته، و منهم من عاد
لوقائع و مؤسسات الماضي يبحث فيها، كما كان هناك من بينهم من اختار بعض
الظواهر و الوحدات الاجتماعية ليبحث قي انعكاساتها السياسية، و منهم أيضا
من سافر بعيدا ليبحث في قضايا تهمّ القانون الدولي و العلاقات الدولية.
مهما قيل عن تنوّع مواضيع «العلوم السياسية»، فإنّ موضوعها المركزي، خاصة
إن كانت في بداية تأسيسها كما هو الحال في المغرب، هو البحث في مقوّمات
الدولة، و آليات السلطة السياسية، ليس من وجهة تاريخية تبحث قيما مضى أكثر
من بحثها فيما يقع هنا و الآن، و لا أيضا من منظور قانوني ينحصر مداه في
الحرفية الدستورية. و هنا أتساءل: كيف حدث أن توزّعت، أو بالأحرى اختبأت
أبحاث جيل بكامله في مجالات أخرى تهمّ تاريخ الأفكار و المؤسسات السياسية،
و الدراسات القانونية و الأبحاث الأنتربولوجية؟
لا أملك جوابا قطعيا. هل كان الأمر اختيارا إراديا عفويا؟ هل كانت تمليه
ظروف الجامعة المغربية و المحيط السياسي العام؟ و ألا يكون في نهاية
المطاف حذرا و تهيبا من مناقشة مواضيع تدخل في صلب الواقع السياسي المغربي؟
مهما كان الجواب، يبدو، من خلال تصفحنا لمختلف المنشورات المغربية من كتب
و رسائل و أطروحات جامعية منذ 1956 إلى السنوات القليلة الأخيرة، و فيما
لو قمنا بجرد أولي لمختلف «العناوين» التي تشير من قريب أو من بعيد إلى
المجال السياسي، أنّ العلوم السياسية تظلّ فعلا كما لاحظ ذلك عبد الله
العروي من «أسوأ العلوم حظّا».
هكذا نجد كتابات «تاريخية» تتحدّث عن زمن الدولة و مسار مؤسساتها، أو تؤرخ
لبعض الأحداث السياسية، و حتّى الأفكار السياسية. و كتابات «قانونية»
تتناول بالوصف غالبا، و بالتحليل أحيانا موضوع الدولة و سلطاتها و
مؤسساتها و علاقاتها الخارجية. و كتابات ذات منحى«فلسفي» تتحدّث من وجهة
نظر شمولية عن مشكلات النهضة و الدولة و الإصلاح و المجتمع. و كتابات
«دينية» عامة، و أحيانا فقهية، تحمل في طياتها بعدا سياسيا و تصورا للمجال
السياسي. و كتابات «تراثية» تعتمد على تحقيق و تقديم بعض الإنتاجات
السياسية لمفكرين مغاربة و مشارقة. و كتابات «انتربولوجية» تهتم بمختلف
«الوحدات الاجتماعية»، و علاقاتها مع السلطة. و كتابات «سير ذاتية»، و هي
في الغالب الأعم مذكرات لبعض رجال السياسة في المغرب (وطنيون وقدماء
المقاومين و أعضاء جيش التحرير و بعض زعماء الأحزاب).
وأخيرا هناك كتابات تندرج في إطار علم السياسة، و هي أولا قليلة، و ثانيا
حديثة العهد. و قد تكفي الإشارة هنا إلى أنّ ما صدر في المغرب خلال العشر
أو الخمس عشرة سنة الأخيرة حول الدولة و الأحزاب و الانتخابات و النظام
الدستوري و السياسي...يفوق على هزاله ما صدر خلال أربعين سنة، و لذلك
دلالته التي لا تخفى .
لم يحقق هذا العلم تراكما حقيقيا يسمح للباحث بالوقوف على حقيقة الواقع
السياسي المغربي بمقوّماته و آلياته و فاعليه و محيطه. و لا يملك هذا
العلم بعد، تاريخا يسمح له بفرض نفسه كعلم قائم الذات...أما السبب فواضح:
قديما لم تكن الدولة المغربية (بل و كل الدول التي تعاقبت على الرقعة
العربية الإسلامية)، بحاجة إلى «علم» يعري أسسها، و.يفضح استبدادها. ومع
بداية استقلال المغرب، وإلى غاية بداية التسعينيات، حافظت الدولة، لأسباب
تاريخية و عوامل سياسية، لا مجال لاستحضار تفاصيلها، على قدر غير قليل من
استبدادها، و لم تبزغ تباشير ظهور علم سياسة بالمغرب إلا مؤخرا، و تحديدا
مع إمكانية الحديث «العمومي» عن الديمقراطية و الانتقال الديمقراطي و
التناوب السياسي...الخ. ليس غريبا إذن أن ظلّ الحديث عن السياسة مختبئا ما
يقارب أربعة عقود من استقلال المغرب داخل مجالات معرفية أخرى تهم التاريخ
و القانون و الفلسفة و الدين و الأدب، ليتخلص اليوم شيئا فشيئا من
عباءاتها عساه يحقق ذاته و استقلاليته.
و بناء عليه، ألا يمكن القول أن الانتقال الصعب و المعقد و المؤلم و
المتقطع أحيانا من دولة السلطان التقليدية (التي لا حاجة لها بعلم قد
ينتقدها و يعري أسسها) إلى سلطان الدولة الحديثة (التي تتأسس على قاعدة
الشأن العمومي و قيم المشاركة السياسية) عكَس في كثير من جوانبه هذا
الظهور المتعثر لعلم السياسة.
- في حدود المفاهيم
بالتزامن مع انفتاح الدولة المغربية، و تحرّك المجتمع المدني، ظهر
العديد من الدراسات و المقالات و الكتابات حول الدولة و الأحزاب و
النقابات و الجمعيات و المواطنة و الديمقراطية و حقوق الإنسان و الدستور،
و غيرها من المواضيع التي تهم المجال السياسي. لا ندعي هنا القيام بجرد
لما كُتب حول المشهد السياسي المغربي في السنوات الأخيرة، و لكن، ربّما
يكون علينا توخّي شيء من الحذر أمام كثرة هذه الدراسات، حتّى لا ننتظر من
أغلبها ما هي عاجزة عن تحقيقه.
فإذا كانت العوائق السابقة في أغلبها عوائق موضوعية، قد تكون مجتمعية تخصّ
العقلية الجماعية السائدة، كما قد تكون سياسية ناتجة عن تأثير الدولة
السلطوي، فإنّ هذا العائق الأخير يعود للباحث نفسه، و تحديدا لمدى نجاعة
استعماله لبعض المفاهيم السياسية الحديثة لمعرفة الواقع السياسي المغربي.
للعلوم السياسية، كسائر العلوم الاجتماعية، مفاهيمها الخاصة التي تشتغل
بها مثل: الدولة و المؤسسة و الحزب و الصوت الانتخابي و الحكومة و
البرلمان و الاقتراع و الدستور و الحريات العامة و المواطنة و الحق و
القانون و المشاركة السياسية و المعارضة...وهنا أتساءل: هل يمكن للباحث أن
يستعين بهذه المفاهيم «الحديثة» في تحليله للوقائع السياسية المغربية؟ ألا
يرتكب هذا الباحث خطأ معرفيا قاتلا باستعماله لمفاهيم يبدو أنّ علاقتها
العضوية بالواقع السياسي المغربي غير مؤكّدة. و ألا يصبح استعمالنا لهذه
المفاهيم المرتبطة تاريخيا بمسار الدولة الحديثة، تعبيرا منا عن طموح و
رغبة في أن تتأسس، أكثر مما هي أدوات لتفسير واقع سياسي؟
هذا التساؤل المنهجي هو ما طرحته على نفسي، و أنا بصدد البحث في بعض
المواضيع التي تخصّ المغرب الحديث. ففي إحدى المناسبات، كنت بصدد تهيئ
دراسة حول التاريخ الانتخابي للمغرب المستقل. و كأي باحث، استقصيت كل
المعطيات الضرورية المتعلقة بالقوانين الانتخابية، والحملات الانتخابية
للأحزاب المشاركة، و النتائج النهائية المحصّل عليها، و نسب المشاركة
النسائية و الشبابية، و نسب مشاركة البوادي و المدن الصغرى و الكبرى...و
أمام كل هذه المعطيات، تبيّن لي كم هو صعب أن نستخلص نتائج ذات مصداقية
انطلاقا من هذه المعطيات الظاهرة. فهل نستطيع استنادا على نسب المشاركات
الانتخابية التي عرفها المغرب منذ الاستقلال، أو المشاركة النسائية التي
فاقت مشاركة الرجال في كثير من المحطات، أو نسبة هذه المشاركة في بعض
البوادي المغربية التي فاقت نسبة مشاركة عدد من المدن، هل يحق لنا أن
نستنتج من هذه المعطيات الكمية أن نساء المغرب أكثر تسيّسا من رجاله، وأن
هذه البادية أو تلك أكثر اهتماما بالشأن العام من مدينة عمالية كبيرة مثل
الدارالبيضاء؟ و بكلمة،هل يكون لتطبيق المناهج الاستقرائية والكمية و
الإحصائية من معنى أمام ظاهرة انتخابية يجتمع فيها في آن واحد تدخّل
السلطات، و العمق «الانتروبولوجي» للناخب المغربي؟
كثيرة هي العلامات التي تدفع الباحث في «العلوم السياسية» لمزيد من الحذر
في استخلاص نتائجه. فهل يمكن مثلا تحليل الدولة و النظام السياسي المغربي
بالاكتفاء بمنطوق القوانين الدستورية و المدونات القانونية؟ و متى كانت
القاعدة القانونية مطابقة للحقيقة الاجتماعية والسياسية، وهل بجرة قلم
يمكن أن نمحو الهوة و نذيب المفارقة القائمة بين ما يقوله القانون و ما
ينطق به الواقع؟ و من يكون هذا الباحث اليوم الذي يمكنه أن يدّعي القبض
على منطق السلوك السياسي للأحزاب المغربية، إن كانت هي نفسها غارقة في
تجريبية فجّة، لا عقل سياسي يحكمها؟ و من يستطيع ضبط تحالفاتها، إن كانت
هي نفسها، تقول في الصباح ما لا تفعله في المساء؟
يفترض هذا العلم آليات و ميكانزمات «وضعية» تسيّر الحياة السياسية و تتحكم
فيها، و يكون بالإمكان تحليلها و رصد تفاصيلها و جزئياتها، بل و أيضا
استشراف مآلها. و الحال هذه، لا نبالغ إن قلنا إنّ الحياة السياسية
المغربية تبدو وكأنها موزعة بين حياتين: حياة ظاهرة، تطفو على السطح، نقرأ
عنها في الصحف والكتب ونسمع عنها ونشاهدها في وسائل الإعلام، وحياة باطنة،
هي منبع القرار السياسي، و يصعب خرق أسرارها. وبالتالي، هل يكون«التحليل
السياسي» لمثل هذا الوضع أمرا ممكنا؟ ألا نكون في حاجة إلى «عرفان» سياسي
قادر بحدسه على تفكيك شفرة أسرار وضع سياسي، قد تعجز العلوم السياسية
ب«وضعانيتها» على سبر أغواره؟
إن أكبر صعوبة تعترض هذا «العلم» هي بالضبط الحالة الانتقالية التي يعيشها
المغرب، هذا التشكل المتغير دوما لمختلف فاعليه. فالدولة تحمل معها ماضيها
السلطاني آملة في التخلص من ترسباته، والمواطن يحس بانتمائه الجماعي،
القبلي و الإثني، و بعلاقة «الإرعاء» التي تجمعه مع الحاكمين أكثر ما يحس
بذاته و فردانيته و استقلاليته، و انتخاباتنا المحسوبة على رؤوس الأصابع
تتماوج بين الولاء السلطوي و القبلي، و الاقتناع الفردي الحر...يبدو أننا
في حاجة إلى علم سياسة من نوع خاص، يمكنه القبض على حقيقة واقع سياسي، كل
شيء فيه ينتقل بدءا من الدولة إلى المواطن، مرورا بالأحزاب و النقابات
والجمعيات و المؤسسات...
و أخيرا، ورغم كل ما قيل عن ارتباط العلوم السياسية بتحديث الحقل السياسي
و دمقرطته، و رغم كل المآخذ التي يمكن توجيهها إلى طبيعة الدولة...فإن
الاكتفاء بمثل هذا التصور يظل قاصرا و محدودا لعدة أسباب أهمها أن مفاهيم
التحديث و الديموقراطية ليست فقط مسألة «سياسية» و «إرادوية»، و لكنها
أيضا، و بالأساس مسألة مجتمعية و مدنية تهم الأسرة و الجماعة و المدرسة و
المؤسسة... فبقدر ما لا نكف عن ترديد القول بعسر انتقال المجال السياسي من
التقليد إلى الحداثة، ننسى، و بالتساوق مع ذلك الحديث عن عسر الانتقال
المجتمعي من «رعايا» عليهم «اجتناب الخوض في أسباب السلطان» إلى «مواطنين»
يهمهم أمر الشأن العام، و هذا موضوع آخر...
عزالدين العلام
الاتحاد الاشتراكي (21-1-2011)
منصور- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 1943
العمر : 44
Localisation : loin du bled
تاريخ التسجيل : 07/05/2007
مواضيع مماثلة
» «تحرير الكلام في تجربة الإسلام»لصاحبه عز الدين العلام
» وطأة الحساسية السياسة على الثقافة العربية الحديثة/شمس الدين الكيلاني
» الدين ليس قفصا، الدين باب السماء
» الكلام بين جوج!!
» أحلى الكلام
» وطأة الحساسية السياسة على الثقافة العربية الحديثة/شمس الدين الكيلاني
» الدين ليس قفصا، الدين باب السماء
» الكلام بين جوج!!
» أحلى الكلام
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى