قراءة في قصيدة أمل دنقل: خطاب غير تاريخي على قبر صلاح الدين
صفحة 1 من اصل 1
قراءة في قصيدة أمل دنقل: خطاب غير تاريخي على قبر صلاح الدين
امل دنقل
إن عملية الاستبصار الشعري لشخوص التراث إضاءة لمتاهات البنى الخفية لعالم
الذات، وللعالم الخارجي، وما أكثر النوافذ المغلقة، وما أشق أن نسمع أخفى
الهمسات ونلتقط أدق الجزئيات، ونرسم بحساسية شبكية مفرطة، ملامح، وظلالا
للأحداث والأشخاص، يكون من شأنها فنيا، أن تقيم البناء الحدثي، وتجسد
الشخوص في التنامي المتكامل، وفي القدرة الخلاقة على نفخ الروح في التراث
التاريخي.
يقول أمل دنقل*، في قصيدته ' خطاب غير تاريخي على قبر صلاح الدين' :
هَا أَنْتَ تَسْتَرْخِي أخِيرًا..
فَوَدَاعَا..
يَا صَلاَحَ الدِينْ،
يَا أَيُّهَا الطَبْلُ البِدَائِي الذِّي تَرَاقَصَ المَوتَى
عَلَى إيقَاعِهِ المَجْنُونْ،
يَا قَارِبَ الفِلِينْ
للعَرَب الغَرقَى الذِينَ شَتَّتَهُمْ سُفُنُ القَرَاصِنَة
وأَدْرَكَتْهُم لَعْنَةُ الفَرَاعِنَة
وَسَنَةً .. بَعْدَ سَنَة..
صَارَتْ لَهُمْ ' حِطِينْ' ..
تَمِيمَةَ الطِفْلِ، وَإكْسِير الغَد العِنّينْ
( جَبَل التَوبادِ حَيَّاكَ الحَيَا)
( وَسَقَى اللَّهُ ثَرَانَا الأَجْنَبِي!)
مَرَّتْ خُيُولُ التركْ
مَرَّتْ خُيُولُ الشرْكْ
مَرًّتْ خُيُولُ المَلِكِ - النِسْر،
مَرَّتْ خُيُولُ التَتْر البَاقِينْ
وَنَحْنُ ـ جِيلاً بَعْدَ جِيلٍ - فِي مَيَادِينِ المُرَاهَنَة
نَمُوتُ تَحْتَ الأحْصِنَة!
وَأنْتَ فِي المِذْيَاعِ، فِي جَرَائِدِ التَهْويِنْ
تَسْتَوْقِفُ الفَارِين
تَخطُبُ فِيهِم صَائِحًا: ' حِطِّينْ '..
وَتَرْتَدِي العَقَالَ تَارَةً،
وَتَرْتَدِي مَلابِسَ الفِدَائِيِينْ
وَتَشْرَبُ الشَايَ مَعَ الجُنُودْ
فِي المُعَسْكَرَاتِ الخَشِنَة
وَتَرْفَعُ الرَايَة،
حَتَى تَسْتَرِدَّ المُدُنَ المُرْتَهنَة
وَتُطْلِقُ النَارَ عَلَى جَوادِكَ المِسْكِينْ
حَتَى سَقَطْتَ ـ أيُهَا الزَعِيمْ
وَاغْتَالَتْكَ أيْدِي الكَهَنَةْ!
( وَطَنِي لَو شُغِلْتُ بالخُلْدِ عَنْه..)
( نَازَعَتْنِي ـ لِمَجْلِسِ الأَمْنِ- نَفْسِي!)
نَمْ يَا صَلاَحَ الدِينْ
نَمْ.. تَتَدَلَى فَوقَ قَبْرَكَ الورودُ..
كَالمِظَلَيين!
وَنَحْنُ سَاهِرُونَ في نَافِذةِ الحَنِينْ
نُقَشّرُ التُفاحَ بِالسِكـِّينْ
وَنَسْأَلُ اللَّهَ ' القُرُوضَ الحَسَنَةْ'!
فَاتِحَة:
آمِينْ. (1)
العنوان
هنا وحده، يحمل قدرا كبيرا من الاكتناز الدلالي، ولعل القارئ يلاحظ، أن
العنوان يرتبط أشد الارتباط بالنص الذي يعنونه، فهو إن شئت نص مختصر،
يتعامل مع نص مفصل، فالعنوان دوما عبارة عن نص مختصر، يتعامل مع نص أكبر
حجما، يعكس كل أغواره وأبعاده، ومن هنا لا نجد بدا من الاشارة إلى ' أن
أغلب الذين يتعاطون الكتابة، إنما يجدون كل الصعوبة في اختيار عنوان
أعمالهم' (2)، وبهذا فالعنوان عبارة عن رسالة يبثها المرسل إلى المرسل
إليه، وهي مزودة بشفرة لغوية يحللها المستقبل ويؤولها، بلغته الواصفة،
وترسل عبر قناة، وظيفتها الحفاظ على الاتصال، ولفهم هذه الوظائف، يستحسن
الاعتماد، على الوظائف الست، التي تكلم عنها ' رومان جاكبسون' وهي: '
الوظيفة المرجعية والانفعالية والافهامية، والشعرية أو الجمالية
والتنبيهية، والانعكاسية'(3)
نبرزها في المخطط التالي :
العنوان: خطاب غير تاريخي على قبر صلاح الدين.
الخطاب: يمثل الحركة والحاضر.
التاريخ: يمثل الماضي والاستنجاد به أو اقتباسه وتقمصه و(غير) رد فعل رافض لهذا التاريخ لدى الشاعر.
صلاح
الدين والقبر: يمثل رفضا مطلقا في خيال الشاعر للبطل الفرد فأمل يرى أن
التكامل لاثبات الوجود ليس شخصا ولا مؤسسة مهما كانت وإنما هو التواجد
الجماعي لتحقيق الغاية.
إن الأحداث السياسية والأوضاع الاجتماعية،
كانت مصدرا هاما، من مصادر، التجربة الشعرية لدى أمل فقد برز في ظروف
منكسرة من تاريخ مصر الحديث، تشابكت فيها الأحداث السياسية، وتفاعلت مع
نفسه، مكونة كتلة من الأحاسيس، القاتمة، الممزوجة بألوان الحزن والألم
واليأس والخوف على المصير المشترك، الذي آلت إليه البلاد العربية، بما
منيت به من انكسارات وشروخات، أضاعت هيبتها ومست سيادتها، فاتخذ له في
ذلك، طريقا سياسيا في شعره، مستمدا مواضيعه من أوضاع شعبه الممزق، بين
ظلمة الاستعمار في الماضي، وسلطة الحكام المستبدين في الحاضر:
هَا أنْتَ تَسْتَرْخِي أخِيرًا..
يتخذ السطر الاول، كطبيعة بسيطة في تحصيل الحاصل، ونزع إفرازات الهلوسة،
في تشيؤ الفكرة، يعني أن الاسترخاء، أمر معلوم جدا، ومنطقي لا يستهدف
الحاضر بالسلبية أو الإيجابية، فالمرحلة التي تمثل المجد والتوحد الشعبي،
التي رمز إليها في شخص ' صلاح الدين'، يعتبرها اللاجدوى في تحريك الواقع،
الفكري، فالطبْل البدائي لا يضيف تجديدا ولا فائدة من توظيفه، إنما للنشء
مفاهيم تتعدى عصر الواقع في إطار الماضي وتشجيع الواقع على تقمص الماضي،
فالرغبة الحقيقية للتغيير والمقاومة، تكون من الحاضر نفسه، باعتبار أن
الحاضر يفرض حضورا على الساحة الدولية، لا تغييبا عنها وذلك يتحقق حسب
مصطلحات العصر ومغيرات الفكر، وتجديد المجتمع، وتسليح الفرد واستقطاب
المعيار الواقعي، لخلق تحدّ ٍ يوازي الضعف، كانت السفينة فلينية (
يَاقَارِبَ الفِلِّينْ)، وكان الشعب عربا أي ضعفا، ولاوجودية في الحسابات
الدولية، لأن الحسابات العالمية، لا تنطلق من الأرقام، البشرية وإنما من
التكتلات التكنولوجية والاقتصادية، ولمزيد من الايضاح نستعين بالمخطط
التحليلي الآتي:
خطاب تاريخي على قبر صلاح الدين
ها أنت تسترخي أخيرا.. - يا أيها الطبل -
يا قارب الفلين للعرب الغرقى
فالطبل
لايضيف شيئا ولا جديدا ولا تجديدا فالنشء له مفاهيم تتعدى حصر الواقع في
إطار الماضي وهذا ما يؤكده العنوان في نفي التاريخية.. للحاضر.. ! وحالة
الاسترخاء في نظر الشاعر.. أمر معلوم.. وطبيعي جدا!! الشاعر أيضا يشير إلى
فلينية السفينة وهنا تتدفق رؤاه الجمالية في تناص ذاتي مع قصيدة ' مقابلة
خاصة مع ابن نوح'، فهاهم الحكماء الجبناء يفرون نحو السفينة.. سفينة
فلينية، هشة، تدفعها الرياح أنى شاءت!! وها هم العرب الغرقى، الذين يمثلون
الضعف، والترهل: ( المغنون ـ سائس خيل الأمير ـ المرابون ـ قاضي القضاة ـ
راقصة المعبد ـ جباة الضرائب ـ مستوردو شحنات السلاح ـ عشيق الأميرةô) !!
يقول
الشاعر: ' يجب التنبه إلى أن العودة للتراث لا يجوز أن تعني السكن فيه، بل
اختراق الماضي كي نصل إلى الحاضر استشرافا للمستقبل' (**) ولذلك وظف هذه
الإيحاءات: وَلَنَا المَجْدُ ـ نَحْنُ الذِينَ وَقَفْنَا
( وَقَدْ طَمَسَ اللهُ أَسْمَاءَنَا)
' مقابلة خاصة مع ابن نوح'.
وَنَحْنُ ـ جِيلاً بَعْدَ جِيلٍ - فِي مَيَادِينَ المُرَاهَنَة
نَمُوتُ تَحْتَ الأَحْصِنَةِ !
' خطاب غير تاريخي على قبر صلاح الدين'.
بطبيعة
الحال، تغيرت من حول النفس الباطنية عند الشاعر أمل دنقل كل رموز الخلق
الإبداعي، في تطوير المجتمعات من زاوية إلى زاوية أخرى، وهذا ما يجعل صورة
( الفلين)، أكثر دلالة على عمق الضعف والترهل للذي يحاول أن يتزعم الفكرة،
مهما كانت.. أن يجعل منها قارب ( نجاة!) ـ كما يفعل الحكماء، الجبناء
عندما فروا إلى السفينة طالبين النجاة في قصيدة ' مقابلة خاصة مع ابن نوح'
للشاعر نفسه - حيث يصيح سيد الفلك:
( انْجُ مِنْ بَلَدٍ.. لَمْ تَعُدْ
فِيهِ رُوحْ!). كان طبيعيا جدا، أن تكون كصيغة مادية، تجسد قيمة الانحطاط
الاجتماعي الذي يعاني منه الفراغ القومي الذي كان فكرة تعدت حدود الوطن
الواحد وعقلية الشاعر الواحد، إلا أن الاستمرار في التمسك بهذه القوة
الضعيفة، يعني عودة إلى ما سلف من معاني الاندثار الروحي، فالقومية أساءت
إلى عقلية كانت أكثر علمية، ورقعة كانت أكثر اتساعا، فعامل التقزيم، داخل
رفض القصيدة، كان شديد اللهجة :
وأَدْرَكَتْهُم لَعْنَةُ الفَرَاعِنَة ْ
وَسَنَةً .. بَعْدَ سَنَة ْ..
صَارَتْ لَهُمْ ' حِطِينْ' ..
تَمِيمَةَ الطِفْلِ، وَاكْسِير الغَدِ العِنّينْ .
والفرعونية
كرمز من رموز القصيدة، يدل على الانغلاق على ما يعتبرونه ساميا، وأحد
أسباب الأفول في الحضارة الفرعونية نفسها، أي أن رمز ( حطين) يريد به
الشاعر أن يفجر الشعور عند الشعوب التي فقدت علاقة القرابة بين بعضها
البعض، في اللسان إلى البصيرة والعقيدة والهدف. حاول الشاعر تضخيم الحدود
الزجاجية، التي لا تصلح إلا للمتاحف، أي لكل ما أنهكه الأفول وقضى عليه،
أي أن إحياء الموت، لا يعني العودة إلى الحياة.
ويستمر الانكسار،
وتستمر الرغبة الشديدة في المطالبة بالحل، كان الحل عملية همسية، ليست
بالوضوح الذي يكون في لغة الأرقام، بل في لغة تكون جامعة بين الشعب
والسلطة، هكذا اكسير الغد العنين، رمز يعني فوضى تحديد الموقف بشكل علاجي
بحت وإنما هو محاولة للاعتراف بالداء، والفرق شاسع. يبقى عامل التاريخ أحد
المصطلحات التي رافقت تطور القصيدة في باطن المعنى، هو عند الشاعر قوي جدا
:
( جَبَل التَوبادِ حَيَّاكَ الحَيَا)
( وَسَقَى اللَّهُ ثَرَانَا الأَجْنَبِي!)
مَرَّتْ خُيُولُ التركْ
مَرَّتْ خُيُولُ الشرْكْ
مَرَّتْ خُيُولُ المَلِكِ ـ النِسْر،
مَرَّتْ خُيُولُ التَتْر البَاقِينْ
وَنَحْنُ ـ جِيلاً بَعْدَ جِيلٍ - فِي مَيَادِينِ المُرَاهَنَة ْ
نَمُوتُ تَحْتَ الأحْصِنَة ْ! (4)
إن
الجمع بين ( التتار، الشرك، الملك النسر)، وبقاء التتار مربوط بفعل (
مَرَّ)، ويعني هنا ( أحدث وأثَّر)، والشاعر يعرف وجوههم واحدا، واحدا :
الحكماء، الجبناء، الذين مروا أيضا على ' نوح' ـ عليه السلام - ورأوه
منهمكا في صنع السفينة.. والجفاف سائد.. وليست هناك أنهار قريبة، أو
بحار.. كيف ستجري هذه السفينة إذن يا نوح؟ .. هل ستجري على الأرض.. أين
الماء، الذي يمكن أن تسبح فيه سفينتك؟ ' وترتفع ضحكات الكافرين، وتزداد
سخريتهم من نوح.. إن قمة الصراع في قصة نوح تتجلى في هذه المساحة
الزمنية.. إن الباطل يسخر من الحق.. يضحك عليه طويلا، ويسخر منه طويلا'
(5).
قال تعالى، في سورة هود: ) وَيصْنَعُ الفُلْكَ وَكُلَمَا مَرَّ
عَلَيهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ، سَخِرُوا مِنْهُ، قَالَ إنْ تَسْخَرُوا
مِنَّا فَإِنَا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُون َ (6) ، كذلك الترك
والمشركون والملك النسر.. كلهم رموز مختلفة لقوى استلابية واحدة!.
والملك النسر، ليس هو سبيل النجاة، في نظر الشاعر، لأن القوة الحضارية
الآن، ترتبط بشخص مهما كان، ولكنها ترتبـــط ارتباطــا، عضويــا وكليــا
بالشعـــب نفســـه، وهذا يجعلنا نتساءل عن الكيفية التي نجعل بها من الكتل
البشرية ( الشعب)، الراكدة المتجمعة حول غايات بسيطة، سطحية، قوى
ديناميكية، تصنع التاريخ وتغير مجراه، نحو هذا الهدف أو ذاك؟ ، ويقوم
المفكر الكبير ' مالك بن نبي' ( ***) ، بعملية تحليل جد مركزة (
الاستعصار)، ليخلص في النهاية، إلى أن أي مجتمع في نقطة إقلاعه، ليس أمامه
من رأس مال ' سوى ثلاثة عوامل مادية: ( الانسان ـ التراب ـ الوقت) '(****)
.
ومن ثمة استطاع صياغة معادلته الحضارية المشهورة: ( حضارة = إنسان + تراب + وقت ).
وينقلنا المفكر الكبير، إلى حقل آخر من حقول المعرفة البشرية، التفاعلات
الكيميائية، ليقيم مقارنة بين معادلته الحضارية والمعادلة الكيميائية: (
ماء = أكسجين + هيدروجين ) .
حيث لا يتشكل الماء إلا بوجود ( مركب) ،
أي شرارة كهربائية، ومن ثمة يؤكد أنه لنا الحق في أن نقول: ' أن هناك ما
يطلق عليه ( مركب الحضارة)، أي العامل الذي يؤثر في مزج العناصر الثلاثة
بعضها ببعض، فكما يدل عليه التحليل التاريخي.. نجد أن هذا المركب موجود
فعلا، هو الفكرة الدينية، التي رافقت دائما، تركيب الحضارة خلال التاريخ'
(7) ، فالقاعدة والبنية الحقيقية للمجتمعات، ليست شريحة من المجتمع نفسه،
مهما بلغت مكانة هذه الأخيرة، وإنما الرأي السديد، وتحديد المصير الروحي
يكون في يد الشعوب كما عرفنا ذلك، أي الطاقة الحقيقية، ليست وطنا يمثله
شخص بعينه مهما علا شأنه وعظم سلطانه، وإنما الثروة الحقيقية، هي الطاقة
البشرية، الانسانية، الروحية، التي يعتمد عليها الشخص الواحد في تغيير
أدوار الحركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتكنولوجية والعسكرية،
بذلك يثبت لنا أن التتار، ليس رمزا للموت والخراب والدمار، كما أن الملك
النسر ليس رمزا للحياة :
وَأنْتَ فِي المِذْيَاعِ، فِي جَرَائِدِ التَهْويِنْ
تَسْتَوْقِفُ الفَارِينَ
تَخُطُبُ فِيهِم صَائِحًا: 'حِطِّينْ '..
وَتَرْتَدِي العقَالَ تَارَةً،
وَتَرْتَدِي مَلابِسَ الفِدَائِيِينْ
وَتَشْرَبُ الشَايَ مَعَ الجُنُودْ
فِي المُعَسْكَرَاتِ الخَشِنَةِ
وَتَرْفَعُ الرَايَةْ،
حَتَى تَسْتَرِدَّ المُدُنَ المُرْتَهنَة ْ
وَتطْلِقُ النَارَ عَلَى جَوادِكَ المِسْكِينً
حَتَى سَقَطْتَ ـ أيُهَا الزَعِيمْ
وَاغْتَالَتْكَ أيْدِي الكَهَنَة ْ!
( وَطَنِي لَو شُغِلْتُ بٍالخلْدِ عَنْهْ..)
( نَازَعَتْنِي ـ لِمَجْلِسِ الأَمْنِ - نَفْسِي ! )
نَمْ يَا صَلاَحَ الدِينْ
نَمْ.. تَتَدَلَى فَوقَ قَبْرَكَ الوِرْودُ..
كَالمِظَلَيين !(8)
تتواصل
رواسب المعاناة والأفكار، التي تشعر بإرهاق كبير شديد، أكثر ما يرهقها، هو
طريقة تفجير المغيرات في عقول المتغيرات، وهو باب مفتوح في أفكار القصيدة،
غير مغلق، بإمكان أي شاعر أن يواصل من خلاله كتابة شعرية تنصب في إطار
القصيدة العام لأنها فكرة جوهرية وأفكار جزئية، وأحاسيس مشتركة بين عامة
أبناء هذا الوطن الكبير، يواصل الشاعر سرد المعاناة التاريخية، في تحديد
الشخص الواحد، حيث يعطيه أدوارا كثيرة في ارتداء العقال وملابس الفدائيين
وأشياء كثيرة يحاول من خلالها إبراز الخلل التاريخي والتحذير الكلي من
الوقوع فيه، إلى غاية المقطع الأخير :
وَنَحْنُ سَاهِرُونَ فٍي نَافِذَةِ الحَنِينْ
نُقَشِرُ التُفَاحَ بِالسِكِينْ
وَنَسْأَلُ اللَّهَ ' القُرُوضَ الحَسَنَة ْ'!
فَاتِحَة:
آمِينْ. (9)
وهنا
تعبير قائم في شبه اللامعاناة، التي كانت محور القصيدة، وبهذا كان النص
يعبر عن تحليل فكري يخص الشاعر ويخص المرحلة التاريخية التي سبقت كتابة
القصيدة، ولكنه تحليل يمتاز بمنطقية شديدة وحسية بالغة الأهمية، مَثَّلَ
الشاعر في قصيدته، دور المدافع عن الملك أو الحاكم، لتجسيد قيمة حقيقية
للخلفية الشعبية، المغيبة تماما.
وإذا عدنا إلى القصيدة فسنجد أن
الشاعر ما زال يغترف ويستوحي نصوصه عن طريق ( التناص) في علائق مع خطابات
أخرى، في مثاقفة حصيفة مع أبيات الشاعر ' أحمد شوقي'، تضفي على شعر (
أمل)، عدا جمالياته عتاقة وجلالا، وصيغة حضارية، متواصلة، ويظهر نسيج
التناص في البيتين التاليين:
(جَبَل التَوبادِ حَيَّاكَ الحَيَا)
( وَسَقَى اللَّهُ ثَرَانَا الأَجْنَبِي!)
( وَطَنِي لَو شُغِلْتُ بٍالخُلْدِ عَنْهْ..)
( نَازَعَتْنِي ـ لِمَجْلِسِ الأَمْن ِ- نَفْسِي!).
فالبيت الأول يتناص مع بيت من مسرحية ( مجنون ليلى) لأحمد شوقي :
جَبَل التَوبادِ حَيَّاكَ الحَيَا وَسَقَى اللَّهُ صِبَانَا وَرَعَى (10)
ويستخدم
الشاعر المفارقة الصارخة الساخرة حيث الشاعر ' يدمر التوقع الذي يثيره
البيت المضمن عن طريق بناء صيغة ساخرة مناقضة لمستوى مشابهة الحقيقة
(Vraisemblance )، في البيت المضمن، وتشكل الصيغة الساخرة، في العبارة (
ثرانا الأجنبي ) تحولا تاما في المضمون والقافية'(11) ،أما البيت الثاني،
فيتناص مع بيت من قصيدة للشاعر أحمد شوقي وهي معارضة لسينية البحتري:
وَطَنِي لَو شُغِلْتُ بٍالخُلْدِ عَنْهُ نَازَعَتْنِي إلَيْهِ فِي الخُلْدِ نَفْسِي (12)
حيث
' تكسر صيغة - مجلس الأمن - السياق المضموني في السطر الشعري مع الاحتفاظ
بالقافية'(13)، فهذه التناقضات والمفارقات بين مستويات الخطاب ' تعادل
الواقع المعيش، وتشكل في الوقت نفسه انقطاعا تاريخيا،.. يماثل الانقطاع في
الذاكرة الشعرية ومن ثم انقطاع الاستمرارية التاريخية والثقافية على
السواء' (14) ، وحيث الخطاب يبقى غير تاريخي! في هذا الزمن اللاتاريخي!.
الهــوامــش :
* أمل دنقل، شاعر مصري ولد سنة 1940 و توفي سنة 1983، أهم دواوينه ' البكاء بين يدي زرقاء اليمامة'.
(1). أمل دنقل، الأعمال الشعرية الكاملة، دار العودة، بيروت، لبنان، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط 2 ، 1985، ص398، 399.
(2). إبراهيم بادي، ' دلالة العنوان وأبعاده في ( موتة الرجل الأخير)'، مجلة ' المدى' سورية، عدد 6 ، 1999، ص113.
(3). بييرجيرو، علم الاشارة ( السيميولوجيا)، ترجمة: منذر عياشي، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، سورية، ط1، 1998،ص30.
(**)
جهاد فاضل، ' أزمة حرية.. وليست أزمة شعر'، ( حوار مع الشاعر أمل
دنقل)،مجلة ' آفاق عربية'، العراق، ع 3 ، السنة السابعة، 1981 ص114.
(4). أمل دنقل، الأعمال الشعرية الكاملة، ص397.
(5). أحمد بهجت، أنبياء الله، ' دار الشروق' لبنان، ط7، 1980، ص54.
(6). سورة هود، الآية 38، مكية.
( ***) مالك بن نبي: مفكر وفيلسوف كبير، ولد في قسنطينة في الجزائر سنة (
1905) لأبوين فقيرين، وتوفي في الجزائر في 31 تشرين الأول ( اكتوبر) 1973.
للمفكر اثنان وعشرون (22) مؤلفا مطبوعا واثنا عشر مؤلفا مخطوطا.
انظر: ' مالك بن نبي، مذكرات شاهد للقرن' ، ' دار الفكر'، دمشق، سورية ، ' دار الفكر' ، الجزائر، ط2 ، 1984 .
- مالك بن نبي، ' في مهب المعركة' ، ' دار الفكر'، دمشق، سورية، ط1، 1981.
- ( ****) معنى التراب هنا ليس بالمعنى المتبادر إلى الذهن، إنما المقصود
به كل شيء على الأرض وفي باطنها، سواء أكان ثمرا أو معدنا، ولعل المفكر
استوحاه من قوله تعالى: ' وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَمَاوَاتِ وَمَا
فِي الأرْضِ جَمِيعَا مِنْهُ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَومٍ
يَتَفَكَرُون . سورة الجاثية، الآية13، مكية.
انظر: ' مالك بن نبي: تأملات في المجتمع العربي'، ' دار الفكر'، دمشق، سورية، 1985، ص167.
(7). مالك بن نبي، شروط النهضة، ترجمة : عبد الصبور شاهين، /عمر كامل
مسقاوي، ' دار الفكر'، الجزائر، ' دار الفكر' سورية، ط 4، 1987 . ص48.
(8). أمل دنقل، الأعمال الشعرية الكاملة، ص398، 399.
(9). أمل دنقل، الأعمال الشعرية الكاملة، دار العودة، بيروت، لبنان، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط 2 ، 1985، ص398، 399.
(10). أحمد شوقي، ' مجنون ليلى'، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مصر، 1983، ص112.
(11). اعتدال عثمان، ' إضاءة النص'، ' دار الحداثة للطباعة والنشر'، لبنان ط 1، 1988 ص183.
(12). أحمد شوقي، ' الشوقيات'، دار العودة، بيروت، لبنان، مجلد 1 ، 1986، ص46.
(13) اعتدال عثمان، ' إضاءة النص'، ص183.
(14) المرجع نفسه، ص183.
لـسن عزوز
* أستاذ النقد الأدبي المعاصر المركز الجامعي وادي سوف الجزائر.
القدس العربي
2011-03-10
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
مواضيع مماثلة
» قراءة في قصيدة «جـُرأة» (*) للشاعر المغربي محمد الأشعري (2/1)
» التخييـل في مواجهـة الفقــدان قراءة في رواية: 'حيوات متجاورة' لمحمد برادة: شرف الدين ماجدولين
» عتبات الرواية أم عتماتها؟ قراءة في "أبنية الفراغ" لمحمد عز الدين التازي
» صدق او لا تصدق
» الدين ليس قفصا، الدين باب السماء
» التخييـل في مواجهـة الفقــدان قراءة في رواية: 'حيوات متجاورة' لمحمد برادة: شرف الدين ماجدولين
» عتبات الرواية أم عتماتها؟ قراءة في "أبنية الفراغ" لمحمد عز الدين التازي
» صدق او لا تصدق
» الدين ليس قفصا، الدين باب السماء
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى