الجريمة والعقاب في مغرب القرن 16
صفحة 1 من اصل 1
الجريمة والعقاب في مغرب القرن 16
كيف كانت أحوال العدالة في الدولة المغربية خلال القرن السادس عشر، علما أن كلمة «عدالة» موظفة مجازا في هذا السؤال؟
ما الأحكام التي كانت تصدر باسم السلطان ومن كان يحرك مسطرة المتابعة؟ وما
الجرائم والجنح التي كان يعاقب عليها القانون؟ ما حكم القاتل وما الفرق بين
«القصاص» و»الدية» و»التشهير؟ وكيف كانت تنفذ عقوبة الإعدام ومن كان مكلفا
بذلك؟ وهل كانت هناك استثناءات في تنفيذ العقوبات؟
أسئلة تاريخية غزيرة تتناسل ويجيب عنها الإسباني فرناندو رودريغيث مِديانو
المتخصص في حقول تاريخ المغرب ونخبه (القرنين 16 و17)، وفي الحماية
الإسبانية في المغرب والعلاقات بين إسبانيا والإسلام في العصر الحديث،
والعضو الباحث في «المجلس الأعلى للأبحاث العلمية» الإسباني و»مركز العلوم
الإنسانية» بمدريد و»المدرسة الإسبانية للتاريخ والأركيولوجيا» بروما.
مقال فرناندو رودريغيث مِديانو الرصين، الذي نقترح ترجمته على القراء،
يقارب هذه الأسئلة انطلاقا من الوثائق والمصنفات التاريخية، وقد نشر، تحت
عنوان «العدالة، الجريمة والعقاب في مغرب القرن السادس عشر»، في المجلة
الفرنسية المتخصصة والشهيرة «حوليات، تاريخ، علوم إنسانية» (العدد الثالث
من أعداد السنة الواحدة والخمسين، 1996). ومعلوم أن هذه الفصلية صدرت في
البداية تحت عنوان «حوليات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي» (1929) بمبادرة
من المؤرخين الكبيرين مارك بلوخ ولوسيان فيبر، وأنها كانت وراء تأسيس مدرسة
الحوليات في دراسة التاريخ، إحدى أهم مدارس الدراسات التاريخية في فرنسا
والعالم.
وقد عدنا، في هذه الترجمة، إلى المراجع الأصلية التي اشتغل عليها الكاتب،
وبعضها مترجم إلى العربية، مستلين منها المقاطع التي استندت عليها الدراسة.
في المجلد الثاني من «أرشيفات بربرية»، يصف لويس برونو لعبة كان يمارسها
الأطفال في فاس تسمى «شفار-قمار» : يجلس مجموعة من الصغار، مكونين دائرة،
ويرمون، الواحد تلو الآخر، بلاغيهم في الهواء. وحسب الشكل الذي تسقط به
بلغة الواحد منهم (أي النعلين معا على الأرض، وجها البلغة الاثنين على
الأرض أو نعل ووجه على الأرض)، يضطلع الطفل بدور سلطان أو وزير أو لص.
وتستلزم قواعد اللعبة ألا يتعرض اللص للعقوبة إلا في حالة وجود سلطان أو
وزير مسبقا، وفي هذه الحالة فإنه ينال ضربات متوالية بواسطة حزام جلدي أخمص
القدمين من طرف السلطان. وفي المقابل، وعند عدم وجود لا سلطان ولا وزير،
فإن اللص لا يتعرض للعقاب. وأخيرا، ومع انتخاب سلطان جديد، فإن السلف يُخلع
من العرش بعد أن يقرعه الخلف بجلدة من سوط (نفس الأمر يحدث عند تعيين وزير
جديد حسب مقال لويس برونو -م)
ورغم بساطتها، فلعبة فاس تعبر عن العلاقة المتينة بين الارتقاء في دواليب
السلطة وممارسة العنف، مثلما تؤشر على العلاقات الجدلية بين النظام
والاضطراب، بين السلطة والفوضى.
إن هذه الثنائية ذات طبيعة شبه إيديولوجية، وهي تؤدي، في آخر المطاف، إلى إقرار شرعية السلطة كمسؤولة على نظام متسام.
إن السلطة، وهي تمارس العنف، تخلق خطابا وتُعدّ نصا سنده الجسد. ويتعلق
الأمر هنا بخطاب بيداغوجي، خطاب يُعلم ويتحول إلى ذاكرة لأنه يقوم بذلك
(التعليم) عن طريق آثار متعذرة المحو. أما مرجعيات هذا الخطاب، ومكوناته
وتلميحاته، فهي تنتمي للغة مشتركة مفهومة من طرف العامة. وتسعى الملاحظات
التالية إلى الكشف عن بعض سمات هذه اللغة، وخاصة تلك المرتبطة بالعقوبة
وتقنيات استعمال العنف الإدارية.
أما الإطار المنتقى، فهو المغرب السعدي (نسبة إلى الدولة السعدية-م) الذي
يمثل نقطة تحول جذري في سياق تطور سياسي يكمن مؤشره الأكثر جلاء في قيام
دول سلالات الشرفاء، وفي توظيف «البركة» النبوية، الموروثة عائليا، كعنصر
مركزي في خطاب حيازة المشروعية.
السلطة الوليدة
من المعروف أن القانون الإسلامي يعتبر الجسد، الجراح وعمليات القتل
(الدماء) قضايا تهم الأفراد لوحدهم وليس الله. ولذا، فوضعها القانوني مختلف
عن الوضع المخصص للجرائم المتعلقة بالله حصريا (ومنها كما ورد في أحد
هوامش المقال: السرقة، والزنا، والشرب والارتداد-م)، وعن وضع الأخطاء
المتعلقة بالله والإنسان في ذات الوقت (ومنها كما جاء في هامش آخر للمقال:
القذف-م). وبالنسبة لهذين الصنفين الأخيرين من الجرائم (المتعلقة بالله
حصريا وبالله والناس في نفس الآن-م)، فإن العقوبات المحددة مقررة سلفا
(الحدود). وبالمقابل، وبالنسبة للجرائم المتعلقة بالأشخاص فحسب، فإن تدخل
الطرف المتضرر حاسم. ويتوفر هذا الطرف، للتعويض عن جرائم الدم المرتكبة
ضده، على وسيلتين اثنتين لنيل حقه: إما تطبيق القصاص (شريعة المثل) أو
الحصول على الدية (ثمن الدم). ومن نتائج تقييم عنصر العمد في عملية القتل،
وإفادات شهود الأطراف المتنازعة وتحليل ظروف الجريمة، بلورة مجموعة من
الحالات المعقدة التي تزخر مصنفات الفتاوى بنماذج جيدة منها.
ونظرا لهذا الإدراك السائد لجريمة القتل في الإسلام، فإنها (الجريمة) تعتبر
مسألة تنتمي أساسا للحقل الجماعي. وهي توضح وجود شبكة معقدة من أصناف
التضامن، كاشفة عن المسؤولية الجماعية عن الجرم. ويصف ليون الإفريقي (الحسن
الوزان)، في العديد من صفحات كتابه (وصف إفريقيا)، الطريقة المعتادة التي
كانت تحسم هذه المنازعات بواسطتها في مغرب بداية القرن السادس عشر: إذا
ارتكب أحد جريمة قتل واستطاع آل الضحية تصفية الفاعل، فإن القضية تعتبر قد
سويت. أما إذا لم تتخذ الأمور هذا المجرى، فإن القاتل يُنفى لمدة سبع
سنوات، ويمكنه، بعد انقضاء هذه الفترة، العودة إلى بيته، لكن شرط دفع مبلغ
مالي لأسرة القتيل ، أو تنظيم مأدبة كبرى يستدعي لحضورها أعيان الجماعة. إن
النفي، الذي يدرج كعقوبة نوعا من «الموت المدني» الرمزي الذي يقوم مقام
الموت الجسدي (2 مكرر)، والمأدبة المؤدية للتصالح يجسدان الطابع الجماعي
لجريمة القتل ولحلها.
في «وصف إفريقيا»، يقوم ليون الإفريقي بإلمامة بالوضع في بداية القرن
السادس عشر، وهو رصد يبرز التنوع الكبير للحلول المعتمدة لفك النزاعات.
ويبدو أن هذا التنوع مرتبط بالتوتر القائم بين البنيات التقليدية والنموذج
الإسلامي. هكذا على سبيل المثال، كان يوجد الكثير من الفقهاء ضمن آيت داود،
لكن أهل القبيلة لم يكونوا يمتثلون لسلطتهم حين يتعلق الأمر بقضايا ذات
أهمية بالغة. أما عند بني إفران، فالقاضي الوحيد المتواجد كان يهتم بقضايا
الإرث والديون فقط، بينما كانت عقوبة الجرائم هي النفي. ومن جهة أخرى، فلا
أحد كان مكلفا بالقضاء في جبل سَمِد، وكان الغرباء العابرون للمنطقة هم من
يقوم بدور القاضي أحيانا، وهذا ما حصل لليون الإفريقي نفسه خلال إقامته
هناك.
وفي هذا الإطار، فإقامة السلطة السياسية الحازمة تستند إلى حجة تطبيق
العقوبات بتطابق مع تعاليم الإسلام. وفي هذا السياق، تشكل وثيقتان (تعودان
لسنة 1512 مصنفا للتعليمات المفروضة من طرف يحيى بن تعفوفت، الحليف الشهير
للبرتغاليين في آسفي، على بني حارث وقبيلة أخرى مجهولة. يبدأ أول النصين،
وهو بدون شك الأكثر شمولية وأهمية، بالإشارة إلى أن يحيى بن تعفوفت قد قرر،
بسبب الأخطاء المرتكبة من قبل أسلاف القبيلة، تطبيق تعاليم الإسلام الخاصة
بالقصاص على كل من قتل أحد إخوانه المسلمين: «الروح بالروح، والعين
بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن والسن بالسن». وبعدها، يحدد قيمة
الدية الخاصة بمختلف الجنح والجرائم: عشر أوقيات بالنسبة للسارق (الأوقية
كانت تساوي عشرة دنانير-م)، أوقية واحدة لمن ضرب شخصا آخر بحجر أو بعكاز،
خمس أوقيات لمن حاول اغتصاب امرأة، نصف أوقية للمرأة التي تسب رجلا، الخ.
أما الوثيقة الثانية، وهي أقل تفصيلا من الأولى، فإنها تتضمن تقريبا نفس
العقوبات.
أريد هنا التأكيد على الإشارة إلى « الأخطاء المرتكبة من قبل الأسلاف»
ومحاولة إقامة نظام سياسي جديد قائم على التطبيق الحرفي للتعاليم
الإسلامية، وهو ما يحيل على صورة مصلح التقاليد المعروفة في التاريخ
المغاربي. يتعلق الأمر إذن، في هذا المقام، بخطاب للسلطة مؤسس على خطاب
عقابي، بحيث تؤدي إدانة الوسائل التقليدية إلى بزوغ مشروع سياسي شامل. ومن
ثمة، فلا دخل للصدفة في كون نونيو فرنانديث دي أتايد أرسل الوثيقتين المشار
إليهما إلى البلاط البرتغالي كبرهان على أن يحيى بن تعفوفت سيرفض أداء
الضريبة لبرتغاليي آسفي، وأنه سيدبرها بنفسه. إن المعطى الوارد في هذه
الحالة، والمتعلق بالعلاقة الوثيقة بين تدبير العنف وتدبير الجبايات، معطى
جد دال بكل تأكيد.
السلطة الممارَسة
خلف لنا لويس دو مارمول، في «الوصف الشامل لإفريقيا»، سردا مفصلا حول
التقاليد العقابية في فاس خلال النصف الثاني من القرن السادس عشر. وحسبه،
فـإنه «يطبق نفس النظام في جميع مدن بلاد البربر تقريبا». وفي النص ذاته،
نعلم بوجود سجنين اثنين بالمدينة، واحد مخصص للمعتقلين في إطار نزاعات
الديون والقضايا الأخرى غير ذات أهمية كبيرة، والآخر مخصص لمرتكبي جرائم
القتل. وجرت العادة أن يسلم هؤلاء الأخيرين إلى أهل الضحية، في حالة
وجودهم، إما لقتلهم وإما للعفو عنهم مقابل مبلغ مالي ، وهو ما يمثل، في آخر
المطاف، تطبيقا للقصاص والدية. غير أن السلطان كان يبادر من تلقاء نفسه في
مجال قضايا القتل عند عدم وجود الطرف المتهِم. ويكتب مارمول عن هذه
الحالات: «إذا أرادوا إعدام رجل ولم يكن من ذوي الهيئات ساقوه عبر الأزقة
وهو مكتوف اليدين، إلى مكان الإعدام، وهو دائما مكان مطروق بكثرة في
المدينة. ويذكر هو نفسه بأعلى صوته السبب الذي من أجله حكم عليه بالإعدام،
قائلا: هذا ما يستحق من ارتكب مثل هذه الجريمة! ثم يعلق من رجليه في مشنقة،
ويذبح، ويترك هناك يوما أو يومين» (مرجع سابق، ص: 163). أما حين يكون
الجاني شخصية مهمة، فإن ترتيب طقس إعدامه يتغير حسب مارمول:»لكن، إذا كان
من ذوي البيوتات، يذبح في السجن، ويساق عبر الأزقة محمولا معكوسا على دابة،
وهم يصيحون بنفس الشيء» (نفسه، ص: 163). وكانت هناك أيضا تقنيات أخرى
لتطبيق حكم الإعدام، يضيف المؤرخ: «وإن كان ذلك (حكم الإعدام) لجريمة خيانة
ذبح من خلف، أي من القفا، وأحيانا يشق بطنه شقا معكوسا ويترك هكذا إلى أن
يموت. ومنهم من يخنقون في السجن، أو يشنقون علنا، ويقولون إنها عادة أدخلها
القوط إلى إفريقيا حتى لا يعذبوا كثيرا في الموت» (نفسه، ص: 163). أما في
حالة السرقات والديون والجنح الأخرى التي لا تستحق عقوبة الإعدام، فقد كانت
العقوبة تتمثل في تعرض الجاني لعدد محدد مسبقا من الجلدات أمام القاضي،
وعقبها طوافه عاري الجسم في أزقة فاس مع إجباره دائما على إعلان سبب عقوبته
بصوت مرتفع . وبالإضافة للعقوبات الجسدية ، كان العامل يتوصل بمبالغ مالية
كبيرة يجنيها من الغرامات النقدية المفروضة على مرتكبي جنح مختلفة (في هذا
الصدد، يشير الكاتب في أحد الهوامش إلى ما دونه ليون الإفريقي وهو يصف
«القضاة وكيفية الحكم والتسيير» بفاس: «ويستفيد العامل أموالا طائلة من
الغرامات التي تفرض في كل وقت.» -م).
وفي مكان آخر من كتابه، يصف مارمول التقنيات العقابية في مراكش، ساردا ما
شاهده في سوق المدينة حيث: «توجد (...) كومة من التراب أعلى من الدكاكين
والدور المحيطة بها، وفيها يقع إعدام الأشرار، وتشاهد بها دائما مشنقات،
يعلق فيها بعضهم من أرجلهم ثم يذبحون، ويعلق آخرون هكذا دون أن يذبحوا حتى
يموتوا على هذه الحالة، ويعلق بعضهم من الذراع والبطن مفتوح حتى يموتوا
بهذه الكيفية. لكنهم لا يربطون أحدا أبدا إلى مشنقة وذراعاه مبسوطتان. هكذا
يعامل المجرمون عند انعدام الخصم، ولكن، إذا كان هناك خصم فإليه ترجع
العدالة، فيخنق المجرمين ويذبحهم، أو يطعنهم بالرماح أو الخناجر، أو يبيعهم
كعبيد، أو يساعدهم على فداء أنفسهم بالمال».
إن مثالي فاس ومراكش يعتبران مكملين، إلى حد ما، تعاقب مراحل العقوبة:
التطبيق الأولي للقصاص والدية، والتدخل الرسمي في حالة غياب الطرف المتهم ،
والطواف العلني (التشهير) ثم الإعدام في الأماكن التي يرتادها أكبر عدد من
الناس في المدينة. وكما رأينا ذلك سالفا، فقد يخضع ترتيب مراحل العقوبة
هذا للتغيير حسب الوضع الاجتماعي للجاني. وهكذا، ينتج عن الوضع الاجتماعي
السامي للمذنب تقليص عقوبته عبر إعفائه من فضيحة الطواف العلني (ويُذَكر
الكاتب في الهامش الخاص بهذه النقطة بما ورد في الفصل السادس الخاص
بالتعزير من كتاب «الأحكام السلطانية والولايات الدينية» للماوردي: «تأديب
ذا الهيبة من أهل الصيانة أخف من تأديب أهل البذاء والسفاهة لقول النبي
صلعم: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم.» ، مقارنا إياه بما جاء في «رسالة ابن
عبدون في القضاء والحسبة»: «ولا يُقيل (صاحب المدينة) على أحد عثرة في
معصية إلا لذوي الهيئات، فإنهم يُقالون للحديث: أقيلوا ذوي الهيئات.
والتوبيخ لهم أنكل من الأدب.».
إن مجرى العقوبة يبرز إذن تراتبية اجتماعية ذات علاقة بفئة الأشخاص المعاقبين من جهة، وكذلك بفئة الجلادين من جهة أخرى كما سنرى ذلك.
وتتضمن شهادات أخرى فروقا بسيطة مقارنة مع ما كتبه مارمول. وفي هذا السياق،
يسجل تقرير إنجليزي يعود إلى سنة 1604 ويبدو أنه من إيحاء روبرت سيسِل
(رجل دولة بريطاني كان مكلفا بأمن الدولة، وهو أول كونت لساليسبوري، ولد في
1 يونيو 1563 وتوفي في 24 ماي 1612-م)، يسجل التقرير الطابع العجول
لقرارات الحاكم القضائية، إذ بمجرد اعتراف المتهم بارتكاب الجريمة، يتم قطع
رأسه. ووفق نفس التقرير، فإن الحكم بالإعدام عقوبة ينالها القاتلون
واللصوص والزناة، ومعهم حملة السلاح. ويسجل تقرير إنجليزي آخر، مؤرخ في
1638 ومجهول الكاتب، كذلك السرعة التي تطبق بها الأحكام التي ينطق بها
الحاكم، وهي أساسا أحكام ضرب العنق. ومن جهة أخرى، يصف جون موكي، في 1606،
كيف قطع القاضي وأعوانه رأس معتقل بمجرد إلقاء القبض عليه. أما توماس
لوجوندر، فيقترح علينا مشهدا أكثر لباقة احتضنته مراكش سنة 1665: رُمي
المحكوم عليه فوق قضبان حديدية معقوفة وضخمة، وظل هناك إلى حين موته. أما
إذا لم تخترق القضبان أي عضو حيوي في جسمه لسوء حظه، فإن احتضاره قد يستمر
عدة أيام. وكان الحاكم يتوفر أيضا، لتكتمل ترسانته، على سيوف لضرب الأعناق
وعصي لإنزال العقوبات بمقترفي الجنح غير الجسيمة.
رغم أن القانون الإسلامي لم ينتج إطلاقا خطابا متطورا حول العقوبة باستثناء
تطبيق القصاص والدية، فإن السلطة السياسية، من جهتها، أظهرت قدرتها
العقابية عن طريق تدخلها من تلقاء نفسها عند غياب الطرف المتهِم، وهذا أمر
بديهي. ويبدو، في الواقع، أن النظام القضائي كان يتطور في اتجاه إقرار فصل
بين النزاعات المدنية التي يختص بها القاضي، وبين النزاعات الجنائية التي
يؤول أمرها للحاكم الذي يصدر الأحكام باسم السلطان ، علما أن اختصاصات هذا
الأخير ذات طبيعة عسكرية حسب ما يمكن ترجيحه. إن إقامة السلطة كعقوبة
تستلزم، بالإضافة إلى إنشاء هيئة قضائية خاصة، تنظيم جهاز مهني للشرطة. وفي
حالة فاس، فقد كان رجال الشرطة ينالون مبلغا ماليا مقابل كل سجين، يمنحه
إياهم طائفة من الصناع والتجار. وكانت إحدى الممارسات المألوفة للشرطة
تتمثل، من جهة أخرى، في تسيير «تاباكينو» (الكلمة إيطالية وتعني بائع
التبغ، ويبدو أنها حرفت في إحدى الترجمات لأن التبغ لم يكن قد دخل المغرب
حينذاك-م)، وهو فضاء مخصص لاستهلاك الكحول، والدعارة وممارسات غير شريفة
أخرى. وتعرض هذه العلاقة الوثيقة بين الأنشطة القانونية وغير القانونية،
بين النظام والفوضى، نفسها على أساس كونها ضرورية، بمعنى أن السلطة توظف
اللغة الجنائية والعقابية للتعبير عن نفسها كسلطة ممارَسة، كمصلحة، كنظام.
ويتعلق الأمر هنا بلغة دامغة، غير قابلة للاستئناف، منفلتة من الشك، تتحدث
بصوت مرتفع وتؤدي وظيفة تعليمية. أجل، من اللازم أن يتعرض النص المكتوب على
جسد المحكوم عليهم للتشهير العلني في الأزقة، وأن يعرض في الأماكن
المرتادة من طرف الناس بكثرة والأكثر منظورية، مثلما هو الحال بالنسبة
لكومة التراب الواقعة وسط سوق مراكش والتي يفوق علوها ارتفاع الدور
والدكاكين المحيطة بها. إن الأجساد المصلوبة والمعروضة فوقها، تلك الأجساد
الممزقة، تتحدث من تلقاء نفسها، بكل بداهة، عن النظام القائم والسلطة
الممارَسة.
الأثر
القانون الإسلامي لا يعرف تطبيق التعذيب، تلك التقنية المستعملة في العالم
الغربي كوسيلة للإثبات التدريجي والمتزامن لحالة الإجرام والعقوبة ، والتي
تعتبر جسد المتهم مادة شمولية للتعذيب. هكذا، وفي حالة القانون المالكي،
فإن إثبات الإجرام يستلزم أساسا تدخل الشهود، أما سرعة تطبيق الأحكام
بالإعدام، فهي تكشف غياب الاستكشاف المؤلم للجسد الذي طورته أوربا. ويبدو
أن هذا التحفظ إزاء اللجوء للتعذيب مرتبط بنفور القانون الإسلامي من بتر
الأعضاء، وذلك إذا ما استثنينا حالة قطع يد السارق التي تظل حالة فريدة.
وفي هذا الإطار، فإن فتوى يتضمنها كتاب «الجواهر المختارة» للزياني تشكل
مثالا جد معبر عما سلف ذكره، وهي فتوى منسوبة لمحمد العربي الفاسي. حين
سؤاله حول موضوع تطبيق المسلمين لنفس العقوبة التي يطبقها البرتغاليون ضد
أتباع محمد، أي بتر الأذن وإلحاق جروح بالوجه، حين استفساره عن تطبيق
المعاملة بالمثل ضد الأسرى النصارى الذين يحاولون الفرار، أجاب محمد العربي
الفاسي بالسلب.
وتتضمن رسالة بعثها ألفارو دي نورونيا إلى ملك البرتغال، إيمانويل الأول،
حوالي سنة 1519 موقفا مماثلا لمضمون الفتوى السابقة الذكر: «أما الطريقة
التي يأمر سموك بمعاقبتهم بها، فهي غير مستعملة لدى العرب، ذلك أن طريقتهم
الوحيدة في العقاب تطال الممتلكات، وهم يؤدون مبلغا ماليا حسب طبيعة جرمهم.
وحين تعرض أحد أقاربهم لقطع الأذنين أو للجلد، يتولد لدى العرب رعب يفوق
بكثير الرعب الناتج عم حجز مجموع ثروة القريب المعني».
ومع هذا، فإن «تاريخ الدولة السعدية التكمدارتية» المجهول الكاتب، يروي أن
محمد الشيخ المهدي، حين حاصر فاس لأول مرة في 1549، بتر جزءا من أذن
الفاسيين الذين حاولوا الفرار من المدينة للعودة إلى معسكرهم. وبفعل ذلك،
صار أثر جسدي يكشفهم في حالة العود، مما يترتب عنه إعدامهم.
وتذكر هذه الرواية بإحدى أساطير حملة عقبة بن نافع الأسطورية على شمال
إفريقيا، إذ أمر الفاتح الأسطوري، حسب البكري، بقطع أذن، أو أصبع أو أنف
الملوك الواحد تلو الآخر بعد هزمهم حتى لو استسلموا طوعا، وذلك كي لا
يرغبوا البتة في الانتفاض ضد الإسلام مجددا . ورغم فظاعة بتر الأعضاء
والآثار الجسدية المترتبة عنه- أو ربما بسبب هذا؟- فإن السلطة تعبر عن
نفسها بواسطة بصمات غير قابلة للانمحاء، بصمات تحول الجسد إلى ذاكرة لا
يطالها المحو. وعن طريق روايته حول الفاسيين المبتوري الأعضاء، فإن صاحب
«تاريخ الدولة السعدية التكمدارتية»، المعادي بجلاء للسعديين، يبين الطابع
اللا يطاق للاستبداد الذي كان سيؤسس في المدينة. وعقب هذه الحكاية، وفي
مكان آخر من نفس النص يتعلق بحدث اغتيال عبد الواحد الونشريسي من طرف عصابة
من اللصوص (السياب) مسخرة من طرف محمد الشيخ، يحكي المؤرخ المجهول كيف قطع
القاتلون إحدى يدي العالم خلال المواجهة. إن مشهد بتر يد الونشريسي من قبل
لصوص (علما أن قطع اليد كان عقوبة السرقة)، يجسد، في الواقع، قلبا فعليا
للنظام، قلب يعبر من خلاله الطابع غير المشروع والعنيف للحكم الجديد عن
نفسه. ويمكننا التساؤل أيضا إلى أي حد يجسد تدخل السلطان في مجال بتر أعضاء
الضحايا، في الواقع، محاولة للحلول محل الخالق بوصفه متحكما في المادة،
وفي الجسد والرفات.
فرناندو رودريغيث مِديانو / ترجمة: سعيد عاهد
الاتحاد الاشتراكي
7/10/2011
ما الأحكام التي كانت تصدر باسم السلطان ومن كان يحرك مسطرة المتابعة؟ وما
الجرائم والجنح التي كان يعاقب عليها القانون؟ ما حكم القاتل وما الفرق بين
«القصاص» و»الدية» و»التشهير؟ وكيف كانت تنفذ عقوبة الإعدام ومن كان مكلفا
بذلك؟ وهل كانت هناك استثناءات في تنفيذ العقوبات؟
أسئلة تاريخية غزيرة تتناسل ويجيب عنها الإسباني فرناندو رودريغيث مِديانو
المتخصص في حقول تاريخ المغرب ونخبه (القرنين 16 و17)، وفي الحماية
الإسبانية في المغرب والعلاقات بين إسبانيا والإسلام في العصر الحديث،
والعضو الباحث في «المجلس الأعلى للأبحاث العلمية» الإسباني و»مركز العلوم
الإنسانية» بمدريد و»المدرسة الإسبانية للتاريخ والأركيولوجيا» بروما.
مقال فرناندو رودريغيث مِديانو الرصين، الذي نقترح ترجمته على القراء،
يقارب هذه الأسئلة انطلاقا من الوثائق والمصنفات التاريخية، وقد نشر، تحت
عنوان «العدالة، الجريمة والعقاب في مغرب القرن السادس عشر»، في المجلة
الفرنسية المتخصصة والشهيرة «حوليات، تاريخ، علوم إنسانية» (العدد الثالث
من أعداد السنة الواحدة والخمسين، 1996). ومعلوم أن هذه الفصلية صدرت في
البداية تحت عنوان «حوليات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي» (1929) بمبادرة
من المؤرخين الكبيرين مارك بلوخ ولوسيان فيبر، وأنها كانت وراء تأسيس مدرسة
الحوليات في دراسة التاريخ، إحدى أهم مدارس الدراسات التاريخية في فرنسا
والعالم.
وقد عدنا، في هذه الترجمة، إلى المراجع الأصلية التي اشتغل عليها الكاتب،
وبعضها مترجم إلى العربية، مستلين منها المقاطع التي استندت عليها الدراسة.
في المجلد الثاني من «أرشيفات بربرية»، يصف لويس برونو لعبة كان يمارسها
الأطفال في فاس تسمى «شفار-قمار» : يجلس مجموعة من الصغار، مكونين دائرة،
ويرمون، الواحد تلو الآخر، بلاغيهم في الهواء. وحسب الشكل الذي تسقط به
بلغة الواحد منهم (أي النعلين معا على الأرض، وجها البلغة الاثنين على
الأرض أو نعل ووجه على الأرض)، يضطلع الطفل بدور سلطان أو وزير أو لص.
وتستلزم قواعد اللعبة ألا يتعرض اللص للعقوبة إلا في حالة وجود سلطان أو
وزير مسبقا، وفي هذه الحالة فإنه ينال ضربات متوالية بواسطة حزام جلدي أخمص
القدمين من طرف السلطان. وفي المقابل، وعند عدم وجود لا سلطان ولا وزير،
فإن اللص لا يتعرض للعقاب. وأخيرا، ومع انتخاب سلطان جديد، فإن السلف يُخلع
من العرش بعد أن يقرعه الخلف بجلدة من سوط (نفس الأمر يحدث عند تعيين وزير
جديد حسب مقال لويس برونو -م)
ورغم بساطتها، فلعبة فاس تعبر عن العلاقة المتينة بين الارتقاء في دواليب
السلطة وممارسة العنف، مثلما تؤشر على العلاقات الجدلية بين النظام
والاضطراب، بين السلطة والفوضى.
إن هذه الثنائية ذات طبيعة شبه إيديولوجية، وهي تؤدي، في آخر المطاف، إلى إقرار شرعية السلطة كمسؤولة على نظام متسام.
إن السلطة، وهي تمارس العنف، تخلق خطابا وتُعدّ نصا سنده الجسد. ويتعلق
الأمر هنا بخطاب بيداغوجي، خطاب يُعلم ويتحول إلى ذاكرة لأنه يقوم بذلك
(التعليم) عن طريق آثار متعذرة المحو. أما مرجعيات هذا الخطاب، ومكوناته
وتلميحاته، فهي تنتمي للغة مشتركة مفهومة من طرف العامة. وتسعى الملاحظات
التالية إلى الكشف عن بعض سمات هذه اللغة، وخاصة تلك المرتبطة بالعقوبة
وتقنيات استعمال العنف الإدارية.
أما الإطار المنتقى، فهو المغرب السعدي (نسبة إلى الدولة السعدية-م) الذي
يمثل نقطة تحول جذري في سياق تطور سياسي يكمن مؤشره الأكثر جلاء في قيام
دول سلالات الشرفاء، وفي توظيف «البركة» النبوية، الموروثة عائليا، كعنصر
مركزي في خطاب حيازة المشروعية.
السلطة الوليدة
من المعروف أن القانون الإسلامي يعتبر الجسد، الجراح وعمليات القتل
(الدماء) قضايا تهم الأفراد لوحدهم وليس الله. ولذا، فوضعها القانوني مختلف
عن الوضع المخصص للجرائم المتعلقة بالله حصريا (ومنها كما ورد في أحد
هوامش المقال: السرقة، والزنا، والشرب والارتداد-م)، وعن وضع الأخطاء
المتعلقة بالله والإنسان في ذات الوقت (ومنها كما جاء في هامش آخر للمقال:
القذف-م). وبالنسبة لهذين الصنفين الأخيرين من الجرائم (المتعلقة بالله
حصريا وبالله والناس في نفس الآن-م)، فإن العقوبات المحددة مقررة سلفا
(الحدود). وبالمقابل، وبالنسبة للجرائم المتعلقة بالأشخاص فحسب، فإن تدخل
الطرف المتضرر حاسم. ويتوفر هذا الطرف، للتعويض عن جرائم الدم المرتكبة
ضده، على وسيلتين اثنتين لنيل حقه: إما تطبيق القصاص (شريعة المثل) أو
الحصول على الدية (ثمن الدم). ومن نتائج تقييم عنصر العمد في عملية القتل،
وإفادات شهود الأطراف المتنازعة وتحليل ظروف الجريمة، بلورة مجموعة من
الحالات المعقدة التي تزخر مصنفات الفتاوى بنماذج جيدة منها.
ونظرا لهذا الإدراك السائد لجريمة القتل في الإسلام، فإنها (الجريمة) تعتبر
مسألة تنتمي أساسا للحقل الجماعي. وهي توضح وجود شبكة معقدة من أصناف
التضامن، كاشفة عن المسؤولية الجماعية عن الجرم. ويصف ليون الإفريقي (الحسن
الوزان)، في العديد من صفحات كتابه (وصف إفريقيا)، الطريقة المعتادة التي
كانت تحسم هذه المنازعات بواسطتها في مغرب بداية القرن السادس عشر: إذا
ارتكب أحد جريمة قتل واستطاع آل الضحية تصفية الفاعل، فإن القضية تعتبر قد
سويت. أما إذا لم تتخذ الأمور هذا المجرى، فإن القاتل يُنفى لمدة سبع
سنوات، ويمكنه، بعد انقضاء هذه الفترة، العودة إلى بيته، لكن شرط دفع مبلغ
مالي لأسرة القتيل ، أو تنظيم مأدبة كبرى يستدعي لحضورها أعيان الجماعة. إن
النفي، الذي يدرج كعقوبة نوعا من «الموت المدني» الرمزي الذي يقوم مقام
الموت الجسدي (2 مكرر)، والمأدبة المؤدية للتصالح يجسدان الطابع الجماعي
لجريمة القتل ولحلها.
في «وصف إفريقيا»، يقوم ليون الإفريقي بإلمامة بالوضع في بداية القرن
السادس عشر، وهو رصد يبرز التنوع الكبير للحلول المعتمدة لفك النزاعات.
ويبدو أن هذا التنوع مرتبط بالتوتر القائم بين البنيات التقليدية والنموذج
الإسلامي. هكذا على سبيل المثال، كان يوجد الكثير من الفقهاء ضمن آيت داود،
لكن أهل القبيلة لم يكونوا يمتثلون لسلطتهم حين يتعلق الأمر بقضايا ذات
أهمية بالغة. أما عند بني إفران، فالقاضي الوحيد المتواجد كان يهتم بقضايا
الإرث والديون فقط، بينما كانت عقوبة الجرائم هي النفي. ومن جهة أخرى، فلا
أحد كان مكلفا بالقضاء في جبل سَمِد، وكان الغرباء العابرون للمنطقة هم من
يقوم بدور القاضي أحيانا، وهذا ما حصل لليون الإفريقي نفسه خلال إقامته
هناك.
وفي هذا الإطار، فإقامة السلطة السياسية الحازمة تستند إلى حجة تطبيق
العقوبات بتطابق مع تعاليم الإسلام. وفي هذا السياق، تشكل وثيقتان (تعودان
لسنة 1512 مصنفا للتعليمات المفروضة من طرف يحيى بن تعفوفت، الحليف الشهير
للبرتغاليين في آسفي، على بني حارث وقبيلة أخرى مجهولة. يبدأ أول النصين،
وهو بدون شك الأكثر شمولية وأهمية، بالإشارة إلى أن يحيى بن تعفوفت قد قرر،
بسبب الأخطاء المرتكبة من قبل أسلاف القبيلة، تطبيق تعاليم الإسلام الخاصة
بالقصاص على كل من قتل أحد إخوانه المسلمين: «الروح بالروح، والعين
بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن والسن بالسن». وبعدها، يحدد قيمة
الدية الخاصة بمختلف الجنح والجرائم: عشر أوقيات بالنسبة للسارق (الأوقية
كانت تساوي عشرة دنانير-م)، أوقية واحدة لمن ضرب شخصا آخر بحجر أو بعكاز،
خمس أوقيات لمن حاول اغتصاب امرأة، نصف أوقية للمرأة التي تسب رجلا، الخ.
أما الوثيقة الثانية، وهي أقل تفصيلا من الأولى، فإنها تتضمن تقريبا نفس
العقوبات.
أريد هنا التأكيد على الإشارة إلى « الأخطاء المرتكبة من قبل الأسلاف»
ومحاولة إقامة نظام سياسي جديد قائم على التطبيق الحرفي للتعاليم
الإسلامية، وهو ما يحيل على صورة مصلح التقاليد المعروفة في التاريخ
المغاربي. يتعلق الأمر إذن، في هذا المقام، بخطاب للسلطة مؤسس على خطاب
عقابي، بحيث تؤدي إدانة الوسائل التقليدية إلى بزوغ مشروع سياسي شامل. ومن
ثمة، فلا دخل للصدفة في كون نونيو فرنانديث دي أتايد أرسل الوثيقتين المشار
إليهما إلى البلاط البرتغالي كبرهان على أن يحيى بن تعفوفت سيرفض أداء
الضريبة لبرتغاليي آسفي، وأنه سيدبرها بنفسه. إن المعطى الوارد في هذه
الحالة، والمتعلق بالعلاقة الوثيقة بين تدبير العنف وتدبير الجبايات، معطى
جد دال بكل تأكيد.
السلطة الممارَسة
خلف لنا لويس دو مارمول، في «الوصف الشامل لإفريقيا»، سردا مفصلا حول
التقاليد العقابية في فاس خلال النصف الثاني من القرن السادس عشر. وحسبه،
فـإنه «يطبق نفس النظام في جميع مدن بلاد البربر تقريبا». وفي النص ذاته،
نعلم بوجود سجنين اثنين بالمدينة، واحد مخصص للمعتقلين في إطار نزاعات
الديون والقضايا الأخرى غير ذات أهمية كبيرة، والآخر مخصص لمرتكبي جرائم
القتل. وجرت العادة أن يسلم هؤلاء الأخيرين إلى أهل الضحية، في حالة
وجودهم، إما لقتلهم وإما للعفو عنهم مقابل مبلغ مالي ، وهو ما يمثل، في آخر
المطاف، تطبيقا للقصاص والدية. غير أن السلطان كان يبادر من تلقاء نفسه في
مجال قضايا القتل عند عدم وجود الطرف المتهِم. ويكتب مارمول عن هذه
الحالات: «إذا أرادوا إعدام رجل ولم يكن من ذوي الهيئات ساقوه عبر الأزقة
وهو مكتوف اليدين، إلى مكان الإعدام، وهو دائما مكان مطروق بكثرة في
المدينة. ويذكر هو نفسه بأعلى صوته السبب الذي من أجله حكم عليه بالإعدام،
قائلا: هذا ما يستحق من ارتكب مثل هذه الجريمة! ثم يعلق من رجليه في مشنقة،
ويذبح، ويترك هناك يوما أو يومين» (مرجع سابق، ص: 163). أما حين يكون
الجاني شخصية مهمة، فإن ترتيب طقس إعدامه يتغير حسب مارمول:»لكن، إذا كان
من ذوي البيوتات، يذبح في السجن، ويساق عبر الأزقة محمولا معكوسا على دابة،
وهم يصيحون بنفس الشيء» (نفسه، ص: 163). وكانت هناك أيضا تقنيات أخرى
لتطبيق حكم الإعدام، يضيف المؤرخ: «وإن كان ذلك (حكم الإعدام) لجريمة خيانة
ذبح من خلف، أي من القفا، وأحيانا يشق بطنه شقا معكوسا ويترك هكذا إلى أن
يموت. ومنهم من يخنقون في السجن، أو يشنقون علنا، ويقولون إنها عادة أدخلها
القوط إلى إفريقيا حتى لا يعذبوا كثيرا في الموت» (نفسه، ص: 163). أما في
حالة السرقات والديون والجنح الأخرى التي لا تستحق عقوبة الإعدام، فقد كانت
العقوبة تتمثل في تعرض الجاني لعدد محدد مسبقا من الجلدات أمام القاضي،
وعقبها طوافه عاري الجسم في أزقة فاس مع إجباره دائما على إعلان سبب عقوبته
بصوت مرتفع . وبالإضافة للعقوبات الجسدية ، كان العامل يتوصل بمبالغ مالية
كبيرة يجنيها من الغرامات النقدية المفروضة على مرتكبي جنح مختلفة (في هذا
الصدد، يشير الكاتب في أحد الهوامش إلى ما دونه ليون الإفريقي وهو يصف
«القضاة وكيفية الحكم والتسيير» بفاس: «ويستفيد العامل أموالا طائلة من
الغرامات التي تفرض في كل وقت.» -م).
وفي مكان آخر من كتابه، يصف مارمول التقنيات العقابية في مراكش، ساردا ما
شاهده في سوق المدينة حيث: «توجد (...) كومة من التراب أعلى من الدكاكين
والدور المحيطة بها، وفيها يقع إعدام الأشرار، وتشاهد بها دائما مشنقات،
يعلق فيها بعضهم من أرجلهم ثم يذبحون، ويعلق آخرون هكذا دون أن يذبحوا حتى
يموتوا على هذه الحالة، ويعلق بعضهم من الذراع والبطن مفتوح حتى يموتوا
بهذه الكيفية. لكنهم لا يربطون أحدا أبدا إلى مشنقة وذراعاه مبسوطتان. هكذا
يعامل المجرمون عند انعدام الخصم، ولكن، إذا كان هناك خصم فإليه ترجع
العدالة، فيخنق المجرمين ويذبحهم، أو يطعنهم بالرماح أو الخناجر، أو يبيعهم
كعبيد، أو يساعدهم على فداء أنفسهم بالمال».
إن مثالي فاس ومراكش يعتبران مكملين، إلى حد ما، تعاقب مراحل العقوبة:
التطبيق الأولي للقصاص والدية، والتدخل الرسمي في حالة غياب الطرف المتهم ،
والطواف العلني (التشهير) ثم الإعدام في الأماكن التي يرتادها أكبر عدد من
الناس في المدينة. وكما رأينا ذلك سالفا، فقد يخضع ترتيب مراحل العقوبة
هذا للتغيير حسب الوضع الاجتماعي للجاني. وهكذا، ينتج عن الوضع الاجتماعي
السامي للمذنب تقليص عقوبته عبر إعفائه من فضيحة الطواف العلني (ويُذَكر
الكاتب في الهامش الخاص بهذه النقطة بما ورد في الفصل السادس الخاص
بالتعزير من كتاب «الأحكام السلطانية والولايات الدينية» للماوردي: «تأديب
ذا الهيبة من أهل الصيانة أخف من تأديب أهل البذاء والسفاهة لقول النبي
صلعم: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم.» ، مقارنا إياه بما جاء في «رسالة ابن
عبدون في القضاء والحسبة»: «ولا يُقيل (صاحب المدينة) على أحد عثرة في
معصية إلا لذوي الهيئات، فإنهم يُقالون للحديث: أقيلوا ذوي الهيئات.
والتوبيخ لهم أنكل من الأدب.».
إن مجرى العقوبة يبرز إذن تراتبية اجتماعية ذات علاقة بفئة الأشخاص المعاقبين من جهة، وكذلك بفئة الجلادين من جهة أخرى كما سنرى ذلك.
وتتضمن شهادات أخرى فروقا بسيطة مقارنة مع ما كتبه مارمول. وفي هذا السياق،
يسجل تقرير إنجليزي يعود إلى سنة 1604 ويبدو أنه من إيحاء روبرت سيسِل
(رجل دولة بريطاني كان مكلفا بأمن الدولة، وهو أول كونت لساليسبوري، ولد في
1 يونيو 1563 وتوفي في 24 ماي 1612-م)، يسجل التقرير الطابع العجول
لقرارات الحاكم القضائية، إذ بمجرد اعتراف المتهم بارتكاب الجريمة، يتم قطع
رأسه. ووفق نفس التقرير، فإن الحكم بالإعدام عقوبة ينالها القاتلون
واللصوص والزناة، ومعهم حملة السلاح. ويسجل تقرير إنجليزي آخر، مؤرخ في
1638 ومجهول الكاتب، كذلك السرعة التي تطبق بها الأحكام التي ينطق بها
الحاكم، وهي أساسا أحكام ضرب العنق. ومن جهة أخرى، يصف جون موكي، في 1606،
كيف قطع القاضي وأعوانه رأس معتقل بمجرد إلقاء القبض عليه. أما توماس
لوجوندر، فيقترح علينا مشهدا أكثر لباقة احتضنته مراكش سنة 1665: رُمي
المحكوم عليه فوق قضبان حديدية معقوفة وضخمة، وظل هناك إلى حين موته. أما
إذا لم تخترق القضبان أي عضو حيوي في جسمه لسوء حظه، فإن احتضاره قد يستمر
عدة أيام. وكان الحاكم يتوفر أيضا، لتكتمل ترسانته، على سيوف لضرب الأعناق
وعصي لإنزال العقوبات بمقترفي الجنح غير الجسيمة.
رغم أن القانون الإسلامي لم ينتج إطلاقا خطابا متطورا حول العقوبة باستثناء
تطبيق القصاص والدية، فإن السلطة السياسية، من جهتها، أظهرت قدرتها
العقابية عن طريق تدخلها من تلقاء نفسها عند غياب الطرف المتهِم، وهذا أمر
بديهي. ويبدو، في الواقع، أن النظام القضائي كان يتطور في اتجاه إقرار فصل
بين النزاعات المدنية التي يختص بها القاضي، وبين النزاعات الجنائية التي
يؤول أمرها للحاكم الذي يصدر الأحكام باسم السلطان ، علما أن اختصاصات هذا
الأخير ذات طبيعة عسكرية حسب ما يمكن ترجيحه. إن إقامة السلطة كعقوبة
تستلزم، بالإضافة إلى إنشاء هيئة قضائية خاصة، تنظيم جهاز مهني للشرطة. وفي
حالة فاس، فقد كان رجال الشرطة ينالون مبلغا ماليا مقابل كل سجين، يمنحه
إياهم طائفة من الصناع والتجار. وكانت إحدى الممارسات المألوفة للشرطة
تتمثل، من جهة أخرى، في تسيير «تاباكينو» (الكلمة إيطالية وتعني بائع
التبغ، ويبدو أنها حرفت في إحدى الترجمات لأن التبغ لم يكن قد دخل المغرب
حينذاك-م)، وهو فضاء مخصص لاستهلاك الكحول، والدعارة وممارسات غير شريفة
أخرى. وتعرض هذه العلاقة الوثيقة بين الأنشطة القانونية وغير القانونية،
بين النظام والفوضى، نفسها على أساس كونها ضرورية، بمعنى أن السلطة توظف
اللغة الجنائية والعقابية للتعبير عن نفسها كسلطة ممارَسة، كمصلحة، كنظام.
ويتعلق الأمر هنا بلغة دامغة، غير قابلة للاستئناف، منفلتة من الشك، تتحدث
بصوت مرتفع وتؤدي وظيفة تعليمية. أجل، من اللازم أن يتعرض النص المكتوب على
جسد المحكوم عليهم للتشهير العلني في الأزقة، وأن يعرض في الأماكن
المرتادة من طرف الناس بكثرة والأكثر منظورية، مثلما هو الحال بالنسبة
لكومة التراب الواقعة وسط سوق مراكش والتي يفوق علوها ارتفاع الدور
والدكاكين المحيطة بها. إن الأجساد المصلوبة والمعروضة فوقها، تلك الأجساد
الممزقة، تتحدث من تلقاء نفسها، بكل بداهة، عن النظام القائم والسلطة
الممارَسة.
الأثر
القانون الإسلامي لا يعرف تطبيق التعذيب، تلك التقنية المستعملة في العالم
الغربي كوسيلة للإثبات التدريجي والمتزامن لحالة الإجرام والعقوبة ، والتي
تعتبر جسد المتهم مادة شمولية للتعذيب. هكذا، وفي حالة القانون المالكي،
فإن إثبات الإجرام يستلزم أساسا تدخل الشهود، أما سرعة تطبيق الأحكام
بالإعدام، فهي تكشف غياب الاستكشاف المؤلم للجسد الذي طورته أوربا. ويبدو
أن هذا التحفظ إزاء اللجوء للتعذيب مرتبط بنفور القانون الإسلامي من بتر
الأعضاء، وذلك إذا ما استثنينا حالة قطع يد السارق التي تظل حالة فريدة.
وفي هذا الإطار، فإن فتوى يتضمنها كتاب «الجواهر المختارة» للزياني تشكل
مثالا جد معبر عما سلف ذكره، وهي فتوى منسوبة لمحمد العربي الفاسي. حين
سؤاله حول موضوع تطبيق المسلمين لنفس العقوبة التي يطبقها البرتغاليون ضد
أتباع محمد، أي بتر الأذن وإلحاق جروح بالوجه، حين استفساره عن تطبيق
المعاملة بالمثل ضد الأسرى النصارى الذين يحاولون الفرار، أجاب محمد العربي
الفاسي بالسلب.
وتتضمن رسالة بعثها ألفارو دي نورونيا إلى ملك البرتغال، إيمانويل الأول،
حوالي سنة 1519 موقفا مماثلا لمضمون الفتوى السابقة الذكر: «أما الطريقة
التي يأمر سموك بمعاقبتهم بها، فهي غير مستعملة لدى العرب، ذلك أن طريقتهم
الوحيدة في العقاب تطال الممتلكات، وهم يؤدون مبلغا ماليا حسب طبيعة جرمهم.
وحين تعرض أحد أقاربهم لقطع الأذنين أو للجلد، يتولد لدى العرب رعب يفوق
بكثير الرعب الناتج عم حجز مجموع ثروة القريب المعني».
ومع هذا، فإن «تاريخ الدولة السعدية التكمدارتية» المجهول الكاتب، يروي أن
محمد الشيخ المهدي، حين حاصر فاس لأول مرة في 1549، بتر جزءا من أذن
الفاسيين الذين حاولوا الفرار من المدينة للعودة إلى معسكرهم. وبفعل ذلك،
صار أثر جسدي يكشفهم في حالة العود، مما يترتب عنه إعدامهم.
وتذكر هذه الرواية بإحدى أساطير حملة عقبة بن نافع الأسطورية على شمال
إفريقيا، إذ أمر الفاتح الأسطوري، حسب البكري، بقطع أذن، أو أصبع أو أنف
الملوك الواحد تلو الآخر بعد هزمهم حتى لو استسلموا طوعا، وذلك كي لا
يرغبوا البتة في الانتفاض ضد الإسلام مجددا . ورغم فظاعة بتر الأعضاء
والآثار الجسدية المترتبة عنه- أو ربما بسبب هذا؟- فإن السلطة تعبر عن
نفسها بواسطة بصمات غير قابلة للانمحاء، بصمات تحول الجسد إلى ذاكرة لا
يطالها المحو. وعن طريق روايته حول الفاسيين المبتوري الأعضاء، فإن صاحب
«تاريخ الدولة السعدية التكمدارتية»، المعادي بجلاء للسعديين، يبين الطابع
اللا يطاق للاستبداد الذي كان سيؤسس في المدينة. وعقب هذه الحكاية، وفي
مكان آخر من نفس النص يتعلق بحدث اغتيال عبد الواحد الونشريسي من طرف عصابة
من اللصوص (السياب) مسخرة من طرف محمد الشيخ، يحكي المؤرخ المجهول كيف قطع
القاتلون إحدى يدي العالم خلال المواجهة. إن مشهد بتر يد الونشريسي من قبل
لصوص (علما أن قطع اليد كان عقوبة السرقة)، يجسد، في الواقع، قلبا فعليا
للنظام، قلب يعبر من خلاله الطابع غير المشروع والعنيف للحكم الجديد عن
نفسه. ويمكننا التساؤل أيضا إلى أي حد يجسد تدخل السلطان في مجال بتر أعضاء
الضحايا، في الواقع، محاولة للحلول محل الخالق بوصفه متحكما في المادة،
وفي الجسد والرفات.
فرناندو رودريغيث مِديانو / ترجمة: سعيد عاهد
الاتحاد الاشتراكي
7/10/2011
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
الجريمة والعقاب في مغرب القرن 16
الصمت والمطامير
في الفترة المتراوحة بين 1549 و1554، دخل السعديون مدينة فاس مرتين. وإذا
كنا قد أشرنا سابقا للدخول الأول الذي أدى، من بين ما أدى إليه، إلى قتل
الونشريسي، فإن القمع الذي أعقب الدخول الثاني كان أكثر عنفا وذهب ضحيته
آلاف الشخصيات المهمة في المدينة. ومن بين الضحايا، كان هناك أبو حسون، آخر
السلاطين الوطاسيين الذي كان قد استعاد فاس من سيطرة محمد الشيخ نفسه أربع
سنوات قبل ذلك. أما وجهة جثة أبو حسون النهائية، فهي معروفة: لقد رميت في
مطرح الأزبال بباب السبع بعد فصل الرأس عن الجذع، ومكثت هناك ثمانية أيام
قبل رميها في مطمورة المرس. فعلا، إن اختيار المكان الذي سيستقبل جثة آخر
السلاطين الوطاسيين لم يكن اعتباطيا، وفي هذا السياق، كان ليون الإفريقي قد
أشار، في وصفه لمدينة فاس، إلى مطامير ضاحية المرس العشوائية: «وإذا أراد
حاكم فاس أن ينفذ حكم الإعدام على أحد بطريقة سرية، أمر بقذفه في هذه
المطامير». ومن جهة أخرى، كان المرس مركزا للدعارة والانحراف، فضاء يعج
بالحانات وملجأ للصوص والقتلة. «بحيث يمكن القول ، يضيف ليون الإفريقي، إن
هذا الربض هو ظرف لجميع أقذار المدينة» .كثيرا ما يحتاج خطاب السلطة
العقابي إلى نور النهار، إلى الفضاء العام. لكنه يوظف، أحيانا، السرية
وعالم الصمت، أو بالأحرى عوالم الهمس والوشوشة التي تجسد رسائل مسموعة بما
فيه الكفاية يمكن استشعارها وتخمينها، مما يجعلها قادرة على التسلل، بمكر،
إلى وعي المجموعة الإنسانية . هكذا يصبح من الممكن، في بعض المناسبات، ألا
يكون مصير المخطئ هو الساحة العمومية، بل الأمكنة السرية والفضاءات الغير
قابلة للتسمية، أي ما يمكننا وسمه، في آخر المطاف، بـ»فضاء الذلة».
ويرسم ليون الإفريقي جغرافية مختصرة للأمكنة المخصصة للتهميش والاحتجاز:
انطلاقا من التاباكينوات (جمع تاباكينو) المسيرة من طرف رجال الشرطة أنفسهم
والتي كان المنحرفون يمارسون فيها كل أنواع الزيغ في غفلة من سكان فاس
النزهاء .، ووصولا إلى السجون والبيمارستانات، علما أن البيمارستان مستشفى
للمجانين كان يُحتفظ بهم داخله مغلولي الأعناق بالسلاسل. ولاحقا، سيتم
الجمع بين سجن النساء ومستشفى المجانين في بناية واحدة ، وهو ما وقع أيضا
بالنسبة لمعقل النساء بمراكش. ومن جهتهم، كان المصابون بداء الجذام يحتجزون
في إحدى الضواحي خارج فاس . وطوال فترة من الزمن، كان المعانون من مرض
الزهري يودعون مع المصابين بالجذام قبل أن يسمح لهم، لاحقا، بالالتحاق
مجددا بالحياة الجماعية. وتجدر الإشارة، في هذا المقام، إلى أن المغاربة
كانوا يعتقدون أن مرض الزهري وفد عليهم من إسبانيا عن طريق اليهود المرحلين
منها عام 1492.
في رحم الإسلام، يوجد حقل فسيح من المفاهيم يحدد عالم الهامشي، وذلك عبر
إقامة أنماط أدبية وقانونية تربط بين التسول، واللصوصية، والقمار والحشيش،
الخ. ومع ذلك، فصعوبة اتخاذ موقف حازم (من قبل العلماء)، إزاء استهلاك
الحشيش والتبغ، على سبيل المثال، تبين مرونة الحدود الفاصلة بين القانوني
وغير القانوني، بين المعيار والهامشي. هكذا، وبعد تكريس الاحتجاز كشكل
للتدبير الاجتماعي للجنون، نجد أن هذا الأخير (الجنون) صار مرتبطا
بالقداسة، وذلك عبر البروز المكثف في المغرب العربي، انطلاقا من القرن
السادس عشر، لشخصية المجذوب الذي سيصبح، منذ ذاك، إحدى الصور الأكثر تمييزا
للمشهد الاجتماعي والديني لشمال إفريقيا، والذي يمثل عبد الرحمان المجذوب
الأسطوري نموذجه المثالي.
وبناء على ما سلف، فثمة فضاء للميتات السرية، وأمكنة لتفريغ الأزبال
ومستشفيات للمجانين والمرضى، وهي جميعها أماكن توحي بيئتها بعالم النذالة،
عالم يمثل عكس العالم الآخر، العالم المضيء والمرتب، عالم الشرعية. والحال
أن الحدود التي تفصل بين هذين العالمين ليست خطا متعذر الاجتياز، بل هي على
الأحرى فضاء للقاءات والأفعال المشتركة. إن مفهوم النظام الصارم المجسد من
طرف الإمام الذي واجه السديم والفتنة، مفهوم يتخفف داخل حقل من العلاقات
المتبادلة التي تنفي التناقض الجدلي البسيط. ويشكل حضور رجال الشرطة
المدبرين لشؤون الحانات والمواخير، ومعه عادة طلبة فاس في العمل بإدارة
البيمارستان قصد الحصول على مداخيل إضافية ، أمثلة تبرهن على أن العلاقة
بين العالمين (القانوني والمنفلت من القانون) ضرورية. وقد كانت هذه العلاقة
محكومة بمبدأ تراتبي يضمن الاستفادة من التدبير الجيد، وهي استفادة
اقتصادية أولا، لكنها أيضا سياسية ورمزية .الذلة
إن الإعدامات العلنية تطور، بالتتابع أو بالتناوب، «حركتين للاستغفار
تكميليتين لبعضهما البعض، هما حركة التدنيس-اللعنة وحركة التطهير» (حسب
مقولة م. بي- في كتابه «فرجة الإعدام في فرنسا النظام القديم»)، ويبرز هذان
الجانبان بجلاء في قصص الإعدامات التي وصلتنا. ونظرا لكونه ليس عقوبة
كافية في حد ذاته، فالموت يتراءى محاطا بطقس يوظف لغة الذلة ونزع طابع
الانتماء للإنسانية الموجبة للعبرة، سواء مورس هذا الطقس على الجسد الحي أو
الميت. وهكذا، فحين دخل المولى الرشيد إلى فاس سنة 1665، فإنه أمر بخوزقة
الدريدي، أحد آخر طغاة المدينة قبل وفود العلويين، وسمح للشعب الفاسي
بالتفرج على مشهد إعدامه مليا. وحسب ما يروى، فإن الدريدي صاح في المتفرجين
عليه بينما هو مصلوب على المشنقة وعصا طويلة منغرسة في بطنه: «زْمانْ
فُوقْ منكم، واليوم فوق منكم». إن هذه الحكاية تعرض طقسا للذلة عن طريق
الفرجة، مثلما تسجل دراميا التباين بين مسلسل اللعنة الممارس ضد الدريدي
وبين تعبيره الأخير والمثير للشفقة عن أنفته.
تستعمل ذلة الضحية، ميتا كان أو حيا، تقنيات مختلفة ذات هدف واحد: الإخزاء
عن طريق نزع طابع الانتماء للإنسانية، إخزاء يتخذ أحيانا سمات «الحيونة»
(الحط بالإنسان إلى درجة الحيوان)، مثلما حصل للسلطان محمد المتوكل،
المنهزم في معركة الملوك الثلاثة، الذي سلخ جلده وملئ تبنًا وطيف به في
أرجاء المغرب (وذلك عقب العثور على جثته طافية على الماء في نهر وادي
المخازن الذي غرق فيه بعد محاولته الفرار-م.). ويحصل بلوغ درجة الحيونة
أيضا بواسطة التدمير الجسدي الذي ينتج عنه إتلاف كل صفة إنسانية يمكن
التعرف عبرها على هوية الجثة، ومن أمثلة هذا ما حدث ليهودي يدعى سعيد عواد
تعرض للاعتقال والإعدام بسبب خصومة مع مسلم سنة 1595، قبل أن يرجم ويحرق.
وحين حضر أصدقاؤه لتسلم جثته (بعد دفع مبلغ مالي لعامل فاس)، وجدوا أنه «لم
يبق منه إلا العمود الفقري في حالة تكور». أما جثة المغامر الفرنسي
سان-ماندريي، الذي أعدم سنة 1626، فقد رجمت وأحرقت ورميت للكلاب، مما أدى
إلى تدميرها «لدرجة لم تعد معها عظامها مرئية من بعد». وفي عام 1607، إبان
الحرب الأهلية بين مولاي زيدان ومولاي عبد الله، لجأ بعض أنصار هذا الأخير
عند العميل الفلندري بيتر مايرتنز كوي. وقد توفي العديد من الجرحى من بينهم
عنده، مما دفع أصحابهم إلى محاولة دفنهم. لكن مولاي زيدان علم بالأمر،
فأرسل رجاله لاعتقال اللاجئين هناك وإحراق جثت الموتى.
وتتمثل تقنية أخرى للحيونة في توظيف فضاءات للذلة، وقد عرضنا سابقا، في هذا
الإطار، حالة أبو حسون الذي رمي في مطامير المرس العشوائية بفاس. وفي هذا
الصدد، يروي ليون الإفريقي كيف كان السلطان المريني، أبو الحسن، يلجأ إلى
نفس الأساليب ضد بعض أعدائه السياسيين. لكن فضاء الذلة هذا يكون، أحيانا،
فضاءا اجتماعيا يجعل الضحايا في علاقة مع فئات دونية اجتماعيا: اليهود،
العبيد السود، النساء والأطفال.
يجسد اليهود المثال الأكثر جلاء لوضع الذلة المفروض على بعض الفئات. إنهم
يظهرون، في كثير من الأحيان، وهم يؤدون مهمة الجلاد المخلة بالشرف، وهي
المهمة التي يبدو أنها خُصصت لهم في كل البلدان (بشمال إفريقيا-م) تقريبا.
ويشاركهم هذه المهمة، في بعض الأوقات، العبيد السود والمسيحيون. هكذا، فإن
نمطا من التعذيب، وصلتنا أخباره متأخرة، كان يمارس في عهد مولاي إسماعيل،
ويتمثل في رمي جسم المحكوم عليه في الهواء، من طرف أربعة عبيد سود، بطريقة
تجعله يسقط على رأسه أرضا مما يؤدي إلى كسر عنقه. وبالطبع، فتراكم التجربة
لدى هؤلاء الجلادين كان يكسبهم المهارة الضرورية لكي يسقط الجسد بالشكل
المرغوب فيه. ولنذكر أيضا، على سبيل المثال، بالمشهد الأخير من إعدام أبو
الفهم على يد الزيري المنصور: بقر عبيد هذا الأخير السود بطنه، واقتلعوا
كبده ثم التهموه.
ومن جهتهم وفي كثير من الأحيان، يظهر النساء والأطفال كذلك في مشاهد العنف.
ومن أمثلة هذا ما وقع لجنود جيش السلطان بعد أسرهم من طرف سكان سْگيم عقب
مواجهة عسكرية بين الفريقين، «إذ أخذهم المنتصرون مغلولين إلى منازلهم،
فمثلت بهم نساؤهم كعلامة على الإذلال الشنيع، وذلك لأن الرجال يترفعون عن
قتل الأسرى ويضعونهم بين أيدي النساء» (ليون الإفريقي، مرجع سابق، ص: 187).
ويشير نص آخر إلى أن رأس ابن أبي محلي المقطوع حُمل إلى مراكش حيث استعمله
الأطفال كلعبة طوال عدة أيام.
إن السلطة تنكشف عبر تلاعبها بفضاءات مادية أو مجموعات بشرية، وذلك
بالموازاة مع إعمالها لفن خطابة متمحور حول النظام الاجتماعي، فن في خدمة
الذلة ونزع طابع الانتماء للإنسانية، علما أن فن الخطابة هذا يعيد، في نفس
الوقت وبالمقابل، تأكيد الموقع المركزي والثابت للسلطة التي توظفه.
التطهير
إن الإعدام العلني، تأسيسا على ما سبق، فرجة على الذلة، لكنه أيضا، على
مستوى آخر، طباق للتطهير مثل ما هو الحال بالنسبة لحكاية ذلك السارق
اليهودي التي تعود إلى نهاية القرن السادس عشر والتي كانت فاس مسرحا لها.
أجل، لقد تجرأ الرجل على سرقة بيت القاضي عبد الواحد الحميدي نفسه، وكان،
كلما اعتقلته الشرطة، ينال حريته بدعوى أنه سيعتنق الإسلام. وقد ظلت خدعته
تسعفه إلى حين تعيين قاض جديد، يدعى يحيى، واستقراره في فاس الجديد، حيث
أمر باعتقال اللص اليهودي، الذي عجز هذه المرة على الإفلات بجلده، وبعدها
بإعدامه (وفق ما ورد في مصنف لنصوص تاريخية يهودية-مغربية أصدره ج. فاجدا
سنة 1951 بباريس). هكذا شنق الرجل وأحرقت جثته، متعرضا بذلك «لأنواع
الإعدام الأربعة التي تصدرها المحاكم»، يضيف فاجدا، مشيرا، بشكل علمي لا
يخلو مع ذلك من مبالغة، إلى أصناف الإعدام الأربعة التي تسنها القوانين
التلمودية: الرجم، والحرق، وضرب الرأس والشنق. وإذا كانت هذه الواقعة قد
خلقت متاعب شتى للطائفة اليهودية في فاس، فإن تعليق (فاجدا) الختامي عليها
يكتسي أهمية كبيرة: «يقال إن هذا الرجل مات وهو يقدس الإله، و(قضى) وهو
يتلو عبارة توحيد اسمه».
المحكوم عليه بالإعدام يجسد رسالة في حد ذاته. وهو كذلك، أولا، بسبب
الفرجة النموذجية التي يهبها جسده المعروض علنا والممزق أمام الملأ. مثلما
هو كذلك، ثانيا، لأنه يتحول إلى صوت، إلى خطاب واضح. إن أحد المكونات
الأساسية لأصناف التعذيب، إذا ما استحضرنا تجلي هذه الأصناف من خلال وصفها
في كتاب مارمول، ليس سوى إعلان المتهم، أمام العموم، عن الجرائم التي
ارتكبها. إن عليه، إلزاميا، الاعتراف بذنبه أمام الجميع، وتتمثل رسالته في
ضرورة تحقيق الطقس العقابي لوظيفته، في إعادة ترميم النظام المهشم بفعل
الخطأ المرتكب، وفي إنقاذ صفاء المحكوم عليه والمجتمع عقب الذلة التي تعرض
لها الأول علنيا. هكذا يقضي لص فاس اليهودي، المرتد المضبوط في حالة عود
عدة مرات، المنحرف الذي خلقت سرقاته مشاكل عويصة لطائفته، المعاقب إلى أقصى
حد عبر الرجم، والحرق، والشنق وضرب العنق، هكذا يقضي وهو يقدس اسم الإله.
إن رسالته الأخيرة، خطابه النهائي يتمم دورة العقاب.
هكذا إذن، وعبر مسلسل الذلة-التطهير، تتم إعادة بناء النظام من جديد. ويروي
لنا ابن عسكر قصة نموذجية حول هذا المسلسل المزدوج تتضمنها سيرة عبد الله
الورياچلي، قصة يجب أن توضع في سياق التطابق بين صورة الولي وصورة السلطان
(وهو تطابق يحجب، في الواقع، تناقضا هيكليا): ذات يوم، وجد الولي في مسجد
القصر الكبير رجلا يزعم أنه المسيح. وكان المسيح المزيف، حينها، يقوم
بأعمال خارقة أمام الجماهير المحتشدة، أعمال من قبيل جعل مئذنة الجامع تنطق
وتعترف بنبوته. وفي حضرة هذا المشهد، اتخذ الورياچلي مبادرة الدنو من
الدجال ليضربه ويأمر أتباعه بإمساكه من شعره وجره فوق الأرض. وفي الختام،
قام الأتباع برمي الرجل على كومة من الأزبال وتركه هناك معتقدين أنه مات.
لكن الورياچلي، بعد مرور بعض الوقت، سيلتقي صاحبَنا مجددا، وسيعترف له
الأخير أنه كان مسكونا بجني، وأنه ظل كذلك إلى أن أنقذه الولي من هذا المس،
وبعدها، سيصبح الرجل أحد أفضل أتباع الورياچلي. إن سرد هذه المعجزة يعيد
إنتاج الخطاطة العقابية التقليدية، بما في ذلك الأزبال (فضاء الذلة) والموت
(وهو مصطنع هنا). وفي الحالتين معا، فإن المسلسل الكامل، المشخص في هذه
الحكاية على شكل متتالية: خرق للنظام- ذلة- تطهير- إعادة ترميم النظام،
إن المسلسل الكامل يجد حله في إعادة إدماج المحكوم عليه داخل نسق عَقَدي.
وفي هذه الحالة، مثلما هو الأمر في حالات أخرى، فإن التطابق بين العقوبات
المطبقة من طرف السلطان وتلك التي تأتي من الأولياء (مباشرة أو عن طريق
لعنة) جلي، مما يجعل السلطان والولي يترائيان، في الكثير من المرات، بنفس
القسمات. إن صورة الولي ليست صورة إنسان مسالم: فهو يبدو، على العكس،
منافسا للسلطان في مجال استعمال الإكراه البدني. ولا يعود هذا التشابه إلى
أسباب تخلقية (السعي إلى الشبه) فحسب، بل يبدو أنه يشكل ترضية لاستعمال لغة
مشتركة تمتلك معجما رمزيا مفهوما من قبل الجميع، لغة تستعمل بشكل متطابق
في مختلف مستويات العلاقات الاجتماعية. وهكذا، فالعقوبة، بوصفها لغة عنيفة
لنظام ممارَس، تتبلور في نموذج كوني وشمولي.
الرأس
نظرا لكون العنف لغة كونية تستكشف الجسد بشمول، فإنه كثيرا ما يتم إعماله
على مستوى الحنجرة حين تطبيقه، وذلك بشكل شبه استحواذي، علما أن التطبيق
يعرف بعض الاختلافات المألوفة مثل الخنق والشنق، بالإضافة إلى الفصل التام
للرأس عن الجذع ورمي كل واحد منهما في مكان مختلف (مثال أبو حسون، آخر
السلاطين الوطاسيين، المشار إليه سابقا). ويعتبر موت محمد الشيخ مثالا
بليغا في هذا المجال: في رحم القمع الذي تعرضت له فاس في 1554، كما سبقت
الإشارة إلى ذلك، كان من بين ضحايا السلطان السعدي العالم عبد الوهاب
الزقاق، الذي لعن خلال تعرضه للتعذيب محمد الشيخ قائلا: «وأنت كذلك يقطع
رأسك ولا يدفن معك «. وقد تحققت اللعنة، في النهاية، إذ بعد ذلك بمدة
وجيزة، قطع رأس السعدي من طرف حرسه الأتراك ونقل إلى اسطنبول.
لنسرد الآن، في نفس السياق، مثالا ثانيا حدث في فاس سنة 1620. كانت
المدينة، أيامها، خشبة لحرب أهلية فعلية بين مكونيها الأساسين، الأندلسيين
واللمطيين. وكانت الشخصية الأكثر شهرة ضمن الأولين هي عبد الرحمان بن محمد
الفاسي، المدعو بالعارف وزعيم زاوية الفاسيين القوية، الذي أصدر لعنة في
حق منافسه محمد بن سليمان الأقرع رئيس اللمطيين. في اليوم ذاته، وخلال
مناوشة مع جنود السلطان، قطع رأس الأقرع: «مات ميتة جاهلية، حفظنا وحفظكم
الله» (محمد بن الطيب القادري: «نشر المثاني» ) و»ميتة جاهلية» عبارة واردة
في الأحاديث النبوية ضمن سياق محدد: من فارق الجماعة شبرا، وليس له إمام
مطاع، إلاّ مات ميتة جاهلية، أي كموت أهل الجاهلية على ضلال، أو كعاص. إن
مقتطف «نشر المثاني»، الذي أوردته، يحدد إذن، انطلاقا من التلميح للتقاليد،
نظاما سياسيا متساميا (تمثله في هذه الحالة زاوية الفاسيين)، يغترف
مشروعيته من المرجعية الإسلامية. السلطة، أو السلطان يمارَس في هذه الواقعة
من قبل العارف الفاسي الذي يوظف ضد غريمه السياسي، ولو بشكل خارق، تقنية
مماثلة للتقنيات التي يستعملها المخزن في سعيه لتجسيد إقصاء الضحية من
النظام الشرعي عن طريق ضرب عنقه.
يبدو إذن أن فصل الرأس عن الجذع، في لغة الذلة، يكتسي معنى سياسيا ودينيا،
كما تشير إلى ذلك صيغة «ميتة جاهلية» والسياقات التي ترد ضمنها. وتفسر
فظاعة الدفن بهذه الطريقة (الرأس في مكان والجذع في مكان آخر-م)، مثلا،
المحاولات الحثيثة التي قام بها عرب قبائل الشرقية لاستعادة رأس أحد
زعمائهم المتوفى خلال معركة مع برتغاليي آسفي. وقد نجح نونيو فرنانديث دي
أتايد في تحويل رأس الزعيم الميت إلى موضوع للتفاوض الذي أدى إلى عقد هدنة
مع القبائل العربية. (وحسب الهامش المخصص لهذا المعطى، فهذا الحدث جد معبر
نظرا لأنه لم يكن من عادة المسلمين استرجاع جثت رفاقهم القتلى خلال
المواجهات مع البرتغاليين-م). ونظرا للاعتقاد السائد لدى المسلمين والذي
مفاده أن فصل الرأس عن الجذع يمنع من دخول الجنة، فقد استعمل كتقنية لإثارة
الرعب من طرف بعض المعمرين الفرنسيين في الجزائر. وبناء عليه، ينجلي أن
السلطة الاستعمارية كانت توظف اللغة المستعملة من قبل المجتمع الخاضع لها،
مستفيدة من نفس تقنياتها بذريعة فعالية الاستغلال.
ومن جهة أخرى، فإن وجود مجموعة من المفاهيم التي تربط بين الموت والحنجرة
معطى معروف في الإسلام، وذلك انطلاقا من طقس الأضحية (علما أن البتر التام
للعنق خلاله محظور)، ووصولا إلى تطوير مجموعة من التقاليد الأُخروية التي
تجعل من الحنجرة المكان الذي تخرج منه الروح لحظة الوفاة. ولنذكر، في هذا
الإطار، بالآيات القرآنية ذات العلاقة بـ»ملك الموت»: «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ
مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ
تُرْجَعُونَ» (سورة السجدة، الآية 11)، علما أن الروح تبلغ الحلقوم لحظة
الوفاة (سورة الواقعة، الآية 83).
وعلاقة بموضوع الرأس المستحوَذ عليها، والتي يتم تطويفها وعرضها علنيا، ثمة
قصة الثائر الريفي، الحاج العباس، الذي هزم سنة 1287. وقد طيف برأسه
المقطوع في كل أرجاء المملكة، ليعلق بعدها في مراكش، بينما علق جذعه في
شمال البلاد بمدينة المزمة (يصف ليون الإفريقي-الحسن الوزان هذه المدينة
كالتالي: «كانت المزمة مدينة كبيرة واقعة فوق جبل صغير على ساحل البحر
المتوسط بالقرب من حدود إقليم كرط. يقع في أسفلها سهل كبير عرضه نحو عشرة
أميال وطوله ثمانية وعشرون ميلا من الشمال إلى الجنوب، ويمر نهر نكور في
وسطه فاصلا بين الريف وكرط… وكانت هذه المدينة قديما في غاية الحضارة،
كثيرة السكان ودار مقام لأمير هذا الإقليم. لكنها دمرت ثلاث مرات. خربها
أول مرة خليفة القيروان الذي غضب على أمير المزمة حين امتنع عن أداء الخراج
المعتاد فسقطت المزمة في يده ونهبها وأحرقها وقطع رأس أميرها وأرسله إلى
القيروان على رأس رمح عام 318 للهجرة. وظلت المدينة مهجورة خمسة عشر عاما
قبل أن يقوم بعض الأمراء بإعادة تعميرها… والمزمة الآن خربة لكن أسوارها
قائمة سالمة ويرجع تاريخ تدميرها الأخير إلى عام 872 للهجرة»-م). ونظرا
لهذا، صار فضاء المملكة محدودا برأس وجذع يشكلان معلمين في جغرافية البلاد
عبر استنساخ الطواف المعيب والعرض العلني (لرأس وجذع الحاج العباس بن صالح
الصنهاجي-م) على مستوى الدولة. إنه، في نهاية المطاف، الجسد المهشم الذي
صار تخما يحدد فضاء العقوبة، أي فضاء السلطة. وفي رحم المسافة الفاصلة بين
الرأس والجذع، يتملك جسد سياسي جديد معناه غير القابل للانفكاك أو
الانفصال، هذه المرة، عن رأسه، السلطان.
فرناندو رودريغيث مِديانو / ترجمة: سعيد عاهد
الملحق الثقافي
الاتحاد الاشتراكي
14-10-2011
في الفترة المتراوحة بين 1549 و1554، دخل السعديون مدينة فاس مرتين. وإذا
كنا قد أشرنا سابقا للدخول الأول الذي أدى، من بين ما أدى إليه، إلى قتل
الونشريسي، فإن القمع الذي أعقب الدخول الثاني كان أكثر عنفا وذهب ضحيته
آلاف الشخصيات المهمة في المدينة. ومن بين الضحايا، كان هناك أبو حسون، آخر
السلاطين الوطاسيين الذي كان قد استعاد فاس من سيطرة محمد الشيخ نفسه أربع
سنوات قبل ذلك. أما وجهة جثة أبو حسون النهائية، فهي معروفة: لقد رميت في
مطرح الأزبال بباب السبع بعد فصل الرأس عن الجذع، ومكثت هناك ثمانية أيام
قبل رميها في مطمورة المرس. فعلا، إن اختيار المكان الذي سيستقبل جثة آخر
السلاطين الوطاسيين لم يكن اعتباطيا، وفي هذا السياق، كان ليون الإفريقي قد
أشار، في وصفه لمدينة فاس، إلى مطامير ضاحية المرس العشوائية: «وإذا أراد
حاكم فاس أن ينفذ حكم الإعدام على أحد بطريقة سرية، أمر بقذفه في هذه
المطامير». ومن جهة أخرى، كان المرس مركزا للدعارة والانحراف، فضاء يعج
بالحانات وملجأ للصوص والقتلة. «بحيث يمكن القول ، يضيف ليون الإفريقي، إن
هذا الربض هو ظرف لجميع أقذار المدينة» .كثيرا ما يحتاج خطاب السلطة
العقابي إلى نور النهار، إلى الفضاء العام. لكنه يوظف، أحيانا، السرية
وعالم الصمت، أو بالأحرى عوالم الهمس والوشوشة التي تجسد رسائل مسموعة بما
فيه الكفاية يمكن استشعارها وتخمينها، مما يجعلها قادرة على التسلل، بمكر،
إلى وعي المجموعة الإنسانية . هكذا يصبح من الممكن، في بعض المناسبات، ألا
يكون مصير المخطئ هو الساحة العمومية، بل الأمكنة السرية والفضاءات الغير
قابلة للتسمية، أي ما يمكننا وسمه، في آخر المطاف، بـ»فضاء الذلة».
ويرسم ليون الإفريقي جغرافية مختصرة للأمكنة المخصصة للتهميش والاحتجاز:
انطلاقا من التاباكينوات (جمع تاباكينو) المسيرة من طرف رجال الشرطة أنفسهم
والتي كان المنحرفون يمارسون فيها كل أنواع الزيغ في غفلة من سكان فاس
النزهاء .، ووصولا إلى السجون والبيمارستانات، علما أن البيمارستان مستشفى
للمجانين كان يُحتفظ بهم داخله مغلولي الأعناق بالسلاسل. ولاحقا، سيتم
الجمع بين سجن النساء ومستشفى المجانين في بناية واحدة ، وهو ما وقع أيضا
بالنسبة لمعقل النساء بمراكش. ومن جهتهم، كان المصابون بداء الجذام يحتجزون
في إحدى الضواحي خارج فاس . وطوال فترة من الزمن، كان المعانون من مرض
الزهري يودعون مع المصابين بالجذام قبل أن يسمح لهم، لاحقا، بالالتحاق
مجددا بالحياة الجماعية. وتجدر الإشارة، في هذا المقام، إلى أن المغاربة
كانوا يعتقدون أن مرض الزهري وفد عليهم من إسبانيا عن طريق اليهود المرحلين
منها عام 1492.
في رحم الإسلام، يوجد حقل فسيح من المفاهيم يحدد عالم الهامشي، وذلك عبر
إقامة أنماط أدبية وقانونية تربط بين التسول، واللصوصية، والقمار والحشيش،
الخ. ومع ذلك، فصعوبة اتخاذ موقف حازم (من قبل العلماء)، إزاء استهلاك
الحشيش والتبغ، على سبيل المثال، تبين مرونة الحدود الفاصلة بين القانوني
وغير القانوني، بين المعيار والهامشي. هكذا، وبعد تكريس الاحتجاز كشكل
للتدبير الاجتماعي للجنون، نجد أن هذا الأخير (الجنون) صار مرتبطا
بالقداسة، وذلك عبر البروز المكثف في المغرب العربي، انطلاقا من القرن
السادس عشر، لشخصية المجذوب الذي سيصبح، منذ ذاك، إحدى الصور الأكثر تمييزا
للمشهد الاجتماعي والديني لشمال إفريقيا، والذي يمثل عبد الرحمان المجذوب
الأسطوري نموذجه المثالي.
وبناء على ما سلف، فثمة فضاء للميتات السرية، وأمكنة لتفريغ الأزبال
ومستشفيات للمجانين والمرضى، وهي جميعها أماكن توحي بيئتها بعالم النذالة،
عالم يمثل عكس العالم الآخر، العالم المضيء والمرتب، عالم الشرعية. والحال
أن الحدود التي تفصل بين هذين العالمين ليست خطا متعذر الاجتياز، بل هي على
الأحرى فضاء للقاءات والأفعال المشتركة. إن مفهوم النظام الصارم المجسد من
طرف الإمام الذي واجه السديم والفتنة، مفهوم يتخفف داخل حقل من العلاقات
المتبادلة التي تنفي التناقض الجدلي البسيط. ويشكل حضور رجال الشرطة
المدبرين لشؤون الحانات والمواخير، ومعه عادة طلبة فاس في العمل بإدارة
البيمارستان قصد الحصول على مداخيل إضافية ، أمثلة تبرهن على أن العلاقة
بين العالمين (القانوني والمنفلت من القانون) ضرورية. وقد كانت هذه العلاقة
محكومة بمبدأ تراتبي يضمن الاستفادة من التدبير الجيد، وهي استفادة
اقتصادية أولا، لكنها أيضا سياسية ورمزية .الذلة
إن الإعدامات العلنية تطور، بالتتابع أو بالتناوب، «حركتين للاستغفار
تكميليتين لبعضهما البعض، هما حركة التدنيس-اللعنة وحركة التطهير» (حسب
مقولة م. بي- في كتابه «فرجة الإعدام في فرنسا النظام القديم»)، ويبرز هذان
الجانبان بجلاء في قصص الإعدامات التي وصلتنا. ونظرا لكونه ليس عقوبة
كافية في حد ذاته، فالموت يتراءى محاطا بطقس يوظف لغة الذلة ونزع طابع
الانتماء للإنسانية الموجبة للعبرة، سواء مورس هذا الطقس على الجسد الحي أو
الميت. وهكذا، فحين دخل المولى الرشيد إلى فاس سنة 1665، فإنه أمر بخوزقة
الدريدي، أحد آخر طغاة المدينة قبل وفود العلويين، وسمح للشعب الفاسي
بالتفرج على مشهد إعدامه مليا. وحسب ما يروى، فإن الدريدي صاح في المتفرجين
عليه بينما هو مصلوب على المشنقة وعصا طويلة منغرسة في بطنه: «زْمانْ
فُوقْ منكم، واليوم فوق منكم». إن هذه الحكاية تعرض طقسا للذلة عن طريق
الفرجة، مثلما تسجل دراميا التباين بين مسلسل اللعنة الممارس ضد الدريدي
وبين تعبيره الأخير والمثير للشفقة عن أنفته.
تستعمل ذلة الضحية، ميتا كان أو حيا، تقنيات مختلفة ذات هدف واحد: الإخزاء
عن طريق نزع طابع الانتماء للإنسانية، إخزاء يتخذ أحيانا سمات «الحيونة»
(الحط بالإنسان إلى درجة الحيوان)، مثلما حصل للسلطان محمد المتوكل،
المنهزم في معركة الملوك الثلاثة، الذي سلخ جلده وملئ تبنًا وطيف به في
أرجاء المغرب (وذلك عقب العثور على جثته طافية على الماء في نهر وادي
المخازن الذي غرق فيه بعد محاولته الفرار-م.). ويحصل بلوغ درجة الحيونة
أيضا بواسطة التدمير الجسدي الذي ينتج عنه إتلاف كل صفة إنسانية يمكن
التعرف عبرها على هوية الجثة، ومن أمثلة هذا ما حدث ليهودي يدعى سعيد عواد
تعرض للاعتقال والإعدام بسبب خصومة مع مسلم سنة 1595، قبل أن يرجم ويحرق.
وحين حضر أصدقاؤه لتسلم جثته (بعد دفع مبلغ مالي لعامل فاس)، وجدوا أنه «لم
يبق منه إلا العمود الفقري في حالة تكور». أما جثة المغامر الفرنسي
سان-ماندريي، الذي أعدم سنة 1626، فقد رجمت وأحرقت ورميت للكلاب، مما أدى
إلى تدميرها «لدرجة لم تعد معها عظامها مرئية من بعد». وفي عام 1607، إبان
الحرب الأهلية بين مولاي زيدان ومولاي عبد الله، لجأ بعض أنصار هذا الأخير
عند العميل الفلندري بيتر مايرتنز كوي. وقد توفي العديد من الجرحى من بينهم
عنده، مما دفع أصحابهم إلى محاولة دفنهم. لكن مولاي زيدان علم بالأمر،
فأرسل رجاله لاعتقال اللاجئين هناك وإحراق جثت الموتى.
وتتمثل تقنية أخرى للحيونة في توظيف فضاءات للذلة، وقد عرضنا سابقا، في هذا
الإطار، حالة أبو حسون الذي رمي في مطامير المرس العشوائية بفاس. وفي هذا
الصدد، يروي ليون الإفريقي كيف كان السلطان المريني، أبو الحسن، يلجأ إلى
نفس الأساليب ضد بعض أعدائه السياسيين. لكن فضاء الذلة هذا يكون، أحيانا،
فضاءا اجتماعيا يجعل الضحايا في علاقة مع فئات دونية اجتماعيا: اليهود،
العبيد السود، النساء والأطفال.
يجسد اليهود المثال الأكثر جلاء لوضع الذلة المفروض على بعض الفئات. إنهم
يظهرون، في كثير من الأحيان، وهم يؤدون مهمة الجلاد المخلة بالشرف، وهي
المهمة التي يبدو أنها خُصصت لهم في كل البلدان (بشمال إفريقيا-م) تقريبا.
ويشاركهم هذه المهمة، في بعض الأوقات، العبيد السود والمسيحيون. هكذا، فإن
نمطا من التعذيب، وصلتنا أخباره متأخرة، كان يمارس في عهد مولاي إسماعيل،
ويتمثل في رمي جسم المحكوم عليه في الهواء، من طرف أربعة عبيد سود، بطريقة
تجعله يسقط على رأسه أرضا مما يؤدي إلى كسر عنقه. وبالطبع، فتراكم التجربة
لدى هؤلاء الجلادين كان يكسبهم المهارة الضرورية لكي يسقط الجسد بالشكل
المرغوب فيه. ولنذكر أيضا، على سبيل المثال، بالمشهد الأخير من إعدام أبو
الفهم على يد الزيري المنصور: بقر عبيد هذا الأخير السود بطنه، واقتلعوا
كبده ثم التهموه.
ومن جهتهم وفي كثير من الأحيان، يظهر النساء والأطفال كذلك في مشاهد العنف.
ومن أمثلة هذا ما وقع لجنود جيش السلطان بعد أسرهم من طرف سكان سْگيم عقب
مواجهة عسكرية بين الفريقين، «إذ أخذهم المنتصرون مغلولين إلى منازلهم،
فمثلت بهم نساؤهم كعلامة على الإذلال الشنيع، وذلك لأن الرجال يترفعون عن
قتل الأسرى ويضعونهم بين أيدي النساء» (ليون الإفريقي، مرجع سابق، ص: 187).
ويشير نص آخر إلى أن رأس ابن أبي محلي المقطوع حُمل إلى مراكش حيث استعمله
الأطفال كلعبة طوال عدة أيام.
إن السلطة تنكشف عبر تلاعبها بفضاءات مادية أو مجموعات بشرية، وذلك
بالموازاة مع إعمالها لفن خطابة متمحور حول النظام الاجتماعي، فن في خدمة
الذلة ونزع طابع الانتماء للإنسانية، علما أن فن الخطابة هذا يعيد، في نفس
الوقت وبالمقابل، تأكيد الموقع المركزي والثابت للسلطة التي توظفه.
التطهير
إن الإعدام العلني، تأسيسا على ما سبق، فرجة على الذلة، لكنه أيضا، على
مستوى آخر، طباق للتطهير مثل ما هو الحال بالنسبة لحكاية ذلك السارق
اليهودي التي تعود إلى نهاية القرن السادس عشر والتي كانت فاس مسرحا لها.
أجل، لقد تجرأ الرجل على سرقة بيت القاضي عبد الواحد الحميدي نفسه، وكان،
كلما اعتقلته الشرطة، ينال حريته بدعوى أنه سيعتنق الإسلام. وقد ظلت خدعته
تسعفه إلى حين تعيين قاض جديد، يدعى يحيى، واستقراره في فاس الجديد، حيث
أمر باعتقال اللص اليهودي، الذي عجز هذه المرة على الإفلات بجلده، وبعدها
بإعدامه (وفق ما ورد في مصنف لنصوص تاريخية يهودية-مغربية أصدره ج. فاجدا
سنة 1951 بباريس). هكذا شنق الرجل وأحرقت جثته، متعرضا بذلك «لأنواع
الإعدام الأربعة التي تصدرها المحاكم»، يضيف فاجدا، مشيرا، بشكل علمي لا
يخلو مع ذلك من مبالغة، إلى أصناف الإعدام الأربعة التي تسنها القوانين
التلمودية: الرجم، والحرق، وضرب الرأس والشنق. وإذا كانت هذه الواقعة قد
خلقت متاعب شتى للطائفة اليهودية في فاس، فإن تعليق (فاجدا) الختامي عليها
يكتسي أهمية كبيرة: «يقال إن هذا الرجل مات وهو يقدس الإله، و(قضى) وهو
يتلو عبارة توحيد اسمه».
المحكوم عليه بالإعدام يجسد رسالة في حد ذاته. وهو كذلك، أولا، بسبب
الفرجة النموذجية التي يهبها جسده المعروض علنا والممزق أمام الملأ. مثلما
هو كذلك، ثانيا، لأنه يتحول إلى صوت، إلى خطاب واضح. إن أحد المكونات
الأساسية لأصناف التعذيب، إذا ما استحضرنا تجلي هذه الأصناف من خلال وصفها
في كتاب مارمول، ليس سوى إعلان المتهم، أمام العموم، عن الجرائم التي
ارتكبها. إن عليه، إلزاميا، الاعتراف بذنبه أمام الجميع، وتتمثل رسالته في
ضرورة تحقيق الطقس العقابي لوظيفته، في إعادة ترميم النظام المهشم بفعل
الخطأ المرتكب، وفي إنقاذ صفاء المحكوم عليه والمجتمع عقب الذلة التي تعرض
لها الأول علنيا. هكذا يقضي لص فاس اليهودي، المرتد المضبوط في حالة عود
عدة مرات، المنحرف الذي خلقت سرقاته مشاكل عويصة لطائفته، المعاقب إلى أقصى
حد عبر الرجم، والحرق، والشنق وضرب العنق، هكذا يقضي وهو يقدس اسم الإله.
إن رسالته الأخيرة، خطابه النهائي يتمم دورة العقاب.
هكذا إذن، وعبر مسلسل الذلة-التطهير، تتم إعادة بناء النظام من جديد. ويروي
لنا ابن عسكر قصة نموذجية حول هذا المسلسل المزدوج تتضمنها سيرة عبد الله
الورياچلي، قصة يجب أن توضع في سياق التطابق بين صورة الولي وصورة السلطان
(وهو تطابق يحجب، في الواقع، تناقضا هيكليا): ذات يوم، وجد الولي في مسجد
القصر الكبير رجلا يزعم أنه المسيح. وكان المسيح المزيف، حينها، يقوم
بأعمال خارقة أمام الجماهير المحتشدة، أعمال من قبيل جعل مئذنة الجامع تنطق
وتعترف بنبوته. وفي حضرة هذا المشهد، اتخذ الورياچلي مبادرة الدنو من
الدجال ليضربه ويأمر أتباعه بإمساكه من شعره وجره فوق الأرض. وفي الختام،
قام الأتباع برمي الرجل على كومة من الأزبال وتركه هناك معتقدين أنه مات.
لكن الورياچلي، بعد مرور بعض الوقت، سيلتقي صاحبَنا مجددا، وسيعترف له
الأخير أنه كان مسكونا بجني، وأنه ظل كذلك إلى أن أنقذه الولي من هذا المس،
وبعدها، سيصبح الرجل أحد أفضل أتباع الورياچلي. إن سرد هذه المعجزة يعيد
إنتاج الخطاطة العقابية التقليدية، بما في ذلك الأزبال (فضاء الذلة) والموت
(وهو مصطنع هنا). وفي الحالتين معا، فإن المسلسل الكامل، المشخص في هذه
الحكاية على شكل متتالية: خرق للنظام- ذلة- تطهير- إعادة ترميم النظام،
إن المسلسل الكامل يجد حله في إعادة إدماج المحكوم عليه داخل نسق عَقَدي.
وفي هذه الحالة، مثلما هو الأمر في حالات أخرى، فإن التطابق بين العقوبات
المطبقة من طرف السلطان وتلك التي تأتي من الأولياء (مباشرة أو عن طريق
لعنة) جلي، مما يجعل السلطان والولي يترائيان، في الكثير من المرات، بنفس
القسمات. إن صورة الولي ليست صورة إنسان مسالم: فهو يبدو، على العكس،
منافسا للسلطان في مجال استعمال الإكراه البدني. ولا يعود هذا التشابه إلى
أسباب تخلقية (السعي إلى الشبه) فحسب، بل يبدو أنه يشكل ترضية لاستعمال لغة
مشتركة تمتلك معجما رمزيا مفهوما من قبل الجميع، لغة تستعمل بشكل متطابق
في مختلف مستويات العلاقات الاجتماعية. وهكذا، فالعقوبة، بوصفها لغة عنيفة
لنظام ممارَس، تتبلور في نموذج كوني وشمولي.
الرأس
نظرا لكون العنف لغة كونية تستكشف الجسد بشمول، فإنه كثيرا ما يتم إعماله
على مستوى الحنجرة حين تطبيقه، وذلك بشكل شبه استحواذي، علما أن التطبيق
يعرف بعض الاختلافات المألوفة مثل الخنق والشنق، بالإضافة إلى الفصل التام
للرأس عن الجذع ورمي كل واحد منهما في مكان مختلف (مثال أبو حسون، آخر
السلاطين الوطاسيين، المشار إليه سابقا). ويعتبر موت محمد الشيخ مثالا
بليغا في هذا المجال: في رحم القمع الذي تعرضت له فاس في 1554، كما سبقت
الإشارة إلى ذلك، كان من بين ضحايا السلطان السعدي العالم عبد الوهاب
الزقاق، الذي لعن خلال تعرضه للتعذيب محمد الشيخ قائلا: «وأنت كذلك يقطع
رأسك ولا يدفن معك «. وقد تحققت اللعنة، في النهاية، إذ بعد ذلك بمدة
وجيزة، قطع رأس السعدي من طرف حرسه الأتراك ونقل إلى اسطنبول.
لنسرد الآن، في نفس السياق، مثالا ثانيا حدث في فاس سنة 1620. كانت
المدينة، أيامها، خشبة لحرب أهلية فعلية بين مكونيها الأساسين، الأندلسيين
واللمطيين. وكانت الشخصية الأكثر شهرة ضمن الأولين هي عبد الرحمان بن محمد
الفاسي، المدعو بالعارف وزعيم زاوية الفاسيين القوية، الذي أصدر لعنة في
حق منافسه محمد بن سليمان الأقرع رئيس اللمطيين. في اليوم ذاته، وخلال
مناوشة مع جنود السلطان، قطع رأس الأقرع: «مات ميتة جاهلية، حفظنا وحفظكم
الله» (محمد بن الطيب القادري: «نشر المثاني» ) و»ميتة جاهلية» عبارة واردة
في الأحاديث النبوية ضمن سياق محدد: من فارق الجماعة شبرا، وليس له إمام
مطاع، إلاّ مات ميتة جاهلية، أي كموت أهل الجاهلية على ضلال، أو كعاص. إن
مقتطف «نشر المثاني»، الذي أوردته، يحدد إذن، انطلاقا من التلميح للتقاليد،
نظاما سياسيا متساميا (تمثله في هذه الحالة زاوية الفاسيين)، يغترف
مشروعيته من المرجعية الإسلامية. السلطة، أو السلطان يمارَس في هذه الواقعة
من قبل العارف الفاسي الذي يوظف ضد غريمه السياسي، ولو بشكل خارق، تقنية
مماثلة للتقنيات التي يستعملها المخزن في سعيه لتجسيد إقصاء الضحية من
النظام الشرعي عن طريق ضرب عنقه.
يبدو إذن أن فصل الرأس عن الجذع، في لغة الذلة، يكتسي معنى سياسيا ودينيا،
كما تشير إلى ذلك صيغة «ميتة جاهلية» والسياقات التي ترد ضمنها. وتفسر
فظاعة الدفن بهذه الطريقة (الرأس في مكان والجذع في مكان آخر-م)، مثلا،
المحاولات الحثيثة التي قام بها عرب قبائل الشرقية لاستعادة رأس أحد
زعمائهم المتوفى خلال معركة مع برتغاليي آسفي. وقد نجح نونيو فرنانديث دي
أتايد في تحويل رأس الزعيم الميت إلى موضوع للتفاوض الذي أدى إلى عقد هدنة
مع القبائل العربية. (وحسب الهامش المخصص لهذا المعطى، فهذا الحدث جد معبر
نظرا لأنه لم يكن من عادة المسلمين استرجاع جثت رفاقهم القتلى خلال
المواجهات مع البرتغاليين-م). ونظرا للاعتقاد السائد لدى المسلمين والذي
مفاده أن فصل الرأس عن الجذع يمنع من دخول الجنة، فقد استعمل كتقنية لإثارة
الرعب من طرف بعض المعمرين الفرنسيين في الجزائر. وبناء عليه، ينجلي أن
السلطة الاستعمارية كانت توظف اللغة المستعملة من قبل المجتمع الخاضع لها،
مستفيدة من نفس تقنياتها بذريعة فعالية الاستغلال.
ومن جهة أخرى، فإن وجود مجموعة من المفاهيم التي تربط بين الموت والحنجرة
معطى معروف في الإسلام، وذلك انطلاقا من طقس الأضحية (علما أن البتر التام
للعنق خلاله محظور)، ووصولا إلى تطوير مجموعة من التقاليد الأُخروية التي
تجعل من الحنجرة المكان الذي تخرج منه الروح لحظة الوفاة. ولنذكر، في هذا
الإطار، بالآيات القرآنية ذات العلاقة بـ»ملك الموت»: «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ
مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ
تُرْجَعُونَ» (سورة السجدة، الآية 11)، علما أن الروح تبلغ الحلقوم لحظة
الوفاة (سورة الواقعة، الآية 83).
وعلاقة بموضوع الرأس المستحوَذ عليها، والتي يتم تطويفها وعرضها علنيا، ثمة
قصة الثائر الريفي، الحاج العباس، الذي هزم سنة 1287. وقد طيف برأسه
المقطوع في كل أرجاء المملكة، ليعلق بعدها في مراكش، بينما علق جذعه في
شمال البلاد بمدينة المزمة (يصف ليون الإفريقي-الحسن الوزان هذه المدينة
كالتالي: «كانت المزمة مدينة كبيرة واقعة فوق جبل صغير على ساحل البحر
المتوسط بالقرب من حدود إقليم كرط. يقع في أسفلها سهل كبير عرضه نحو عشرة
أميال وطوله ثمانية وعشرون ميلا من الشمال إلى الجنوب، ويمر نهر نكور في
وسطه فاصلا بين الريف وكرط… وكانت هذه المدينة قديما في غاية الحضارة،
كثيرة السكان ودار مقام لأمير هذا الإقليم. لكنها دمرت ثلاث مرات. خربها
أول مرة خليفة القيروان الذي غضب على أمير المزمة حين امتنع عن أداء الخراج
المعتاد فسقطت المزمة في يده ونهبها وأحرقها وقطع رأس أميرها وأرسله إلى
القيروان على رأس رمح عام 318 للهجرة. وظلت المدينة مهجورة خمسة عشر عاما
قبل أن يقوم بعض الأمراء بإعادة تعميرها… والمزمة الآن خربة لكن أسوارها
قائمة سالمة ويرجع تاريخ تدميرها الأخير إلى عام 872 للهجرة»-م). ونظرا
لهذا، صار فضاء المملكة محدودا برأس وجذع يشكلان معلمين في جغرافية البلاد
عبر استنساخ الطواف المعيب والعرض العلني (لرأس وجذع الحاج العباس بن صالح
الصنهاجي-م) على مستوى الدولة. إنه، في نهاية المطاف، الجسد المهشم الذي
صار تخما يحدد فضاء العقوبة، أي فضاء السلطة. وفي رحم المسافة الفاصلة بين
الرأس والجذع، يتملك جسد سياسي جديد معناه غير القابل للانفكاك أو
الانفصال، هذه المرة، عن رأسه، السلطان.
فرناندو رودريغيث مِديانو / ترجمة: سعيد عاهد
الملحق الثقافي
الاتحاد الاشتراكي
14-10-2011
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى