«تنزيل الوحي» «لا تنزيل الدستور»
صفحة 1 من اصل 1
«تنزيل الوحي» «لا تنزيل الدستور»
بدأنا نسمع مؤخرا مسؤولين سياسيين وباحثين يستعملون تعبير «تنزيل الدستور» للحديث عن «تفعيله» أو «أجرأته» على عكس ما هو الحال في البلدان الديمقراطية. وقد استفسرتُ بعضا ممن يستعملون هذا التعبير في محيطي، فتبين لي أن أغلب من يفعلون ذلك، لا يعون معنى لفظة «تنزيل» ولا يعرفون طبيعة الحقل الدلالي اللاهوتي الذي تنتمي إليه. في تقديري، لمعرفة معنى أي لفظ لابد من الوصول إلى جذوره وتقصي تاريخه منذ نشأته وعبر استعمالاته المختلفة... تبعا لذلك، بحثتُ في كتب القانون الدستوري، فلم أجد أيا منها يتحدث عن «تنزيل الدستور»، وفي المقابل تتحدث كلها عن «تفعيله» و«أجرأته». كما تبين لي أن لفظ «التنزيل» مقترن بالوحي، ما جعله ينتمي إلى حقل القرآن الكريم الذي هو مجال المطلق والمقدس، الأمر الذي لا يستقيم معه استعماله في مجال القانون العام الذي هو وضعي ونسبي. تبعا لذلك، فإن الحديث عن «تنزيل الدستور» يتعارض إطلاقا مع مفهوم الدستور ذاته، حيث إن هذا الأخير وضعي وليس وحيا. وهذا ما يجعله غير متضمن لحلول مطلقة، إذ لا يمتلكها البشر إلا جزئيا، لأن الحلول الديمقراطية أفق لا نهائي، نتقدم صوبه، وكلما تقدمنا أكثر شعرنا بأن الأمر يتعلق بمشروع مفتوح يستحيل السيطرة عليه بنحو كامل. انسجاما مع ذلك، يجب الفصل بين الدين والسياسة، لأنه لا يجوز الخلط بين حقلين مختلفين عن بعضهما من حيث الطبيعة، حيث يؤدي الخلط بينهما إلى اعتبار النسبي مطلقا وتقديسه، وهو ما لا تقبل به العلوم الإنسانية والاجتماعية ويرفضه العقل.. لقد ذُكر لفظ «التنزيل» في آيات مجيدة كثيرة، لن أذكر منها إلا بعضها وهي كافية في تبين الانحراف بالألفاظ القرآنية والتنابز بها في المهارشة السياسية بالمغرب. قال تعالى: «نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ» (النحل، 120)، «وبالحق أنزلناه وبالحق نزل» (الإسراء، 105)، «وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ» (الشعراء، 192)، «نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ» (البقرة، 176)، «مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ» (النجم، 23)، «نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ » (الفرقان، 1)، « اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ» (الزمر، 23)، «كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ» (محمد، 9)، «وإن كنتم في ريب مما نزَّلنا على عبدنا» (البقرة، 23)، «آمنوا بما نزلنا» (النساء، 17)، «ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس » (الأنعام، 7)، «فانه نزله على قلبك» (البقرة، 97)، «والله أعلم بما يُنزَّل» (النحل، 101)، «حين يُنزَّلُ القرآن» (المائدة، 101)، «لولا نزَّلَ عليه آية» (الأنعام، 37)، «لنزَّلنا عليهم من السماء» (الإسراء، 95)، «ولو أننا نزَّلنا إليهم» (الأنعام، 111)، «حتى تنزل علينا كتابا» (الإسراء، 93) ... يبدو لي أن هذا كاف في أمر التنزيل الذي يعني توصيلا من الإله المفارق إلى المخلوق المحايث. المفارق هو الخالق والمحايث هو الواقع في الظروف المادية، أي المخلوق. والتنزيل يكون من الخالق إلى المخلوق. أظن أنَّ من يتحدثون عن «تنزيل الدستور» لا يعرفون العربية ولا القرآن المجيد، إذ أخذوا أحد ألفاظه فاستعملوه بمعنى التطبيق، أي تطبيق قوانين غير محققة ولا تتحقق إلا بالتطبيق. أما الكتاب المنزل فيتحقق بالتنزيل نفسه. وبذلك خلصتُ في النهاية إلى أن هناك فئة قليلة تُروِّج لعبارة «تنزيل الدستور» سعيا إلى خلط المفاهيم من أجل تديين السياسة وتسييس الدين، خدمة لأهدافها السياسية التي تسعى إلى تقديسها من لدُن المجتمع.. تعود جذور هذا التلاعب بالدين إلى العصر الأموي، إذ بعد سيطرة الخلفاء الأمويين على الحكم، صاروا يميلون إلى العقيدة السياسية التي تتأسس على المكر والخداع والدهاء والمداهنة والنفاق، وتتنكر للنظام الأخلاقي تماماً، فتداخلت مع الإسلام إلى أنْ ظن البعض أنها هي الإسلام ذاته. لكن السياسة تختلف عن العقيدة الدينية، وإذا ما أُدمجت فيها تحول الأمر إلى استبداد ممأسس، إذ يشهد التاريخ الإسلامي على ما نجم عن ذلك من صراعات فظة وعنيفة وقاتلة. تدين جماعات الإسلام السياسي بالمعتقد السياسي، وتفرضه على المعتقد الديني، وتتهم كل من يتمسك بالمعتقد الديني بأنه ضد الإسلام، مع أنه في واقع الحال ضد الإسلام السياسي، الذي يحول الإسلام إلى أيديولوجيا وينفى النظام الأخلاقي، الأمر الذي يخالف الإسلام جوهرا. هكذا، حدث تحريف لمعاني الآيات القرآنية التي استخدِمت لتحقيق أهداف سياسية أو أغراض طائفية... ومنذ هذا الزمن نشأ في المجتمع الإسلامي ترابط بين الشأن الديني والشأن السياسي. محمد بوبكري | ||
- الاتحاد الاشتراكي :4/5/2012 | ||
الشلخة 1- عدد الرسائل : 298
العمر : 63
Localisation : jawal
Emploi : mastoura
تاريخ التسجيل : 30/08/2006
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى