الذكرى المائوية الثالثة لميلاد المفكر، المربي والفيلسوف جان جاك روسو
صفحة 1 من اصل 1
الذكرى المائوية الثالثة لميلاد المفكر، المربي والفيلسوف جان جاك روسو
ملف من إعداد: الأستاذ عمر بوشارب
حلت يوم أمس 28
يونيو الذكرى المئوية الثالثة لميلاد المفكر السياسي، والأديب، والعالم
الموسيقي، جان جاك روسو. روسو فيلسوف فرنسي وتميزت حياته بالمكانة التي
أولاها إياه رجال الثورة الفرنسية إذ كان يعد من المبشرين بها، في مستوى
الفكر السياسي، ومن حماتها بالنظر إلى ما أولته نظريته السياسية من مركزية
للشعب، بل ولدلالة معنى لفظة الشعب ذاتها - وبالتالي فالرجل، في الوعي
الفرنسي الجماعي من قادة الفكر وزعماء الحرية ودعاة التنوير. سويسري، «
العقد الاجتماعي » والفيلسوف السياسي الذي يقترن اسمه، من بين المؤلفات
الكثيرة والمتنوعة التي كتب، بكتاب مواطن « : ليس باعتبار المولد والنشأة
فقط، بل لأن روسو كان يحرص أشد الحرص على أن يوقع مؤلفاته ويعرف نفسه
هكذا.» حسب توصيف الإستاذ سعيد بنسعيد العلوي
«اليوم يأخذ فكر روسو مكانته الرفيعة»
عندما استضافته جامعة جنيف سنة 1962 في إطار الذكرى 250 لميلاد جان جاك
روسو، وصف كلود ليفي شتراوس هذا الأخير ب»مؤسس علوم الإنسان». أستاذ
الكوليج دوفرانس، و في قاعة ممتلئة عن آخرها، «حيث يجلس جنبا إلى جنب
العمال و ربات البيوت و رجال الأدب و المستخدمين و الموظفين و الطلبة و
الأساتذة»، قلب الطاولة على عشرات السنين من السخافات التي صنفت روسو ضمن
أصحاب النزوات ذوي الخيال الطافح. روسو رأى حقا و مكننا من الرؤية.
«اليوم، بالنسبة لنا نحن الذين نحس، كما تنبأ بذلك روسو لقارئه، ب»رعب
أولئك الذين سيكون لهم بؤس الحياة بعدك»، اليوم فقط يأخذ فكر روسو مكانته
الرفيعة و يكتسب كامل أهميته.
في هذا العالم الذي صار أكثر قسوة، ربما ، مما كان عليه الحال
قط........الآن، أقول، بعد عرض نواقص نزعة إنسانية فشلت حتما في أن تؤسس
عند الإنسان ممارسة الفضيلة، إن فكر روسو قد يساعدنا على رفض وهم نستطيع
الآن أن نلاحظ من أنفسنا و في نفوسنا آثاره الوخيمة للأسف.
أليس أن خرافة الكرامة المحصورة على الطبيعة البشرية هي التي أدت إلى إلحاق
تشويه أول بالطبيعة ذاتها، ستنتج عنه بعد ذلك بالضرورة تشوهات أخرى؟ و قد
بدأنا بفصل الإنسان عن الطبيعة و أعطيناه السيادة العليا، ظنا منا أننا
بذلك قد أزلنا عنه سمته الأساسية التي لا يمكن الاعتراض عليها، و هي كونه
أولا، وقبل كل شيء، كائن حي. و بتعامينا عن هذه السمة المشتركة، فتحنا
المجال لجميع التجاوزات. أبدا لم يستطع الإنسان الغربي أن يفهم بجلاء، إلا
في القرون الأربع الأخيرة من تاريخه، كيف أنه بإعطائه لنفسه الحق في الفصل
القطعي بين الطبيعة الإنسانية و الطبيعة الحيوانية، و إعطاءه للأولى ما
أخذه من الثانية، قد دشن لدورة لعينة، و بأن نفس الحدود ستتسع باستمرار
لتبعد أناسا عن أناس آخرين، عبر المطالبة، لمصلحة أقليات أكثر فأكثر تقلصا،
بامتياز إنساني فاسد من أصله، لأنه استعار من حب الذات مبدأه و مفهومه.
وحده روسو انتفض ضد هذه الأنانية...هو الذي كان يفضل الإقرار بأن قردة
إفريقيا و آسيا...أناس من سلالة غير معروفة، عوض أن يجازف بالمنازعة في
الطبيعة البشرية لكائنات تنتمي إلى هذه الطبيعة البشرية.
إن المماثلة بين جميع أشكال الحياة، بدءا من المُتًضِعَةِ منها، و بعيدا من
أن تشكل نوعا من الارتكان إلى الحنين، تمنح لإنسان اليوم، عبر صوت روسو،
مصدرا لكل حكمة و لكل عمل جماعي. ففي هذا العالم المليء بالعوائق التي تجعل
من الصعب، لكن من الضروري كذلك، المحافظة على المراعاة المتبادلة، فإن هذا
هو المصدر الوحيد الذي يمكن أن يجعل الناس قادرين على العيش معا، و بناء
مستقبل الوئام».
Claude Levi-Strauss
بتصرف
عن مجلة « Le Monde »
عدد خاص عن ج.ج. روسو
ماي- يوليوز 2012
أول المغتاظين
س: يعتبر بعضهم اليوم جان جاك روسو «أول المغتاظين». هل هذه التسمية مبررة في نظركم ؟
ج: أنا أراها مبررة بما فيه الكفاية مادام أن جان جاك روسو في كتابه
L’EMILE اعتبر العدل بمثابة حب الإنسانية، أي حب الشعب، بما أن الشعب هو
المكون الأساسي للنوع البشري. بل بلغ به الأمر حد التصريح بأن «الشعب هو
الذي يتكون منه النوع البشري : كل ما هو خارج الشعب هو شيء واه و لا ضرورة
لاحتسابه». حينما يهتف «المغتاظون» «نحن ال 99٪» و يطالبون بالعدل، فهم
أقرب إلى نقمة جان جاك روسو التي ترتكز على كون السياسة تهتم غالبا ب 1٪...
إن مصدر الإلهام هنا يكمن في القول بأن الديمقراطية ليست فقط نظاما سياسيا
يمنح حقوقا شكلية، بل نظاما يتعين عليه إعطاء حقوق واقعية بدون انجرار نحو
حكم الأقلية (الأوليغارشية) أو حكم الأثرياء (البلوتوقراطية). ليس هناك عند
روسو من حرية بدون مساواة. لذلك فهو لم يعتبر انجلترا نموذجا للحرية
السياسية بالرغم من أنها كانت في زمنه نظاما تمثيليا، بحيث أن مجلس الشعب
كان منتخبا. إن ذلك بالنسبة إليه لا يعدو كونه حرية صورية.
س : تحاولون في كتابكم « Au prisme de Rousseau »، وضع خريطة لطرق ممارسة الفكر السياسي منذ الحرب الباردة. فما هي هذه الطرق؟
ج : إبان الحرب الباردة يمكننا أن نميز ما اسميته كتلتين تأويليتين: فمن
جهة هناك الماركسية، و التي اعتبرت روسو أبا روحيا للثورة الفرنسية و لحقوق
الإنسان، بالرغم من أنه لم يذهب بعيدا في تفكيره مادام أنه اقتصر على
مستوى الاقتصاد السياسي على نموذج صغار الملاك القرويين.
ومن جهة ثانية هناك الليبراليون منتقدي و مناهضي الأنظمة الشمولية، و منهم
إساياه برلين، جاكوب طالمن أو ليستر كروكر، الذين سلطوا الضوء على الدور
الذي قد يكون فكر روسو لعبه في التأثير في الفكر الشمولي، بدون أي إبراز
لأي علاقة انتساب تاريخية بين ستالين و روسو، فبالأحرى بين هتلر و روسو.
إلا أنهم ابرزوا رغم ذلك كيف أن مصطلح الارتهان الشامل للفرد بكل حقوقه
للمجموعة، يشكل مجازفة باتجاه السلطة المطلقة للدولة، أو كيف يمكن المماثلة
بين صورة المشرع، المفترض فيه، إن صح ، تغيير الطبيعة البشرية، و صورة
الإنسان الجديد.
أما الانتقاد الثالث الذي يوجهونه لروسو فهو كونه بسط نموذجا سياسيا غير
تعددي و لا يعطي المكانة اللازمة للأقليات، مما يكشف عن تصور قديم للجماعة.
فمؤلف «العقد الاجتماعي» فضل نوعا من الإجماعية و نوعا من المجانسة
السلوكية على الديمقراطية التعددية و المتعددة الثقافات التي قام
باستبعادها.
إلا أنه منذ سنة 1970 وقع تغيير في الاتجاه بحيث أن جون راولز أعاد
الاعتبار لروسو و أعاد إدماجه في تقاليد الليبرالية السياسية حينما أحال
على ميكانيزم الإرادة العامة في كتابه «نظرية العدل»
س : هل هذا يعني أن المجادلة قد انتهت؟
ج : إن استعمالات روسو تبقى معقدة و أحيانا ملتبسة. فإذا كان جون راولز
يعتبر أن كاتب «العقد الاجتماعي» يتيح تصور مجتمع عادل و مستقر حيث
المؤسسات تكون مسنودة إلى تعليلات ملائمة و حيث تكون المساواة في خدمة
الحرية، فإن الخصوم النظريين لجون راولز يميلون إلى اعتبار روسو ناقدا قبل
الأوان للتعاقدية الشكلية و الليبرالية التنافسية...
و يبقى أن فكر روسو لا يمكنه بدون وساطة تنوير العالم المعاصر.
فكما دافع روسو عن سياسة المنفعة المشتركة، فإن فيلسوفا تشاركيا كميشيل
ساندل يحرص على أخذ مسافة بينه و بين نزعة جمهورية يراها جبرية، تصم أذانها
عن الانشقاقات و تغمض عينيها عن الاختلافات.
أما تشارلز طايلر، صاحب كتاب «التعددية الثقافية»، فإنه يحذر من الانحرافات
الممكنة لمجتمع لا يعترف بالأقليات. فلئن كان روسو اهتم كثيرا بفرض سيادة
الإرادة العامة فإنه بالمقابل لم يستطع الذهاب بسياسة الكرامة المتساوية
إلى مداها، أي الاعتراف بالاختلافات.
و كيفما كان الحال فإن روسو لا زال حاضرا بقوة في المجادلات المعاصرة. فمنذ
نهاية السبعينات، لم تعد «الدراسات النسائية» تقتصر على الاتهام المقذع
لكتاب L’EMILE بنزعته القضيبية. لقد أصبحت نظرته العلائقية للاستقلالية
تفرض عليها نوعا من التدقيق.
عن المجلة الشهرية الفرنسية
Sciences Humaines n°238
استجواب مع
Celine Spector
أستاذة الفلسفة بجامعة بوردوIII
P :54 et 55
درس في الأخلاق الكونية
حينما قام روسو باستغلال نجاحه في الكتابة الأدبية، بعدما غير من سيرته،
لكي يظهر بتباهٍِِ استقلاليته و فقره، لم يكن غرضه من ذلك إثارة الانتباه
إلى شخصه فقط. هذه البرهنة عن العفة على الطريقة الرواقية (أو الديوجينية)
هي مطالبة بمعنى و مغزى عام.
روسو، الشخص، عندما تَفَرًدَ بذلك على مرأى من الجميع، كان يبحث عن إعطاء درس في الأخلاق الكونية.
في ازدراء لكل حشمة و لكل رياء، اختار عيشة إملاق ارتضاها، ليبين
اللامساواة الاجتماعية بطريقة تستنفر الضمائر. و كم من النقاد أوضحوا،
انطلاقا من بوح «الاعترافات الصادقة»، الجانب المُمَسْرَحَ و المُتصَنًع
لهذا السلوك. إلا أن ذلك ليس تمظهرا مجانيا. انه «تعبير».
و إن كانت هناك من لعبة في كل ذلك، فستكون تلك اللعبة التي يكشفها لنا علم
النفس في كل التزام رصين و متعمًد : إنه اعتقاد راسخ لضمير ينتشل نفسه من
حياة متذبذبة تشي بتعددية متضاربة تشكل غنى الحياة اللامسؤولة و لكن، كذلك،
تمزقاتها.
كل اختيار يبقى اختيارا مفرطا : لكن النهج المختار هنا يوافق إلحاحا داخليا
عميقا: و فاء ج.ج.روسو لأصوله و لفئته الإجتماعية. ففي الوقت الذي كانت
فيه حالته الاجتماعية مقبلة على التحول، حيث كان بإمكانه أن يترقى اجتماعيا
بفضل مجده الأدبي، قرر أن يصون فقره، تحديا منه. فحياة «العوز» التي عاشها
لم يكتف بتكبدها: كان يريدها، لكي يبرهن لقرائه المحظوظين بأنه، في الحالة
التي كان عليها المجتمع في عصره، فإن أي حياة كريمة و مبررة أخلاقيا ليست
ممكنة إلا إذا كانت على حافة الإملاق. و حين يعطي ج.ج.روسو المثل بخصوص
المعيار الحقيقي، فإن كل رفعة و كل علو شأن مادي، يصير مجبرا على أن
يُعَرفََ نفسه بشكل اتهامي : إن كل ثروة و كل سلطة ناتجة عنها هي غَصْب.
هذا الرجل الشهير الذي لم يرد أن يكون شيئا آخر غير نساخ علامات موسيقية،
يجعلنا نحس بهذا الجانب المسرف و اللامبرر للثراء. انه يصرح بأن الدونية
الإجتماعية ترافقها دائما رفعة أخلاقية. فاللامساواة هي نتاج للرغبة
المزهوة بحب الظهور. و من تخلص من هذا الإفتتان و فتح عينيه سيرى هذا
الافتتان في حقيقته كوَهم مُؤْذٍ.
هذا الوهم هو الذي يفسد الواقع اليومي، بواسطة أناس غفل انخدعوا ببريقه.
أما بخصوص آثارها الأخرى، فإن خرافة التمظهر المفارِقه هاته تتمخض عنها المعاناة و كذلك الجريمة.
جان ستاروبينسكي
مجلة « Le Monde »
Hors serie
Mai-Juin 2012
P : 105
العقل، حين يكرس لوحده، يصبح
ذا طابع مجرد ولا إنساني
أحب مواطن جونيف هذا;العصامي تماما; ذو الحساسية الغريبة، الذي انتهى به
المطاف، بعد مغامرات عديدة، إلى النزول بباريس، بين ظهراني الفلاسفة، حيث
أبان منذ الوهلة الأولى عن عمق إلهامه، أدبيا، سياسيا و فلسفيا. إلا أنه ما
لبث أن أثار استنكار هؤلاء الفلاسفة الذين استقبلوه قبل ذلك بالأحضان.
إن القوة الإبداعية لهذا الفكر المستقل تذهلني. لأن هذا الفكر عصامي ولم
ينطبع بالآراء السائدة. انه فكر جديد جدا وعميق جدا. نجد فيه من جديد هذا
الجانب «النيزكي» كما عند مونطين و سبينوزا. فكما هو الحال عند هؤلاء، فان
فكره غير متوقع، أو قل أنه كان متوقعا لأن سيماه تكشف عن حاجة لا شعورية،
صامتة، في قلب الثقافة الأوروبية.
انه يتقاسم مع مونطين مَزِيًةَ البحث الصادق والمنتقد لنفسه، مما جعله
يعتقد ببراءة تامة في كتابه «الاعترافات الصادقة» بأن الصدق مرادف للحقيقة.
و كما باسكال، فإن روسو نموذج المفكر الذي استطاع ابتكار علم الإنسان.فَلإن
تساءل باسكال عن شقاء الإنسان و عن حماقته و عن رفعته، فإن روسو تساءل عن
مرتكز العلاقة الإنسانية بالطبيعة.
بل أكثر من ذلك، كما كتبت ذلك في كتابي « Le vif du sujet » ،»فإن روسو
الذي ارتكن في مركز علم الإنسان و المذاهب السياسية و الحساسية العصرية و
النفس و الهواجس يكشف لنا في الواقع عن الصلة الغريبة بين مختلف أبعاد
وجودنا».
لقد جاء روسو بهذه الفكرة الأساسية عن الطبيعة من حيث هي هذا الكل الحي و
الحيوي الذي يتوجب على الإنسان أن يكون معه في تناغم و تصالح. إن فكرة
إعادة العلاقة السٌرِيَة المفقودة مع الطبيعة و استعادة طبيعتنا نحن أيضا،
لهي فكرة جديدة و عصرية بشكل مدهش. فهي لم تكن عند مجايليه من الفلاسفة. و
يلزمني القول أن كتابا مثلperdu Le Paradigmeقد ألفته على منهاج « مقالة
حول أصل اللامساواة»، لأنني بحثت فيه، اعتمادا على آخر ما توصلت إليه
الأبحاث في الأنطروبولوجيا و حقبة ما قبل التاريخ و علم العادات و الأخلاق،
عن الإمساك بهذا «الأنموذج الضائع» للطبيعة الإنسانية. أعني ذاك الرابط
الذي يجمع، بداخل الإنسان، بين الطبيعة و الثقافة بشكل لا منفصل و متواجه.
هذا الرابط كان قد أصبح غير مرئي في نظام معرفي جزئت فيه المعارف و لم يبق
بينها من اتصال متبادل: العلوم الإحيائية من جهة و العلوم الإنسانية من جهة
ثانية. إن روسو هو واحد من المفكرين النادرين الذي استطاع فهم «الثنائية
الإنسانية الموحدة»، و المتكونة من الثقافة و من الطبيعة، بحيث أن الإنسان
هو100٪ طبيعة و 100٪ ثقافة.
إن روسو هو الذي بين، في أوج قرن الأنوار، كيف أن العقل، حين يكرس لوحده،
يصبح ذا طابع مجرد و لا إنساني. لقد كاد يحدس مل سيسميه هيجل بعد ذلك
« Vernunft »: العقل الحيوي، في مقابل « Verstandt » : الإدراك أو العقل
التجريدي. لقد بين الطابع المتوحش و المشوه للقطيعة بين الإنساني و
الطبيعي، بين الإنساني و الحيواني. و هذا ما أثار عليه سخرية ﭭولطير.
يجب القول أن فلاسفة الأنوار كان لهم ميل لعدم فهم أشياء أساسية من قبيل
الحيوانية، الجنون، الخرافة، الدين، الانفعالية، لأن هذه الأشياء كانت تغيب
عن عقلياتهم اللامُتَعَقًدة. فبالنسبة لفولتير، فإن الدين ليس سوى ابتكار
للقساوسة و حيلة لخدع الشعوب. هذه العقلانية لم تفهم الجذور العميقة للحاجة
إلى الدين، للحاجة إلى الخلاص، للحاجة إلى الأساطير. لقد غاص فولتير في
العقلانية، أي في هذيان تجريدي لعقل لم يكن يعي حدود العقل و نواقصه.(...)
ادغار موران
بتصرف عن مجلة « Le Monde »
عدد خاص عن جان جاك روسو
ماي –يوليوز 2012 (صفحة 110-11)
العقد الاجتماعي و الديمقراطية
قد يبدو من باب المفارقة الغريبة أن يقوم روسو، و هو المنظر الكبير
للديمقراطية، بتخصيص نص كامل (في كتابه « عن العقد الاجتماعي») لدحض أي
إمكانية لتحقيقها. و الواقع أنه لكي نفهم ذلك، يكفينا أن نتذكر أن كلمة
«ديمقراطية» لم يكن لها نفس المعنى الذي نعطيها إياه اليوم، أي الحق الذي
يتمتع به الشعب في التصويت لاختيار «ممثليه».
إن هذا المعنى حديث و لا يتوافق مع المعنى الذي استعمله فيلسوفنا.
ففي الماضي كانت مصطلحات سياسية من قبيل «الارستقراطية» أو «الملكية» غير
مرتبطة قسريا بنبلاء أو بملك، بل قد تحيل على أنظمة يقوم فيها الشعب
باختيار قائد أو أكثر. و بهذا المعنى، فإن ما نسميه اليوم «ديمقراطية» هو
بالأحرى مزيج من الارستقراطية (النواب المنتخبون) و الملكية (رئيس الدولة).
أما بالنسبة لروسو فإن «الديمقراطية» تعني، عكس ذلك، نظاما يمارس الشعب فيه
السلطة بشكل كامل و دائم، بدون وساطة. كما في أثينا أو في حقب معينة من
التاريخ الروماني أو كما كان عليه الحال في بعض الحواضر الايطالية في بداية
النهضة، حيث يختار الحاكمون عن طريق القرعة (و ليس بالاقتراع) حتى لا
يعتقدوا أنهم قلدوا أي سلطة. آنذاك كان مجموع المواطنين هم الذين يشرعنون
القوانين بالتصويت عليها.
غير أن هذا النظام الانتخابي كان يمثل رغم ذلك نوعا من الوساطة بين الشعب و
نفسه. لذلك أكد روسو أنه لم توجد هناك أبدا ديمقراطية حقيقية.
فالديمقراطية الحقيقية تقتضي وجود مواطنين بعدد قليل، لا يقومون بشيء آخر
سوى أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، و يكونون متميزين بالعفة و عالمين بمعنى
«الإرادة العامة»، بدون أن تكون بينهم لا مساواة أو أنانية قد تعاكس
المنفعة المشتركة. و باختصار: الديمقراطية بمعناها الحقيقي تفترض وجود شعب
من الآلهة. ( لعل الكاتب يشير هنا إلى ما كتبه روسو : « يلزم آلهة لإعطاء
قوانين للناس»).
و عمليا، فروسو يُِوثِر إذن «ارستقراطية» مُنَصًبَة، أي حكاما منتخبين، ليس
من أجل أن «يُِِِمَثًِلُوا» الشعب و يسيروه، بل من أجل أن يمْتَثِلُوا له.
إلا أنه عند ذلك يصبح المشكل الحقيقي ليس هو أشكال الحكم، و لكن هو الشعب
نفسه و قُدَرَاته المُواطِنة. إذ ذاك يجب تجاوز حواجز عديدة على طريق هذه
الحرية الجماعية. فالمواطنون في غالبيتهم لا يستطيعون النفاذ إلى المفاهيم
الضرورية لبناء قانوني عادل و لا إلى الفكر المجرد الضروري للوصول إلى
«الإرادة العامة». لقد استبطنوا الأحكام المسبقة و العادات المنتشرة في
المجتمعات الراهنة و التي هي مجتمعات متسمة باللامساواة. إنهم يتوقون كثيرا
هم أيضا للاستفادة من الامتيازات، و بالتالي من اللاعدالة المحيطة بهم،
مما يجعلهم متخوفين من المجتمع العادل. و بهذا المعنى، فإن الفلسفة
السياسية لروسو، الذي اشتهر بتأملاته في القانون و الدولة و المؤسسات، تفضي
في الواقع إلى نداء للناس البسطاء أن يغتاظوا، إلى نداء من أجل تكوينهم
سياسيا و تربيتهم، من أجل نمو ممارساتهم المواطنة.
ان «مواطن (بلدة) جنيف»، متشبع بقوانين إجرائية لازالت الكونفدرالية
السويسرية المعاصرة تحتفظ بآثارها الحية، من خلال الإمكانية المتاحة
للمواطنين أن يفرضوا على حكامهم، و في مختلف المواضيع، اقتراعات شبيهة
بالاستفتاء.
إن مجموع المثل العليا الليبرالية عند روسو مختصرة في هذا التحذير : «بمجرد
ما تكف الخدمة العامة من أن تكون الشأن الأساسي للمواطنين، تصبح الدولة
قريبة من انهيارها».
من هنا أهمية المطلب الذي يرفعه اليوم منتقدو «الديمقراطية التمثيلية».
إنهم يجدون عند روسو ما يطعمون به جهودهم من أجل إعادة ابتكار ممارسات
سياسية خارجة عن الأشكال المؤسساتية للحياة السياسية.
Revue « le point- références »- Mai- Juin 2012- P72
Jean- Paul Jouary
أستاذ الفلسفة
صاحب كتاب : «روسو، مواطن المستقبل»- كتاب الجيب- 2012
الاتحاد الاشتراكي الثقافي
29 يونيو 2012
عبدالله- عدد الرسائل : 1759
العمر : 54
تاريخ التسجيل : 26/06/2008
مواضيع مماثلة
» الذكرى (51)لميلاد الأخ العربي
» الذكرى الرابعة لميلاد منتدى صدى الزواقين
» العائلة الملكية العلوية بالمغرب
» عندما قال المفكر محمد عابد الجابري: الآن مرحبا بملَك الموت
» حوار مع المفكر المغربي عبد الله العروي
» الذكرى الرابعة لميلاد منتدى صدى الزواقين
» العائلة الملكية العلوية بالمغرب
» عندما قال المفكر محمد عابد الجابري: الآن مرحبا بملَك الموت
» حوار مع المفكر المغربي عبد الله العروي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى