وجهة نظر : أسبابُ العزوف (عن القراءة والكتاب).

أسبابُ العزوف (عن القراءة والكتاب) عالجها أكثرُ من باحث متخصص، لكن أغلبَ هذه المعالجات ظلت محكومةً بالفلسفة الغربية. وهذا سر فشلها. وعندي أن التعليم هو المسؤول الرئيس في هذه الأزمة. المناهج التعليمية التي تَرَبَّي عليها جيلي، كلُّ ما فيها يدعو إلى الارتباط بالكتاب. أعلامُ الشعر العربي والفرنسي تعرفنا عليهم في المدرسة الابتدائية: عرفنا عنترةَ، والمتنبي، وشوقيا، وحافظا، و...وفكتور هوجو، ولامرتين، ولافونتين، وأَنَطُول فْرَانْس، و..، وسمعنا، وقرأنا عن العقد الفريد، وصاحبِه ابنِ عبدِ ربه، ونَهجِ البلاغة، ولاميةِ العرب. في الإعدادي كَبُرَتْ هذه المعارف، وتعمقت. كانت المدرسة ترعى المواهب. كنا حين تقترب العطلة نبقي في أقسامنا إلى آخر يوم من أيام الدراسة؛ لأن المعلم كان يشدنا بالأنشطة الفنية، حيث كنا نُمارس التمثيل، والإنشاد. في الابتدائي الثاني عرفنا شوقيا شاعرا مسرحيا، ومَثَّلْنَا بعضَ مسرحياته. كان المعلم يجعلنا نتنافس في إنشاء رسائلَ في موضوعات معينة، والإنشاءُ الفائز يُقرأ على التلاميذ. كلُّ تلميذ يحلم أن يكون إنشاؤه من المختارات؛ وليتحقق حلمُه عليه أن يعود إلى المنفلوطي، وجبران، والرافعي.كنا نَتَمَنَّى أن يتأخر مجيءُ العطلة؛ لأن المدرسة بَهجةٌ، ومكانٌ للعلم، وللفرح. حين تَوَغَّلَ الاستقلالُ فينا توغل معه المستعمِرُ فينا، حيث انْسَلَّ إلى المناهج: وهنا بدأ المهتمون بالشأن التعليمي يفكرون في تبسيط مواد التدريس، والتبسيطُ حق أريد به الباطل. وبدأنا نفكر في الطفل، لا ينبغي له أن يأخذ إلا ما يناسب عقلَه، وعَطَّلْنَا فيه كَنْزاً مهما هو كَنْزُ الذاكرة. المناهجُ التعليمية المستوردة جيدةٌ، وصالحة حين تُطبق في الغرب؛ لأن الغرب لم يلجأ إليها إلا لأن مجتمعه في أمس الحاجة إليها. أما مجتمعنا العربيُّ الأمازيغيُّ الكرديُّ المسلمُ فحضارتُه تتطلب منهجا مخالفا.كان ينبغي أن نطور مناهج الأسلاف. تَصَوَّر أن كتابَ المفضليات، وهو مختاراتٌ من عيون الشعر الجاهلي، هو في الحقيقة ديوان شعر للأطفال !الطفلُ الذي يحفظ القرآن الكريم، ويحفظ المعلقات، و...، كيف سيكون مستواه حين يباشر العِلْم. إذن أزمةُ القراءة حلُّها في التعليم أساسا، بعد التعليم تأتي الأسرة.



من أوراق محمد علي  الرباوي (ص: 225)