صدى الزواقين Echo de Zouakine
مرحبا بك عزيزي الزائر. المرجو منك أن تعرّف بنفسك و تدخل المنتدى معنا ...اذا لم تكن قد تسجلت بعد نتشرف بدعوتك للتسجيل في المنتدى.

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

صدى الزواقين Echo de Zouakine
مرحبا بك عزيزي الزائر. المرجو منك أن تعرّف بنفسك و تدخل المنتدى معنا ...اذا لم تكن قد تسجلت بعد نتشرف بدعوتك للتسجيل في المنتدى.
صدى الزواقين Echo de Zouakine
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

مستويات التجريب في القصة القصيرة بالمغرب: الكينونة والتّجلي*

اذهب الى الأسفل

مستويات التجريب في القصة القصيرة بالمغرب:   الكينونة والتّجلي*  Empty مستويات التجريب في القصة القصيرة بالمغرب: الكينونة والتّجلي*

مُساهمة من طرف عبدالله السبت 15 نوفمبر 2014 - 21:31

تشتغل قضايا هذه المداخلة ضمن ثلاثة محاور كبرى يؤشر عليها العنوان: المحور الأول أساسه التّجلي الأنطولوجي للقصة القصيرة بوصفها تعبيرا إبداعيا جماليا نوعيا، وباعتبارها جنسا أدبيا يستمدّ أساسه من كينونة ذاتية كفلت له التّميز داخل مجال السرد. والمحور الثاني قِوامه الانتماء الجغرافي للقصة القصيرة، فتغدو بموجبه خلفية فضائية تسِمها بمواصفات خاصة؛ لكن ليس عبْر وضعها في سياق تَمييز المفاضلة، بل انطلاقا منْ وسْمها بما تفرضه جماليات الجغرافية المُتاحة. والمحور الثالث مركزه التجريب الذي يطَال الكثير من العناصر القصصية؛ سواء تعلق الأمر بالنص القصصي في تحققه الدلالي والفكري، أم في بنائه الفني والجمالي. من هنا، تقوم المداخلة تنظيما على بنية منهجية مزدوجة؛ شِقُّها الأول يقترنُ بالبحث في تجريبية القصة القصيرة بالمغرب؛ بوصفها ممارسة فنية مؤطرة بأفق إبستيمولوجي غايته نقضُ التَّكرار المُمل، وخرقُ المتداولِ والمألوفِ في الكتابة القصصية. وشِقُّها الثاني يتَّصل بمستويات التجريب في الإبداع القصصي على مستوى تجلّي النّص؛ مما يوحي بتعدّد العناصر القصصية التي مسّها الخرق في سياق التجريب القصصي.
تترجم هذه المعطيات ضرورة التفكير في سؤالين هما: ما هو التجريب القصصي في تحقّقه وكينونته أولا ؟ وما هي مظاهره على مستوى التجلي النّصي للقصة القصيرة
ثانيا؟


مستويات التجريب في القصة القصيرة بالمغرب:   الكينونة والتّجلي*  677764info12132014111523AM1



1-التجريب القصصي:
في «مديح الخرق»

كشف التاريخ الأدبي أن القصة القصيرة امتدت في سيرورة تنموية قِوامها التّحوّل الدائم؛ سواء كان تحولا ساهمت فيه عوامل ثقافية وإبداعية فنية، أم كان تحولا أفرزته عدّة مستجدات اجتماعية وسياسية واقتصادية. هكذا، سعت القصة القصيرة إلى تنويع مرجعياتها المتصلة بالإنسان الفاعل في محيطه والمنفعل به، بعدما أقدم »بوكاتشيو« على تخليص الأدب من النزعة الميتافيزيقية التي كانت مهيمنة عليه، عبْر تكريس سرده لأحداث الحياة اليومية، وإحلال عالم الطبيعة محلّ عالم الروح1. لهذا، لم تَنْتَمِ القصة القصيرة إلى مجال فني وإبداعي يكرّسُ المألوفَ، ويستكينُ للجاهز في عالم الإبداع السردي، بل استندت على فلسفة إبداعية تؤطرها مقولة "المغايرة الخلاّقة". إنها المقولة التي تشير إلى استغلال المبدع الأمثل لقدراته القاضية بتدعيم التطور الفني والجمالي والدلالي للقصة القصيرة، وذلك في مسار تعاقبي قوامه توّليد الجديد من المتداول، وتشييد النصوص القصصية التي تخلخل الجاهز وتتمرّد عليه، وترفد المتخيّل الإنساني بما يُقيم الدليل على إنتاج الجديد باستمرار.
يُثير الحديث عن الإنتاج القصصي المتولّد من "المغايرة الخلاّقة" قضية التجديد في الكتابة القصصية، باعتبار ذلك فلسفة إبداعية مواكبة لكل الأزمنة تفصح عن انتصار الإنسان لاكتشاف الجديد. لكن في هذا القول ما يُؤشِّر على دَوْر المبدع القاص في فعل التجديد، بما يوافق سلطة الصناعة والتصنيع القصصي. بهذا المعنى، نفهم أن التجريب القصصي يُمجّد الإبداع المشيّد بقانون الخرق، لكن بما يوافق طبيعة المتخيل القصصي بعناصره الدلالية والجمالية. لذا، فالتجريب القصصي يقرأُ التّراكم الإنتاجي ويتعمّقُ في الوعي بعوالم نصوصه، ثم يبني إنتاجه القصصي مخلخلا "قوانين" الخطاب القصصي المألوفة. لهذا، فالتجريب القصصي تعبير عن خرق للمألوف والمتداول في المنجز القصصي، وعن وعي بشروط بناء النّص القصصي ضمن شروط أجناسية خاصة، وعن إدراك حدّ الإبداعية والفنية في النص القصصي الممتثل لضوابط "الألفة" أو الخاضع لمبدأ "الغرابة". يكمن عمق التجريب، إذا، في "صناعة الخرق"، وترسيخ الانحراف عن المألوف؛ حيث »يروم التجريب القصصي الانزياح نحو خلخلة عادات التلقي والكتابة عن طريق زعزعة الطرق السردية وتكسيرها واللعب الفنّي بالحكاية وقيادتها بشكل غير خطي نحو النهاية التي قد لا تكون بالضرورة منتظرة من طرف الناقد أو القارئ الذي اعتاد رفاهية التلقي«2.
تُفصحُ معالم التجريب القصصي عن خلخلة مزدوجة؛ أولها يُقْدِمُ عليها المبدع، وثانيها يُفعِّلها المتلقي. لا تجريب دون مبدع يعي حدود فعله الإبداعي، ولا معنى لتجريب قصصي دون قارئ يقبله ويترجم أبعاده ودلالاته. بهذا المعنى، فالتجريب القصصي يصدر عن مبدع يخلخل المألوف، وينتصر للخرق في مستويات متعدّدة؛ كالبناء السردي، وبناء أحداث القصة، واللغة..، وكل ما ينقض "رفاهية" تلقي السرد الخطي الكلاسيكي. ينطوي التجريب، إذا، على رؤية إبستيمولوجية تشتغل وِفق مسارين؛ المسار الأول زمني أساسه الوعي بمعطيات الحاضر الفنية والنّصية والجمالية والخطابية.. للإبداع القصصي، والمسار الثاني فكري قوامه إدراك الحدود الفاصلة بين خطاب قصصي ممطمئن لأدبيات كلاسيكية، وخطاب قصصي يخلخل المألوف في الإبداع القصصي. لهذا، فإن »القصة التجريبية ترتكز على عنصر التجديد الذي يشمل أنويتها الجوهرية الأساسية من حيث تقنياتها ولغتها ورؤيتها للعالم والذات والآخر.. وذلك بإحداث قطائع إبداعية مع تقاليد الأدبيات التقليدية التي تتأسس على البحث المتواصل داخل حقول الكتابة القصصية قصد طَرْق عوالم غير مسبوقة أو عن طريق تقنيات ورؤى مؤثرة«3.
يَظهَرُ أن التجريب تعبير عن رغبة قوية في إنتاج الجديد القصصي باستمرار، وبالتالي يتعذر الحديث عن التجريب خارج مقولة التجديد. لن يتحقّق تجديد الإبداع القصصي إلا بوَعْيِ أفقه المعرفي والثقافي من جهة، وإدراك حدوده بعد قراءة واعية للمنجز القصصي الموجود في صور متنوعة من جهة ثانية. بهذا المعنى، فالتجريب القصصي يؤطره وعي قرائي يشتق من الموجود نصا جديدا بمواصفات نوعية تُبرز التجديد الخلاّق، ويحكمه وعي إبداعي "يروّض" القصة بما يلائم تطورها الدينامي. لهذا، فالتجريب القصصي اكتشاف مستمر لتجليات نصّية قصصية تقاوم "الانبهار" بالمنجز القصصي السابق فتعيد إنتاجه بصورة مكرورة، وتَحذر "الانهيار" في عالم إبداعية قصصية غريبة وممسوخة متصلة بالتّكلّس الفني أكثر من انفتاحها على التّجدّد الإبداعي. وكأن التجريب القصصي ينفتح على الزمن من خلال فعلين مختلفين في الامتداد؛ حيث الفعل الأول يقوم على التأمل المعرفي في الزمن الراهن قصد فهم عوالمه القصصية، واكتشاف مختلف الخصائص المميزة لوجهها الإبداعي. أما الفعل الثاني فيتأسس على الإنتاج القصصي الذي يمتدّ لزمن لاحق يكفل "الحياة" للنّص القصصي، بالرغم من انقضاء زمن الكتابة الإبداعية، لذا »ينبع فعل التجريب القصصي من القدرة على نقد الحاضر واستشراف المستقبل«4.
يُرهقُ التجريب القصصي المبدع لأنه يشتغل بمنطق جمالي قوامه الاكتشاف، ويتعب القارئ لأنه يتلقى النص القصصي برؤية نقدية أساسها الكشف. وفي كلا الوضعين تتجلى المعرفة والبناء والتفكيك عناصر ناظمة لفعل التجريب القصصي؛ حيث المعرفة ثابت نوعي لا يمكن أن يقوم النص القصصي إلا بها، والبناء فعل إبداعي يؤكد "الصناعة الفنية" للنص القصصي التجريبي، والتفكيك آلية نقدية لإدراك العوالم الدلالية والجمالية البانية للنص القصصي في كينونته التجريبية. لكن ما هي المكونات النّصية القصصية التي يمكن أن يطالها التجريب؟
وجب الإقرار، قبل الجواب عن السؤال، بأهمية الفلسفة الذاتية للمبدع القاص ورؤيته للوجود والإبداع والقصة في تأسيس الفعل التجريبي. هذا يعني أن التجريب القصصي يتأطّرُ، في أحد أوجهه، ضمن »ذاتية التجريب«؛ بوصفه مفهوما »ينطلق من النظر إلى القصة القصيرة باعتبارها تجليّا إبداعيا ونصا محققا، خاضعا لأمرين: الأول يَخصّ رؤية القاص للعالم والإنسان داخله؛ رؤية متولدة من تجارب حياتية متنوعة، وتصورات إيديولوجية، وتراكمات قرائية. والثاني يهُمّ النص القصصي؛ حيث يجرى القاص عليه خلخلة واضحة، تُصَيِّرُ نصه تجريبيا، فيبني مكوناته الخطابية واللغوية والفنية وفق معايير جديدة لم تكن مألوفة في التقليد القصصي«5.
يتّضح أن القاص يمتلك الحرية في فعله التجريبي، مما ينعكس على العناصر المستهدفة بهذا الفعل. لذا، أمكن القول إن التجريب قد يطال المكونات البانية للقصة على مستوى الحدث والحكاية، أو على مستوى اللغة والخطاب والتقنية. وبذلك، فطريقة معالجة العناصر القصصية، ضمن رؤية متمردة على الأعراف الضابطة لها باعتبارها جنسا أدبيا سرديا بكينونة خاصة، تبقى هي الكفيلة بتحقيق نص قصصي تجريبي. معنى هذا، أنَّ رؤيةَ القاص تؤطِّرُ التجريب وتستهدف تحقيق غاية منه، وبناء النص القصصي يؤسس التجريب ويحققه عمليا. وهذا ما يخلق التميّز النّوعي للقصة في المسار العام للإبداع القصصي، فيصير الفرق بين القصص القديمة والتجريبية الحديثة قائما على مستوى الرؤية والبناء؛ أي »في موقف كاتب القصة القصيرة المعاصرة حيال مادته، وفي جهده الواعي لتحقيق تأثير معين«6.

2- التجريب القصصي: مستويات التجلي

يكشف الحديث عن مستويات التجريب، عمليا، عن تعدد العناصر القصصية النصيّة التي يطالها التجريب، مما يترجم تنوعا في مظاهر التجريب القصصي. من هنا أمكننا الحديث عن ثلاثة عناصر قصصية مسّها للتجريب، كما يبرزه التحقق النّصي القصصي بالمغرب، وهي: المرجعية البانية، والبناء الفني، واللغة القصصية.
تَبْنِي النصوص القصصية عوالمها النّصية وِفق مبدأ التَّعدُّد؛ أي تُبنى القصص على موضوعات مختلفة ضابطة لمرجعيتها النّصية، حيث لا توجد موضوعات صالحة للقصة وأخرى غير صالحة لها. بهذا المعنى، فالقصة القصيرة يمكنها أن تَمتدّ لالتقاط كل ما له علاقة بالوجود المتعدّد المكونات والإنسان المختلفة امتداداته، ضمن وحدة الحدث ومحدوديته، لكن شريطة أن تبقى مشدودة في بناء مرجعيتها النّصية لما يحقّق قصصيتها، بوصفها خصيصة نصيّة نوعية تكفل لها التّميّز داخل الإبداع السردي، حيث »القصة القصيرة شكل مختصر، وهي كذلك شكل بسيط«7. لهذا، إذا كانت وحدةُ الحدث وبساطتُهُ ومحدوديتُه قصصيا بداهة في بناء المرجعية النّصية، فكيف يَتمُّ تقديم هذا الحدث ؟
تَحدَّث أحد النّقاد عن قصص "أنطوان تشيخوف" وقال: »إنّ قصص "تشيخوف" ليس سردية بقدر ما هي موسيقية: إنها مغمورة في غموض كامل ومتناسق«8. وتحدث ناقد أخر عن القصة القصيرة قائلا ما يأتي: »إن أكثر ما يلفت الانتباه حول القصة القصيرة هو غموضها«9. يترجم القولان اعترافا بشروط نوعية تحكم تشكّل القصة القصيرة، يبقى أهمها التكثيف الدلالي، والتنظيم المتناسق. لذلك، فهوّية القصة القصيرة نابعة من تكثيف الأحداث البانية لمرجعية النص القصصي، وإخضاعها لترميز دال تصير بموجه متسمة بغموض ماسيّ من جهة، ومتولِّدة من "إيقاع" سردي يُؤسِّس لتفاعل مكونات القصة القصيرة على مبدأ الملاءمة والانسجام. لذلك، ينبثق التجريب القصصي لحظة الوعي بأهمية الترميز والتكثيف الدال في بناء مرجعية القصة القصيرة، وهو ما يُحدث قطيعة مع القصة القائمة على الحدث المباشر الداعم تكرارا مُملاًّ يكرر النسق المتداول.
تفرض القصة القصيرة، إذا، صيغة التكثيف (الغموض الدال، أو الغموض المقصود) في بناء أحداث مرجعيتها النّصية، فتصير القصة التجريبية هي الدافعة بأفق التكثيف إلى مستويات كبرى، باعتباره بناءً كفيلا بتنويع الأنساق الدلالية الممكن توليدها من المرجعية البانية للنّص القصصي. لكن وجب التنبيه إلى أهمية "الصناعة القصصية" في صياغة قصة تقاوم التكثيف المجاني، وتؤسس لإبداع قصصي تتسم مرجعيته النصية بالقدرة على تعميق الوعي بعالم الإنسان، وتوسيع فهم عوالمه المختلفة والمتعدّدة، بناء على جمالية التكثيف الرمزي.
تبني المرجعية البانية للقصة القصيرة المحكومة بتكثيف دال نصا تجريبيا مغايرا، وتؤسس نصا معبرا عن دينامية إبداعية قصصية. وبهذا المعنى، فمستوى التجريب القصصي المتصل بالمرجعية البانية دال على هدم المألوف وابتكار للجديد، ليس على مستوى ذاتية الحدث، ولكن على مستوى بنائه وصياغته. لذا، فالمرجعية البانية لأحداث القصة المصاغة بعمق وحِرفِيَّة تنتج نصا قصصيا تجريبيا يكسر النمط، مما يؤسس لقاعدة إبداعية تقول إن كينونة القصة التجريبية مرهونة بالعمق في بناء أحداث مرجعيتها النّصية.
يقتضي التمثيل الإشارة إلى نمطين من التجريب القصصي، انطلاقا من بناء المرجعية النصية للقصة القصيرة؛ النمط الأول يُجَسّده التجريب القائم على الحوار بين التعبير الجمالي والنقدي في القصة القصيرة، من خلال نصوص قصصية تقوم على التفكير في القصّة من داخل القصة. إن تجربة الإبداع القصصي من منظور انعكاسي تسجل انعطافة إبداعية قصصية فكرت القصة القصيرة في ذاتها من خلال مرجعيتها النّصية، وبرهنت على قدرة القصة على الالتفات إلى كل القضايا بما فيها قضية القصة نفسها. لكن هذا لم يمنع من وجود تجارب قصصية أسست مرجعيتها النّصية على القضايا التي تسكن فكر المبدع حول القصة وإبداعها وتلقيها..، وليس على ما يدعم جمالية القصة القصيرة في بنائها الدلالي والجمالي. لذلك، فهذا النمط من القصص كان وازعه التجديد، لكن تحققه الفعلي أفرغه من الانسجام بين الفنّ والفكر.
ويتحقّق النمط الثاني في التجريب القائم على المعالجة القصصية لفضاءات مهمشة، مثل فضاء القرية. هكذا، راهنت مرجعيات النصوص القصصية في بعض التجارب على تحقيق المغايرة الإبداعية، انطلاقا من معالجة قصصية لفضاء مغاير لما هو سائد في المنجز القصصي، لكنها وقعت ضحية »الحماس الإبداعي الزائد«، فسقطت في إبداعية مشوهة تحين التفكير التقليدي القائم على خلق المسافة الإبداعية بين فضاء المدينة والقرية من جهة، وبين دلالة الفضاء في النص القصصي من جهة ثانية؛ لأن »الفضاء القصصي المعطى للقراءة هو شيء للاكتشاف«10.
إن القول بإشكالية التجديد بلغة، والتجريب بلغة أخرى، لا ينفى وجود تجارب قصصية تعي الحدود الفاصلة بين الابتكار والتكرار؛ سواء على مستوى بناء المرجعية القصصية وفق مقولة الانعكاس الذاتي (محمد عز الدين التازي، أحمد المديني، أنيس الرافعي، محمد اشويكة، بنسالم حميش ..)، أم على مستوى بناء المرجعية القصصية انطلاقا من فضاء القرية (محمد إبراهيم بوعلو، أحمد بوزفور، عبد المجيد جحفة، محمد حاضي، إسماعيل غزالي..). ذلك ما يجعل النص القصصي القائم على التجريب الخلاّق محكوما بإنتاجية فكرية، مما يقوّض كل تصوّر تبخيسي للحمولة الإبداع القصصي المعرفية، حيث »إنّ الغاية المنهجية الأصولية للقصة القصيرة هي الانتقال من البراءة إلى المعرفة«11.
يفضي التأمل في عالم القصّة إلى القول إن البناء الفني يتحكّم فيه عامل القِصر الذي يؤسس جوهر القصة القصيرة، لذلك يبني القاص نصّه بما يوافق رؤيته للمرجعية التي يرغب في تشكيلها داخله. لذا، إذا قبلنا بخضوع القصة القصيرة لمبدأ التطور لقلنا إن التجريب في البناء القصصي كان واضحا في الكثير من التجارب القصصية، بوصفه فعلا إبداعيا يخلخل الأبنية الكلاسيكية القائمة على سرد خطي محكوم بثلاثية البداية والوسط والحل (النهاية). إن الإقرار بتجريبية القصة القصيرة على مستوى البناء يحيل على كيفية تقديم الأحداث المؤسسة للمرجعية النّصية، ويقر بمدى مساهمة القاص في تأسيس جمالية القصة القصيرة.
قاد التجريب القصصي إلى تبني خيارات متعدّدة في بناء أحداث القصة، لكن منطق التمثيل يقتضي أن أشير إلى عنصر هام يعتبر من العناصر المحقّقة لكينونة القصة القصيرة التجريبية جماليا، وهو التشذير (التقطيع) (Le fragment) 12، باعتباره رؤية للعالم والوجود بمدخل جمالي؛ لذا فإن »القصة القصيرة انتصار لنا وبنا ومن خلالنا للنظرة الشذرية للعالم«13. بهذا المعنى، فالتشذير ليس بناء قصصيا عفويا، بل هو تشكيل دلالي وجمالي؛ يعكس الطابع الكاوسي الذي يسم العالم في تَكْوينه وفي انبثاقه الأوّلي من جهة، ويُعبِّر عن تنوع إمكانيات تحقيق النص القصصي من جهة ثانية. فما هي مظاهر هذا التشذير بوصفها نموذجا تجريبيا بناءً؟
تكوّن الإبداع القصصي ضمن مسار قوامه التراكم المنتج، فصار البناء القصصي المألوف عُرضَة للخلخلة. لن نتحدث عن إخفاق البناء القصصي الفاقد لشرعية إبداعية مؤطرة بوعي تقليدي للعالم والقصة القصيرة، ولكن سنشير إلى التجريب القصصي الخلاّق الذي يعي حدوده ويفكر في أفقه. هكذا، حقق التجريب، عَبْر مستوى التشذير، نماذج متميزة في الإبداع القصصي ساهمت في تدعيم التطوير القصصي وتجديده، فتجلت معالم الابتكار المتنوعة عبْر قصص تجريبية محكومة بمظاهر بنائية متعدّدة14. يمكن أن نمثل لذلك، ببناء قصصي يقوم بتوزيع النّص القصصي إلى مقاطع سردية حاملة لعناوين خاصة، وبناء قصصي ينبني على منظور تشذيري أساسه شذرات سردية مرقمة يؤطرها النص الإطار، وبناء قصصي يتأسس على المزج بين التشذير النّصي المرقم والمعنون. يمكن فهم هذا البناء القصصي في إطار صياغة إبداعية قصصية تنتصر للتجريب البنّاء، وهي مزودّة بوعي القصة في اشتغالها الجمالي وتفاعلها الجيلي وتطورها التراكمي، مما يحرض على نسف مقولة »النمط« في تشييد النصّ القصصي.

هوامش

* هذا جء من المداخلة التي قُدّمت في اللقاء الوطني حول القصة القصيرة بالمغرب بالمحمدية في موضوع »أشكال التجريب في القصة القصيرة بالمغرب« . لقاء نظمه ملتقى الثقافات والفنون بالمحمدية واتحاد كتاب المغرب، وذلك يومي الجمعة 31 يناير والسبت 1 فبراير 2014.
1 - د. تشارلز ماي، القصة القصيرة: حقيقة الإبداع، ترجمة: د. ناصر الحجيلان، النادي الأدبي بحائل-دار الانتشار العربي، ط1، 2011، ص: 43.
2 - محمد اشويكة، مناقير داروين: نحو فلسفة للقصة القصيرة، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، ط1، 2010، ص: 11.
3 - نفسه، ص: 9.
4 - نفسه، ص: 11.
5 - سبق وأن حددنا معالم التجريب القصصي في ثلاث مقولات كبرى هي: ذاتية التجريب، وعمق التجريب، وعماء التجريب. انظر: عبد الرحمن التمارة، »القصة القصيرة الجديدة والتجريب«، العلم الثقافي، الخميس 2 ماي 2013.
6 - د. تشارلز ماي، القصة القصيرة: حقيقة الإبداع، مرجع مذكور، ص: 258.
7 - Daniel Grojonowski , Lire la Nouvelle , éd Dunod , Paris, 1993, p : 4.
8 - د. تشارلز ماي، القصة القصيرة: حقيقة الإبداع، مرجع مذكور، ص: 144.
9 - نفسه، ص: 281.
10 - Daniel Grojonowski , Lire la Nouvelle , op, p : 79.
11 - د. تشارلز ماي، القصة القصيرة: حقيقة الإبداع، مرجع مذكور ، ص: 274.
12 - Daniel Grojonowski , Lire la Nouvelle , op, p : 38.
13 - د. محمد أمنصور، شهوة القصص: أوراق من مفكرة قاص تجريبي، دار الحرف، القنيطرة، ط1، 2007، ص: 39.
14 - اعتمدنا في تحديد هذه الأنماط من البناء القصصي على نموذج قصصي متمثل في المجموعة القصصية »نافذة على الداخل« للقاص المغربي أحمد بوزفور، منشورات طارق، الدار البيضاء، 2013.


مستويات التجريب في القصة القصيرة بالمغرب:   الكينونة والتّجلي*  964626info12132014111523AM2


د. عبد الرحمان التمارة
العلم الثقافي

13/2/2014
عبدالله
عبدالله

ذكر عدد الرسائل : 1759
العمر : 54
تاريخ التسجيل : 26/06/2008

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى