الكحل والمرود / شرف الدين ماجدولين *
صفحة 1 من اصل 1
الكحل والمرود / شرف الدين ماجدولين *
المرود قلم والقلم يكتب على الورق والأرحام، وهو السياق الذي يحوّل الرسالة إلى نادرة هزلية، وتحية الصديق إلى تهكم وهجاء.
الكحل زينة العين، بيد أنه أيضا وعاء، ومجاز كبير لكل ما تغشاه أداة مسنونة خشبية أو عظمية، تسمى “المرود”، والعين في النهاية منبع لخصوبة ورواء، بينما المرود مجرد “رمح”، لكنهما في النهاية معا بعض من كل، وليس لأيّ منهما وظيفة ولا جبلة في غياب الجسم والكنه الإنسانيين.
وأنا أقلب الجزء الثالث من كتاب “نفاضة الجراب” لابن الخطيب، وقعت على رسالة له وجهها لابن خلدون بمناسبة شرائه لجارية رومية، من بين ما يقوله فيها: “سيدي لازلت تتصف بالوالج، بين الخلاخل والدمالج، تركض فوقها ركض الهمالج، أخبرني كيف كانت الحال، وهل حطت بالقاع من خير البقاع الرحال، وأحكم بمرود المراودة الاكتحال.” (ص 210)، وخلاصة ما في هذه الشقشقة السجعية أن الرجل يسأل صاحبه -دون حياء- تفاصيل ما جرى في دخوله بالجارية، وكيف كانت أحوال الكحل مع المرود، هذا ما يبدو في الظاهر المعلن؛ لكن الشيء الأكيد أن الرسالة لا تهب معناها الماجن إلا لتبعث برسائل جدية عديدة، لقد كان ابن الخطيب معجبا بابن خلدون، وكارها له في الآن ذاته، وابن خلدون حينها شيخ نهم للسلطة والتجلّي، اللذين لا يكتملان بغير تحقق “مرودي”؛ فالمرود قلم والقلم يكتب على الورق والأرحام، وهو السياق الذي يحوّل الرسالة إلى نادرة هزلية، وتحية الصديق إلى تهكم وهجاء، عالم جليل يتزوج فتاة يافعة، مكحلة صلدة، فيهزأ به الخل العارف بأحوال المورد الضعيف، حين يمتحنه الكحل الحار.
تجلّي هذه الرسالة مضمرا كبيرا في المنظومة الذهنية للشخص العربي المسلم، فهو قبل أن يكون مؤرخا أو شاعرا أو سياسيا أو فقيها أو عالما، هو مجرّد “مرود” يبتغي مكحلة، سواء كانت هذه المكحلة من خشب أو من معدن أو من لحم ودم. ولهذا فهو في كل الأحوال “والج” يبحث عن فتح مبين. تأخذنا هذه الصفة إلى كل المجازات العربية التي تحوّل الكتابة إلى فعل جنسي، فالدلالات لا تجتبيها الألفاظ إلا بالاختراق ولا تكون مؤثرة ونافذة إلا حين تكون “بكرا”.
استحضرت كل هذه المعاني -عزيزي القارئ- حين طلب مشورتي كاتب شاب في مسألة زواجه من شاعرة من جيله، هي فتاة على قدر من الجمال ظاهر، على العكس من شعرها الخاوي، حدثته عن صعوبة التأقلم مع واقع الحياة الملتزمة والجدية بالنسبة لهذه النوعية من الزيجات، أعطيته عشرات الأمثلة التي انتهت بشكل مأساوي، وقلت له إن تجارب قليلة نجحت، الكاتب والكاتبة معا في حاجة إلى مرآة وإلى قارئ أول، وإلى حضن يتجاوز عن التقلبات المزاجية الحارقة. صمت طويلا وقال: “في الحقيقة إن ما أخشاه فعلا، ويجعلني مترددا هو ألا تكون عذراء!”.
كاتب من المغرب *
نُشر في " العرب " في 19/11/2014، العدد: 9743، ص(15)
الكحل زينة العين، بيد أنه أيضا وعاء، ومجاز كبير لكل ما تغشاه أداة مسنونة خشبية أو عظمية، تسمى “المرود”، والعين في النهاية منبع لخصوبة ورواء، بينما المرود مجرد “رمح”، لكنهما في النهاية معا بعض من كل، وليس لأيّ منهما وظيفة ولا جبلة في غياب الجسم والكنه الإنسانيين.
وأنا أقلب الجزء الثالث من كتاب “نفاضة الجراب” لابن الخطيب، وقعت على رسالة له وجهها لابن خلدون بمناسبة شرائه لجارية رومية، من بين ما يقوله فيها: “سيدي لازلت تتصف بالوالج، بين الخلاخل والدمالج، تركض فوقها ركض الهمالج، أخبرني كيف كانت الحال، وهل حطت بالقاع من خير البقاع الرحال، وأحكم بمرود المراودة الاكتحال.” (ص 210)، وخلاصة ما في هذه الشقشقة السجعية أن الرجل يسأل صاحبه -دون حياء- تفاصيل ما جرى في دخوله بالجارية، وكيف كانت أحوال الكحل مع المرود، هذا ما يبدو في الظاهر المعلن؛ لكن الشيء الأكيد أن الرسالة لا تهب معناها الماجن إلا لتبعث برسائل جدية عديدة، لقد كان ابن الخطيب معجبا بابن خلدون، وكارها له في الآن ذاته، وابن خلدون حينها شيخ نهم للسلطة والتجلّي، اللذين لا يكتملان بغير تحقق “مرودي”؛ فالمرود قلم والقلم يكتب على الورق والأرحام، وهو السياق الذي يحوّل الرسالة إلى نادرة هزلية، وتحية الصديق إلى تهكم وهجاء، عالم جليل يتزوج فتاة يافعة، مكحلة صلدة، فيهزأ به الخل العارف بأحوال المورد الضعيف، حين يمتحنه الكحل الحار.
تجلّي هذه الرسالة مضمرا كبيرا في المنظومة الذهنية للشخص العربي المسلم، فهو قبل أن يكون مؤرخا أو شاعرا أو سياسيا أو فقيها أو عالما، هو مجرّد “مرود” يبتغي مكحلة، سواء كانت هذه المكحلة من خشب أو من معدن أو من لحم ودم. ولهذا فهو في كل الأحوال “والج” يبحث عن فتح مبين. تأخذنا هذه الصفة إلى كل المجازات العربية التي تحوّل الكتابة إلى فعل جنسي، فالدلالات لا تجتبيها الألفاظ إلا بالاختراق ولا تكون مؤثرة ونافذة إلا حين تكون “بكرا”.
استحضرت كل هذه المعاني -عزيزي القارئ- حين طلب مشورتي كاتب شاب في مسألة زواجه من شاعرة من جيله، هي فتاة على قدر من الجمال ظاهر، على العكس من شعرها الخاوي، حدثته عن صعوبة التأقلم مع واقع الحياة الملتزمة والجدية بالنسبة لهذه النوعية من الزيجات، أعطيته عشرات الأمثلة التي انتهت بشكل مأساوي، وقلت له إن تجارب قليلة نجحت، الكاتب والكاتبة معا في حاجة إلى مرآة وإلى قارئ أول، وإلى حضن يتجاوز عن التقلبات المزاجية الحارقة. صمت طويلا وقال: “في الحقيقة إن ما أخشاه فعلا، ويجعلني مترددا هو ألا تكون عذراء!”.
كاتب من المغرب *
نُشر في " العرب " في 19/11/2014، العدد: 9743، ص(15)
عبدالله- عدد الرسائل : 1759
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 26/06/2008
مواضيع مماثلة
» التخييـل في مواجهـة الفقــدان قراءة في رواية: 'حيوات متجاورة' لمحمد برادة: شرف الدين ماجدولين
» ماجدولين
» الدين ليس قفصا، الدين باب السماء
» مي عز الدين
» بوشيات Bushyates
» ماجدولين
» الدين ليس قفصا، الدين باب السماء
» مي عز الدين
» بوشيات Bushyates
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى