مذكرات كلب / عبدالقادر وساط
صفحة 1 من اصل 1
مذكرات كلب / عبدالقادر وساط
مذكرات كلب
( الحلقة الأولى من كتاب يصدر بعد أسابيع )
---------------------------------------------------------------
عبدالقادر وساط
----------------------------------------------------------------
كيف أقدم لكم نفسي؟
لستُ سوى كلبٍ من الكلاب الضالة ، التي نشأتْ في المزابل ، و ذاقت فيها ضروبا من الهوان و صنوفا من الحرمان .
و مع ذلك، فإن أصلي ليس بالوضيع . إذْ أخبرتْني أمي عن جدتي أن نسَبَنا البعيد يعود إلى الكلبة بَراقش، التي ذاع صيتُها في القرون الخوالي.
و أنتم - يا سادة يا كرام - تعرفون المثل العربي القديم الذي يقول :" على قومها جنَتْ بَراقش."
و الحكاية أن جدتي براقش كانت كلبة شديدة الوفاء، تعيش بين جماعة من الأعراب . و حدثَ أنْ أغارَ فرسان أشداء على أولئك الأعراب ، فهربوا و هربتْ معهم براقش ، و اختبأوا في مكان آمن و اختبأتْ معهم بَراقش ، و صمتوا و لم تصمت براقش، بل استمرت في النباح إلى أن فطنَ الأعداء لمكان القوم و أبادوهم عن آخرهم .
هذه هي الحكاية كما يرويها الأجداد للأبناء و الأحفاد . لكننا لا نعرف شيئا عن مصير براقش بعد الوقعة . هل قُتلتْ ؟ هل هربتْ عبر القفار و السهُوب ؟ علْمُ ذلك عند علّام الغيوب .
المهم أن الناس مقتنعون بأنها كانت السبب في هلاك قومها و ذهاب ريحهم . و ما من أحد يلقي باللائمة على أولئك الجبناء الذين هربوا من أعدائهم و عجزوا عن حماية أطفالهم و نسائهم ، و صار مطلبهم الوحيد هو أن تكف براقش المسكينة عن النباح !
لا أكتمكم أني فخور بالانتساب إلى تلك الجدة البعيدة ، ذات المصير المجهول . بل إنني ورثت عنها خصالا تنفعني في اللحظات العصيبة . و أنتم تعلمون حق العلم أن حياة الكلاب الضالة لا تخلو من لحظات عصيبة ، خصوصا في مدينة مثل الدار البيضاء .
فقبل يومين فقط ، كنتُ متمددا في مكاني الأثير ، قرب إحدى السيارات المهترئة ، في ساحة الكاميليا ، و ذلك في عز الظهيرة . كان الحر شديدا و الأطفال قد لزموا بيوتهم مما جعلني أمني النفس بنومة خفيفة و براحة لا يكدرها مكدر. لكن هيهات ! فلم أكد أضع رأسي على الإسفلت حتى جاءني كلب أشعث أغبر ، شديد الهزال، فما فيه إلا الروح و العظم و الجلد ، على حد تعبير شاعركم البحتري. و قد بقي المجحوم واقفا بعض الوقت ، ثم أقعى و شرع يحدق في بعينين مرعوبتين . كنت أعرف هذا الكلب بين كلاب الحي ، و أرثي لبؤسه، بيد أنه لم يسبق لي أن رأيت في عينيه مثل ذلك الهلع العظيم . و لما سألتُه عما وراءه ، أطرق قليلا ثم أجابني قائلا :
- هناك أنباء غير سارة ....فقد اختفى عدد كبير من أبناء جلدتنا في الأيام الأخيرة بكيفية غامضة ...
حاولتُ أن أبقى هادئاً ، رغم الرجة الداخلية . قلت للقانع المرعوب :
- ويحك يا هذا ! إن الكلاب الضالة تختفي بين حين و آخر ثم تظهر ثم تختفي من جديد ، فأرض الله واسعة و هي تبحث عن رزقها في كل مكان ...
فصمت القانع قليلا ثم قال :
- اعلم أني جئتك بالخبر اليقين ...فقد حكى لي من أثق فيه أن هناك أشخاصا غرباء استقروا حديثا بحينا ، قادمين إليه من بلاد نائية ، و هم من أقوام يعشقون لحم الكلاب و لهم في طبخه فنون ...
لم أستطع أن أكبح ضحكتي و أنا أتساءل كيف يفكر أولئك الغرباء في ذبح كلب مثل هذا الواقف أمامي . و لما صارحته بما يدور في خلدي أطرق من جديد ثم قال :
- أنا لا أخاف على نفسي بل أخاف عليك أنت !
كيف أصف لكم - يا سادة يا كرام - وقْع هذه العبارة الرهيبة على نفسي ؟
فقد أدركتُ في الحين ما يرمي إليه الكلبُ اللئيم ، و فطنتُ للخطر المحدق بي ، فانتصبتُ واقفا بعد أن كنت باسطا ذراعيّ . ذلك أني في ريعان شبابي ، أنعم بصحة و عافية ، و جسمي مكتنز ، و ليس من المستبعد ، إذا ظفر بي أولئك الأغراب ، أن يذبحوني و يطبخوا لحمي على نار هادئة !
و رغم الموقف الحرج ، فقد حاولتُ أن أتمالك نفسي، بعد انصراف القانع الخبيث، و أن أتعامل مع ذلك الخطر الداهم بالحزم الذي ورثته عن جدتي براقش .
صحيح أن فكرة الهروب إلى إحدى المزابل البعيدة قد راودتني في أول الأمر ، غير أني سرعان ما عدلتُ عنها ، متمثلا بقول الشاعر القديم :
فصبراً في مجال الموت صبراً
فما نيل الخلود بمستطاعِ
( الحلقة الأولى من كتاب يصدر بعد أسابيع )
---------------------------------------------------------------
عبدالقادر وساط
----------------------------------------------------------------
كيف أقدم لكم نفسي؟
لستُ سوى كلبٍ من الكلاب الضالة ، التي نشأتْ في المزابل ، و ذاقت فيها ضروبا من الهوان و صنوفا من الحرمان .
و مع ذلك، فإن أصلي ليس بالوضيع . إذْ أخبرتْني أمي عن جدتي أن نسَبَنا البعيد يعود إلى الكلبة بَراقش، التي ذاع صيتُها في القرون الخوالي.
و أنتم - يا سادة يا كرام - تعرفون المثل العربي القديم الذي يقول :" على قومها جنَتْ بَراقش."
و الحكاية أن جدتي براقش كانت كلبة شديدة الوفاء، تعيش بين جماعة من الأعراب . و حدثَ أنْ أغارَ فرسان أشداء على أولئك الأعراب ، فهربوا و هربتْ معهم براقش ، و اختبأوا في مكان آمن و اختبأتْ معهم بَراقش ، و صمتوا و لم تصمت براقش، بل استمرت في النباح إلى أن فطنَ الأعداء لمكان القوم و أبادوهم عن آخرهم .
هذه هي الحكاية كما يرويها الأجداد للأبناء و الأحفاد . لكننا لا نعرف شيئا عن مصير براقش بعد الوقعة . هل قُتلتْ ؟ هل هربتْ عبر القفار و السهُوب ؟ علْمُ ذلك عند علّام الغيوب .
المهم أن الناس مقتنعون بأنها كانت السبب في هلاك قومها و ذهاب ريحهم . و ما من أحد يلقي باللائمة على أولئك الجبناء الذين هربوا من أعدائهم و عجزوا عن حماية أطفالهم و نسائهم ، و صار مطلبهم الوحيد هو أن تكف براقش المسكينة عن النباح !
لا أكتمكم أني فخور بالانتساب إلى تلك الجدة البعيدة ، ذات المصير المجهول . بل إنني ورثت عنها خصالا تنفعني في اللحظات العصيبة . و أنتم تعلمون حق العلم أن حياة الكلاب الضالة لا تخلو من لحظات عصيبة ، خصوصا في مدينة مثل الدار البيضاء .
فقبل يومين فقط ، كنتُ متمددا في مكاني الأثير ، قرب إحدى السيارات المهترئة ، في ساحة الكاميليا ، و ذلك في عز الظهيرة . كان الحر شديدا و الأطفال قد لزموا بيوتهم مما جعلني أمني النفس بنومة خفيفة و براحة لا يكدرها مكدر. لكن هيهات ! فلم أكد أضع رأسي على الإسفلت حتى جاءني كلب أشعث أغبر ، شديد الهزال، فما فيه إلا الروح و العظم و الجلد ، على حد تعبير شاعركم البحتري. و قد بقي المجحوم واقفا بعض الوقت ، ثم أقعى و شرع يحدق في بعينين مرعوبتين . كنت أعرف هذا الكلب بين كلاب الحي ، و أرثي لبؤسه، بيد أنه لم يسبق لي أن رأيت في عينيه مثل ذلك الهلع العظيم . و لما سألتُه عما وراءه ، أطرق قليلا ثم أجابني قائلا :
- هناك أنباء غير سارة ....فقد اختفى عدد كبير من أبناء جلدتنا في الأيام الأخيرة بكيفية غامضة ...
حاولتُ أن أبقى هادئاً ، رغم الرجة الداخلية . قلت للقانع المرعوب :
- ويحك يا هذا ! إن الكلاب الضالة تختفي بين حين و آخر ثم تظهر ثم تختفي من جديد ، فأرض الله واسعة و هي تبحث عن رزقها في كل مكان ...
فصمت القانع قليلا ثم قال :
- اعلم أني جئتك بالخبر اليقين ...فقد حكى لي من أثق فيه أن هناك أشخاصا غرباء استقروا حديثا بحينا ، قادمين إليه من بلاد نائية ، و هم من أقوام يعشقون لحم الكلاب و لهم في طبخه فنون ...
لم أستطع أن أكبح ضحكتي و أنا أتساءل كيف يفكر أولئك الغرباء في ذبح كلب مثل هذا الواقف أمامي . و لما صارحته بما يدور في خلدي أطرق من جديد ثم قال :
- أنا لا أخاف على نفسي بل أخاف عليك أنت !
كيف أصف لكم - يا سادة يا كرام - وقْع هذه العبارة الرهيبة على نفسي ؟
فقد أدركتُ في الحين ما يرمي إليه الكلبُ اللئيم ، و فطنتُ للخطر المحدق بي ، فانتصبتُ واقفا بعد أن كنت باسطا ذراعيّ . ذلك أني في ريعان شبابي ، أنعم بصحة و عافية ، و جسمي مكتنز ، و ليس من المستبعد ، إذا ظفر بي أولئك الأغراب ، أن يذبحوني و يطبخوا لحمي على نار هادئة !
و رغم الموقف الحرج ، فقد حاولتُ أن أتمالك نفسي، بعد انصراف القانع الخبيث، و أن أتعامل مع ذلك الخطر الداهم بالحزم الذي ورثته عن جدتي براقش .
صحيح أن فكرة الهروب إلى إحدى المزابل البعيدة قد راودتني في أول الأمر ، غير أني سرعان ما عدلتُ عنها ، متمثلا بقول الشاعر القديم :
فصبراً في مجال الموت صبراً
فما نيل الخلود بمستطاعِ
عبدالله- عدد الرسائل : 1759
العمر : 54
تاريخ التسجيل : 26/06/2008
رد: مذكرات كلب / عبدالقادر وساط
مذكرات كلب
( الحلقة الثانية من كتاب يصدر قريبا)
------------------------------------------------
عبدالقادر وساط
-----------------------------------------------
رغم الخوف الذي اعتراني من أولئك الأغراب، أكلة لحوم الكلاب، فلم يكن هناك بد من مغادرة مكاني الآمن ، قرب السيارة المهترئة ، للبحث عما يسدّ الرمق. ذلك أني كنتُ أكثر جوعاً من كلبة حَوْمَل !
و حَوْمَل هذه امرأة من العرب ، كانت تربط كلبة للحراسة و لا تطعمها ، حتى صارت الكلبة البائسة كلما رأت القمر طالعا نبَحَتْه ، تظنه رغيفا لاستدارته . و تلك عادة دأبت عليها الكلاب الجائعة منذ الزمن القديم . و هو ما أشار إليه شيخ المعرة حين قال عن بعض خصومه :
و قدْ نَبَحُوني و ما هجْتُهمْ
كما نبحَ الكلبُ ضوءَ القمَرْ
بل إن كلبة حومل المسكينة حاولت أن تأكل ذنبها من شدة الجوع ! و هكذا أصبح الناس يضربون بها المثل و يقولون :" أجْوعُ من كلبة حومل ."
أما كلبكم المتواضع هذا ، فهو ليس من طينة القوانع التي تأكل أذنابها حين لا تجد ما تقتات به . و لذلك قررت المغامرة بحياتي و انطلقت عبر الأزقة التماسا للرزق المتاح ، و أنا أتمثل بقول أبي العلاء المعري :
فإنْ كان شرّاً فهْو لا بدّ واقعٌ
و إنْ كانَ خيراً فهْو أضغاثُ أحلام
رحم الله المعري . فقد كان يفتخر بأنه يعرف سبعين اسماً للكلب في العربية . و أنتم تعرفون - يا سادة يا كرام - ما حدث لشيخ المعرة في مجلس الشريف المرتضى في بغداد . فقد عثرَ برجُل فقال الرجل : " من هذا الكلب ؟ " فأجابه أبوالعلاء : " الكلب هو الذي لا يعرف سبعين اسما للكلب في العربية ."
ذلك ما جعل الإمام السيوطي ، رحمه الله ، ينظم أرجوزة شهيرة بعنوان " التبري من معرة المعري " ، استهلها بذكْر ما وقعَ للشيخ الكفيف في مجلس الشريف ، ثم جاء بعد ذلك بالأسماء المعروفة للكلب في ذلك الزمن ، و منها : الباقع و الوازع و الخَيْطل و الدرباس و القُطْرُب و أسماء أخرى كثيرة .
كنت أفكر في قصة المعري و أستحضر أرجوزة السيوطي ، و أنا أتسكع في الأزقة باحثا عن القوت ، و متوجسا من أولئك القتلة الذين يستلذون لحمنا ، نحن أبناء زارع .
و أبناء زارع هم الكلاب ، حسب ما ذكره الإمام السيوطي في أرجوزته العجيبة .
و رغم خطورة الوضع، فقد حاولتُ أن أتسلح بشيء من الحكمة . بل إني قررت إعادة النظر في حكاية أولئك الأغراب الذين يبطشون بالكلاب ! فالقانع الأجرب الذي أتاني بخبرهم لم يأت بالدليل الساطع على ذلك . و حجته الوحيدة هي أن الكلاب الضالة قد صارت تختفي بكيفية غير مفهومة . أفلا يجوز إذن أن تكون تلك الكلاب قد انتقلت إلى أحياء أخرى ، أو رحلت إلى مناطق نائية ؟ أليس من حق القوانع أن تحلم هي الأخرى بغد أفضل ؟ ألم يكن صديقي المجحوم تيتوسْ يحلم بالهجرة إلى أروبا ، قبل أن يلقى حتفه في الطريق السيار ؟
رحم الله تيتوس المسكين ! فقد كان كلبا طموحا مثلما كان شديد الذكاء. و قد آنسْتُ فيه طيبة لم أعهدها في باقي الكلاب فجعلتُه من خلصائي. و كثيرا ما كنا نتحدث بمرارة عن مصاير الكلاب في هذه الدنيا و عن الحظوظ المتفاوتة . و ذات يوم سألني قائلا :
- ألا تَرى معي أن الحياة قد ظلمَتْنا ؟
و لما نظرتُ إليه نظرة المتسائل ، قال :
- لقد قامت الكلبة " لايْكا " برحلة فضائية فريدة ، و نالت شهرة واسعة و عاشت بفضل ذلك في بحبوحة ، و لو أنها نشأت معنا في هذا الحي لكانت مثلَنا في الضلال !
كنت ألمس في أحاديث تيتوسْ قليلا من الحزن و كثيرا من التمرد ، مع ذكاء و سعة اطلاع . فقد كان بإمكانه مثلا أن يحدثك بالتفاصيل المطلوبة عن الحياة اليومية لكلاب الرؤساء في أروبا و أمريكا . و لم تكن مشاعر التمرد وحدها تحتدم في أعماقه ، بل لواعج العشق أيضا. فقد كان يحب كلبة حسناء ، رغم هزالها الواضح ، و كان يسميها " لايكا" تيمنا بالكلبة الشهيرة رائدة الفضاء . و كانت متعته الكبرى تكمن في الاستماع إليها و هي تنبح ليلا في مقام النهوند ! لكن لايكا كانت على حسنها كلبة ضالة مثلنا و لم تكن بالتالي قادرة على الإخلاص لصديقي تيتوس، لأسباب لا تخفى . و كانت الأخبار التي تأتيه عن مغامراتها الليلية تنكأ جراحه و تضاعف من إحساسه بالتمرد ، هو الذي كان مقتنعا تمام الاقتناع بأنه لم يُخلق ليعيش عيشة الكلاب الضالة ، في حي هامشي بالدار البيضاء.
( الحلقة الثانية من كتاب يصدر قريبا)
------------------------------------------------
عبدالقادر وساط
-----------------------------------------------
رغم الخوف الذي اعتراني من أولئك الأغراب، أكلة لحوم الكلاب، فلم يكن هناك بد من مغادرة مكاني الآمن ، قرب السيارة المهترئة ، للبحث عما يسدّ الرمق. ذلك أني كنتُ أكثر جوعاً من كلبة حَوْمَل !
و حَوْمَل هذه امرأة من العرب ، كانت تربط كلبة للحراسة و لا تطعمها ، حتى صارت الكلبة البائسة كلما رأت القمر طالعا نبَحَتْه ، تظنه رغيفا لاستدارته . و تلك عادة دأبت عليها الكلاب الجائعة منذ الزمن القديم . و هو ما أشار إليه شيخ المعرة حين قال عن بعض خصومه :
و قدْ نَبَحُوني و ما هجْتُهمْ
كما نبحَ الكلبُ ضوءَ القمَرْ
بل إن كلبة حومل المسكينة حاولت أن تأكل ذنبها من شدة الجوع ! و هكذا أصبح الناس يضربون بها المثل و يقولون :" أجْوعُ من كلبة حومل ."
أما كلبكم المتواضع هذا ، فهو ليس من طينة القوانع التي تأكل أذنابها حين لا تجد ما تقتات به . و لذلك قررت المغامرة بحياتي و انطلقت عبر الأزقة التماسا للرزق المتاح ، و أنا أتمثل بقول أبي العلاء المعري :
فإنْ كان شرّاً فهْو لا بدّ واقعٌ
و إنْ كانَ خيراً فهْو أضغاثُ أحلام
رحم الله المعري . فقد كان يفتخر بأنه يعرف سبعين اسماً للكلب في العربية . و أنتم تعرفون - يا سادة يا كرام - ما حدث لشيخ المعرة في مجلس الشريف المرتضى في بغداد . فقد عثرَ برجُل فقال الرجل : " من هذا الكلب ؟ " فأجابه أبوالعلاء : " الكلب هو الذي لا يعرف سبعين اسما للكلب في العربية ."
ذلك ما جعل الإمام السيوطي ، رحمه الله ، ينظم أرجوزة شهيرة بعنوان " التبري من معرة المعري " ، استهلها بذكْر ما وقعَ للشيخ الكفيف في مجلس الشريف ، ثم جاء بعد ذلك بالأسماء المعروفة للكلب في ذلك الزمن ، و منها : الباقع و الوازع و الخَيْطل و الدرباس و القُطْرُب و أسماء أخرى كثيرة .
كنت أفكر في قصة المعري و أستحضر أرجوزة السيوطي ، و أنا أتسكع في الأزقة باحثا عن القوت ، و متوجسا من أولئك القتلة الذين يستلذون لحمنا ، نحن أبناء زارع .
و أبناء زارع هم الكلاب ، حسب ما ذكره الإمام السيوطي في أرجوزته العجيبة .
و رغم خطورة الوضع، فقد حاولتُ أن أتسلح بشيء من الحكمة . بل إني قررت إعادة النظر في حكاية أولئك الأغراب الذين يبطشون بالكلاب ! فالقانع الأجرب الذي أتاني بخبرهم لم يأت بالدليل الساطع على ذلك . و حجته الوحيدة هي أن الكلاب الضالة قد صارت تختفي بكيفية غير مفهومة . أفلا يجوز إذن أن تكون تلك الكلاب قد انتقلت إلى أحياء أخرى ، أو رحلت إلى مناطق نائية ؟ أليس من حق القوانع أن تحلم هي الأخرى بغد أفضل ؟ ألم يكن صديقي المجحوم تيتوسْ يحلم بالهجرة إلى أروبا ، قبل أن يلقى حتفه في الطريق السيار ؟
رحم الله تيتوس المسكين ! فقد كان كلبا طموحا مثلما كان شديد الذكاء. و قد آنسْتُ فيه طيبة لم أعهدها في باقي الكلاب فجعلتُه من خلصائي. و كثيرا ما كنا نتحدث بمرارة عن مصاير الكلاب في هذه الدنيا و عن الحظوظ المتفاوتة . و ذات يوم سألني قائلا :
- ألا تَرى معي أن الحياة قد ظلمَتْنا ؟
و لما نظرتُ إليه نظرة المتسائل ، قال :
- لقد قامت الكلبة " لايْكا " برحلة فضائية فريدة ، و نالت شهرة واسعة و عاشت بفضل ذلك في بحبوحة ، و لو أنها نشأت معنا في هذا الحي لكانت مثلَنا في الضلال !
كنت ألمس في أحاديث تيتوسْ قليلا من الحزن و كثيرا من التمرد ، مع ذكاء و سعة اطلاع . فقد كان بإمكانه مثلا أن يحدثك بالتفاصيل المطلوبة عن الحياة اليومية لكلاب الرؤساء في أروبا و أمريكا . و لم تكن مشاعر التمرد وحدها تحتدم في أعماقه ، بل لواعج العشق أيضا. فقد كان يحب كلبة حسناء ، رغم هزالها الواضح ، و كان يسميها " لايكا" تيمنا بالكلبة الشهيرة رائدة الفضاء . و كانت متعته الكبرى تكمن في الاستماع إليها و هي تنبح ليلا في مقام النهوند ! لكن لايكا كانت على حسنها كلبة ضالة مثلنا و لم تكن بالتالي قادرة على الإخلاص لصديقي تيتوس، لأسباب لا تخفى . و كانت الأخبار التي تأتيه عن مغامراتها الليلية تنكأ جراحه و تضاعف من إحساسه بالتمرد ، هو الذي كان مقتنعا تمام الاقتناع بأنه لم يُخلق ليعيش عيشة الكلاب الضالة ، في حي هامشي بالدار البيضاء.
عبدالله- عدد الرسائل : 1759
العمر : 54
تاريخ التسجيل : 26/06/2008
رد: مذكرات كلب / عبدالقادر وساط
مذكرات كلب
( الحلقة الثالثة )
--------------------------
هل سبقَ لكم أن رأيتم سيارة مسرعة تدُوسُ كلباً من الكلاب الضالة ؟
و هل لاحظتم كيف يتهيأ الكلب ، في آخر لحظة، للصدمة الوشيكة ؟
إنه يطوي قوائمَه و يُرخي أذنَيْه و يُقَوّسُ ظهره و يحبس أنفاسَه ثم يستسلم لقدره المحتوم .
و عندئذ تمر العجلاتُ فوق الجسم المتصلب، ثم يستوي المجحومُ واقفا و هو يعوي من الألم ، قبل أن يلوذ بالفرار !
هذا ما حدث لي بالتحديد و أنا في طريقي للمزبلة المحاذية للمستشفى . كنت مشغول البال بالخبر النبيث الذي جاءني به ذلك القانع الأجرب الأغبر، عن الأغراب الذين يستلذون لحم الكلاب ، فلم أنتبه للسيارة الفخمة التي كانت تتقدم نحوي بسرعة لم أر مثلها قط . و لما أدركتُ أني واقع لا محالة ، لجأت للطريقة المعلومة التي وصفتُها أعلاه، و هكذا استطعتُ أن أنتصب واقفا بعد أن داستني العجلات الرهيبة .
كان صاحب السيارة رجلا جهْماً متعجرفاً ، من النوع الذي لا يعرف الشفقة . و لست أدري كيف ساقه القدر إلى هذا المكان ، فأمثاله لا يأتون عادة إلى هذا الحي الشعبي البائس، الذي يتناسل فيه بنُو غَبْراء .
و بنو غبراء - عند العرب القدامى - هم الفقراء. و قد ذكرهم الغلام القتيل ، طرفة بن العبد ، في معلقته الشهيرة حين قال :
رأيتُ بني غبراء لا ينكرونني
و لا أهل هذاك الطراف المُمَدَّدِ
فهو يزعم أن جميع الناس يعرفونه ، سواء منهم الفقراء أو الأغنياء. أما هذا الوغد الذي داسني بسيارته الفارهة فإنه لا يجود حتى بنظرة على بني غبراء. بل إني أعتقد جازما أنه لا يخاف أحدا باستثناء زوجته !
و قد أوقفَ اللئيمُ السيارة بعد الحادثة ، ثم نزلَ يريدني و الشرر يتطاير من عينيه . لقد كان حانقا عليّ لأنني استويتُ واقفا رغم أنفه و رغم أنف سيارته الباذخة ! و كان يشتمني بألفاظ تستحي الكلاب الضالة من ذكْرها . بل إنه كان يحمل في يمناه هراوة غليظة من الصنف المنذور لأمثالي . لذلك هربتُ و أنا أعوي من الألم ، والدم ينزف مني ، و توجهتُ رأسا إلى مزبلة المستشفى . و هناك جلست أحصي جراحي و ألعن هذا اليوم المشؤوم الذي كادت تتهشم فيه عظامي.
و الحق أني لا أدري، هل هو يوم مشؤوم لأنني تعرضتُ فيه لحادثة سير، أم هو يوم ميمون لأنني نجوتُ فيه بجلدي من تلك الحديدة و من صاحبها المتغطرس! إنه سؤال فلسفي و ما أغناني الآن عن الفلسفة ! فالدماء تنزف من جراحي بغزارة ، و الألم الذي أشعر به يفوق قدرتي على الصبر.
لم أكن خائفا من الموت ، في حقيقة الأمر، و إنما كنت أخشى الإصابة بعاهة مزمنة ، فأنضم عندئذ إلى جحافل الكلاب المشوهة ، التي تمتلئ بها ساحة الكاميليا . كلاب مبتورة الأيدي و أخرى مقطوعة الأرجل ينطبق عليها قول شاعركم كثير عزة :
و كنتُ كذي رجْلَين : رجْلٍ صحيحةٍ = و أخرى رمى فيها الزمانُ فشلّتِ
بقيت أفكر في تلك القوانع البائسة و أنا ألعق جراحي ، في مزبلة المستشفى ، قرب السور المقابل لمصلحة الولادة . و كنت أسمع صراخ النساء عند اشتداد المخاض فأرثي لحالهن . و على أية حال فهاهم بنو غبراء يتناسلون بلا هوادة ، غير عابئين بتوصيات المنظمة العالمية للصحة !
و الحق أني لم أدر كم قضيت من الوقت هناك و أنا ألعق جراحي و أسترجع ذكرياتي إلى أن غلبني النوم .
فهل غلبني النوم فعلا أم أغميَ عليّ يا تُرى جراء النزيف الحاد ؟
مهما يكن من أمر، فقد رأيتُ - فيما يرى الكلب الحالم أو الكلب المغمى عليه - أني في غرفة أنيقة ، على سرير وثير ، في مصحة بيطرية ، أخضع لفنون من العلاج و أحظى بألوان من الرعاية . كانت المصحة غاية في النظافة . و من نافذة غرفتي كنتُ أرى مساحة خضراء مديدة ، فتساءلت مع نفسي عن المكان الخفي الذي يضعون فيه الأزبال .
و رأيتُ ممرضة مليحة ، جميلة المحيا، ممشوقة القوام ، ينطبق عليها قول الشاعر المرار بن منقذ العدوي :
فهْي هيفاءُ هضيمٌ كَشْحُها = فخمة حيث يُشَدُّ المُؤتزرْ
رأيتها تعاملني بحنو لا عهد لي به ، فأيقنت عندئذ أني سأستعيد عافيتي في أقرب الأوقات . ثم إني سمعتها و هي تضحك فأحسستُ بدبيب البُرْء في جسمي الجريح. إثر ذلك تقدمَ نحوي رجل باسم يرتدي لباس الجراحين فأدركت أني سأخضع لعملية جراحية .
كانت الممرضة العطبول تحكي للطبيب عن الحادثة التي كادت تودي بحياتي و هو يستمع إليها باهتمام شديد. بعدها جاء اختصاصي التخدير و شرع يحقنني بالبنج و الممرضة ترمقني بنظراتها الساحرة و
تبتسم لي ابتسامة عذبة . و لم تكد الحقنة تنتهي حتى صحوت من النوم ، أو من الإغماء. هكذا اختفت
الممرضة الحسناء و اختفى الطبيب الجراح و زالت المصحة و تلاشت المساحة الخضراء و عادت المزبلة للظهور من جديد .
و على أية حال فقد جعلني هذا الحلم الجميل أنظر للواقع نظرة متفائلة .
صحيح أني أعيش الآن وضعية مزرية ، لكن الغد يبقى مفتوحا على آفاق واعدة ، و هذه الجراح اللعينة سوف تندمل لا محالة و سوف أعود كما كنت في سابق عهدي : صاحبَ قوة و إباء و مكر و دهاء ، مع استعداد دائم لمواجهة الأعداء.
( الحلقة الثالثة )
--------------------------
هل سبقَ لكم أن رأيتم سيارة مسرعة تدُوسُ كلباً من الكلاب الضالة ؟
و هل لاحظتم كيف يتهيأ الكلب ، في آخر لحظة، للصدمة الوشيكة ؟
إنه يطوي قوائمَه و يُرخي أذنَيْه و يُقَوّسُ ظهره و يحبس أنفاسَه ثم يستسلم لقدره المحتوم .
و عندئذ تمر العجلاتُ فوق الجسم المتصلب، ثم يستوي المجحومُ واقفا و هو يعوي من الألم ، قبل أن يلوذ بالفرار !
هذا ما حدث لي بالتحديد و أنا في طريقي للمزبلة المحاذية للمستشفى . كنت مشغول البال بالخبر النبيث الذي جاءني به ذلك القانع الأجرب الأغبر، عن الأغراب الذين يستلذون لحم الكلاب ، فلم أنتبه للسيارة الفخمة التي كانت تتقدم نحوي بسرعة لم أر مثلها قط . و لما أدركتُ أني واقع لا محالة ، لجأت للطريقة المعلومة التي وصفتُها أعلاه، و هكذا استطعتُ أن أنتصب واقفا بعد أن داستني العجلات الرهيبة .
كان صاحب السيارة رجلا جهْماً متعجرفاً ، من النوع الذي لا يعرف الشفقة . و لست أدري كيف ساقه القدر إلى هذا المكان ، فأمثاله لا يأتون عادة إلى هذا الحي الشعبي البائس، الذي يتناسل فيه بنُو غَبْراء .
و بنو غبراء - عند العرب القدامى - هم الفقراء. و قد ذكرهم الغلام القتيل ، طرفة بن العبد ، في معلقته الشهيرة حين قال :
رأيتُ بني غبراء لا ينكرونني
و لا أهل هذاك الطراف المُمَدَّدِ
فهو يزعم أن جميع الناس يعرفونه ، سواء منهم الفقراء أو الأغنياء. أما هذا الوغد الذي داسني بسيارته الفارهة فإنه لا يجود حتى بنظرة على بني غبراء. بل إني أعتقد جازما أنه لا يخاف أحدا باستثناء زوجته !
و قد أوقفَ اللئيمُ السيارة بعد الحادثة ، ثم نزلَ يريدني و الشرر يتطاير من عينيه . لقد كان حانقا عليّ لأنني استويتُ واقفا رغم أنفه و رغم أنف سيارته الباذخة ! و كان يشتمني بألفاظ تستحي الكلاب الضالة من ذكْرها . بل إنه كان يحمل في يمناه هراوة غليظة من الصنف المنذور لأمثالي . لذلك هربتُ و أنا أعوي من الألم ، والدم ينزف مني ، و توجهتُ رأسا إلى مزبلة المستشفى . و هناك جلست أحصي جراحي و ألعن هذا اليوم المشؤوم الذي كادت تتهشم فيه عظامي.
و الحق أني لا أدري، هل هو يوم مشؤوم لأنني تعرضتُ فيه لحادثة سير، أم هو يوم ميمون لأنني نجوتُ فيه بجلدي من تلك الحديدة و من صاحبها المتغطرس! إنه سؤال فلسفي و ما أغناني الآن عن الفلسفة ! فالدماء تنزف من جراحي بغزارة ، و الألم الذي أشعر به يفوق قدرتي على الصبر.
لم أكن خائفا من الموت ، في حقيقة الأمر، و إنما كنت أخشى الإصابة بعاهة مزمنة ، فأنضم عندئذ إلى جحافل الكلاب المشوهة ، التي تمتلئ بها ساحة الكاميليا . كلاب مبتورة الأيدي و أخرى مقطوعة الأرجل ينطبق عليها قول شاعركم كثير عزة :
و كنتُ كذي رجْلَين : رجْلٍ صحيحةٍ = و أخرى رمى فيها الزمانُ فشلّتِ
بقيت أفكر في تلك القوانع البائسة و أنا ألعق جراحي ، في مزبلة المستشفى ، قرب السور المقابل لمصلحة الولادة . و كنت أسمع صراخ النساء عند اشتداد المخاض فأرثي لحالهن . و على أية حال فهاهم بنو غبراء يتناسلون بلا هوادة ، غير عابئين بتوصيات المنظمة العالمية للصحة !
و الحق أني لم أدر كم قضيت من الوقت هناك و أنا ألعق جراحي و أسترجع ذكرياتي إلى أن غلبني النوم .
فهل غلبني النوم فعلا أم أغميَ عليّ يا تُرى جراء النزيف الحاد ؟
مهما يكن من أمر، فقد رأيتُ - فيما يرى الكلب الحالم أو الكلب المغمى عليه - أني في غرفة أنيقة ، على سرير وثير ، في مصحة بيطرية ، أخضع لفنون من العلاج و أحظى بألوان من الرعاية . كانت المصحة غاية في النظافة . و من نافذة غرفتي كنتُ أرى مساحة خضراء مديدة ، فتساءلت مع نفسي عن المكان الخفي الذي يضعون فيه الأزبال .
و رأيتُ ممرضة مليحة ، جميلة المحيا، ممشوقة القوام ، ينطبق عليها قول الشاعر المرار بن منقذ العدوي :
فهْي هيفاءُ هضيمٌ كَشْحُها = فخمة حيث يُشَدُّ المُؤتزرْ
رأيتها تعاملني بحنو لا عهد لي به ، فأيقنت عندئذ أني سأستعيد عافيتي في أقرب الأوقات . ثم إني سمعتها و هي تضحك فأحسستُ بدبيب البُرْء في جسمي الجريح. إثر ذلك تقدمَ نحوي رجل باسم يرتدي لباس الجراحين فأدركت أني سأخضع لعملية جراحية .
كانت الممرضة العطبول تحكي للطبيب عن الحادثة التي كادت تودي بحياتي و هو يستمع إليها باهتمام شديد. بعدها جاء اختصاصي التخدير و شرع يحقنني بالبنج و الممرضة ترمقني بنظراتها الساحرة و
تبتسم لي ابتسامة عذبة . و لم تكد الحقنة تنتهي حتى صحوت من النوم ، أو من الإغماء. هكذا اختفت
الممرضة الحسناء و اختفى الطبيب الجراح و زالت المصحة و تلاشت المساحة الخضراء و عادت المزبلة للظهور من جديد .
و على أية حال فقد جعلني هذا الحلم الجميل أنظر للواقع نظرة متفائلة .
صحيح أني أعيش الآن وضعية مزرية ، لكن الغد يبقى مفتوحا على آفاق واعدة ، و هذه الجراح اللعينة سوف تندمل لا محالة و سوف أعود كما كنت في سابق عهدي : صاحبَ قوة و إباء و مكر و دهاء ، مع استعداد دائم لمواجهة الأعداء.
عبدالله- عدد الرسائل : 1759
العمر : 54
تاريخ التسجيل : 26/06/2008
رد: مذكرات كلب / عبدالقادر وساط
مذكرات كلب
( الحلقة الرابعة - من كتاب قيد الطبع)
-----------------------------------------
ما أسرع ما تمضي الأيام ! و ما أسرع ما ننسى الآلام !
ها أنذا قد عدت صحيحا معافى إلى ساحتنا العجيبة ، ساحة الكاميليا ، حيث أقضي أوقاتا هنيئة . فلو مررتَ بي في الصباح لرأيتَني باسطاً ذراعيَّ في محطة البنزين ، تحت أشعة الشمس ، أتأمل أحوال الدنيا ، و أفكر في الحياة و الأحياء .
ليس هناك كلب واحد في موسكو أو لندن أو باريس يستطيع أن يهنأ بمثل هذه اللحظات الدافئة التي أنعمُ بها أنا تحت شمس الدار البيضاء.
و مثل كل صباح ، يمر بالقرب مني روادُ المقهى المجاور للمحطة . إنهم يعرفونني جيدا . و منهم من يطلق عليّ اسمَ " بْلاكْ" رغم أني أبيض اللون ! غير أني ألتمس لهم الأعذار في إطلاق أسماء أعجمية على الكلاب . فهم لم يطلعوا على الأدب القديم ، الذي نجد فيه أسماء عربية أصيلة لأبناء زارع ، و منها: " سُحام " و " مِقلاء القَنيص" و " سَلْهَب " و " جَدْلاء" - و هو اسم كلبة - و السرحان و المتناول . و قد جمع الشاعر مُزَرِّد بن ضرار الذبياني هذه الأسماء الستة في بيت واحد من أبيات لاميته المفضلية ، فقال :
سُحامٌ و مقْلاء القنيص و سَلْهبٌ = و جدْلاء و السرحان و المتناولُ
و من أسماء الكلاب لدى القدماء " عِطاف " و " أجْبُل ". و قد ذكرهما الشاعر ضابئ بن الحارث البرجمي في لاميته الأصمعية فقال :
فَصَبَّحَهُ عند الشروق غُدَيّة ً = أخو قَنَصٍ يُشْلي عِطافاً و أجْبُلا
لكن ما علينا ! فليخترْ لي زبائن المقهى البسطاء ما أرادوه من أسماء!
يكفيني أني متمدد في محطة البنزين ، فيما شمس الصباح تغمرني بحنانها الدافق.
و بين فينة و أخرى يمر قط مشرد، فما يكاد يراني حتى حتى ينتابه الذعر ، و ما أكاد أراه حتى أستعد للوثوب عليه و البطش به ، دون أن أعرف لماذا. فلطالما فكرتُ في أسباب عداوتنا مع القطط دون أن أهتدي إليها . لقد وجدْنا آباءنا كذلك فسرنا على نهجهم و اقتدينا بهم ، دون أن نعرف السر الكامن وراء هذا السلوك العدواني.
و هو ما يذكرني بالشاعر الفرزدق ، حين سأله الخليفة يزيد بن عبدالملك:
- لم َ تَظلم جريراً ؟
فأجابه قائلاً :
- وجدتُ آبائي يَظلمون آباءَه فسرتُ فيه بسيرتهم !
رحم الله الفرزدق . فقد وقعت له في ليلة من الليالي قصة طريفة مع الكلاب . إذْ سهرَ مع أصحابه حتى الفجر ثم توجه يريد بيته و هو سكران طافح ، فضل الطريق و مرَّ بجماعة من الكلاب فظن أنهم بعض شيوخ الحي فألقى عليهم السلام و لكنهم لم يردوا سلامه فانصرف و هو يقول :
فما ردَّ السلامَ شيوخُ قومٍ = مررتُ بهمْ على سكك البريدِ
و لا سيما الذي كانتْ عليه = ملابسُ أرجوانٍ في القعودِ
و الحق أن صاحبنا الفرزدق كان مقبلا على ملذات الدنيا الفانية .و قد ظن مرة أنه تاب فأنشأ قصيدة يهجو فيها إبليس و مضى مسرورا إلى الحسن البصري ليخبره بالأمر فقال له الحسن البصري :
- كيف تهجو إبليس و أنتَ بلسانه تَنطق ؟
( الحلقة الرابعة - من كتاب قيد الطبع)
-----------------------------------------
ما أسرع ما تمضي الأيام ! و ما أسرع ما ننسى الآلام !
ها أنذا قد عدت صحيحا معافى إلى ساحتنا العجيبة ، ساحة الكاميليا ، حيث أقضي أوقاتا هنيئة . فلو مررتَ بي في الصباح لرأيتَني باسطاً ذراعيَّ في محطة البنزين ، تحت أشعة الشمس ، أتأمل أحوال الدنيا ، و أفكر في الحياة و الأحياء .
ليس هناك كلب واحد في موسكو أو لندن أو باريس يستطيع أن يهنأ بمثل هذه اللحظات الدافئة التي أنعمُ بها أنا تحت شمس الدار البيضاء.
و مثل كل صباح ، يمر بالقرب مني روادُ المقهى المجاور للمحطة . إنهم يعرفونني جيدا . و منهم من يطلق عليّ اسمَ " بْلاكْ" رغم أني أبيض اللون ! غير أني ألتمس لهم الأعذار في إطلاق أسماء أعجمية على الكلاب . فهم لم يطلعوا على الأدب القديم ، الذي نجد فيه أسماء عربية أصيلة لأبناء زارع ، و منها: " سُحام " و " مِقلاء القَنيص" و " سَلْهَب " و " جَدْلاء" - و هو اسم كلبة - و السرحان و المتناول . و قد جمع الشاعر مُزَرِّد بن ضرار الذبياني هذه الأسماء الستة في بيت واحد من أبيات لاميته المفضلية ، فقال :
سُحامٌ و مقْلاء القنيص و سَلْهبٌ = و جدْلاء و السرحان و المتناولُ
و من أسماء الكلاب لدى القدماء " عِطاف " و " أجْبُل ". و قد ذكرهما الشاعر ضابئ بن الحارث البرجمي في لاميته الأصمعية فقال :
فَصَبَّحَهُ عند الشروق غُدَيّة ً = أخو قَنَصٍ يُشْلي عِطافاً و أجْبُلا
لكن ما علينا ! فليخترْ لي زبائن المقهى البسطاء ما أرادوه من أسماء!
يكفيني أني متمدد في محطة البنزين ، فيما شمس الصباح تغمرني بحنانها الدافق.
و بين فينة و أخرى يمر قط مشرد، فما يكاد يراني حتى حتى ينتابه الذعر ، و ما أكاد أراه حتى أستعد للوثوب عليه و البطش به ، دون أن أعرف لماذا. فلطالما فكرتُ في أسباب عداوتنا مع القطط دون أن أهتدي إليها . لقد وجدْنا آباءنا كذلك فسرنا على نهجهم و اقتدينا بهم ، دون أن نعرف السر الكامن وراء هذا السلوك العدواني.
و هو ما يذكرني بالشاعر الفرزدق ، حين سأله الخليفة يزيد بن عبدالملك:
- لم َ تَظلم جريراً ؟
فأجابه قائلاً :
- وجدتُ آبائي يَظلمون آباءَه فسرتُ فيه بسيرتهم !
رحم الله الفرزدق . فقد وقعت له في ليلة من الليالي قصة طريفة مع الكلاب . إذْ سهرَ مع أصحابه حتى الفجر ثم توجه يريد بيته و هو سكران طافح ، فضل الطريق و مرَّ بجماعة من الكلاب فظن أنهم بعض شيوخ الحي فألقى عليهم السلام و لكنهم لم يردوا سلامه فانصرف و هو يقول :
فما ردَّ السلامَ شيوخُ قومٍ = مررتُ بهمْ على سكك البريدِ
و لا سيما الذي كانتْ عليه = ملابسُ أرجوانٍ في القعودِ
و الحق أن صاحبنا الفرزدق كان مقبلا على ملذات الدنيا الفانية .و قد ظن مرة أنه تاب فأنشأ قصيدة يهجو فيها إبليس و مضى مسرورا إلى الحسن البصري ليخبره بالأمر فقال له الحسن البصري :
- كيف تهجو إبليس و أنتَ بلسانه تَنطق ؟
عبدالله- عدد الرسائل : 1759
العمر : 54
تاريخ التسجيل : 26/06/2008
رد: مذكرات كلب / عبدالقادر وساط
مذكرات كلب
( الحلقة الخامسة )
----------------------
يزعم العارفون أن السعادة غير ممكنة في هذه الدار الفانية . أما أنا فإني مقتنع تمام الاقتناع بأنني كلب سعيد .
لقد فكرتُ في حياتي الماضية ، و تأملتُ أوضاعي الحاضرة ، فوجدتُ أن أسباب السعادة أكثرُ من دواعي الشقاء. فأنا مخلوق مستقل ، و لي قدرة عجيبة على الحركة . و الحركة هي أساس الحرية ، و الحرية هي جوهر الحياة .
و صحتي موفورة ، بحمد الله ، و أنيابي قاطعة و قوائمي مفتولة و ذيلي معقوف على الدوام ، كأنه علامة استفهام !
و أنا مقدام في المعارك ، أتصدى لأعدائي بشجاعة و تدور بيننا معارك ضارية ، بيد أنني لا أتردد في الهرب حين تكون الشجاعة مجلبة للعطب !
و الحق أني لستُ بالكائن المغرور. فأنا أعرف حدودي ، و أدرك جيدا أنني مجرد كلب ضال، لا حول له و لا طول. لكنني مقتنع ، في الوقت نفسه ، بأني مخلوق جدير بالاحترام ...مخلوق له أصل و فصل ، و له ذكريات و أحلام و آمال و أوهام . ثم إني كائن حر ، يمضي متى شاء حيث شاء !
و حين تلفحني أشعة الشمس في محطة البنزين ، عند منتصف النهار ، فإنني لا أطلب الإذن من أحد كي أقصد ساحة الكاميليا . تلك الساحة العريقة ، التي يَكثر فيها بنو ساسان .
و بنو ساسان - يا سادة يا كرام - هم الشحاذون . و لعلكم تذكرون كيف جاء عيسى بن هشام ، في المقامة الدينارية ، و خاطب الشحاذين بقوله :
- يا بني ساسان ، أيكم أعطيه هذا الدينار ؟ !
و ينبغي الاعتراف بأن ساحة الكاميليا لا تكتظ بالشحاذين فحسب . ففيها خليط عجيب من الآدميين ، الباحثين عن الرزق بمختلف الوسائل . و كم تفرجتُ على المعارك الدامية التي تدور بينهم لأتفه الأسباب ، و كم رثيت لهم من الأعماق !
صحيح أننا - معشر الكلاب - نقتتل أيضا فيما بيننا من حين لآخر، لكننا نفعل ذلك لأسباب مصيرية ، خلافا لبني البشر . ثم إننا لا نحفل إطلاقا بما يحمله الغد . فنحن نأخذ الحياة كما هي بخيرها و شرها و حلوها و مرها ، نلهو حين يكون الأمر لهواً و نكشر عن أنيابنا عندما تحتدم الأهواء و تكفهر الأجواء . و إذا حدث أن ضاقت علينا السبل ، فإننا نضرب في الأرض، ذات الطول و العرض! أما إذا مرض أحدنا و اشتدت عليه وطأة الداء، فإنه يقضي الليل في النباح إلى أن يدركه الصباح !
و على أية حال ، فنحن في مأمن من الانقراض، رغم الحوادث و الأمراض !
لقد كنا قلة قليلة فيما مضى من الزمن ، و عشنا ضروبا من المحَن و صبرنا على الظلم ، كي نفرض وجودنا في هذه البقعة من العالم . و ها نحن اليوم نتناسل باطمئنان ، رغم كل القرارات الرسمية بالقضاء على جنس القوانع .
و أذكر أن المرحومة أمي كانت تسخر كثيرا من هذه القرارات و تبشرني بطول السلامة كلما توعدنا المسؤولون بالإبادة الجماعية ، متمثلة في ذلك بقول جرير، شاعرها الأثير :
وعدَ الفرزدقُ أنْ سَيقتلُ مرْبعاً = أبشرْ بطول سلامة يا مرْبعُ !
و الحق أن أمي كانت كلبة متفائلة إلى أبعد الحدود ، مع إدراكها الحصيف للمخاطر المحْدقة بنا من كل جانب. و قد نشأتُ متفائلا مثلها ، فهذا الكعك من ذاك العجين ، كما يقول المثل الشائع . و مع ذلك فإني لا أستسيغ إصرار المسؤولين على إبادتنا ، عوض البحث عن حلول أخرى للتعايش السلمي . لكأني بهؤلاء المسؤولين يجهلون أن الكلاب كانت رفيقة للإنسان منذ غابر الأزمان ، و قبل تدجين الثور و ترويض الحصان !
إنني مجرد كلب ضال - يا سادة يا كرام - لكني أعرف الكثير عن التاريخ المشترك بيننا و بينكم . فقد كان قدماء المصريين ، مثلا ، يوقرون الكلاب و لا يتعرضون لها بسوء. أما أفراد قبيلة الجلياك ، في سيبيريا ، فقد كانوا يعتقدون أن روح الإنسان تنتقل بعد موته إلى كلبه المفضل !
و في السودان ، على ضفاف النيل الأبيض، كانت تعيش قبائل الدَّنْكا . و كانت تلك القبائل تعتقد أن الكلاب هي التي قادت الإنسان إلى اكتشاف النار .
و العرب القدامى لم تكن لهم علاقات متشنجة مع الكلاب. فالكثيرون منهم كانوا يحملون اسمَ " كلب" أو " كُلَيب" دون إحساس بالنقص. و منهم كليب بن ربيعة الذي أشعل حرب البسوس و كان أول قتلاها . و قد رثاه أخوه المهلهل بقصائد بديعة جاء في إحداها :
دعوتك يا كليبُ فلمْ تجبْني = و كيف يجيبني البلد القفارُ ؟
و هناك قبائل عربية كثيرة كانت تحمل اسم كلب و كليب و كلاب . فمنها قبيلة كلاب بن ربيعة التي ينتمي إليها لبيد ، الشاعر المشهور. و منها قبيلة كلب القحطانية ، التي تنتسب إليها ميسون زوجة معاوية بن أبي سفيان . و لهذا كانت تسمى ميسون الكلبية . و لهذه المرأة قصة عجيبة ، جديرة بأن تُروى . فقد تزوجها معاوية و جاء بها من باديتها البعيدة إلى قصر الخلافة و هكذا انتقلتْ من عيشة البؤس إلى حياة النعيم . لكن البدوية الحسناء لم ترض بديلا عن موطنها الأول و لم تقو على حياة القصور. بل إنها نظمتْ قصيدة بديعة تعبر فيها عن حنينها الطاغي إلى موطنها و أهلها و تشكو من كآبة الحياة في قصر الخلافة و تعلن أن العباءة الخشنة التي كانت تلبسها في البادية أفضل من الأثواب الشفيفة التي صارت ترتديها في دار العلج . و كانت تقصد بالعلج زوجَها معاوية بن أبي سفيان .
و من أبيات هذه القصيدة :
لَبَيْتٌ تَخفق الأرواحُ فيه = أحَبُّ إليَّ منْ قصر مُنيفِ
و أصواتُ الرياح بكلِّ فَجٍّ = أحبُّ إليَّ من نَقْر الدفوف
و لبْسُ عباءةٍ و تقرُّ عيني = أحبّ إليّ من لبْس الشفوف
خشونة عيشتي في البدو أشهى = إلى نفسي من العيش الظريف
و لما سمعها معاوية و هي تنشد تلك القصيدة رقَّ لها و أدرك أنها لم تخلق لحياة القصور، و أذعن لرغبتها في الطلاق و لم يفرض عليها البقاء في " قصر الزوجية " !
رحم الله تلك المرأة الرقيقة ، ذات الحس الشاعري المرهف . فهي لم تنس تفضيل الكلاب على القطط حين قالت في قصيدتها هذه :
و كلْبٌ يَنبح الطّرّاقَ عنّي = أحبُّ إليّ من قطٍّ أَلُوفِ
( الحلقة الخامسة )
----------------------
يزعم العارفون أن السعادة غير ممكنة في هذه الدار الفانية . أما أنا فإني مقتنع تمام الاقتناع بأنني كلب سعيد .
لقد فكرتُ في حياتي الماضية ، و تأملتُ أوضاعي الحاضرة ، فوجدتُ أن أسباب السعادة أكثرُ من دواعي الشقاء. فأنا مخلوق مستقل ، و لي قدرة عجيبة على الحركة . و الحركة هي أساس الحرية ، و الحرية هي جوهر الحياة .
و صحتي موفورة ، بحمد الله ، و أنيابي قاطعة و قوائمي مفتولة و ذيلي معقوف على الدوام ، كأنه علامة استفهام !
و أنا مقدام في المعارك ، أتصدى لأعدائي بشجاعة و تدور بيننا معارك ضارية ، بيد أنني لا أتردد في الهرب حين تكون الشجاعة مجلبة للعطب !
و الحق أني لستُ بالكائن المغرور. فأنا أعرف حدودي ، و أدرك جيدا أنني مجرد كلب ضال، لا حول له و لا طول. لكنني مقتنع ، في الوقت نفسه ، بأني مخلوق جدير بالاحترام ...مخلوق له أصل و فصل ، و له ذكريات و أحلام و آمال و أوهام . ثم إني كائن حر ، يمضي متى شاء حيث شاء !
و حين تلفحني أشعة الشمس في محطة البنزين ، عند منتصف النهار ، فإنني لا أطلب الإذن من أحد كي أقصد ساحة الكاميليا . تلك الساحة العريقة ، التي يَكثر فيها بنو ساسان .
و بنو ساسان - يا سادة يا كرام - هم الشحاذون . و لعلكم تذكرون كيف جاء عيسى بن هشام ، في المقامة الدينارية ، و خاطب الشحاذين بقوله :
- يا بني ساسان ، أيكم أعطيه هذا الدينار ؟ !
و ينبغي الاعتراف بأن ساحة الكاميليا لا تكتظ بالشحاذين فحسب . ففيها خليط عجيب من الآدميين ، الباحثين عن الرزق بمختلف الوسائل . و كم تفرجتُ على المعارك الدامية التي تدور بينهم لأتفه الأسباب ، و كم رثيت لهم من الأعماق !
صحيح أننا - معشر الكلاب - نقتتل أيضا فيما بيننا من حين لآخر، لكننا نفعل ذلك لأسباب مصيرية ، خلافا لبني البشر . ثم إننا لا نحفل إطلاقا بما يحمله الغد . فنحن نأخذ الحياة كما هي بخيرها و شرها و حلوها و مرها ، نلهو حين يكون الأمر لهواً و نكشر عن أنيابنا عندما تحتدم الأهواء و تكفهر الأجواء . و إذا حدث أن ضاقت علينا السبل ، فإننا نضرب في الأرض، ذات الطول و العرض! أما إذا مرض أحدنا و اشتدت عليه وطأة الداء، فإنه يقضي الليل في النباح إلى أن يدركه الصباح !
و على أية حال ، فنحن في مأمن من الانقراض، رغم الحوادث و الأمراض !
لقد كنا قلة قليلة فيما مضى من الزمن ، و عشنا ضروبا من المحَن و صبرنا على الظلم ، كي نفرض وجودنا في هذه البقعة من العالم . و ها نحن اليوم نتناسل باطمئنان ، رغم كل القرارات الرسمية بالقضاء على جنس القوانع .
و أذكر أن المرحومة أمي كانت تسخر كثيرا من هذه القرارات و تبشرني بطول السلامة كلما توعدنا المسؤولون بالإبادة الجماعية ، متمثلة في ذلك بقول جرير، شاعرها الأثير :
وعدَ الفرزدقُ أنْ سَيقتلُ مرْبعاً = أبشرْ بطول سلامة يا مرْبعُ !
و الحق أن أمي كانت كلبة متفائلة إلى أبعد الحدود ، مع إدراكها الحصيف للمخاطر المحْدقة بنا من كل جانب. و قد نشأتُ متفائلا مثلها ، فهذا الكعك من ذاك العجين ، كما يقول المثل الشائع . و مع ذلك فإني لا أستسيغ إصرار المسؤولين على إبادتنا ، عوض البحث عن حلول أخرى للتعايش السلمي . لكأني بهؤلاء المسؤولين يجهلون أن الكلاب كانت رفيقة للإنسان منذ غابر الأزمان ، و قبل تدجين الثور و ترويض الحصان !
إنني مجرد كلب ضال - يا سادة يا كرام - لكني أعرف الكثير عن التاريخ المشترك بيننا و بينكم . فقد كان قدماء المصريين ، مثلا ، يوقرون الكلاب و لا يتعرضون لها بسوء. أما أفراد قبيلة الجلياك ، في سيبيريا ، فقد كانوا يعتقدون أن روح الإنسان تنتقل بعد موته إلى كلبه المفضل !
و في السودان ، على ضفاف النيل الأبيض، كانت تعيش قبائل الدَّنْكا . و كانت تلك القبائل تعتقد أن الكلاب هي التي قادت الإنسان إلى اكتشاف النار .
و العرب القدامى لم تكن لهم علاقات متشنجة مع الكلاب. فالكثيرون منهم كانوا يحملون اسمَ " كلب" أو " كُلَيب" دون إحساس بالنقص. و منهم كليب بن ربيعة الذي أشعل حرب البسوس و كان أول قتلاها . و قد رثاه أخوه المهلهل بقصائد بديعة جاء في إحداها :
دعوتك يا كليبُ فلمْ تجبْني = و كيف يجيبني البلد القفارُ ؟
و هناك قبائل عربية كثيرة كانت تحمل اسم كلب و كليب و كلاب . فمنها قبيلة كلاب بن ربيعة التي ينتمي إليها لبيد ، الشاعر المشهور. و منها قبيلة كلب القحطانية ، التي تنتسب إليها ميسون زوجة معاوية بن أبي سفيان . و لهذا كانت تسمى ميسون الكلبية . و لهذه المرأة قصة عجيبة ، جديرة بأن تُروى . فقد تزوجها معاوية و جاء بها من باديتها البعيدة إلى قصر الخلافة و هكذا انتقلتْ من عيشة البؤس إلى حياة النعيم . لكن البدوية الحسناء لم ترض بديلا عن موطنها الأول و لم تقو على حياة القصور. بل إنها نظمتْ قصيدة بديعة تعبر فيها عن حنينها الطاغي إلى موطنها و أهلها و تشكو من كآبة الحياة في قصر الخلافة و تعلن أن العباءة الخشنة التي كانت تلبسها في البادية أفضل من الأثواب الشفيفة التي صارت ترتديها في دار العلج . و كانت تقصد بالعلج زوجَها معاوية بن أبي سفيان .
و من أبيات هذه القصيدة :
لَبَيْتٌ تَخفق الأرواحُ فيه = أحَبُّ إليَّ منْ قصر مُنيفِ
و أصواتُ الرياح بكلِّ فَجٍّ = أحبُّ إليَّ من نَقْر الدفوف
و لبْسُ عباءةٍ و تقرُّ عيني = أحبّ إليّ من لبْس الشفوف
خشونة عيشتي في البدو أشهى = إلى نفسي من العيش الظريف
و لما سمعها معاوية و هي تنشد تلك القصيدة رقَّ لها و أدرك أنها لم تخلق لحياة القصور، و أذعن لرغبتها في الطلاق و لم يفرض عليها البقاء في " قصر الزوجية " !
رحم الله تلك المرأة الرقيقة ، ذات الحس الشاعري المرهف . فهي لم تنس تفضيل الكلاب على القطط حين قالت في قصيدتها هذه :
و كلْبٌ يَنبح الطّرّاقَ عنّي = أحبُّ إليّ من قطٍّ أَلُوفِ
عبدالله- عدد الرسائل : 1759
العمر : 54
تاريخ التسجيل : 26/06/2008
رد: مذكرات كلب / عبدالقادر وساط
مذكرات كلب
( الحلقة السادسة / من كتاب قيد الطبع )
--------------------------------------------
عبدالقادر وساط
-------------------------------------------
ما الذي يَفعله كلبٌ ضال ، ضعيفُ الحيلة ،رقيقُ الحال ، حين يُصاب بالحمى اللعينة ؟
إنه يَشكو بلواه للخالق و لا يَطلب العونَ من مخلوق .
و هذا ما حدث لي في تلك الليلة المشهودة من ليالي الشتاء . فقد أصابني جَهْدٌ شديد و بدأتْ أنيابي تصطك و قوائمي ترتعد و داهَمَني هَمٌّ ثقيل . ثم شرعَ دماغي في الغليان ، فأيقنتُ أني لا محالة من الهالكين . فهذه الحمى الخبيثة أخطرُ من جنون البقر و من طاعون الغنم و تيفوس القطط و و زكام الطيور و أنفلونزا الخنازير !
لا أكتمكم أني شعرت بخوف لا مثيل له .الأمر الذي جعلني أتذكر قول الشاعر أنسي الحاج في قصيدته " فقاعة الأصل" :
"خفتُ ثم خفت ثم خفتُ حتى أصبحتُ غابة من الخوف ، وبعدما أصبحت غابة من الخوف عدتُ فأصبحتُ غاية في الخوف ، وبعدما أصبحتُ غاية في الخوف عدت فأصبحت آية في الخوف."
بقيتُ أردد مع نفسي هذا المقطع الجميل و قد تعاظمَ إحساسي بالوحدة و العزلة، و أنا جاثم هناك في مكاني الأثير، في ساحة الكاميليا، قرب السيارة المهترئة ، و ذلك في عز الليل و الشارع مقفر فليس هناك سوى الطقس اللعين ، كما قال الملك ليرْ ، في مسرحية شكسبير.
كانت ليلة شديدة البرد، " لا يستطيع نباحاً بها الكلبُ إلا هريرا " على حد تعبير الشاعر الأعشى . و مع ذلك ، فقد كنت أشعر بالسخونة تسري عبر جسمي بأكمله ، من القوائم إلى قمة الرأس، مرورا بسائر الأعضاء الحيوية . غير أني لم أفقد مع ذلك شيئا من وضوح ذهني . كنت أدرك تمام الإدراك أن المكان الذي أجثم فيه ليس بالمكان الآمن ، خصوصا حين تشرق الشمس بعد سويعات معدودة ، و تبدأ الحياة في الدبيب . و في لحظة ما ، تخيلتُ الأطفال الأشقياء و قد اكتشفوا مكاني و اجتمعوا على هلاكي و أنا عليل عاجز، لا حول لي و لا طول . و تخيلت الضربات التي سوف تهوي عليّ دون ذنب جنيتُه ، فقرَّ قراري على مغادرة المكان مهما كلفني ذلك من جهد .
ذلك أني لن أبقى مختبئا هنا حتى يموت الكلب !
و الحق أني كنتُ في غنى عن هذه الحمى اللعينة ، لكن الذّبّانْ يعرف وجه اللبّانْ ، كما يقول المثل . و أنا كنتُ مقتنعا منذ نعومة مخالبي بأن الحياة لن تبخل علي بالمتاعب ، خصوصا أن أمي كانت تدعو عليّ بين حين و آخر بالبلاء الأكبر . و أي بلاء أكبر من هذا الذي حاق بي في هذه الليلة المشؤومة ؟
لم يكن هناك من حل إذن سوى مغادرة المكان . فإن الكلب العاقل يرضى بالمقدور، لكنه يعمل على النجاة بجلده قبل وقوع المحذور . هكذا تحاملتُ على نفسي و مضيت أجر قوائمي المرتعشة و أنا أردد قول أبي الطيب المتنبي يصف حاله حين هدته الحمى الخبيثة ، و هو في مصر ، فلم يعد يقوى حتى على الوقوف :
قَليلٌ عَائِدي سَقِمٌ فُؤادي = كَثِيرٌ حَاسِدي صَعْبٌ مرامي
عَليلُ الجِسْمِ مُمْتَنِعُ القِيَام = شَديدُ السُّكْرِ مِنْ غَيرِ المُدامِ
و قد قصدت ذلك المنزل المهجور، الذي أختبئ فيه كلما حلت بي نائبة من نوائب الدهر، و لم أزل ألهث حتى بلغتُه بمشقة و جهد ، و كان دخولي إليه حوالي الرابعة و النصف صباحا بتوقيت غرينيتش .
و هو ليس بالملاذ الأمثل، على أية حال ، خاصة في الليالي الممطرة . فهناك مخلوقات من كل صنف تلتجئ إليه . و هي مخلوقات شرسة لن تنظر بعين الرضا إلى كلب سقيم يقتحم عليها ملجأها ذاك ، دون سابق إنذار .
و من حسن حظي أن الحمى لم تؤثر كثيرا في حواسي الخمس ، خصوصا منها حاسة الشم . فبحركة واحدة من خياشيمي أدركتُ أن المنزل فارغ لا أثر فيه لمخلوق . و ما إن دلفتُ للداخل حتى تمددت فوق قطعة من الخشب و أنا ألهث من الحمى و التعب . فأين مني أيام الصحة و الهناء ؟ أيام كنت أعدو حرا طليقا في ساحة الكاميليا ، و في الأحياء المجاورة ، أخالط الكلاب الضالة ، أتعارك مع ذكورها و أنزو على إناثها، و قلبي مترع بالحبور و نفسي مقبلة على الحياة . لقد كنت سليما معافى ، و كانت لي قوائم تعدو و أنياب تخيف الأعداء . و ها هو الزمن قد تغير كما قال جميل بن معمر في بيته المشهور :
فغَيّرَ ذلك ما تَعْلمينَ = تغيُّرُ ذا الزمن المنكر
و ها هو جسمي قد رابَني بعد صحة ، و ها أنذا أعاني من ويلات الحمى في منزل مهجور لا أسمع فيه سوى عويل الرياح .
بيد أنني حاولت أن أتعامل مع الأمور بحكمة . فالحياة تنتهي دائما بالموت . و الصحة كالمرض تنتهي حتما بالرحيل . و طول السلامة يسلم صاحبه للهلاك في نهاية المطاف . و في ذلك يقول النمر بن تولب :
يودُّ الفتى طولَ السلامة جاهداً = فكيف تَرى طولَ السلامة يَفعلُ ؟
و قريب منه قول حميد بن ثور :
أرى بصري قد رابَني بعد صحة = و حسْبك داءً أنْ تصحَّ و تَسْلَما
و قول الجعدي :
ودعوتُ ربي بالسلامة جاهدا = ليصحني فإذا السلامة داء
و على أية حال فالطغاة أيضا يموتون في نهاية المطاف مثلما يموت المستضعَفون . و العلماء يشربون من الكأس نفسها التي يشرب منها رعاة الغنم . و رحم الله أبا الطيب الذي قال :
يَموتُ راعي الضأن في ضأنه = موتة جالينوسَ في طبِّهِ
و قد كان جالينوس هذا طبيبا من طينة نادرة و لم يكن أحد يجرؤ على مخالفة آرائه و نظرياته . بل إن تلامذته كانوا يقومون أحيانا بتشريح جثة من الجثث فإذا هم اكتشفوا أن ما زعمه جالينوس يختلف عما يرونه بأعينهم ، صرخوا قائلين بصوت واحد : " أخطأت الجثة و صدقَ جالينوس !"
لا أدري كم قضيتُ من الوقت و أنا مشغول الفكر بهذه التأملات ، فلم أنتبه إلا حين شممتُ رائحة إنسان يقترب من عتبة المنزل المهجور . ثم رأيته و هو يملأ الباب بقامته المهيبة و قد انعكس ضوء المصباح الكهربائي القريب على ملامحه المتشنجة و على شعره الأشعث فخفق قلبي بشدة و وطنتُ النفسَ على الهلاك . لكن الوافد الغريب لم يحفل بوجودي و لم يعرني أدنى اهتمام . فقد توجه مباشرة إلى الداخل ثم تمدد قرب الجدار و هو يخاطب نفسه بكلام غير مفهوم .
كانت رائحته توحي بأنه لم يغتسل منذ شهور . و سرعان ما اتضح لي أنه واحد من المشردين الذين تمتلئ بهم ساحة الكاميليا . و عندئذ اطمأن بالي لأن هذه الفئة من الناس لا تؤذي الكلاب الضالة .
و قد بقيت أنظر إليه و أستغرب كيف قادتنا الأقدار معا إلى هذا المكان الموحش في هذه الليلة الباردة ، التي أنتظر صباحَها بفارغ الصبر . ذلك أن الحمى تخفّ خلال النهار و تشتد أثناء الليل . و ذلك ما عناه المتنبي سيد الشعراء حين قال :
و زائرتي كأنّ بها حياءً = فليس تزورُ إلا في الظلام
( الحلقة السادسة / من كتاب قيد الطبع )
--------------------------------------------
عبدالقادر وساط
-------------------------------------------
ما الذي يَفعله كلبٌ ضال ، ضعيفُ الحيلة ،رقيقُ الحال ، حين يُصاب بالحمى اللعينة ؟
إنه يَشكو بلواه للخالق و لا يَطلب العونَ من مخلوق .
و هذا ما حدث لي في تلك الليلة المشهودة من ليالي الشتاء . فقد أصابني جَهْدٌ شديد و بدأتْ أنيابي تصطك و قوائمي ترتعد و داهَمَني هَمٌّ ثقيل . ثم شرعَ دماغي في الغليان ، فأيقنتُ أني لا محالة من الهالكين . فهذه الحمى الخبيثة أخطرُ من جنون البقر و من طاعون الغنم و تيفوس القطط و و زكام الطيور و أنفلونزا الخنازير !
لا أكتمكم أني شعرت بخوف لا مثيل له .الأمر الذي جعلني أتذكر قول الشاعر أنسي الحاج في قصيدته " فقاعة الأصل" :
"خفتُ ثم خفت ثم خفتُ حتى أصبحتُ غابة من الخوف ، وبعدما أصبحت غابة من الخوف عدتُ فأصبحتُ غاية في الخوف ، وبعدما أصبحتُ غاية في الخوف عدت فأصبحت آية في الخوف."
بقيتُ أردد مع نفسي هذا المقطع الجميل و قد تعاظمَ إحساسي بالوحدة و العزلة، و أنا جاثم هناك في مكاني الأثير، في ساحة الكاميليا، قرب السيارة المهترئة ، و ذلك في عز الليل و الشارع مقفر فليس هناك سوى الطقس اللعين ، كما قال الملك ليرْ ، في مسرحية شكسبير.
كانت ليلة شديدة البرد، " لا يستطيع نباحاً بها الكلبُ إلا هريرا " على حد تعبير الشاعر الأعشى . و مع ذلك ، فقد كنت أشعر بالسخونة تسري عبر جسمي بأكمله ، من القوائم إلى قمة الرأس، مرورا بسائر الأعضاء الحيوية . غير أني لم أفقد مع ذلك شيئا من وضوح ذهني . كنت أدرك تمام الإدراك أن المكان الذي أجثم فيه ليس بالمكان الآمن ، خصوصا حين تشرق الشمس بعد سويعات معدودة ، و تبدأ الحياة في الدبيب . و في لحظة ما ، تخيلتُ الأطفال الأشقياء و قد اكتشفوا مكاني و اجتمعوا على هلاكي و أنا عليل عاجز، لا حول لي و لا طول . و تخيلت الضربات التي سوف تهوي عليّ دون ذنب جنيتُه ، فقرَّ قراري على مغادرة المكان مهما كلفني ذلك من جهد .
ذلك أني لن أبقى مختبئا هنا حتى يموت الكلب !
و الحق أني كنتُ في غنى عن هذه الحمى اللعينة ، لكن الذّبّانْ يعرف وجه اللبّانْ ، كما يقول المثل . و أنا كنتُ مقتنعا منذ نعومة مخالبي بأن الحياة لن تبخل علي بالمتاعب ، خصوصا أن أمي كانت تدعو عليّ بين حين و آخر بالبلاء الأكبر . و أي بلاء أكبر من هذا الذي حاق بي في هذه الليلة المشؤومة ؟
لم يكن هناك من حل إذن سوى مغادرة المكان . فإن الكلب العاقل يرضى بالمقدور، لكنه يعمل على النجاة بجلده قبل وقوع المحذور . هكذا تحاملتُ على نفسي و مضيت أجر قوائمي المرتعشة و أنا أردد قول أبي الطيب المتنبي يصف حاله حين هدته الحمى الخبيثة ، و هو في مصر ، فلم يعد يقوى حتى على الوقوف :
قَليلٌ عَائِدي سَقِمٌ فُؤادي = كَثِيرٌ حَاسِدي صَعْبٌ مرامي
عَليلُ الجِسْمِ مُمْتَنِعُ القِيَام = شَديدُ السُّكْرِ مِنْ غَيرِ المُدامِ
و قد قصدت ذلك المنزل المهجور، الذي أختبئ فيه كلما حلت بي نائبة من نوائب الدهر، و لم أزل ألهث حتى بلغتُه بمشقة و جهد ، و كان دخولي إليه حوالي الرابعة و النصف صباحا بتوقيت غرينيتش .
و هو ليس بالملاذ الأمثل، على أية حال ، خاصة في الليالي الممطرة . فهناك مخلوقات من كل صنف تلتجئ إليه . و هي مخلوقات شرسة لن تنظر بعين الرضا إلى كلب سقيم يقتحم عليها ملجأها ذاك ، دون سابق إنذار .
و من حسن حظي أن الحمى لم تؤثر كثيرا في حواسي الخمس ، خصوصا منها حاسة الشم . فبحركة واحدة من خياشيمي أدركتُ أن المنزل فارغ لا أثر فيه لمخلوق . و ما إن دلفتُ للداخل حتى تمددت فوق قطعة من الخشب و أنا ألهث من الحمى و التعب . فأين مني أيام الصحة و الهناء ؟ أيام كنت أعدو حرا طليقا في ساحة الكاميليا ، و في الأحياء المجاورة ، أخالط الكلاب الضالة ، أتعارك مع ذكورها و أنزو على إناثها، و قلبي مترع بالحبور و نفسي مقبلة على الحياة . لقد كنت سليما معافى ، و كانت لي قوائم تعدو و أنياب تخيف الأعداء . و ها هو الزمن قد تغير كما قال جميل بن معمر في بيته المشهور :
فغَيّرَ ذلك ما تَعْلمينَ = تغيُّرُ ذا الزمن المنكر
و ها هو جسمي قد رابَني بعد صحة ، و ها أنذا أعاني من ويلات الحمى في منزل مهجور لا أسمع فيه سوى عويل الرياح .
بيد أنني حاولت أن أتعامل مع الأمور بحكمة . فالحياة تنتهي دائما بالموت . و الصحة كالمرض تنتهي حتما بالرحيل . و طول السلامة يسلم صاحبه للهلاك في نهاية المطاف . و في ذلك يقول النمر بن تولب :
يودُّ الفتى طولَ السلامة جاهداً = فكيف تَرى طولَ السلامة يَفعلُ ؟
و قريب منه قول حميد بن ثور :
أرى بصري قد رابَني بعد صحة = و حسْبك داءً أنْ تصحَّ و تَسْلَما
و قول الجعدي :
ودعوتُ ربي بالسلامة جاهدا = ليصحني فإذا السلامة داء
و على أية حال فالطغاة أيضا يموتون في نهاية المطاف مثلما يموت المستضعَفون . و العلماء يشربون من الكأس نفسها التي يشرب منها رعاة الغنم . و رحم الله أبا الطيب الذي قال :
يَموتُ راعي الضأن في ضأنه = موتة جالينوسَ في طبِّهِ
و قد كان جالينوس هذا طبيبا من طينة نادرة و لم يكن أحد يجرؤ على مخالفة آرائه و نظرياته . بل إن تلامذته كانوا يقومون أحيانا بتشريح جثة من الجثث فإذا هم اكتشفوا أن ما زعمه جالينوس يختلف عما يرونه بأعينهم ، صرخوا قائلين بصوت واحد : " أخطأت الجثة و صدقَ جالينوس !"
لا أدري كم قضيتُ من الوقت و أنا مشغول الفكر بهذه التأملات ، فلم أنتبه إلا حين شممتُ رائحة إنسان يقترب من عتبة المنزل المهجور . ثم رأيته و هو يملأ الباب بقامته المهيبة و قد انعكس ضوء المصباح الكهربائي القريب على ملامحه المتشنجة و على شعره الأشعث فخفق قلبي بشدة و وطنتُ النفسَ على الهلاك . لكن الوافد الغريب لم يحفل بوجودي و لم يعرني أدنى اهتمام . فقد توجه مباشرة إلى الداخل ثم تمدد قرب الجدار و هو يخاطب نفسه بكلام غير مفهوم .
كانت رائحته توحي بأنه لم يغتسل منذ شهور . و سرعان ما اتضح لي أنه واحد من المشردين الذين تمتلئ بهم ساحة الكاميليا . و عندئذ اطمأن بالي لأن هذه الفئة من الناس لا تؤذي الكلاب الضالة .
و قد بقيت أنظر إليه و أستغرب كيف قادتنا الأقدار معا إلى هذا المكان الموحش في هذه الليلة الباردة ، التي أنتظر صباحَها بفارغ الصبر . ذلك أن الحمى تخفّ خلال النهار و تشتد أثناء الليل . و ذلك ما عناه المتنبي سيد الشعراء حين قال :
و زائرتي كأنّ بها حياءً = فليس تزورُ إلا في الظلام
عبدالله- عدد الرسائل : 1759
العمر : 54
تاريخ التسجيل : 26/06/2008
رد: مذكرات كلب / عبدالقادر وساط
مذكرات كلب
( الحلقة السابعة / من كتاب قيد الطبع )
----------------------------------------------
عبدالقادر وساط
----------------------------------------------
كان الهلال يلمع مثل زورق من فضة في قبة السماء .
و كنتُ أنظر إليه بارتياح غامر. فهذا ذو الحجة قد حل ، و عيد الأضحى على الأبواب ، و المحنة انتهت و الحمى أصبحتْ في خبر كان .
ها هو العليل قد استعاد عافيتَه ، فالنفس صافية و الأمل معقود و الرجاء ممدود .
فالحمد لله الذي مَنَّ عليَّ بالشفاء دون حاجة للبياطرة !
إن السادة البياطرة يزعمون أن الكلاب الضالة لا تصمد طويلا للحمى . و هذا كلام لا يركن إليه العقلاء، لأن القوانع مجبولة على الصبر. و لقد صبرتُ على الشدة كما كان أسلافي يفعلون ، مع أني عانيت الكثير من أمِّ كلبة .
و أمُّ كَلْبَة هي الحمى عند العرب القدامى . هذا ما ذكره الثعالبي في كتابه العجيب " ثمار القلوب في المضاف و المنسوب ."
و كم اشتدت عليّ هذه الحمى اللعينة حتى أشرفتْ بي على الهلاك . و كم من ليلة بتّ أردد قول الشاعر الراحل خليل الخوري :
تَمُرُّ ليالٍ أحسُّ بها أنني لن أكَحّلَ جفْنِي بمرْأى الصباحْ
ليالٍ أرى الموتَ فيها على قابِ قوسٍ و أدنى يَمُدُّ إليّ الجَناحْ
المهم أن محنتي مع أم كلبة قد استمرت شهرا كاملا . و في الليلة الأخيرة من ذلك الشهر الأليم رأيتُ حلما طابت له نفسي فأيقنت بالشفاء .
رأيت فيما يرى النائم أني متمدد في مكان ما، على مقربة من البحر، أسمع هدير أمواجه وأرى انكسارها على الصخور... لم يكن الوقت ليلا و لا نهارا بل كان خليطا من هذا وذاك... ويا له من إحساس رائع يعتريك حين تنعم بجمال الليل في وضح النهار ... وزاد من سعادتي عندئذ أني كنت أرى الأسماك تقفز خارج الماء ثم تشرع في الطيران، بعدما تصير لها أجنحة بقدرة الواحد القهار... ومن هذه الأسماك الطائرة ما يتوهج بشدة في السماء... وقد خلبني ذلك المشهد العجيب فتمنيت أن أطير أنا أيضا... ولم أكد أعَبر عن ذلك في دخيلتي حتى استجيب لي فشرعت أعلو تدريجيا دون أجنحة! صرت أتحرك بكيفية عجيبة كما كانت تتحرك الكلبة لايكا، خارج الجاذبية، حين كانت في مركبة الفضاء.... هكذا بقيت أعلو و أعلو في السماء و أحدق بفضول في الأسماك الطائرة من حولي... ولم أدرك أني أوغلت في الطيران إلا عندما وجدتني أخترق قوس قزح ! نعم، لم يكن هناك بد من اختراقه وقد فعلت ذلك غير هياب. وهكذا تلطخت فروتي بالأصباغ المختلفة الألوان ، فصرتُ مثل كلب من كلاب السيرك... ثم إن الخالق سبحانه منَّ علي فشرعت في الهبوط ببطء شديد ...كنت أسقط كسقوط الندى، على حد تعبير الشاعر وضاح اليمن... ولما اقتربتُ من سطح الأرض، لاحت لي سطوح المنازل الأليفة بحبال غسيلها وصحونها الهوائية... ثم كان النزول النهائي قرب شاحنة عتيقة مكتوب على جهتها الخلفية: (على جناح السلامة)... وعندئذ أيقنت بالشفاء من الحمى اللعينة.
و ما إن صحوت من نومتي المباركة تلك حتى استويتُ واقفا ثم تمطيتُ قليلا ، و نفضت عني الغبار و الحشرات ثم قمت ببعض الحركات التسخينية و انطلقت بعد ذلك أعدو بسهولة و يسر ! و الحق أني استغربتُ كيف شُفيتُ هكذا دفعة واحدة دون أن أمر بمرحلة النقاهة الضرورية !
و ما زاد من غبطتي هو آن عيد الأضحى على الأبواب يَعدُ بشتى المسرات .
كنت عازما على أن أظفر بنصيبي كاملا من الولائم ، خصوصا أني لم أهنأ بهذا العيد في العام الماضي . و السبب هو أنني كنتُ معتقلا آنئذ من قبَل السلطات الجماعية .
كان اعتقالا تعسفيا دون ذنب جنيتُه . و ذلك في الأسبوع الأخير من ذي القعدة . و لست أدري كيف وقعت في حبائل السلطات العمومية رغم حذري الشديد . المهم أني كنت جاثما في مكاني المألوف بساحة الكاميليا ، فلم أدر إلا و قد التفّت حول عنقي سلسلة حديدية . و لما رفعتُ عينيّ رأيتُ شخصا طويل القامة عظيمَ الهامة يمسك بطرف السلسلة و يضيق علي الخناق . هكذا ساقني هذا الظالم إلى سيارة الفورگونيتْ و حشرني بداخلها مع مجموعة من الكلاب الضالة . إثر ذلك انطلقت بنا السيارة و نحن بداخلها نستغيث و ما من مغيث و نرتعد خوفا من المصير المأساوي الذي نساق إليه ، و لسان حالنا يردد بيت المتنبي:
عيد بأية حال عدت يا عيد = بما مضى أم لأمر فيك تجديد ؟
كانت هناك ، ضمن الكلاب المعتقلة ، وجوه أعرفها حق المعرفة . فقد نشأنا في الحي نفسه و تعاركنا طويلا بسبب القوت و الإناث . و ها قد آن الأوان لننسى أضغان الماضي و نتضامن مع بعضنا في هذه المحنة .
كانت السيارة تمضي و الكلاب تنبح بداخلها . و قد تذكرتُ القوانع التي تم اعتقالها في ظروف مماثلة ، خلال السنوات الماضية ، و كيف اقتيدت إلى جهة مجهولة و تمت تصفيتها بلا شفقة . و ها نحن بدورنا نساق إلى الهلاك و لا من يبكي علينا .
و خلال الطريق لاحظت باستغراب أن الكلاب المعتقلة كلها من الذكور، و تساءلتُ عن السر في ذلك . هل هناك فورگونيت خاصة بالذكور و أخرى خاصة بالإناث ، في إطار الفصل بين الجنسين ؟ أم أن السلطات تخطط لهلاك الذكور فحسب ؟ كيفما كان الحال فقد كنا في ورطة حقيقية لا خلاص منها .
و بعد حوالي ربع ساعة ، انعطفت بنا السيارة ثم انسابت عبر شارع الكسائي قبل أن تتوقف عند إشارة المرور الحمراء. و عندئذ ألقيت نظرة من النافذة فرأيت سيارة فخمة تقف قرب سيارتنا و بداخلها شخص يدخن السيجار و القسوة تشع من نظراته . كان واضحا أنه ظلم أشخاصا كثيرين في حياته دون أن يطرف له جفن . و قد عجبتُ عندئذ كيف يَنْعمُ هذا المخلوق بالحرية فيما نرسف نحن في الأغلال !
و في الجانب الآخر من الشارع رأيت بعض الناس عائدين بأكباش العيد فشعرت بحسرة لا مزيد عليها .
و قد كان وصولنا إلى المعتقل الذي تُحتجز فيه القوانع ، قبيل المغرب. و هناك لبثنا أياما عديدة في انتظار التقنيين المكلفين بالإجهاز علينا !
و ذات صبيحة مشؤومة ، جاء أشخاص يحملون المعدات الضرورية لإبادتنا ، و شرعوا في حَقْننا واحدا تلو الآخر بسوائل صفراء ثم حملونا من جديد في الفورگونيت و تركونا في الخلاء حيث كان ينبغي أن نموت .
لكننا لم نمت .
بقينا ننظر إلى بعضنا و نحن لا نصدق . و الظاهر أن السموم التي حقنونا بها سموم مغشوشة تم الحصول عليها بأثمنة زهيدة في السوق السوداء!
أو لعلها سموم انتهى أجلها و لم ينته أجلنا نحن !
المهم أننا نعرف جميعا خروب بلادنا مثلما نعرف الطريق التي سوف نسلكها إلى مرتع طفولتنا و صبانا .
فها نحن نعود إليك يا ساحة الكاميليا !
( الحلقة السابعة / من كتاب قيد الطبع )
----------------------------------------------
عبدالقادر وساط
----------------------------------------------
كان الهلال يلمع مثل زورق من فضة في قبة السماء .
و كنتُ أنظر إليه بارتياح غامر. فهذا ذو الحجة قد حل ، و عيد الأضحى على الأبواب ، و المحنة انتهت و الحمى أصبحتْ في خبر كان .
ها هو العليل قد استعاد عافيتَه ، فالنفس صافية و الأمل معقود و الرجاء ممدود .
فالحمد لله الذي مَنَّ عليَّ بالشفاء دون حاجة للبياطرة !
إن السادة البياطرة يزعمون أن الكلاب الضالة لا تصمد طويلا للحمى . و هذا كلام لا يركن إليه العقلاء، لأن القوانع مجبولة على الصبر. و لقد صبرتُ على الشدة كما كان أسلافي يفعلون ، مع أني عانيت الكثير من أمِّ كلبة .
و أمُّ كَلْبَة هي الحمى عند العرب القدامى . هذا ما ذكره الثعالبي في كتابه العجيب " ثمار القلوب في المضاف و المنسوب ."
و كم اشتدت عليّ هذه الحمى اللعينة حتى أشرفتْ بي على الهلاك . و كم من ليلة بتّ أردد قول الشاعر الراحل خليل الخوري :
تَمُرُّ ليالٍ أحسُّ بها أنني لن أكَحّلَ جفْنِي بمرْأى الصباحْ
ليالٍ أرى الموتَ فيها على قابِ قوسٍ و أدنى يَمُدُّ إليّ الجَناحْ
المهم أن محنتي مع أم كلبة قد استمرت شهرا كاملا . و في الليلة الأخيرة من ذلك الشهر الأليم رأيتُ حلما طابت له نفسي فأيقنت بالشفاء .
رأيت فيما يرى النائم أني متمدد في مكان ما، على مقربة من البحر، أسمع هدير أمواجه وأرى انكسارها على الصخور... لم يكن الوقت ليلا و لا نهارا بل كان خليطا من هذا وذاك... ويا له من إحساس رائع يعتريك حين تنعم بجمال الليل في وضح النهار ... وزاد من سعادتي عندئذ أني كنت أرى الأسماك تقفز خارج الماء ثم تشرع في الطيران، بعدما تصير لها أجنحة بقدرة الواحد القهار... ومن هذه الأسماك الطائرة ما يتوهج بشدة في السماء... وقد خلبني ذلك المشهد العجيب فتمنيت أن أطير أنا أيضا... ولم أكد أعَبر عن ذلك في دخيلتي حتى استجيب لي فشرعت أعلو تدريجيا دون أجنحة! صرت أتحرك بكيفية عجيبة كما كانت تتحرك الكلبة لايكا، خارج الجاذبية، حين كانت في مركبة الفضاء.... هكذا بقيت أعلو و أعلو في السماء و أحدق بفضول في الأسماك الطائرة من حولي... ولم أدرك أني أوغلت في الطيران إلا عندما وجدتني أخترق قوس قزح ! نعم، لم يكن هناك بد من اختراقه وقد فعلت ذلك غير هياب. وهكذا تلطخت فروتي بالأصباغ المختلفة الألوان ، فصرتُ مثل كلب من كلاب السيرك... ثم إن الخالق سبحانه منَّ علي فشرعت في الهبوط ببطء شديد ...كنت أسقط كسقوط الندى، على حد تعبير الشاعر وضاح اليمن... ولما اقتربتُ من سطح الأرض، لاحت لي سطوح المنازل الأليفة بحبال غسيلها وصحونها الهوائية... ثم كان النزول النهائي قرب شاحنة عتيقة مكتوب على جهتها الخلفية: (على جناح السلامة)... وعندئذ أيقنت بالشفاء من الحمى اللعينة.
و ما إن صحوت من نومتي المباركة تلك حتى استويتُ واقفا ثم تمطيتُ قليلا ، و نفضت عني الغبار و الحشرات ثم قمت ببعض الحركات التسخينية و انطلقت بعد ذلك أعدو بسهولة و يسر ! و الحق أني استغربتُ كيف شُفيتُ هكذا دفعة واحدة دون أن أمر بمرحلة النقاهة الضرورية !
و ما زاد من غبطتي هو آن عيد الأضحى على الأبواب يَعدُ بشتى المسرات .
كنت عازما على أن أظفر بنصيبي كاملا من الولائم ، خصوصا أني لم أهنأ بهذا العيد في العام الماضي . و السبب هو أنني كنتُ معتقلا آنئذ من قبَل السلطات الجماعية .
كان اعتقالا تعسفيا دون ذنب جنيتُه . و ذلك في الأسبوع الأخير من ذي القعدة . و لست أدري كيف وقعت في حبائل السلطات العمومية رغم حذري الشديد . المهم أني كنت جاثما في مكاني المألوف بساحة الكاميليا ، فلم أدر إلا و قد التفّت حول عنقي سلسلة حديدية . و لما رفعتُ عينيّ رأيتُ شخصا طويل القامة عظيمَ الهامة يمسك بطرف السلسلة و يضيق علي الخناق . هكذا ساقني هذا الظالم إلى سيارة الفورگونيتْ و حشرني بداخلها مع مجموعة من الكلاب الضالة . إثر ذلك انطلقت بنا السيارة و نحن بداخلها نستغيث و ما من مغيث و نرتعد خوفا من المصير المأساوي الذي نساق إليه ، و لسان حالنا يردد بيت المتنبي:
عيد بأية حال عدت يا عيد = بما مضى أم لأمر فيك تجديد ؟
كانت هناك ، ضمن الكلاب المعتقلة ، وجوه أعرفها حق المعرفة . فقد نشأنا في الحي نفسه و تعاركنا طويلا بسبب القوت و الإناث . و ها قد آن الأوان لننسى أضغان الماضي و نتضامن مع بعضنا في هذه المحنة .
كانت السيارة تمضي و الكلاب تنبح بداخلها . و قد تذكرتُ القوانع التي تم اعتقالها في ظروف مماثلة ، خلال السنوات الماضية ، و كيف اقتيدت إلى جهة مجهولة و تمت تصفيتها بلا شفقة . و ها نحن بدورنا نساق إلى الهلاك و لا من يبكي علينا .
و خلال الطريق لاحظت باستغراب أن الكلاب المعتقلة كلها من الذكور، و تساءلتُ عن السر في ذلك . هل هناك فورگونيت خاصة بالذكور و أخرى خاصة بالإناث ، في إطار الفصل بين الجنسين ؟ أم أن السلطات تخطط لهلاك الذكور فحسب ؟ كيفما كان الحال فقد كنا في ورطة حقيقية لا خلاص منها .
و بعد حوالي ربع ساعة ، انعطفت بنا السيارة ثم انسابت عبر شارع الكسائي قبل أن تتوقف عند إشارة المرور الحمراء. و عندئذ ألقيت نظرة من النافذة فرأيت سيارة فخمة تقف قرب سيارتنا و بداخلها شخص يدخن السيجار و القسوة تشع من نظراته . كان واضحا أنه ظلم أشخاصا كثيرين في حياته دون أن يطرف له جفن . و قد عجبتُ عندئذ كيف يَنْعمُ هذا المخلوق بالحرية فيما نرسف نحن في الأغلال !
و في الجانب الآخر من الشارع رأيت بعض الناس عائدين بأكباش العيد فشعرت بحسرة لا مزيد عليها .
و قد كان وصولنا إلى المعتقل الذي تُحتجز فيه القوانع ، قبيل المغرب. و هناك لبثنا أياما عديدة في انتظار التقنيين المكلفين بالإجهاز علينا !
و ذات صبيحة مشؤومة ، جاء أشخاص يحملون المعدات الضرورية لإبادتنا ، و شرعوا في حَقْننا واحدا تلو الآخر بسوائل صفراء ثم حملونا من جديد في الفورگونيت و تركونا في الخلاء حيث كان ينبغي أن نموت .
لكننا لم نمت .
بقينا ننظر إلى بعضنا و نحن لا نصدق . و الظاهر أن السموم التي حقنونا بها سموم مغشوشة تم الحصول عليها بأثمنة زهيدة في السوق السوداء!
أو لعلها سموم انتهى أجلها و لم ينته أجلنا نحن !
المهم أننا نعرف جميعا خروب بلادنا مثلما نعرف الطريق التي سوف نسلكها إلى مرتع طفولتنا و صبانا .
فها نحن نعود إليك يا ساحة الكاميليا !
عبدالله- عدد الرسائل : 1759
العمر : 54
تاريخ التسجيل : 26/06/2008
رد: مذكرات كلب / عبدالقادر وساط
مذكرات كلب
( الحلقة الثامنة / من كتاب قيد الطبع)
-----------------------------------------
عبدالقادر وساط
-----------------------------------------
هناك عدد كبير من المخلوقات الضارية في ساحة الكاميليا .
و أكثرها ضراوة هو المجحوم " جُورْدي ."
إنه كلب أصهب ، شديد البطش ، غريب الأطوار ، لا يَحفظ عهدا و لا يرعى ذمة .
و حين يصاب بنوبة عصبية ، فإنه يطلق فحيحا مثل فحيح الأفاعي و زئيرا مثل زئير الأسود .
و قد جمعَ عدوّ الله بين القوة و القسوة و الذكاء . و هذا ما يجعل القوانع تشعر بالرعب حين تَرى طلعته البهية .
و هو ليس من مواليد ساحة الكاميليا . إذْ رأى النور في سوق دالاس ، و طاف بمختلف الأحياء الشعبية بالدار البيضاء ، قبل أن يستقر به المقام في ساحتنا المجيدة . و سرعان ما اشتد عُودُه و قويتْ شوكتُه و أصبح يمارس سطوته بكيفية منقطعة النظير .
و الكلاب تَزعم أنه ابنُ ذئبة لشراسته و خبثه و إقدامه و قدرته العجيبة على اقتحام الأهوال .
و قد سبق لي أن تحديتُه ، في بداية سطوته ، و دارت بيننا معركة ضارية أبليتُ فيها البلاء الحسن ، لكني أصبتُ بجراح عميقة و نجوتُ من الهلاك بأعجوبة . و يومئذ تأكدت من القوة الخارقة لهذا المجحوم الخبيث و أيقنتُ أنه جبار لا يُقهر .
و لا أكتمكم أني أصبتُ باكتئاب عميق بعد تلك الهزيمة النكراء ، و صرت أشعر أني مخلوق تافه ضئيل ، ضعيف الهمة ، لا قبل له بالأقوياء . بل إنني صرت أرى شبح الطاغية في كل مكان ، فلم أتخلص من تلك الحالة المرَضية إلا بعد شهور و شهور .
أما المجحوم الأصهب فقد واصل فينا سيرتَه المعهودة ، يضطهد ذكور القوانع في الساحة و ينزو على إناثها و هو واثق من قوته لا يخاف ضررا و لا يخشى انتقاما .
و إذا ما ظفر كلب من الكلاب الضالة بقطعة لحم فإنه يجد " جوردي" واقفا عند رأسه في الحين كأنه انبثق من العدم ! و عندئذ يتخلى القانع المسكين عن قطعته و ينسحب صامتا و هو لا يصدق أنه نجا بجلده .
ثم توالت الشهور و ضقنا ذرعا بظلم هذا الظالم ، فكان أن اجتمعنا ذات ليلة مقمرة بإحدى المزابل و قررنا أن نتصدى لهذا الوحش المخيف . و قد وقفَ كلبٌ سمين ، يُدعى " سرْداس" و شرع يخطب فينا و يستنهض الهمم، داعيا القوانع للذود عن كرامتها أو الموت في سبيل ذلك . و عندئذ شرعت الكلاب البائسة تردد بحماسة لا مثيل لها شعارات من نوع :" الموت للظالم " و " لا لاغتصاب إناثنا " و " الكاميليا لنا لا لغيرنا ."
و في النهاية قرَّ قرارُنا على أن نحاصر الخبيث و هو نائم في محطة البنزين ، في الهزيع الأخير من الليل ، ثم ننقض عليه مثل كلب واحد . و هكذا نستفيد من عنصر المفاجأة و نفتك بالطاغية الأصهب فتكا ذريعاً . ثم افترقنا بعد أن تعاهدنا جميعا على الوفاء و أقسمنا على القتال حتى آخر قطرة من الدم !
و في الليلة الموعودة ، التقينا في المكان المتفق عليه ، في زنقة بوكاسا . و لاحظتُ عندئذ أن الكلاب الحاضرة أقل عددا من تلك التي كانت في الاجتماع السابق .
و حتى تلك التي حضرتْ في الموعد لم تعد لها نفس الحماسة . لقد انطفأ بريق الشحاعة في العيون و حل محله ذلك التخاذل المألوف في المخلوقات المستضعفة كلما تعلقَ الأمر بمواجهة الظالم المستبد .
و هكذا سرنا نجرُّ قوائمَنا جَرّاً باتجاه محطة البنزين ، خلف زعيمنا " سرداس" ، الذي كان هو الآخر مكفهر الوجه كأنما يساق سوقا إلى ساحة الإعدام .
و أثناء السير ، انسحبَ أحدُ الكلاب في صمت تام و انصرف لحال سبيله دون أن تحتج القوانع الأخرى . ثم انسحبَ كلبٌ ثان و ثالث فصار عددنا دون العشرة .
و لما بلغنا محطة البنزين ، حيث ينام عدو الله ، خيمَ علينا صمت رهيب فلم نعد نسمع سوى أزيز الزيزان المنتشرة في كل مكان .
كان القمر يلمع في وسط السماء كأنه يراقبنا من عليائه و يسخر من حالتنا المزرية و من الخوف الشديد الذي كنا نشعر به و نحن عصابة من القوانع في مواجهة كلب أعزل .
على أننا استطعنا مع ذلك أن نحيط بالمجحوم وفق الخطة التي رسمناها . لكنه سرعان ما وقف و هو ينظر إلينا بازدراء لم أر مثله . كان يبدو على استعداد تام للمعركة . و قد أيقنت حينئذ أن أحد الخونة من صفوفنا قد أنبأه بكل شيء .
هكذا وقف اللئيم متوفزا غير هياب . ثم إنه أقعى قليلا ليستجمع قوته فيما كنا نحن ننظر إلى بعضنا ببلاهة كأننا نعاج مستنسخة . كان كل واحد منا ينتظر أن يبدأ الآخرُ الهجوم . فأين حماسة الليلة الماضية ؟ و أين مزاعم " سيرداس" الذي أقسم أنه سيكون أول الهاجمين ؟ الحق أننا وجدنا أنفسنا في ورطة حقيقية ، فلا نحن نجرؤ على القتال و لا نحن نستطيع الفرار .
أما " جوردي " الخبيث، فكان يتبختر و نحن من حوله كأنه أسد يتحرك وسط مجموعة من القطط القميئة . كان يزدرينا رغم اجتماعنا عليه ، كأنما يتمثل بقول الزمخشري:
لا أبالي بجمعهمْ = كلُّ جَمْعٍ مُؤَنَّثُ
و فجأة توجه المجحوم بسرعة خاطفة نحو الكلب كابْرُوسْ و عاجلَه بمخالبه الحادة ثم أسقطه أرضاً و غرز أنيابه القاطعة في عنقه و المسكين يعوي من الألم دون أن يتصدى أحدنا للدفاع عنه !
و حتى كلبكم المتواضع تحول في تلك الليلة إلى رعديد خانع . بل إني ندمتُ أشد الندم على مشاركتي في تلك " الكبسة " الفاشلة . و كم تمنيتُ لو كنت مريضا أو معتقلا في مصالح البلدية عوض أن أخاطر بحياتي في معركة غير متكافئة . فقد ألحق بنا الطاغية الأصهب هزيمة فادحة . كان يصرع الواحدَ منا ثم يقصد الآخر و نحن نصرخ و نستغيث و أنياب الظالم تنغرز في لحومنا الهشة و الدماء تسيل من جراحنا العميقة . أما " سيرداس" السمين فقد انبطح أرضا ليعبر عن استسلامه التام . و في النهاية أطلقنا قوائمَنا للريح ثم تفرقنا في الساحة و كل واحد منا يظن أن " جوردي " في أثره .
هذا ما حدث إذن في وقعة المحطة التي ستبقى وصمة عار على جبين الكلاب في ساحة الكاميليا .
و قد التقيتُ القانع " سيرداسْ" بعد أسابيع فهممتُ أن أبطش به لولا استعطافه الشديد . و قد صارحني هذا الجبان بأن قرار المعركة لم يكن هو القرار الصحيح و بأنه كان علينا أن ندخل في مفاوضات سلمية مع الظالم " جوردي." و هو ما جعلني أتمثل ببيت المتنبي:
يَرى الجبناءُ أنَّ العجْزَ عقْلٌ = و تلك خديعة الطبع اللئيمِ
( الحلقة الثامنة / من كتاب قيد الطبع)
-----------------------------------------
عبدالقادر وساط
-----------------------------------------
هناك عدد كبير من المخلوقات الضارية في ساحة الكاميليا .
و أكثرها ضراوة هو المجحوم " جُورْدي ."
إنه كلب أصهب ، شديد البطش ، غريب الأطوار ، لا يَحفظ عهدا و لا يرعى ذمة .
و حين يصاب بنوبة عصبية ، فإنه يطلق فحيحا مثل فحيح الأفاعي و زئيرا مثل زئير الأسود .
و قد جمعَ عدوّ الله بين القوة و القسوة و الذكاء . و هذا ما يجعل القوانع تشعر بالرعب حين تَرى طلعته البهية .
و هو ليس من مواليد ساحة الكاميليا . إذْ رأى النور في سوق دالاس ، و طاف بمختلف الأحياء الشعبية بالدار البيضاء ، قبل أن يستقر به المقام في ساحتنا المجيدة . و سرعان ما اشتد عُودُه و قويتْ شوكتُه و أصبح يمارس سطوته بكيفية منقطعة النظير .
و الكلاب تَزعم أنه ابنُ ذئبة لشراسته و خبثه و إقدامه و قدرته العجيبة على اقتحام الأهوال .
و قد سبق لي أن تحديتُه ، في بداية سطوته ، و دارت بيننا معركة ضارية أبليتُ فيها البلاء الحسن ، لكني أصبتُ بجراح عميقة و نجوتُ من الهلاك بأعجوبة . و يومئذ تأكدت من القوة الخارقة لهذا المجحوم الخبيث و أيقنتُ أنه جبار لا يُقهر .
و لا أكتمكم أني أصبتُ باكتئاب عميق بعد تلك الهزيمة النكراء ، و صرت أشعر أني مخلوق تافه ضئيل ، ضعيف الهمة ، لا قبل له بالأقوياء . بل إنني صرت أرى شبح الطاغية في كل مكان ، فلم أتخلص من تلك الحالة المرَضية إلا بعد شهور و شهور .
أما المجحوم الأصهب فقد واصل فينا سيرتَه المعهودة ، يضطهد ذكور القوانع في الساحة و ينزو على إناثها و هو واثق من قوته لا يخاف ضررا و لا يخشى انتقاما .
و إذا ما ظفر كلب من الكلاب الضالة بقطعة لحم فإنه يجد " جوردي" واقفا عند رأسه في الحين كأنه انبثق من العدم ! و عندئذ يتخلى القانع المسكين عن قطعته و ينسحب صامتا و هو لا يصدق أنه نجا بجلده .
ثم توالت الشهور و ضقنا ذرعا بظلم هذا الظالم ، فكان أن اجتمعنا ذات ليلة مقمرة بإحدى المزابل و قررنا أن نتصدى لهذا الوحش المخيف . و قد وقفَ كلبٌ سمين ، يُدعى " سرْداس" و شرع يخطب فينا و يستنهض الهمم، داعيا القوانع للذود عن كرامتها أو الموت في سبيل ذلك . و عندئذ شرعت الكلاب البائسة تردد بحماسة لا مثيل لها شعارات من نوع :" الموت للظالم " و " لا لاغتصاب إناثنا " و " الكاميليا لنا لا لغيرنا ."
و في النهاية قرَّ قرارُنا على أن نحاصر الخبيث و هو نائم في محطة البنزين ، في الهزيع الأخير من الليل ، ثم ننقض عليه مثل كلب واحد . و هكذا نستفيد من عنصر المفاجأة و نفتك بالطاغية الأصهب فتكا ذريعاً . ثم افترقنا بعد أن تعاهدنا جميعا على الوفاء و أقسمنا على القتال حتى آخر قطرة من الدم !
و في الليلة الموعودة ، التقينا في المكان المتفق عليه ، في زنقة بوكاسا . و لاحظتُ عندئذ أن الكلاب الحاضرة أقل عددا من تلك التي كانت في الاجتماع السابق .
و حتى تلك التي حضرتْ في الموعد لم تعد لها نفس الحماسة . لقد انطفأ بريق الشحاعة في العيون و حل محله ذلك التخاذل المألوف في المخلوقات المستضعفة كلما تعلقَ الأمر بمواجهة الظالم المستبد .
و هكذا سرنا نجرُّ قوائمَنا جَرّاً باتجاه محطة البنزين ، خلف زعيمنا " سرداس" ، الذي كان هو الآخر مكفهر الوجه كأنما يساق سوقا إلى ساحة الإعدام .
و أثناء السير ، انسحبَ أحدُ الكلاب في صمت تام و انصرف لحال سبيله دون أن تحتج القوانع الأخرى . ثم انسحبَ كلبٌ ثان و ثالث فصار عددنا دون العشرة .
و لما بلغنا محطة البنزين ، حيث ينام عدو الله ، خيمَ علينا صمت رهيب فلم نعد نسمع سوى أزيز الزيزان المنتشرة في كل مكان .
كان القمر يلمع في وسط السماء كأنه يراقبنا من عليائه و يسخر من حالتنا المزرية و من الخوف الشديد الذي كنا نشعر به و نحن عصابة من القوانع في مواجهة كلب أعزل .
على أننا استطعنا مع ذلك أن نحيط بالمجحوم وفق الخطة التي رسمناها . لكنه سرعان ما وقف و هو ينظر إلينا بازدراء لم أر مثله . كان يبدو على استعداد تام للمعركة . و قد أيقنت حينئذ أن أحد الخونة من صفوفنا قد أنبأه بكل شيء .
هكذا وقف اللئيم متوفزا غير هياب . ثم إنه أقعى قليلا ليستجمع قوته فيما كنا نحن ننظر إلى بعضنا ببلاهة كأننا نعاج مستنسخة . كان كل واحد منا ينتظر أن يبدأ الآخرُ الهجوم . فأين حماسة الليلة الماضية ؟ و أين مزاعم " سيرداس" الذي أقسم أنه سيكون أول الهاجمين ؟ الحق أننا وجدنا أنفسنا في ورطة حقيقية ، فلا نحن نجرؤ على القتال و لا نحن نستطيع الفرار .
أما " جوردي " الخبيث، فكان يتبختر و نحن من حوله كأنه أسد يتحرك وسط مجموعة من القطط القميئة . كان يزدرينا رغم اجتماعنا عليه ، كأنما يتمثل بقول الزمخشري:
لا أبالي بجمعهمْ = كلُّ جَمْعٍ مُؤَنَّثُ
و فجأة توجه المجحوم بسرعة خاطفة نحو الكلب كابْرُوسْ و عاجلَه بمخالبه الحادة ثم أسقطه أرضاً و غرز أنيابه القاطعة في عنقه و المسكين يعوي من الألم دون أن يتصدى أحدنا للدفاع عنه !
و حتى كلبكم المتواضع تحول في تلك الليلة إلى رعديد خانع . بل إني ندمتُ أشد الندم على مشاركتي في تلك " الكبسة " الفاشلة . و كم تمنيتُ لو كنت مريضا أو معتقلا في مصالح البلدية عوض أن أخاطر بحياتي في معركة غير متكافئة . فقد ألحق بنا الطاغية الأصهب هزيمة فادحة . كان يصرع الواحدَ منا ثم يقصد الآخر و نحن نصرخ و نستغيث و أنياب الظالم تنغرز في لحومنا الهشة و الدماء تسيل من جراحنا العميقة . أما " سيرداس" السمين فقد انبطح أرضا ليعبر عن استسلامه التام . و في النهاية أطلقنا قوائمَنا للريح ثم تفرقنا في الساحة و كل واحد منا يظن أن " جوردي " في أثره .
هذا ما حدث إذن في وقعة المحطة التي ستبقى وصمة عار على جبين الكلاب في ساحة الكاميليا .
و قد التقيتُ القانع " سيرداسْ" بعد أسابيع فهممتُ أن أبطش به لولا استعطافه الشديد . و قد صارحني هذا الجبان بأن قرار المعركة لم يكن هو القرار الصحيح و بأنه كان علينا أن ندخل في مفاوضات سلمية مع الظالم " جوردي." و هو ما جعلني أتمثل ببيت المتنبي:
يَرى الجبناءُ أنَّ العجْزَ عقْلٌ = و تلك خديعة الطبع اللئيمِ
عبدالله- عدد الرسائل : 1759
العمر : 54
تاريخ التسجيل : 26/06/2008
رد: مذكرات كلب / عبدالقادر وساط
مذكرات كلب
( الحلقة التاسعة / من كتاب قيد الطبع )
-------------------------------------------------
عبد القادر وساط
------------------------------------------------
كان الديك الوحيد في زنقة الميموزا قد شرعَ في الصياح ، مُعْلناً حلول الفجر .
و لم يكن الفجر قد حلّ. لكن هذا المخلوق المزعج لا يملك أي إحساس بالزمن . فهو يصيح تارة في منتصف الليل ، و تارة بعد طلوع الشمس. و قد يلوذ بالصمت أياما عديدة ، ثم يصحو ضميره المهني بكيفية مفاجئة ، فيقضي الليل بأكمله في الصياح !
و الحق أني لا أنخدع بصياحه . فنهاري أنا يبدأ حين تنطفئ آخر المصابيح الكهربائية و يصحو الحارس الليلي من نومه العميق .
و عندئذ يَكُون عليّ أن أغادر مكاني الأثير ، قرب السيارة المهترئة ، و أتجه إلى الساحة قبل مرور شاحنة الأزبال .
و كما علمتم ، فإني لا أطلب من دنياي سوى الكفاف . المهم عندي هو أنني أنعم بالحرية و أنني أمضي حيث أشاء حين أشاء .
فالحمد لله الذي جعلني كلبا ضالا و لم يجعلني كلبا من الكلاب البوليسية التي تشم روائح الحشيش و الأفيون ، و السلاسل حول أعناقها . .
و لا كلباً من كلاب سيبيريا ، التي تجر العربات في الثلوج ، فيما أصحابها يتصايحون من غير أن يبذلوا جهدا يُذكر.
و لا كلبا من كلاب السباق ، التي تنقطع أنفاسها و تنفطر أفئدتها من الجري في الحلبات .
و لا كلبا من كلاب السيرك الخنوعة ، التي تقوم بحركات و ألعاب مثيرة للشفقة .
و لا كلبا من كلاب المختبرات ، التي يذيقها العلماء القساة أنواعا من العذاب .
و على أية حال ، فالدم الذي يجري في عروقي لن يفيد المختبرات في شيء ، ما دمت أحصل على طعامي من أكوام النفايات . و المهم هو أنني كلب عصامي ، إن جاز هذا التعبير ، أتعب من أجل لقمة العيش . أقاتل حين يكون القتال ممكنا و أسلم قوائمي للريح حين يعترض طريقي مَنْ لا أقوى عليه ، متمثلا بقول المتنبي :
الرأيُ قبل شجاعة الشجعان = هو أولٌ و هْي المَحلّ الثاني
و لقد حباني الخالق ، جلت قدرته ، مخالب و أنيابا لأدافع عن نفسي ، لكنه وهبني أيضا قوائمَ أربع كي أنجو بجلدي ، حين تكون المعركة غير متكافئة و يكون خوضُها ضرباً من الجنون . و هكذا فإنني لا أدعي بطولة زائفة ، كما تفعلون أنتم ، معشر الآدميين ، حين يكتب الواحد منكم مذكراته ، أو يروي قصة حياته ، فينقلب بقدرة قادر إلى بطل صنديد ، يقتحم الأهوال دون خوف ، و يجهر بكلمة الحق دون تردد ، و يواجه الأعداء دون أن تطرف له عين !
أما كلبكم المتواضع هذا ، فإنه يعرف حدوده . و كما أسلفت ، فهو لا يجد غضاضة في الفرار حين يحيط به الأعداء ، لأنه مجبول على حب البقاء .
و إني لأدعو بالرحمة لصديقي القانع الطيب " تيتوسْ " ، الذي كان أول من لقنني هذه المبادئ المهمة في الحياة . فقد لزمتُه و لزمَني زمنا طويلا و كنا شاهدين على مرحلة مهمة من تاريخ ساحة الكاميليا . بل إننا كنا كنَدْمانَي جَذيمة ، لا نفترق ليلا و لا نهارا .
و أنتم تعرفون - يا سادة يا كرام - أن " ندمانَيْ جذيمة" أخَوان ، كانا يُنادمان الملك جَذيمة الأبرش فترة من الزمن ثم انقلب عليهما و قتلهما . و قد ذكرهما مُتَمّم بن نويرة في عينيته المفضلية الشهيرة ، التي يَرثي فيها أخاه مالكاً ، فقال :
و كنا كنَدْمانَيْ جَذيمة َ حقْبة ً = منَ الدهر حتى قيل لن يتَصَدَّعا
و هذه القصيدة من غرر الشعر. و فيها يقول متمم مخاطبا أخاه القتيل :
و إنّي متى ما أدْعُ باسمك لا تجبْ = و كنتَ جديراً أنْ تُجيبَ و تَسْمَعا
و من أبياتها كذلك :
و عشْنا بخير في الحياة و قبْلنا = أصابَ المنايا رَهْطَ كسْرى و تُبَّعا
فلمّا تفرقْنا كأنّي و مالكاً = لِطُول اجتماعٍ لم نبتْ ليلة ً معا !
و قريب من هذا قول عمرو بن معدي كرب الزبيدي :
و كُلُّ أخٍ مُفارقهُ أخُوهُ = لَعَمْرُ أبيك إلا الفَرْقدان
و الفَرْقَدان كما لا يخفى عليكم - يا سادة يا كرام - نَجمان قريبان من القطب الشمالي . و أكبرهما حجما هو الذي يُعرف بنجمة القطب . و الناس يهتدون به لثبات موقعه .
و قد ذكرهما الشاعر عَلقمة بن عَبَدَة في بائيته المفضلية ، حين قال مخاطبا الحارث بن جبلة émoticône frown هَداني إليك الفَرْقَدان و لاحِبٌ ) .
و اللاحب هو الطريق الواضح .
و علقمة هذا هو المعروف بالفحل ، و قد كان صديقا لامرئ القيس و له معه قصة مشهورة .
أما أجمل شعر وردَ فيه ذكْرُ الفرقدين فهو لشيخ المعرة ، في القصيدة الشهيرة التي يرثي فيها الفقيه الحنفي. فقد ذكرَ خلودَ هذين النجمين و فناءَ الأجيال المتتالية من البشر، فقال :
فاسأل الفرقديْن عمّنْ أحسَّا = منْ قَبيلٍ و آنَسا منْ بلادِ
كمْ أقاما على زوال نهارٍ = و أنارا لمُدْلجٍ في سَوادِ
رحم الله الشيخ أبا العلاء . فقد كان له خصوم كثيرون أساؤوا إليه في الحياة و الممات . بل إنهم كانوا ينعتونه بالكلب الأعمى . و مما قاله فيه أحدهم ، و هو الشيخ القاضي أبو جعفر محمد بن إسحاق الزوزني :
كلْبٌ عوى بمَعَرة النعمانِ = لما خلا عن ربْقة الإيمان
كنت كثيرا ما أحدث صديقي تيتوس ، رحمه الله ، عن هذه الأمور . و كان يستغرب كثيرا و يسألني عن سر اهتمامي بتاريخ مضى و لن يعود ، فيما نحن في ساحة الكاميليا نقاسي صنوفا من العذاب ، و الناس من حولنا يتحركون وسط أكوام النفايات و يستنشقون روائح الدخان في أجواء متوترة ، مفتوحة على جميع الاحتمالات . و قد تَحدث مأساة في أية لحظة . حريق يأتي بغتة على كل شيء. أو قنينة غاز تنفجر في مكان ما. أو بناية تنهار فجأة على رؤوس المارة . أو شاحنة تداهم الناس و الحيوانات على الرصيف .
و كنت حين أسمع كلامه ذاك ، أجيبه متمثلا ببيت للمعري :
فإنْ كان شرا فهْو لا بدَّ واقعٌ = و إنْ كان خيراً فهْو أضغاثُ أحلام ِ
( الحلقة التاسعة / من كتاب قيد الطبع )
-------------------------------------------------
عبد القادر وساط
------------------------------------------------
كان الديك الوحيد في زنقة الميموزا قد شرعَ في الصياح ، مُعْلناً حلول الفجر .
و لم يكن الفجر قد حلّ. لكن هذا المخلوق المزعج لا يملك أي إحساس بالزمن . فهو يصيح تارة في منتصف الليل ، و تارة بعد طلوع الشمس. و قد يلوذ بالصمت أياما عديدة ، ثم يصحو ضميره المهني بكيفية مفاجئة ، فيقضي الليل بأكمله في الصياح !
و الحق أني لا أنخدع بصياحه . فنهاري أنا يبدأ حين تنطفئ آخر المصابيح الكهربائية و يصحو الحارس الليلي من نومه العميق .
و عندئذ يَكُون عليّ أن أغادر مكاني الأثير ، قرب السيارة المهترئة ، و أتجه إلى الساحة قبل مرور شاحنة الأزبال .
و كما علمتم ، فإني لا أطلب من دنياي سوى الكفاف . المهم عندي هو أنني أنعم بالحرية و أنني أمضي حيث أشاء حين أشاء .
فالحمد لله الذي جعلني كلبا ضالا و لم يجعلني كلبا من الكلاب البوليسية التي تشم روائح الحشيش و الأفيون ، و السلاسل حول أعناقها . .
و لا كلباً من كلاب سيبيريا ، التي تجر العربات في الثلوج ، فيما أصحابها يتصايحون من غير أن يبذلوا جهدا يُذكر.
و لا كلبا من كلاب السباق ، التي تنقطع أنفاسها و تنفطر أفئدتها من الجري في الحلبات .
و لا كلبا من كلاب السيرك الخنوعة ، التي تقوم بحركات و ألعاب مثيرة للشفقة .
و لا كلبا من كلاب المختبرات ، التي يذيقها العلماء القساة أنواعا من العذاب .
و على أية حال ، فالدم الذي يجري في عروقي لن يفيد المختبرات في شيء ، ما دمت أحصل على طعامي من أكوام النفايات . و المهم هو أنني كلب عصامي ، إن جاز هذا التعبير ، أتعب من أجل لقمة العيش . أقاتل حين يكون القتال ممكنا و أسلم قوائمي للريح حين يعترض طريقي مَنْ لا أقوى عليه ، متمثلا بقول المتنبي :
الرأيُ قبل شجاعة الشجعان = هو أولٌ و هْي المَحلّ الثاني
و لقد حباني الخالق ، جلت قدرته ، مخالب و أنيابا لأدافع عن نفسي ، لكنه وهبني أيضا قوائمَ أربع كي أنجو بجلدي ، حين تكون المعركة غير متكافئة و يكون خوضُها ضرباً من الجنون . و هكذا فإنني لا أدعي بطولة زائفة ، كما تفعلون أنتم ، معشر الآدميين ، حين يكتب الواحد منكم مذكراته ، أو يروي قصة حياته ، فينقلب بقدرة قادر إلى بطل صنديد ، يقتحم الأهوال دون خوف ، و يجهر بكلمة الحق دون تردد ، و يواجه الأعداء دون أن تطرف له عين !
أما كلبكم المتواضع هذا ، فإنه يعرف حدوده . و كما أسلفت ، فهو لا يجد غضاضة في الفرار حين يحيط به الأعداء ، لأنه مجبول على حب البقاء .
و إني لأدعو بالرحمة لصديقي القانع الطيب " تيتوسْ " ، الذي كان أول من لقنني هذه المبادئ المهمة في الحياة . فقد لزمتُه و لزمَني زمنا طويلا و كنا شاهدين على مرحلة مهمة من تاريخ ساحة الكاميليا . بل إننا كنا كنَدْمانَي جَذيمة ، لا نفترق ليلا و لا نهارا .
و أنتم تعرفون - يا سادة يا كرام - أن " ندمانَيْ جذيمة" أخَوان ، كانا يُنادمان الملك جَذيمة الأبرش فترة من الزمن ثم انقلب عليهما و قتلهما . و قد ذكرهما مُتَمّم بن نويرة في عينيته المفضلية الشهيرة ، التي يَرثي فيها أخاه مالكاً ، فقال :
و كنا كنَدْمانَيْ جَذيمة َ حقْبة ً = منَ الدهر حتى قيل لن يتَصَدَّعا
و هذه القصيدة من غرر الشعر. و فيها يقول متمم مخاطبا أخاه القتيل :
و إنّي متى ما أدْعُ باسمك لا تجبْ = و كنتَ جديراً أنْ تُجيبَ و تَسْمَعا
و من أبياتها كذلك :
و عشْنا بخير في الحياة و قبْلنا = أصابَ المنايا رَهْطَ كسْرى و تُبَّعا
فلمّا تفرقْنا كأنّي و مالكاً = لِطُول اجتماعٍ لم نبتْ ليلة ً معا !
و قريب من هذا قول عمرو بن معدي كرب الزبيدي :
و كُلُّ أخٍ مُفارقهُ أخُوهُ = لَعَمْرُ أبيك إلا الفَرْقدان
و الفَرْقَدان كما لا يخفى عليكم - يا سادة يا كرام - نَجمان قريبان من القطب الشمالي . و أكبرهما حجما هو الذي يُعرف بنجمة القطب . و الناس يهتدون به لثبات موقعه .
و قد ذكرهما الشاعر عَلقمة بن عَبَدَة في بائيته المفضلية ، حين قال مخاطبا الحارث بن جبلة émoticône frown هَداني إليك الفَرْقَدان و لاحِبٌ ) .
و اللاحب هو الطريق الواضح .
و علقمة هذا هو المعروف بالفحل ، و قد كان صديقا لامرئ القيس و له معه قصة مشهورة .
أما أجمل شعر وردَ فيه ذكْرُ الفرقدين فهو لشيخ المعرة ، في القصيدة الشهيرة التي يرثي فيها الفقيه الحنفي. فقد ذكرَ خلودَ هذين النجمين و فناءَ الأجيال المتتالية من البشر، فقال :
فاسأل الفرقديْن عمّنْ أحسَّا = منْ قَبيلٍ و آنَسا منْ بلادِ
كمْ أقاما على زوال نهارٍ = و أنارا لمُدْلجٍ في سَوادِ
رحم الله الشيخ أبا العلاء . فقد كان له خصوم كثيرون أساؤوا إليه في الحياة و الممات . بل إنهم كانوا ينعتونه بالكلب الأعمى . و مما قاله فيه أحدهم ، و هو الشيخ القاضي أبو جعفر محمد بن إسحاق الزوزني :
كلْبٌ عوى بمَعَرة النعمانِ = لما خلا عن ربْقة الإيمان
كنت كثيرا ما أحدث صديقي تيتوس ، رحمه الله ، عن هذه الأمور . و كان يستغرب كثيرا و يسألني عن سر اهتمامي بتاريخ مضى و لن يعود ، فيما نحن في ساحة الكاميليا نقاسي صنوفا من العذاب ، و الناس من حولنا يتحركون وسط أكوام النفايات و يستنشقون روائح الدخان في أجواء متوترة ، مفتوحة على جميع الاحتمالات . و قد تَحدث مأساة في أية لحظة . حريق يأتي بغتة على كل شيء. أو قنينة غاز تنفجر في مكان ما. أو بناية تنهار فجأة على رؤوس المارة . أو شاحنة تداهم الناس و الحيوانات على الرصيف .
و كنت حين أسمع كلامه ذاك ، أجيبه متمثلا ببيت للمعري :
فإنْ كان شرا فهْو لا بدَّ واقعٌ = و إنْ كان خيراً فهْو أضغاثُ أحلام ِ
عبدالله- عدد الرسائل : 1759
العمر : 54
تاريخ التسجيل : 26/06/2008
رد: مذكرات كلب / عبدالقادر وساط
مذكرات كلب
( الحلقة العاشرة / من كتاب قيد الطبع )
--------------------------------------
عبدالقادر وساط
--------------------------------------
كان طائر اللقلاق يقف على ساق واحدة ، في عشه العالي ، فوق عمود الكهرباء .
و كنتُ أنظر إليه بنوع من الإشفاق . فهذا الطائر الغريب كان مخلوقا بشريا في القرون الذاهبة . و كان يَحكم بين الناس في أمور الدنيا، لكنه لم يشتهر بالعدل . إذْ كان يعاقب المظلوم و يلتمس العذر للظالم ، و يأخذ الحق من الضعيف و يعطيه للقوي . و هكذا حاقت به اللعنة الأبدية فتحول إلى طائر شريد ، يقضي حياته في الترحال .
هذا ما تقوله الأسطورة القديمة .
أما لقلاق ساحة الكاميليا هذا، فلا علم له بالأساطير. لقد جاء إلى الساحة منذ سنوات عديدة ، و بنى عشه فوق عمود الكهرباء ، و أصبح يقضي جزءا من السنة في عشه ذاك ثم يختفي شهورا عديدة قبل أن يظهر من جديد . إنه طائر مهاجر كما لا يخفى عليكم ، يا سادة يا كرام . و قد كان يقوم برحلة سنوية إلى أروبا ، و إلى أرض السويد على وجه التحديد. و في الموعد المحدد، يَعود إلى عشه العالي ، في ساحة الكاميليا .
و لطالما تساءلتُ مع نفسي هل هو طائر سويدي ، يحل سنويا بالمغرب ، أم طائر مغربي يهاجر بانتظام إلى أروبا ، دون حاجة للفيزا ؟
مهما يكن ، فإن هذا الطائر الحزين - الذي يسمى بالإنجليزية STORK - قد كفَّ عن السفر و الترحال منذ ثلاث سنوات أو أكثر ، و صار يلازم عشه آناء الليل و أطراف النهار ، حيث يقف تارة على ساقه اليمنى و طورا على اليسرى . و بين حين و آخر ، يلقي بعنقه إلى الخلف و يحرك منقاره بكيفية عجيبة ، يعرفها جيدا عشاق اللقالق .
و لستُ أعرف السبب الحقيقي الذي جعله يمتنع بعد هذا العمر عن رحلاته السنوية المألوفة ، و ينزوي هناك دون رفيقة تؤنس وحشته ، مع أن اللقالق تعيش حياة " زوجية " هادئة ، تتميز بالإخلاص المتبادل بين الذكر و الأنثى .
لقد اختار صاحبُنا حياة الوحشة و الوحدة ، و لم يعد يغادر عشه إلا للبحث عن قوته . و من يدري ؟ لعل موقع العش بالذات هو السبب في تغير طباعه . فالأسلاك الكهربائية تؤثر في المخ . بل إنها قد تؤدي إلى إتلاف الساعة البيولوجية التي تمكن الطيور المهاجرة من تحديد موعد الرحيل . و ها هو لقلاق الكاميليا قد لزمَ عشه ، فأصبح بذلك منتميا إلى الطيور الأوابد ، التي لا تبارح أماكنها طوال العام ، بعد أن كان من الطيور القواطع التي تغيرُ أوطانَها بانتظام .
و الأوابد أيضا - يا سادة يا كرام - هي الوحوش التي نفرتْ من الإنس . يقول الملك الضليل في معلقته :
و قد أغتدي و الطير في وُكُناتها = بمُنْجردٍ قَيْد الأوابد هَيْكَلِ
فهو يصف فرسَه بأنه " قيد الأوابد " . و المعنى هو : كأنّ هذا الفرس يقيد الوحوش عن بعد و يمنعها من الجري ما دام يلحقها بسرعة !
لكن لنعد إلى اللقلاق الحزين ، الذي صارَ قابعا في عشه باستمرار ، كأنه فيلسوف مجنح يتأمل أحوال الدنيا و يفكر في الحظوظ و المصاير . و لعله يقارن بين حياة الناس في تلك البلاد الأروبية البعيدة و بين الجحيم الذي يعيشه أبناء ساحة الكاميليا . هنا حيث تعيش أصناف عجيبة من المخلوقات ، وسط ضجيج لا ينقطع . إذ تختلط أصوات الشحاذين و الباعة المتجولين بأبواق الحافلات و مكبرات الصوت و نباح الكلاب الضالة . و بين حين و آخر، يعلو نهيق حاد ، معلنا عن التعايش الأبدي بين الإنسان و الحيوان !
كنتُ أفكر في حال هذا الطائر الفيلسوف الذي أضربَ عن السفر بكيفية غير مفهومة ، و كنتُ أشعرُ بنوع من التعاطف معه ، و إن كان مكاني في الأرض و مكانه في السماء.
و قد بقيتُ غارقا في تأملاتي إلى أن سمعتُ الهدير المزعج لشاحنة البلدية ، ثم رأيتُ سحابة من الدخان الأبيض تنبعث من خرطومها الفولاذي الطويل فأدركتُ أنها جاءت لتنفث سمومها الخطيرة في الساحة كالعادة . و ذلك في إطار ما يسمونه ببرنامج القضاء على الحشرات .
لا أكتمكم أني شعرت بالحنق عندئذ. فهذه المبيدات المغشوشة ستقتلنا نحن عوض القضاء على الحشرات . و قد ارتفعت السحابة البيضاء الكثيفة في السماء فحالت دون رؤيتي لطائر اللقلاق . و من يدري ؟ فلعل سموم البلدية هذه قد أسهمتْ بنصيبها في إتلاف الساعة البيولوجية لهذا الطائر الحزين . و هو لا يعاني وحده من هذه السموم الوبيلة ، فجميع الكائنات الحية تتعرض للضرر بسببها . أما الحشرات فإنها تتكاثر بشكل لا مثيل له ، كلما مرت شاحنة البلدية !
( الحلقة العاشرة / من كتاب قيد الطبع )
--------------------------------------
عبدالقادر وساط
--------------------------------------
كان طائر اللقلاق يقف على ساق واحدة ، في عشه العالي ، فوق عمود الكهرباء .
و كنتُ أنظر إليه بنوع من الإشفاق . فهذا الطائر الغريب كان مخلوقا بشريا في القرون الذاهبة . و كان يَحكم بين الناس في أمور الدنيا، لكنه لم يشتهر بالعدل . إذْ كان يعاقب المظلوم و يلتمس العذر للظالم ، و يأخذ الحق من الضعيف و يعطيه للقوي . و هكذا حاقت به اللعنة الأبدية فتحول إلى طائر شريد ، يقضي حياته في الترحال .
هذا ما تقوله الأسطورة القديمة .
أما لقلاق ساحة الكاميليا هذا، فلا علم له بالأساطير. لقد جاء إلى الساحة منذ سنوات عديدة ، و بنى عشه فوق عمود الكهرباء ، و أصبح يقضي جزءا من السنة في عشه ذاك ثم يختفي شهورا عديدة قبل أن يظهر من جديد . إنه طائر مهاجر كما لا يخفى عليكم ، يا سادة يا كرام . و قد كان يقوم برحلة سنوية إلى أروبا ، و إلى أرض السويد على وجه التحديد. و في الموعد المحدد، يَعود إلى عشه العالي ، في ساحة الكاميليا .
و لطالما تساءلتُ مع نفسي هل هو طائر سويدي ، يحل سنويا بالمغرب ، أم طائر مغربي يهاجر بانتظام إلى أروبا ، دون حاجة للفيزا ؟
مهما يكن ، فإن هذا الطائر الحزين - الذي يسمى بالإنجليزية STORK - قد كفَّ عن السفر و الترحال منذ ثلاث سنوات أو أكثر ، و صار يلازم عشه آناء الليل و أطراف النهار ، حيث يقف تارة على ساقه اليمنى و طورا على اليسرى . و بين حين و آخر ، يلقي بعنقه إلى الخلف و يحرك منقاره بكيفية عجيبة ، يعرفها جيدا عشاق اللقالق .
و لستُ أعرف السبب الحقيقي الذي جعله يمتنع بعد هذا العمر عن رحلاته السنوية المألوفة ، و ينزوي هناك دون رفيقة تؤنس وحشته ، مع أن اللقالق تعيش حياة " زوجية " هادئة ، تتميز بالإخلاص المتبادل بين الذكر و الأنثى .
لقد اختار صاحبُنا حياة الوحشة و الوحدة ، و لم يعد يغادر عشه إلا للبحث عن قوته . و من يدري ؟ لعل موقع العش بالذات هو السبب في تغير طباعه . فالأسلاك الكهربائية تؤثر في المخ . بل إنها قد تؤدي إلى إتلاف الساعة البيولوجية التي تمكن الطيور المهاجرة من تحديد موعد الرحيل . و ها هو لقلاق الكاميليا قد لزمَ عشه ، فأصبح بذلك منتميا إلى الطيور الأوابد ، التي لا تبارح أماكنها طوال العام ، بعد أن كان من الطيور القواطع التي تغيرُ أوطانَها بانتظام .
و الأوابد أيضا - يا سادة يا كرام - هي الوحوش التي نفرتْ من الإنس . يقول الملك الضليل في معلقته :
و قد أغتدي و الطير في وُكُناتها = بمُنْجردٍ قَيْد الأوابد هَيْكَلِ
فهو يصف فرسَه بأنه " قيد الأوابد " . و المعنى هو : كأنّ هذا الفرس يقيد الوحوش عن بعد و يمنعها من الجري ما دام يلحقها بسرعة !
لكن لنعد إلى اللقلاق الحزين ، الذي صارَ قابعا في عشه باستمرار ، كأنه فيلسوف مجنح يتأمل أحوال الدنيا و يفكر في الحظوظ و المصاير . و لعله يقارن بين حياة الناس في تلك البلاد الأروبية البعيدة و بين الجحيم الذي يعيشه أبناء ساحة الكاميليا . هنا حيث تعيش أصناف عجيبة من المخلوقات ، وسط ضجيج لا ينقطع . إذ تختلط أصوات الشحاذين و الباعة المتجولين بأبواق الحافلات و مكبرات الصوت و نباح الكلاب الضالة . و بين حين و آخر، يعلو نهيق حاد ، معلنا عن التعايش الأبدي بين الإنسان و الحيوان !
كنتُ أفكر في حال هذا الطائر الفيلسوف الذي أضربَ عن السفر بكيفية غير مفهومة ، و كنتُ أشعرُ بنوع من التعاطف معه ، و إن كان مكاني في الأرض و مكانه في السماء.
و قد بقيتُ غارقا في تأملاتي إلى أن سمعتُ الهدير المزعج لشاحنة البلدية ، ثم رأيتُ سحابة من الدخان الأبيض تنبعث من خرطومها الفولاذي الطويل فأدركتُ أنها جاءت لتنفث سمومها الخطيرة في الساحة كالعادة . و ذلك في إطار ما يسمونه ببرنامج القضاء على الحشرات .
لا أكتمكم أني شعرت بالحنق عندئذ. فهذه المبيدات المغشوشة ستقتلنا نحن عوض القضاء على الحشرات . و قد ارتفعت السحابة البيضاء الكثيفة في السماء فحالت دون رؤيتي لطائر اللقلاق . و من يدري ؟ فلعل سموم البلدية هذه قد أسهمتْ بنصيبها في إتلاف الساعة البيولوجية لهذا الطائر الحزين . و هو لا يعاني وحده من هذه السموم الوبيلة ، فجميع الكائنات الحية تتعرض للضرر بسببها . أما الحشرات فإنها تتكاثر بشكل لا مثيل له ، كلما مرت شاحنة البلدية !
عبدالله- عدد الرسائل : 1759
العمر : 54
تاريخ التسجيل : 26/06/2008
رد: مذكرات كلب / عبدالقادر وساط
مذكرات كلب
( الحلقة 11/ من كتاب قيد النشر)
----------------------------------------------
كانت جيريمْيا العجوز تغط في نوم عميق قُرب بائع الحلزون .
و يبدو أنها كانت تحلم بأمجادها القديمة . فقد كانت هذه الكلبة في شبابها فتنة للناظرين .
كانت تبعث الحسرة في نفوس القوانع و هي تتثنّى في مشيتها كأنَّ عظامَها من خيْزُران .
و ها هي اليوم قد شاخت و أصبحت تقضي أيامها في اجترار الأحزان .
و الحق أن ساحة الكاميليا لم تنجب عبر تاريخها الطويل مثل جيريميا في الحسن و البهاء . فقد كانت هذه الكلبة المليحة تخلب الألباب بنظراتها الساحرة. و كم شهدت الساحة من معارك دموية بين القوانع الراغبة في وصالها بأي ثمن كان ! أما هي فلم تكن تجود بنظرة واحدة على الضعاف و الجبناء . بل كانت تبصبص للأقوياء الذين يقتحمون الأهوال دون خوف .
و قد كنتُ جرواً صغيرا حين كانت هي في قمة النضج و الأنوثة . لكنني أذكر جيدا قدَّها المياس و دلالها الذي ما بعده دلال . كما أذكر مشيتها التي ينطبق عليها قول الشاعر الأعشى :
كأنّ مشْيتَها منْ بيت جارتها = مشيُ السحابة لا ريثٌ و لا عَجَلُ
أما جلدها الناعم فقد كان صقيلا مثل مرآة الغريبة .
و أنتم تعرفون - يا سادة يا كرام - أن العرب كانت تضرب المثل بمرآة الغريبة في الصقل و الصفاء . ذلك أن المرأة التي تنتقل بعد الزواج للإقامة بين عشيرة زوجها ، بعيدا عن أهلها و ذويها ، لا تجد سوى مرآتها تتأمل فيها محاسنها و تستجلي عيوبها . و لذلك فهي تتعهدها بالصقل و التلميع . و قد قال الشاعر ذو الرمة ( و خدٌّ كمرآة الغريبة أسْجَحُ .)
و لنعد إلى حديثنا عن جيريميا. فقد كانت هي محط الأنظار في ساحة الكاميليا وقد بقيت كذلك سنين عديدة ، تأتيها القوانع من كل الأحياء لتخطب ودها بكل الوسائل ،و تخوض من أجلها معارك ضارية . حتى القانع الجبان الرعديد " كابْروس" صار يتحلى بنزر من الشجاعة في ذلك الزمان ! و كانت الكلاب تستغرب حين ترى ذلك منه ، هو المعروف بجبنه الشديد . فقد كان يلوذ بالفرار إذا رأى جروا صغيرا يقترب منه ، و تطير نفسه شعاعا إذا سمع قطا يموء ، فكأنه يتمثل من فرط خوفه بقول عبيد بن أيوب :
لقد خفتُ حتى لو تَمرّ حمامةٌ = لقُلتُ عَدوٌّ أو طليعة مَعْشَرِ
و كان سيرداس اللئيم هو أيضا من عشاق جيريميا ، لكنه كان و لا يزال مجبولا على الخبث، يُظهرُ عكس ما يخفي و لا يتردد في الانسحاب من حلبة المنافسة حين يتصدى له الأقوياء، و تكفهر من حوله الأجواء. و قد كانت جيريميا تدرك جيدا ما ينطوي عليه القانع اللئيم من خبث و خسة و رياء ، فلم تكن تعيره أدنى اهتمام .
و ها هي الأيام و الشهور و السنوات قد فعلت فعلها في أهل ذلك الزمان ، و جَمال الأمس قد أصبح في خبر كان !
و ها هي جيريميا العجوز متمددة قرب بائع الحلزون ، و لسان حالها يردد قول الشاعر شجاع بن سِباع الضبي :
و أفْناني - و ما يَفْنىٰ - نهارٌ = و ليلٌ كلما يَمضي يَعُودُ
أو قول نَهْشَل بن حَرِّي التميمي :
و أفْنَتْني السّنون - و ليس تَفْنىٰ- = و تَعْدادُ الأهلَّة و المحاقِ
أو قول عمرو بن قميئة :
وأهلكني تأميلُ يومٍ وليلةٍ = وتأميلُ عامٍ بعد ذاك وعامِ
أو قول أبي قلابة الهذلي :
إن الرشادَ و إن الغيَّ في قَرَنٍ = بكل ذلك يأتيك الجديدانِ
و الجديدان ، كما لا يخفى عليكم ، يا سادة يا كرام ، هما الليل و النهار . و قد قالت شاعرة بني سليم :
إنّ الجديدَيْن في طول اختلافهما = لا يَفْسدان و لكنْ يَفْسدُ الناسُ
و قال ابن دريد في مقصورته الشهيرة :
إنّ الجديدين إذا ما اسْتَوْلَيا = على جديدٍ أدْنَياهُ للبلى
و إذا كانت جيريميا قد اقتربتْ من البلى ، فإنها أنجبت جيلا بأكمله من الكلاب الضالة ، المنتشرة في ساحة الكاميليا و في العديد من الساحات الأخرى و الأحياء ، في هذه المدينة الغول التي نسميها الدار البيضاء !
( الحلقة 11/ من كتاب قيد النشر)
----------------------------------------------
كانت جيريمْيا العجوز تغط في نوم عميق قُرب بائع الحلزون .
و يبدو أنها كانت تحلم بأمجادها القديمة . فقد كانت هذه الكلبة في شبابها فتنة للناظرين .
كانت تبعث الحسرة في نفوس القوانع و هي تتثنّى في مشيتها كأنَّ عظامَها من خيْزُران .
و ها هي اليوم قد شاخت و أصبحت تقضي أيامها في اجترار الأحزان .
و الحق أن ساحة الكاميليا لم تنجب عبر تاريخها الطويل مثل جيريميا في الحسن و البهاء . فقد كانت هذه الكلبة المليحة تخلب الألباب بنظراتها الساحرة. و كم شهدت الساحة من معارك دموية بين القوانع الراغبة في وصالها بأي ثمن كان ! أما هي فلم تكن تجود بنظرة واحدة على الضعاف و الجبناء . بل كانت تبصبص للأقوياء الذين يقتحمون الأهوال دون خوف .
و قد كنتُ جرواً صغيرا حين كانت هي في قمة النضج و الأنوثة . لكنني أذكر جيدا قدَّها المياس و دلالها الذي ما بعده دلال . كما أذكر مشيتها التي ينطبق عليها قول الشاعر الأعشى :
كأنّ مشْيتَها منْ بيت جارتها = مشيُ السحابة لا ريثٌ و لا عَجَلُ
أما جلدها الناعم فقد كان صقيلا مثل مرآة الغريبة .
و أنتم تعرفون - يا سادة يا كرام - أن العرب كانت تضرب المثل بمرآة الغريبة في الصقل و الصفاء . ذلك أن المرأة التي تنتقل بعد الزواج للإقامة بين عشيرة زوجها ، بعيدا عن أهلها و ذويها ، لا تجد سوى مرآتها تتأمل فيها محاسنها و تستجلي عيوبها . و لذلك فهي تتعهدها بالصقل و التلميع . و قد قال الشاعر ذو الرمة ( و خدٌّ كمرآة الغريبة أسْجَحُ .)
و لنعد إلى حديثنا عن جيريميا. فقد كانت هي محط الأنظار في ساحة الكاميليا وقد بقيت كذلك سنين عديدة ، تأتيها القوانع من كل الأحياء لتخطب ودها بكل الوسائل ،و تخوض من أجلها معارك ضارية . حتى القانع الجبان الرعديد " كابْروس" صار يتحلى بنزر من الشجاعة في ذلك الزمان ! و كانت الكلاب تستغرب حين ترى ذلك منه ، هو المعروف بجبنه الشديد . فقد كان يلوذ بالفرار إذا رأى جروا صغيرا يقترب منه ، و تطير نفسه شعاعا إذا سمع قطا يموء ، فكأنه يتمثل من فرط خوفه بقول عبيد بن أيوب :
لقد خفتُ حتى لو تَمرّ حمامةٌ = لقُلتُ عَدوٌّ أو طليعة مَعْشَرِ
و كان سيرداس اللئيم هو أيضا من عشاق جيريميا ، لكنه كان و لا يزال مجبولا على الخبث، يُظهرُ عكس ما يخفي و لا يتردد في الانسحاب من حلبة المنافسة حين يتصدى له الأقوياء، و تكفهر من حوله الأجواء. و قد كانت جيريميا تدرك جيدا ما ينطوي عليه القانع اللئيم من خبث و خسة و رياء ، فلم تكن تعيره أدنى اهتمام .
و ها هي الأيام و الشهور و السنوات قد فعلت فعلها في أهل ذلك الزمان ، و جَمال الأمس قد أصبح في خبر كان !
و ها هي جيريميا العجوز متمددة قرب بائع الحلزون ، و لسان حالها يردد قول الشاعر شجاع بن سِباع الضبي :
و أفْناني - و ما يَفْنىٰ - نهارٌ = و ليلٌ كلما يَمضي يَعُودُ
أو قول نَهْشَل بن حَرِّي التميمي :
و أفْنَتْني السّنون - و ليس تَفْنىٰ- = و تَعْدادُ الأهلَّة و المحاقِ
أو قول عمرو بن قميئة :
وأهلكني تأميلُ يومٍ وليلةٍ = وتأميلُ عامٍ بعد ذاك وعامِ
أو قول أبي قلابة الهذلي :
إن الرشادَ و إن الغيَّ في قَرَنٍ = بكل ذلك يأتيك الجديدانِ
و الجديدان ، كما لا يخفى عليكم ، يا سادة يا كرام ، هما الليل و النهار . و قد قالت شاعرة بني سليم :
إنّ الجديدَيْن في طول اختلافهما = لا يَفْسدان و لكنْ يَفْسدُ الناسُ
و قال ابن دريد في مقصورته الشهيرة :
إنّ الجديدين إذا ما اسْتَوْلَيا = على جديدٍ أدْنَياهُ للبلى
و إذا كانت جيريميا قد اقتربتْ من البلى ، فإنها أنجبت جيلا بأكمله من الكلاب الضالة ، المنتشرة في ساحة الكاميليا و في العديد من الساحات الأخرى و الأحياء ، في هذه المدينة الغول التي نسميها الدار البيضاء !
عبدالله- عدد الرسائل : 1759
العمر : 54
تاريخ التسجيل : 26/06/2008
رد: مذكرات كلب / عبدالقادر وساط
مذكرات كلب
( الحلقة 12 )
-------------------------------
عبدالقادر وساط
------------------------------
كانت النجوم تلمع في السماء، و أنا أتأملها من مكاني المعتاد ، قرب السيارة المهترئة ، مرددا قول أبي عثمان الخالدي :
كأنما نجومُها = في مَغربٍ و مَشرقِ
دراهمٌ منثورةٌ = فوق رداءٍ أزرقِ
فبينا أنا كذلك إذْ سمعتُ نباحاً شجياً ، مترعا بالأسى ، يسري في ذلك الليل ، كأنه موال حزين يحكي عن أحلام الكلاب الضالة في ساحة الكاميليا . و قد أدركتُ مصدره في الحين . إنه " باردوس" الأعمى ،صاحب الحنجرة الذهبية .
كان ذلك النباح الشجي يعلو شيئا فشيئا ثم يخفت تدريجيا، ثم يعود فيعلو من جديد إلى أن يبلغ المقامات العليا ، مع قوة شديدة في النبرات و تنويعات عجيبة في الأداء.
و هذا الكلب أعجوبة من أعاجيب الزمان . فقدْ فقدَ نعمة البصر، و هو في الرابعة من العمر ، لكنه لم يفقد نعمة الصبر و الصمود و التحدي .و كان سبب عماه أنه تلقى ضربة قوية على الجمجمة ، أدتْ إلى إتلاف المراكز البصرية في الدماغ . إثر ذلك دخل في غيبوبة عميقة ، فحسبنا أنه مات . ثم فوجئنا به يستعيد وعيه تدريجيا و يحرك قوائمه بالكثير من الجهد . لكن سرعان ما اكتشفنا أن الكلب البائس قد استعاد جذوة الحياة دون أن يسترجع نعمة البصر. إذ تأكد لنا أن عينيه المفتوحتين لا تريان شيئا مما حوله. لا شيء سوى الظلام الشامل المستديم .
لقد بقيت العينان سليمتين في الظاهر، لكن " باردوس" أصبح أعمى . و كم شعرتُ بالأسى آنئذ ، و كم تمثلتُ بقول الشاعر القديم الأسْوَد بن يَعْفَر النهشلي ، يصفُ عماه :
و منَ الحوادث - لا أبَا لكِ - أنني = ضُربَتْ عليَّ الأرضُ بالأسْدادِ
يريد أنه سُدّت عليه الأرض لأنه كان أعشى ثم عمِي.
و العجيب في الأمر أن " باردوس" لم يحتفظ بأية ذكرى عن تلك الضربة الغادرة التي تلقاها و لا عن الشخص الذي وجهها إليه . و حتى الكلاب التي شهدت الحادثة المأساوية كانت تتلعثم و تكتفي بأجوبة مبهمة إذا هي سُئلت عن ذلك .
و على أية حال، فقد كنا موقنين بعد وقوع المأساة أن ذلك الكلب العاثر الحظ لن يستطيع الاستمرار على قيد الحياة . والحال أن الكلاب البصيرة تجد صعوبة كبرى في البقاء، فما بالكم بكلب ضرير ؟
بيد أن باردوس أظهرَ لنا جميعا أنه كلب من طينة نادرة . إذ انسجم تدريجيا مع وضعه الجديد ، و تعلم كيف يتدبر أموره في الحياة اليومية رغم آفته ، و كيف يتلمس طريقه معتمدا على الشم و السمع و على الحدس الذي لا يخطئ و الفراسة التي لا تخيب .
و هو لم يكن يتكل على من أجل الحصول على طعامه و شرابه ، بل كان يصون نفسه عن طلب المعونة من أراذل الكلاب ، متمثلا بقول البحتري في مطلع سينيته الشهيرة :
صنتُ نفسي عمّا يُدَنّسُ نفسي = و ترفعتُ عنْ جَدا كلِّ جبْس
و بقول عنترة بن شداد :
و لقد أبيت على الطوى و أظلهُ = حتى أنال به كريمَ المأكلِ
و قد دأبتُ على زيارته ، في بداية محنته ، فترة من الزمن . و أذكر أنه كان يقف مغتبطا حين يشم رائحتي ثم يرحب بقدومي فيما عيناه مفتوحتان على ظلمة أبدية .
و مرة أخبرتُه أن كلاب الساحة حزينة من أجله و أنها تنوي الانتقام من الجاني فحرك عندئذ قائمته اليمنى بامتعاض و قال لي متسائلا :
- هل تعرف كلبا واحدا يتحلى بالشجاعة في ساحة الكاميليا ؟
و لما لم أستطع جوابا ، واصل قائلا :
- هناك مجموعة من القوانع الجبانة تعيش في هذه الساحة و تدّعي الشجاعة و الإقدام ...و أفضلها لا يساوي درهما واحدا في سوق الكلب !
و بعد أن سكت قليلا جعل يردد قول الشاعر دعبل الخزاعي :
إني لأفتح عيني حين أفتحها = على كثير و لكن لا أرى أحدا
و الحق أن أحاديثي مع باردوس لم تكن كلها جدا في جد . فقد حافظ على روح المرح التي كان يتميز بها قبل أن يضرب القدر ضربته . و كنت أرافقه ، بين حين و آخر، لنقوم معا بجولة في ساحة الكاميليا . و لم يكن يبدو عليه أنه كلب أعمى، فقد كانت عيناه سليمتين في الظاهر كما ذكرت . كما أنه كان يتحرك بعفوية عجيبة و يعبر الطريق عبور الواثق من نفسه . و كنا بعد طول تجوال نقصد مكانا ظليلا نستريح فيه .فإذا ما جلسنا شرعتُ أصف له ما أراه من مشاهد في ساحتنا التاريخية و هو يصغي باهتمام و يعلق بين حين و آخر تعليقا ساخرا أو يتمثل بشيء من أشعار الأقدمين . و من الأبيات التي كان يرددها باستمرار قول الشاعر مالك بن الريب :
فياليت شعري هل تَغيرَتِ الرحى = رحى الحرب أم أضحتْ بِفَلْجٍ كما هيا ؟
و قول جميل بن معمر :
فقلتُ لهُ : فيها قضى الله ما تَرى = عليَّ و هل فيما قضى اللهُ منْ ردِّ ؟
و قول بشار بن برد :
إذا أنتَ لم تَشربْ مراراً على القذى = ظمئتَ و أيّ الناس تصفو مَشاربُهْ ؟
و قد سألته مرة عن ذلك الشجن الذي ألمسه في نباحه ، كلما رفع عقيرته في الهزيع الأخير من الليل ، فأجابني قائلا :
- ويحك ! إني أحكي عن تاريخ الظلم في ساحة الكاميليا !
و الحق أن ساحتنا لم تعرف سوى الظلم عبر تاريخها الطويل المديد . ظلم ممزوج بالعنف و البطش و الكذب و الافتراء و الكذب و الرياء و بهيمنة القوي و خنوع الضعيف . و السعيد الحظ فينا هو الذي لم يتلق ضربة غادرة دون ذنب جناه ! و رحم الله صلاح عبد الصبور الذي قال :
هذا زمنٌ لا يَعرف فيه مقتولٌ مَنْ قاتِلهُ
و متى قتَلَهْ
و رؤوس الناس على جثث الحيواناتْ
و رؤوسُ الحيواناتِ على جثث الناسْ
فتحسَّسْ رأسَكْ
فتحسسْ رأسكْ
( الحلقة 12 )
-------------------------------
عبدالقادر وساط
------------------------------
كانت النجوم تلمع في السماء، و أنا أتأملها من مكاني المعتاد ، قرب السيارة المهترئة ، مرددا قول أبي عثمان الخالدي :
كأنما نجومُها = في مَغربٍ و مَشرقِ
دراهمٌ منثورةٌ = فوق رداءٍ أزرقِ
فبينا أنا كذلك إذْ سمعتُ نباحاً شجياً ، مترعا بالأسى ، يسري في ذلك الليل ، كأنه موال حزين يحكي عن أحلام الكلاب الضالة في ساحة الكاميليا . و قد أدركتُ مصدره في الحين . إنه " باردوس" الأعمى ،صاحب الحنجرة الذهبية .
كان ذلك النباح الشجي يعلو شيئا فشيئا ثم يخفت تدريجيا، ثم يعود فيعلو من جديد إلى أن يبلغ المقامات العليا ، مع قوة شديدة في النبرات و تنويعات عجيبة في الأداء.
و هذا الكلب أعجوبة من أعاجيب الزمان . فقدْ فقدَ نعمة البصر، و هو في الرابعة من العمر ، لكنه لم يفقد نعمة الصبر و الصمود و التحدي .و كان سبب عماه أنه تلقى ضربة قوية على الجمجمة ، أدتْ إلى إتلاف المراكز البصرية في الدماغ . إثر ذلك دخل في غيبوبة عميقة ، فحسبنا أنه مات . ثم فوجئنا به يستعيد وعيه تدريجيا و يحرك قوائمه بالكثير من الجهد . لكن سرعان ما اكتشفنا أن الكلب البائس قد استعاد جذوة الحياة دون أن يسترجع نعمة البصر. إذ تأكد لنا أن عينيه المفتوحتين لا تريان شيئا مما حوله. لا شيء سوى الظلام الشامل المستديم .
لقد بقيت العينان سليمتين في الظاهر، لكن " باردوس" أصبح أعمى . و كم شعرتُ بالأسى آنئذ ، و كم تمثلتُ بقول الشاعر القديم الأسْوَد بن يَعْفَر النهشلي ، يصفُ عماه :
و منَ الحوادث - لا أبَا لكِ - أنني = ضُربَتْ عليَّ الأرضُ بالأسْدادِ
يريد أنه سُدّت عليه الأرض لأنه كان أعشى ثم عمِي.
و العجيب في الأمر أن " باردوس" لم يحتفظ بأية ذكرى عن تلك الضربة الغادرة التي تلقاها و لا عن الشخص الذي وجهها إليه . و حتى الكلاب التي شهدت الحادثة المأساوية كانت تتلعثم و تكتفي بأجوبة مبهمة إذا هي سُئلت عن ذلك .
و على أية حال، فقد كنا موقنين بعد وقوع المأساة أن ذلك الكلب العاثر الحظ لن يستطيع الاستمرار على قيد الحياة . والحال أن الكلاب البصيرة تجد صعوبة كبرى في البقاء، فما بالكم بكلب ضرير ؟
بيد أن باردوس أظهرَ لنا جميعا أنه كلب من طينة نادرة . إذ انسجم تدريجيا مع وضعه الجديد ، و تعلم كيف يتدبر أموره في الحياة اليومية رغم آفته ، و كيف يتلمس طريقه معتمدا على الشم و السمع و على الحدس الذي لا يخطئ و الفراسة التي لا تخيب .
و هو لم يكن يتكل على من أجل الحصول على طعامه و شرابه ، بل كان يصون نفسه عن طلب المعونة من أراذل الكلاب ، متمثلا بقول البحتري في مطلع سينيته الشهيرة :
صنتُ نفسي عمّا يُدَنّسُ نفسي = و ترفعتُ عنْ جَدا كلِّ جبْس
و بقول عنترة بن شداد :
و لقد أبيت على الطوى و أظلهُ = حتى أنال به كريمَ المأكلِ
و قد دأبتُ على زيارته ، في بداية محنته ، فترة من الزمن . و أذكر أنه كان يقف مغتبطا حين يشم رائحتي ثم يرحب بقدومي فيما عيناه مفتوحتان على ظلمة أبدية .
و مرة أخبرتُه أن كلاب الساحة حزينة من أجله و أنها تنوي الانتقام من الجاني فحرك عندئذ قائمته اليمنى بامتعاض و قال لي متسائلا :
- هل تعرف كلبا واحدا يتحلى بالشجاعة في ساحة الكاميليا ؟
و لما لم أستطع جوابا ، واصل قائلا :
- هناك مجموعة من القوانع الجبانة تعيش في هذه الساحة و تدّعي الشجاعة و الإقدام ...و أفضلها لا يساوي درهما واحدا في سوق الكلب !
و بعد أن سكت قليلا جعل يردد قول الشاعر دعبل الخزاعي :
إني لأفتح عيني حين أفتحها = على كثير و لكن لا أرى أحدا
و الحق أن أحاديثي مع باردوس لم تكن كلها جدا في جد . فقد حافظ على روح المرح التي كان يتميز بها قبل أن يضرب القدر ضربته . و كنت أرافقه ، بين حين و آخر، لنقوم معا بجولة في ساحة الكاميليا . و لم يكن يبدو عليه أنه كلب أعمى، فقد كانت عيناه سليمتين في الظاهر كما ذكرت . كما أنه كان يتحرك بعفوية عجيبة و يعبر الطريق عبور الواثق من نفسه . و كنا بعد طول تجوال نقصد مكانا ظليلا نستريح فيه .فإذا ما جلسنا شرعتُ أصف له ما أراه من مشاهد في ساحتنا التاريخية و هو يصغي باهتمام و يعلق بين حين و آخر تعليقا ساخرا أو يتمثل بشيء من أشعار الأقدمين . و من الأبيات التي كان يرددها باستمرار قول الشاعر مالك بن الريب :
فياليت شعري هل تَغيرَتِ الرحى = رحى الحرب أم أضحتْ بِفَلْجٍ كما هيا ؟
و قول جميل بن معمر :
فقلتُ لهُ : فيها قضى الله ما تَرى = عليَّ و هل فيما قضى اللهُ منْ ردِّ ؟
و قول بشار بن برد :
إذا أنتَ لم تَشربْ مراراً على القذى = ظمئتَ و أيّ الناس تصفو مَشاربُهْ ؟
و قد سألته مرة عن ذلك الشجن الذي ألمسه في نباحه ، كلما رفع عقيرته في الهزيع الأخير من الليل ، فأجابني قائلا :
- ويحك ! إني أحكي عن تاريخ الظلم في ساحة الكاميليا !
و الحق أن ساحتنا لم تعرف سوى الظلم عبر تاريخها الطويل المديد . ظلم ممزوج بالعنف و البطش و الكذب و الافتراء و الكذب و الرياء و بهيمنة القوي و خنوع الضعيف . و السعيد الحظ فينا هو الذي لم يتلق ضربة غادرة دون ذنب جناه ! و رحم الله صلاح عبد الصبور الذي قال :
هذا زمنٌ لا يَعرف فيه مقتولٌ مَنْ قاتِلهُ
و متى قتَلَهْ
و رؤوس الناس على جثث الحيواناتْ
و رؤوسُ الحيواناتِ على جثث الناسْ
فتحسَّسْ رأسَكْ
فتحسسْ رأسكْ
عبدالله- عدد الرسائل : 1759
العمر : 54
تاريخ التسجيل : 26/06/2008
مواضيع مماثلة
» الرُّقَيّات /قصة قصيرة / عبدالقادر وساط
» في المدينة / عبدالقادر وساط ( أبو سلمى )
» سَعْد ورضا -قصة قصيرة - عبدالقادر وساط
» شبيهك أيضا لا يدخن - قصة قصيرة - عبدالقادر وساط
» عبدالقادر الراشدي
» في المدينة / عبدالقادر وساط ( أبو سلمى )
» سَعْد ورضا -قصة قصيرة - عبدالقادر وساط
» شبيهك أيضا لا يدخن - قصة قصيرة - عبدالقادر وساط
» عبدالقادر الراشدي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى