دار قديمة
صفحة 1 من اصل 1
11122016
دار قديمة
دار قديمة...
وصل تعيينه كموظف في مدينة (....) فرح عبد الغني بالفرصة النادرة والرحلة الذاهبة نحو المجهول , احتفل بالقرار الماديّ ووزّع إكراميات الشّرب على الأصدقاء ..هيّأ نفسه للسّفر القبليّ كي يتفقّد أحوال المدينة ويكتري منزلا مناسبا للعزوبية ..وخلال يومين قضاهما في الفندق اكترى دارا تتكوّن من غرفة ومطبخ وبهو بين سكان بسطاء في حيّ على هامش المدينة.. ..ولم يستقر فيه إلّا بعد أن ودّع أهله وأصدقاءه وحمل معه أثاثا ناقصا سيكمّله بعد رواتب شهرية ..
بدأ العمل , فتح قلبه لزملائه في الوظيفة وعرّف نفسه بدون ادّعاء أو غرور ..ذاع خبره كساكن جديد ..أعجب سكّان الحي بشخصية عبد الغني وأخلاقه , ارتاح الموظّفون بوجوده بينهما , إلّا أنّ المنزل أثار غضبه لأنّه لا يكفى ضيوفه والوافدين من عائلته خلال العطل والزيّارات, فكم من مرّة بات داخل المطبخ أو على السطح أيّام الحرّ ..وصّى السماسرة ليبحثوا له عن منزل أوسع ..لم ينتظر طويلا إذ أتاه الخبر من سمسار وجد له سكنا عتيقا في الحي القديم المتاخم لوسط المدينة والقريب من المقبرة , انتهت عقدة الضّيق السّكني ..زار الدّار الجديدة ..هواء ..شمس ..سطح ..ثلاث غرف ..صالة مطبخ وحمّام ..أتمّ الاتّفاق , سكنها والفرحة أخبرت العائلة والأصدقاء ..تعرّف على جيرانه , معلّم وتاجر وموظّف ..كلامهم قليل ومعاملتهم طيبة ..احتاط وحذّر لسانه , لم يضغط عليهم لفكّ الصمت ..أبان عبد الغني عن سلوك محترم وتحلّى بالمعاشرة الشريفة ..استأنس الحيّ دخوله وخروجه , فلا عيب فيه ولا زيادة في معاملاته ..اشترى ما يحتاج إليه من المحلّات التجارية...أكمل رغباته والحاجة تبقى رهن إشارة الغد وفلوسه ..بات ليلته داخل غرفة السكن القديم , وعلى السرير تاه تفكيره ليقفز كالملسوع , سمع والدّم يهرب من خديه خبطا لدفّة نافذة , هرع فأغلقها مبرّرا ذلك بتيّار هوائيّ مفاجئ , عاد إلى سريره فسقط كأس ليزيد من ارتباكه وتتمدّد الرعشة في جسده حين تحرّكت أصوات كحفيف الشجر وحشرجة من حلق حيوان, ارتاب عبد الغني فالتصق فوق سريره باحثا عن نوم ينسيه انزعاجه ....
في الصباح اتّصل بوالدته عبر الهاتف ..
الأمّ : ألو
عبد الغني : أنا ابنك
الأمّ: ما بك بنيّ ؟! أشعر بتغيّر في صوتك
عبد الغني : أرهبتني الدار التي أقطنها , ففيها كلّ شيء , يتحرّك وكأنّها مسكونة بجنّ أو شيطان
الأمّ : اسمع بني , أفرغ حليب معزة في مجرى المياه ورشّ غرفتك بحليب البقرة والملح لتنام هادئ البال
عبد الغني : شكرا أمّي ..
اشترى الحليب كما وصّته أمّه وعند رشّه , صعد دخان يزحف كالثعبان عبر الحائط , تضخّم خوفه وهو يتبع سريان الدخان فاتحا فمه المحاط بعرق منتشر على وجهه الشاحب إلى أن اقترب الدخان من السّقف فذاب فيه , استغرب وتزلزل جسمه بالهلع فسقط منبطحا ومغمى عليه ..
كان أقرب الناس إليه موظّف قرب مكتبه يبادله التحيّة والكلام في حدود الصّداقة البريئة ...طرق على الباب بقوّة وركله برجله , انتظر وخبطه على الباب مستمرّ ..أخيرا فتح ليرى عمر عبد الغني كدائخ مصفرّ الوجه ..
عمر : ما بك ؟
عبد الغني : لا شيء ...أدخل
عمر : أنفك دام وحالتك سيّئة لتقول لا شيء !
عبد الغني : اجلس لأحكي لك ما جرى لي ... وأدعوك لتناول طعام العشاء معي وتؤنس وحدتي
عمر : سأفكّر ..لكن دعني أعالج جرح أنفك ..
عبد الغني : إنه جرح بسيط فلا تفكّر في الردّ ..فالتفكير تناقضات تضيّع الفرص
عمر : وأنت , لا تنس يوم الجمعة !
عبد الغني : سأسجلها في البطن ..أريدك أن تبيت معي الليلة لأحكي لك ما وقع في داري
عمر : لا ..هل تريد أن تشكّ زوجتي وأنا في بيت أعزب !.
عبد الغني : اسمع أخي الكريم , بالأمس تزعزعت الأواني ورجّ خبط عنيف نوافذ الغرف رغم أنّي أغلقت إحداها ...وسرت عبر أذنيّ أصوات غريبة , ولمّا سألت أمّي أوصتني لأصبّ الحليب وأرشّه في غرفتي مع الملح وفي مجرى المياه... وكانت المفاجأة أن تحوّل إلى دخّان زحف نحو سقف الغرفة فذاب غشوت فسقطت أرضا , لذا وجدتني في حالة مزرية وأنفي مجروح بسبب السّقطة , فما رأيك ؟...
عمر : مشهد خارق ..ومرعب ..فهل حلمت تلك اللّيلة ؟
عبد الغني : لا ...ما قلته حقيقة ..
عمر : انس الحالة .. ..
تحمّل عبد الغني الحالة , تغيّرت وتنوّعت , طيّرت النوم من عينيه ولم يغمضها إلّا نادرا ...وأزفت الجمعة التي انتظرها بفارغ الصّبر, تناولا طعام الغذاء ومن أجل الاستراحة قبل الذّهاب إلى العمل , صعدا إلى غرفة بسيطة ومتوسّطة المساحة ..مفروشة بطريقة عادية ... تقع مجاورة لغرفة نوم عمر وزوجته .
عمر : هل أعجبتك الغرفة ؟
عبد الغني : إنها مريحة ومرتّبة بذوق عجيب , أبعدت النّوم عن عينيّ..
عمر : ألجأ إليها للمطالعة والراحة
عبد الغني : رائع ...ما ..
يسكت ..وهو ينظر إلى لوحة فنيّة ملقاة على الأرض ومائلة نحو جدار الغرفة...
عمر : أراك تنظر إليها بإمعان ..هل فتنتك ؟ !
عبد الغني : جلبتني ألوانها الزّاهية , واستغربت لوجودها على هذا الشكل وكأنها أهملت عنوة
عمر : اشترتها زوجتي فلم تجد لها مكانا يناسب فنّها
عبد الغني : غريب شكلها
عمر : ما الغريب فيها ؟
عبد الغني : الألوان المشعّة بطريقة تبهر العين , فيها طيور كثيرة يقابلها صيّاد يصوّب بندقيته نحوها والرّصاصة في بداية انطلاقها محاطة بنيران ودخان أبيض ورمادي...وعينا الصيّاد يعبّران عن شرّ تحت حاجبين مقوّسين بالغضب ولوعة التسديد.....
عمر : إنّك واصف دقيق ومبدع ..فأنا أرى اللّوحة عادية ولأوّل مرّة أدقّق فيها حسب تحليلك ..
عبد الغني : ما أعجب رسومها ! أعتقد أنّ يد الفنّان أتقنت تناسق الألوان وتجسيد المخلوقات شكلا...
عمر : هل تملّكتك لهذه الدّرجة ؟
عبد الغني : إنّها تحفة
عمر : إن رغبت الحصول عليها سأهديها لك
عبد الغني : باريت....لقد ارتبطت بها وسلبت عقلي ..أتمنّى أن توافق زوجتك..
عمر: سأحاول إرضاءك ..ولا دخل لزوجتي في هدية للأصدقاء
عبد الغني : استشرها فلن تخسر شيئا
انتهى يوم الضيافة ..وافقت الزّوجة ليهدي اللّوحة لعبد الغني ..ودّع صديقه عمر وشكر زوجته , حملها إلى الدار بعد نهاية عملهما في الإدارة ..احتار في اختيار مكان لها ... أخيرا علّقها على جدار غرفة نومه ..فتعلّقه بها فرض عليه وضعها أمام عينيه للتمتّع بجمالها قبل النوم والقيلولة وأوقات اليقظة....في ليلته الأولى مع اللّوحة...وقبل النوم , رأى مسمارها العلويّ غير ثابت , أتى بمطرقة صغيرة , صعد كرسيّا قزميّا , دقّ المسمار بقوّة فاجأه صراخ مدوّ....انزلق عن الكرسيّ فسقط ذعرا على الأرض رأى سائلا أسودا يسيل من بين الحائط وبرواز اللّوحة ..ارتجف ..سال عرق من عنقه وجبهته ..اصفر وجهه رعبا وازداد هلعه لمّا سمع صوت الرّصاص المنطلق من بندقية الصيّاد ارتعد وتحرّكت رعشة في كلّ جسمه ..وتضخّم فزعه حين رأى الطّيور تغادر اللّوحة وتحوم في الغرفة , تصطدم تارة بالنافذة وأخرى بالحائط أو بمبعث ضوء عبر الزجاج العلوي فوق الباب المغلق , جحظت عيناه.. أغمضها بساعده الأيمن للاحتماء من أخطاء الطيور ومهاجمتها , اختبأ تحت الغطاء وهو يرتجف كمصاب ببرد سامّ وازداد ارتعاده عندما أحس بسقوط ما لم يعلم فوق الغطاء , أزاحه بمهل فرأى ريش الطّيور والدماء متناثرة على الغطاء ..وبمجرد أن أبعد عنه الغطاء , جحظت عيناه متمعّنتان وركّز عقله المبهور في فضاء غرفته, فلم ير شيئا , اعتقد أنّ الإعجاب المفرط تحوّل إلى هواجس من الحلم ... نام مضطربا ونفسيته متيقّظة ..وفي الصباح تمكّن منه الوجل فاختلطت أموره ...اتّهم النسيان ...
دعا عبد الغني عمر إلى إحدى المقاهي , طلبا معا كأسي قهوة...
عمر : لونك متغيّر أكثر من الحالة الماضية , وكأنّك لم تذق طعم النّوم وعشت كابوسا !
عبد الغني : لوحتك مصيبة
عمر : ماذا ؟ هديتي كارثة !
عبد الغني : نعم ..بمجرّد أن علّقتها على حائط غرفتي وقع أكثر ممّا حكيت لك عن الدّار أثناء العمل فتقت بتبريراتك , لمّا أعدت طرق المسمار لأثبّت اللّوحة على الحائط سال مائع أسود وأطلق الصيّاد رصاصا مدويّا وكأنّه عاد إلى الحياة ...طارت الطّيور لتحوم في غرفتي , أغمضت عينيّ لأحمي وجهى ثمّ اختفيت تحت الغطاء , ولمّا نحّيته وفتحت عينيّ عاد السّكون إلى اللّوحة واختفى ما شاهدت من الغرائب...
عمر : ربما فقدت وعيك فصار إعجابك خيالا
عبد الغني : هذا ما تصوّرت لحظتها ..لكنّي رأيت بالفعل ما قلت , إن لم تثق بحكايتي زرني اللّيلة لتقف على الحقيقة...
عمر : سأزورك ...لكن لا تنسى أنّي أثق بكلامك ..لقد استهوتني الخرافة
عبد الغني: اشرب قهوتك ..وسأنتظر زيارتك
زاره عمر ليلة نفس اليوم ..وقف بجانب عبد الغني مقابل اللّوحة , بدأت أصوات الرصاص تدوّى في الغرفة والطيور ترفرف وتزقزق في فضاءها خائفة..
عبد الغني : أسمعت صوت الرّصاص ؟!! هل ترى الطيور ؟
عمر : أنا لا أسمع سوى صوتك ..ولا أرى سوى أثاث غرفة نومك !..اللّوحة معلقة في مكانها هادئة رسومها..
عبد الغني : ماذا ؟
عمر : لا ماذا ؟ ولا هذا ! ...لا تسألني ما لا أدرك ..ولا تفرض عليّ خيالك المريض
عبد الغني : أنا لست مريضا ..ها هي الطّيور كما أراها تحوم حولنا والصيّاد يطلق عليها نيران بندقيته , أنظر إليها..
وتبدو على عبد الغني حركات الحذر وصدّ لهجوم ما كالأبله أو كمن يهشّ وينشّ الذّباب ..
عمر : هل جننت ؟ هل تريد أن أقع فريسة توهّمك ؟ ما هذه التحرّكات المبهمة ؟
عبد الغني : ألا ترى السائل الأسود ؟
عمر : لا ....ثمّ لا...
عبد الغني : ساعدني إذا
عمر : كيف أساعدك وأنا لا أرى ما تراه ؟!
عبد الغني : مساعدتك ضرورية .. إنّك لا ترى شيئا مما قلت , وهذا الأمر يعذّبني ...ويزيدني توتّرا..
عمر : إلى حدّ الآن لا أرى الطيور ولا أسمع العيّارات !
عبد الغني : هل جننت أم سحرت ؟ لتحكم عليّ بالخطأ في أحوالي !
عمر : الربّ أعلم
عبد الغني : أخي ..أنا لازلت على نفس الحالة التي رويتها لك , ستصعب عليّ الحياة في هذه الدار , سأرحل..
عمر : أتفرّط في دار هائلة ؟... زر طبيبا نفسيا أو فقيها لتفكّ عقدة الدار القديمة !..
وتوقّفت الأوهام حينها تغيّرت حركات عبد الغني واستقرت أعضاؤه ..
عبد الغني : لن أزور أحدا ..لست مصابا بلوثة أو سحر ..سأحرق اللّوحة
عمر : أحرقها الآن ؟
عبد الغني : سأشعل فيها النّار بعد أن عادت إلى حالتها الطبيعية
عمر : سأودّعك ..زوجتي في انتظاري
عبد الغني : سلّم عليها ..واحك ما قلته عن لوحتها .
عمر : حاضر ..حاول أن تتّصل بي إن جدّ جديد
لجأ عبد الغني إلى سريره معتقدا أن خلوده للنّوم سيمنع حركة رسومات اللّوحة , أغمض عينيه متمنيا الرّاحة , لكنّ الذّعر استبدّ بالبال وبدأ يشعر وكأن الطيور تتساقط عليه إثر وابل من ضربات النيران فأحسّ أن المجروحات فوق غطاءه تتخبط كالمذبوحات.. استيقظ كالمسعور المرهق بدنه , بدأ يصرخ ويكثر من الدعاء لينجو ويبعد عنه البلاء انطلقت رصاصة لطمت كتفه , تأوّه ...اتجه نحو المرآة لا أثر للجرح والدّم ..انخفضت الأصوات شيئا فشيئا , وقلّت الطلقات , وبعد منتصف الليل خيّم الهدوء ...انتقل عبد الغني بسرعة إلى المطبخ وهو يحمل اللّوحة وكأنّه يستتر من الموهوم ولازالت الرعدة تعمّ لحمه وجلده , ألقاها داخل سطل معدنيّ ..انفجر زجاجها وتشتّت على وجهه , ارتبك وخشي أن يصبح مشوّها وأمام المرآة شاهد سلامته من الخدوش , بحث عن علبة أعواد الثقاب , أشعل إحداها فأحرق اللّوحة داخل السطل , بقي واقفا , اندهش وتراجع ليلتصق بجدار المطبخ ...أفزعته النّار الغريبة التي لم يشاهد مثلها في حياته ....التهمتها النيران فصارت رمادا بعثرت فيه ألوانها المختلفة... .
اتّصل عبد الغني بعمر , دعاه للقائه , مرّت ساعة بعد شروق الشمس , حضر عمر وهو يلهث قبل معرفة المفاجأة , وجده مكفهرّ الوجه وكأنّ السّهر وهروب النوم عن جفنيه هزّا نفسيّته .
عبد الغني : صباح الخير
عمر : صباح الخير
عبد الغني : أحرقت اللّوحة كما وعدتك...
عمر : حسنا فعلت ..وهل تشعر الآن براحة نفسية ؟
عبد الغني : نعم ..لم أعد أرى الطيور وأسمع الطّلقات
عمر : بداية هائلة ...سلامتك
عبد الغني : لو حضرت عملية الحرق , لرأيت عجبا !
عمر : ماذا جرى ؟
عبد الغني : لهيب مذهل ومرعب ..ألوان كثيرة اختلطت برماد المحروقة ..تصاعد الدخان فارتطم بسقف المطبخ ..وقبل ذلك سمعت صوتا متنوّعا للحرق له نقرات غريبة في السّطل ..ومن خلال الأدخنة تمدّدت خيوط بيضاء وحمراء وخضراء ..لو رأيت أشكال النار المشتعلة لاستغربت...
عمر : هذا ضرب من الخيال المجنون
عبد الغني : وأكثر ..رجّ المشهد قلبي واختنق صدري بالرّهبة والشكّ
عمر : المهم أنهيت ما يزعجك
عبد الغني : نعم
عمر : انس ما فات ..هيا بنا إلى جولة... فاليوم راحة لترافقني ونتناول طعام الغذاء
عبد الغني : منذ أن عرفتك وأنا أتمنى فرص الدعوة
عمر : قل أنك معجب بطبخ الوالدة وزوجتي
عبد الغني : نعم ..هذه حقيقة نابعة من بطن ذوّاق
يضحكان ..يغادران الدار ...
قضى عبد الغني النهار مرتاحا , أحس بطرب التخلّص من ذلك الوهم الذى لم يعرف مصدره ..قبل أن يلجأ ليلا إلى سريره كالمعتاد , اقترب من الحائط وهو يمسك بيده خرقة لمسح السائل الأسود وبمجرّد أن وضع يده انتشر بين أصابعها دخان لا رائحة له اهتزّ جسده بصعقة أسقطت الخرقة فتراجع نحو سريره وبقي جسمه يشطح من الخوف ..أغمض عينيه متأكّدا من لوحة شيطانية لم تفارق داره ....خمد كلّ شيء حوله وبداخله حسب اعتقاده ..وهو في خضمّ الارتخاء المرغم على ذاته, قفز جسمه دون أن يغادر الفراش إذ انطلق دويّ الرّصاص بقوّة أكثر , ورأى النّيران تتقاذف نحو الطيور الهاربة والصيّاد أمامه كأنه في موسم صيد يطلق العيّارات ككومة نارية فتزداد اشتعالا كلّما أصابت بعضها البعض , وتتساقط الشظايا فوق غطاء عبد الغني ...هاله الأمر , ارتبك , انكمش جسده مجموعا في ذاته اتّقاء سقوط النيران التي تترك بقعها السوداء المنتشرة في غرفته, ثم تختفى ..لم تحرق النار أي شيء لأنّها تنقشع ويمتصّها حيّزها , مشى عبد الغني فوق السّرير , وثب نحو الأرض , توجّه نحو المطبخ ظانا أنّه سيترك النيران والطيور تتلاطم في الغرفة ..لكنّه أصبح بين الطلقات المقصوفة من كل مكان وبين الطيور فكلّما زاغ عنها ليقي شرّها صادفته أخريات ..عاد إلى غرفته , استسلم وجلس فوق سريره يراقب هدايا اللّوحة في حذر مخيف....جال ببصره إلى أن وقع على الثقب الذى ثبت فيه المسمار , شاهد السائل الأسود يتقاطر كحبيبات صغيرة من الحائط نحو الأرض ثم ينصهر بلا سبب ..بقي عبد الغني مستيقظا والحمرة تغزو عينيه , خاف من حدوث ما لا تحمد عقباه...
طلع الفجر... اختفى ما هدّد ليلته , اغتسل ..تناول فطوره دون أن يكمّله ونفسيته مغمومة , لبس بذلته ليلتحق بعمله ويتّصل بعمر ...ماتت الرغبة... سرى برد الفزع في جسمه... تلاشت قوّة الدّفع نحو المسؤولية , أعاد ملابسه إلى الدولاب دسّ بدنه في ( بيجامته) استلقى على السّرير ليتمّ النّوم الضّائع , أطلق أفكاره نحو السكينة ..سمع خبطا على الباب , هبّ نحوه , فتحه بتثاقل سلّم على عمر .
عبد الغني : تفضّل جئت في الوقت المناسب
عمر : ما الذى حدث , كي تتأخّر عن العمل ؟
عبد الغني : لم أنم , وعادت رسوم اللّوحة لدورها
عمر : قلت في نفسي أن حرق اللّوحة سيريح بالك
عبد الغني : ما وقع أغرب من الخيال
عمر : هل عادت الشيطانية ؟!
عبد الغني : نعم ..وكانت هذه المرة أسوأ من سابقتها
عمر : كيف ؟ فسّر ..لم أفهم
عبد الغني : كثرت النيران والاصطدامات بين مكونات اللّوحة ..
عمر: إنّي لا أرى أيّ حريق أو أثر له , أهذا خيال أم سحر ؟ أمران لا يصدّقان !
عبد الغني : لن تصدّق ما رويت لأنّك حجبت عن ما يحدث أمامي
عمر : والربّ ..إنّي أتألّم من أجلك ...علينا أن نستشير طبيبا أو فقيها
عبد الغني : لست أحمقا أو معقّدا لأزور الطّبيب النّفسانيّ
عمر : إذا... نتّصل بفقيه
عبد الغني : ممكن ..ما رأيته يستدعى إحضار فقيه يحارب الجنّ والشيطان, لأنّي عشت مسألة روحية
عمر : أنؤمن بالشعوذة ؟!
عبد الغني : أؤمن بمن يفكّ طلاسم ما رأيت ؟
عمر : لا ..الحمقى والمجانين والهستيريون والمغبونون والمتغيّبون يدخلون من باب الشعوذة ...قد يعالجهم العلم ولكن لا يثقون به ...
عبد الغني : كلّ ما يخالف العقل والمنطق العلميّ يدمج في إطار الشعوذة ...أنا عندي اهتزاز نفسيّ سببه صور لا أراها إلّا أنا ....
عمر : قبل استدعاء الفقيه ستبيت اللّيلة عندي بعيدا عن غرفتك المسحورة
وفى كلّ فترات الضيافة , لم يستطع عبد الغني طرد تلك الصوّر المخيفة التي عشّشت في مخّه بطريقة مطبوعة بحروف الخيال ..مرّت ليلته عصيبة ...تنمحي إذا انغمس وخلد لنوم متقطّع وفى منزل عمر صباحا...
عمر : أنت في بيتي ..لن تصاب بأذى
عبد الغني : لكنّي لازلت تحت رحمة الفزع ..
عمر : عودة التصوّرات بديهية في مخيّلة الإنسان لكن , إن لم تتعبك سنستغني عن الفقيه
عبد الغني : لا مفرّ منه
عمر : إذا لنتّصل به ونستعجله اللّيلة...
عبد الغني : أنستدعيه هنا أم في منزلي ؟!
عمر : المصيبة في غرفتك ولا دخل لها في دارى .
وبعد غروب الشمس ...قدم الفقيه رفقة عمر , ولجا غرفة عبد الغني والفقيه يسمّي الخالق وصفاته ويتمتم سرّا ولا تتحرّك سوى شفتاه الغليظتان , لحية سوداء , أنف قصير ومستقيم , لا شارب أسفله أذنان غائبتان خلف اللحية الغزيرة على الشدقين رأس دائري قويّ البنية في طول متوسط عينان ضيّقتان تنمّان عن الحرفة المركّزة في الغير مرئيّ ...
عبد الغني : مرحبا سيدنا الفقيه
الفقيه : شكرا
عمر بعد أن جلسوا حول مائدة في الصّالة : احك له قصّتك
عبد الغني : لابد أن نشرب الشاي , ليحلو الحديث
الفقيه : أنت على صواب ما ألطفك , إنّك تحسّ بأهمية الضّيف....اللّيل طويل وربّما سيطول عملي ويحتاج لمنشّط , قد يكون طعاما...
عبد الغني : لك ما شئت , المهم عندي أن تفكّ أزمتي ..
حكى عبد الغني الواقعة بالتفصيل ..وهم يشربون الشاي ..
الفقيه : لا عليك ...هل المسمار قديم أم جديد ؟!
عبد الغني : جديد.
الفقيه :.أسطورتك تحتاج لسهرة واحدة ..التزما الصمت والهدوء
عمر : لن تسمع حسّنا
الفقيه : هيّئ موقدا ...أكثر الفحم...وأشعله إلى أن يصير جمرا.
قبل منتصف الليل بدأت الطيور تنتشر والطّلقات النارية تلاحقها , تحرّك مضمون اللّوحة المحروقة أمام عيني عبد الغني , وكانت كل طلقة كشهاب كرويّ ينطلق من فوهة بندقية الصّياد ..انكمش عبد الغني خوفا وعمر لا يرى إلا حركات الفقيه ويسرق نظرات من عبد الغني...
الفقيه : هل علّقت اللّوحة عند الثقب الذي يسيل ؟؟
وفى صمت الجبان أشار عبد الغني إلى مكان الثقب بسبّابته دون أن يتكلّم , تقدّم الفقيه نحوه وضع يده عليه , أحسّ بارتعاش طفيف والسائل الأسود يتدفق عبر ساعده ارتفعت حرارة الخوف في جسم عبد الغني واعترف عمر بوجود اللّغز...ابتعد الفقيه بسرعة كالمصعوق , بدأ يقرأ تمت القراءة أعاد مثيلاتها ..التفت نحو عمر وعبد الغني أمرهما أن يركنا في زاوية من الغرفة , امتثلا وهما لا يلويان على شيء سوى الرعدة التي المّت بالفقيه....جمدا في مكانهما , غرق الفقيه وسط الطّلقات النّارية ..زاد الفقيه من القراءة بصوت مرتفع وجوهريّ....تطايرت صباغة الجدار وتناثرت نحو كلّ اتجاه دون أن تمسّ الصديقين , اعترف عمر بالواقعة دون أن ينبس ببنت شفة رفع الفقيه صوته مرّة أخرى وبطريقة أشدّ من سابقتها وعند فقرات معينة من القراءة يصارع بها الجنّ والشياطين , تناثرت الرّمال القديمة من الجدار وتجمّعت أسفله وكانت تبدو كشعر أسود تتخلّله ألوان أخرى... يرتفع وينخفض كأنّه حيّ من داخله , هفهف الشعر نحو الفقيه ليلتفّ حوله , ارتجف عبد الغني معتقدا أن الشعر المتموّج سيطاله بعد أن يخنق من أمامه ..أخرج الفقيه من جيب سرواله العربي قارورة ماء قرأ بصوت منخفض لا يسمعه عمر وعبد الغني انتفخت أوداج الفقيه هال الحاضرين المشهد الغريب , نزع سدّاد القارورة الصغيرة رشّ الكتلة السوداء لترتفع دخانا من لهيب محاط بخيوط ملوّنة , انطفأت النيران الوهمية التي يراها عبد الغني , تكوّر الدخان ككومة على الأرض .
لفقيه : ليأتي أحدكما بسطل ماء ..
هرع عبد الغني وعاد سريعا بسطل الماء , أفرغه الفقيه على جمرات الموقد فالتقت كومتا الدخّان ...صارتا خلطة مع الماء الذي تدفّق نحو المجرى ..
الفقيه : سلامتك
عمر : هذا أمر عجيب
عبد الغني : هل أنهيت سيدى الفقيه ما قضّ مضجعي ؟
الفقيه : نعم ..ألم تر صباغة الحائط وهي تتناثر مخلوطة بالرمال القديمة ؟ ..كلّ ما صدر عن اللّوحة من ترهيب ذاب دخّانا مع الماء الطاهر..
عبد الغني : وفّقك الخالق ..فأزلت همومي ..شكرا
الفقيه : سترتاح من ما أزعجك ..أصلح المنزل ولا تخشى شيئا بعد اليوم
عبد الغني : شكرا ..لا ترحل إلّا بعد يومي ضيافة
الفقيه : ممتاز وسأرحل بعد أن تنتفخ معدتي
عمر : الآن أعترف ...لست أحمقا أو مسحورا ..إنها الدار القديمة ..
عبد الغني : الحمد للربّ ..
.عمر : وشكرا للفقيه سبب الخلاص ...
أوباها حسين- عدد الرسائل : 286
العمر : 81
تاريخ التسجيل : 11/10/2011
مواضيع مماثلة
» حضارات قديمة
» صور قديمة من وزان
» عاجل : انفجار ضخم في أحد مقاهي مدينة مراكش المغربية
» مجموعة مدارس الزواقين -صور مدرسية قديمة
» متحف التراث الشعبي "أدوات قديمة "
» صور قديمة من وزان
» عاجل : انفجار ضخم في أحد مقاهي مدينة مراكش المغربية
» مجموعة مدارس الزواقين -صور مدرسية قديمة
» متحف التراث الشعبي "أدوات قديمة "
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى