جابريات...
5 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
جابريات...
شروط قيام الثقافة الوطنية | |
12:19 | 05.01.2008 | د محمد عابد الجابري | المغربية |
إن بعض شذرات الإيديولوجيا الليبرالية التي كانت تطفو خلال تلك الفترة على بعض نماذجنا الثقافية، لم تكن تعكس واقعاً برجوازياً أو رأسمالياً وطنياً ذا بنيات تتجاوب معه وتقدر على حمله، وإنما كانت تعبِّر في الغالب عن وضعية شاذة، وضعية برجوازية طفيلية وظيفية، وأرستقراطية مكتبية، تقومان بدور الوسيط للرأسمالية الغربية عامة. ولذلك كان المعبِّرون عن هذه الإيديولوجيا، سواء بالصيغ الفنية أو الفلسفية أو بالكتابات السياسية، يصدرون هم أيضاً عن وعي مزيَّف، يجسم ظاهرة أخرى شاذة يمكن وصفها بأنها ظاهرة "الاغتراب في الغرب". نجد أمثلة متعددة لهذه الظاهرة في كتابات كثير من مثقفينا في العالم العربي كله، أي لدى أولئك الذين تبنوا الكثير من الصيغ الأدبية والفلسفية للإيديولوجيا الليبرالية، معتقدين أنهم بذلك يجددون ثقافتنا الوطنية، أو يبنون نوعاً جديداً من الثقافة في وطننا العربي. لقد فشلت جميع المحاولات التي من هذا القبيل، لأنها لم تكن تتعدى الاقتباس السطحي من بناء فوقي مرتبط بالأسس المادية للتجارب الحياتية للغرب وحضارته إن البرجسونية أو الوجودية أو الشخصانية أو السريالية أو الماركوزية أو الوضعية المنطقية الخ، كل تلك مظاهر فكرية تعبر عن واقع معين، واقع الغرب وتناقضاته وتوتر بنيانه وشخصيته. أما نحن في العالم العربي، فإننا كنا وما زلنا نعيش واقعاً آخر يختلف اختلافاً أساسياً عن واقع الغرب وتجربته. ولذلك فإن شعبنا لم يهتز، ولا يمكن أن يهتز، عندما تُقدَّم له مثل هذه المحاولات الفجة المقتبسة من عالم غير عالمه، والتي تعكس اهتمامات غير اهتماماته بل لقد كان ينطبق أيضاً على بعض الذين كانوا يعلنون انتماءهم إلى التيار الإيديولوجي المقابل : تيار الاشتراكية العالمي. ودون الدخول في مجادلات ومشادات كلامية قد لا تنتهي إلى نتيجة، يمكن أن نقرر حقيقة واقعية تفرض نفسها على كل ذي نظرة سليمة موضوعية، وهي أن إيديولوجيا "الاشتراكية العالمية" لم يكن لها أن تتأقلم في العالم العربي، التأقلم الكافي والضروري لتحقيق أهدافها. إنها كانت تؤخذ في معظم الأحوال كنظرية أو كشعارات جاهزة تُرضي نزعة الهروب من المشاكل الملموسة، والميل إلى الكسل أمام الحلول المعقدة المستعصية وبعبارة أخرى إن "إيديولوجيا الاشتراكية العالمية" التي كانت شعاراتها و"مختزلاتها" تنتشر بين شبابنا، لم يكن يتوافر لها ما يلزم من الأسس الضرورية الموضوعية منها والذاتية، وعلى رأس هذه الأسس وجود فكر واعٍ يهضمها، وتنظيم شعبي بروليتاري يبلورها في ممارسة واعية هادفة، ويجعل منها، وبواسطة هذه الممارسة نفسها، حركة فكرية دينامية تعبر في إطار النظرة العامة عن خصوصية التجربة المحلية. لم تكن العناصر الثلاثة التي تحدثنا عنها في المقال السابق وهذا المقال "ثقافة المستعمر، رد الفعل الوطني إزاءها، الدعوة إلى التغريب في الماضي أو في الإيديولوجيات العالمية المتصارعة"، تشكل أساساً لثقافة عربية قومية حق وأعتقد أن في الذي قدمناه ما يكفي لشرح السبب. أما الآن فعلينا أن نتجه وجهة أخرى، إلى البحث في الشروط التي كانت تقدم على أنها القاعدة السليمة لقيام ثقافة وطنية قادرة على الاستجابة لمتطلبات المرحلة يمكن القول باختصار إن التصور البديل الذي كان يقدم من أجل بناء ثقافة وطنية حق هو ذلك الذي يرى فيها أنها الثقافة التي "تعبر بصدق وأمانة عن روح الشعب" . ولم يكن أحد في الوطن العربي يقصد بروح الشعب ما كان يقصد منه في بعض البلدان الأوروبية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، حيث استشرت النظريات العرقية المتطرفة التي يغذيها الاستعلاء المفرط، كما أنها لم تكن تنبني على أية فكرة ميتافيزيقية أو أي تصور غيبي كلا، إنها كانت تعني خلاصة الحياة الوجدانية لمجموع أفراد الشعب بوصفهم كلاً واحداً يصنع تاريخاً واحداً. 1- ولما كان معظم أفراد الشعب العربي من الكادحين، ولما كان غير الكادحين بين صفوفه، على قلة عددهم، لا يشكلون سوى فئة طفيلية مستهلكة، فإن روح الشعب لم تكن تعني شيئاً آخر غير خلاصة آلام وآمال الكادحين. وبالتالي فإن الثقافة الوطنية كان ينظر إليها على أنها المرآة التي تعكس بصدق ووضوح الوضعية التاريخية التي تعيشها الأمة العربية بكل ملابساتها وأبعادها. وبناء على ذلك فإن الثقافة القومية كان ينظر إليها على أنها تقوم على الأسس الثلاثة التالية : 1- لما كانت روح شعب من الشعوب إنما تتجلى أول ما تتجلى في لغته القومية، فإن الثقافة الوطنية المنشودة في جميع الأقطار العربية لا يمكن أن تستوفي شروط وجودها، ولا أن تقوم بالمهام المنوطة بها، إلا إذا كانت بلغتنا الوطنية، اللغة العربية. لقد كان التصور السائد للثقافة الوطنية هو أنها لا تتحدَّد من حيث الشكل، لا بالأرض ولا بالموقع الجغرافي ولا بالأصل العرقي، وإنما تتحدد أساساً باللغة. لقد كان ينظر إلى اللغة على أنها ليست مجرد أداة للتعبير بل كانت النظرة القومية للغة العربية أوسع من ذلك كثيراً : "إنها الفكر ذاته، إنها الوجدان ذاته، إنها الثقافة ذاتها" وكثيراً ما كان يُستشهد بأقوال مفكرين ألمان مثل قول بعضهم : "إن اللغة هي الروح الحقيقية للأمة، الروح التي تشكل عالماً خاصاً بها، تكشف فيه عن نفسها إن الأمة هي الـ"نحن" الذي يعي نفسه في اللغة ويتواصل بواسطتها". لم يكن ذلك يعني الدعوة إلى الاستغناء عن اللغات الأجنبية، كلا لقد كان هناك إدراك واعٍ بضرورة امتلاك لغة أجنبية من أجل أخذ العلم والتكنولوجيا والتواصل مع العالم الخارجي، ولكن مع بقاء الثقافة العامة عربية الفكر واللسان. 2- ولم يكن ينظر إلى الثقافة الوطنية على أنها ثقافة نخبة، بل على أنها ثقافة للشعب كله، ومن الشعب كله . لقد كان ينظر إلى المسألة على ضوء اختيار إيديولوجي يرى في تقييد تعميم التعليم وتكوين الكوادر بالحاجيات والوظائف الشاغرة، تفكيراً لا يمكن أن يصدر عن مثقف وطني، لقد كان ينظر إليه على أنه نابع من سياسة رجعية تخشى "بطالة المثقفين"، تخشى نشوء انتليجنسيا واعية. هذا بينما كانت النظرة الوطنية في هذا المجال، كما في غيره من المجالات، تحكم على الأشياء من زاوية ما يجب أن يكون، من زاوية مطامح الشعب وتطلعات الشباب كانت الحجة مقنعة لأنها كانت قائمة على الفكرة التالية : إن بلداً متخلفاً لا يمكن أن يشق طريقه نحو التنمية الحق إلا مع نشر الثقافة والتعليم على أوسع نطاق وفي كل مجال : "لنترك مئة وردة تتفتح وحينئذ سنقطف من الثمار ما لا يقدر ثمنه". 3- إن النظرة الوطنية إلى الثقافة الوطنية لم تكن تدعو إلى الاغتراب في الماضي، بل كانت تنادي بضرورة احتواء هذا الماضي بعد تصحيح معرفتنا به، ولم تكن تدعو إلى استيراد ثقافة معينة من الخارج، بل هي كانت تنادي بضرورة هضم الثقافة العالمية وتمثل مضامينها تمثلاً واعياً. كانت الشعارات التي رفعت في هذا المجال من قبيل القول : إن الثقافة الوطنية هي "تفاعل ذاتي وتكيف خارجي، موقف فكري وعملي من الحياة والتاريخ". وكان لنصوص »فرانز فانون« في هذا المجال رواج كبير في الساحة العربية خلال الستينيات. ومن أقواله : "إن الثقافة الوطنية »هي مجموع الجهود التي يبذلها شعب من الشعوب على صعيد الفكر من أجل أن يصف ويبرر ويغني النضال الذي به يتكون الشعب ويبقى". كما كانت لشعارات ماوتسي تونغ أصداء واسعة، مثل قوله : "لابد أن تعتمد الثقافة الوطنية على الفأس والقلم، الفأس لهدم الثقافة الاستعمارية والقلم لبناء الثقافة الوطنية". |
kaytouni- عدد الرسائل : 162
العمر : 64
Localisation : li 3la balak
Emploi : 9adi haja
تاريخ التسجيل : 07/07/2006
رد: جابريات...
بين تداخل الثقافات... والعولمة الثقافية! | |
11:46 | 12.01.2008 | د. محمد عابد الجابري | المغربية |
|
الثقافة: المستوى الفردي، والمستوى الشعبي، والمستوى الإنساني. وقد انتهينا، انطلاقاً من هذا التصنيف. |
إلى القول إنه لا يمكن الحديث عن ثقافة مجتمع ما بكيفية مطلقة، وأن الثقافة هي دوماً ثقافة فئة، ثقافة عصر، ثقافة الخاصة أو ثقافة العامة بالتعبير القديم، ثقافة النخبة أو ثقافة الجمهور بالتعبير الحديث. ومع ذلك فإنه يجب ألا نغفل الطابع المنهجي الذي حملنا على ذلك التصنيف، وبالتالي يجب ألا ننظر إلى المستويات الثلاثة المذكورة نظرة سكونية، فنفصل هكذا بشكل تعسفي بين الفردي والمجتمعي والإنساني، بل يجب أن نضع نصب أعيننا، أنه في هذا الميدان، كما في غيره من الميادين، ليس هناك خاص مطلق، ولا عام مطلق. إن الثقافة على الصعيد الإنساني العام لابد أن تحمل بين طياتها شيئاً من الخصوصية، هي في آنٍ واحد، خصوصية الفرد صاحب الأثر الثقافي، أي الجانب الذاتي في إنتاجه، وخصوصية المجتمع الذي أنتج هذا الفرد، أي وضعيته الطبقية والاجتماعية. وبالمثل، فإن الثقافة في المستوى الفردي لابد أن تصطبغ بنوع العمومية والشمول، وإلا لما كانت ثقافة. إن عمومية الثقافة تحمل بين طياتها طابع الخصوصية، كما أن خصوصيتها تتسم، ولابد، بشيء من العمومية. إن المطلق والنسبي يشكلان هنا حقيقة واحدة متكاملة. إن فلسفة أفلاطون مثلاً تعكس، من جهة، الوضعية الاجتماعية للشعب اليوناني في عصره، كما تعكس أيضاً مكان أفلاطون في هذه الوضعية. ولكنها مع ذلك تضم شيئاً يتعدى أفلاطون ويتجاوز معطيات مجتمعه، شيئاً يتعلق بتطلعات الإنسان وتساؤلاته، تطلعات وتساؤلات تخترق سياج الزمان والمكان. ومثل ذلك يقال بالنسبة لشعر هوميروس ومسرح سوفوكليس وفلسفة الفارابي وشعر المعري والمتنبي وقصص ألف ليلة وليلة ومسرحيات شكسبير، وغير ذلك من الآثار الثقافية الخالدة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يجب ألا نغفل الحقيقة التالية، وهي أن الثقافة ليست هذا الجانب التعبيري الانفعالي وحسب، بل إنها أيضاً قوة فاعلة وسلاح خطير يؤثر في الإنسان، فيساهم في تشكيل وعيه وتوجيه رؤاه وتحديد آفاقه، كما يؤثر في المجتمع فيعرقل مسيرته أو يدفع بها إلى الأمام، ويعمل في ذات الوقت على توجيه المصير البشري عامة نحو هذه الجهة أو تلك. ومن هنا تلك الظاهرة المرتبطة بموضوعنا أشد الارتباط، ونعني بها تأثير الفكر العالمي في الفكر الفردي والفكر الوطني، خصوصاً في هذا العصر الذي أصبحت فيه وسائل الطبع متيسرة كثيرة، وأدوات الاتصال والتواصل سريعة متعددة، نتجت عنه هذه الظاهرة التي أطلقت عليها اليونسكو في الخمسينيات عبارة محايدة لا تحمل بطانة إيديولوجية، كما هو الحال اليوم في العبارة التي تستعمل بديلاً عنها، أعني بتلك "تداخل الثقافات" وبهذه "صراع الثقافات" أو "حوارها". وهنا قد يكون من المفيد أن نستطرد قليلاً لنبين إلى أي مدى غيَّـر (حتى لا نقول "شوَّه") خطاب العولمة اليوم من مفاهيم خطاب الخمسينيات. لنبدأ بمفهوم "تداخل الثقافات". لقد قلنا عنه إنه مفهوم محايد، لا يحمل أي بطانة إيديولوجية، ذلك لأنه يعبر من دون تحيُّز، ومن دون الانخراط في أي صراع مهما كان، عن واقع تاريخي جرى رصده كما هو من دون تمويه ولا تنويه. ذلك أنه كان هناك دوماً، وعلى مر العصور، نوع من الاتصال والتداخل بين الثقافات الموجودة في عصر معين، أو المترابطة بفعل الزمن، وكان هذا التداخل يحدث ببطء في الغالب. وغالباً ما كان لا يتعدى مستوى الخلط والمزج، ونادراً ما أدى إلى اندماج كلي، أو إلى مركب جديد. كان هذا التداخل يجري من دون تخطيط مسبق. كان يجري عبر الأسفار والتجارة والحروب التي لم تكن تكتسي طابع الغزو الثقافي. كان هناك ما يشبه "التقليد"، الضعيف أو القوي، للعادات والثقافات والأمور الحضارية الأخرى، إما سلباً وإما إيجاباً. ولم يكن الغالب، المنتصر عسكرياً، هو الذي ينتهي إلى السيادة الثقافية دوماً، وكما لاحظ ابن خلدون بحق، فإذا كان الظاهر هو أن المغلوب يقتدي بالغالب، فقد يحدث العكس كما حصل بين العرب والفرس: لقد تغلب العرب زمن الفتوحات على الفرس عسكرياً وسياسياً ولكن الفرس لم يقلدوا العرب حضارياً، بل العكس هو الذي حصل، أي أن الغالب هو الذي قلد المغلوب. وعندما تنبه العرب إلى ذلك وصار المغلوب ينتفض ويحاول استرجاع السيادة السياسية عن طريق "الثقافة" (الحركة الشعوبية وحرب "الكتب"... الخ)، برز عنصر ثالث هو الثقافة اليونانية التي انفردت بحقلين ثقافيين مهمين: العلم والفلسفة، فحصل نوع من التداخل الثقافي، غني وقوي، بين ثلاثة أطراف: العرب، والفرس، والسريان (حاملو الثقافة اليونانية). كان هناك تنافس قوي بين هذه الأطراف الثلاثة، حتى إن كبار المثقفين والعلماء كانوا من جميع أقاليم الرقعة الجغرافية التي امتدت عليها الحضارية العربية الإسلامية. ومع اتساع هذه الرقعة وتعدد عرقياتها حصل تداخل سلمي واسع تبُودلت فيه المواقع في كثير من المجالات. وهكذا كان أول فيلسوف في الإسلام (الكندي من قبيلة كندة اليمنية)، وكان أكبر مفسر للقرآن من طبرستان (الطبري)، وأكبر مدوِّن للحديث من بخارى (البخاري)، وأكبر عالم في الفيزياء من البصرة (ابن الهيثم)، وأكبر طبيب من دمشق (ابن النفيس)، وأعظم مؤرخ إنثروبولوجي من المغرب العربي (ابن خلدون)، وأعظم فيلسوف من الأندلس (ابن رشد)... الخ. ولم يكن هذا النوع من تلاقح الحضارات أو تداخلها يحتاج إلى دعوة، ولم يحدث بتخطيط مسبق بل كان عملية تاريخية تلقائية، عملية يحكمها طلب الأفضل. أما اليوم، فإن تداخل الثقافات أصبح يكتسي طابعاً آخر، هو طابع الغزو والسيطرة، طابع الصراع الحضاري -الذي ليس الصراع الأيديولوجي إلا الشكل الأعلى من أشكاله. وما يزيد في خطورة هذا الصراع انتشار المَطِيَّات الثقافية، وسرعتها وفعاليتها المفرطة. إن الثقافة أصبحت اليوم، مثلها مثل الهواء، تدخل كل بيت، وتغزو كل قلب، وتقتحم كل عقل مهما كان مستوى يقظته أو درجة غفوته. حصل هذا منذ الثمانينيات من القرن الماضي مع انتشار العولمة كواقع اقتصادي سياسي إعلامي فبدأ مشهد الإشكالية الثقافية في العالم العربي يتغير، وبدأ أثر ذلك يظهر بوضوح على مستوى المفاهيم والتصورات. لقد كانت مفردات الخطاب العربي منذ الخمسينيات محكومة إلى حد كبير بمفردات الفكر الوطني المعادي للاستعمار والفكر الاشتراكي المناهض للرأسمالية والإمبريالية، وهي مفردات متكاملة على الأقل في كونها منخرطة في الحرب الباردة إلى جانب الفكر الاشتراكي مع التأثر، بهذه الدرجة أو تلك، بمحاولات البحث عن طريق ثالثة خاصة بما كان يسمى بـ"العالم الثالث". ومن أجل أن نلمس مدى التحول الذي طرأ على مفردات الخطاب العربي بتأثير مفردات العولمة وخطاب الإمبراطورية الأميركية الهادفة إلى السيطرة الثقافية على العالم، إلى جانب سيطرتها الاقتصادية والعسكرية، لابد من القيام بمقارنة ولو سريعة بين مفردات خطابنا اليوم وخطاب الأمس في الثقافة العربية |
منصور- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 1943
العمر : 44
Localisation : loin du bled
تاريخ التسجيل : 07/05/2007
رد: جابريات...
ابن رشد والتأسيس العلمي للسياسة
09:45 | 03.05.2008
د. محمد عابد الجابري | المغربية
|
لكتبه الأخرى، ولكن لما لم يجد الكتاب اضطر (ولاشك أن ذلك بسبب استعجال صديقه أبي يحيى الذي كان يعد العدة لخلافة أخيه المنصور الموحدي) إلى تعويضه بتلخيص كتاب السياسة "الجمهورية" لأفلاطون - وقد شرحنا ذلك في المقال السابق |
تتبع تموجات فكر ابن رشد في هذا العمل يحس المرء بأنه قد واجه فعلاً هذه
المشاكل وحاول تجاوزها، فلنتعرف على الكيفية التي فعل بها ذلك.
-
أولى تلك المشاكل تتعلق بالمهمة المطلوبة منه: إن صديقه الأمير المتفلسف
كان يريد - بلا شك - كتاباً في السياسة يكون له مُعيناً على النجاح في
مشروعه كأمير يعد العدة، ليتسلم الخلافة بعد أخيه المنصور الذي كان يعاني
مرضا "يئس منه الأطباء"، كتاباً "براجماتي" المضمون والطابع، مثل رسالة
"الخاصة" لابن المقفع التي رفعها لأبي جعفر المنصور العباسي يشرح فيها
وجهة نظره في إصلاح الدولة. وهذا النوع من الكتب يتناقض مع كتاب أفلاطون،
كما يتناقض مع استراتيجية ابن رشد سواء في التأليف أو في الشروح
والتلخيصات التي عملها لكتب أرسطو.
وثانية هذه المشاكل تتمثل في
كون "المدينة الفاضلة" التي حدد أفلاطون الأساس الذي يجب أن تقوم عليه
والكيفية التي يجب أن تشيد بها وشروط رئاستها... الخ، مدينة قد تبين في
نهاية الأمر ولأفلاطون نفسه، أن مكانها يقع ليس في أرض البشر بل في سماء
التصورات المثالية، هذا في حين أن المطلوب من ابن رشد هو الكتابة عن مدينة
فاضلة مكانها أرض البشر، وبالذات الأندلس في عهده.
وثالثة هذه
المشاكل تتعلق بأسلوب أفلاطون: فكتابه الجمهورية هو "محاورة" بين أطراف
متعددة من المجتمع اليوناني لكل رأي، ولكلٍّ درجة من المعرفة بالشأن
السياسي في المدن اليونانية، وجميعهم يستحضرون الثقافة اليونانية بما فيها
الأساطير ونتاج الخيال، أما دور أفلاطون فكاد يقتصر على إدارة الحوار
وتوجيهه، وإن كان "كل الصيد في جوف الفرا"! وهذا كله يتناقض مع فكر ابن
رشد: فهو كأرسطو واقعي الرؤية، برهاني المنهج.
كيف تغلب ابن رشد على هذه المشاكل؟
-
بالنسبة للمشكلة الأخيرة يخبرنا ابن رشد أنه سيقتصر على تلخيص (وتخليص)
"الأقاويل العلمية" التي في كتاب أفلاطون، وذلك بتحويله من نص حواري جدلي
إلى نص يعتمد التحليل والتركيب، مع التخلي عما لا يدخل في حقل العلم،
كالحكايات والأساطير وما شابه. إن الأمر يتعلق هنا بالارتفاع بالفكر
السياسي من مستوى "الجدل" إلى مستوى "العلم". وكان أرسطو قد فعل ذلك في
كتابه "السياسة"، ولكن عدم تمكن ابن رشد من الحصول عليه اضطره إلى
"النيابة" عن المعلم الأول باعتماد تصنيفه للعلوم.
وبما أن
فيلسوفنا كان يتوفر على كتاب أرسطو في "الجزء الأول" من العلم المدني أعني
كتاب "الأخلاق إلى نيقوماخوس"، فقد سهل عليه بناء الجزء الثاني من هذا
العلم وهو "السياسة" على أساسه.
- من هنا سيعمل ابن رشد على
تجاوز المشكلة الثانية وسيتخلص من النتيجة التي انتهى إليها أفلاطون، وذلك
من خلال النظر إلى المسألة السياسية، لا من زاوية تشييد النموذج المثالي
بعيداً عن معطيات الواقع، بل من زاوية النظر إلى الممكن الواقعي وبناء
الإصلاح على أساسه، وصولاً بالتدريج إلى تحول الممكن الذهني إلى واقع
فعلي. سيكون على ابن رشد إذن أن يبين كيف أن المدينة الفاضلة ممكنة على
هذه الأرض. وأن الطريق المسدود الذي انتهى إليه أفلاطون ليس وحده الطريق
الممكن لأن الشؤون الإنسانية -كما يقول- هي مجال الإرادة، فلا تحكمها
الحتمية التي تحكم الظواهر الطبيعية. وسيكون عليه أيضاً، ما دام يكتب بطلب
من أمير يقدم نفسه كبديل للحكم القائم الذي تميز في آخر عهده بالاستبداد
والقمع أن يبتهل هذه الفرصة للتعبير عن آرائه السياسية من خلال نقد مباشر
لنظم الحكم في التجربة الحضارية العربية الإسلامية بكيفية عامة، وفي بلده
الأندلس بكيفية خاصة، وفي زمنه هو بكيفية أخص.
لنترك هذا الجانب
إلى حين، ولنقل كلمة حول منهج ابن رشد في استخلاص "الأقاويل العلمية" من
"محاورة الجمهورية" لأفلاطون. يتعلق الأمر، بعبارة، أخرى بعملية التأسيس
العلمي لمضمون هذه المحاورة. والمرجع في مسألة "التأسيس العلمي" للمعرفة
كان أرسطو، وقد بقي وحده المرجع إلى القرن السادس عشر الميلادي (إلى
جاليلو وديكارت). لقد صنف أرسطو العلوم إلى قسمين:
القسم الأول هو
"العلم النظري"- ويقدم معارف من شأنها أن يعلَمها الإنسان دون أن يكون
عليه أن يعمَلها، والمقصود الأول منها هو "العلم لذات العلم"، ويشتمل هذا
القسم على الحساب والهندسة والفلك والموسيقى والطبيعيات العامة والعلوم
المتخصصة في الظواهر الطبيعية المختلفة بما ذلك علم النفس والطب وعلم
الطب.
أما القسم الثاني فهو "العلم المدني" ويضم المعارف التي من
شأنها أن يعلمها الإنسان ويعملها، والمقصود الأول منها هو "العمل"؛ وهي
جزءان: الأول هو "علم الأخلاق"، وموضوعه تدبير النفس بهدف الحصول على
كمالاتها، والثاني موضوعه تدبير المدينة بهدف الحصول على كمالاتها، وهو
علم "السياسة".
"السياسة"- إذن، جزء من العلم المدني وهي جزؤه
الثاني. أما ما يؤسسها علمياً فهو نفس ما يؤسس الأول: الأخلاق. وما يؤسس
"علم الأخلاق" هو "علم النفس". ذلك لأن موضوع علم الأخلاق هو "الملَكات
والأفعال الإرادية والعادات جملة"، وهذه يُبحث فيها بحثا علميا في "علم
النفس"، وهو جزء من "العلم الطبيعي"، لأن النفس، في أكثر أحوالها لا تنفعل
ولا تفعل إلا بالجسم": فالفرح والحزن والشجاعة والغضب وغيرها من الأحوال
النفسية مرتبطة بالجسم ارتباطاً عضوياً، والجسد جسم كسائر الأجسام، فهو
موضوع للعلم الطبيعي. والعلم الطبيعي، في نظر ابن رشد، هو النموذج للعلوم
كلها لأنه يعتمد الحس والعقل معاً، المشاهدة والملاحظة والاستنباط.
العلم الطبيعي يؤسس علم النفس، وعلم النفس يؤسس علم الأخلاق، هذا شيء واضح! فكيف يؤسس علم الأخلاق علم السياسة؟
واضح
أن المقصود بـ"السياسة" هنا هو "تدبير المدينة"، وواضح كذلك أن المقصود
بالمدينة ليس أرضها ولا مساحتها ولا منازلها ومبانيها، بل المقصود هم
أهلها، ولكن لا من جهة أنهم أجسام، بل من جهة أنهم نفوس تسعى إلى الحصول
على كمالاتها في عيشها المشترك. وإذن فإذا كان "علم الأخلاق" هو علم تدبير
نفس الفرد، فإن السياسة هي تدبير نفوس الجماعة. وبالتالي فما يصدق على
الفرد يصدق على المجموع لأنهما (الفرد والمجموع) من نوع واحد وهو الإنسان.
وإذن فـ"النموذج العلمي" الذي يجب أن يُقرأ موضوع "علم السياسة"،
أي "المدينة"، على ضوئه وبواسطته هو "النفس"، نفس الإنسان، كما يفهمها علم
النفس الأفلاطوني- الأرسطي. وهكذا فكما أن النفس هي جماع ثلاث قوى هي:
القوة الناطقة العاقلة وفضيلتها المعرفة والحكمة، والقوة الغضبية وفضيلتها
الشجاعة، والقوة الشهوانية وفضيلتها العفة، فكذلك المدينة: تكون حكيمة في
مذهبها الفكري الذي به تسود جميعَ أجزائها، على النحو الذي يكون به
الإنسان حكيماً بالعقل "الذي يسود به على جميع قواه النفسانية، وذلك بأن
يتحرك (الإنسان) إلى الأشياء التي ينبغي أن يتحرك إليها، بالمقدار الذي
يقدره العقل وفي الوقت الذي يعينه. فالإنسان يكون شجاعاً بالجزء الغضبي
(من النفس)، في المكان والزمان وبالمقدار الذي توجبه الحكمة. فهو إنما
يكون شجاعاً بالجزء الغضبي (من النفس) إذا استعمله فيما يوجبه العقل، وفي
الوقت الذي يجب والمقدار الذي يجب. وكذلك الشأن في (فضيلة) العفة وفي سائر
الفضائل. وبالجملة يكون (الإنسان) فاضلاً بجميع الفضائل العقلية والخلقية،
وتكون الرياسة فيه كرياسة هذه الفضائل بعضها على بعض".
مفكر مغربي
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: جابريات...
الاستبداد بين المطلق والمقيد
09:25 | 31.05.2008
د. محمد عابد الجابري | المغربية
وقلنا
إنه إذا كان هناك نص خالد، يقرأ فيه الناس، من مختلف العصور والأجيال،
صورة الحاكم المستبد في زمانهم ومكانهم، فهو ما ورد في الكتاب التاسع من
"جمهورية" أفلاطون. ومع أن مهمة ابن رشد، في تعامله معه كانت "الاختصار"
فإنه أرخى العنان لقلمه ليطنِب في نقل جميع ما خطَّه قلم أفلاطون في هذا
الموضوع الذي تكلم فيه عن تجربة ومعاناة، إذ كان قد خبر بنفسه الاستبداد
عن قرب. وكما قلنا، فإن ابن رشد ينقل ما كتبه أفلاطون في صيغة حوار نقلاً
مستفيضاً بخطاب تحليلي يشعر القارئ معه بأن الكاتب لا ينقل وإنما يتكلم من
عنده، بعقله ووجدانه. ولا يستطيع القارئ المتفحص للطريقة التي نقل بها ابن
رشد كامل مضمون الكتاب التاسع من "الجمهورية" إلا أن يجزم بأن فيلسوف
قرطبة كان يخاطب أهل زمانه ومكانه على طريقة "إياك أعني واسمعي يا جارة".
وإذا كان هذا هو الموقف الذي يجد فيه نفسه كل من يقرأ هذا "الكتاب التاسع"
في أي عصر كان، فإن فيلسوف قرطبة يأبى إلا أن يتجاوز التلميح إلى الخطاب
المباشر والصريح، مستعملاً مصطلحاً أصيلاً هو "وحدانية التسلط" للتعبير عن
معنى الحكم الاستبدادي.
وهذا التعبير الذي اختاره ابن رشد له
معناه. ذلك أن الاستبداد في الاصطلاح العربي القديم لم يكن مُداناً
بإطلاق، لقد حرص الكُتاب في "السياسة" على التمييز بين الاستبداد المطلق
وهو المُدان، و"الاستبداد المقيَّد" وهو المطلوب، وينصرف معناه إلى
"الحزم". ومن هنا عبارة "المستبد العادل" التي رُفعت أحياناً كشعار للحكم
الصالح، وفي هذا المعنى قيل لا يصلِح أمر هذه الأمة إلا "مستبد عادل"، أي
عادل حازم، وهنا يُذكر عمر بن الخطاب نموذجا...
بعد هذا الاستطراد نعود إلى ابن رشد وطريقته في حكاية أقوال أفلاطون عن الحكم الاستبدادي.
يقول
عن "الطاغية" بالاصطلاح اليوناني و"وحداني التسلط" باصطلاحه هو: "ولهذا
يعظم هذا الفعل منه على الجماعة فيرون أن فعله هو عكس ما قصدوه من تسليمه
الرئاسة، لأنهم إنما قصدوا بذلك أن يحميهم من ذوي اليسار و[يقربهم من] ذوي
الفضائل والخير وأمثالهم من أهل المدينة -لما كان هو من أصحاب الحكم
والسلطان- ليستتب [أمرهم] بسياسته وسياسة خدامه. ولذلك، تسعى الجماعة
الغاضبة الثائرة إلى إخراجه من مدينتهم، فيضطر هو إلى استعبادهم
والاستيلاء على عتادهم وآلة أسلحتهم، فيصير حال الجماعة معه كما يقول
المثل: كالمستجير من الرمضاء بالنار. وذلك أن الجماعة إنما فرَّت من
الاستعباد بتسليمها الرئاسة إليه، فإذا هي تقع في استعباد أكثر قسوة. وهذه
الأعمال هي جميعاً من أعمال رئاسة وحدانية التسلط، وهي شيء بين في أهل
زماننا هذا ليس بالقول فحسب، ولكن أيضاً بالحس والمشاهدة".
وأيضاً:
"ولمكان هذا (بسبب هذا) فوحداني التسلط أشد الناس عبودية، وليس له حيلة في
إشباع شهواته، بل هو أبداً في حزن وأسىً دائمين. ومَنْ هذه صفته فهو ضعيف
النفس، وهو حسود وظالم لا يحب أحداً من الناس. وذلك أن هذه الصفات لما
كانت موجودة فيه قبل الرئاسة، فهي ألزم به بعدها. وبالضرورة لا ريب أن
يكون اليوم الذي يواجه فيه مآله ومصيره يوماً عسيراً، لأن من يركب البخت
والاتفاق (والمصادفة)، كثيراً ما يستخف به. وهذا كله بيِّن وجليٌّ من
هؤلاء، كما قلنا مراراً، لا بالقول [وحسب] ولكن بالمشاهدة [أيضا]ً
مشاهدة مَن؟
هل
يتعلق الأمر بالمنصور الموحدي عند جنوحه إلى الاستبداد، وهو الذي انتزع
الخلافة عند استشهاد أبيه في إحدى المعارك لتحرير مدينة شنترين من يد ملك
قشتالة؟ لقد حض في المعركة، وعندما استشهد أبوه أخفى خبر وفاته حتى فرض
نفسه كأمر واقع، "وكان له من إخوته وعمومته منافسون لا يرونه أهلاً
للإمارة لما كانوا يعرفون من سوء صباه" كما يقول المؤرخون. وإذن فالإشارة
بقوله: "وذلك أن هذه الصفات لما كانت موجودة فيه قبل الرئاسة، فهي ألزم به
بعدها"، قابلة للتأويل: قابلة لتفسر على أنها إشارة مباشرة إلى يعقوب
المنصور؟
فهل نحتاج إلى البحث عن سبب لنكبة ابن رشد خارج هذا الكتاب؟
ويواصل
ابن رشد توجيه الخطاب المباشر إلى أهل زمانه، وبالدرجة الأولى إلى الأمير
الذي طلب منه "كتاباً في السياسة"، فينفصل عن يأس أفلاطون من إقامة
المدينة الفاضلة على أرض الواقع ليعلن إمكانية ذلك، ليس استناداً إلى مجرد
الرغبة والتخمين بل اعتماداً على ما يعطيه "العلم". كان أفلاطون قد حلل
الكيفية التي تتحول بها المدن الخمس (مدينة الملكية الدستورية، مدينة
الكرامة، مدينة الأقلية من الأغنياء، المدينة الجماعية، المدينة وحدانية
التسلط)، ذاهباً إلى أن هذا التحول وعلى هذا الترتيب يتم حتماً وبشكل
دوري، فلا مناص منه.
ولا شك أن ابن رشد الذي كان يفكر في الإصلاح
السياسي قد صدمه هذا الذي ذهب إليه أفلاطون، فأورد اعتراضاً علمياً مفاده
أن التحول من حالة إلى أخرى تحولاً ضرورياً إنما يكون في الظواهر الطبيعية
حيث السيادة للسببية والحتمية. أما في ميدان الظواهر الإنسانية، "وهي
إرادية كليّاً"، فالأمر يختلف. ولذلك فـ"الذي قاله أفلاطون لاشك أنه ليس
ضرورياً، إنما هو الأكثر. وسبب هذا هو أن السياسة القائمة لها أثر في
إكساب الناشئ عليها خلقاً ما، وإن كان منافياً لما طبع عليه من التهيؤ
للأخلاق، ولذلك صار ممكناً أن يكون معظم الناس فاضلين بالفضائل الإنسانية،
ونادراً ما يمتنع ذلك. وقد تبين هذا في الجزء الأول من العلم المدني
(الأخلاق)، إذ قيل هناك إن طرق بلوغ الفضائل العملية هي التعود، كما أن
طريق بلوغ العلوم النظرية هو التعليم. ولما كان ذلك كذلك، فإن تحول
الإنسان من خلُق إلى خلُق إنما يكون تابعاً لتحول السُّنن ومرتباً على
ترتيبها. ولما كانت النواميس، وخاصة في المدينة الفاضلة، لا تتحول من حال
إلى حال فجأة، وهذا أيضاً من قبل الملَكات والأخلاق الفاضلة التي صار على
نهجها أصحابها وربوا عليها، وإنما تتحول شيئاً فشيئاً، وإلى الأقرب
فالأقرب، كان تحول الملكات والهيئات بالضرورة على ذلك الترتيب، حتى إذا
فسدت النواميس غاية الفساد، برزت هناك الأخلاق القبيحة غاية القبح".
ويضيف
فيلسوف قرطبة قائلاً: "ويتبين لك ذلك مما عندنا (في الأندلس) من الملكات
والأخلاق الطارئة بعد العام الأربعين (540 هـ: تاريخ استيلاء الموحدين على
قرطبة) لدى أصحاب السيادة والمراتب. وذلك أنه لما انقطعت أسباب السياسة
الكرامية التي نشأوا عليها، صار أمرهم إلى الدنيويات التي هم عليها الآن،
وإنما يثبت منهم على الخلق الفاضل من كانت به فضيلة الشريعة القرآنية، وهم
فيهم قلة"! وهذه القلة هي التي يقع على عاتقها التغيير والإصلاح.
تلك
كانت نماذج من "كلام" ابن رشد عن الواقع العربي كما عاشه وخبره. وكما
رأينا فلم يكن ابن رشد يخوض في شؤون هذا الواقع بـ"القصد الأول"، وإنما
جاء كلامه نتيجة لعاملين اثنين: أولهما، الاستجابة لطلب صديقه الأمير
الموحدي الذي كان يعد نفسه لاستلام الخلافة، كما بينَّا ذلك قبل.
وثانيهما، اضطراره إلى اعتماد أفلاطون بدل أرسطو، كونه لم يعثر على أثر
لكتاب هذا الأخير في السياسة.
أما الشخص الذي تكلم عن الواقع العربي جملة وبـ"القصد الأول"، والذي سيكون علينا الاستماع له فهو... ابن خلدون.
مفكر مغربي
09:25 | 31.05.2008
د. محمد عابد الجابري | المغربية
أشرنا في نهاية المقال السابق إلى أهمية الأفكار التي بثها أفلاطون في نقد الحكم الاستبدادي، في الحوار الذي أجراه في كتابه "الجمهورية" حول أنظمة الحكم. |
وقلنا
إنه إذا كان هناك نص خالد، يقرأ فيه الناس، من مختلف العصور والأجيال،
صورة الحاكم المستبد في زمانهم ومكانهم، فهو ما ورد في الكتاب التاسع من
"جمهورية" أفلاطون. ومع أن مهمة ابن رشد، في تعامله معه كانت "الاختصار"
فإنه أرخى العنان لقلمه ليطنِب في نقل جميع ما خطَّه قلم أفلاطون في هذا
الموضوع الذي تكلم فيه عن تجربة ومعاناة، إذ كان قد خبر بنفسه الاستبداد
عن قرب. وكما قلنا، فإن ابن رشد ينقل ما كتبه أفلاطون في صيغة حوار نقلاً
مستفيضاً بخطاب تحليلي يشعر القارئ معه بأن الكاتب لا ينقل وإنما يتكلم من
عنده، بعقله ووجدانه. ولا يستطيع القارئ المتفحص للطريقة التي نقل بها ابن
رشد كامل مضمون الكتاب التاسع من "الجمهورية" إلا أن يجزم بأن فيلسوف
قرطبة كان يخاطب أهل زمانه ومكانه على طريقة "إياك أعني واسمعي يا جارة".
وإذا كان هذا هو الموقف الذي يجد فيه نفسه كل من يقرأ هذا "الكتاب التاسع"
في أي عصر كان، فإن فيلسوف قرطبة يأبى إلا أن يتجاوز التلميح إلى الخطاب
المباشر والصريح، مستعملاً مصطلحاً أصيلاً هو "وحدانية التسلط" للتعبير عن
معنى الحكم الاستبدادي.
وهذا التعبير الذي اختاره ابن رشد له
معناه. ذلك أن الاستبداد في الاصطلاح العربي القديم لم يكن مُداناً
بإطلاق، لقد حرص الكُتاب في "السياسة" على التمييز بين الاستبداد المطلق
وهو المُدان، و"الاستبداد المقيَّد" وهو المطلوب، وينصرف معناه إلى
"الحزم". ومن هنا عبارة "المستبد العادل" التي رُفعت أحياناً كشعار للحكم
الصالح، وفي هذا المعنى قيل لا يصلِح أمر هذه الأمة إلا "مستبد عادل"، أي
عادل حازم، وهنا يُذكر عمر بن الخطاب نموذجا...
بعد هذا الاستطراد نعود إلى ابن رشد وطريقته في حكاية أقوال أفلاطون عن الحكم الاستبدادي.
يقول
عن "الطاغية" بالاصطلاح اليوناني و"وحداني التسلط" باصطلاحه هو: "ولهذا
يعظم هذا الفعل منه على الجماعة فيرون أن فعله هو عكس ما قصدوه من تسليمه
الرئاسة، لأنهم إنما قصدوا بذلك أن يحميهم من ذوي اليسار و[يقربهم من] ذوي
الفضائل والخير وأمثالهم من أهل المدينة -لما كان هو من أصحاب الحكم
والسلطان- ليستتب [أمرهم] بسياسته وسياسة خدامه. ولذلك، تسعى الجماعة
الغاضبة الثائرة إلى إخراجه من مدينتهم، فيضطر هو إلى استعبادهم
والاستيلاء على عتادهم وآلة أسلحتهم، فيصير حال الجماعة معه كما يقول
المثل: كالمستجير من الرمضاء بالنار. وذلك أن الجماعة إنما فرَّت من
الاستعباد بتسليمها الرئاسة إليه، فإذا هي تقع في استعباد أكثر قسوة. وهذه
الأعمال هي جميعاً من أعمال رئاسة وحدانية التسلط، وهي شيء بين في أهل
زماننا هذا ليس بالقول فحسب، ولكن أيضاً بالحس والمشاهدة".
وأيضاً:
"ولمكان هذا (بسبب هذا) فوحداني التسلط أشد الناس عبودية، وليس له حيلة في
إشباع شهواته، بل هو أبداً في حزن وأسىً دائمين. ومَنْ هذه صفته فهو ضعيف
النفس، وهو حسود وظالم لا يحب أحداً من الناس. وذلك أن هذه الصفات لما
كانت موجودة فيه قبل الرئاسة، فهي ألزم به بعدها. وبالضرورة لا ريب أن
يكون اليوم الذي يواجه فيه مآله ومصيره يوماً عسيراً، لأن من يركب البخت
والاتفاق (والمصادفة)، كثيراً ما يستخف به. وهذا كله بيِّن وجليٌّ من
هؤلاء، كما قلنا مراراً، لا بالقول [وحسب] ولكن بالمشاهدة [أيضا]ً
مشاهدة مَن؟
هل
يتعلق الأمر بالمنصور الموحدي عند جنوحه إلى الاستبداد، وهو الذي انتزع
الخلافة عند استشهاد أبيه في إحدى المعارك لتحرير مدينة شنترين من يد ملك
قشتالة؟ لقد حض في المعركة، وعندما استشهد أبوه أخفى خبر وفاته حتى فرض
نفسه كأمر واقع، "وكان له من إخوته وعمومته منافسون لا يرونه أهلاً
للإمارة لما كانوا يعرفون من سوء صباه" كما يقول المؤرخون. وإذن فالإشارة
بقوله: "وذلك أن هذه الصفات لما كانت موجودة فيه قبل الرئاسة، فهي ألزم به
بعدها"، قابلة للتأويل: قابلة لتفسر على أنها إشارة مباشرة إلى يعقوب
المنصور؟
فهل نحتاج إلى البحث عن سبب لنكبة ابن رشد خارج هذا الكتاب؟
ويواصل
ابن رشد توجيه الخطاب المباشر إلى أهل زمانه، وبالدرجة الأولى إلى الأمير
الذي طلب منه "كتاباً في السياسة"، فينفصل عن يأس أفلاطون من إقامة
المدينة الفاضلة على أرض الواقع ليعلن إمكانية ذلك، ليس استناداً إلى مجرد
الرغبة والتخمين بل اعتماداً على ما يعطيه "العلم". كان أفلاطون قد حلل
الكيفية التي تتحول بها المدن الخمس (مدينة الملكية الدستورية، مدينة
الكرامة، مدينة الأقلية من الأغنياء، المدينة الجماعية، المدينة وحدانية
التسلط)، ذاهباً إلى أن هذا التحول وعلى هذا الترتيب يتم حتماً وبشكل
دوري، فلا مناص منه.
ولا شك أن ابن رشد الذي كان يفكر في الإصلاح
السياسي قد صدمه هذا الذي ذهب إليه أفلاطون، فأورد اعتراضاً علمياً مفاده
أن التحول من حالة إلى أخرى تحولاً ضرورياً إنما يكون في الظواهر الطبيعية
حيث السيادة للسببية والحتمية. أما في ميدان الظواهر الإنسانية، "وهي
إرادية كليّاً"، فالأمر يختلف. ولذلك فـ"الذي قاله أفلاطون لاشك أنه ليس
ضرورياً، إنما هو الأكثر. وسبب هذا هو أن السياسة القائمة لها أثر في
إكساب الناشئ عليها خلقاً ما، وإن كان منافياً لما طبع عليه من التهيؤ
للأخلاق، ولذلك صار ممكناً أن يكون معظم الناس فاضلين بالفضائل الإنسانية،
ونادراً ما يمتنع ذلك. وقد تبين هذا في الجزء الأول من العلم المدني
(الأخلاق)، إذ قيل هناك إن طرق بلوغ الفضائل العملية هي التعود، كما أن
طريق بلوغ العلوم النظرية هو التعليم. ولما كان ذلك كذلك، فإن تحول
الإنسان من خلُق إلى خلُق إنما يكون تابعاً لتحول السُّنن ومرتباً على
ترتيبها. ولما كانت النواميس، وخاصة في المدينة الفاضلة، لا تتحول من حال
إلى حال فجأة، وهذا أيضاً من قبل الملَكات والأخلاق الفاضلة التي صار على
نهجها أصحابها وربوا عليها، وإنما تتحول شيئاً فشيئاً، وإلى الأقرب
فالأقرب، كان تحول الملكات والهيئات بالضرورة على ذلك الترتيب، حتى إذا
فسدت النواميس غاية الفساد، برزت هناك الأخلاق القبيحة غاية القبح".
ويضيف
فيلسوف قرطبة قائلاً: "ويتبين لك ذلك مما عندنا (في الأندلس) من الملكات
والأخلاق الطارئة بعد العام الأربعين (540 هـ: تاريخ استيلاء الموحدين على
قرطبة) لدى أصحاب السيادة والمراتب. وذلك أنه لما انقطعت أسباب السياسة
الكرامية التي نشأوا عليها، صار أمرهم إلى الدنيويات التي هم عليها الآن،
وإنما يثبت منهم على الخلق الفاضل من كانت به فضيلة الشريعة القرآنية، وهم
فيهم قلة"! وهذه القلة هي التي يقع على عاتقها التغيير والإصلاح.
تلك
كانت نماذج من "كلام" ابن رشد عن الواقع العربي كما عاشه وخبره. وكما
رأينا فلم يكن ابن رشد يخوض في شؤون هذا الواقع بـ"القصد الأول"، وإنما
جاء كلامه نتيجة لعاملين اثنين: أولهما، الاستجابة لطلب صديقه الأمير
الموحدي الذي كان يعد نفسه لاستلام الخلافة، كما بينَّا ذلك قبل.
وثانيهما، اضطراره إلى اعتماد أفلاطون بدل أرسطو، كونه لم يعثر على أثر
لكتاب هذا الأخير في السياسة.
أما الشخص الذي تكلم عن الواقع العربي جملة وبـ"القصد الأول"، والذي سيكون علينا الاستماع له فهو... ابن خلدون.
مفكر مغربي
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: جابريات...
المعقول الديني ... بين السمع والعقل
من طرف منصور في السبت 6 أكتوبر 2007 - 23:28
إذا نحن نظرنا إلى علاقة العقل بالإيمان كما تتحدد في القرآن وجدناها علاقة وظيفية
بمعنى أن وظيفة 'العقل المكتسب'، كما حددناه في مقال سابق، هي إنتاج ما يمكن التعبير عنه بـ 'المعقول الديني' .
والآثار أو 'المواد' التي تستعمل في بناء هذا المعقول الديني الإسلامي
أصناف ثلاثة هي كما ذكرنا قبل : الكون ونظامه، وتاريخ الأنبياء والرسل
وقصصه، والقرآن وبيانه
أما 'الآخر' الذي به يتحدد هذا المعقول
الديني ويتميز، حسب القول المأثور 'بضدها تتميز الأشياء'، فهو ما نطلق
عليه 'اللامعقول العقلي'، وهو الشرك بالله كما كانت قريش تمارسه وتفسره
عنه ومن هنا كان خطاب العقل في القرآن في جملته، خصوصاً قبل فتح مكة، هو
خطاب الصراع مع 'اللامعقول'، 'لامعقول' المشركين الذين يطلبون حضور ما
وراء الطبيعة في الطبيعة، فيعبدون الكواكب والأصنام ويقيمون وسائط بين
الله والناس يلتمسون منها العون والنجاة
إن القرآن يرفض هذا
المنطق من أساسه ويوجه انتباه الناس وجهة أخرى : 'قُلْ هُوَ اللَّهُ
أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ
لَهُ كُفُواً أَحَدٌ' 'الإخلاص 1/ 4 ، 'يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ
مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ : إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ
يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ
الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ' (الحج 73).
بهذه الطريقة يجعل القرآن
الإيمان بالله من مهام العقل وقد نَظَّر المعتزلة لهذه الطريقة انطلاقاً
من مبدئهم القائل : 'العقل قبل ورود السمع'
وفحوى هذا المبدأ أن
العقل يقضي بوجوب النظر في الكون لمعرفة مبدعه وخالقه وحافظ نظامه، وهو
الله وذلك حتى لو لم يكن هناك نبي أو رسول يدعو إلى ذلك فإذا أثبتنا وجود
الله انتقلنا إلى إثبات النبوة بتوظيف مبدأ آخر من مبادئهم وهو أن العقل
يعرف الحَسن من القبيح بما ركَّب فيه الله من قوى
وعلى هذا
الأساس قالوا : بما أن إرسال الرسل لهداية الناس إلى طريق الحق وإرشادهم
إلى مصالحهم في الدنيا والآخرة شيء حسَن فإن العقل يقضي بأن الله لا يبخل
بذلك، لأن الله 'لطيف بعباده'، أي يسهل عليهم سبيل الرشاد، وهذا هو مبدأ
'اللطف' عندهم ذلك أنه لما كان من المصالح الدنيوية والأخروية ما لا يحيط
به العقل، خصوصاً منها العبادات والشرائع، فإن مهمة الرسل هي بيان هذه
للناس
أما ما يقوله براهمة الهند من 'أن هؤلاء الرسل إن أتوا بما
في العقل ففي العقل كفاية عنهم، وإن أتوا بخلافه فيجب أن يكون قولهم
مردوداً عليهم غير مقبول منهم'، فرأي خطأ في نظر المعتزلة : 'لأن ما تأتي
به الرسل، والحال كما قلنا، لا يكون إلا تفصيل ما تَقَرَّرَ جملتُه في
العقل، فقد ذكرنا أن وجوب المصلحة وقبح المفسدة متقرران في العقل إلا أننا
لما لم يمكنا أن نعلم، عقلاً، أن هذا الفعل مصلحة وذاك مفسدة بعث الله
إلينا الرسل ليعرِّفونا ذلك من حال هذه الأفعال، فيكونوا قد جاءوا بتقرير
ما قد ركبه الله تعالى في عقولنا وتفصيل ما قد تقرر فيها' (القاضي عبد
الجبار)
أما أهل السنة والأشاعرة الذين لا يوافقون المعتزلة على
مبادئهم المذكورة فهم يثبتون النبوة عموماً، انطلاقاً من قوله تعالى :
'قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ (رسل الأقوام المنكرين للنبوة) : إِنْ نَحْنُ
إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ
مِنْ عِبَادِهِ
وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ
إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ'
(إبراهيم 11) ونظرية 'المِنَّة' هذه هي أساس حِجاج أهل السُّنة في إثبات
النبوات يقولون فإذا أثبتنا بالعقل أن للعالم صانعاً وخالقاً وحكيماً،
فلنعترف بأنه آمرٌ وناهٍ، كالحاكم على خلقه، وله، في جميع ما نأتي ونذرُ
ونعمل ونفكر، حكمٌ.
وليس كل عقل إنساني على استعداد ليعقل عنه
أمره، ولا كل نفس بشري بمثابة من يقبل عنه حكمه، بل 'أوجبَتْ مِنَّتُه
ترتيباً في العقول والنفوس، لذلك منَّ عليهم بالنبوة، فضلٌ من الله ورحمة،
ترشد الناس إلى ما ليس من اختصاص العقل إدراكه، إلى بيان أوامر الله
ونواهيه بما فيه سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة'
كل شيء في
الإسلام، عقيدةً وشريعةً، قابل، مبدئياً على الأقل، للتبرير العقلي، بما
في ذلك الإيمان نفسه، بشرط أن يترك العقل النظري مكانه للعقل العملي وواضح
أنه في هذا المجال يكاد يكون الفرق بينهم وبين المعتزلة في الألفاظ فقط
غير
أنه إذا كان الأشاعرة يوافقون المعتزلة في كون العقل يستطيع بمفرده التوصل
إلى معرفة وجود الله وإثبات النبوات، فإنهم ينفصلون عنهم بالقول إن مهمة
العقل تنتهي بإثبات النبوة
وقد عبَّر الغزالي عن ذلك بقولته المشهورة : 'العقل يدل على صدق النبي، ثم يعزل نفسه'
غير أن المقصود هنا ليس العقل مطلقاً، بل العقل الذي يعتمده 'المتكلمون'
الذين يقتصر دورهم على الدفاع عن العقيدة، والذين يعتمد منهجهم المفضل،
أعني 'الاستدلال بالشاهد على الغائب' (أو بالمعلوم على المجهول(، وبالتالي
فليس من حق هذا العقل ولا من اختصاصه الخوض في تفصيل أمور الآخرة ولا في
أنواع ودرجات الحلال والحرام؛ فهذه الأمور من اختصاص الفقهاء والأصوليين،
هؤلاء الذين يعتمدون العقل، لا بمعنى 'الاستدلال بالشاهد على الغائب'، بل
بمعنى 'الاجتهاد'، أي استثمار ألفاظ النصوص الشرعية وقياس الفروع على
الأصول، كما هو مبين في كتبهم
وإذا نحن أردنا أن نبرز أساس
الخلاف بين المعتزلة وأهل السُّنة حنابلة وأشاعرة في المسائل التي ذكرنا
أمكن القول إنه خلاف ينبني على قول المعتزلة إن الله الذي خلق العالم قد
قصد أن يجعل منه دليلاً على وجوده، وإلا كان خلقه له عبثاً، والله منزه عن
العبث، وبالتالي فالنظر في العالم، الذي هو أمارة ودليل، لابد أن يؤدي إلى
إثبات المدلول وهو الله أما الأشاعرة وأهل السُّنة عموماً فهم يقولون إننا
لا نعرف كون العالم دليلاً وأمارة على وجود الله إلا من خلال »السمع«، أي
أن القرآن هو الذي يأمرنا بذلك
إذا كان الإنسان يستطيع التوصل إلى
معرفة وجود الله من خلال النظر في الكون ونظامه فمتى يجب عليه ذلك، أي في
أية مرحلة من مراحل عمره؟ قال بعض المتكلمين ومنهم الأشاعرة : إن من ظهرت
عليه علامات البلوغ (كالاحتلام للأطفال والمحيض للبنات أو بلوغ نحو سبع
عشرة سنة) وجبت عليه معرفة الله عن طريق الاستدلال، وأن على أبويه أو ولي
أمره أن يدربه على ذلك
أما غير هؤلاء فيرون أن كل من اعتقد بقلبه
بوجود الله اعتقاداً لا يشك فيه وقال بلسانه لا إله إلا الله وأن محمداً
رسول الله وأن كل ما جاء به حق فهو مسلم مؤمن
وإنما اشترطت الطائفة
الأولى معرفة الله عن طريق الاستدلال منذ سن البلوغ ليكون إيمان المسلم
مبنياً على الاقتناع الشخصي المبني على إعمال العقل، وليس على مجرد تقليد
الأبناء للآباء، وهو تقليد ذمَّه القرآن في مواضع كثيرة مثل قوله تعالى :
'.. قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى
آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ' (الزخرف 22)، وقوله : 'قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا
آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ' (الشعراء 74)
تلك كانت الخطوط
العالمة لعلاقة الإيمان بالعقل في القرآن مع إشارات إلى مواقف كل من أهل
السُّنة والمعتزلة، وهم 'المتكلمون' في العقيدة، أي علماء اللاهوت
الإسلامي، إن جاز التعبير، مع التأكيد على خلو الإسلام من 'الأسرار' التي
تختص بالقول فيها فئة خاصة معدة لذلك؟ كل شيء في الإسلام، عقيدة وشريعة،
قابل مبدئياً على الأقل، للتبرير العقلي، بما في ذلك الإيمان نفسه
لكن مع هذا الشرط وهو أن يترك العقل النظري (الكلامي(مكانه للعقل العملي (الفقهي/ المذهبي) بمجرد ما يثبت النبوة
| 06.10.2007
د محمد عابد الجابري | المغربية
من طرف منصور في السبت 6 أكتوبر 2007 - 23:28
إذا نحن نظرنا إلى علاقة العقل بالإيمان كما تتحدد في القرآن وجدناها علاقة وظيفية
بمعنى أن وظيفة 'العقل المكتسب'، كما حددناه في مقال سابق، هي إنتاج ما يمكن التعبير عنه بـ 'المعقول الديني' .
والآثار أو 'المواد' التي تستعمل في بناء هذا المعقول الديني الإسلامي
أصناف ثلاثة هي كما ذكرنا قبل : الكون ونظامه، وتاريخ الأنبياء والرسل
وقصصه، والقرآن وبيانه
أما 'الآخر' الذي به يتحدد هذا المعقول
الديني ويتميز، حسب القول المأثور 'بضدها تتميز الأشياء'، فهو ما نطلق
عليه 'اللامعقول العقلي'، وهو الشرك بالله كما كانت قريش تمارسه وتفسره
عنه ومن هنا كان خطاب العقل في القرآن في جملته، خصوصاً قبل فتح مكة، هو
خطاب الصراع مع 'اللامعقول'، 'لامعقول' المشركين الذين يطلبون حضور ما
وراء الطبيعة في الطبيعة، فيعبدون الكواكب والأصنام ويقيمون وسائط بين
الله والناس يلتمسون منها العون والنجاة
إن القرآن يرفض هذا
المنطق من أساسه ويوجه انتباه الناس وجهة أخرى : 'قُلْ هُوَ اللَّهُ
أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ
لَهُ كُفُواً أَحَدٌ' 'الإخلاص 1/ 4 ، 'يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ
مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ : إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ
يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ
الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ' (الحج 73).
بهذه الطريقة يجعل القرآن
الإيمان بالله من مهام العقل وقد نَظَّر المعتزلة لهذه الطريقة انطلاقاً
من مبدئهم القائل : 'العقل قبل ورود السمع'
وفحوى هذا المبدأ أن
العقل يقضي بوجوب النظر في الكون لمعرفة مبدعه وخالقه وحافظ نظامه، وهو
الله وذلك حتى لو لم يكن هناك نبي أو رسول يدعو إلى ذلك فإذا أثبتنا وجود
الله انتقلنا إلى إثبات النبوة بتوظيف مبدأ آخر من مبادئهم وهو أن العقل
يعرف الحَسن من القبيح بما ركَّب فيه الله من قوى
وعلى هذا
الأساس قالوا : بما أن إرسال الرسل لهداية الناس إلى طريق الحق وإرشادهم
إلى مصالحهم في الدنيا والآخرة شيء حسَن فإن العقل يقضي بأن الله لا يبخل
بذلك، لأن الله 'لطيف بعباده'، أي يسهل عليهم سبيل الرشاد، وهذا هو مبدأ
'اللطف' عندهم ذلك أنه لما كان من المصالح الدنيوية والأخروية ما لا يحيط
به العقل، خصوصاً منها العبادات والشرائع، فإن مهمة الرسل هي بيان هذه
للناس
أما ما يقوله براهمة الهند من 'أن هؤلاء الرسل إن أتوا بما
في العقل ففي العقل كفاية عنهم، وإن أتوا بخلافه فيجب أن يكون قولهم
مردوداً عليهم غير مقبول منهم'، فرأي خطأ في نظر المعتزلة : 'لأن ما تأتي
به الرسل، والحال كما قلنا، لا يكون إلا تفصيل ما تَقَرَّرَ جملتُه في
العقل، فقد ذكرنا أن وجوب المصلحة وقبح المفسدة متقرران في العقل إلا أننا
لما لم يمكنا أن نعلم، عقلاً، أن هذا الفعل مصلحة وذاك مفسدة بعث الله
إلينا الرسل ليعرِّفونا ذلك من حال هذه الأفعال، فيكونوا قد جاءوا بتقرير
ما قد ركبه الله تعالى في عقولنا وتفصيل ما قد تقرر فيها' (القاضي عبد
الجبار)
أما أهل السنة والأشاعرة الذين لا يوافقون المعتزلة على
مبادئهم المذكورة فهم يثبتون النبوة عموماً، انطلاقاً من قوله تعالى :
'قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ (رسل الأقوام المنكرين للنبوة) : إِنْ نَحْنُ
إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ
مِنْ عِبَادِهِ
وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ
إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ'
(إبراهيم 11) ونظرية 'المِنَّة' هذه هي أساس حِجاج أهل السُّنة في إثبات
النبوات يقولون فإذا أثبتنا بالعقل أن للعالم صانعاً وخالقاً وحكيماً،
فلنعترف بأنه آمرٌ وناهٍ، كالحاكم على خلقه، وله، في جميع ما نأتي ونذرُ
ونعمل ونفكر، حكمٌ.
وليس كل عقل إنساني على استعداد ليعقل عنه
أمره، ولا كل نفس بشري بمثابة من يقبل عنه حكمه، بل 'أوجبَتْ مِنَّتُه
ترتيباً في العقول والنفوس، لذلك منَّ عليهم بالنبوة، فضلٌ من الله ورحمة،
ترشد الناس إلى ما ليس من اختصاص العقل إدراكه، إلى بيان أوامر الله
ونواهيه بما فيه سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة'
كل شيء في
الإسلام، عقيدةً وشريعةً، قابل، مبدئياً على الأقل، للتبرير العقلي، بما
في ذلك الإيمان نفسه، بشرط أن يترك العقل النظري مكانه للعقل العملي وواضح
أنه في هذا المجال يكاد يكون الفرق بينهم وبين المعتزلة في الألفاظ فقط
غير
أنه إذا كان الأشاعرة يوافقون المعتزلة في كون العقل يستطيع بمفرده التوصل
إلى معرفة وجود الله وإثبات النبوات، فإنهم ينفصلون عنهم بالقول إن مهمة
العقل تنتهي بإثبات النبوة
وقد عبَّر الغزالي عن ذلك بقولته المشهورة : 'العقل يدل على صدق النبي، ثم يعزل نفسه'
غير أن المقصود هنا ليس العقل مطلقاً، بل العقل الذي يعتمده 'المتكلمون'
الذين يقتصر دورهم على الدفاع عن العقيدة، والذين يعتمد منهجهم المفضل،
أعني 'الاستدلال بالشاهد على الغائب' (أو بالمعلوم على المجهول(، وبالتالي
فليس من حق هذا العقل ولا من اختصاصه الخوض في تفصيل أمور الآخرة ولا في
أنواع ودرجات الحلال والحرام؛ فهذه الأمور من اختصاص الفقهاء والأصوليين،
هؤلاء الذين يعتمدون العقل، لا بمعنى 'الاستدلال بالشاهد على الغائب'، بل
بمعنى 'الاجتهاد'، أي استثمار ألفاظ النصوص الشرعية وقياس الفروع على
الأصول، كما هو مبين في كتبهم
وإذا نحن أردنا أن نبرز أساس
الخلاف بين المعتزلة وأهل السُّنة حنابلة وأشاعرة في المسائل التي ذكرنا
أمكن القول إنه خلاف ينبني على قول المعتزلة إن الله الذي خلق العالم قد
قصد أن يجعل منه دليلاً على وجوده، وإلا كان خلقه له عبثاً، والله منزه عن
العبث، وبالتالي فالنظر في العالم، الذي هو أمارة ودليل، لابد أن يؤدي إلى
إثبات المدلول وهو الله أما الأشاعرة وأهل السُّنة عموماً فهم يقولون إننا
لا نعرف كون العالم دليلاً وأمارة على وجود الله إلا من خلال »السمع«، أي
أن القرآن هو الذي يأمرنا بذلك
إذا كان الإنسان يستطيع التوصل إلى
معرفة وجود الله من خلال النظر في الكون ونظامه فمتى يجب عليه ذلك، أي في
أية مرحلة من مراحل عمره؟ قال بعض المتكلمين ومنهم الأشاعرة : إن من ظهرت
عليه علامات البلوغ (كالاحتلام للأطفال والمحيض للبنات أو بلوغ نحو سبع
عشرة سنة) وجبت عليه معرفة الله عن طريق الاستدلال، وأن على أبويه أو ولي
أمره أن يدربه على ذلك
أما غير هؤلاء فيرون أن كل من اعتقد بقلبه
بوجود الله اعتقاداً لا يشك فيه وقال بلسانه لا إله إلا الله وأن محمداً
رسول الله وأن كل ما جاء به حق فهو مسلم مؤمن
وإنما اشترطت الطائفة
الأولى معرفة الله عن طريق الاستدلال منذ سن البلوغ ليكون إيمان المسلم
مبنياً على الاقتناع الشخصي المبني على إعمال العقل، وليس على مجرد تقليد
الأبناء للآباء، وهو تقليد ذمَّه القرآن في مواضع كثيرة مثل قوله تعالى :
'.. قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى
آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ' (الزخرف 22)، وقوله : 'قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا
آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ' (الشعراء 74)
تلك كانت الخطوط
العالمة لعلاقة الإيمان بالعقل في القرآن مع إشارات إلى مواقف كل من أهل
السُّنة والمعتزلة، وهم 'المتكلمون' في العقيدة، أي علماء اللاهوت
الإسلامي، إن جاز التعبير، مع التأكيد على خلو الإسلام من 'الأسرار' التي
تختص بالقول فيها فئة خاصة معدة لذلك؟ كل شيء في الإسلام، عقيدة وشريعة،
قابل مبدئياً على الأقل، للتبرير العقلي، بما في ذلك الإيمان نفسه
لكن مع هذا الشرط وهو أن يترك العقل النظري (الكلامي(مكانه للعقل العملي (الفقهي/ المذهبي) بمجرد ما يثبت النبوة
| 06.10.2007
د محمد عابد الجابري | المغربية
منصور- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 1943
العمر : 44
Localisation : loin du bled
تاريخ التسجيل : 07/05/2007
رد: جابريات...
العلاقة بين الإيمان والإسلام ... في القرآن
بما أن موضوع الإيمان هو من 'المغيبات'، وبما أن في الدنيا منذ قديم
الزمان منجمين وكهان، فقد يكون من المفيد لمن هم من هذا الصنف من 'الناس
والشياطين' أن نسهل عليهم المهمة، عساهم يتميزون قليلاً عن 'ولا الضالين'،
فنخبرهم أن هذه المقالات مستقاة من بحث طلبت منا مجلة مسيحية كاثوليكية
دولية تصدر بلغات متعددة إنجازه، وكان ذلك إثر ردود الفعل التي قامت في
العالم الإسلامي إثر خطاب البابا، والتي ساهمنا فيها بمقالات نشرت متسلسلة
على هذه الصفحةوكنوع من التكملة لما كتبناه حول خطاب البابا قررنا نشر هذه
الحلقات
قلنا إننا خصصنا المقال الأول لشرح مقارن لمفهوم الإيمان
في الديانات التوحيدية الثلاث، وسنخصص مقال اليوم لعقد مقارنة بين
'الإيمان' و'الإسلام' في الدين الإسلامي
وبما أن هدف البحث الذي
نستقي منه هذا المقال هو تعريف غير المسلمين بالموضوع، فقد كان من الضروري
الاعتماد على القرآن أساساً، وليس على كتب الفِرق والنِّحل التي يعرف
المستشرقون مضامينها وقد عرضوها في مؤلفاتهم، بينما لا يعرف 'المراؤون'
غير بعض أسمائها ربما عن سماع، والله وأعلم يميز اللغويون بين الإيمان
والإسلام فالإيمان هو تصديقٌ محلُّهُ 'القلب'، أما الإسلام فهو إعلان
الاستسلام ويكون باللسان ومن هذه المقارنة يستنتجون أن 'كل مؤمن مسلم،
ولكن ليس كل مسلم مؤمناً' غير أن هذا النوع من التمييز والمقارنة لا
يستغرق جميع استعمالات القرآن لهذين اللفظين فقد وردت آيات تفيد أن
الإيمان (لدى بعض الناس ) لا يكفي بل لابد من الإسلام، أي لابد من الإذعان
الذي يقتضي التوكل على الله
من ذلك قوله تعالى : 'وَقَالَ مُوسَى
يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا
إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ' (يونس 84)
ومثل ذلك قوله : 'يَا
عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ )يوم القيامة( وَلا أَنْتُمْ
تَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ'
الزخرف 68( 69)، فانتفاء الخوف والحزن يوم القيامة عن الذين آمنوا (بعيسى
عليه السلام)، يتطلب أن يكونوا في الدنيا مسلمين، فالإسلام وضع هنا موضع
الشرط
ولكن بمعنى أعم : ففي القرآن : 'قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ
وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ
مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ (لله) مُسْلِمُونَ'
فالخطاب هنا
موجه إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين برسالته، يأمرهم أن
يؤمنوا كذلك بما أنزل على أنبيائه ورسله السابقين، ويعلنوا إسلامهم أي
خضوعهم لله
وتأتي الآية التالية مباشرة لتؤكد : 'وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ
مِنْ الْخَاسِرِينَ' (آل عمران 84/ 85(تأتي هذه الآية إذن، لتقرر أن
الإسلام بهذا المعنى الواسع، الذي يشمل الدين المنتمي إلى إبراهيم هو وحده
الدين المقبول عند الله، الدين الذي قال عنه القرآن في مكان آخر إنه :
»مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ
قَبْلُ' (78 الحج
أما ما حدث من اختلاف بين أبناء إبراهيم في أمور من هذا الدين فذلك منهم، وليس من الله
ذلك لقوله تعالى : 'إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ؟ وَمَا
اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ
الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ
اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ
وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِي، وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ (العرب المشركون) أَأَسْلَمْتُمْ؟ فَإِنْ
أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ
الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ' (آل عمران19/ 20)
العلاقة بين 'الإيمان' و'الإسلام' ليست وحيدة الاتجاه، وبالتالي فليس صحيحاً أن كل مسلم مؤمن، ولا أن كل مؤمن مسلم!
واضح من هذه الآيات أن مفهوم 'الإسلام' في القرآن يتسع ليشمل الديانات
المتفرعة عن الدين الحنيف، دين إبراهيم، وهي أساساً اليهودية والنصرانية
والإسلام، ويضاف إليها في آيات أخرى الصابئون والمجوس (البقرة : 62،
المائدة : 69)، وقد اختلف المفسِّرون في سبب استحقاق الصابئة والمجوس
الانتماء إلى دين إبراهيم، منهم من يقول »لهم شبه كتاب« من بقايا دين
إبراهيم الخ
غير أن مفهوم 'الإسلام' يضيق في آيات أخرى ليفيد مجرد
الإعلان باللسان عن الانتماء إلى الإسلام بمعنى الاستجابة للدعوة
المحمدية، دون الإيمان بالقلب
كما كان حال بعض الأعراب زمن
النبي عليه الصلاة والسلام : قال تعالى : 'قَالَتِ الأَعْرَابُ آَمَنَّا،
قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ
الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ' (الحجرات 14)
في هذه الآية، إذن، تحديد
جديد للعلاقة بين الإيمان والإسلام وفق مقتضى الحال نزلت هذه الآية والتي
بعدها في بعض الأعراب (من سكان بادية المدينة(الذين يقول عنهم المفسرون
إنهم أعلنوا إسلامهم وجاءوا إلى المدينة يطلبون من الرسول عليه الصلاة
والسلام أن يمنحهم وضعية المهاجرين بكل استحقاقاتها في الدنيا والآخرة
الخ، فجاءت الآيات السابقة ترد عليهم، بأن إعلان إسلامهم بمجرد اللسان لا
يكفي بل لابد من الإيمان بقلوبهم برسالة الإسلام، وهذا يتطلب طاعة الله
ورسوله، فإن فعلوا ذلك بصدق نية فإنهم سينالون ما يستحقونه ولن يضيع منه
شيء
ثم حدد القرآن بعد ذلك، ودائماً في نفس السياق، الخصال التي
تجعل المسلم يرتفع إلى مستوى من الإيمان يستحق به ما طلبه أولئك الأعراب،
فقال تعالى : »إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ'
(الحجرات 15)
يتضح مما تقدم أن العلاقة بين 'الإيمان' و'الإسلام'
ليست وحيدة الاتجاه، وبالتالي فليس صحيحاً أن كل مسلم مؤمن، ولا أن كل
مؤمن مسلم إن وضعية الشخص هي التي بها تتحدد العلاقة بين هذين المفهومين
هناك فرق آخر بين الإيمان والإسلام، مماثلاً للذي ذكرنا، يخص هذه المرة
إمكانية وصف أحدهما، دون الآخر، بكونه يقبل الزيادة والنقصان
ففي القرآن آيات تتحدث عن ازدياد الإيمان وازدياد عكسه الكفر، بينما لا نجد ما يشير إلى هذه الإمكانية بخصوص الإسلام
من ذلك قوله تعالى : 'وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً
وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا
لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ
آَمَنُوا إِيمَاناً وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً' (المدثر 31)
فها هنا نص واضح يفيد أن الإيمان يزداد ولكن ما معنى الزيادة هنا، ومن تقع
عليه؟ في الآية السابقة لهذه إشارة إلى أن عدد خزنة جهنم تسعة عشر ملاكاً،
ثم جاءت هذه الآية لتبين أن المقصود ليس هذا العدد نفسه وإنما المقصود من
ذكره هو أن يزداد 'الذين آمنوا' معرفة بـ 'اليوم الآخر' بإخبارهم بأن في
جهنم حراساً من الملائكة عديدين، والعدد 'تسعة عشر' يفهمه المؤمن على أنه
كناية عن الكثرة، أما الحاقدون على الإسلام والحاسدون للمسلمين والكفار
المشركون فسيُفـْتـَنُون وتحار عقولهم ويتساءلون 'ماذا أراد الله« بذكر
هذا العدد
فالزيادة في الإيمان هنا تعني اكتساب مزيد من المعرفة بموضوع من موضوعات الإيمان التي هي موضوعات تنتمي إلى 'عالم الغيب'
وينص القرآن على أن ازدياد الإيمان، بالمعنى الذي ذكرناه، يرفع المؤمن درجات على مستوى الثواب
من ذلك قوله تعالى : 'إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ
اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ
زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، الَّذِينَ
يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، أُولَئِكَ هُمُ
الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ
وَرِزْقٌ كَرِيمٌ' (الأنفال/ 2/ 4)
والمقصود هنا بـ 'الآيات'، ليس
ألفاظ النص القرآني وعباراته فحسب، بل المقصود أساساً هو المخلوقات
والأحداث والعلامات ومعجزات الأنبياء التي تذكرها هذه الألفاظ والعبارات
مما له دلالة خاصة، تبرز قدرة الله أو رحمته أو عقابه أو غير ذلك مما
ينطوي على زيادة معرفة بهذه المغيبات
وهكذا فذكر الله يبعث
الخشية في قلوب المؤمنين، وذكر العلامات التي تدل على قدرته وبديع صنعه
واتساع رحمته وشديد عقابه يزيدهم معرفة وتصديقاً بوجود الله ويدفعهم إلى
التوكل عليه والقيام بالفرائض التي فرضها عليهم فيقيمون الصلاة ويؤتون
الزكاة
الخ، وبذلك يكتسبون صفة المؤمن الحق، الذي ترتفع
درجة التصديق عنده إلى مستوى اليقين، فيجمع بين التصديق والعمل بما صدّق
به، ويستحق بالتالي درجات أعلى عند الله مصحوبة بالمغفرة والرزق الكريم
وكما يقوى الإيمان بازدياد المعرفة بموضوعات الإيمان يضعف بنقصان درجة
التصديق ونزوله إلى مستوى الارتياب الذي يسبب حالة من الحيرة والاضطراب في
النفس، يعبر عنها بلغة المجاز بـ »مرض القلب« وتلحقه الزيادة والنقصان
والمصابون بهذا المرض سماهم القرآن بـ 'المنافقين'، وقد حدد صفاتهم بقوله
: 'وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ
الآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ، يُخَادِعُونَ اللَهَ وَالَّذِينَ
آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا
فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ
الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ' (البقرة) 8/ 12.
22.09.2007
د محمد عابد الجابري | المغربية
بما أن موضوع الإيمان هو من 'المغيبات'، وبما أن في الدنيا منذ قديم
الزمان منجمين وكهان، فقد يكون من المفيد لمن هم من هذا الصنف من 'الناس
والشياطين' أن نسهل عليهم المهمة، عساهم يتميزون قليلاً عن 'ولا الضالين'،
فنخبرهم أن هذه المقالات مستقاة من بحث طلبت منا مجلة مسيحية كاثوليكية
دولية تصدر بلغات متعددة إنجازه، وكان ذلك إثر ردود الفعل التي قامت في
العالم الإسلامي إثر خطاب البابا، والتي ساهمنا فيها بمقالات نشرت متسلسلة
على هذه الصفحةوكنوع من التكملة لما كتبناه حول خطاب البابا قررنا نشر هذه
الحلقات
قلنا إننا خصصنا المقال الأول لشرح مقارن لمفهوم الإيمان
في الديانات التوحيدية الثلاث، وسنخصص مقال اليوم لعقد مقارنة بين
'الإيمان' و'الإسلام' في الدين الإسلامي
وبما أن هدف البحث الذي
نستقي منه هذا المقال هو تعريف غير المسلمين بالموضوع، فقد كان من الضروري
الاعتماد على القرآن أساساً، وليس على كتب الفِرق والنِّحل التي يعرف
المستشرقون مضامينها وقد عرضوها في مؤلفاتهم، بينما لا يعرف 'المراؤون'
غير بعض أسمائها ربما عن سماع، والله وأعلم يميز اللغويون بين الإيمان
والإسلام فالإيمان هو تصديقٌ محلُّهُ 'القلب'، أما الإسلام فهو إعلان
الاستسلام ويكون باللسان ومن هذه المقارنة يستنتجون أن 'كل مؤمن مسلم،
ولكن ليس كل مسلم مؤمناً' غير أن هذا النوع من التمييز والمقارنة لا
يستغرق جميع استعمالات القرآن لهذين اللفظين فقد وردت آيات تفيد أن
الإيمان (لدى بعض الناس ) لا يكفي بل لابد من الإسلام، أي لابد من الإذعان
الذي يقتضي التوكل على الله
من ذلك قوله تعالى : 'وَقَالَ مُوسَى
يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا
إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ' (يونس 84)
ومثل ذلك قوله : 'يَا
عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ )يوم القيامة( وَلا أَنْتُمْ
تَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ'
الزخرف 68( 69)، فانتفاء الخوف والحزن يوم القيامة عن الذين آمنوا (بعيسى
عليه السلام)، يتطلب أن يكونوا في الدنيا مسلمين، فالإسلام وضع هنا موضع
الشرط
ولكن بمعنى أعم : ففي القرآن : 'قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ
وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ
مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ (لله) مُسْلِمُونَ'
فالخطاب هنا
موجه إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين برسالته، يأمرهم أن
يؤمنوا كذلك بما أنزل على أنبيائه ورسله السابقين، ويعلنوا إسلامهم أي
خضوعهم لله
وتأتي الآية التالية مباشرة لتؤكد : 'وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ
مِنْ الْخَاسِرِينَ' (آل عمران 84/ 85(تأتي هذه الآية إذن، لتقرر أن
الإسلام بهذا المعنى الواسع، الذي يشمل الدين المنتمي إلى إبراهيم هو وحده
الدين المقبول عند الله، الدين الذي قال عنه القرآن في مكان آخر إنه :
»مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ
قَبْلُ' (78 الحج
أما ما حدث من اختلاف بين أبناء إبراهيم في أمور من هذا الدين فذلك منهم، وليس من الله
ذلك لقوله تعالى : 'إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ؟ وَمَا
اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ
الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ
اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ
وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِي، وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ (العرب المشركون) أَأَسْلَمْتُمْ؟ فَإِنْ
أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ
الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ' (آل عمران19/ 20)
العلاقة بين 'الإيمان' و'الإسلام' ليست وحيدة الاتجاه، وبالتالي فليس صحيحاً أن كل مسلم مؤمن، ولا أن كل مؤمن مسلم!
واضح من هذه الآيات أن مفهوم 'الإسلام' في القرآن يتسع ليشمل الديانات
المتفرعة عن الدين الحنيف، دين إبراهيم، وهي أساساً اليهودية والنصرانية
والإسلام، ويضاف إليها في آيات أخرى الصابئون والمجوس (البقرة : 62،
المائدة : 69)، وقد اختلف المفسِّرون في سبب استحقاق الصابئة والمجوس
الانتماء إلى دين إبراهيم، منهم من يقول »لهم شبه كتاب« من بقايا دين
إبراهيم الخ
غير أن مفهوم 'الإسلام' يضيق في آيات أخرى ليفيد مجرد
الإعلان باللسان عن الانتماء إلى الإسلام بمعنى الاستجابة للدعوة
المحمدية، دون الإيمان بالقلب
كما كان حال بعض الأعراب زمن
النبي عليه الصلاة والسلام : قال تعالى : 'قَالَتِ الأَعْرَابُ آَمَنَّا،
قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ
الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ' (الحجرات 14)
في هذه الآية، إذن، تحديد
جديد للعلاقة بين الإيمان والإسلام وفق مقتضى الحال نزلت هذه الآية والتي
بعدها في بعض الأعراب (من سكان بادية المدينة(الذين يقول عنهم المفسرون
إنهم أعلنوا إسلامهم وجاءوا إلى المدينة يطلبون من الرسول عليه الصلاة
والسلام أن يمنحهم وضعية المهاجرين بكل استحقاقاتها في الدنيا والآخرة
الخ، فجاءت الآيات السابقة ترد عليهم، بأن إعلان إسلامهم بمجرد اللسان لا
يكفي بل لابد من الإيمان بقلوبهم برسالة الإسلام، وهذا يتطلب طاعة الله
ورسوله، فإن فعلوا ذلك بصدق نية فإنهم سينالون ما يستحقونه ولن يضيع منه
شيء
ثم حدد القرآن بعد ذلك، ودائماً في نفس السياق، الخصال التي
تجعل المسلم يرتفع إلى مستوى من الإيمان يستحق به ما طلبه أولئك الأعراب،
فقال تعالى : »إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ'
(الحجرات 15)
يتضح مما تقدم أن العلاقة بين 'الإيمان' و'الإسلام'
ليست وحيدة الاتجاه، وبالتالي فليس صحيحاً أن كل مسلم مؤمن، ولا أن كل
مؤمن مسلم إن وضعية الشخص هي التي بها تتحدد العلاقة بين هذين المفهومين
هناك فرق آخر بين الإيمان والإسلام، مماثلاً للذي ذكرنا، يخص هذه المرة
إمكانية وصف أحدهما، دون الآخر، بكونه يقبل الزيادة والنقصان
ففي القرآن آيات تتحدث عن ازدياد الإيمان وازدياد عكسه الكفر، بينما لا نجد ما يشير إلى هذه الإمكانية بخصوص الإسلام
من ذلك قوله تعالى : 'وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً
وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا
لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ
آَمَنُوا إِيمَاناً وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً' (المدثر 31)
فها هنا نص واضح يفيد أن الإيمان يزداد ولكن ما معنى الزيادة هنا، ومن تقع
عليه؟ في الآية السابقة لهذه إشارة إلى أن عدد خزنة جهنم تسعة عشر ملاكاً،
ثم جاءت هذه الآية لتبين أن المقصود ليس هذا العدد نفسه وإنما المقصود من
ذكره هو أن يزداد 'الذين آمنوا' معرفة بـ 'اليوم الآخر' بإخبارهم بأن في
جهنم حراساً من الملائكة عديدين، والعدد 'تسعة عشر' يفهمه المؤمن على أنه
كناية عن الكثرة، أما الحاقدون على الإسلام والحاسدون للمسلمين والكفار
المشركون فسيُفـْتـَنُون وتحار عقولهم ويتساءلون 'ماذا أراد الله« بذكر
هذا العدد
فالزيادة في الإيمان هنا تعني اكتساب مزيد من المعرفة بموضوع من موضوعات الإيمان التي هي موضوعات تنتمي إلى 'عالم الغيب'
وينص القرآن على أن ازدياد الإيمان، بالمعنى الذي ذكرناه، يرفع المؤمن درجات على مستوى الثواب
من ذلك قوله تعالى : 'إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ
اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ
زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، الَّذِينَ
يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، أُولَئِكَ هُمُ
الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ
وَرِزْقٌ كَرِيمٌ' (الأنفال/ 2/ 4)
والمقصود هنا بـ 'الآيات'، ليس
ألفاظ النص القرآني وعباراته فحسب، بل المقصود أساساً هو المخلوقات
والأحداث والعلامات ومعجزات الأنبياء التي تذكرها هذه الألفاظ والعبارات
مما له دلالة خاصة، تبرز قدرة الله أو رحمته أو عقابه أو غير ذلك مما
ينطوي على زيادة معرفة بهذه المغيبات
وهكذا فذكر الله يبعث
الخشية في قلوب المؤمنين، وذكر العلامات التي تدل على قدرته وبديع صنعه
واتساع رحمته وشديد عقابه يزيدهم معرفة وتصديقاً بوجود الله ويدفعهم إلى
التوكل عليه والقيام بالفرائض التي فرضها عليهم فيقيمون الصلاة ويؤتون
الزكاة
الخ، وبذلك يكتسبون صفة المؤمن الحق، الذي ترتفع
درجة التصديق عنده إلى مستوى اليقين، فيجمع بين التصديق والعمل بما صدّق
به، ويستحق بالتالي درجات أعلى عند الله مصحوبة بالمغفرة والرزق الكريم
وكما يقوى الإيمان بازدياد المعرفة بموضوعات الإيمان يضعف بنقصان درجة
التصديق ونزوله إلى مستوى الارتياب الذي يسبب حالة من الحيرة والاضطراب في
النفس، يعبر عنها بلغة المجاز بـ »مرض القلب« وتلحقه الزيادة والنقصان
والمصابون بهذا المرض سماهم القرآن بـ 'المنافقين'، وقد حدد صفاتهم بقوله
: 'وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ
الآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ، يُخَادِعُونَ اللَهَ وَالَّذِينَ
آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا
فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ
الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ' (البقرة) 8/ 12.
22.09.2007
د محمد عابد الجابري | المغربية
منصور- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 1943
العمر : 44
Localisation : loin du bled
تاريخ التسجيل : 07/05/2007
رد: جابريات...
الإيمان بين التصديق والعمل ... والعقل
ان الإيمان، في القرآن، يقبل الزيادة والنقصان : يزداد عندما يقترن بصالح
الأعمال وتَجَنُّب الفاسد منها، ويضعف بالشك والارتياب وعدم اقترانه
بالطاعات أما الإسلام، فهو كما قلنا مجرد الإقرار باللسان.
وهو ما يعبَّر عنه بـ 'النطق بالشهادتين' (شهادة أن لا إله إلا الله، وأن
محمدا رسول الله)، وبالتالي فهو لا يوصَف لا بالزيادة ولا بالنقصان، إلا
عندما يكون نفاقاً
وهذا الذي قلناه عن الإيمان وقبوله الزيادة
والنقصان يطرح مسألة كانت وما تزال موضوع خلاف بين المذاهب الإسلامية : هل
الإيمان هو فقط 'التصديق بالقلب'، أم أنه التصديق والطاعة معاً
سنقتصر
هنا كما فعلنا في الفقرات السابقة على ما يفهم من القرآن في هذه المسألة،
فنقول :العقل في مجال التكليف الشرعي يشير إلى القوة النفسية أو الملَكة
العقلية التي ينفصل بها الإنسان عن الحيوان، وهي المقصودة بتعريف :
الإنسان 'حيوان عاقل'
يكاد لا يذكر الإيمان في القرآن إلا وذكر معه
العمل الصالح، وعبارة اللذين 4آمنوا وعملوا الصالحات' تتكرر في القرآن
بصورة لافتة وذلك إلى درجة تحمل على الاعتقاد بأن الإيمان وحده لا يكفي،
وأن العمل الصالح شرط في كماله، أو على الأقل في استحقاق ثمراته يوم
القيامة وكذلك الشأن في عبارة 'الذين آمنوا واتقوا' (ابتعدوا عما ينهى عنه
الله)
وإذا نحن حاولنا استقصاء الأماكن التي ذكر فيها الإيمان في
القرآن لوجدناه يقرن دوماً بالعمل الصالح (إتيان الفضائل) أو بالتقوى
(تجنب الرذائل)، في كل مرة يذكر في سياق استحقاق الثواب في الدنيا كما في
الآخرة
من ذلك قوله تعالى : 'إِنَّ اللَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ، خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ
اللَّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ( لقمان 8- 9)
كيف
نفهم هذا الاقتران بين الإيمان والعمل الصالح من جهة، والإيمان والتقوى من
جهة ثانية؟ بالرجوع إلى القرآن مرة أخرى نتبين أن نقيض الإيمان هو الكفر
الذي يعني عدم الإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر، وأن الكافر،
بهذا المعنى، إذا لم تبلغه رسالة نبي، لا يناله جزاء الكفر الذي هو العذاب
يقول تعالى : (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً )الإسراء 15) )
فإذا بلغته دعوة رسول وكذَّب بها ورفض الاستجابة لها فحينئذ يستحق العذاب
أما إذا آمن وصدق بها، دون القيام بما تطرحه من فرائض وحثٍّ على التقوى
والعمل الصالح، فإيمانه يخرجه من دائرة الكفر، ولكنه لا ينال ثواب الإيمان
إلا بهذين : التقوى والعمل الصالح وقد جمع القرآن بين الأمرين في لفظ
واحدٍ فقال : 'وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا
تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ' )المائدة 2 )
ذلك هو معنى التقوى عند
المفسِّرين والأصوليين والفقهاء، ويضيف 'المتصوفة السُّنيون' معنى آخر
يرتفعون فيه بالتقوى إلى مستوى 'الورَع'، فالمحاسبي، مثلاً، يميز في مفهوم
التقوى بين مستويين : مستوى العبادة الظاهرة ومجالها 'الجوارح' (الحواس،
البدن)، وحقيقتها على هذا المستوى 'القيام بالحق وترك المعاصي'
ومستوى
العبادة الباطنة ومجالها 'الضمير' وحقيقتها 'إرادة الدَّيان (أي اتجاه
المؤمن بإرادته إلى الله) في الفرض، بإخلاص العمل له في النفل : بالبكاء
والأحزان والصلاة والصيام وجميع أعمال الطاعات مما ندب الله عز وجل إليها
عباده ولم يفترضها عليهم رأفة بهم ورحمة لهم' وذلك هو الورَع
تحدثنا
عن الإيمان في علاقته مع المفاهيم المتصلة بمضمونه (ماهيته، الزيادة فيه
والنقصان، الإسلام، الكفر، الارتداد، الثواب والعقاب)، ويبقى علينا أن
نقول في الوسيلة التي يحصل بها
فإذا كان الإيمان هو »التصديق«
بما جاءت به الرسل فما الذي يحمل الإنسان على هذا التصديق؟ بالنسبة
لليهودية والمسيحية يمكن القول إن الوسيلة الأساسية، إن لم تكن الوحيدة،
التي استعملها كل من موسى وعيسى، عليهما السلام، لحمل الناس على الإيمان
برسالتهما هي المعجزات : وهي لموسى عشر 'آيات' على رأسها 'قلب العصا
ثعباناً'، أما بالنسبة للمسيح فجُملة خوارق منها : إحياء الموتى وإبراء
الأَكْمَه وَالأَبْرَص الخ
ومع أن التوراة والإنجيل يعْليان من
شأن التعقل ويدعوان إلى استعمال العقل، فإن غياب المعجزات والخوارق في
الدعوة المحمدية واقتصارها على مخاطبة العقل وحده يفرض نفسه كظاهرة فارقة
بين الإسلام من جهة وكل من اليهودية والمسيحية من جهة أخرى
ذلك أن
خصوم الدعوة المحمدية من قريش قد طالبوا محمداً عليه الصلاة والسلام، مرات
عديدة، بالإتيان بـ 'آيات' معجزات على غرار ما أتى به الأنبياء السابقون
حتى يصدِّقوا أنه مبعوث من الله فعلاً لكن الجواب كان دائماً رفض هذا
التحدي
من ذلك قوله تعالى : 'وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ
بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ' (الإسراء 59)، ثم يشير
إلى أن معجزات الأنبياء الخارقة للعادة لم يكن الغرض منها إقرار حقائق
لذاتها وإنما هي من أجل 'التخويف' وبالتالي حمْل الناس على الانقياد
للرسل، كما في قوله تعالى في الآية السابقة : 'وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ
إِلا تَخْوِيفا' (الإسراء 59)
وفي آيات أخرى كثيرة يحيل القرآن
المطالبين بالمعجزات إلى 'كتاب الطبيعة' طالباً منهم تدبُّره واستخلاص
العبْرة منه : 'إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآَيَاتٍ
لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ
لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، تِلْكَ
آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ
اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ« (الجاثية 3- 6)
وبالإضافة إلى
كتاب الطبيعة هناك 'كتاب التاريخ'، تاريخ الأنبياء والرسل مع أقوامهم :
»أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا
الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا، وَجَاءَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ
كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ' (الروم 9)
وفضلاً عن شهادة
الطبيعة وشهادة التاريخ يلفت القرآن نظر مجادليه من المشركين إلى 'الكتاب'
الذي نزَّله الله على محمد صلى الله عليه وسلم (أي القرآن) فهو وحده يكفي
لإقناع من يريد أن يقتنع : »وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ
مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا
نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ
الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ' (العنكبوت 50-51)، ثم يتحداهم أن يأتوا بشيء مثله :
'أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا
مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ' (يونس
38
نظام الكون، ودروس قصص الأنبياء، وبيان القرآن عناصر متساوية
متكاملة من حيث الدلالة : نظام الكون دليل وجود الله ودليل وحدانيته، وقصص
الأنبياء دليل قوته ورحمته وانتقامه، وبيان القرآن دليل نبوة محمد ودليل
صدق رسالته، وهده الأصناف الثلاثة من الأدلة تؤسس بارتباطها ما نطلق عليه
'المعقول' الديني العربي، ضداً على اللامعقول 'العقلي' الذي يعني، على
مستوى الخطاب القرآني الشرْك بالله، وإنكار البعث، والتكذيب برسالة محمد
عليه الصلاة والسلام
والسؤال الآن : كيف يتحدد 'العقل' في
القرآن؟اسم 'العقل' لم يذكر في القرآن قط، ولكن فعل 'عقَل' في الماضي
والمضارع وفي صيغة اسم الفاعل مذكور بكثرة، خصوصاً صيغة المضارع التي تفيد
'بيان الحال'
ومع تنوع الصياغة والسياقات فإن مادة'ع ق ل' في القرآن
ثابتة المعنى بحيث يمكن القول إن مفهوم العقل في القرآن يشير : - إما إلى
'القوة المتهيِّئة (في النفس) لقبول العلم'، ويعبر عنها في الاصطلاح
الكلامي والفقهي بـ 'العقل الفطري' أو الموهوب، أو الغريزي أو التمييزي،
وفي اصطلاح الفلاسفة 'العقل بالقوة' أو الهيولاني أو المنفعل
- وإما إلى 'العلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة'، ويعبر عنه في الاصطلاح بـ 'العقل المكتسَب' أو 'التجريبي'
وهكذا فصيغة المضارع (يعقلون، تعقلون، نعقل )، التي تتردد في القرآن
بكثرة، وفي الغالب في معرض ذكر الكفار والمشركين والمنافقين، وكذلك صيغة
الماضي مثل قوله 'يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ' (البقرة 75 )تشير إلى المعنى الثاني، أعني 'العقل المكتسب'،
بينما ينصرف معنى 'العقل' في مجال التكليف بالمعنى الشرعي إلى المعنى
الأول : العقل الفطري أو التمييزي ومعلوم أن من شروط التكليف في الإسلام :
العقل والبلوغ
بصفة عامة يمكن القول إن مفهوم 'العقل' في
الاصطلاح الإسلامي ينصرف معناه، في مجال العقيدة إلى العقل المكتسب (من
تأمل نظام الكون الخ)، وفقدانه أو ضعفه ليس أمراً طبيعياً بل هو من نتيجة
فقدان الرغبة في طلب المعرفة
أما في مجال التكليف الشرعي فيشير
إلى القوة النفسية أو الملَكة العقلية (لا فرق) التي ينفصل بها الإنسان عن
الحيوان، وهي المقصودة في تعريف الإنسان بأنه 'حيوان عاقل'
فالحاصل
على هذه 'الملكة' مكلف -عند البلوغ- بالقيام بالواجبات الشرعية، أما
فاقدها كالطفل غير البالغ أو المجنون أو المعوَّق عقلياً... فلا تكليفَ
عليه .
29.09.2007 د محمد عابد الجابري | المغربية
ان الإيمان، في القرآن، يقبل الزيادة والنقصان : يزداد عندما يقترن بصالح
الأعمال وتَجَنُّب الفاسد منها، ويضعف بالشك والارتياب وعدم اقترانه
بالطاعات أما الإسلام، فهو كما قلنا مجرد الإقرار باللسان.
وهو ما يعبَّر عنه بـ 'النطق بالشهادتين' (شهادة أن لا إله إلا الله، وأن
محمدا رسول الله)، وبالتالي فهو لا يوصَف لا بالزيادة ولا بالنقصان، إلا
عندما يكون نفاقاً
وهذا الذي قلناه عن الإيمان وقبوله الزيادة
والنقصان يطرح مسألة كانت وما تزال موضوع خلاف بين المذاهب الإسلامية : هل
الإيمان هو فقط 'التصديق بالقلب'، أم أنه التصديق والطاعة معاً
سنقتصر
هنا كما فعلنا في الفقرات السابقة على ما يفهم من القرآن في هذه المسألة،
فنقول :العقل في مجال التكليف الشرعي يشير إلى القوة النفسية أو الملَكة
العقلية التي ينفصل بها الإنسان عن الحيوان، وهي المقصودة بتعريف :
الإنسان 'حيوان عاقل'
يكاد لا يذكر الإيمان في القرآن إلا وذكر معه
العمل الصالح، وعبارة اللذين 4آمنوا وعملوا الصالحات' تتكرر في القرآن
بصورة لافتة وذلك إلى درجة تحمل على الاعتقاد بأن الإيمان وحده لا يكفي،
وأن العمل الصالح شرط في كماله، أو على الأقل في استحقاق ثمراته يوم
القيامة وكذلك الشأن في عبارة 'الذين آمنوا واتقوا' (ابتعدوا عما ينهى عنه
الله)
وإذا نحن حاولنا استقصاء الأماكن التي ذكر فيها الإيمان في
القرآن لوجدناه يقرن دوماً بالعمل الصالح (إتيان الفضائل) أو بالتقوى
(تجنب الرذائل)، في كل مرة يذكر في سياق استحقاق الثواب في الدنيا كما في
الآخرة
من ذلك قوله تعالى : 'إِنَّ اللَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ، خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ
اللَّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ( لقمان 8- 9)
كيف
نفهم هذا الاقتران بين الإيمان والعمل الصالح من جهة، والإيمان والتقوى من
جهة ثانية؟ بالرجوع إلى القرآن مرة أخرى نتبين أن نقيض الإيمان هو الكفر
الذي يعني عدم الإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر، وأن الكافر،
بهذا المعنى، إذا لم تبلغه رسالة نبي، لا يناله جزاء الكفر الذي هو العذاب
يقول تعالى : (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً )الإسراء 15) )
فإذا بلغته دعوة رسول وكذَّب بها ورفض الاستجابة لها فحينئذ يستحق العذاب
أما إذا آمن وصدق بها، دون القيام بما تطرحه من فرائض وحثٍّ على التقوى
والعمل الصالح، فإيمانه يخرجه من دائرة الكفر، ولكنه لا ينال ثواب الإيمان
إلا بهذين : التقوى والعمل الصالح وقد جمع القرآن بين الأمرين في لفظ
واحدٍ فقال : 'وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا
تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ' )المائدة 2 )
ذلك هو معنى التقوى عند
المفسِّرين والأصوليين والفقهاء، ويضيف 'المتصوفة السُّنيون' معنى آخر
يرتفعون فيه بالتقوى إلى مستوى 'الورَع'، فالمحاسبي، مثلاً، يميز في مفهوم
التقوى بين مستويين : مستوى العبادة الظاهرة ومجالها 'الجوارح' (الحواس،
البدن)، وحقيقتها على هذا المستوى 'القيام بالحق وترك المعاصي'
ومستوى
العبادة الباطنة ومجالها 'الضمير' وحقيقتها 'إرادة الدَّيان (أي اتجاه
المؤمن بإرادته إلى الله) في الفرض، بإخلاص العمل له في النفل : بالبكاء
والأحزان والصلاة والصيام وجميع أعمال الطاعات مما ندب الله عز وجل إليها
عباده ولم يفترضها عليهم رأفة بهم ورحمة لهم' وذلك هو الورَع
تحدثنا
عن الإيمان في علاقته مع المفاهيم المتصلة بمضمونه (ماهيته، الزيادة فيه
والنقصان، الإسلام، الكفر، الارتداد، الثواب والعقاب)، ويبقى علينا أن
نقول في الوسيلة التي يحصل بها
فإذا كان الإيمان هو »التصديق«
بما جاءت به الرسل فما الذي يحمل الإنسان على هذا التصديق؟ بالنسبة
لليهودية والمسيحية يمكن القول إن الوسيلة الأساسية، إن لم تكن الوحيدة،
التي استعملها كل من موسى وعيسى، عليهما السلام، لحمل الناس على الإيمان
برسالتهما هي المعجزات : وهي لموسى عشر 'آيات' على رأسها 'قلب العصا
ثعباناً'، أما بالنسبة للمسيح فجُملة خوارق منها : إحياء الموتى وإبراء
الأَكْمَه وَالأَبْرَص الخ
ومع أن التوراة والإنجيل يعْليان من
شأن التعقل ويدعوان إلى استعمال العقل، فإن غياب المعجزات والخوارق في
الدعوة المحمدية واقتصارها على مخاطبة العقل وحده يفرض نفسه كظاهرة فارقة
بين الإسلام من جهة وكل من اليهودية والمسيحية من جهة أخرى
ذلك أن
خصوم الدعوة المحمدية من قريش قد طالبوا محمداً عليه الصلاة والسلام، مرات
عديدة، بالإتيان بـ 'آيات' معجزات على غرار ما أتى به الأنبياء السابقون
حتى يصدِّقوا أنه مبعوث من الله فعلاً لكن الجواب كان دائماً رفض هذا
التحدي
من ذلك قوله تعالى : 'وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ
بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ' (الإسراء 59)، ثم يشير
إلى أن معجزات الأنبياء الخارقة للعادة لم يكن الغرض منها إقرار حقائق
لذاتها وإنما هي من أجل 'التخويف' وبالتالي حمْل الناس على الانقياد
للرسل، كما في قوله تعالى في الآية السابقة : 'وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ
إِلا تَخْوِيفا' (الإسراء 59)
وفي آيات أخرى كثيرة يحيل القرآن
المطالبين بالمعجزات إلى 'كتاب الطبيعة' طالباً منهم تدبُّره واستخلاص
العبْرة منه : 'إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآَيَاتٍ
لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ
لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، تِلْكَ
آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ
اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ« (الجاثية 3- 6)
وبالإضافة إلى
كتاب الطبيعة هناك 'كتاب التاريخ'، تاريخ الأنبياء والرسل مع أقوامهم :
»أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا
الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا، وَجَاءَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ
كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ' (الروم 9)
وفضلاً عن شهادة
الطبيعة وشهادة التاريخ يلفت القرآن نظر مجادليه من المشركين إلى 'الكتاب'
الذي نزَّله الله على محمد صلى الله عليه وسلم (أي القرآن) فهو وحده يكفي
لإقناع من يريد أن يقتنع : »وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ
مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا
نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ
الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ' (العنكبوت 50-51)، ثم يتحداهم أن يأتوا بشيء مثله :
'أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا
مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ' (يونس
38
نظام الكون، ودروس قصص الأنبياء، وبيان القرآن عناصر متساوية
متكاملة من حيث الدلالة : نظام الكون دليل وجود الله ودليل وحدانيته، وقصص
الأنبياء دليل قوته ورحمته وانتقامه، وبيان القرآن دليل نبوة محمد ودليل
صدق رسالته، وهده الأصناف الثلاثة من الأدلة تؤسس بارتباطها ما نطلق عليه
'المعقول' الديني العربي، ضداً على اللامعقول 'العقلي' الذي يعني، على
مستوى الخطاب القرآني الشرْك بالله، وإنكار البعث، والتكذيب برسالة محمد
عليه الصلاة والسلام
والسؤال الآن : كيف يتحدد 'العقل' في
القرآن؟اسم 'العقل' لم يذكر في القرآن قط، ولكن فعل 'عقَل' في الماضي
والمضارع وفي صيغة اسم الفاعل مذكور بكثرة، خصوصاً صيغة المضارع التي تفيد
'بيان الحال'
ومع تنوع الصياغة والسياقات فإن مادة'ع ق ل' في القرآن
ثابتة المعنى بحيث يمكن القول إن مفهوم العقل في القرآن يشير : - إما إلى
'القوة المتهيِّئة (في النفس) لقبول العلم'، ويعبر عنها في الاصطلاح
الكلامي والفقهي بـ 'العقل الفطري' أو الموهوب، أو الغريزي أو التمييزي،
وفي اصطلاح الفلاسفة 'العقل بالقوة' أو الهيولاني أو المنفعل
- وإما إلى 'العلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة'، ويعبر عنه في الاصطلاح بـ 'العقل المكتسَب' أو 'التجريبي'
وهكذا فصيغة المضارع (يعقلون، تعقلون، نعقل )، التي تتردد في القرآن
بكثرة، وفي الغالب في معرض ذكر الكفار والمشركين والمنافقين، وكذلك صيغة
الماضي مثل قوله 'يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ' (البقرة 75 )تشير إلى المعنى الثاني، أعني 'العقل المكتسب'،
بينما ينصرف معنى 'العقل' في مجال التكليف بالمعنى الشرعي إلى المعنى
الأول : العقل الفطري أو التمييزي ومعلوم أن من شروط التكليف في الإسلام :
العقل والبلوغ
بصفة عامة يمكن القول إن مفهوم 'العقل' في
الاصطلاح الإسلامي ينصرف معناه، في مجال العقيدة إلى العقل المكتسب (من
تأمل نظام الكون الخ)، وفقدانه أو ضعفه ليس أمراً طبيعياً بل هو من نتيجة
فقدان الرغبة في طلب المعرفة
أما في مجال التكليف الشرعي فيشير
إلى القوة النفسية أو الملَكة العقلية (لا فرق) التي ينفصل بها الإنسان عن
الحيوان، وهي المقصودة في تعريف الإنسان بأنه 'حيوان عاقل'
فالحاصل
على هذه 'الملكة' مكلف -عند البلوغ- بالقيام بالواجبات الشرعية، أما
فاقدها كالطفل غير البالغ أو المجنون أو المعوَّق عقلياً... فلا تكليفَ
عليه .
29.09.2007 د محمد عابد الجابري | المغربية
منصور- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 1943
العمر : 44
Localisation : loin du bled
تاريخ التسجيل : 07/05/2007
رد: جابريات...
المرايا المُهشَّمة... الجاه والسلطة
11:48 | 26.07.2008
د. محمد عابد الجابري | المغربية
لقد نظرنا إلى هذا الواقع - وما زلنا ننظر- من خلال شقوقها بعيون أفلاطون،
والفارابي، وابن رشد، وابن خلدون الذي ما نزال نتابع آراءه في "العمران
البشري"، وانقسامه إلى عمران بدوي وعمران حضري. لقد بدأ بالعمران البدوي،
فتحدث عن البدو الرحل الذين مثل لهم بـ"العرب ومن في معناهم..."، وانتقلنا
معه في المقال الأخير إلى البدو المقيمين في الأرياف والمدن الصغيرة،
والذين نعتهم بـ"المغلوبين لأهل الأمصار". واليوم سننتقل معه إلى المدن،
وهي عنده فضاء العمران الحضري.
لقد تقرر من قبل أن الأصل في
العمران البشري هو التعاون لتحصيل الغذاء، وأن هذا التعاون لا يتم إلا إذا
كان هناك "وازعٌ" يدفع عدوان الناس بعضهم عن بعض. وهذا وذاك يتوافران في
المدينة أكثر: فالتعاون فيها متين، والوازع للناس موجود وهو الملك
والدولة. إن شروط الاستقرار والأمن متوفرة فيها، ولذلك كان التعاون فيها
ينمو ويتفرَّع، والإنتاج يكثر ويوفر فائضاً. والسبب في هذا هو: "أن
الأعمال بعد الاجتماع زائدة على حاجات العاملين وضروراتهم. فأهل مدينة أو
مصر إذا وُزعت أعمالهم كلها على مقدار ضروراتهم وحاجاتهم اكتفي فيها
بالأقلِّ من تلك الأعمال، وبقيت الأعمال كلها زائدة على الضرورات، فتصرف
في حاجات الترف وعوائده(...) لأن الأعمال الزائدة تختص بالترف والغنى
بخلاف الأعمال الأصلية التي تختص بالمعاش".
بعبارة أخرى إن السبب
في ازدهار المدن هو أن الإنتاج فيها جماعي، وجماعية الإنتاج القائمة على
تقسيم العمل، هي التي توفر الفائض الذي يصرف في أحوال الترف. وأحوال الترف
نفسها تستلزم هي الأخرى أعمالاً زائدة، وبالتالي إنتاجاً جديداً، ففائضاً
جديدا.ً
ولكن، هل يعود هذا الفائض إلى مجموع سكان المدينة، أم فقط إلى فئة معينة منهم؟
الجواب
عن هذا السؤال يتوقف على البحث في طرق كسب العيش في المدينة للكشف عن
الأساس الذي يقوم عليه التفاوت فيها. أما طرق كسب العيش عموماً فهي ستة،
يقول: "إن تحصيل الرزق وكسبه: إما أن يكون بأخذه من يد الغير وانتزاعه
بالاقتدار عليه على قانون متعارف ويسمى مغرماً وجباية، وإما أن يكون من
الحيوان الوحشي باقتناصه وأخذه برميه من البر أو البحر ويسمى اصطياداً،
وإما أن يكون من الحيوان الداجن باستخراج فضوله المنصرفة بين الناس في
منافعهم كاللبن من الأغنام، والحرير من دوده، والعسل من نحله، أو يكون من
النبات والزرع والشجر بالقيام عليه وإعداده واستخراج ثمرته، ويسمى كل هذا
فلحاً. وإما أن يكون الكسب من الأعمال الإنسانية: إما في مواد معينة وتسمى
الصنائع من كتابة وتجارة وخياطة وحياكة وفروسية وأمثال ذلك، أو في مواد
غير معينة وهي جميع الامتهانات (المهن) والتصرفات، وإما أن يكون الكسب من
البضائع وإعدادها للأعواض (للمبادلة والبيع)، إما بالتقلب بها في البلاد،
أو احتكارها وارتقاب حوالة (تحول) الأسواق فيها، ويسمى هذا تجارة".
هذه
هي طرق كسب العيش بالتفصيل. ولكن ابن خلدون يعود فيوجزها، في الفلاحة،
والتجارة، والصناعة. أما الطريقة الأولى أي المغرم والجباية أو ما يسميه
أيضاً "الإمارة" فيقول عنها: "ليست بمذهب طبيعي للمعاش". لأنها تعتمد على
وجود السلطة والجاه. أما الطريقتان الثالثة والرابعة، أي تربية الدواجن
والزراعة، فهما في الحقيقة واحدة وهي الفلاحة. أما الطريقة الثانية وهي
الصيد البري والبحري، فإن ابن خلدون يتجاهلها تماماً، لأنه لم يكن يهتم
إلا بما يسميه "العمران الكامل مادةً وصورة"، أي العمران الذي تقوم فيه
السلطة والدولة. ومن ثمة فهو لا يُعنى إلا بالجماعات البشرية التي كانت
تساهم بشكل من الأشكال في قيام الدول وسقوطها، أي الجماعات التي لها
"تاريخ". وهكذا، وبإسقاط الفلاحة التي قال عنها من قبل إنها معاش
"المستضعفين وأهل العافية" من البدو، فإن أساليب كسب العيش في المدينة
تبقى ثلاثة: الصناعة، والتجارة، والإمارة.
أما الصناعة، والمقصود
بها هنا المهن اليدوية، والأعمال الفكرية من كتابة وتعليم وغير ذلك، فهي
إنما تكثر وتزدهر في الأمصار الكبيرة، وبالخصوص في تلك التي تكون كراسيَ
للملك (عواصم)، فهي "تستكمل بكمال العمران الحضري وكثرته". وكذلك الشأن في
التجارة، فهي أيضاً تحتاج إلى الجاه والسلطة. إن التاجر لا يكسب من تجارته
إلا إذا كان قويّاً بعشيرته أو جاهه، أما ذلك الذي ليس له ما يعضده أو
يحمي تجارته من شوكة أو جاهٍ، فإن مآل أمره الخسران المُحقق. وهكذا نرى أن
اكتساب الثروة بالطرق الطبيعية في المدينة (الصناعة والتجارة) يتوقف على
الجاه والسلطة. وهذا شيء ليس من الممكن حصوله لجميع الناس. فالمجتمع
الحضري يقوم على التفاوت، وأساس هذا التفاوت هو الجاه بالضبط. يقول ابن
خلدون: "إن كل طبقة من طباق أهل العمران من مدينة أو إقليم لها قدرة على
مَن دونها من الطباق. وكل واحد من الطبقة السفلى يستمد بذي الجاه من أهل
الطبقة التي فوقه، ويزداد كسبه تصرفاً فيمن تحت يده على قدر ما يستفيد
منه.
والجاهُ على ذلك داخل على الناس في جميع أبواب المعاش،
ويتسع ويضيق بحسب الطبقة والطور الذي فيه صاحبه. فإن كان الجاه متسعاً كان
الكسب الناشئ عنه كذلك، وإن كان ضيقاً قليلاً فمثله. وفاقد الجاه وإن كان
له مال فلا يكون يساره إلا بمقدار عمله أو ماله أو نسبة سعيه ذاهباً
وآتيّاً في تنميته كأكثر التجار وأهل الفِلاحة في الغالب. وأهل الصنائع
كذلك إذا فقدوا الجاه واقتصروا على فوائد صنائعهم، فإنهم يصيرون إلى الفقر
والخصاصة في الأكثر ولا تسرع إليهم ثروة، وإنما يرمِقون العيش ترميقاً
ويدافعون ضرورة الفقر مدافعة".
إن ازدهار الصنائع في المدن لا
يعني بالضرورة ازدهار أحوال أصحابها والقائمين عليها. ذلك لأن المنتوجات
الصناعية الكمالية إنما تستهلكها الفئة صاحبة الجاه والسلطان، وهذه لم تكن
تدفع من الأثمان والأجور إلا القليل الأقل، بل إنها كانت تحصل على قيم
أعمال الصناع بالمجان، إما طوعاً بالتقرب إليها، وإما كرهاً بالتسخير
والخدمة الإجبارية التي تفرضها الجماعة الحاكمة صاحبة الجاه والنفوذ.
وكذلك
الشأن بالنسبة للتجارة، فهي لم تكن مفيدة للمال والثروة، إلا إذا كان
القائم بها "جريئاً على الخصومة، بصيراً بالحسبان، شديد المماحكة مقداماً
على الحكام(...)، وإلا فلابد له من جاهٍ يدَّرع به ويوقع له الهيبة عند
الباعة ويحمل الحكام على إنصافه من معامليه، فيحصل له بذلك النصفة في
ماله: طوعاً في الأول وكرهاً في الثاني. وأما من كان فاقداً للجرأة
والإقدام من نفسه، فاقداً الجاه من الحكام فينبغي أن يجتنب الاحتراف
بالتجارة، لأنه ُيُعرِّض ماله للضياع والذهاب، ويصير مأكلاً للباعة ولا
يكاد ينتصف منهم". وهكذا فالمال لم يكن يحصل "إلا بنحو غريب كالإرث أو
غيره"، وحتى في هذه الحالة فإنه "لم يكن يستمر في يد صاحبه، إذا لم يكن من
أصحاب الجاه ...".
والخلاصة أن أساس التفاوت بين الناس كان الجاه
والسلطة، لا المال، لأن هذا الأخير تابع لهما، ومستمد منهما. ولهذا، فإن
التحضر، أي الانتقال من حال البداوة إلى حال "الحضارة"، لم يكن يتم بصفة
تدريجية ولا بشكل طبيعي. فلم يكن الفرد لوحده، مهما اجتهد في الكسب،
يستطيع الانتقال إلى مرتبة أعلى في السلم الاجتماعي. وإنما كان هذا
الانتقال يتم بشكل فجائي وبنوع من الطفرة والقفز، عن طريق نوع من انتزاع
السلطة، تقوم به قبيلة أو مجموعة قبائل قوية بعصبيتها.
مفكر مغربي
11:48 | 26.07.2008
د. محمد عابد الجابري | المغربية
لنتابع النظر في ما أطلقنا عليه، في أوائل هذه السلسلة من المقالات، عبارة "المرآة المهشمة" التي تعكس "الواقع السياسي العربي". |
والفارابي، وابن رشد، وابن خلدون الذي ما نزال نتابع آراءه في "العمران
البشري"، وانقسامه إلى عمران بدوي وعمران حضري. لقد بدأ بالعمران البدوي،
فتحدث عن البدو الرحل الذين مثل لهم بـ"العرب ومن في معناهم..."، وانتقلنا
معه في المقال الأخير إلى البدو المقيمين في الأرياف والمدن الصغيرة،
والذين نعتهم بـ"المغلوبين لأهل الأمصار". واليوم سننتقل معه إلى المدن،
وهي عنده فضاء العمران الحضري.
لقد تقرر من قبل أن الأصل في
العمران البشري هو التعاون لتحصيل الغذاء، وأن هذا التعاون لا يتم إلا إذا
كان هناك "وازعٌ" يدفع عدوان الناس بعضهم عن بعض. وهذا وذاك يتوافران في
المدينة أكثر: فالتعاون فيها متين، والوازع للناس موجود وهو الملك
والدولة. إن شروط الاستقرار والأمن متوفرة فيها، ولذلك كان التعاون فيها
ينمو ويتفرَّع، والإنتاج يكثر ويوفر فائضاً. والسبب في هذا هو: "أن
الأعمال بعد الاجتماع زائدة على حاجات العاملين وضروراتهم. فأهل مدينة أو
مصر إذا وُزعت أعمالهم كلها على مقدار ضروراتهم وحاجاتهم اكتفي فيها
بالأقلِّ من تلك الأعمال، وبقيت الأعمال كلها زائدة على الضرورات، فتصرف
في حاجات الترف وعوائده(...) لأن الأعمال الزائدة تختص بالترف والغنى
بخلاف الأعمال الأصلية التي تختص بالمعاش".
بعبارة أخرى إن السبب
في ازدهار المدن هو أن الإنتاج فيها جماعي، وجماعية الإنتاج القائمة على
تقسيم العمل، هي التي توفر الفائض الذي يصرف في أحوال الترف. وأحوال الترف
نفسها تستلزم هي الأخرى أعمالاً زائدة، وبالتالي إنتاجاً جديداً، ففائضاً
جديدا.ً
ولكن، هل يعود هذا الفائض إلى مجموع سكان المدينة، أم فقط إلى فئة معينة منهم؟
الجواب
عن هذا السؤال يتوقف على البحث في طرق كسب العيش في المدينة للكشف عن
الأساس الذي يقوم عليه التفاوت فيها. أما طرق كسب العيش عموماً فهي ستة،
يقول: "إن تحصيل الرزق وكسبه: إما أن يكون بأخذه من يد الغير وانتزاعه
بالاقتدار عليه على قانون متعارف ويسمى مغرماً وجباية، وإما أن يكون من
الحيوان الوحشي باقتناصه وأخذه برميه من البر أو البحر ويسمى اصطياداً،
وإما أن يكون من الحيوان الداجن باستخراج فضوله المنصرفة بين الناس في
منافعهم كاللبن من الأغنام، والحرير من دوده، والعسل من نحله، أو يكون من
النبات والزرع والشجر بالقيام عليه وإعداده واستخراج ثمرته، ويسمى كل هذا
فلحاً. وإما أن يكون الكسب من الأعمال الإنسانية: إما في مواد معينة وتسمى
الصنائع من كتابة وتجارة وخياطة وحياكة وفروسية وأمثال ذلك، أو في مواد
غير معينة وهي جميع الامتهانات (المهن) والتصرفات، وإما أن يكون الكسب من
البضائع وإعدادها للأعواض (للمبادلة والبيع)، إما بالتقلب بها في البلاد،
أو احتكارها وارتقاب حوالة (تحول) الأسواق فيها، ويسمى هذا تجارة".
هذه
هي طرق كسب العيش بالتفصيل. ولكن ابن خلدون يعود فيوجزها، في الفلاحة،
والتجارة، والصناعة. أما الطريقة الأولى أي المغرم والجباية أو ما يسميه
أيضاً "الإمارة" فيقول عنها: "ليست بمذهب طبيعي للمعاش". لأنها تعتمد على
وجود السلطة والجاه. أما الطريقتان الثالثة والرابعة، أي تربية الدواجن
والزراعة، فهما في الحقيقة واحدة وهي الفلاحة. أما الطريقة الثانية وهي
الصيد البري والبحري، فإن ابن خلدون يتجاهلها تماماً، لأنه لم يكن يهتم
إلا بما يسميه "العمران الكامل مادةً وصورة"، أي العمران الذي تقوم فيه
السلطة والدولة. ومن ثمة فهو لا يُعنى إلا بالجماعات البشرية التي كانت
تساهم بشكل من الأشكال في قيام الدول وسقوطها، أي الجماعات التي لها
"تاريخ". وهكذا، وبإسقاط الفلاحة التي قال عنها من قبل إنها معاش
"المستضعفين وأهل العافية" من البدو، فإن أساليب كسب العيش في المدينة
تبقى ثلاثة: الصناعة، والتجارة، والإمارة.
أما الصناعة، والمقصود
بها هنا المهن اليدوية، والأعمال الفكرية من كتابة وتعليم وغير ذلك، فهي
إنما تكثر وتزدهر في الأمصار الكبيرة، وبالخصوص في تلك التي تكون كراسيَ
للملك (عواصم)، فهي "تستكمل بكمال العمران الحضري وكثرته". وكذلك الشأن في
التجارة، فهي أيضاً تحتاج إلى الجاه والسلطة. إن التاجر لا يكسب من تجارته
إلا إذا كان قويّاً بعشيرته أو جاهه، أما ذلك الذي ليس له ما يعضده أو
يحمي تجارته من شوكة أو جاهٍ، فإن مآل أمره الخسران المُحقق. وهكذا نرى أن
اكتساب الثروة بالطرق الطبيعية في المدينة (الصناعة والتجارة) يتوقف على
الجاه والسلطة. وهذا شيء ليس من الممكن حصوله لجميع الناس. فالمجتمع
الحضري يقوم على التفاوت، وأساس هذا التفاوت هو الجاه بالضبط. يقول ابن
خلدون: "إن كل طبقة من طباق أهل العمران من مدينة أو إقليم لها قدرة على
مَن دونها من الطباق. وكل واحد من الطبقة السفلى يستمد بذي الجاه من أهل
الطبقة التي فوقه، ويزداد كسبه تصرفاً فيمن تحت يده على قدر ما يستفيد
منه.
والجاهُ على ذلك داخل على الناس في جميع أبواب المعاش،
ويتسع ويضيق بحسب الطبقة والطور الذي فيه صاحبه. فإن كان الجاه متسعاً كان
الكسب الناشئ عنه كذلك، وإن كان ضيقاً قليلاً فمثله. وفاقد الجاه وإن كان
له مال فلا يكون يساره إلا بمقدار عمله أو ماله أو نسبة سعيه ذاهباً
وآتيّاً في تنميته كأكثر التجار وأهل الفِلاحة في الغالب. وأهل الصنائع
كذلك إذا فقدوا الجاه واقتصروا على فوائد صنائعهم، فإنهم يصيرون إلى الفقر
والخصاصة في الأكثر ولا تسرع إليهم ثروة، وإنما يرمِقون العيش ترميقاً
ويدافعون ضرورة الفقر مدافعة".
إن ازدهار الصنائع في المدن لا
يعني بالضرورة ازدهار أحوال أصحابها والقائمين عليها. ذلك لأن المنتوجات
الصناعية الكمالية إنما تستهلكها الفئة صاحبة الجاه والسلطان، وهذه لم تكن
تدفع من الأثمان والأجور إلا القليل الأقل، بل إنها كانت تحصل على قيم
أعمال الصناع بالمجان، إما طوعاً بالتقرب إليها، وإما كرهاً بالتسخير
والخدمة الإجبارية التي تفرضها الجماعة الحاكمة صاحبة الجاه والنفوذ.
وكذلك
الشأن بالنسبة للتجارة، فهي لم تكن مفيدة للمال والثروة، إلا إذا كان
القائم بها "جريئاً على الخصومة، بصيراً بالحسبان، شديد المماحكة مقداماً
على الحكام(...)، وإلا فلابد له من جاهٍ يدَّرع به ويوقع له الهيبة عند
الباعة ويحمل الحكام على إنصافه من معامليه، فيحصل له بذلك النصفة في
ماله: طوعاً في الأول وكرهاً في الثاني. وأما من كان فاقداً للجرأة
والإقدام من نفسه، فاقداً الجاه من الحكام فينبغي أن يجتنب الاحتراف
بالتجارة، لأنه ُيُعرِّض ماله للضياع والذهاب، ويصير مأكلاً للباعة ولا
يكاد ينتصف منهم". وهكذا فالمال لم يكن يحصل "إلا بنحو غريب كالإرث أو
غيره"، وحتى في هذه الحالة فإنه "لم يكن يستمر في يد صاحبه، إذا لم يكن من
أصحاب الجاه ...".
والخلاصة أن أساس التفاوت بين الناس كان الجاه
والسلطة، لا المال، لأن هذا الأخير تابع لهما، ومستمد منهما. ولهذا، فإن
التحضر، أي الانتقال من حال البداوة إلى حال "الحضارة"، لم يكن يتم بصفة
تدريجية ولا بشكل طبيعي. فلم يكن الفرد لوحده، مهما اجتهد في الكسب،
يستطيع الانتقال إلى مرتبة أعلى في السلم الاجتماعي. وإنما كان هذا
الانتقال يتم بشكل فجائي وبنوع من الطفرة والقفز، عن طريق نوع من انتزاع
السلطة، تقوم به قبيلة أو مجموعة قبائل قوية بعصبيتها.
مفكر مغربي
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
ما فعله ابن خلدون... وما لم يفعل؟
وبعد، فماذا يمكن أن نستخلصه من سلسلة المقالات التي تتبعنا فيها آراء ابن خلدون في موضوع الدولة وأطوارها؟.
أعتقد أن "مغادرة" ابن خلدون إلى "ما بعده"، أو إلى ما لم يقله ولكن
"يقتضيه مذهبه" -حسب عبارة ابن رشد في شروحه على أرسطو- يقتضي منا استعادة
أهم العناصر التي تنتمي إلى ما قاله صاحب "المقدمة"، وتشكل قوام مذهبه في
الموضوع الذي نحن بصدده.
لقد فصَل ابن خلدون كما رأينا بين تطور
الدولة باعتبارها: 1) شخصاً يملك. 2) عصبية تحكم. 3) عصبية عامة غالبة،
وأخرى مغلوبة. وكما رأينا فقد ربط تطور الدولة، في المستوى الأول، بتطور
"الحسب" نازلًا من القوة إلى الضعف، وفي المستوى الثاني ربط تطور الدولة
بتحول العصبية من التعاون والتعاضد إلى التنافس والتخاذل. أما تطور كلية
الدولة في المستوى الثالث، أي باعتبارها أسرة حاكمة غالبة وعصبيات مغلوبة
محكومة، فيعني أساساً انتقال الحكم كله من "المساهمة والمشاركة"، و"الرفق
بالرعية" إلى "الانفراد بالمجد" والاستبداد بالحكم، ومن ثمة إلى "الهرم"
والسقوط.
إن سياق تحليل ابن خلدون لتطور الدولة على هذه
المستويات الثلاثة، يشير بوضوح إلى أن "الفساد في السمكة يبدأ من الرأس"،
بمعنى أن أول ضعف يتسرب إلى الدولة ناتج عن "نهاية الحسب" في البيت
المخصوص بالرئاسة والحكم. حين تنقلب الِخلال الحميدة، التي جعلت من صاحب
البيت رئيساً على عصبته أثناء "خشونة البداوة"، إلى ضدها، فيصبح الرئيس
(الملك)، تحت تأثير فعل الظروف الجديدة، ظروف الملك، مبتعداً منعزلًا أكثر
فأكثر عن قلب عَصَبَتِه، مستبدلاً خواص قومه وكبراء عشيرته بعناصر "حضرية"
غريبة أجنبية، مؤثراً "المتحضرين" من أعيان المدينة، مقرباً إياهم، مسنداً
إليهم إدارة شؤون الدولة من وزارة وحجابة وجباية، منصرفاً هو نفسه إلى
اصطناع "شارات الملك" وإلى الانشغال بأبهته والعناية بمظاهر السلطان.
وهكذا،
تكبر هذه الحاشية السلطانية ويتسع نفوذها حتى إذا مات صاحب الدولة، المؤسس
لها، بدأت في السيطرة على مقاليد الأمور، باحتضان ورثة العرش لتستبد
عليهم، أو بالعمل على الإطاحة بمن لا يخضع لها من الملوك المتعاقبين لتنصب
مكانهم الصغار والعاجزين، ما يدفع زعماء العصبة الحاكمة -الذين غالباً ما
يكونون ولاة في الأقاليم- إلى الثورة والدعوة لأنفسهم والمطالبة بالملك
أجمعه. والنتيجة المباشرة لكل ذلك انقسام أهل العصبية الحاكمة وانفكاك عرى
تضامنهم، وانصراف كل منهم إلى الدفاع والحفاظ على مصالحه الشخصية ومكاسبه
الخاصة، تلك المصالح والمكاسب التي نماها "الجاه المفيد للمال" وبلورها
تقليدهم لأعيان "أهل الحضارة من المدن" الناشئين فيها أو الوافدين عليها
من الدول المجاورة، هاربين، أو طالبين للجاه والثروة وطامعين في نمط حياة
"النخبة".
والنتيجة الحتمية لكل ذلك "فساد العصبية" بالمرة،
وانقلاب الرئاسة إلى ملك مستبد يعتمد على الموالي والمصطنعين ومرتزقة
الجند، مع ما يتبع ذلك من حاجة متعاظمة إلى الأموال لتغطية نفقات عوائد
الترف التي استحكمت، وأعطيات الجند التي تكثرت وارتفعت، ولوازم الحروب
الأهلية التي انتشرت واتسعت، بالإضافة إلى ما تدعو الحاجة إليه من استمالة
بعض كبراء القوم بالهدايا والأعطيات، فيعمد صاحب الدولة إلى الإكثار من
الضرائب والمغارم، ثم إلى مصادرة أموال الأسر التي أثرت بخدمة سلفه أو
بخدمته هو، فيتذمر الجميع، خاصة وعامة، ويفسد ولاء الرعية و"يقبضون أيديهم
عن العمل" والإنتاج، وتدخل الفوضى مختلف مرافق الحياة العامة، ما يكون
نتيجته دخول الدولة في طور الهرم، ذلك "المرض المزمن الذي لا تكاد تخلص
منه، ولا يكون لها منه برء إلى أن تنقرض..".
إذن، فالفساد يصيب الرئيس أولاً، ثم أهل عصبيته ثانياً، ثم مجموع الدولة حاكمين ومحكومين؟
ولكن
لماذا يستتبع فساد الرئيس فساد عصبته حتماً؟ لماذا لا تستطيع العصبة
الحاكمة، الغالبة، الحفاظ على وحدتها وتماسكها وهي التي يجمعها النسب
القريب، فتعين من بين زعمائها شخصاً يتولى الملك؟
قد يكون الجواب
عن هذا السؤال، أن العَصَبَة لا "تعين" رئيسها، وإنما يفرض الشخصُ نفسَه
رئيساً على عصبته بما يتمتع به من الخلال وما يحظى به بيته من حسب وشرف
المحتد، ولكن مع ذلك يبقى السؤال: لماذا لا تنتقل الرئاسة في هذه العصبة
الحاكمة إلى أحد فروعها المخصوصة بالرئاسة قبل تداعي كيان الدولة
وانهيارها؟ لماذا يسقط حكم العصبية المالكة بالمرة، ليقوم مقامه حكم عصبية
أخرى قريبة أو بعيدة تبدأ هي أيضاً، في "تأسيس" دولتها من الصفر؟ بعبارة
أخرى لماذا هذه "الدورة العصبية" بالذات؟
الواقع أن الفساد والخلل
يتطرقان إلى الدولة ككل في مرحلة معينة من تطورها، وليس هذا الفساد راجعاً
إلى تقلص الحسب، أو ضعف في العصبية، ولا نتيجة عوامل سيكولوجية- اجتماعية
محض: (الانفراد بالمجد، الاستبداد، التقليد، النزعات القبلية أو
المذهبية)، بل إنه نتيجة جملة من العوامل الموضوعية، تنظيمية واجتماعية
واقتصادية متداخلة مترابطة، تشكل في مجموعها ما يطلق عليه ابن خلدون اسم
"الحضارة". "الحضارة" التي يقول عنها صاحب المقدمة "إنها غاية العمران
ونهاية لعمره، وإنها مؤذنة بفساده"؟
العصبية، الدولة، الحضارة،
ثلاثة مفاهيم مترابطة، يعطيها ابن خلدون معاني ودلالات خاصة، ومن ثمة
يتوقف على فهمها وتحديد مقصوده منها، فهمُ نظرياته وآرائه.
لقد شرحنا،
بقدر ما يتسع له المقام، هذه المفاهيم في المقالات السابقة، ونريد أن نبين
هنا أن ابن خلدون لم ينتقد الحضارة لأنه كان ذا "نزعة تشاؤمية" ملازمة
لتفكيره كما قال بعضهم، ولم ينتقدها لأنها لفظته وقذفت به بعيداً إلى إحدى
القلاع البدوية المحصنة، قلعة ابن سلامة، حيث كتب مقدمته، كما قال آخرون.
لا، ولم ينتقد ابن خلدون سكان المدن لكونهم "مذنبين" في نظره، ولأن ذنبهم
هو عجزهم عن تشكيل قوة سياسية "طبقة بورجوازية تمكن الملك من مقاومة
هجومات الأرستقراطية القبلية" كما ذهب إلى القول بذلك إيف لاكوست. كلا، ثم
كلا! إن ابن خلدون لم ينتقد "الحضارة"، ولم يتحامل على سكان المدن، بدافع
من هذا العامل أو ذاك، وإنما حلل ظروفاً اجتماعية وسياسية خاصة، وأبرز
خصائص نمط من الحياة خاص بتلك الظروف نفسها. وبعبارة أخرى، إن "الحضارة"
التي شجبها ابن خلدون، وجعلها مسؤولة عن هرم الدول واضمحلالها، هي شيء
آخر، غير الحضارة بالمعنى الحديث والمعاصر.
الحضارة كما يعرفها
صاحب المقدمة هي "التفنن في الترف واستجادة أحواله، والكلف بالصنائع التي
تؤنق من أصنافه وسائر فنونه من الصنائع المهيئة للمطابخ أو الملابس أو
المباني أو الفرش أو الآنية ولسائر أحوال المنزل". إنها نمط من العيش
وأسلوب في الاستهلاك، خاص بالفئة الارستقراطية الحاكمة، ومن يدور في فلكها
من الموالي والمصطنعين والموظفين الذين "يكسبون" عيشهم بـ"مذهب غير طبيعي
في المعاش" هو "الإمارة". إنها أسلوب حياة أولئك الذين يعيشون من "الجاه"
فقط، أولئك الذين لا يعملون ولا ينتجون، في الوقت الذي يستهلكون فيه بغير
حساب.
هذا النمط من الحياة مفسد للعمران في نظر ابن خلدون: مفسد
لأخلاق الأفراد الذين هم قوام الاجتماع الإنساني، ومفسد للدولة ليس بمجرد
"التفنن في الترف"، بل أيضاً بما يلحق ذلك التفنن أو ينتج عنه من تغيير في
علاقات أفراد العصبية الحاكمة بعضهم مع بعض من جهة، وبينهم وبين العصبات
المغلوبة المحكومة من جهة ثانية. وبعبارة أعم، يمكن القول إن الحضارة عند
ابن خلدون تعني في هذا المجال، مجال تطور الدولة، مجموع المعطيات السياسية
والاجتماعية والاقتصادية التي ترافق هرم الدولة وتلازمه ملازمة العلة
للمعلول (انظر المقال المنشور في هذه الصفحة عدد 12077 بتاريخ 29 يوليو
2008).
أما السؤال الذي طرحناه في المقال السابق، حول إمكانية ملء بعض
"قوالب" خطاب ابن خلدون حول تطور الدولة وهرمها بوقائع من التاريخ
العالمي، ومن معطيات واقعنا الراهن، عربياً ودولياً، فهو سؤال لا يمكن
الخوض فيه بطريقة علمية ومنهجية إلا بشروط لابد من القول فيها أولًا.
09:47 | 25.10.2008
د. محمد عابد الجابري | المغربية
مفكر مغربي
أعتقد أن "مغادرة" ابن خلدون إلى "ما بعده"، أو إلى ما لم يقله ولكن
"يقتضيه مذهبه" -حسب عبارة ابن رشد في شروحه على أرسطو- يقتضي منا استعادة
أهم العناصر التي تنتمي إلى ما قاله صاحب "المقدمة"، وتشكل قوام مذهبه في
الموضوع الذي نحن بصدده.
لقد فصَل ابن خلدون كما رأينا بين تطور
الدولة باعتبارها: 1) شخصاً يملك. 2) عصبية تحكم. 3) عصبية عامة غالبة،
وأخرى مغلوبة. وكما رأينا فقد ربط تطور الدولة، في المستوى الأول، بتطور
"الحسب" نازلًا من القوة إلى الضعف، وفي المستوى الثاني ربط تطور الدولة
بتحول العصبية من التعاون والتعاضد إلى التنافس والتخاذل. أما تطور كلية
الدولة في المستوى الثالث، أي باعتبارها أسرة حاكمة غالبة وعصبيات مغلوبة
محكومة، فيعني أساساً انتقال الحكم كله من "المساهمة والمشاركة"، و"الرفق
بالرعية" إلى "الانفراد بالمجد" والاستبداد بالحكم، ومن ثمة إلى "الهرم"
والسقوط.
إن سياق تحليل ابن خلدون لتطور الدولة على هذه
المستويات الثلاثة، يشير بوضوح إلى أن "الفساد في السمكة يبدأ من الرأس"،
بمعنى أن أول ضعف يتسرب إلى الدولة ناتج عن "نهاية الحسب" في البيت
المخصوص بالرئاسة والحكم. حين تنقلب الِخلال الحميدة، التي جعلت من صاحب
البيت رئيساً على عصبته أثناء "خشونة البداوة"، إلى ضدها، فيصبح الرئيس
(الملك)، تحت تأثير فعل الظروف الجديدة، ظروف الملك، مبتعداً منعزلًا أكثر
فأكثر عن قلب عَصَبَتِه، مستبدلاً خواص قومه وكبراء عشيرته بعناصر "حضرية"
غريبة أجنبية، مؤثراً "المتحضرين" من أعيان المدينة، مقرباً إياهم، مسنداً
إليهم إدارة شؤون الدولة من وزارة وحجابة وجباية، منصرفاً هو نفسه إلى
اصطناع "شارات الملك" وإلى الانشغال بأبهته والعناية بمظاهر السلطان.
وهكذا،
تكبر هذه الحاشية السلطانية ويتسع نفوذها حتى إذا مات صاحب الدولة، المؤسس
لها، بدأت في السيطرة على مقاليد الأمور، باحتضان ورثة العرش لتستبد
عليهم، أو بالعمل على الإطاحة بمن لا يخضع لها من الملوك المتعاقبين لتنصب
مكانهم الصغار والعاجزين، ما يدفع زعماء العصبة الحاكمة -الذين غالباً ما
يكونون ولاة في الأقاليم- إلى الثورة والدعوة لأنفسهم والمطالبة بالملك
أجمعه. والنتيجة المباشرة لكل ذلك انقسام أهل العصبية الحاكمة وانفكاك عرى
تضامنهم، وانصراف كل منهم إلى الدفاع والحفاظ على مصالحه الشخصية ومكاسبه
الخاصة، تلك المصالح والمكاسب التي نماها "الجاه المفيد للمال" وبلورها
تقليدهم لأعيان "أهل الحضارة من المدن" الناشئين فيها أو الوافدين عليها
من الدول المجاورة، هاربين، أو طالبين للجاه والثروة وطامعين في نمط حياة
"النخبة".
والنتيجة الحتمية لكل ذلك "فساد العصبية" بالمرة،
وانقلاب الرئاسة إلى ملك مستبد يعتمد على الموالي والمصطنعين ومرتزقة
الجند، مع ما يتبع ذلك من حاجة متعاظمة إلى الأموال لتغطية نفقات عوائد
الترف التي استحكمت، وأعطيات الجند التي تكثرت وارتفعت، ولوازم الحروب
الأهلية التي انتشرت واتسعت، بالإضافة إلى ما تدعو الحاجة إليه من استمالة
بعض كبراء القوم بالهدايا والأعطيات، فيعمد صاحب الدولة إلى الإكثار من
الضرائب والمغارم، ثم إلى مصادرة أموال الأسر التي أثرت بخدمة سلفه أو
بخدمته هو، فيتذمر الجميع، خاصة وعامة، ويفسد ولاء الرعية و"يقبضون أيديهم
عن العمل" والإنتاج، وتدخل الفوضى مختلف مرافق الحياة العامة، ما يكون
نتيجته دخول الدولة في طور الهرم، ذلك "المرض المزمن الذي لا تكاد تخلص
منه، ولا يكون لها منه برء إلى أن تنقرض..".
إذن، فالفساد يصيب الرئيس أولاً، ثم أهل عصبيته ثانياً، ثم مجموع الدولة حاكمين ومحكومين؟
ولكن
لماذا يستتبع فساد الرئيس فساد عصبته حتماً؟ لماذا لا تستطيع العصبة
الحاكمة، الغالبة، الحفاظ على وحدتها وتماسكها وهي التي يجمعها النسب
القريب، فتعين من بين زعمائها شخصاً يتولى الملك؟
قد يكون الجواب
عن هذا السؤال، أن العَصَبَة لا "تعين" رئيسها، وإنما يفرض الشخصُ نفسَه
رئيساً على عصبته بما يتمتع به من الخلال وما يحظى به بيته من حسب وشرف
المحتد، ولكن مع ذلك يبقى السؤال: لماذا لا تنتقل الرئاسة في هذه العصبة
الحاكمة إلى أحد فروعها المخصوصة بالرئاسة قبل تداعي كيان الدولة
وانهيارها؟ لماذا يسقط حكم العصبية المالكة بالمرة، ليقوم مقامه حكم عصبية
أخرى قريبة أو بعيدة تبدأ هي أيضاً، في "تأسيس" دولتها من الصفر؟ بعبارة
أخرى لماذا هذه "الدورة العصبية" بالذات؟
الواقع أن الفساد والخلل
يتطرقان إلى الدولة ككل في مرحلة معينة من تطورها، وليس هذا الفساد راجعاً
إلى تقلص الحسب، أو ضعف في العصبية، ولا نتيجة عوامل سيكولوجية- اجتماعية
محض: (الانفراد بالمجد، الاستبداد، التقليد، النزعات القبلية أو
المذهبية)، بل إنه نتيجة جملة من العوامل الموضوعية، تنظيمية واجتماعية
واقتصادية متداخلة مترابطة، تشكل في مجموعها ما يطلق عليه ابن خلدون اسم
"الحضارة". "الحضارة" التي يقول عنها صاحب المقدمة "إنها غاية العمران
ونهاية لعمره، وإنها مؤذنة بفساده"؟
العصبية، الدولة، الحضارة،
ثلاثة مفاهيم مترابطة، يعطيها ابن خلدون معاني ودلالات خاصة، ومن ثمة
يتوقف على فهمها وتحديد مقصوده منها، فهمُ نظرياته وآرائه.
لقد شرحنا،
بقدر ما يتسع له المقام، هذه المفاهيم في المقالات السابقة، ونريد أن نبين
هنا أن ابن خلدون لم ينتقد الحضارة لأنه كان ذا "نزعة تشاؤمية" ملازمة
لتفكيره كما قال بعضهم، ولم ينتقدها لأنها لفظته وقذفت به بعيداً إلى إحدى
القلاع البدوية المحصنة، قلعة ابن سلامة، حيث كتب مقدمته، كما قال آخرون.
لا، ولم ينتقد ابن خلدون سكان المدن لكونهم "مذنبين" في نظره، ولأن ذنبهم
هو عجزهم عن تشكيل قوة سياسية "طبقة بورجوازية تمكن الملك من مقاومة
هجومات الأرستقراطية القبلية" كما ذهب إلى القول بذلك إيف لاكوست. كلا، ثم
كلا! إن ابن خلدون لم ينتقد "الحضارة"، ولم يتحامل على سكان المدن، بدافع
من هذا العامل أو ذاك، وإنما حلل ظروفاً اجتماعية وسياسية خاصة، وأبرز
خصائص نمط من الحياة خاص بتلك الظروف نفسها. وبعبارة أخرى، إن "الحضارة"
التي شجبها ابن خلدون، وجعلها مسؤولة عن هرم الدول واضمحلالها، هي شيء
آخر، غير الحضارة بالمعنى الحديث والمعاصر.
الحضارة كما يعرفها
صاحب المقدمة هي "التفنن في الترف واستجادة أحواله، والكلف بالصنائع التي
تؤنق من أصنافه وسائر فنونه من الصنائع المهيئة للمطابخ أو الملابس أو
المباني أو الفرش أو الآنية ولسائر أحوال المنزل". إنها نمط من العيش
وأسلوب في الاستهلاك، خاص بالفئة الارستقراطية الحاكمة، ومن يدور في فلكها
من الموالي والمصطنعين والموظفين الذين "يكسبون" عيشهم بـ"مذهب غير طبيعي
في المعاش" هو "الإمارة". إنها أسلوب حياة أولئك الذين يعيشون من "الجاه"
فقط، أولئك الذين لا يعملون ولا ينتجون، في الوقت الذي يستهلكون فيه بغير
حساب.
هذا النمط من الحياة مفسد للعمران في نظر ابن خلدون: مفسد
لأخلاق الأفراد الذين هم قوام الاجتماع الإنساني، ومفسد للدولة ليس بمجرد
"التفنن في الترف"، بل أيضاً بما يلحق ذلك التفنن أو ينتج عنه من تغيير في
علاقات أفراد العصبية الحاكمة بعضهم مع بعض من جهة، وبينهم وبين العصبات
المغلوبة المحكومة من جهة ثانية. وبعبارة أعم، يمكن القول إن الحضارة عند
ابن خلدون تعني في هذا المجال، مجال تطور الدولة، مجموع المعطيات السياسية
والاجتماعية والاقتصادية التي ترافق هرم الدولة وتلازمه ملازمة العلة
للمعلول (انظر المقال المنشور في هذه الصفحة عدد 12077 بتاريخ 29 يوليو
2008).
أما السؤال الذي طرحناه في المقال السابق، حول إمكانية ملء بعض
"قوالب" خطاب ابن خلدون حول تطور الدولة وهرمها بوقائع من التاريخ
العالمي، ومن معطيات واقعنا الراهن، عربياً ودولياً، فهو سؤال لا يمكن
الخوض فيه بطريقة علمية ومنهجية إلا بشروط لابد من القول فيها أولًا.
09:47 | 25.10.2008
د. محمد عابد الجابري | المغربية
مفكر مغربي
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
بين ابن خلدون وماركس/09:20 | 02.11.2008 د. محمد عابد الجابري | المغربية
عرضنا في المقالات السابقة لآراء ابن خلدون في الدولة متقيدين بما "قاله صاحب المقدمة" دون الاهتمام لا، بما لم يقله وسكت عنه.
ولا بما يمكن أن ننسبه إلى "ما بين سطور مكتوبه"، ولا بما ينطبق أو لا ينطبق على "ما بعده" لكون ما قاله "يقتضيه" أو "لا يقتضيه"؟.
الواقع
أن أية قراء لابن خلدون تريد "الركوب على أكتافه" لتتمكن من رؤية "ما
بعده" بوضوح أكبر، تقتضي أول ما تقتضي، عدم إغفال التقيد بحقيقة أن ابن
خلدون كان يفكر في موضوع "الدولة" (الذي ينتمي اليوم إلى فلسفة التاريخ
عموماً، والتاريخ السياسي خصوصاً) داخل إطار محدد هو إطار التجربة
التاريخية العربية بعد الإسلام إلى عهده.
فنظرياته في العمران هي -في المنطلق كما في المنتهى- تخص تجربة خاصة.
هذا
أولاً، ثم لابد من الانتباه ثانياً إلى أن ما جعل نظرياته، في الدولة
والمجتمع في عصره، تحظى باهتمام خاص بعد قرون من وفاته (تماماً كما حدث مع
ابن رشد)، هو ما ينطوي عليه عنصر "الخاص" فيها (في تلك النظريات) من اتساع
وعمق جعل عنصر "العام" الثاوي وراءها يبرز بصورة جعلته يلقي بظلاله على
أنواع أخرى من "الخاص" تبدو لمن ليست له علاقة معرفية بآراء ابن خلدون،
وكأنها هي التي تحتل محل العام في التجارب التاريخية الأخرى. ذلك ما جعل
بعض الماركسيين العرب وغيرهم في الستينيات من القرن الماضي -حينما ساد
الطموح إلى تطبيق التفسير المادي التاريخي بصورة ما وبدرجة ما على واقع
العالم الثالث عموماً وواقع العالم العربي (وتاريخه) خصوصاً- ينظرون إلى
ابن خلدون بوصفه رائد "المادية التاريخية".
والواقع أن ما جعل
"الخلدونية" تبدو وكأنها أقرب إلى "الماركسية" هو ما قلناه قبل بصدد علاقة
الخاص بالعام في "الخلدونية". لقد حلل ماركس واقع المجتمع الأوروبي
(إنجلترا وألمانيا وفرنسا) تحليلاً أبرز فيه ما ينطوي عليه عنصر "الخاص"
في المجتمع الأوروبي من اتساع وعمق جعل عنصر "العام" الثاوي وراءه يبرز
بصورة جعلته يلقي بظلاله على أنواع أخرى من "الخاص" تبدو، لمن ليست له
علاقة معرفية بحقيقة آراء ماركس، وكأنها هي التي تحتل محل العام في
التجارب التاريخية الأخرى.
هذا النوع من العلاقة بين الخاص والعام،
في كل من آراء ابن خلدون وتحليلات ماركس، هو الذي كان وراء ذلك الإعجاب
بابن خلدون من طرف كُتاب كان لهم شأنهم في الغرب والعالم العربي، إعجاب
أدى ببعضهم إلى إطلاق اسم "ماركس العرب" على صاحب "المقدمة". ومقابل هذا،
الإعجاب بابن خلدون بعد ماركس كان يمكن أن يتحول إلى إعجاب بماركس بوصفه
"ابن خلدون أوروبا"، لو أن الأوروبيين تعرفوا بعمق بصاحب "المقدمة"، قبل
مجيء ماركس. ولو حدث هذا لجاز أن يكون قد قام هناك في أوروبا القرن التاسع
عشر "خلدونيون لاتين"، أصحاب مذهب في فهم التاريخ (وليس في فهم أرسطو) من
قبيل مذهب "الرشدية اللاتينية".
لقد أردنا بهذه المقارنات (بين
محتملٍ هنا ومحتملٍ هناك)، ليس تضييق الشقة بينهما بل إبراز أن الأهم من
ذلك هو إبراز مدى التقارب أو التباعد بين النتيجة التي توصل إليها كل
منهما: لقد توصل ماركس إلى أن "مشكلة المجتمع الأوروبي الصناعي" في عهده
تكمن فيما عبر عنه بـ"التناقض بين الطابع الجماعي لعملية الإنتاج والطابع
الفردي لملكية وسائل الإنتاج". أما ابن خلدون فقد توصل إلى نتيجة مغايرة
وهي أن مشكلة المجتمع العربي في عهده هي في "التناقض بين خشونة البداوة
ورقة الحضارة".
والفرق بين التناقضين هو أن الأول يحمل معه نوعاً
من الحل، أما الثاني فهو مما ينتمي إلى ما يعبر عنه بـ"ما فوق التحديد" أو
"ما ينأى عن التحديد" sur détermination. الحل الذي يحمله التناقض الأول
في جوفه هو العمل على أن تصبح وسائل الإنتاج جماعية، (أي تأميمها)، كعملية
الإنتاج نفسها. أما الحل في التناقض الأول فلم يكن من المنظور زمن ابن
خلدون، لأنه كان يتطلب أن تفقد "خشونة البداوة" (البداوة بالمعنى الواسع
للكلمة: بداوة جغرافية واقتصادية واجتماعية وفكرية ودينية) ما يجعلها تعيد
إنتاج نفسها باستمرار وأن تتحول "رقة الحضارة" من كونها "نحلة في المعاش
غير طبيعية" تقوم على مجرد "استجادة أحوال الترف"، إلى "نحلة في المعاش
طبيعية" تقوم على "استجادة أحول العمل والإنتاج".
وإنما قلنا إن
هذا "التحويل" هو مما ينتمي إلى "ما ينأى عن التحديد" لأنه يتطلب إحداث
تغيير في جغرافية العمران، إلى تقليص البادية والبداوة، وهذا ما لم يكن من
"القابل للتفكير فيه" زمن ابن خلدون، ولذلك غاب "هاجس الإصلاح" في خطابه.
أما في أوروبا فقد حصل هذا التحويل قبل ماركس، وذلك من خلال الثورة
الصناعية، التي حل فيها استعمالُ "الجرار الحديدي" محل المحراث الخشبي...
الخ. إن التطور التاريخي زمن ماركس كان يتجه بقوة نحو سيطرة الإنسان على
الطبيعة، بما في ذلك طبيعة "الإنسان" نفسه. لقد جاء ماركس بعد عصر النهضة
وعصر الأنوار، وأوروبا تدخل في عصر التوسع الاستعماري الذي مكنها من حل
مشاكلها الاقتصادية بما تأتي به من البلدان المستعمرة:
مواد
أولية مجانية أو شبه مجانية وعمالة رخيصة... أما ابن خلدون فقد جاء في زمن
وصلت فيه الأمور إلى الحضيض في كل مجال "وكأنما نادى لسان الكون في العالم
بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة" كما قال هو نفسه.
لم يكن من
الممكن التفكير يومئذ في الوسيلة التي يمكن بها "حل" التناقض بين "خشونة
البداوة ورقة الحضارة". ذلك لأن هذا التناقض لم يكن من نوع التناقض الجدلي
الذي يلعب فيه "نفي النفي" الدور الرئيسي في عملية التجاوز المطلوبة. في
أوروبا زمن ماركس كانت الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج ("البورجوازية"
أصحاب المدن) تشكل "الإثبات" فقامت الطبقة العاملة التي خرجت من جوفها
والتي أصل معظم أفرادها من البادية، لتشكل "النفي" (مع الاحتفاظ بأشياء
منها ومن نقيضها)، وبانتصارها يتحقق "نفي النفي" أي "الاشتراكية" التي
تقوم على جماعية الإنتاج وجماعية ملكية وسائله.
أما التناقض بين
"خشونة البداوة ورقة الحضارة" فهو وضع لا مجال لتدخل الجدل في حله: ذلك
أنه تناقض بين "حضارة" استهلاكية غير منتجة، أقيمت على أساس اقتصادي واهٍ،
وأسلوب في "الإنتاج" غير طبيعي، أسلوب يمكن وصفه بأنه: أسلوب الإنتاج
الخاص بالاقتصاد القائم على الغزو.
والتناقض الأساسي الذي يكشف عنه
هذا النوع من الاقتصاد، ليس بين "قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج"، بل إنه
التناقض بين حضارة استهلاكية ومؤسسات فوقية مصطنعة، وبين بنائها التحتي-
الاقتصادي والاجتماعي، الذي أقامت نفسها عليه بشكل تعسفي: بناء لا
يتحملها، ولا يقدر على حملها، لأنها لم تكن نمواً طبيعياً، ولا تطوراً
تدريجياً له.
هذا التناقض المسؤول عن "الدورات العصبية" التي حدثنا
عنها ابن خلدون، وعن الأزمات الاقتصادية الدورية التي أبرزها في تحليلاته،
هو نتيجة أسلوب في "الإنتاج" شاذ، (نتيجة "مذهب في المعاش غير طبيعي")،
يختلف عن أساليب الإنتاج التي تحدث عنها ماركس، بما فيها ما أسماه
بـ"النمط الآسيوي للإنتاج". ولذلك كان النظام الاجتماعي الناشئ عنه يختلف
عن الأنماط التي عرفها التاريخ حسب الماركسية: (المشاعية البدائية - مجتمع
العبيد النظام الإقطاعي -النظام الرأسمالي - النظام الاشتراكي).
وقبل
أن نشرح مفعول هذا التناقض، وانعكاساته على تجربة الحضارة العربية
الإسلامية، وامتداداته إلى الواقع العربي الراهن، علينا أن نوضح أولاً،
وبإيجاز، ما نقصده مما أسميناه: "أسلوب الإنتاج القائم على الغزو".
مفكر مغربي
ولا بما يمكن أن ننسبه إلى "ما بين سطور مكتوبه"، ولا بما ينطبق أو لا ينطبق على "ما بعده" لكون ما قاله "يقتضيه" أو "لا يقتضيه"؟.
الواقع
أن أية قراء لابن خلدون تريد "الركوب على أكتافه" لتتمكن من رؤية "ما
بعده" بوضوح أكبر، تقتضي أول ما تقتضي، عدم إغفال التقيد بحقيقة أن ابن
خلدون كان يفكر في موضوع "الدولة" (الذي ينتمي اليوم إلى فلسفة التاريخ
عموماً، والتاريخ السياسي خصوصاً) داخل إطار محدد هو إطار التجربة
التاريخية العربية بعد الإسلام إلى عهده.
فنظرياته في العمران هي -في المنطلق كما في المنتهى- تخص تجربة خاصة.
هذا
أولاً، ثم لابد من الانتباه ثانياً إلى أن ما جعل نظرياته، في الدولة
والمجتمع في عصره، تحظى باهتمام خاص بعد قرون من وفاته (تماماً كما حدث مع
ابن رشد)، هو ما ينطوي عليه عنصر "الخاص" فيها (في تلك النظريات) من اتساع
وعمق جعل عنصر "العام" الثاوي وراءها يبرز بصورة جعلته يلقي بظلاله على
أنواع أخرى من "الخاص" تبدو لمن ليست له علاقة معرفية بآراء ابن خلدون،
وكأنها هي التي تحتل محل العام في التجارب التاريخية الأخرى. ذلك ما جعل
بعض الماركسيين العرب وغيرهم في الستينيات من القرن الماضي -حينما ساد
الطموح إلى تطبيق التفسير المادي التاريخي بصورة ما وبدرجة ما على واقع
العالم الثالث عموماً وواقع العالم العربي (وتاريخه) خصوصاً- ينظرون إلى
ابن خلدون بوصفه رائد "المادية التاريخية".
والواقع أن ما جعل
"الخلدونية" تبدو وكأنها أقرب إلى "الماركسية" هو ما قلناه قبل بصدد علاقة
الخاص بالعام في "الخلدونية". لقد حلل ماركس واقع المجتمع الأوروبي
(إنجلترا وألمانيا وفرنسا) تحليلاً أبرز فيه ما ينطوي عليه عنصر "الخاص"
في المجتمع الأوروبي من اتساع وعمق جعل عنصر "العام" الثاوي وراءه يبرز
بصورة جعلته يلقي بظلاله على أنواع أخرى من "الخاص" تبدو، لمن ليست له
علاقة معرفية بحقيقة آراء ماركس، وكأنها هي التي تحتل محل العام في
التجارب التاريخية الأخرى.
هذا النوع من العلاقة بين الخاص والعام،
في كل من آراء ابن خلدون وتحليلات ماركس، هو الذي كان وراء ذلك الإعجاب
بابن خلدون من طرف كُتاب كان لهم شأنهم في الغرب والعالم العربي، إعجاب
أدى ببعضهم إلى إطلاق اسم "ماركس العرب" على صاحب "المقدمة". ومقابل هذا،
الإعجاب بابن خلدون بعد ماركس كان يمكن أن يتحول إلى إعجاب بماركس بوصفه
"ابن خلدون أوروبا"، لو أن الأوروبيين تعرفوا بعمق بصاحب "المقدمة"، قبل
مجيء ماركس. ولو حدث هذا لجاز أن يكون قد قام هناك في أوروبا القرن التاسع
عشر "خلدونيون لاتين"، أصحاب مذهب في فهم التاريخ (وليس في فهم أرسطو) من
قبيل مذهب "الرشدية اللاتينية".
لقد أردنا بهذه المقارنات (بين
محتملٍ هنا ومحتملٍ هناك)، ليس تضييق الشقة بينهما بل إبراز أن الأهم من
ذلك هو إبراز مدى التقارب أو التباعد بين النتيجة التي توصل إليها كل
منهما: لقد توصل ماركس إلى أن "مشكلة المجتمع الأوروبي الصناعي" في عهده
تكمن فيما عبر عنه بـ"التناقض بين الطابع الجماعي لعملية الإنتاج والطابع
الفردي لملكية وسائل الإنتاج". أما ابن خلدون فقد توصل إلى نتيجة مغايرة
وهي أن مشكلة المجتمع العربي في عهده هي في "التناقض بين خشونة البداوة
ورقة الحضارة".
والفرق بين التناقضين هو أن الأول يحمل معه نوعاً
من الحل، أما الثاني فهو مما ينتمي إلى ما يعبر عنه بـ"ما فوق التحديد" أو
"ما ينأى عن التحديد" sur détermination. الحل الذي يحمله التناقض الأول
في جوفه هو العمل على أن تصبح وسائل الإنتاج جماعية، (أي تأميمها)، كعملية
الإنتاج نفسها. أما الحل في التناقض الأول فلم يكن من المنظور زمن ابن
خلدون، لأنه كان يتطلب أن تفقد "خشونة البداوة" (البداوة بالمعنى الواسع
للكلمة: بداوة جغرافية واقتصادية واجتماعية وفكرية ودينية) ما يجعلها تعيد
إنتاج نفسها باستمرار وأن تتحول "رقة الحضارة" من كونها "نحلة في المعاش
غير طبيعية" تقوم على مجرد "استجادة أحوال الترف"، إلى "نحلة في المعاش
طبيعية" تقوم على "استجادة أحول العمل والإنتاج".
وإنما قلنا إن
هذا "التحويل" هو مما ينتمي إلى "ما ينأى عن التحديد" لأنه يتطلب إحداث
تغيير في جغرافية العمران، إلى تقليص البادية والبداوة، وهذا ما لم يكن من
"القابل للتفكير فيه" زمن ابن خلدون، ولذلك غاب "هاجس الإصلاح" في خطابه.
أما في أوروبا فقد حصل هذا التحويل قبل ماركس، وذلك من خلال الثورة
الصناعية، التي حل فيها استعمالُ "الجرار الحديدي" محل المحراث الخشبي...
الخ. إن التطور التاريخي زمن ماركس كان يتجه بقوة نحو سيطرة الإنسان على
الطبيعة، بما في ذلك طبيعة "الإنسان" نفسه. لقد جاء ماركس بعد عصر النهضة
وعصر الأنوار، وأوروبا تدخل في عصر التوسع الاستعماري الذي مكنها من حل
مشاكلها الاقتصادية بما تأتي به من البلدان المستعمرة:
مواد
أولية مجانية أو شبه مجانية وعمالة رخيصة... أما ابن خلدون فقد جاء في زمن
وصلت فيه الأمور إلى الحضيض في كل مجال "وكأنما نادى لسان الكون في العالم
بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة" كما قال هو نفسه.
لم يكن من
الممكن التفكير يومئذ في الوسيلة التي يمكن بها "حل" التناقض بين "خشونة
البداوة ورقة الحضارة". ذلك لأن هذا التناقض لم يكن من نوع التناقض الجدلي
الذي يلعب فيه "نفي النفي" الدور الرئيسي في عملية التجاوز المطلوبة. في
أوروبا زمن ماركس كانت الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج ("البورجوازية"
أصحاب المدن) تشكل "الإثبات" فقامت الطبقة العاملة التي خرجت من جوفها
والتي أصل معظم أفرادها من البادية، لتشكل "النفي" (مع الاحتفاظ بأشياء
منها ومن نقيضها)، وبانتصارها يتحقق "نفي النفي" أي "الاشتراكية" التي
تقوم على جماعية الإنتاج وجماعية ملكية وسائله.
أما التناقض بين
"خشونة البداوة ورقة الحضارة" فهو وضع لا مجال لتدخل الجدل في حله: ذلك
أنه تناقض بين "حضارة" استهلاكية غير منتجة، أقيمت على أساس اقتصادي واهٍ،
وأسلوب في "الإنتاج" غير طبيعي، أسلوب يمكن وصفه بأنه: أسلوب الإنتاج
الخاص بالاقتصاد القائم على الغزو.
والتناقض الأساسي الذي يكشف عنه
هذا النوع من الاقتصاد، ليس بين "قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج"، بل إنه
التناقض بين حضارة استهلاكية ومؤسسات فوقية مصطنعة، وبين بنائها التحتي-
الاقتصادي والاجتماعي، الذي أقامت نفسها عليه بشكل تعسفي: بناء لا
يتحملها، ولا يقدر على حملها، لأنها لم تكن نمواً طبيعياً، ولا تطوراً
تدريجياً له.
هذا التناقض المسؤول عن "الدورات العصبية" التي حدثنا
عنها ابن خلدون، وعن الأزمات الاقتصادية الدورية التي أبرزها في تحليلاته،
هو نتيجة أسلوب في "الإنتاج" شاذ، (نتيجة "مذهب في المعاش غير طبيعي")،
يختلف عن أساليب الإنتاج التي تحدث عنها ماركس، بما فيها ما أسماه
بـ"النمط الآسيوي للإنتاج". ولذلك كان النظام الاجتماعي الناشئ عنه يختلف
عن الأنماط التي عرفها التاريخ حسب الماركسية: (المشاعية البدائية - مجتمع
العبيد النظام الإقطاعي -النظام الرأسمالي - النظام الاشتراكي).
وقبل
أن نشرح مفعول هذا التناقض، وانعكاساته على تجربة الحضارة العربية
الإسلامية، وامتداداته إلى الواقع العربي الراهن، علينا أن نوضح أولاً،
وبإيجاز، ما نقصده مما أسميناه: "أسلوب الإنتاج القائم على الغزو".
مفكر مغربي
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
اصدارات جديدة فهم القرآن الحكيم: التفسير الواضح حسب ترتيب النزول
صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية كتاب «فهم القرآن الحكيم: التفسير
الواضح حسب ترتيب النزول (القسم الثاني)» للدكتور محمد عابد الجابري.
يقدم
المفكر العربي الكبير الدكتور محمد عابد الجابري، في هذا الكتاب القسم
الثاني من مشروعه، كتابة التفسير القرآني: فهم القرآن الحكيم – التفسير
الواضح حسب ترتيب النزول، وهو مشروع، من ثلاثة أقسام، يعكس، في مجمله
النتيجة العامة والعملية التي خرج بها المؤلف من مصاحبة التفاسير
الموجودة، وهي ان المكتبة العربية – الإسلامية تفتقر إلى تفسير يستفيد في
عملية «الفهم» من جميع التفاسير السابقة.
والمؤلف، في سبيل ذلك، يقوم
ببناء التفسير القرآني على أساس ترتيب النزول، ليس فقط على مستوى مسار»
الكون والتكوين»، وما يمكن أن نعبر عنه بـ «مسار التنزيل»، بل أيضاً على
مستوى مسيرة الدعوة المحمدية والسيرة النبوية.
ويرى المؤلف ان القرآن
الكريم نزل منجماً، خلال أزيد من عشرين سنة، وان تسلسل سوره – حسب ترتيب
النزول – يباطنه تسلسل منطقي، وبالتالي فإن الرجوع إلى وقائع السيرة جعلته
يكتشف ان ذلك المنطق الذي يُباطن تسلسل السور، داخل كل مجموعة، يتطابق في
مضمونه مع تسلسل هذه الوقائع، الشيء الذي يتبين منه بوضوح ان مسار التنزيل
مساوق فعلاً لمسيرة الدعوة.
ويسلك المؤلف طريقة في «الإفهام» ألصق
بالطريقة التي تعتمد اليوم في الكتابة، إذ شكل استعمال «علامات الإفهام»
جزءاً أساسياً في بسط الوضوح لهذا المشروع في التفسير.
يضم القسم
الثاني ثماني وثلاثين سورة، من سورة الحجر إلى سورة الحج (حسب ترتيب
الجابري)، وفيه يسلط الضوء على ثلاث مراحل: 1- الصدع بالأمر والاتصال
بالقبائل، 2- حصار النبي (صلى الله عليه وسلم) وأهله في شعب أبي طالب،
وهجرة المسلمين إلى الحبشة، 3- ما بعد الحصار: مواصلة الاتصال بالقبائل...
والاستعداد للهجرة إلى المدينة.
انه مشروع جليل، حيث الشعور بالتوفيق
يغمر المؤلف في ما سعى إليه، في قراءة القرآن الكريم بالسيرة النبوية،
وقراءة السيرة بالقرآن، وقد مكنته هذه القراءة المزدوجة من التعرف على
العلاقة الحميمية بين الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) والقرآن الحكيم.
بديعة- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 6241
العمر : 39
Localisation : الدارالبيضاء
Emploi : موظفة
تاريخ التسجيل : 03/04/2008
اقتصادات الغزو وعوائق الحضارة/د. محمد عابد الجابري
ختمنا المقال السابق بالقول إن "الاقتصاد القائم على الغزو"، كان مسؤولًا،
في نظر ابن خلدون، عن النمط العام للحضارة العربية الإسلامية.
سياسياً واجتماعياً وعمرانياً وثقافياً. وعلينا الآن أن نقدم البيان والتفصيل، دون التعليق.
-
فمن الناحية السياسية: يرى ابن خلدون أن الدول التي ينشئها أولئك الرحل،
الذين سماهم بـ "العرب ومن في معناهم"، تمتاز باتساع الرقعة من جهة، وسرعة
الزوال من جهة أخرى. أما اتساع الرقعة فيرجع إلى أنهم "ليس لهم وطن
يرتافون منه، ولا بلد يجنحون إليه، فنسبة الأقطار والمواطن إليهم على
السواء. فلهذا لا يقتصرون على ملكة قطرهم وما جاورهم من البلاد. ولا يقفون
عند حدود أفقهم، بل يطفرون إلى الأقاليم البعيدة، ويتغلبون على الأمم
النائية".
وهكذا، فالعرب عندما، "توجهوا لطلب ما في أيدي الأمم
والممالك لم يكن دونهم حمى ولا وزر، فاستبيح حمى فارس والروم، أهل
الدولتين العظيمتين في العالم لعهدهم، والترك بالمشرق، والإفرنجة والبربر
بالمغرب (العربي)، والقوط بالأندلس، وخطوا من الحجاز إلى السوس الأقصى
(جنوب المغرب)، ومن اليمن إلى الترك بأقصى الشمال، واستولوا على الأقاليم
السبعة". "وكذا حال الملثمين (المرابطين) من المغرب (موريتانيا) لما نزعوا
إلى الملك طفروا من الإقليم الأول، ومجالاتهم منه في جوار السودان، إلى
الإقليم الرابع والخامس، في ممالك الأندلس من غير واسطة".
هذا من
جهة، ومن جهة أخرى فإن الدول التي ينشئها هؤلاء "العرب ومن في معناهم" لا
تصمد طويلًا، بل سرعان ما "تهرم" وتزول. ذلك لأن اتساع رقعة دولتهم يحملهم
على التوزع في الآفاق البعيدة، فتضعف عصبيتهم الجامعة بطول المسافات
الفاصلة بينهم، وتحل محلها العصبيات الخاصة المتنافرة والمتطاحنة. وأيضاً
فهم عندما يتوجهون إلى تأسيس الدول يبقى طابع طي المسافات وعدم الاستقرار،
غالباً على سلوكهم الحربي، الاقتصادي، ما يجعل أثرهم في المناطق التي
يحتلونها ضعيفاً سطحياً سرعان ما يتلاشى ويزول.
وإذا كان العرب
لأول عهدهم بالإسلام استطاعوا الحفاظ على تماسكهم، ومن ثمة على البلاد
التي فتحوها، مثلهم في ذلك مثل دولة لمتونة (المرابطين) ودولة الموحدين
بالمغرب اللتين تأسستا على أساس دعوة دينية، فما ذلك إلا "لأن الاجتماع
الديني ضاعف قوة عصبيتهم بالاستبصار والاستماتة"، فانصاعت لهم العصبيات
الأخرى وانضم بعضها بتأثير "الاجتماع الديني" إلى عصبيتهم. أما عندما
"حالت صبغة الدين وفسدت" فإن دولهم لم تكن تصمد طويلاً أمام انتفاضات
العصائب، وطمع الدول المجاورة، بل سرعان ما تتمزق وتضمحل.
وأما من
الناحية الاجتماعية: فإن طريقة الكسب، لا تسمح لهم بالاندماج الكلي في
سكان المناطق التي يحتلونها ويقيمون فيها دولهم: لقد كان العرب "أجانب من
الممالك التي استولوا عليها، قبل الإسلام"، ولما تملكوها، بعد الإسلام،
"انصرفوا إلى الرئاسة والملك" ولم يندمجوا في أهالي البلاد التي فتحوها،
بل بقوا محتفظين بعصبياتهم وتنظيماتهم القبلية.
نعم، لقد حاول
الإسلام القضاء على العصبية الجاهلية، وشجب بقوة الاعتداد بالأنساب، ولكن
الأساس الاقتصادي، اقتصاد الغزو، الذي قامت عليه دولة الإسلام، سرعان ما
عمل على إحياء العصبيات العربية القديمة وإذكاء الصراع بينها. لقد أنشأ
عمر بن الخطاب ديوان العطاء، واعتمد في توزيع الغنائم والأعطيات على أساس
السبق في الإسلام والقرابة من الرسول صلى الله عليه وسلم، مما جعل قبائل
معينة تنال امتيازات حُرمت منها أخرى لتأخر إسلامها أو لبعدها عن البيت
الهاشمي. وكان لسياسة بني أمية التي اعتمدت استرضاء بعض القبائل بالمال أو
المصاهرة، وقمع أخرى بالقوة إلى جانب توسيع نظام العطاء القائم على اعتبار
التنظيمات القبلية، كان لذلك كله أثر كبير في بقاء القبائل العربية محتفظة
بشخصيتها واستقلالها، معتزة بعصبياتها ما ساعد على تعميق تلك الهوة التي
تفصل بين العرب وغير العرب من المسلمين، اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً
وثقافياً.
نعم، لقد أخذ هؤلاء "العرب الرؤساء" بمظاهر الحضارة
البيزنطية على عهد الأمويين، وبمعطيات من الحضارة الساسانية على عهد
العباسيين، ولكن هذه المظاهر بقيت مجرد "مظاهر" فقط ("حضارة" البلاط). فلم
تتغلغل فيهم مقومات الحضارتين. لقد نقلوا هذه المظاهر الحضارية إلى قصورهم
ومطابخهم وألبستهم، ولكنهم لم ينتقلوا هم أنفسهم إلى هذه الحضارة أو تلك،
إنهم لم يندمجوا في صفوف أرستقراطية العجم، ولا اندمجت هذه فيهم، رغم
استخدامهم "خبراء" و"فنيين" من غير العرب في المداواة والإدارة والمطابخ،
رغم اتخاذهم بنات الفرس والروم جواري أو زوجات... كل ذلك راجع إلى أنهم
ظلوا "أهل ملك ورئاسة"، يكسبون من الإمارة التي هي "مذهب غير طبيعي في
المعاش" فبقيت وضعيتهم الاجتماعية بالتالي غير طبيعية كذلك.
وأما
من الناحية العمرانية: فإن ابن خلدون يعزو إلى "خُلُق البداوة" أو "بداوة
العروبية" جميع نقاط الضعف في دولة العرب وحضارتهم: فـ"المباني والمصانع
في الملة الإسلامية قليلة بالنسبة إلى قدرتها وإلى من كان قبلها من
الدول"، فـ"عمران إفريقيا والمغرب كله أو أكثره بدوي: أهل خيام وظواعن
وقياطن وكنن في الجبال" هذا في حين أن "عمران بلاد العجم كله أو أكثره قرى
وأمصار ورساتيق من بلاد الأندلس والشام ومصر وعراق العجم وأمثالها". ومثل
عمران المغرب وأفريقيا عمران عرب المشرق عموماً، فإن المباني التي اختطوها
قليلة وما اختطوها منها "يسرع إليها الخراب إلا في الأقل(...)لقلة
مراعاتهم لحسن الاختيار لاختطاط المدن(...) انظر لما اختطوا الكوفة
والبصرة والقيروان كيف لم يراعوا في اختطاطها إلا مراعي إبلهم، وما يقرب
من القفر ومسالك الظعن، فكانت بعيدة عن الوضع الطبيعي للمدن، لم تكن لها
مادة تمد عمرانها(...) فلأول وهلة من انحلال أمرهم وذهاب عصبيتهم التي
كانت سياجاً لها، أتى عليها الخراب والانحلال كأن لم تكن".
ومن
الناحية الثقافية: يقرر ابن خلدون "أن حملة العلم في الملة الإسلامية
أكثرهم من العجم، لا من العلوم الشرعية، ولا من العلوم العقلية، إلا في
القليل النادر. وإن كان منهم العربي في نسبته فهو عجمي في لغته ومرباه
ومشيخته". وهذه الظاهرة، ليست راجعة إلى نقص في "العقل العربي" ولا إلى
تفوق جنس الأعاجم، الجنس الآري، على الجنس العربي السامي، كما ذهب إلى ذلك
بعض مفكري الغرب (رينان خاصة)، بل إن السبب الحقيقي والمعقول، هو وضعيتهم
الاجتماعية، كما يؤكد ابن خلدون نفسه. يقول: إن كون "حملة العلم في
الإسلام من العجم"، راجع إلى "أن الملة في أولها لم يكن فيها علم ولا
صناعة لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة". أما حين دخلت دولة العرب طور
الحضارة، فإن الذين أدركوا منهم هذا الطور "شغلتهم الرئاسة في الدولة
العباسية، وما دفعوا إليه من القيام بالملك، عن القيام بالعلم والنظر فيه.
فإنهم كانوا أهل الدولة وحاميتها وأولي سياستها، على ما يلحقهم من الأنفة
عن انتحال العلم حينئذ بما صار من جملة الصنائع. والرؤساء أبداً يستنكفون
عن الصنائع والمهن وما يجر إليها، ودفعوا ذلك إلى من قام به من العجم
والمولدين".
نعم، لقد شجع الخلفاء والملوك العرب، العلم والعلماء،
وأقاموا لهم المجال، وأجزلوا لهم العطاء. وإذا كان هذا شجع القائمين
بالعلم على البحث والترجمة ونقل التراث الثقافي اليوناني والفارسي والهندي
إلى اللغة العربية، فإنه من جهة أخرى جعل العلم محصوراً في دائرة خاصة،
دائرة الارستقراطية الحاكمة. ولما كانت أرستقراطية (مؤقتة) بمعنى أنها
ليست وراثية، فإن العلم، والنشاط الثقافي على العموم، كان يهتز باهتزازها:
فإذا سقطت (الدولة) وغالباً ما كان يصحب ذلك انتقال العاصمة إلى مكان
جديد، تشتت العلماء والأدباء، وتراجع العلم وانحطت الثقافة إلى أن تتمكن
الدولة الجديدة من استقطاب (انتليجنسيا) جديدة تلاقي هي الأخرى المصير
نفسه. وهكذا بقيت الثقافة كغيرها من المظاهر الحضارية الأخرى، تطفو على
السطح، تنحط وتزدهر بانحطاط أو ازدهار اقتصاد الغزو.
مفكر مغربي
10:15 | 16.11.2008
د. محمد عابد الجابري | المغربية
في نظر ابن خلدون، عن النمط العام للحضارة العربية الإسلامية.
سياسياً واجتماعياً وعمرانياً وثقافياً. وعلينا الآن أن نقدم البيان والتفصيل، دون التعليق.
-
فمن الناحية السياسية: يرى ابن خلدون أن الدول التي ينشئها أولئك الرحل،
الذين سماهم بـ "العرب ومن في معناهم"، تمتاز باتساع الرقعة من جهة، وسرعة
الزوال من جهة أخرى. أما اتساع الرقعة فيرجع إلى أنهم "ليس لهم وطن
يرتافون منه، ولا بلد يجنحون إليه، فنسبة الأقطار والمواطن إليهم على
السواء. فلهذا لا يقتصرون على ملكة قطرهم وما جاورهم من البلاد. ولا يقفون
عند حدود أفقهم، بل يطفرون إلى الأقاليم البعيدة، ويتغلبون على الأمم
النائية".
وهكذا، فالعرب عندما، "توجهوا لطلب ما في أيدي الأمم
والممالك لم يكن دونهم حمى ولا وزر، فاستبيح حمى فارس والروم، أهل
الدولتين العظيمتين في العالم لعهدهم، والترك بالمشرق، والإفرنجة والبربر
بالمغرب (العربي)، والقوط بالأندلس، وخطوا من الحجاز إلى السوس الأقصى
(جنوب المغرب)، ومن اليمن إلى الترك بأقصى الشمال، واستولوا على الأقاليم
السبعة". "وكذا حال الملثمين (المرابطين) من المغرب (موريتانيا) لما نزعوا
إلى الملك طفروا من الإقليم الأول، ومجالاتهم منه في جوار السودان، إلى
الإقليم الرابع والخامس، في ممالك الأندلس من غير واسطة".
هذا من
جهة، ومن جهة أخرى فإن الدول التي ينشئها هؤلاء "العرب ومن في معناهم" لا
تصمد طويلًا، بل سرعان ما "تهرم" وتزول. ذلك لأن اتساع رقعة دولتهم يحملهم
على التوزع في الآفاق البعيدة، فتضعف عصبيتهم الجامعة بطول المسافات
الفاصلة بينهم، وتحل محلها العصبيات الخاصة المتنافرة والمتطاحنة. وأيضاً
فهم عندما يتوجهون إلى تأسيس الدول يبقى طابع طي المسافات وعدم الاستقرار،
غالباً على سلوكهم الحربي، الاقتصادي، ما يجعل أثرهم في المناطق التي
يحتلونها ضعيفاً سطحياً سرعان ما يتلاشى ويزول.
وإذا كان العرب
لأول عهدهم بالإسلام استطاعوا الحفاظ على تماسكهم، ومن ثمة على البلاد
التي فتحوها، مثلهم في ذلك مثل دولة لمتونة (المرابطين) ودولة الموحدين
بالمغرب اللتين تأسستا على أساس دعوة دينية، فما ذلك إلا "لأن الاجتماع
الديني ضاعف قوة عصبيتهم بالاستبصار والاستماتة"، فانصاعت لهم العصبيات
الأخرى وانضم بعضها بتأثير "الاجتماع الديني" إلى عصبيتهم. أما عندما
"حالت صبغة الدين وفسدت" فإن دولهم لم تكن تصمد طويلاً أمام انتفاضات
العصائب، وطمع الدول المجاورة، بل سرعان ما تتمزق وتضمحل.
وأما من
الناحية الاجتماعية: فإن طريقة الكسب، لا تسمح لهم بالاندماج الكلي في
سكان المناطق التي يحتلونها ويقيمون فيها دولهم: لقد كان العرب "أجانب من
الممالك التي استولوا عليها، قبل الإسلام"، ولما تملكوها، بعد الإسلام،
"انصرفوا إلى الرئاسة والملك" ولم يندمجوا في أهالي البلاد التي فتحوها،
بل بقوا محتفظين بعصبياتهم وتنظيماتهم القبلية.
نعم، لقد حاول
الإسلام القضاء على العصبية الجاهلية، وشجب بقوة الاعتداد بالأنساب، ولكن
الأساس الاقتصادي، اقتصاد الغزو، الذي قامت عليه دولة الإسلام، سرعان ما
عمل على إحياء العصبيات العربية القديمة وإذكاء الصراع بينها. لقد أنشأ
عمر بن الخطاب ديوان العطاء، واعتمد في توزيع الغنائم والأعطيات على أساس
السبق في الإسلام والقرابة من الرسول صلى الله عليه وسلم، مما جعل قبائل
معينة تنال امتيازات حُرمت منها أخرى لتأخر إسلامها أو لبعدها عن البيت
الهاشمي. وكان لسياسة بني أمية التي اعتمدت استرضاء بعض القبائل بالمال أو
المصاهرة، وقمع أخرى بالقوة إلى جانب توسيع نظام العطاء القائم على اعتبار
التنظيمات القبلية، كان لذلك كله أثر كبير في بقاء القبائل العربية محتفظة
بشخصيتها واستقلالها، معتزة بعصبياتها ما ساعد على تعميق تلك الهوة التي
تفصل بين العرب وغير العرب من المسلمين، اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً
وثقافياً.
نعم، لقد أخذ هؤلاء "العرب الرؤساء" بمظاهر الحضارة
البيزنطية على عهد الأمويين، وبمعطيات من الحضارة الساسانية على عهد
العباسيين، ولكن هذه المظاهر بقيت مجرد "مظاهر" فقط ("حضارة" البلاط). فلم
تتغلغل فيهم مقومات الحضارتين. لقد نقلوا هذه المظاهر الحضارية إلى قصورهم
ومطابخهم وألبستهم، ولكنهم لم ينتقلوا هم أنفسهم إلى هذه الحضارة أو تلك،
إنهم لم يندمجوا في صفوف أرستقراطية العجم، ولا اندمجت هذه فيهم، رغم
استخدامهم "خبراء" و"فنيين" من غير العرب في المداواة والإدارة والمطابخ،
رغم اتخاذهم بنات الفرس والروم جواري أو زوجات... كل ذلك راجع إلى أنهم
ظلوا "أهل ملك ورئاسة"، يكسبون من الإمارة التي هي "مذهب غير طبيعي في
المعاش" فبقيت وضعيتهم الاجتماعية بالتالي غير طبيعية كذلك.
وأما
من الناحية العمرانية: فإن ابن خلدون يعزو إلى "خُلُق البداوة" أو "بداوة
العروبية" جميع نقاط الضعف في دولة العرب وحضارتهم: فـ"المباني والمصانع
في الملة الإسلامية قليلة بالنسبة إلى قدرتها وإلى من كان قبلها من
الدول"، فـ"عمران إفريقيا والمغرب كله أو أكثره بدوي: أهل خيام وظواعن
وقياطن وكنن في الجبال" هذا في حين أن "عمران بلاد العجم كله أو أكثره قرى
وأمصار ورساتيق من بلاد الأندلس والشام ومصر وعراق العجم وأمثالها". ومثل
عمران المغرب وأفريقيا عمران عرب المشرق عموماً، فإن المباني التي اختطوها
قليلة وما اختطوها منها "يسرع إليها الخراب إلا في الأقل(...)لقلة
مراعاتهم لحسن الاختيار لاختطاط المدن(...) انظر لما اختطوا الكوفة
والبصرة والقيروان كيف لم يراعوا في اختطاطها إلا مراعي إبلهم، وما يقرب
من القفر ومسالك الظعن، فكانت بعيدة عن الوضع الطبيعي للمدن، لم تكن لها
مادة تمد عمرانها(...) فلأول وهلة من انحلال أمرهم وذهاب عصبيتهم التي
كانت سياجاً لها، أتى عليها الخراب والانحلال كأن لم تكن".
ومن
الناحية الثقافية: يقرر ابن خلدون "أن حملة العلم في الملة الإسلامية
أكثرهم من العجم، لا من العلوم الشرعية، ولا من العلوم العقلية، إلا في
القليل النادر. وإن كان منهم العربي في نسبته فهو عجمي في لغته ومرباه
ومشيخته". وهذه الظاهرة، ليست راجعة إلى نقص في "العقل العربي" ولا إلى
تفوق جنس الأعاجم، الجنس الآري، على الجنس العربي السامي، كما ذهب إلى ذلك
بعض مفكري الغرب (رينان خاصة)، بل إن السبب الحقيقي والمعقول، هو وضعيتهم
الاجتماعية، كما يؤكد ابن خلدون نفسه. يقول: إن كون "حملة العلم في
الإسلام من العجم"، راجع إلى "أن الملة في أولها لم يكن فيها علم ولا
صناعة لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة". أما حين دخلت دولة العرب طور
الحضارة، فإن الذين أدركوا منهم هذا الطور "شغلتهم الرئاسة في الدولة
العباسية، وما دفعوا إليه من القيام بالملك، عن القيام بالعلم والنظر فيه.
فإنهم كانوا أهل الدولة وحاميتها وأولي سياستها، على ما يلحقهم من الأنفة
عن انتحال العلم حينئذ بما صار من جملة الصنائع. والرؤساء أبداً يستنكفون
عن الصنائع والمهن وما يجر إليها، ودفعوا ذلك إلى من قام به من العجم
والمولدين".
نعم، لقد شجع الخلفاء والملوك العرب، العلم والعلماء،
وأقاموا لهم المجال، وأجزلوا لهم العطاء. وإذا كان هذا شجع القائمين
بالعلم على البحث والترجمة ونقل التراث الثقافي اليوناني والفارسي والهندي
إلى اللغة العربية، فإنه من جهة أخرى جعل العلم محصوراً في دائرة خاصة،
دائرة الارستقراطية الحاكمة. ولما كانت أرستقراطية (مؤقتة) بمعنى أنها
ليست وراثية، فإن العلم، والنشاط الثقافي على العموم، كان يهتز باهتزازها:
فإذا سقطت (الدولة) وغالباً ما كان يصحب ذلك انتقال العاصمة إلى مكان
جديد، تشتت العلماء والأدباء، وتراجع العلم وانحطت الثقافة إلى أن تتمكن
الدولة الجديدة من استقطاب (انتليجنسيا) جديدة تلاقي هي الأخرى المصير
نفسه. وهكذا بقيت الثقافة كغيرها من المظاهر الحضارية الأخرى، تطفو على
السطح، تنحط وتزدهر بانحطاط أو ازدهار اقتصاد الغزو.
مفكر مغربي
10:15 | 16.11.2008
د. محمد عابد الجابري | المغربية
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
دور الفئات الوسطى في دولة العصبية/22.11.2008 د. محمد عابد الجابري | المغربية
اقتصرنا لحد الآن على عرض آراء ابن خلدون حول الطرفين المتناقضين: خشونة البداوة التي يختص بها البدو الرحل، ورقَّة الحضارة التي يؤول إليها أمر هؤلاء البدو أنفسهم. بعد استيلائهم على السلطة وتأسيس الدولة، ساكتين هكذا عن الفئات الوسطى التي كانت تتشكل منها ما كان يطلق عليه "طبقة العامة" (الفلاحون، الصناع، التجار...). والواقع أن هذه الفئات الوسطى لم تكن تقوم - من وجهة النظر الخلدونية- بأي دور أساسي في أحداث التاريخ الإسلامي، أو على الأقل، نادرا ًجداً ما كانت تأخذ بزمام المبادرة في هذه الأحداث. إن معظم الثورات والدول التي قامت منذ البعثة المحمدية إلى عهد ابن خلدون، إنما قام بها، أو على الأقل كانت القوة العسكرية التي تعتمد عليها، هم هؤلاء "العرب، وفي معناهم ظعون البربر وزناتة بالمغرب، والأكراد والتركمان والترك بالمشرق". أما غير هؤلاء فلم يكن في إمكانهم القيام بأي عمل جماعي منظم لفساد عصبيتهم بالاختلاط، واختلاف المهنة، واختلاف المصالح، والخضوع دوماً، أو في معظم الأحوال، للسلطة المركزية وأصحاب الجاه والنفوذ. وهكذا: فالفلاحون كانوا في الغالب "مستضعفين وأهل عافية"، لأن الفلاحة لم يكن يشتغل بها أحد "من أهل الحضر في الغالب، ولا من المترفين، ويختص منتحلها بالمذلَّة"، وإذا كان الإنتاج الزراعي قد عرف أحياناً فترات ازدهار، فإن فائض هذا الإنتاج كان يذهب في الغالب إلى "بيت المال"، إما على شكل جبايات ومغارم، وإما على شكل تسديد الديون القديمة، وإما على شكل مصادرات وضرائب تعسفية، ومن هنا بقي الفلاح دوماً "غارماً ذليلًا يائساً بما تتناوله أيدي القهر والاستطالة"، فيقعد عن الإنتاج، أو لا ينتج إلا ما هو ضروري لقوته وقوت عياله. وعلى العموم، فإن العقار، وأهمه يومذاك الأرض الزراعية، لم يكن يفيد مالاً ولا ثروة، بل إن "فوائد العقار والضِّياع غير كافية لمالكها في حاجات معاشه إذ هي لا تفي بعوائد الترف وأسبابه، وإنما هي في الغالب لسد الخلة وضرورة المعاش(...) وأما التمول منه وإجراء أحوال الموظفين فلا. وقد يحصل ذلك منه للقليل أو النادر بحِوالة (تحول)الأسواق(...) إلا أن ذلك إذا حصل ربما امتدت إليه أعين الأمراء والولاة واغتصبوه في الغالب. ومثل الفلاحة في ذلك: التجارة، فهي لم تكن تدر ربحاً إلا إذا اعتمدت على جاه يحميها ويعززها. لقد كانت التجارة في الحقيقة تجارة السلطان وحاشيته، أما غير هؤلاء، فلم يكن يحصل على "التافه من الربح إلا بعِظم العناء والمشقة، أو لا يحصل، أو يتلاشى رأس ماله". إن الكسب من التجارة كان يتطلب علاوة على الخبرة، ورأس المال الكافي، الجاه والسلطة. "أما من كان فاقد الجرأة والإقدام من نفسه، فاقد الجاه من الحكام، فينبغي أن يجتنب الاحتراف بالتجارة، لأنه يعرّض ماله للضياع والذهاب ويصير مأكلاً للباعة، كما يصير أيضاً "نهباً بوجوه التحيُّلات وأسباب الحكام". أما الصناعات (الحرف والمهن) فقد كان رواجها يكاد يكون محصوراً في "السوق الأعظم" أي في مركز الدولة (العاصمة). فـ"الصنائع وإجادتها إنما تطلبها الدولة، فهي التي تنفق سوقها، وتوجه الطلبات إليها". وهي لا تطلب من الصناعات إلا ما يستهلك أو يدخل في نطاق الاستهلاك المنزلي. ومن هنا، كانت الصناعات في معظمها صناعات استهلاكية: الثياب، المأكولات، الأواني، مواد الزينة، مواد البناء.... ولذلك، يقرن ابن خلدون دوماً "الحضارة" بـ"التفنن في الترف، واستجادة أحوال المنزل". هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن الدولة، أي أصحاب الجاه والنفوذ، لم يكونوا يدفعون للصناع من الأثمان إلا القليل: فصاحب الجاه "مخدوم بالأعمال، وقَِيَم الأعمال تعود عليه". ومن ثمة فإن الصنائع مثلها مثل الفلاحة والتجارة لم تكن توفر لأصحابها أي فائض، وبالتالي، لم يكن المشتغلون بهذه المهن، في وضع يمكنهم من تشكيل قوة اقتصادية أو طبقة اجتماعية تستطيع القيام بدور فعال في الأحداث السياسية. وكما كرر ابن خلدون مراراً، فإن الثروة في هذا النوع من الاقتصاد - اقتصاد الغزو- تابعة للجاه، للسلطة والنفوذ. "فإن كان الجاه متسعاً. كان الكسب الناشئ عنه كذلك. وإن كان ضيقاً قليلاً فمثله". ولذلك، كان "أكثر التجار وأهل الفلاحة في الغالب، وأهل الصنائع كذلك، إذا فقدوا الجاه واقتصروا على فوائد صنائعهم، فإنهم يصيرون إلى الفقر والخصاصة في الأكثر، ولا تسرع إليهم ثروة، وإنما يرمقون العيش ترميقاً، ويدافعون ضرورة الفقر مدافعة". ومع أن هذه الفئات الوسطى - الفلاحون والتجار والصناع - كانت تعرف بعض اليسار في بعض الأحيان، فإنها لم تكن في وضع يمكنها من تشكيل طبقة أو طبقات متميزة منفردة، ذلك لأن "طبقة" الخاصة التي كانت تتكون من الحكام والأعيان، من الموظفين والعلماء والشعراء والمغنين... ، لم تكن هي الأخرى تشكل طبقة بالمفهوم الحديث لكلمة "طبقة". فهي لم تكن تمتلك وسائل الإنتاج، أو أن ما كانت تمتلكه منها لم يكن كافياً، ولا قادراً على أن يجعل منها طبقة اجتماعية تستثمر وتستغل. إن هذه الفئة -فئة خاصة- لم تكن طبقة منتجة، وإنما كانت تعيش من "الإمارة"، من "الأموال السلطانية". نعم، لقد تعرضت هذه الفئات الوسطى - طبقة العامة- خاصة الفلاحين منها للاستغلال الفظيع أحياناً. ولكن المستغل لم يكن طبقة اجتماعية، بل كان: الدولة. إن اقتصاد الغزو ثروة تتجمع عند الدولة بوسائل الدولة، لينفقها أهل الدولة. يقول ابن خلدون: "الدولة تجمع أموال الرعية وتنفقها في بطانتها ورجالها، فيكون دخل تلك الأموال من الرعايا وخرجها في أهل الدولة ثم فيمن تعلق بهم". ومن هنا كانت الدولة هي "السوق الأعظم، أمُّ الأسواق كلها، وأصلها ومادتها في الدخل والخرج. فإن كسدت مصاريفها فأجدر بما بعدها من الأسواق أن يلحقها مثل ذلك وأشد منه. وأيضاً فالمال إنما هو متردد بين الرعية والسلطان، منهم إليه، ومنه إليهم. فإذا حبسه السلطان فقدته الرعية". الدولة تنفق الأموال لتعود إليها: تنفقها على شكل أعطيات ابتداء من أجور الموظفين إلى الهدايا التي تقدم بمناسبة أو غير مناسبة لزعماء القبائل والأشراف، والعلماء والشعراء...: نثر الدنانير من شرفات القصور، وإقامة الموائد الفخمة للخاصة، والموائد العمومية على الشوارع والساحات لجمهور الناس: (سواد العامة) ما نتج عنه نوع خاص من "الكسب" سماه جرجي زيدان بحق: "الاسترزاق بالسخاء" (يقدر جرجي زيدان بناء على المصادر التاريخية أن "متوسط جباية الدولة في العصر العباسي الأول بلغ 360 مليون درهم في العام، لا يُنفق منها على مصالح الدولة أكثر من خمسين مليوناً. فالباقي، أي أزيد من ثلاثمائة مليون درهم تبقى في بيت المال تحت تصرف الخليفة ينفقها في مجال "الاسترزاق بالسخاء"). أما كيف تعود هذه الأموال إلى السلطان، فلذلك طرق متعددة أيضاً، وأهمها طريق الجباية بمختلف أنواعها من ضرائب ومغارم وجزية وخراج ومصادرات ومكوس على المبيعات في الأسواق... كل ذلك بالإضافة إلى الهدايا التي يقدمها السكان عامة، والكبراء خاصة، لأصحاب الدولة بمناسبة وغير مناسبة. إذن، فقد كان المال، مال الدولة يدور في الفراغ: الأخذ والعطاء، والعطاء والأخذ. فلم يكن المال ينمو نمواً ذاتياً، ولا كان الاقتصاد اقتصاداً ذا جذور عميقة، بل كان اقتصاداً مهزوزاً، اقتصاداً غير قادر على تحمل أي هزة أو رجَّة. فإذا حدثت المجاعة بسبب من الأسباب الطبيعية (الجفاف مثلاً)، أو إذا تحولت الطرق التجارية، أو إذا قامت فتن هنا أو هناك، تضعضع كيان هذا الاقتصاد، وسقطت الدولة في أزمة اقتصادية غالباً ما كانت تؤدي إلى سقوط الدولة وزوال حضارتها، و"فساد" عمرانها على الشكل الذي أوضحناه آنفا.ً كيف نفسر ذلك، وهل كان للدين دور في هذا المجال خصوصاً وابن خلدون يقرر "أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عددها"؟ مفكر مغربي |
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
وضع جديد: هل يستقر ويستمر؟/د. محمد عابد الجابري | المغربية
أعتقد أن القانون الذي يسري مفعوله في الكون، سواء الكون الطبيعي أو الكون
البشري، ليس هو قانون "الاصطفاء الطبيعي"، بل هو قانون الفعل ورد الفعل.
وإذا كان هناك اصطفاء ما فهو نتيجة الفعل ورد الفعل.
ومن هنا يكون الاصطفاء تارة بتأثير الفعل وتارة
بتأثير رد الفعل. من أجل ذلك كان التفكير في العولمة، من جانب فعلها هي
وحدها، تفكيراً خاطئاً. وإذن فلابد من استحضار رد الفعل الذي سيقوم ضدها
عاجلا أو آجلا، ليس فقط في الأقطار التي تتخذها العولمة موضوعاً لها، بل
أيضاً في البلدان التي تتخذ منها مركزاً ومنطلقا.ً
إن مبدأ "أكثر
ما يمكن من الربح بأقل ما يمكن من المأجورين" - وذلك هو شعار العولمة كما
بيّنا- مبدأ غير تاريخي، أعني أنه لا يحل مشاكل التطور التاريخي، وإنما
يتجاهلها لا غير. إن تسريح مئات آلاف العمال في البلدان المصنعة مع تكريس
البطالة البنيوية فيها، وضع لا يمكن أن يستمر. أما البلدان "النامية" فـ
"النمو" فيها أخذ يكتسي منذ مدة طابع تنمية التخلف: تعميق الفوارق مع مزيد
من الفقر والحرمان.
إن الوضع في أواخر القرن العشرين شبيه بالوضع
في أواخر القرن التاسع عشر في أوروبا، حيث بلغت قوى الإنتاج مرحلة متقدمة
جداً من التطور بالقياس إلى المراحل السابقة. ورافق ذلك التطور استفحال
علاقات إنتاج استغلالية أثارت ردود فعل عملية وفكرية في أوساط الطبقة
العاملة والمتكلمين باسمها المناصرين لقضيتها. واستطاعت أوروبا أن تقوم
بأنواع من الالتفاف على المشاكل والأزمات التي تعرضت لها نتيجة ذلك.
منها
الرضوخ لمطالب العمال في تحسين وضعيتهم وإقرار خدمات اجتماعية تخفف من وقع
الأزمة... وبذلك استطاعت أن تتكيف مع تلك الوضعية وأن تكذّب ما ذهب إليه
ماركس في توقعاته من حتمية انفجار تناقضات النظام الرأسمالي وقيام
الاشتراكية مكانه.
وليس من المستبعد أن تقوم ردود فعل شبيهة بتلك،
تخفف من أخطار العولمة وسلبياتها، وتحتفظ للدولة الوطنية بدورها في حماية
أقطارها وتوجيه اقتصادها والدفاع عن مصالحها. والآراء والتصورات التي
عرضنا لها هي نفسها من جملة ردود الفعل هذه. وإذا كان فيها ما ينزع نحو
المبالغة، فإن هذا النزوع دليل على الوعي بالمشكل المطروح وبأخطاره
المحتملة. ويمكن القول إن هناك الآن (1996) وعيًا متزايداً بضرورة
الانتظام في مجموعات متعاونة متضامنة تدافع عن مصالحها كمجموعات وكأعضاء،
ليس فقط إزاء أي طموحات هيمنية باغية، بل أيضاً من أجل توفير الشروط
الضرورية للتنمية واكتساب القدرة على الصمود في عالم يبدو أن المنافسة
ستلعب فيه دوراً تتزايد أهميته وخطورته باستمرار. ولعل في الاتحاد
الأوروبي مثالا صالحا للاقتداء به في هذا المجال.
ومن هنا يبدو
واضحاً أن الوقوف في وجه الأخطار التي تنطوي عليها العولمة "المتوحشة" على
المصالح العربية، الاقتصادية منها والقومية والثقافية، يتطلب أكثر من
التنديد بتلك الأخطار. ذلك لأنه ما لم تقم مجموعة عربية متضامنة، تنسق
خططها التنموية وسياستها الاقتصادية، فإن العالم العربي لن يستطيع مواجهة
المنافسة والميول الهيمنية السائدة على الصعيد الدولي، سواء في إطار
العولمة أو في إطار نظام عالمي آخر".
انتهى نص مداخلة 1996.
واليوم، وقد كذب التاريخ نبوءة الذين روجوا للعولمة دون تحفظ وبشروا
بـ"نهاية التاريخ" إلخ، تأتي الأزمة المالية الاقتصادية العالمية لتطرح
مصير النظام الليبرالي "اللامحدود"، النظام الحامل للعولمة وأيديولوجيتها،
ولتفرض العودة إلى الأخذ بما كانت تطمح إلى وضع حد نهائي له، وهو دور
الدولة الوطنية في توجيه الاقتصاد والشأن العام ككل.
إن معظم
الاقتصاديين المختصين لا يخفون شكوكهم في جدوى التدابير التي اتخذت وتتخذ
في جعل حد لهذه الأزمة المالية الاقتصادية العالمية، لأنهم يرون أنها أزمة
بنيوية في النظام الرأسمالي العالمي نفسه. ومعلوم أن الأزمات البنيوية لا
يمكن تجاوزها إلا بـ "إعادة البناء"! والسؤال الذي يطرح نفسه في هذه
الحالة هو التالي: إلى أي مدى يستطيع – أو يقبل- أصحاب الرأسمال العولمي
السير في طريق "إعادة البناء"، خصوصاً وقد أمسك المختصون في وضع
"سيناريوهات لحل المشاكل" عن ممارسة "شغلهم" أو هوايتهم في هذا المجال،
لأن المستقبل كما يقولون "ضباب كله"؟.
فعلا، "المستقبل ضباب كله"،
ولكن ضباب المستقبل يكون في الغالب داخل نظارات الذين ينظرون إليه وليس
خارجها. ذلك ما حدث عندما تجند واضعو السيناريوهات لتبيان ما سيحدث عند
تنفيذ الإدارة الأميركية أولى المهمات التي كانت ترى أنه لابد منها لفرض
العولمة (الأمركة)، مهمة غزو العراق! لقد وضعوا من السيناريوهات ما يمليه
عليهم "منطقهم الوضعي" الذي يُعرض عن التاريخ ويسجن نفسه في لحظة واحدة من
لحظات الحاضر.
وسبق لنا أن نبهنا في مقال نشر "بتاريخ
04-03-2003"، قبل الشروع في غزو العراق بأيام، إلى محدودية هذا المنهج
وقصور الرؤى والسيناريوهات التي تنبني عليه، فاستحضرنا مثالا من التاريخ
أهملوه لأنه لم يكن ليرضي أهداف العولمة ومطامحها، مثالا كان يجري مثيله
في فلسطين أمام أعينهم، وكان جرى بقوة أشد في فيتنام التي يعرفونها جيداً،
فكتبنا المقال المشار إليه تحت عنوان: "فيتنام أخرى على الطريقة العربية
الإسلامية"، منبهين إلى أنه من المحتمل جداً أن تكون الصورة التي سيتخذها
رد فعل الشعب العراقي ضد الغزو الأميركي مماثلة لتلك التي كان عليها رد
فعل الشعب الفيتنامي! وذلك ما حصل وما زال يحصل.
"الطريقة" هنا
لا تهم، والمهم هو أن الطريقتين معاً، العربية والفيتنامية، فعلتا فعلهما
في القوة الغازية نفسها التي خرجت من كليهما بنتيجة واحدة، ولسان حالها
يردد: "لقد رضيت من الغنيمة بالإياب".
وليس من قبيل الصدف أن ينتهي
الغزو الأميركي للعراق إلى هذه النتيجة في وقت تعاني العولمة من أزمة
مزمنة، أزمة كيان، أزمة وجود! إن ما حرّك الشعب العراقي هو نفس ما حرك
ويحرك الشعوب ضد الهيمنة الأجنبية، عسكرية كانت أم مالية أم ثقافية، إنه
الدفاع عن الهوية، عن الكيان الوطني.
واليوم، وقد اضطر قادة
"الليبرالية اللامحدودة" إلى الاستنجاد بالدولة الوطنية والإقرار بضرورة
تدخلها، وإلا "انهار العالم" بسبب طوفان الأزمة المالية الاقتصادية، نرى
من المناسب أن نعود إلى ما كتبناه عن ما كان يطرحه دعاة هذه الليبرالية
العولمية عندنا كـ "بديل" عن الدولة الوطنية "لا بد من الأخذ به". لقد سبق
أن ناقشنا هذا "البديل" منذ ثماني سنوات في مداخلة أخرى قد يكون من المفيد
الرجوع إليها بهذه المناسبة.
مفكر مغربي
البشري، ليس هو قانون "الاصطفاء الطبيعي"، بل هو قانون الفعل ورد الفعل.
وإذا كان هناك اصطفاء ما فهو نتيجة الفعل ورد الفعل.
ومن هنا يكون الاصطفاء تارة بتأثير الفعل وتارة
بتأثير رد الفعل. من أجل ذلك كان التفكير في العولمة، من جانب فعلها هي
وحدها، تفكيراً خاطئاً. وإذن فلابد من استحضار رد الفعل الذي سيقوم ضدها
عاجلا أو آجلا، ليس فقط في الأقطار التي تتخذها العولمة موضوعاً لها، بل
أيضاً في البلدان التي تتخذ منها مركزاً ومنطلقا.ً
إن مبدأ "أكثر
ما يمكن من الربح بأقل ما يمكن من المأجورين" - وذلك هو شعار العولمة كما
بيّنا- مبدأ غير تاريخي، أعني أنه لا يحل مشاكل التطور التاريخي، وإنما
يتجاهلها لا غير. إن تسريح مئات آلاف العمال في البلدان المصنعة مع تكريس
البطالة البنيوية فيها، وضع لا يمكن أن يستمر. أما البلدان "النامية" فـ
"النمو" فيها أخذ يكتسي منذ مدة طابع تنمية التخلف: تعميق الفوارق مع مزيد
من الفقر والحرمان.
إن الوضع في أواخر القرن العشرين شبيه بالوضع
في أواخر القرن التاسع عشر في أوروبا، حيث بلغت قوى الإنتاج مرحلة متقدمة
جداً من التطور بالقياس إلى المراحل السابقة. ورافق ذلك التطور استفحال
علاقات إنتاج استغلالية أثارت ردود فعل عملية وفكرية في أوساط الطبقة
العاملة والمتكلمين باسمها المناصرين لقضيتها. واستطاعت أوروبا أن تقوم
بأنواع من الالتفاف على المشاكل والأزمات التي تعرضت لها نتيجة ذلك.
منها
الرضوخ لمطالب العمال في تحسين وضعيتهم وإقرار خدمات اجتماعية تخفف من وقع
الأزمة... وبذلك استطاعت أن تتكيف مع تلك الوضعية وأن تكذّب ما ذهب إليه
ماركس في توقعاته من حتمية انفجار تناقضات النظام الرأسمالي وقيام
الاشتراكية مكانه.
وليس من المستبعد أن تقوم ردود فعل شبيهة بتلك،
تخفف من أخطار العولمة وسلبياتها، وتحتفظ للدولة الوطنية بدورها في حماية
أقطارها وتوجيه اقتصادها والدفاع عن مصالحها. والآراء والتصورات التي
عرضنا لها هي نفسها من جملة ردود الفعل هذه. وإذا كان فيها ما ينزع نحو
المبالغة، فإن هذا النزوع دليل على الوعي بالمشكل المطروح وبأخطاره
المحتملة. ويمكن القول إن هناك الآن (1996) وعيًا متزايداً بضرورة
الانتظام في مجموعات متعاونة متضامنة تدافع عن مصالحها كمجموعات وكأعضاء،
ليس فقط إزاء أي طموحات هيمنية باغية، بل أيضاً من أجل توفير الشروط
الضرورية للتنمية واكتساب القدرة على الصمود في عالم يبدو أن المنافسة
ستلعب فيه دوراً تتزايد أهميته وخطورته باستمرار. ولعل في الاتحاد
الأوروبي مثالا صالحا للاقتداء به في هذا المجال.
ومن هنا يبدو
واضحاً أن الوقوف في وجه الأخطار التي تنطوي عليها العولمة "المتوحشة" على
المصالح العربية، الاقتصادية منها والقومية والثقافية، يتطلب أكثر من
التنديد بتلك الأخطار. ذلك لأنه ما لم تقم مجموعة عربية متضامنة، تنسق
خططها التنموية وسياستها الاقتصادية، فإن العالم العربي لن يستطيع مواجهة
المنافسة والميول الهيمنية السائدة على الصعيد الدولي، سواء في إطار
العولمة أو في إطار نظام عالمي آخر".
انتهى نص مداخلة 1996.
واليوم، وقد كذب التاريخ نبوءة الذين روجوا للعولمة دون تحفظ وبشروا
بـ"نهاية التاريخ" إلخ، تأتي الأزمة المالية الاقتصادية العالمية لتطرح
مصير النظام الليبرالي "اللامحدود"، النظام الحامل للعولمة وأيديولوجيتها،
ولتفرض العودة إلى الأخذ بما كانت تطمح إلى وضع حد نهائي له، وهو دور
الدولة الوطنية في توجيه الاقتصاد والشأن العام ككل.
إن معظم
الاقتصاديين المختصين لا يخفون شكوكهم في جدوى التدابير التي اتخذت وتتخذ
في جعل حد لهذه الأزمة المالية الاقتصادية العالمية، لأنهم يرون أنها أزمة
بنيوية في النظام الرأسمالي العالمي نفسه. ومعلوم أن الأزمات البنيوية لا
يمكن تجاوزها إلا بـ "إعادة البناء"! والسؤال الذي يطرح نفسه في هذه
الحالة هو التالي: إلى أي مدى يستطيع – أو يقبل- أصحاب الرأسمال العولمي
السير في طريق "إعادة البناء"، خصوصاً وقد أمسك المختصون في وضع
"سيناريوهات لحل المشاكل" عن ممارسة "شغلهم" أو هوايتهم في هذا المجال،
لأن المستقبل كما يقولون "ضباب كله"؟.
فعلا، "المستقبل ضباب كله"،
ولكن ضباب المستقبل يكون في الغالب داخل نظارات الذين ينظرون إليه وليس
خارجها. ذلك ما حدث عندما تجند واضعو السيناريوهات لتبيان ما سيحدث عند
تنفيذ الإدارة الأميركية أولى المهمات التي كانت ترى أنه لابد منها لفرض
العولمة (الأمركة)، مهمة غزو العراق! لقد وضعوا من السيناريوهات ما يمليه
عليهم "منطقهم الوضعي" الذي يُعرض عن التاريخ ويسجن نفسه في لحظة واحدة من
لحظات الحاضر.
وسبق لنا أن نبهنا في مقال نشر "بتاريخ
04-03-2003"، قبل الشروع في غزو العراق بأيام، إلى محدودية هذا المنهج
وقصور الرؤى والسيناريوهات التي تنبني عليه، فاستحضرنا مثالا من التاريخ
أهملوه لأنه لم يكن ليرضي أهداف العولمة ومطامحها، مثالا كان يجري مثيله
في فلسطين أمام أعينهم، وكان جرى بقوة أشد في فيتنام التي يعرفونها جيداً،
فكتبنا المقال المشار إليه تحت عنوان: "فيتنام أخرى على الطريقة العربية
الإسلامية"، منبهين إلى أنه من المحتمل جداً أن تكون الصورة التي سيتخذها
رد فعل الشعب العراقي ضد الغزو الأميركي مماثلة لتلك التي كان عليها رد
فعل الشعب الفيتنامي! وذلك ما حصل وما زال يحصل.
"الطريقة" هنا
لا تهم، والمهم هو أن الطريقتين معاً، العربية والفيتنامية، فعلتا فعلهما
في القوة الغازية نفسها التي خرجت من كليهما بنتيجة واحدة، ولسان حالها
يردد: "لقد رضيت من الغنيمة بالإياب".
وليس من قبيل الصدف أن ينتهي
الغزو الأميركي للعراق إلى هذه النتيجة في وقت تعاني العولمة من أزمة
مزمنة، أزمة كيان، أزمة وجود! إن ما حرّك الشعب العراقي هو نفس ما حرك
ويحرك الشعوب ضد الهيمنة الأجنبية، عسكرية كانت أم مالية أم ثقافية، إنه
الدفاع عن الهوية، عن الكيان الوطني.
واليوم، وقد اضطر قادة
"الليبرالية اللامحدودة" إلى الاستنجاد بالدولة الوطنية والإقرار بضرورة
تدخلها، وإلا "انهار العالم" بسبب طوفان الأزمة المالية الاقتصادية، نرى
من المناسب أن نعود إلى ما كتبناه عن ما كان يطرحه دعاة هذه الليبرالية
العولمية عندنا كـ "بديل" عن الدولة الوطنية "لا بد من الأخذ به". لقد سبق
أن ناقشنا هذا "البديل" منذ ثماني سنوات في مداخلة أخرى قد يكون من المفيد
الرجوع إليها بهذه المناسبة.
مفكر مغربي
منصور- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 1943
العمر : 44
Localisation : loin du bled
تاريخ التسجيل : 07/05/2007
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى