من طرف said الجمعة 25 يناير 2008 - 19:53
القصيدة المغربية الأولى .. شرعنة الحداثة محمد بودويك
بدهي أن القصيدة المغربية الأولى التي شرعنت الحداثة أو شرعنتها الحداثة، لم تعتمد النصوص السابقة عليها في موطنها كمتكإ وسند، واستيحاء واستلهام. فالتبلور والتحول اللذان حدثا بدءا من الستينيات، ثم امتدا وتجذرا خلال فترة السبعينيات على مستوى بنية هذه القصيدة / القاطرة، إنما تبجسا من احتكاك بمدونة الشعر العربي الحديث في المشرق في سمته الرومانسي تحديدا، و تنشق تيارات التجديد الشعري التي كانت تهب من غرب أوروبا وأمريكا. هذه بديهة أولى، من منطلق زعمنا أن الكلاسيكيين الجدد إذا صحت التسمية-: علال الفاسي محمد بنبراهيم المختار السوسي عبد المجيد بن جلون.. الحلوي، لم يؤثروا في فرسان التحديث الشعري الستيني: المجاطي والسرغيني والطبال والميموني والجواهري، الذين وجدوا أنفسهم مدفوعين إلى اختبار تجربة مغايرة مع اللغة والتخييل، وركوب الصعب بحثا عن القصيدة المغربية الأولى، وسعيا إلى وضع مدامكها المائزة، قصيدة تتنفس مغربها ملء الرئتين، بقدر ما تمتح من تجارب التحديث العربية، وبقدر ما تنصت، وترهف الإنصات إلى أتون واقعها المشتعل، ونبض ذاتها المشوقة والحالمة. ولنا أن نستحضر هجرة المجاطي إلى سوريا، والسرغيني إلى العراق ثم فرنسا، ومصاحبة الكنوني والطبال والميموني والصباغ للغة سرفنتز. الصباغ الاستثنائي الذي كان يحفر مجراه الشعري في صمت مستلهما مناخات نصه الشعري من قارة الشعر المهجري، مستهديا بقاموسهم الرومانسي البديع، ونسغ غربتهم وقلقهم الأنطولوجي، وأوجاع إقامتهم في الديار الامريكية. لقد اتسم الوضع الشعري في المغرب بانقطاع ملحوظ بين مرحلة ومرحلة، وبين جيل وجيل، بل بين فترتين من مسار الشاعر الواحد عينه. انقطاع وعود إلى انقطاع من دون أن تواصل القصيدة المغربية مغامرتها، وتركب مركبها النشوان في اتجاه اللأيسمى. في اتجاه الخارق والمجهول. لهذا يقول الشاعر محمد بنيس: (إن من العبث الإقرار بأن عبد الكريم بن ثابت خرج شعره من تجربة علال الفاسي، أو أن شعر المجاطي تطوير لشعر بن ثابت أو الطنجاوي، بل من العبث القول بأن قصائد علال الفاسي التي ظن أنها معاصرة، تطوير لتجربة الكلاسيكية الجديدة أو حتى الرومانسية). وفي الصفحة ذاتها، يضيف الخلاصة النظرية التالية : (.. وهذه الملاحظة التي حاولنا تبيينها، يمكن أن تعتبر من بعض الوجوه، أساس ومرتكز البحث عن مراحل تكوين بنية المتن الشعري المعاصر التي لم تكن دائما تتحدد من داخل وضعية الشعر المغربي الحديث، بل إن الخارج والوافد على الشاعر كقاريء هو الأصل في كل تطور). البديهة الثانية هي : أنه يستحيل وجود شعر حديث دون وجود وعي جديد بالشعر والحداثة، بما هي رؤية للفعل الشعري، ورؤية للنسج العام الذي تنشئه الحداثة في القيم الجمالية والإجتماعية والسياسية، مما يقود ويفضي إلى مسألية معرفة الشاعر بالشعر التي كانت أساس الشعرية العربية المكبوتة فيما يقول محمد بنيس : شعرية كبتتها القيم المتعالية التي فرضها النقاد على الشعر والشعراء. فالسؤال عن القصيدة المغربية الأولى هو سؤال ينتج القلق والشكية بما هو >وعي صادر عن الممارسة ذاتها أفقا يتشكل دائما. تلك هي مضايق الشعر في زمن الحداثة<. وهو السؤال عينه الذي لاحظه وافترضه بنيس عن مسألة الانقطاع في الشعر المغربي الحديث، لأنه موصول بالبحث عن قسمات وملامح القصيدة المغربية الأولى. إنها الملاحظات الإستبارية التي ضمها مقال (بيان الكتابة) الذي نشر في العدد 19 من مجلة >الثقافة الجديدة<. متى :إذن- بدأ الخروج على النمط الشعري الموطوء، والقصيدة الخطية الصدوية التي تنشر مسعاها قبل أن تفكر، وعلى القيم الجمالية والاجتماعية والسياسية المتداولة، والمشدودة إلى الخلف؟ نجازف بالقول إن الخروج استعلن في منتصف السبعينات، من دون حجب تشكلات ملامح القصيدة المغربية منتصف الستينات على يد الثلة الأشهر والتي ذكرناها بالاسم والمسمى. إنه صلصان البدء والتخلق، وبروز النتوءات والجذع والأطراف. والنسغ الأخضر المهراق الذي طفق يسري في حطب شجر الشعر اليابس قبل هؤلاء. لننصت إلى الشاعر أحمد المجاطي يقول : >أومن أن المجتمع المغربي قضى عصورا طويلة لم يستطع فيها أن ينجب شعراء حقيقيين. لا نحتاج إلى شاعر يكتب عشرات الدواوين، ولكن إلى شاعر يكتب القصيدة الأولى<. ومن ثمة، تكون القصيدة المغربية الحديثة الأولى قد انكتبت، وتعاور عليها أفذاذ ستينيون لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد الواحدة، رغم أن الحركة التحديثية كانت حركة أفراد، ولم تكن حركة مدرسة أبدا. "فهؤلاء الستينيون الشعراء بحساسيتهم الواعية، كانوا يقدمون شرطا من شروط التغيير على صعيد بنية الوعي المغربي في المجال الشعري، وهم كمجموعة من المثقفين التقدميين الذين انتبهوا في ميدان الشعر إلى ضرورة إعادة النظر في المسيرة الشعرية التي يعيشها المغرب، كانوا يعملون بثبات وصبر من أجل تأسيس علامة تتجه نحو المستقبل، وهم بذلك كانوا يضعون أسسا لتغيير الواقع الشعري الذي طالما عطل الفاعلية الشعرية من ناحية، والوعي التاريخي من ناحية ثانية، والإبداع الخلاق من ناحية ثالثة>. (محمد بنيس : ظاهرة الشعر المغربي المعاصر ص 383). إنها القصيدة التي بناها بعض الستينيين الذين سماهم المقترب النقدي الشعري الجمالي، وتلقفها بالتعهد والتشذيب والتجريب، والدفع إلى المجهول، والحرائق والمهاوي البعيدة، جيل الشباب آنئذ الذي لم يكن غير الجيل السبعيني : محمد بنيس- محمد بنطلحة- عبد الله راجع- أحمد بلبداوي- حسن المراني- رشيد المومني- المهدي أخريف.. إلخ... وهو الجيل الذي شرع يمارس الكتابة وفق قوانينها المعاصرة، مسجلا بذلك الخروج الثاني على النمطية والمراوحة والاستنفاد. إنه في تقديري- جيل الريادة الشعرية لا الريادة التاريخية التي تستنيم إلى الإحياء والإجترار والتقليدانية، والرقص في الدائرة المرسومة سلفا. وما كان لهذه القصيدة أن تحوز صفة التجديد والتحديث لو لم تراهن على المغايرة والاختلاف والاصطدام والإدهاش، ولو لم تختبر وضعية اللغة داخلها، وتجترح إبدالات نصية أساسية مغايرة، تحققت من خلال خلخلة النسق الطاغي، والمهيمنة الموضوعاتية، والمعنى الواحد، أو واحدية المعنى، والقيم البالية. ثم تحققت بنفخ روح جديدة في اللغة والتخييل والصورة والإيقاع، روح مستمدة أساسا- من تجربة اليومي المائج، والإخفاق التاريخي، وسقوط الأحلام. واختلاف صمم على بصم المرحلة بقول الشعر لا بزخرف النظم، والاحتماء بالسؤال والمخاطرة عوض القناعة والرضى والكسل والاسترخاء. أما الإصطدام فمع اليقينيات والغيبيات والقوالب الموطوءة، والموضوعات "الزنخة" التي كانت تداور استعارة متحجرة أحفورية، يتناوب عليها كتاب أكثرهم نظامون وأقلهم شعراء "تضع الموازين للحياة والموت ولكل الثنائيات الضدية التي تتآكل في الطباق المستخدم، وليس في المفارقة المدهشة البكر". إنها إلى جانب اختبار الشعر كمخاطرة ومغامرة، وارتماء في المجهول، الخبرة الثقافية بالحداثة في أبعادها الأنطولوجية والمعرفية والفلسفية والتاريخية التي لم تكن ممكنة في شرائط أخرى موسومة بالإنكماش والاختناق ثم بالتسلط والدم. هكذا فيما يقول محمد بنيس: >بالشروع في ظهور البحث عن تسمية جديدة لمآزق الحداثة، أخذ الانتقال الصعب من الإحساس إلى الوعي النقدي، يتجسد في الوضع الشعري المغربي. انتقال بين الصعب و المهدد، والقصيدة المغربية منذ السبعينيات حتى الآن، تبدو أوضح مما كانت عليه في الجرأة على المغامرة، مكتسية بشجرة نسب ترتفع ظلالها. قصيدة تهاجر في الصداقات الوافدة عليها من متخيل لا يخشى أن يسميها قصيدة حديثة<. وما أسس فرادة تجربة هذا الجيل، هو ربط ممارسيها بين الفاعلية الشعرية، والفاعلية النظرية حيث انصهرت التصورات المعاصرة حول مفهوم الشعر ونظريته، فأصبح الشعر فاعلية كلغة، واشتغالا بها، كما قال هنري ميشونيك. وإذا أمكن الحديث عن لحظات شعرية مزمنة بحسبان العقود أو الأجيال، فإنه لا مناص من الإقرار بأن ذلك يكمن في الإبدالات التي تحققت بهذا القدر أو ذاك للمضامين والأشكال مع تنامي وعي الشعراء بما يأتونه في صنيعهم من خلخلة للأنساق والمستويات والرؤيات. هكذا نرى مع محمد بنيس أن القصيدة الحديثة الأولى في المغرب، هي خلاصة تمرحلات وتحولات مر بها الشعر المغربي من ذات جمعية إلى ذات فردية إلى ذات مجردة أو (لا- ذات)، ومن وصف الواقع إلى تحويله إلى أمثولة، ثم إلى التخلي عنه. وترافق ذلك مع التحويلات البنائية في نقل الإيقاع من البيت إلى التفعيلة، ثم من التفعيلة إلى السطر المدور، فإلى الجملة الشعرية الكبرى الاستغراقية، وفي الموقف من الظواهر الأخرى كالقافية والوزن والبلاغة. ومن الواضح أن كل ذلك حصل بتاثير من احتكاك الحداثة العربية بالحداثة الغربية. هذا الاستطراد ضروري حتى نؤطر ثقافيا حداثة القصيدة المغربية، أو القصيدة الأولى التي نادى بها الشاعر أحمد المجاطي: قصيدة التغيير والتحديث وفقا لرؤيا بعيدة تحتفرها عين أخرى، ويد نتشية ثالثة، وجسد ضاج بالإيقاع والعذاب والنشيد، وروح حيرى معلقة في لمبو دانتي. قصيدة أولى مضادة لسابقة نمطية تصادر السؤال والقلق والفطنة لتقيم في البطنة والكسل وزهو الذباب، وتسيل هانئة في المجرى المحفور لها سلفا والإطار البشم بالموضوعات المطروقة والجاهزة. إنها القصيدة المغربية الأولى التي كتبها أحمد المجاطي في "الفروسية" والخمار الكنوني في (رماد هسبريس)، محمد السرغيني في : (ويكون إحراق أسمائه الآتية)، وعبد الكريم الطبال في (الطريق إلى الإنسان)، ومحمد الميموني في : (آخر أعوام العقم) وادريس الملياني في (في مدار الشمس رغم النفي) ومحمد بنيس في (في اتجاه صوتك العمودي)، ومحمد بنطلحة في: (نشيد البجع)، وعبد الله راجع في : (الهجرة إلى المدن السفلى) ومحمد الأشعري في : (سيرة المطر) وأحمد بلبداوي في (سبحانك يا بلدي)، والمهدي أخريف في (سماء خفيضة)، ورشيد المومني في : (مشتعلا أتقدم نحو النهر..)، وعلال الحجام في (الحلم في دقيقة الحداد)، ومليكة العاصمي في : أصوات حنجرة ميتة ، وعبد الله زريقة في (فراشات سوداء). وترتيبا عليه، هل بالإمكان القول: إنها القصيدة التي أجادت الإنصات لكل الأشكال والاتجاهات الشعرية القادمة من المركز العربي والغربي بوصفهما سلطة تاريخية، ومعرفية وأدبية وعلمية وسياسية. إنه الإنصات الباطني لدبيب الانتصارات والخسارات في آن، الذي عرف كيف يستثمر بعض ممكنات هذه الأشكال والاتجاهات من دون انقياد واستسلام وانشداه، بل في إطار وعى المغايرة، وأدرك الإختلاف والإضافة التي بها يكون. بهذا المعنى، نستطيب الحديث عن تجربة شعرية مغربية هنا والآن، بما يتخطى ضيق المعجم الذي يجعلها محصورة في "اختبار الأمور ومعرفتها، أي بما يفيد من الأفق الللغوي والفلسفي اللاتيني الذي منح للمفهوم ليتسق مع الكتابة كاشتعال ووجود، وهو الاختبار والخطر في آن. يقول روجي مونيي : (إن فكرة التجربة كعبور تكاد لا تنفك، على المستوى الاشتقاقي والدلالي، عن فكرة الخطر، والتجربة في المنطلق، وبالأساس، من دون شك، هي المخاطرة). (نقلا عن محمد بنيس). بدم وحبر المخاطرة هذه التي يتكلم عنها مونيي، كتبت القصيدة المغربية الحديثة الأولى، ولا زالت تنكتب في الفردانية والصمت واليتم واللا تكامل، والظلال، مشدودة إلى اللامرئي واللانهائي، مرتمية بكل الجنون في سجوف المجهول ، وفي الأعماق الرهيبة والغامضة لنهر النسيان من أجل أن تورق غدا، وتنهض من سوسنة الذكرى والأبد. محمد بودويك.
2008/1/25
|
|
|
|
|
الإتحاد الإشتراكي |