هجرة النص .. نموذج الرواية
صفحة 1 من اصل 1
هجرة النص .. نموذج الرواية
هجرة النص .. نموذج الرواية
أحمد فرشوخ
تهاجر
النصوص (1) من كاتب إلى قارئ، ومن مكان إلى آخر، ومن مرحلة إلى أخرى.
وتتقوّى السيرة النصية عادة، وتستمدّ ديمومتها غالباً، من تغيّر الحامل
المادي للعمل وتبدّل شكل تشخيصه ومظهر تجليه الجمالي، وكذا من استلهامه
ضمن أعمال جديدة، تُحاكيه أو تُعارضه أو تسعى لتوسيعه وتخليق مُضمراته
وثرائه الباطني، أو تحريره من أغلال فنية أو قيمية أو إيديولوجية: الشيء
الذي قد يفضي إلى الإطاحة بكاريزمية النص، ونقض سلطته، والإفصاح عن شهواته
الحبيسة وإحراجاته ومآزقه الدّفينة، فضلا عن إخراج لا وعيه السياسي إلى
واضحة الضوء.
وتداولُ النصوص وتناسخها وتنقُلها من موقع لآخر، هو في
ذات الآن علامة حياة، وشرط أساس من شروط النشاط الفني، ودليل قوة وغلبة
ونزوع إلى الغزو والتوسُّع.
ذلك أن «إرادة القوة الفنية » (2) تتجه
صوب شروط البقاء والإنماء والتأثير. فضمان المجال الحيوي ليس هدفاً كافيا
بالنسبة للنص الفني، ولكن وسيلة لخلق آثار، ورغبات شهوة وسلطة، وامتدادات
في الذاكرة والجسد، وآفاق بعيدة ترنو إلى الخلود وتحويل «الأفكار»
و«القيم» إلى حيوات تمشي على الأرض وتقطن في الخيالات والنفوس.
وكل ذلك
اعتماداً على العمق الفني، والطاقة الخصيبة المتجدّدة، إذ رغم الشروط
والقدرات المحدودة للنص بالنظر لإكراهات السياق وضغط علل النشوء، ثمّة
مجال ثري لاشتغال إرادة القوة الفنية الذي يظل مفتوحاً، قابلا للاندماج
والتحوّل والملاءمة.
بهذا المعنى، يكون شرط البقاء ضامناً للمجال الفني
«المُعطى» لأنه يُمثل كيانه وعُمقه المحفوظ الذي نتحصّل عليه في كل مرّة.
وأمّا شرط التوسّع أو النماء، فهو اندفاع نحو الغنى والتكاثر ومُجاوزة
الذات النصية الضيقة باستمرار. إذ بمقدار تبلور قوة النص يتكوّنُ إحساسُنا
واعتقادنا بحياته وكثافة سيرته التي قد تكون مسكونة، في النهاية، بإيثار
التقويم والإرادة.
وهكذا نجد من جديد، هذا التواصل بين الحياة والنص؛
تواصل يُمكن التفكير فيه ضمن ما نُسّميه بـ «الحظ النظري» للغة العربية
(3). ذلك أنّ الحوض الدلالي للفظ «القراءة» في العربية القديمة، يتّسع
لمعانٍ دالة على الخصوبة والولادة والحياة. فقد ورد في « لسان العرب» :
(ما قرأت الناقة جنيناً قط، أي لم يضطمّ رحمها على ولد... ولم تقرأ جنينا،
أي لم تلقه... وقرأت الناقة ولدت. وأقرأت الناقة والشاة: استقرّ الماء في
رحمها) (4).
وعليه، فإن القراءة استلقاح، واستدخال للأثر أو الكتابة.
وبالتالي استقبال «للأصل» وتلقيه كهبة من الآخر، لولادته من جديد، ولادة
جديدة عبر اللغة والتأويل. فالقراءة بهذا المنظور، ليست اقتباساً ولا
استنساخاً، ولكنّها تلق رحمي للحرف، ومبدأ للاستخصاب بكتابة «الموجود»
و«الأب» و«الأرشيف» (5) .
ألا تغرينا هذه المعاني المطمورة والمنسيّة
في لفظ «قرأ» القديم بتأمل جديد للغنى الباذخ الذي تملكه «القراءة» في
ثقافتنا العربية؟ ألا تكون القراءة في لغتنا دالة، حتى خارج الاستعمال
النقدي، على التوليد والتلقي المبدع والاستقبال الفاطر للعلامات والرموز؟
(6) .
وبالتالي ألا يتعيّن علينا أن نفهم في ضوء جديد «الأمر بالقراءة»
في سورة العلق الكريمة: ) اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الانسان من علق.
اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الانسان ما لم يعلم ( سورة العلق،
الآيات 1- 5 ؟
ألا تدعونا هذه الآيات إلى تدبُّر علامة التكرار
المُضمّنة فيها (7)، وكذا تدبُّر عبارات الخلق والعلق المجاورة للقراءة
والمقرونة بها؟ ألا يكون الحبل مُتضمنا في التكرار؟ أليس «العلق» دالا على
الحبل، إذ نقول «علقت المرأة أي حبلت» ؟ (8.
نصل، من خلال هذا التأمل،
إلى تثمين لحظة القراءة بما هي تداول اختلافي يُكوّن مستقبل النص ومصيره؛
وذلك اعتماداً على طرائق الصُّنع، وآثار التخلق، وإبداعيّة التناص، وبعث
حياة اللغة وإرهاف ثقلها ومادّيتها، واللعب بقواها، وتخليف فُسحاتٍ
للتكثيف والتعميق والإضمار وحتى لسوء الفهم.
ولاشك في كون كل هذا يحفز
على مقاربة النصوص من حيث سيرورتها المستوعبة لحلقات ثلاث، هي: حلقة
الإنتاج، وحلقة التوسيط، وحلقة التلقي. ويهمنا، هنا، الحديث عن الحلقة
الثانية:
1 ـ النشــر
إذ من البديهي أن انتقال العمل الأدبي إلى
دائرة القراء أينما كانوا يحتاج إلى نشر، هذا الذي يتحدّد تأثيره بحسب
طبيعته ودرجة انتشـاره وغـزوه لفضاءات وأوساط ومؤسسات القراءة. فدور النشر
الصغيرة لا تطبع من الكتاب سوى نسخ محدودة تستهدف دائرة ضيقة من المتلقين.
وفي حال صدور العمل الأدبي عن دار نشر كبرى تحظى بامتياز وشهرة، فإن ذلك
يؤدي إلى سَفَر الكتاب صوب مناطق وأصقاع بعيدة ورُبّما مجهولة من قبل
المبدع. هذا ناهيك عن اختلاف تقدير التلقي وتقويم مدى فعاليّة بحسب طبع
العمل في «كتاب شعبي» ، أو في شكل كتاب جيب، أو في صورة سلسلة بجريدة
يومية أو مجلة أسبوعية مع مراعاة حجم انتشارهما، أو في هيئة كتاب فاخر
بطباعة أنيقة، أو في صيغة نصّ مضموم إلى أعمال كاملة، أو على شاكلة كتاب
إلكتروني.
وفي كل الأحوال فإنّ نوعيّة دار النشر وعدد الطبعات وطبيعة
الحامل المادي، وعدد النسخ المطبوعة، ورقم المبيعات، وشكل الحضور ضمن
المعارض وفي واجهات وردهات المكتبات، وردود فعل الإعلام من جهة الإعلان عن
الكتاب والاحتفاء به أو تجاهله والسكوت عنه، لهي مؤشرات دالة على مدى
تداول العمل الأدبي ومدى قدرته على صنع مكانته وسط أقرانه، أو مضاهاته
لمنافسيه. وبالتالي مدى قدرته على فرض سلطته، وإزاحة النصوص الأخرى عن
حظوتها واحتلال مواقعها والانتفاع بخيراتها الرّمزية. إذ لا يخفى أن
الأعمال هي من حيث الأساس أدوات سلطة تبغي التفوّق ونيل الاعتراف، وحيازة
التفرّد والاستئثار بالنفوذ: الأمر الذي يجعلها مسكونة، في وعيها أولا
وعيها، بغريزة القوة وتدمير الانتشار الخطابي السابق عليها.
2 ـ الترجمة
وإلى
هذا، تعتبر الترجمة مَعْبراً وسيطا شديد الأهمية في إشاعة تداول الكتاب
الأدبي خارج سياقه القومي، إذ هي تمنحه حياة جديدة في لغة أخرى وضمن ثقافة
مغايرة.
ومن المؤكد أن مدى هذه الحياة يتحدّد تبعا لمكانة اللغة
المترجَم إليها وحسب درجة قوتها. ذلك أن لغة كالإنجليزية أو الفرنسية،
مثلا، تُعدّ أداة وسيطة لها فعاليتها في إتاحة الفرصة أمام شق طريق
العالمية (9).
عدل سابقا من قبل الشلخة 1 في السبت 8 مارس 2008 - 11:07 عدل 1 مرات
الشلخة 1- عدد الرسائل : 298
العمر : 63
Localisation : jawal
Emploi : mastoura
تاريخ التسجيل : 30/08/2006
رد: هجرة النص .. نموذج الرواية
| |||
الإتحاد الإشتراكي |
الشلخة 1- عدد الرسائل : 298
العمر : 63
Localisation : jawal
Emploi : mastoura
تاريخ التسجيل : 30/08/2006
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى