سيدي عبد الرحمن المجذوب .. الشاعر الساخر
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
سيدي عبد الرحمن المجذوب .. الشاعر الساخر
يتتَّبع هذا
الكتاب سيرة علَم مغربي من أعلام القرن السادس عشر، لم يخلف من أثر مكتوب،
لكن »الرباعيات« والأمثال التي جادت بها قريحته لا تزال جارية على الألسن
منذ أربعة قرون، في أقطار المغرب العربي، أمانة ورسوخ لافتين.
تتألف أشعار المجذوب من مصراعين مقفيين، في لغة ليست هي بالدراجة ولا الفصيحة، وإنما جماع منهما، كما
هي لغة »الملحون«.
وقد باتت هذه الأشعار، اليوم، يتغنى بها المغنون والمتسولون في الساحات
العمومية في بلدان المغرب، وتُتناقل في الدروب وداخل الخدور. ويعرف بها
المتعلمون، كما يعرف بها العوام. وهي تعتبر جزءاً من الميراث الروحي
والثقافي لمنطقة شمال إفريقيا، كما هي أشعار عمر الخيام جزء
من التراث الفارسي.
< تأليف : سكيلي ميليي وبوخاري خليفة
1 ) الخبــــز دخـْـلُه الجـــصْ!!
ولد سيدي عبد الرحمن المجذوب سنة 1503، بطيط، وقد كانت، وقتها، مدينةً ذات
شأن بين مدن الساحل المغربي، تتوسط أزمور والجديدة؛ تفصلها عن الأولى 5
كيلومترات، و10 عن الثانية.
فأما مدينة الجديدة فقد بناها البرتغاليون
في مطلع القرن السادس عشر. وأما مدينة طيط، فإن الحسن الوزان ينسب بناءها
إلى القوط، الذين احتلوا [موريتانيا] الطنجية خلال الفترة الممتدة من 428
إلى 534م. ويفيدنا هنري دي كاستري أن طيط مدينة ضاربة في القدم، قد أحاط
بها سور شديد العلو. بيد أن المدينة كانت شبه خالية في العام 1596، بعد أن
ذهب بساكنتها أحدُ أعنف وباءين جذاميين ابتُلي بهما المغرب (عصف الآخر
بمراكش). ومن طيط كانت تتزوَّد منطقة دكالة قاطبة، ما يؤكد الأهمية التي
كانت لهذه المدينة.
وقعت أزمور بأيدي البرتغاليين في العام 1507.
وأغلب الظن أن الحياة في تلك المدينة - طيط - الواقعة بين حصنين برتغاليين
قريبين جداً إليها، قد باتت، يومها، صعبة عسيرة على أهلها. وفي ذلك تفسيرٌ
لرحيل أسرة المجذوب، وهو في سن الرابعة، عنها، للاستقرار في مكناس، فقد
كانت أقل تعرضاً للتدخلات البرتغالية مما هي المدن الساحلية :
جــيـــتْ من طيطْ بالعجْلـة
والــــشـر زادنــي شْطاية
الخبــــز دخـْـلُـه الجــــصْ
عـلاش يا طـالب ذا الـقـرايـة
وعليه، فقد درس صاحبنا في مكناس، حسبما كان معتاداً للمحظوظين من الأولاد.
والمجذوب يعدُّ نفسه من الشرفاء. وهو أمر لا نجد ما يفنده أو يثبته في
الأنساب المعروفة. وربما كان له نسبٌ إلى الشرفاء التونسيين :
أصلــي مــن تونــس الخـضــــرة
والّي عنـــده نســب يــدوّر علــيه
أنـــا ولـــد فــاطـــمـة الــــزهرة والكــــاذب لـعــنـــة اللـه عليـه
بيد أنه إنما جاء بصفة الطالب اللاجئ، لمتابعة دروس اللغة الفصحى والشرع
والأدب والتاريخ، في كبريات مدارس مكناس أولاً، ثم بعدها في فاس. وقد ظل
يحتفظ بذكرى رائعة لهذه المدينة العاصمة، التي ضمت، يومها، 89.236 بيتاً
و758 مسجداً، كانت بها مركزاً يعتمل نشاطاً دينياً، بقدر نشاطها التجاري
والحرفي :
الــطبـــــخ والـرَّمـــخ في فــاس والـــعـلــم
والـــديـن فــيــهـا
لاعــيـــــبْ يتْـقــــــال في فـاس
مكــمــولـة في كــل جــيـــهــا
لكن ماذا كان يهم الطالب الشاب من المصاعب المادية؟ ألم يكن عطف المؤمنين
يفتح الأبواب على مصراعيها في وجوه الطلبة الجدد، يأتونها في جلابيبهم
البيضاء ملتمسين، باسم الله، عون المحسنين؟ فكانت أكياسهم تمتلئ شعيراً،
وقمحاً، وفاكهة، مما يقتاتون عليه. فكانوا يجدون في هذا الكرم محرراً لهم
من كل هم معيشي، ليتفرغوا بعده للصلاة والدرس. وقد خص المجذوب هؤلاء
الأتقياء الكرماء بمديح جميل :
اليِّ يحب الطلــبــة نحــــبُّـوه
ونـعـملـوه فـوق الـراس عْمامة
والِّي يكــره الطـلــبة نكـرهـوه حتـى
إلى يــوم الـقـيــــــامــة
ويذكر الشيخ محمد بن عزوز حكيم (من معهد الدراسات الإفريقية بمدريد) أنه
وقع على مخطوط عربي يعود إلى سنة 1896 من وضع سيدي عبد الرحمن بن عبد
القادر الفاسي، في سيرة المجذوب، نقلاً عن تلميذه سيدي زيان التلغي (ت
1639). وقد حفظ لنا هذا المخطوط أسماء بعض أساتذة المجذوب، نذكر منهم أبا
الحسن علي بن أحمد الصنهاجي الفاسي (ت 1540)، وأبا حفص عمر بن عبد العزيز
الخطيب الزرهوني (ت 1530)، وأحمد بن عبد الواحد الربيع (ت 1536)، وسيدي
يحيى بن علال الخلطي (ت 1538)، وسيدي بن أبي بكر المسترعي (ت 1556)، وسيدي
محمد بن عيسى الفهري (ت 1526)، وأحمد بن الحسين العبدلي السهلي (ت 1555)،
وآخرين.
كان يتولى التدريس في جوامع فاس ومكناس خيرةٌ من أساتذة فاس
وزرهون. وقد تخرج على أيديهم، طوال قرون، أساتذة لامعون في أمور اللغة
والشرع، قد تميزوا بالطابع المغربي، المجانف للطريقة الأندلسية الممعنة في
التجريد، والمبتعد عن النزعة الذهنية الغالبة على الطريقة المشرقية،
والمتحرر من النظم التقليدي، والمترخص في المحسنات البلاغية، المخاطب
للجمهور في الساحات العمومية بلغة بسيطة ومباشرة.
ولا يبعد أن يكون في هذه الفترة الدراسية أخذ صاحبنا في تعلم فن النظم. وسرعان ما صارت رباعياته تجد سبيلها إلى الأسماع :
ســبْــتْ في الـدهــر مـعـزّة
وجـبــــتْ كــــلام ربـــاعي
ابن آدم ما أعـطــــاه ربـّـــــي ويـقـول
اعْــطـانــي ذراعـــي
حقاً إن المجذوب قد بذل مجهوداً دراسياً عظيماً، حتى صار يجيد نظم هذه الأشعار، التي كل موسيقاها من بركة الله ومن مكابدات الحياة!
فهل يصح أن نقول إن رحلة المجذوب إلى مكة قد كانت في نهاية هذه الفترة
الدراسية؟ الثابت أن الشاعر قد صار كفيفاً في أواخر أيامه. غير أنه عمى قد
لحقه بالتدريج، من الحُثار (الثراخوما) التي يُحتمَل أن تكون، وقتذاك،
متفشية في منطقة شمال إفريقيا. ومن البعيد عن الاحتمال أن يكون الشاعر أدى
فريضة »الحج« بعد أن أَضحى ضريراً، لأن الحاج في ذلك الزمان كان يقطع تلك
المسافة الموصلة إلى مكة، والبالغة سبعة آلاف كلم، كلها أو بعضها، سيراً
على الأقدام. وقد اعترف المجذوب نفسه أنه كان يعاني الكثير من الإجهاد!
ترجمة : عبد الرحيم حزل
الكتاب سيرة علَم مغربي من أعلام القرن السادس عشر، لم يخلف من أثر مكتوب،
لكن »الرباعيات« والأمثال التي جادت بها قريحته لا تزال جارية على الألسن
منذ أربعة قرون، في أقطار المغرب العربي، أمانة ورسوخ لافتين.
تتألف أشعار المجذوب من مصراعين مقفيين، في لغة ليست هي بالدراجة ولا الفصيحة، وإنما جماع منهما، كما
هي لغة »الملحون«.
وقد باتت هذه الأشعار، اليوم، يتغنى بها المغنون والمتسولون في الساحات
العمومية في بلدان المغرب، وتُتناقل في الدروب وداخل الخدور. ويعرف بها
المتعلمون، كما يعرف بها العوام. وهي تعتبر جزءاً من الميراث الروحي
والثقافي لمنطقة شمال إفريقيا، كما هي أشعار عمر الخيام جزء
من التراث الفارسي.
< تأليف : سكيلي ميليي وبوخاري خليفة
1 ) الخبــــز دخـْـلُه الجـــصْ!!
ولد سيدي عبد الرحمن المجذوب سنة 1503، بطيط، وقد كانت، وقتها، مدينةً ذات
شأن بين مدن الساحل المغربي، تتوسط أزمور والجديدة؛ تفصلها عن الأولى 5
كيلومترات، و10 عن الثانية.
فأما مدينة الجديدة فقد بناها البرتغاليون
في مطلع القرن السادس عشر. وأما مدينة طيط، فإن الحسن الوزان ينسب بناءها
إلى القوط، الذين احتلوا [موريتانيا] الطنجية خلال الفترة الممتدة من 428
إلى 534م. ويفيدنا هنري دي كاستري أن طيط مدينة ضاربة في القدم، قد أحاط
بها سور شديد العلو. بيد أن المدينة كانت شبه خالية في العام 1596، بعد أن
ذهب بساكنتها أحدُ أعنف وباءين جذاميين ابتُلي بهما المغرب (عصف الآخر
بمراكش). ومن طيط كانت تتزوَّد منطقة دكالة قاطبة، ما يؤكد الأهمية التي
كانت لهذه المدينة.
وقعت أزمور بأيدي البرتغاليين في العام 1507.
وأغلب الظن أن الحياة في تلك المدينة - طيط - الواقعة بين حصنين برتغاليين
قريبين جداً إليها، قد باتت، يومها، صعبة عسيرة على أهلها. وفي ذلك تفسيرٌ
لرحيل أسرة المجذوب، وهو في سن الرابعة، عنها، للاستقرار في مكناس، فقد
كانت أقل تعرضاً للتدخلات البرتغالية مما هي المدن الساحلية :
جــيـــتْ من طيطْ بالعجْلـة
والــــشـر زادنــي شْطاية
الخبــــز دخـْـلُـه الجــــصْ
عـلاش يا طـالب ذا الـقـرايـة
وعليه، فقد درس صاحبنا في مكناس، حسبما كان معتاداً للمحظوظين من الأولاد.
والمجذوب يعدُّ نفسه من الشرفاء. وهو أمر لا نجد ما يفنده أو يثبته في
الأنساب المعروفة. وربما كان له نسبٌ إلى الشرفاء التونسيين :
أصلــي مــن تونــس الخـضــــرة
والّي عنـــده نســب يــدوّر علــيه
أنـــا ولـــد فــاطـــمـة الــــزهرة والكــــاذب لـعــنـــة اللـه عليـه
بيد أنه إنما جاء بصفة الطالب اللاجئ، لمتابعة دروس اللغة الفصحى والشرع
والأدب والتاريخ، في كبريات مدارس مكناس أولاً، ثم بعدها في فاس. وقد ظل
يحتفظ بذكرى رائعة لهذه المدينة العاصمة، التي ضمت، يومها، 89.236 بيتاً
و758 مسجداً، كانت بها مركزاً يعتمل نشاطاً دينياً، بقدر نشاطها التجاري
والحرفي :
الــطبـــــخ والـرَّمـــخ في فــاس والـــعـلــم
والـــديـن فــيــهـا
لاعــيـــــبْ يتْـقــــــال في فـاس
مكــمــولـة في كــل جــيـــهــا
لكن ماذا كان يهم الطالب الشاب من المصاعب المادية؟ ألم يكن عطف المؤمنين
يفتح الأبواب على مصراعيها في وجوه الطلبة الجدد، يأتونها في جلابيبهم
البيضاء ملتمسين، باسم الله، عون المحسنين؟ فكانت أكياسهم تمتلئ شعيراً،
وقمحاً، وفاكهة، مما يقتاتون عليه. فكانوا يجدون في هذا الكرم محرراً لهم
من كل هم معيشي، ليتفرغوا بعده للصلاة والدرس. وقد خص المجذوب هؤلاء
الأتقياء الكرماء بمديح جميل :
اليِّ يحب الطلــبــة نحــــبُّـوه
ونـعـملـوه فـوق الـراس عْمامة
والِّي يكــره الطـلــبة نكـرهـوه حتـى
إلى يــوم الـقـيــــــامــة
ويذكر الشيخ محمد بن عزوز حكيم (من معهد الدراسات الإفريقية بمدريد) أنه
وقع على مخطوط عربي يعود إلى سنة 1896 من وضع سيدي عبد الرحمن بن عبد
القادر الفاسي، في سيرة المجذوب، نقلاً عن تلميذه سيدي زيان التلغي (ت
1639). وقد حفظ لنا هذا المخطوط أسماء بعض أساتذة المجذوب، نذكر منهم أبا
الحسن علي بن أحمد الصنهاجي الفاسي (ت 1540)، وأبا حفص عمر بن عبد العزيز
الخطيب الزرهوني (ت 1530)، وأحمد بن عبد الواحد الربيع (ت 1536)، وسيدي
يحيى بن علال الخلطي (ت 1538)، وسيدي بن أبي بكر المسترعي (ت 1556)، وسيدي
محمد بن عيسى الفهري (ت 1526)، وأحمد بن الحسين العبدلي السهلي (ت 1555)،
وآخرين.
كان يتولى التدريس في جوامع فاس ومكناس خيرةٌ من أساتذة فاس
وزرهون. وقد تخرج على أيديهم، طوال قرون، أساتذة لامعون في أمور اللغة
والشرع، قد تميزوا بالطابع المغربي، المجانف للطريقة الأندلسية الممعنة في
التجريد، والمبتعد عن النزعة الذهنية الغالبة على الطريقة المشرقية،
والمتحرر من النظم التقليدي، والمترخص في المحسنات البلاغية، المخاطب
للجمهور في الساحات العمومية بلغة بسيطة ومباشرة.
ولا يبعد أن يكون في هذه الفترة الدراسية أخذ صاحبنا في تعلم فن النظم. وسرعان ما صارت رباعياته تجد سبيلها إلى الأسماع :
ســبْــتْ في الـدهــر مـعـزّة
وجـبــــتْ كــــلام ربـــاعي
ابن آدم ما أعـطــــاه ربـّـــــي ويـقـول
اعْــطـانــي ذراعـــي
حقاً إن المجذوب قد بذل مجهوداً دراسياً عظيماً، حتى صار يجيد نظم هذه الأشعار، التي كل موسيقاها من بركة الله ومن مكابدات الحياة!
فهل يصح أن نقول إن رحلة المجذوب إلى مكة قد كانت في نهاية هذه الفترة
الدراسية؟ الثابت أن الشاعر قد صار كفيفاً في أواخر أيامه. غير أنه عمى قد
لحقه بالتدريج، من الحُثار (الثراخوما) التي يُحتمَل أن تكون، وقتذاك،
متفشية في منطقة شمال إفريقيا. ومن البعيد عن الاحتمال أن يكون الشاعر أدى
فريضة »الحج« بعد أن أَضحى ضريراً، لأن الحاج في ذلك الزمان كان يقطع تلك
المسافة الموصلة إلى مكة، والبالغة سبعة آلاف كلم، كلها أو بعضها، سيراً
على الأقدام. وقد اعترف المجذوب نفسه أنه كان يعاني الكثير من الإجهاد!
ترجمة : عبد الرحيم حزل
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: سيدي عبد الرحمن المجذوب .. الشاعر الساخر
بعد الليَّة والزبدة الطرية عدت نكدد في عظام الراس
ما
عاد المجذوب يسعفه بصره الكليل في ركوب حصانه. وبات يجد السلامة في ركوب
البغال. وها نحن نراه منبطحاً على بطنه فوق أحدها, ويسير نائياً بنفسه عن
أهله وذويه، عساه يلقى من يؤويه في بلدان أخرى :
«يا حسرة بعد اللية والزبدة الطرية
عدت نكدد في عظام الراس
ومن بعد ركوبي على الشاهب العلوية
عاد ركوبي على بغل نكاس»
ومن المؤكد أن المجذوب قد قام، في وقت لاحق عن رحلته إلى مكة، بجولة في
بلدان المغرب، التي يبدو أنه كان واسع المعرفة بها. وقد وجدنا، في هذا
الوقت أيضاً، إشارة إلى ربيبه حمُّو لدى الزيبان. ومن المحتمل أن يكون
المجذوب زار، كذلك، الأوراس. ذلك بأن ابن شنيب يورد له تشبيهاً غريباً
يجمع فيه بين الأسرتين الأمازيغيتين الأوراس والقبايل :
الأوراسي يفهم بالدبزة
والقبايلي بالدفرة والعربي بالغمزة
وأما تولكا، فيبدو أن أهلها قد حافظوا على ذكرى الشاعر في محل مشهور،
يُقال له : («دار المجذوب».لكن هل يتعلق الأمر فعلاً بشيخنا الشاعر، أم
بواحد آخر من المنشدين الذين صاروا، منذ أربعة قرون، يذيعون أشعاره؟).
ويجدر بالتسجيل، مع ذلك، أن تلميذ المجذوب، الذي جمع أشعاره وأخباره (توفي
سنة 1639) كان يسمى سيدي زيان التليكي (يمكن أن نحمل اسمه على «التُّلكي»،
ويمكن أن نحمله على «التركي». لكن الغريب في الأمر أن أسرة زيان هذا، كانت
معدودة في الأسر التلمسانية الكبرى، التي التجأت إلى تولكا في القرن
السادس عشر، أو نحو ذلك).
ويضرب المجذوب صوب الشمال، فنقف على آثاره
في بلاد سوف، التي جاءنا بتصوير لأهلها، ولباسهم, وأسلوبهم في العيش، وما
هم فيه من فقر. كما صور لنا موقع هذا البلد المقفر، وحقوله. هذا التصوير
الاقتصادي والعِرقي والجغرافي أجمله الشاعر في أربعة أشطار صغيرة :
آش هو بلاد سوفْ
أرض العطش والجوفْ
كسوتهم شَعر وصوفْ
وعيشتهم لقمتين وينوضوا وقوفْ
ويسير المجذوب إلى الشمال، صوب تونس، فيصب جام هجائه على قبيلة
«الفراشيش»، وهي مجموعة عرقية كبيرة، تعيش بين جبال قسرين وتالة وفريانة،
على مقربة من السبايتلة وتمغارة وتيبيسا. هؤلاء الأقوام أتقياء، لكن
فقراء؛ يتعاطون زراعة الحلفاء، ويتعاطى أفضلهم تربية الجمال والخيول.
ويُضطرهم نمط عيشهم إلى نوع من السكن متفرق وخفيف. وهو ما نستفيده من هذا
الهجوم العنيف من المجذوب عليهم :
بر الفراشيش
شيش بن شيش
كلامه اتهنتيش
وأعماله تفرتيش
ويواصل الشاعر طريقه إلى تونس، فيمر ببلاد قبيلة الدرود الكبيرة, التي
كانت تحتل، وقتها، بلاد سرسو التونسية، وهي على شيء من الشبه ببلاد سرسو
الجزائرية في السهول العليا لتياريت، وفيالا، إلخ., والواقعة ما بين الكف
والغفور والدحماني. وأما الدرود فهم فرسان صناديد، محبون للضيف، أشبه ما
يكونون بالقبائل الفروسية الكبيرة في الجنوب : الشامبا، وربيعة, والترود،
وحمامة، وحتى الشاوية. غير أن بلادهم توجد في وضعية حرجة؛ بين عوالم شديدة
الاختلاف عنهم، لأن الحدود التونسية ليست ترهة جغرافية. وعليه، فهم يشغلون
مركزاً رئيسياً بين الجزائر وتونس، وعالم البحر الأبيض المتوسط وعالم
الصحراء. وتلك كلها اعتبارات كانت كافية لتثير سخرية المجذوب :
السرس مسرور
من قبله طاهر ومن الشرق منحوس
من غرب اشهود
ومن ظهره يهود
وبينما تركت بيزرت عند المجذوب, وهو الحاج الشاب، ذكرى بديعة، نراه لا يذكر تونس، في هذه السداسية، إلا بغليظ القول :
نوصي لمن باع داره
ودار دراهمه في مكتوبة
في البحر ركّب صغاره
السكندرية قريبة
ولا قعادك في تونس
كل يوم تسمع غريبة
بل يبدو، كذلك، أن المجذوب عرف الجزائر في وقت لاحق. ذلك بأن رباعية مما
تتناقلته الأفواه في هذا البلد، تُنسَب إليه، وفيها ذكرٌ لمآثر خير الدين
البحرية :
خير الدين فحل وشاطر
يا موسعُه بخاطر
اردم باب البحر
وبنا عليه القناطر
وإن مما يبعثنا على الاستغراب، أن نرى أشعار المجذوب جاءت على صورة من
النظم يغلب عليها الطابع الجزائري، أكثر من الطابع المغربي. فهل نعزو هذا
الأمر إلى هذا النظم الذي ليس من الشعر الفصيح, ويتعالى على الدارجة
المحلية، أم نعزوه إلى الإعجاب والتقدير اللذين كانا من الجزائريين
برباعيات المجذوب، ما جعلهم يظلون محتفظين بها في ذاكراتهم، وأنهم صاروا،
مع توالي القرون، يسبغون عليها من المسحة الجزائرية؟
ليس ببعيد أن
يكون المجذوب أقام طويلاً في الجزائر. فنحن إذا نظرنا إلى حياته، التي لا
نعرف منها إلا النتف تجود علينا به أبياته، وقارناها بحياة أخرى، نعرف
عنها الشيء الكثير من المعلومات التاريخية, لشخصية سبقت المجذوب بقرن من
الزمان، ونعني بها شخصية عالم الاجتماع ابن خلدون، لرأينا أنهما قد سارتا
في ما يشبه التوازي. فقد كان مولد ابن خلدون في تونس، لأسرة من إشبيلية،
وقد شغل الرجل مناصب سياسية سامية في المغرب وتونس ومصر، إلخ. ولكنه لم
ينعم بالهدوء ليكتب مؤلَّفه المأثور، إلا في منطقة التل الجزائري النائية،
وتحديداً في الموضع الواقع على خط تياريت وميديا وبسكرة، وهو المسار نفسه
الذي قطعه المجذوب. ويذهب بنا الاعتقاد إلى أن هذه المناطق الحدودية
الصحراوية كانت، في ذلك الزمن الموسوم بالاضطرابات السياسي في بلدان
المغرب، ملاذات وملاجئ، وأنها كانت أقدر على صون التقاليد الشفوية
والمكتوبة من المدن الساحلية، التي أنهكتها الصراعات والحروب؛ تستوي في
ذلك المنطقة المغربية والجزائرية والتونسية.
2008/5/9
> ترجمة : عبد الرحيم حزل
< تأليف : سكيلي ميليي
وبوخاري خليفة
ما
عاد المجذوب يسعفه بصره الكليل في ركوب حصانه. وبات يجد السلامة في ركوب
البغال. وها نحن نراه منبطحاً على بطنه فوق أحدها, ويسير نائياً بنفسه عن
أهله وذويه، عساه يلقى من يؤويه في بلدان أخرى :
«يا حسرة بعد اللية والزبدة الطرية
عدت نكدد في عظام الراس
ومن بعد ركوبي على الشاهب العلوية
عاد ركوبي على بغل نكاس»
ومن المؤكد أن المجذوب قد قام، في وقت لاحق عن رحلته إلى مكة، بجولة في
بلدان المغرب، التي يبدو أنه كان واسع المعرفة بها. وقد وجدنا، في هذا
الوقت أيضاً، إشارة إلى ربيبه حمُّو لدى الزيبان. ومن المحتمل أن يكون
المجذوب زار، كذلك، الأوراس. ذلك بأن ابن شنيب يورد له تشبيهاً غريباً
يجمع فيه بين الأسرتين الأمازيغيتين الأوراس والقبايل :
الأوراسي يفهم بالدبزة
والقبايلي بالدفرة والعربي بالغمزة
وأما تولكا، فيبدو أن أهلها قد حافظوا على ذكرى الشاعر في محل مشهور،
يُقال له : («دار المجذوب».لكن هل يتعلق الأمر فعلاً بشيخنا الشاعر، أم
بواحد آخر من المنشدين الذين صاروا، منذ أربعة قرون، يذيعون أشعاره؟).
ويجدر بالتسجيل، مع ذلك، أن تلميذ المجذوب، الذي جمع أشعاره وأخباره (توفي
سنة 1639) كان يسمى سيدي زيان التليكي (يمكن أن نحمل اسمه على «التُّلكي»،
ويمكن أن نحمله على «التركي». لكن الغريب في الأمر أن أسرة زيان هذا، كانت
معدودة في الأسر التلمسانية الكبرى، التي التجأت إلى تولكا في القرن
السادس عشر، أو نحو ذلك).
ويضرب المجذوب صوب الشمال، فنقف على آثاره
في بلاد سوف، التي جاءنا بتصوير لأهلها، ولباسهم, وأسلوبهم في العيش، وما
هم فيه من فقر. كما صور لنا موقع هذا البلد المقفر، وحقوله. هذا التصوير
الاقتصادي والعِرقي والجغرافي أجمله الشاعر في أربعة أشطار صغيرة :
آش هو بلاد سوفْ
أرض العطش والجوفْ
كسوتهم شَعر وصوفْ
وعيشتهم لقمتين وينوضوا وقوفْ
ويسير المجذوب إلى الشمال، صوب تونس، فيصب جام هجائه على قبيلة
«الفراشيش»، وهي مجموعة عرقية كبيرة، تعيش بين جبال قسرين وتالة وفريانة،
على مقربة من السبايتلة وتمغارة وتيبيسا. هؤلاء الأقوام أتقياء، لكن
فقراء؛ يتعاطون زراعة الحلفاء، ويتعاطى أفضلهم تربية الجمال والخيول.
ويُضطرهم نمط عيشهم إلى نوع من السكن متفرق وخفيف. وهو ما نستفيده من هذا
الهجوم العنيف من المجذوب عليهم :
بر الفراشيش
شيش بن شيش
كلامه اتهنتيش
وأعماله تفرتيش
ويواصل الشاعر طريقه إلى تونس، فيمر ببلاد قبيلة الدرود الكبيرة, التي
كانت تحتل، وقتها، بلاد سرسو التونسية، وهي على شيء من الشبه ببلاد سرسو
الجزائرية في السهول العليا لتياريت، وفيالا، إلخ., والواقعة ما بين الكف
والغفور والدحماني. وأما الدرود فهم فرسان صناديد، محبون للضيف، أشبه ما
يكونون بالقبائل الفروسية الكبيرة في الجنوب : الشامبا، وربيعة, والترود،
وحمامة، وحتى الشاوية. غير أن بلادهم توجد في وضعية حرجة؛ بين عوالم شديدة
الاختلاف عنهم، لأن الحدود التونسية ليست ترهة جغرافية. وعليه، فهم يشغلون
مركزاً رئيسياً بين الجزائر وتونس، وعالم البحر الأبيض المتوسط وعالم
الصحراء. وتلك كلها اعتبارات كانت كافية لتثير سخرية المجذوب :
السرس مسرور
من قبله طاهر ومن الشرق منحوس
من غرب اشهود
ومن ظهره يهود
وبينما تركت بيزرت عند المجذوب, وهو الحاج الشاب، ذكرى بديعة، نراه لا يذكر تونس، في هذه السداسية، إلا بغليظ القول :
نوصي لمن باع داره
ودار دراهمه في مكتوبة
في البحر ركّب صغاره
السكندرية قريبة
ولا قعادك في تونس
كل يوم تسمع غريبة
بل يبدو، كذلك، أن المجذوب عرف الجزائر في وقت لاحق. ذلك بأن رباعية مما
تتناقلته الأفواه في هذا البلد، تُنسَب إليه، وفيها ذكرٌ لمآثر خير الدين
البحرية :
خير الدين فحل وشاطر
يا موسعُه بخاطر
اردم باب البحر
وبنا عليه القناطر
وإن مما يبعثنا على الاستغراب، أن نرى أشعار المجذوب جاءت على صورة من
النظم يغلب عليها الطابع الجزائري، أكثر من الطابع المغربي. فهل نعزو هذا
الأمر إلى هذا النظم الذي ليس من الشعر الفصيح, ويتعالى على الدارجة
المحلية، أم نعزوه إلى الإعجاب والتقدير اللذين كانا من الجزائريين
برباعيات المجذوب، ما جعلهم يظلون محتفظين بها في ذاكراتهم، وأنهم صاروا،
مع توالي القرون، يسبغون عليها من المسحة الجزائرية؟
ليس ببعيد أن
يكون المجذوب أقام طويلاً في الجزائر. فنحن إذا نظرنا إلى حياته، التي لا
نعرف منها إلا النتف تجود علينا به أبياته، وقارناها بحياة أخرى، نعرف
عنها الشيء الكثير من المعلومات التاريخية, لشخصية سبقت المجذوب بقرن من
الزمان، ونعني بها شخصية عالم الاجتماع ابن خلدون، لرأينا أنهما قد سارتا
في ما يشبه التوازي. فقد كان مولد ابن خلدون في تونس، لأسرة من إشبيلية،
وقد شغل الرجل مناصب سياسية سامية في المغرب وتونس ومصر، إلخ. ولكنه لم
ينعم بالهدوء ليكتب مؤلَّفه المأثور، إلا في منطقة التل الجزائري النائية،
وتحديداً في الموضع الواقع على خط تياريت وميديا وبسكرة، وهو المسار نفسه
الذي قطعه المجذوب. ويذهب بنا الاعتقاد إلى أن هذه المناطق الحدودية
الصحراوية كانت، في ذلك الزمن الموسوم بالاضطرابات السياسي في بلدان
المغرب، ملاذات وملاجئ، وأنها كانت أقدر على صون التقاليد الشفوية
والمكتوبة من المدن الساحلية، التي أنهكتها الصراعات والحروب؛ تستوي في
ذلك المنطقة المغربية والجزائرية والتونسية.
2008/5/9
> ترجمة : عبد الرحيم حزل
< تأليف : سكيلي ميليي
وبوخاري خليفة
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: سيدي عبد الرحمن المجذوب .. الشاعر الساخر
الاتحاد الاشتراكي |
ربيع- عدد الرسائل : 1432
العمر : 48
تاريخ التسجيل : 04/07/2008
رد: سيدي عبد الرحمن المجذوب .. الشاعر الساخر
يتتَّبع هذا الكتاب سيرة علَم مغربي من أعلام القرن السادس عشر، لم يخلف من أثر مكتوب، لكن »الرباعيات« والأمثال التي جادت بها قريحته لا تزال جارية على الألسن منذ أربعة قرون، في أقطار المغرب العربي، أمانة ورسوخ لافتين. تتألف أشعار المجذوب من مصراعين مقفيين، في لغة ليست هي بالدراجة ولا الفصيحة، وإنما جماع منهما، كما هي لغة »الملحون«. وقد باتت هذه الأشعار، اليوم، يتغنى بها المغنون والمتسولون في الساحات العمومية في بلدان المغرب، وتُتناقل في الدروب وداخل الخدور. ويعرف بها المتعلمون، كما يعرف بها العوام. وهي تعتبر جزءاً من الميراث الروحي والثقافي لمنطقة شمال إفريقيا، كما هي أشعار عمر الخيام جزء من التراث الفارسي. حتى واحد ما غشاش كالمرأة واليهودي ظلت مشاريع شاعرنا الأعمى المسكين مقصوصة الأجنحة، مثلما ظل، هو الآخر، يعاقر عزلته، يشله المرض ويكبله البؤس. لقد انحدر انحداراً حتى لمس قعر الكرب البشري : يا ويح من طاح في بير وصعب عليه طلوعُه فرفرْ ما صاب جنحين يبكي وينشفو دموعُه حتى إذا فاض بما تحمل من بؤس ومن حرمان، رأيناه، وقد تلفع ببرنوسه الرث، وقعد على قارعة طريق، أو في فناء مسجد. ثم يخرج, فجأة، من سدوره، ليطلق صرخة بحَّاء طويلة، عساه يتخفف بها من آلامه, ويمد بينه والمارة ذلك الجسر الذي لم يعد بصره يسعفه فيه : عيطت عيطة حنينة لا بو لا خو انغيضُه الحبيب يقول بركاه والعدو يقول زيدُه ومن المحتمل أن أولئك الأصدقاء لم يكونوا بهذا القدر من القسوة دائماً. لكن المؤكد أنهم كانوا غير مبالين له، كما تفيدنا هذه الرباعية : عيطت عيطة حنينة فيّقت من كان نايمْ ناضوا قلوب المحنّة ورقدوا قلوب البهايمْ لكن هل تنفع دائماً تلك الشفقة التي تأتي من القلوب الرحيمة؟ فالذي يبدو أن مواساتها كانت بعكس المراد : يا ناس قلبي تعمر وما صبت لمن نعيده عادته لناس تاخر الزمان في كل كلمة يزيدوا وقد يكون شاعرنا، الذي طال به العمر حقا، لكن ما زال على معهود حيويته، فكَّر حينها في النساء. فهو يعترف لنا بأن قلبه العجوز الخرب المسكين يشبه جدران الفرن أو الحمام المغربي المشققة والمكسوة سحاماً, لكنها تظل مشتعلة متقدة على الدوام : يا حمّام يعطيك ريبة يا لي مبني على مهد ناركْ من برا ما بان دخان وفي الداخل انحرقوا احجاركْ ويزيد المجذوب مستلهماً من النار تشبيهاته الموجعة الممضة، فيصور لنا قلبه المتقد على الدوام، وقد انسحق بين السندان والمطرقة، لا يكاد يبرد حتى تجدَّد له النيران : قلبي جاء بين المعلم والزبرة والحداد مشوم ما يشفق عليه يردّف له الضربة على الضربة وإذا برد يزيد النار عليه غير أن الشاعر المجذوب لا يلبث أن يدرك مدى خُرق هذا الحلم بالحب, واستحالة تحققه. فينقلب على كل من كان يحب، يغتاله اغتيالاً، وترجع به الذكرى إلى كل ما كانت يداه الرقيقتان كيدي فنان وأعمى قد أمسكتاه بفرح وامتلكتاه. فقد يكون يفكر في تلك النقود الزهيدة التي قد استلمها من صديق شفوق. أو يفكر يقيناً في زوجته بعد أن كان يغدق عليها من حنانه. ما عاد شاعرنا البائس يملك إلا يديه. ونراه يجسد هذا الامتلاك في حجر يقبض عليه بين أصابعه، ثم يقذفه إلى أعلى. لكن مسعاه إلى التخلي عن كل شيء يكون قصيراً، فهو يحاول أن يمسك بذلك الحجر وهو محلق في السماء، أو عند النزول، بسن عصاه. فلماذا هذه (العصا)؟ تراها تكون رمزاً للمسير الذي كان ينبغي له أن يقوم به، متكئاً على عكازه، ليسعى في استعادة زوجته أو استعادة صديقه اليهودي، لكن من غير طائل بعدما طردهما؟ أم يقول ما يقول للإشارة إلى ما هو فيه من خرق ورعونة؟ ذلك بأن العصا لا يمكن أن تقوم مقام المضرب، فلا يكون بدٌّ من سقوط الحجر. لاحاجة إلى الاستفاضة في استقصاء الدلالات الممكنة لهذه العصا. وحسبنا أن نسجل خاتمتها الغريبة والمفاجئة : لحت حجرة للسماء وتلقيتها بعودي حتى واحد ما غشاش كالمرأة واليهودي ولقد أراد المجذوب، حينها، أن يجسد رغبته في التوحد، بالإغراق في العزلة. فاختار موضعاً جبلياً خالياً. وابتنى له فيه كوخاً يلوذ إليه، كأنه صومعة راهب. لقد اتخذ له (خلوة) لكن ويا للأسف. فهذه الخلوة نفسها قد أثبتت له أنه لم يتخلص من كل شهوة كان يشتهيها : درت مطمورة في راس رفروف ومتّنتها من كل جانب عهدي بالمطمورة متينة ساعة من تحت شارب وبطبيعة الحال، فلاشك أن المرأة التي كانت ضحية لكل ذلك الاستسلام للعزلة، لم تستسغ هذا الفعل من المجذوب. لكن من الذي ابتعد في الواقع عن صاحبه؟ ومن ذا الذي تخلى عن الآخر؟ فها هي ذي رباعية في تصوير هذه المأساة تقول : يا قلب نكويك بالنار وإذا بريت نزيدك يا قلب خلّفت لي العار وتريد من لا يريدك وعليه، فسيقوم المجذوب، مرة أخرى، بتدمير كل ما له به تعلق. وستكون هذه المحاولة للتحرر أكمل من سابقتها. فالمجذوب يخبرنا في الرباعية 68 السالفة، أنه مد عصاه عساه يلتقط حجراً. وأما ههنا، فهو لا يمد عصاه، وإنما يقذف بعينيه، وروحه، إلى السماء، كأنما يتعقب بهما الحجارة. حتى إذا صار عارياً في دخيلته من كل شيء جسماني أو روحي، اعترف بأنه يدرك أن تحرره الروحي الكامل أمر مستحيل، وأنه لا يزال مقيداً إلى حاجات البدن، بجوعيه اللذين لا يشبعان : رميت حجرة للسماء ورميت عيني معها شفت ما يهلكني إلا الكرش والمدلّي معها فما العمل؟ ليس غير أن يمعن في المعاناة. فكأني به يردد تلك اللازمة الجزائرية المأثورة : لا سلامة من الخلق لا نجاة من الموت الاتحاد الاشتراكي 2008/9/9 |
ربيع- عدد الرسائل : 1432
العمر : 48
تاريخ التسجيل : 04/07/2008
رد: سيدي عبد الرحمن المجذوب .. الشاعر الساخر
| |||
|
ربيع- عدد الرسائل : 1432
العمر : 48
تاريخ التسجيل : 04/07/2008
رد: سيدي عبد الرحمن المجذوب .. الشاعر الساخر
قوم يا المسكين تهرب من فاس وخّى في ليلة عيد
يجدر، ههنا، بالذكر أنه لما استولى الأشراف السعديون والشلوح على فاس، في
العام 1537، كان أحد كبار فقهاء القادرية قد جاء، في ذلك الخضم من الفوضى
العارمة، بمفتاح الخلاص والحل لتلك الوضعية الحرجة. فالميثاق الذي نادى
به، دعا إليه الشيخ الونشريسي، وارتضاه الشريف، كان يقضي بتقسيم مملكة فاس
إلى قسمين، من غير ما تبعية بينهما أو خضوع؛ مملكة فاس ومملكة مراكش.
وبطبيعة الحال، فإن سيدي عبد الرحمن المجذوب قد صار يومها، يرى، بشيء من
الحنين، أن حدود مملكة فاس لم تعد تتجاوز مدينة مكناس. وحتى إننا وجدناه
يقول إنه صار بمستطاعه أن يرى منتهى قمة جبل صرصار، الذي يقع إلى الجنوب
من القصر الكبير. ومن غير أن ننكر وجود جبل صرصار بالفعل، غير بعيد عن
الزاوية القادرية مستقر الشيخ المجذوب، فلا يبعد أن يكون شاعرنا بما قال،
إنما أراد أن يهوِّل من تلك الرؤية التنبؤية بالارتقاء بها قمةَ ذلك الجبل
الشبيه الذي يذكرنا اسمه بجبل قرقار اليوناني، الذي شهد زواج الأرض
بالسماء على هيأة زيوس وهيره :
رقيت على جبل صرصار
ورميت عيني يمين ويساره
شفت الغرب خالي يصفر
مكناس هي حد العمارة
ومن أسف أن شاعرنا المجذوب سيرى، بعد ذلك، ما هو أبلغ سوءاً. ففي العام
1544، قام الشريف محمد بن القائم بحبس أخيه الأعرج، وتمت له البيعة من
قبائل الجنوب سلطاناً أوحد على مراكش. وعلى الرغم من الاتفاق سالف الذكر،
الذي كان لأخيه مع سلطان فاس، لم يتورع عن النزول إلى هذه العاصمة، وحبس
السلطان أحمد في فشتالة.
وليَ بعد ذلك، ابن السلطان الحبيس ناصر عرش
فاس. واستمر الصراع بين العاصمتين؛ فاس، المحصنة بمنطقة سايس الجبلية
(والتي تتحكم في مدينة فاس ومدينة مكناس معاً) ومراكش التي يمنعها نهر
وراما ويقوم لها حجاباً. وكان ذلك الصراع يجري في خضم من تمردات القبائل
البربرية في الأطلسين الكبير والمتوسط :
غوت يا ذيب سايس
وجاوبه يا ذيب وراما
الشريف يجري على الشريف
حتى يجي الّي يحسن لهم بلا ماء
ثم يتواصل ذلك الحوار في رباعيات أخرى :
غوّق يا ذيب سايس
وغوق في باب غارك
ماذا تناديك الفرايس
حتّى يحفاوا فيها ضفارك
وهي رباعية نجد لها صدى في الرباعية التالية :
غوت يا ذيب سايس
وغوت في باب دارك
يجيوك الفرايس
حتى لباب غارك
وبطبيعة
الحال، فالذي يبدو أن السعديين كانوا غالبين أكثر مما كانوا مغلوبين في
هذه المغامرة. ثم إنهم كانوا يركبون مراكب العنف والحيلة حسب الأحوال
والظروف :
يعجبني ذيب لرقاب
ويزدها على نابه
من فلت مانع
والّي حصل يشد بابه
وفي
العام 1544، اشتدت المصاعب على حكومة السعديين، حتى لم تجد بداً أن تطلب
العون من الأتراك، الذين كانوا قد نزلوا بمنطقة الجزائر ابتداء من 1530
وقد أرسل الباب العالي في 1548، بسفير إلى مراكش للتوسط لدى الشريف محمد
في الإفراج عن سجينه الأمير، سلطان فاس أحمد :
لكن رد محمد كان
رهيباً. فقد كاد يطيح برأس السفير التركي لولا أن ثنته عنه حاشيته. وأياً
ما يكن، فإن رد محمد كان بالزحف على فاس، وقام، في طريقه إليها، بنهب
مكناس، كما تنبأ بذلك شاعرنا المجذوب :
حين تتقد النخلة مع الجريد
في سيدي سعيد
قوم يا المسكين تهرب من فاس
وخّى في ليلة عيد
لكن حكام الجزائر لم يلبثوا مكتوفي الأيدي. ففي عام 1552، قام حسن كورسو،
بمعية جنوده من الانكشارية، بقتل عبد القادر، نجل سلطان مراكش، على مقربة
من تلمسان. ثم أرسل برأس الشريف السعدي إلى العاصمة الجزائر ليعلَّق بباب
عزون.
وفي العام 1553، تولى صالح الريس بنفسه قيادة العمليات ضد الشريف السعدي. وقد كان الشيخ المجذوب تنبأ بمجيء النجدة من وهران :
الخيل الدّوك من القبلة
والحيّح يقوم من سوسْ
الشبكة منصوبة في أزيلة
ما يفلتشي منها حتى الناموسْ
وربما كان في ذكر أصيلة ههنا
إشارة إلى التحالف السري الذي كان الأشراف قد أقاموه مع مختلف مراسي الجهاد البحري، وخاصة في سلا، وأصيلة وتطوان.
كان أهل فاس لا يزالون على معارضتهم الشديدة للسعديين، ولذلك سلموا مقاليد
أمورهم إلى عم السلطان أحمد : أبو حسون (الذي كان قد أبعد إلى بادس من طرف
العم المذكور) فتمت له البيعة سلطاناً على فاس. واتفق أبوحسون مع الأتراك.
فزحف صالح الريس بجيشه على فاس. وكان الشريف السعدي قد أقام معسكره في خنق
تازة. وقد كان بيده ثلاثون ألفاً من الجنود. وتم اللقاء بين الجيشين ليسفر
عن هزيمة هينة للشريف الذي انسحب نحو مراكش, فقد بات يدرك أن فاساً لم تعد
مأمونة.
وتلقى أبو حسون الأتراك في فاس بكل حفاوة في عام 1553 ودفع
لهم مقابل تدخلهم إلى جانبه. هذا الزحف وذلك التوقف بتازة، هو ما تنبأ به
المجذوب في هذه الرباعية :
الخيل الدّوك من القبلة
وتعطي للغرب بالراسْ
تسمّر في باب تازةْ
وتهدم أسوار مكناسْ
في
هذه المرة، أيضاً، تحققت نبوءة المجذوب بتلك الحماية التي قال إنها
ستُكتَب لفاس ببركة مولاي إدريس، ذلك بأن الأتراك والسعديين لم يلبثوا أن
عادوا أدراجهم عنها :
من عند النبي جيت رقّاصْ
مولاي ادريس يعطي البشارةْ
مضمون فاس من كل باسْ
ولو يدوروا به جناس النصارةْ
2008/9/11
يجدر، ههنا، بالذكر أنه لما استولى الأشراف السعديون والشلوح على فاس، في
العام 1537، كان أحد كبار فقهاء القادرية قد جاء، في ذلك الخضم من الفوضى
العارمة، بمفتاح الخلاص والحل لتلك الوضعية الحرجة. فالميثاق الذي نادى
به، دعا إليه الشيخ الونشريسي، وارتضاه الشريف، كان يقضي بتقسيم مملكة فاس
إلى قسمين، من غير ما تبعية بينهما أو خضوع؛ مملكة فاس ومملكة مراكش.
وبطبيعة الحال، فإن سيدي عبد الرحمن المجذوب قد صار يومها، يرى، بشيء من
الحنين، أن حدود مملكة فاس لم تعد تتجاوز مدينة مكناس. وحتى إننا وجدناه
يقول إنه صار بمستطاعه أن يرى منتهى قمة جبل صرصار، الذي يقع إلى الجنوب
من القصر الكبير. ومن غير أن ننكر وجود جبل صرصار بالفعل، غير بعيد عن
الزاوية القادرية مستقر الشيخ المجذوب، فلا يبعد أن يكون شاعرنا بما قال،
إنما أراد أن يهوِّل من تلك الرؤية التنبؤية بالارتقاء بها قمةَ ذلك الجبل
الشبيه الذي يذكرنا اسمه بجبل قرقار اليوناني، الذي شهد زواج الأرض
بالسماء على هيأة زيوس وهيره :
رقيت على جبل صرصار
ورميت عيني يمين ويساره
شفت الغرب خالي يصفر
مكناس هي حد العمارة
ومن أسف أن شاعرنا المجذوب سيرى، بعد ذلك، ما هو أبلغ سوءاً. ففي العام
1544، قام الشريف محمد بن القائم بحبس أخيه الأعرج، وتمت له البيعة من
قبائل الجنوب سلطاناً أوحد على مراكش. وعلى الرغم من الاتفاق سالف الذكر،
الذي كان لأخيه مع سلطان فاس، لم يتورع عن النزول إلى هذه العاصمة، وحبس
السلطان أحمد في فشتالة.
وليَ بعد ذلك، ابن السلطان الحبيس ناصر عرش
فاس. واستمر الصراع بين العاصمتين؛ فاس، المحصنة بمنطقة سايس الجبلية
(والتي تتحكم في مدينة فاس ومدينة مكناس معاً) ومراكش التي يمنعها نهر
وراما ويقوم لها حجاباً. وكان ذلك الصراع يجري في خضم من تمردات القبائل
البربرية في الأطلسين الكبير والمتوسط :
غوت يا ذيب سايس
وجاوبه يا ذيب وراما
الشريف يجري على الشريف
حتى يجي الّي يحسن لهم بلا ماء
ثم يتواصل ذلك الحوار في رباعيات أخرى :
غوّق يا ذيب سايس
وغوق في باب غارك
ماذا تناديك الفرايس
حتّى يحفاوا فيها ضفارك
وهي رباعية نجد لها صدى في الرباعية التالية :
غوت يا ذيب سايس
وغوت في باب دارك
يجيوك الفرايس
حتى لباب غارك
وبطبيعة
الحال، فالذي يبدو أن السعديين كانوا غالبين أكثر مما كانوا مغلوبين في
هذه المغامرة. ثم إنهم كانوا يركبون مراكب العنف والحيلة حسب الأحوال
والظروف :
يعجبني ذيب لرقاب
ويزدها على نابه
من فلت مانع
والّي حصل يشد بابه
وفي
العام 1544، اشتدت المصاعب على حكومة السعديين، حتى لم تجد بداً أن تطلب
العون من الأتراك، الذين كانوا قد نزلوا بمنطقة الجزائر ابتداء من 1530
وقد أرسل الباب العالي في 1548، بسفير إلى مراكش للتوسط لدى الشريف محمد
في الإفراج عن سجينه الأمير، سلطان فاس أحمد :
لكن رد محمد كان
رهيباً. فقد كاد يطيح برأس السفير التركي لولا أن ثنته عنه حاشيته. وأياً
ما يكن، فإن رد محمد كان بالزحف على فاس، وقام، في طريقه إليها، بنهب
مكناس، كما تنبأ بذلك شاعرنا المجذوب :
حين تتقد النخلة مع الجريد
في سيدي سعيد
قوم يا المسكين تهرب من فاس
وخّى في ليلة عيد
لكن حكام الجزائر لم يلبثوا مكتوفي الأيدي. ففي عام 1552، قام حسن كورسو،
بمعية جنوده من الانكشارية، بقتل عبد القادر، نجل سلطان مراكش، على مقربة
من تلمسان. ثم أرسل برأس الشريف السعدي إلى العاصمة الجزائر ليعلَّق بباب
عزون.
وفي العام 1553، تولى صالح الريس بنفسه قيادة العمليات ضد الشريف السعدي. وقد كان الشيخ المجذوب تنبأ بمجيء النجدة من وهران :
الخيل الدّوك من القبلة
والحيّح يقوم من سوسْ
الشبكة منصوبة في أزيلة
ما يفلتشي منها حتى الناموسْ
وربما كان في ذكر أصيلة ههنا
إشارة إلى التحالف السري الذي كان الأشراف قد أقاموه مع مختلف مراسي الجهاد البحري، وخاصة في سلا، وأصيلة وتطوان.
كان أهل فاس لا يزالون على معارضتهم الشديدة للسعديين، ولذلك سلموا مقاليد
أمورهم إلى عم السلطان أحمد : أبو حسون (الذي كان قد أبعد إلى بادس من طرف
العم المذكور) فتمت له البيعة سلطاناً على فاس. واتفق أبوحسون مع الأتراك.
فزحف صالح الريس بجيشه على فاس. وكان الشريف السعدي قد أقام معسكره في خنق
تازة. وقد كان بيده ثلاثون ألفاً من الجنود. وتم اللقاء بين الجيشين ليسفر
عن هزيمة هينة للشريف الذي انسحب نحو مراكش, فقد بات يدرك أن فاساً لم تعد
مأمونة.
وتلقى أبو حسون الأتراك في فاس بكل حفاوة في عام 1553 ودفع
لهم مقابل تدخلهم إلى جانبه. هذا الزحف وذلك التوقف بتازة، هو ما تنبأ به
المجذوب في هذه الرباعية :
الخيل الدّوك من القبلة
وتعطي للغرب بالراسْ
تسمّر في باب تازةْ
وتهدم أسوار مكناسْ
في
هذه المرة، أيضاً، تحققت نبوءة المجذوب بتلك الحماية التي قال إنها
ستُكتَب لفاس ببركة مولاي إدريس، ذلك بأن الأتراك والسعديين لم يلبثوا أن
عادوا أدراجهم عنها :
من عند النبي جيت رقّاصْ
مولاي ادريس يعطي البشارةْ
مضمون فاس من كل باسْ
ولو يدوروا به جناس النصارةْ
2008/9/11
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: سيدي عبد الرحمن المجذوب .. الشاعر الساخر
| |||
|
ربيع- عدد الرسائل : 1432
العمر : 48
تاريخ التسجيل : 04/07/2008
رد: سيدي عبد الرحمن المجذوب .. الشاعر الساخر
| |||
|
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: سيدي عبد الرحمن المجذوب .. الشاعر الساخر
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: سيدي عبد الرحمن المجذوب .. الشاعر الساخر
كل من يتكلم بالحق كسروا له راسه
يتوجه الشيخ المجذوب في أسلوب بالغ البيان، شديد التأثير،إلى الله أن
يهديه ويطهُّر شعره - هو الذي يهدي رسله سواء السبيل - ويستغفره بما يمكن
أن يكون تخلل طريقته في التعبير عن أفكاره من هفوات أو سقطات :
السابق من الخيل تعثر
وربي يدبّر عليها
إذا يكلخ الفم
ربي لا يحاسبني عليها
ثم سنراه بذلك التدلل نفسه إلى الله في شأن يتملك عليه فؤاده : إنها
الصداقة. فليس هو الذي سيختار أصدقاءه، وإنما كل شأنه أن يكتفي باستكشاف
أصدقاء ممكنين له ممن يرى من حوله، ثم يفوض أمره معهم إلى الله من أجل أن
يتولى برعايته، إن شاء نسج علائق تلك الصداقة :
الي علينا احنا درناه
والّي على الله هو به ادرى
خيط المحبة فتلناه
ما خصه غير المدرى
إن شاعرنا يحمل بين جنبيه روحاً في صفاء البلور. فلا ياني يؤمّل أن يستجيب الله إلى دعائه، فيغمره من عطفه وإشراقه :
كاسي من الزجاج
مشروبه مبهج
انسقي به الحجاج
من لهيب العجاج
ويؤمل الشاعر، هو الذي صار يفقد نوره الدنيوي، في شيء من ذلك الضياء الرباني الذي ينير الدواخل :
يا العالم بسرتي
يا الباري تعالى
افتح ضو ضميري
ما نكثر بجهالى
ومثلما أن كاثرين ده سيين (ذات الأصول الشرقية) كانت تقول إن المرء إذا
رغب في الظفر بنعمة الله «وجب عليه أن يخوض في البحر، وينصت إلى هبوب
ريحه» فتلك هي نفسها فلسفلة الشيخ المجذوب ومقالته في كثير من أشعاره. لأن
الريح هي الروح. ذلك الروح الذي نفخ الحياة في آدم ونفخ في مريم فحملت
بالمسيح، تلك الريح التي تنفخ في البراح، حيث يحاول النسّاف أن يفرز الحب
عن التبن ، بيد أنه لا يقدر أن يقذف بذلك الحب إلى ما يتجاوز قامته. وعلى
كل حال، فإن الريح لا تهب إلا أن يشاء لها الله :
إذا ناض ريحك
لوّح التبن طول القامة
وإذا ما ناض لا تدوي
واطلب غير السلامة
وسوف نجد في مواجهة المجذوب للعالم الخارجي نفس المواقف السامية النبيلة التي يبني عليها صلته بربه.
وتأتي في مقدمة تلك المبادئ طلب الحقيقة.
إن جميع متصوفة الإسلام وزهاده يعتبرون الكلمة هي المعبره عن مكنون النفس (الكلمة معنى القلب).
وقد كان المجذوب يمقت المتغرِّضين، الذين يظهرون بمظهر من يقدم إليك النصيحة، وما هم في الحقيقة إلا يحرصون على مصالحهم :
ادبرت الفار
على مول الدار
قالت له بيع الخيمة
واشري الشحيمة
إنه موقف ماكر ومخز. وما أكثر أولئك الذين يخدعون أقاربهم وأصدقاءهم, ثم
يتدبرون أمورهم من أجل إبعاد كل شبهة عنهم. فالمجذوب يشبههم في بعض شعره
بالقطة التي قال عنها إنها تتبرز وتخفي برازها في التراب.
ويزيد غضب
المجذوب وسخطه على أولئك الذين يلبسون من فاخر الثياب ويصطنعون لأنفسهم في
المقاهي ما ليس لهم من قدر أو شأن, وينصرفون عن العبادة إلى الأعمال. فهو
يشبه قلوبهم بخلية قد جفت بعد أن فقدت ما كان فيها من عسل :
طاقوا على الدين تركوه
وتعاونوا على شريب القهاوي
الثوب من فوق نقُّوه
والجبح من تحت خاوي
فالحقيقة ينبغي أن تراعى، نحو الجميع، وضداً على الجميع. فهي واجبنا نحو أقربائنا، مهما كانت مرة أو ثقيلة :
الي يركب يركب اشهب
اطرز الذهب في لجامه
والي يدوّر يقول كلمة حق
يديرها هواوة في حزامه
وتحكي لنا الأساطير عن الملوك والسلاطين، في الماضي، أنهم كانوا يبحثون عن
الرجال الصادقين ليسمعوا من أفواههم الأخبار الموثوقة. لكن الزمن تغير،
ويا للأسف :
راح ذاك الزمان وناسه
وجاء هذا الزمان بفاسه
وكل من يتكلم بالحق
كسروا له راسه
2008/9/24
يتوجه الشيخ المجذوب في أسلوب بالغ البيان، شديد التأثير،إلى الله أن
يهديه ويطهُّر شعره - هو الذي يهدي رسله سواء السبيل - ويستغفره بما يمكن
أن يكون تخلل طريقته في التعبير عن أفكاره من هفوات أو سقطات :
السابق من الخيل تعثر
وربي يدبّر عليها
إذا يكلخ الفم
ربي لا يحاسبني عليها
ثم سنراه بذلك التدلل نفسه إلى الله في شأن يتملك عليه فؤاده : إنها
الصداقة. فليس هو الذي سيختار أصدقاءه، وإنما كل شأنه أن يكتفي باستكشاف
أصدقاء ممكنين له ممن يرى من حوله، ثم يفوض أمره معهم إلى الله من أجل أن
يتولى برعايته، إن شاء نسج علائق تلك الصداقة :
الي علينا احنا درناه
والّي على الله هو به ادرى
خيط المحبة فتلناه
ما خصه غير المدرى
إن شاعرنا يحمل بين جنبيه روحاً في صفاء البلور. فلا ياني يؤمّل أن يستجيب الله إلى دعائه، فيغمره من عطفه وإشراقه :
كاسي من الزجاج
مشروبه مبهج
انسقي به الحجاج
من لهيب العجاج
ويؤمل الشاعر، هو الذي صار يفقد نوره الدنيوي، في شيء من ذلك الضياء الرباني الذي ينير الدواخل :
يا العالم بسرتي
يا الباري تعالى
افتح ضو ضميري
ما نكثر بجهالى
ومثلما أن كاثرين ده سيين (ذات الأصول الشرقية) كانت تقول إن المرء إذا
رغب في الظفر بنعمة الله «وجب عليه أن يخوض في البحر، وينصت إلى هبوب
ريحه» فتلك هي نفسها فلسفلة الشيخ المجذوب ومقالته في كثير من أشعاره. لأن
الريح هي الروح. ذلك الروح الذي نفخ الحياة في آدم ونفخ في مريم فحملت
بالمسيح، تلك الريح التي تنفخ في البراح، حيث يحاول النسّاف أن يفرز الحب
عن التبن ، بيد أنه لا يقدر أن يقذف بذلك الحب إلى ما يتجاوز قامته. وعلى
كل حال، فإن الريح لا تهب إلا أن يشاء لها الله :
إذا ناض ريحك
لوّح التبن طول القامة
وإذا ما ناض لا تدوي
واطلب غير السلامة
وسوف نجد في مواجهة المجذوب للعالم الخارجي نفس المواقف السامية النبيلة التي يبني عليها صلته بربه.
وتأتي في مقدمة تلك المبادئ طلب الحقيقة.
إن جميع متصوفة الإسلام وزهاده يعتبرون الكلمة هي المعبره عن مكنون النفس (الكلمة معنى القلب).
وقد كان المجذوب يمقت المتغرِّضين، الذين يظهرون بمظهر من يقدم إليك النصيحة، وما هم في الحقيقة إلا يحرصون على مصالحهم :
ادبرت الفار
على مول الدار
قالت له بيع الخيمة
واشري الشحيمة
إنه موقف ماكر ومخز. وما أكثر أولئك الذين يخدعون أقاربهم وأصدقاءهم, ثم
يتدبرون أمورهم من أجل إبعاد كل شبهة عنهم. فالمجذوب يشبههم في بعض شعره
بالقطة التي قال عنها إنها تتبرز وتخفي برازها في التراب.
ويزيد غضب
المجذوب وسخطه على أولئك الذين يلبسون من فاخر الثياب ويصطنعون لأنفسهم في
المقاهي ما ليس لهم من قدر أو شأن, وينصرفون عن العبادة إلى الأعمال. فهو
يشبه قلوبهم بخلية قد جفت بعد أن فقدت ما كان فيها من عسل :
طاقوا على الدين تركوه
وتعاونوا على شريب القهاوي
الثوب من فوق نقُّوه
والجبح من تحت خاوي
فالحقيقة ينبغي أن تراعى، نحو الجميع، وضداً على الجميع. فهي واجبنا نحو أقربائنا، مهما كانت مرة أو ثقيلة :
الي يركب يركب اشهب
اطرز الذهب في لجامه
والي يدوّر يقول كلمة حق
يديرها هواوة في حزامه
وتحكي لنا الأساطير عن الملوك والسلاطين، في الماضي، أنهم كانوا يبحثون عن
الرجال الصادقين ليسمعوا من أفواههم الأخبار الموثوقة. لكن الزمن تغير،
ويا للأسف :
راح ذاك الزمان وناسه
وجاء هذا الزمان بفاسه
وكل من يتكلم بالحق
كسروا له راسه
2008/9/24
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: سيدي عبد الرحمن المجذوب .. الشاعر الساخر
الوجه اللي تصاحبه ما تقابحه
يشدد المجذوب في مواضع عديدة من شعره على أن العدل ينبغي أن تكون له،ولو
من الناحية النظرية، صلابة ذراع الميزان. فالعدل ينبغي أن يكون أساس
العلاقات البشرية العقلانية. عدا أن العدل هو صفة الله الحق . وكل سلوك
غير هذا السلوك، بين الأصدقاء وبين الأقارب لا يمكن إلا أن يكون مصدراً
للمغالطات وسبباً في الأحقاد :
الي يخدم عند اخته
يقول اختي تغنيني
وهي تقول وقت الخلاص
خويا ما يحاسبني
والرجل الصادق ينبغي له أن يفي بالتزاماته، وينبغي له بالتالي،أن يوفي
ديونه،ولو كان في ضيق وعجز عن التسديد، طلب التمديد له في الآجال أو طلب
بتسويات. بيد أن الدائن قد لا يمنحه شيئاً منهما :
نوصيك مع مول الدين
ابكي له ولا تشكي له
وإذا خنزر فيك
حل خرطبيلك واعطي له
والمجذوب لا ينصح لمريده برد الدين من غير أن يتعرض لأي إكراه, بل يشدد له
في أن يفعل عن طيب خاطر، فما ذلك إلا الإنصاف الحق. أليس هو قد سعد بحصوله
على ذلك الدين؟
إن ذلك التجاذب الذي تعبر عنه تانك الكلمتان «قنع»
و»شبع»، المتداولتان على الألسنة في منطقة شمال إفريقيا منذ قرون، ليحقق
تلك المعجزة التي نطالعها في أعين الفقراء المشرقة من الفرحة، بعد أن
أُنهكوا في جمع مبلغ الدين الذي في رقابهم. فإذا حان اليوم الموعود لتسليم
المال إلى الدائن, يكون ذلك المدين الفقير كالذي أكل حتى شبع :
كل نفس الي تحتاج السلف
عندها وجه في اليوم طلبها
لابد ما كيف الوجه يوم الخلاص
إلا تحب بالرجوع تشبع قلبها
وفي المقابل, فالشيخ المجذوب شديد التحفظ من مسألة الضمانة، لأن من الصعب
التحكم في سلسلة الأصدقاء (فلان، صديق فلان، صديق فلان، إلخ) المنبنية على
ضمانة أولى, تكاد تكون إحدى حلقاتها شيئاً قدرياً. وقد جاءنا البروفيسور
نور الدين بهذه الرباعية للشيخ المجذوب :
الأمان يا بني الأمان
والأمان يقطع الرقبة
حطيت يا بني الإحسان
جبت البلا بلا سبة
وكما أن الاعتقاد قد ساد في منطقة شمال إفريقيا على اعتبار الحضارة
المدينية أعلى شأناً من الحضارة البدوية (وهذا أمر ذكره ابن خلدون في
«المقدمة»), وأنه لا يمكن لأي حضارة أن تقوم بدون سلطة عليا، وبدون تبادل
للخدمات التي تعتبر التجارة صلة الوصل فيها، ولا يمكن لتلك الحضارة أن
تقوم بدون عدل، وذلك أيضاً من الشروط التي يضعها القرآن للمعاملات بين
الناس :
لا سلطان إلا بالرجال
ولا رجال إلا بالمال
ولا مال إلا بالعمارة
ولا عمارة إلا بالعدل
إن الموقف الرجولي الذي يتخذه المجذوب من العدل يستلزم شرطاً يتمثل في
فضيلة الشجاعة. ذلك بأن الكذابين والمتظاهرين بغير حقيقة ما يبطنون إنما
هم ضعاف النفوس.
إن شكاة الخلق مما يقدَّر عليهم من نوائب يكون إما
تعبيراً منهم عن فقدان الثقة في الله، إذ هم بذلك يعبرون عن خوفهم من
المستقبل، أو أنهم يفتقرون إلى القوة والرجولة، حين يتباكون على الحاضر:
الشر ما يجبد حد
غير من جبده لراسه
في الشتا يقول البرد
وفي الصيف يغلبه نعاسه
وإن احتقار الشيخ المجذوب للمتباكين التافهين، الذين كأنهم، في تصويره
لهم، تلك «الأصوات النشاز» التي رأينا، في ما سلف (الرباعية 103) أنها تخل
بتلك السكينة الربانية، هذا الاحتقار يستمد الشيخ المجذوب تعبيره عنه من
مثل شعبي، في غاية الاكتناز، قد جمع بين الأصوات المنكرة :
المرا النايحة
والبقرة الصايحة
والكلبة النابحة
الله يخليهم في الساحة
إن الشجاعة، وهي فضيلة الرجل، ينبغي أن تترجم إلى فعل وعمل. وقد وجدنا من
المجذوب تعبيراً عن هذا المعنى في كثير من المواضع من شعره.
وشرط
الرجل الشجاع ، عند المجذوب، أن يظل يسير قدماً ،لا يتردد ولا يتراجع،
وأحرى أن يستسلم للخوف من المستفزين، ذوي النيات السيئة. والرجل الشجاع
ينبغي أن يتجنب العجرفة والكبرياء، خاصة تجاه الجيران والأقرباء، لكن
الحالة الوحيدة التي ينصح فيها المجذوب للمرء أن يتحلى بالجرأة هي حين
يتعرض للاعتداء :
الوجه الي تصاحبه
ما تقابحه
والوجه الي تستحي به
قابل به
فما الأسوأ الذي يمكن أن يقع للمرء؟ أهو الموت؟ وهل يخشاها المؤمن؟ إن في ذلك لما يناقض كل حكمة وكل إيمان :
الموت كاينة
والخوف علاش
الرزق مقيد
والتعب علاش
فحسب المرء أن يتحلى بالشجاعة للوفاء بالتزاماته، بالعمل الدؤوب الصادق :
الخدمة والدين
كالورد على الخدين
يفنا مال الجدين
وتبقا صنعة اليدين
2008/9/25
يشدد المجذوب في مواضع عديدة من شعره على أن العدل ينبغي أن تكون له،ولو
من الناحية النظرية، صلابة ذراع الميزان. فالعدل ينبغي أن يكون أساس
العلاقات البشرية العقلانية. عدا أن العدل هو صفة الله الحق . وكل سلوك
غير هذا السلوك، بين الأصدقاء وبين الأقارب لا يمكن إلا أن يكون مصدراً
للمغالطات وسبباً في الأحقاد :
الي يخدم عند اخته
يقول اختي تغنيني
وهي تقول وقت الخلاص
خويا ما يحاسبني
والرجل الصادق ينبغي له أن يفي بالتزاماته، وينبغي له بالتالي،أن يوفي
ديونه،ولو كان في ضيق وعجز عن التسديد، طلب التمديد له في الآجال أو طلب
بتسويات. بيد أن الدائن قد لا يمنحه شيئاً منهما :
نوصيك مع مول الدين
ابكي له ولا تشكي له
وإذا خنزر فيك
حل خرطبيلك واعطي له
والمجذوب لا ينصح لمريده برد الدين من غير أن يتعرض لأي إكراه, بل يشدد له
في أن يفعل عن طيب خاطر، فما ذلك إلا الإنصاف الحق. أليس هو قد سعد بحصوله
على ذلك الدين؟
إن ذلك التجاذب الذي تعبر عنه تانك الكلمتان «قنع»
و»شبع»، المتداولتان على الألسنة في منطقة شمال إفريقيا منذ قرون، ليحقق
تلك المعجزة التي نطالعها في أعين الفقراء المشرقة من الفرحة، بعد أن
أُنهكوا في جمع مبلغ الدين الذي في رقابهم. فإذا حان اليوم الموعود لتسليم
المال إلى الدائن, يكون ذلك المدين الفقير كالذي أكل حتى شبع :
كل نفس الي تحتاج السلف
عندها وجه في اليوم طلبها
لابد ما كيف الوجه يوم الخلاص
إلا تحب بالرجوع تشبع قلبها
وفي المقابل, فالشيخ المجذوب شديد التحفظ من مسألة الضمانة، لأن من الصعب
التحكم في سلسلة الأصدقاء (فلان، صديق فلان، صديق فلان، إلخ) المنبنية على
ضمانة أولى, تكاد تكون إحدى حلقاتها شيئاً قدرياً. وقد جاءنا البروفيسور
نور الدين بهذه الرباعية للشيخ المجذوب :
الأمان يا بني الأمان
والأمان يقطع الرقبة
حطيت يا بني الإحسان
جبت البلا بلا سبة
وكما أن الاعتقاد قد ساد في منطقة شمال إفريقيا على اعتبار الحضارة
المدينية أعلى شأناً من الحضارة البدوية (وهذا أمر ذكره ابن خلدون في
«المقدمة»), وأنه لا يمكن لأي حضارة أن تقوم بدون سلطة عليا، وبدون تبادل
للخدمات التي تعتبر التجارة صلة الوصل فيها، ولا يمكن لتلك الحضارة أن
تقوم بدون عدل، وذلك أيضاً من الشروط التي يضعها القرآن للمعاملات بين
الناس :
لا سلطان إلا بالرجال
ولا رجال إلا بالمال
ولا مال إلا بالعمارة
ولا عمارة إلا بالعدل
إن الموقف الرجولي الذي يتخذه المجذوب من العدل يستلزم شرطاً يتمثل في
فضيلة الشجاعة. ذلك بأن الكذابين والمتظاهرين بغير حقيقة ما يبطنون إنما
هم ضعاف النفوس.
إن شكاة الخلق مما يقدَّر عليهم من نوائب يكون إما
تعبيراً منهم عن فقدان الثقة في الله، إذ هم بذلك يعبرون عن خوفهم من
المستقبل، أو أنهم يفتقرون إلى القوة والرجولة، حين يتباكون على الحاضر:
الشر ما يجبد حد
غير من جبده لراسه
في الشتا يقول البرد
وفي الصيف يغلبه نعاسه
وإن احتقار الشيخ المجذوب للمتباكين التافهين، الذين كأنهم، في تصويره
لهم، تلك «الأصوات النشاز» التي رأينا، في ما سلف (الرباعية 103) أنها تخل
بتلك السكينة الربانية، هذا الاحتقار يستمد الشيخ المجذوب تعبيره عنه من
مثل شعبي، في غاية الاكتناز، قد جمع بين الأصوات المنكرة :
المرا النايحة
والبقرة الصايحة
والكلبة النابحة
الله يخليهم في الساحة
إن الشجاعة، وهي فضيلة الرجل، ينبغي أن تترجم إلى فعل وعمل. وقد وجدنا من
المجذوب تعبيراً عن هذا المعنى في كثير من المواضع من شعره.
وشرط
الرجل الشجاع ، عند المجذوب، أن يظل يسير قدماً ،لا يتردد ولا يتراجع،
وأحرى أن يستسلم للخوف من المستفزين، ذوي النيات السيئة. والرجل الشجاع
ينبغي أن يتجنب العجرفة والكبرياء، خاصة تجاه الجيران والأقرباء، لكن
الحالة الوحيدة التي ينصح فيها المجذوب للمرء أن يتحلى بالجرأة هي حين
يتعرض للاعتداء :
الوجه الي تصاحبه
ما تقابحه
والوجه الي تستحي به
قابل به
فما الأسوأ الذي يمكن أن يقع للمرء؟ أهو الموت؟ وهل يخشاها المؤمن؟ إن في ذلك لما يناقض كل حكمة وكل إيمان :
الموت كاينة
والخوف علاش
الرزق مقيد
والتعب علاش
فحسب المرء أن يتحلى بالشجاعة للوفاء بالتزاماته، بالعمل الدؤوب الصادق :
الخدمة والدين
كالورد على الخدين
يفنا مال الجدين
وتبقا صنعة اليدين
2008/9/25
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: سيدي عبد الرحمن المجذوب .. الشاعر الساخر
هم اداوا المليحة وأنا في الحبس بايت
تعاود الشيخ المجذوب، بين الفينة والأخرى، تلك الذكرى الأليمة لفقده بصره.
ومن غريب أن تلك الذكرى تجعله يدعو إلى العمل مواكرا, لا إلى السعي
لامتلاك الأرض :
احرث يا الحراث
وانده عجولك بالسياسة
نص تمنى في النهار
ولا الجرذ الخماسة
بل تراه يدعو حتى في أشغال الحقل التي يقوم بها أشد الناس نواضعاً أن
يُتسلح عليها بالحرص الشديد والعناية الفائقة, لكي تصير مصدراً للثراء
المعنوي والمادي معاً :
احرث يا الحراث
وطيب روس المراجع
راه مال التجار
ما زال لك راجع
ومع ذلك, فصاحبنا يقر بأن عمل الخماس (المواكر) هو أعلى شأناً من عمل
العامل بالمقطوعية, الذي كان, مع ذلك, واسع الانتشار في ذلك الزمان.
فهؤلاء البؤساء لا يفلحن في جني شيء من أعمالهم إلا بإنقاص عمالهم قيمة ما
يبذلون من جهد :
الخماس قرّان
والرباع وزيره
المقطع مقطع رزقه
فين ما مشيت تصيبه
كذلك تتوالى هذه النصائح, يسديها المجذوب إلى البسطاء, تارة في صيغة
محددة, وطوراً في صورة عامة, كما هو الشأن في تلك الرباعية التي يقول فيها
إن الناس, مهما ألقيت إليهم بالتحذيرات, لا يقتنعون إلا بالتجارب.
وأما الفقراء الذين قدرهم أن يكابدوا نوائب الحياة, فيقدم إليهم النصيحة
التالية, يصوغها في هذه العبارة البليغة في شكلها ومحتواها معا :
الهم يزيد الغم
والسترة ليلة مليحة
رد الجلدة على الجرح
تبرا وتولي صحيحة
وهو تعبير نجد له في الجزائر تنويعاً أخر :
ارضيت على الهم
ما رضى عليا
حطيته عند راسي
اصبح عند رجليا
وعلاوة على تلك الرهافة التي عرفناها في المجذوب في ما يتصل بالعلاقات
البشرية, فقد كان هذا الشاعر شديد التنبه إلى عالم أوسع وأكبر؛ ذلك هو
عالم الحيوان. فقد رأيناه يكلم الطيور, ويفرح, في مرضه, لزيارة القطط.
وتراه ينفعل كثيراً لتلك الوحدة الوجودية التي تجعل الديك يكون السباق إلى تبشير الناس بنهار جديد :
يا الفروج يا الفروج
يا مول الأوقات الصحيحة
لو كان تصلي وتصوم
ما تجوز فيك الذبيحة
وإذا كان المجذوب يحيي الديك باعتباره أول مؤمن ينهض لصلاة الفجر, فكذلك
هو لا يبخل بصداقته على حيوان آخر كالبقرة. فتراه معادياً لذبحها, هي التي
يسمو بها إلى مرتبة الأم المرضعة :
البقر عوض الأمهات
والقمح هو النصيح
ذابحكم يا البقرات
ما يشوف ليل مليح
هذا التمهيد المفصح عن حساسية الشاعر المفرطة تجاه الحيوان, يكمله ذلك
الاهتمام بالإنسان في شعره, اهتمام به في جميع أطوار حياته, واهتمام
بتربيته ومساره في الحياة.
ومن ذلك أنه ينصح للإنسان بتخير رفاقه, وتجنب رفاق السوء للطفل, فهو يكون في الحياة بحسب من يرافق :
من خالط الأجواد جاد بجودهم
ومن خالط الأرذال زال غناه
ومن جاور قدرة انطلى بحمومها
ومن جاور صابون جاب نقاه
وهي رباعية جاءتنا السيدة خليفة لها بتنويع آخر من التقاليد الجزائرية :
لا من عطاني طريحة
على خلاطي مع الشمايت
هم اداوا المليحة
وأنا في الحبس بايت
لذلك
ينصح للشاب اليافع أن يختار لرفقته الصديق الحقيقي. وينصح له أن يؤثر
لصداقته أنداده, والأفضل أن يكونوا من سليلي الأسر الكريمة :
البس قدك والعب مع ندك
واشرب وكل ما تريده
وما تخالط غير الي يعرف
قيمة باباك وجده
وإذا لزم المرء أن يثق بشخص, إلى حد تسليمه روحه, فليكن في يد الشخص الأمين, الذي لا يبخل عليه بالضحية في أوقات الشدة :
الي تصيبه ما تقطع نصيبه
والي ما فيه فائدة يندفع
في الدنيا ما ينفع
وفي الآخرة ما يشفع
2008/9/27
تعاود الشيخ المجذوب، بين الفينة والأخرى، تلك الذكرى الأليمة لفقده بصره.
ومن غريب أن تلك الذكرى تجعله يدعو إلى العمل مواكرا, لا إلى السعي
لامتلاك الأرض :
احرث يا الحراث
وانده عجولك بالسياسة
نص تمنى في النهار
ولا الجرذ الخماسة
بل تراه يدعو حتى في أشغال الحقل التي يقوم بها أشد الناس نواضعاً أن
يُتسلح عليها بالحرص الشديد والعناية الفائقة, لكي تصير مصدراً للثراء
المعنوي والمادي معاً :
احرث يا الحراث
وطيب روس المراجع
راه مال التجار
ما زال لك راجع
ومع ذلك, فصاحبنا يقر بأن عمل الخماس (المواكر) هو أعلى شأناً من عمل
العامل بالمقطوعية, الذي كان, مع ذلك, واسع الانتشار في ذلك الزمان.
فهؤلاء البؤساء لا يفلحن في جني شيء من أعمالهم إلا بإنقاص عمالهم قيمة ما
يبذلون من جهد :
الخماس قرّان
والرباع وزيره
المقطع مقطع رزقه
فين ما مشيت تصيبه
كذلك تتوالى هذه النصائح, يسديها المجذوب إلى البسطاء, تارة في صيغة
محددة, وطوراً في صورة عامة, كما هو الشأن في تلك الرباعية التي يقول فيها
إن الناس, مهما ألقيت إليهم بالتحذيرات, لا يقتنعون إلا بالتجارب.
وأما الفقراء الذين قدرهم أن يكابدوا نوائب الحياة, فيقدم إليهم النصيحة
التالية, يصوغها في هذه العبارة البليغة في شكلها ومحتواها معا :
الهم يزيد الغم
والسترة ليلة مليحة
رد الجلدة على الجرح
تبرا وتولي صحيحة
وهو تعبير نجد له في الجزائر تنويعاً أخر :
ارضيت على الهم
ما رضى عليا
حطيته عند راسي
اصبح عند رجليا
وعلاوة على تلك الرهافة التي عرفناها في المجذوب في ما يتصل بالعلاقات
البشرية, فقد كان هذا الشاعر شديد التنبه إلى عالم أوسع وأكبر؛ ذلك هو
عالم الحيوان. فقد رأيناه يكلم الطيور, ويفرح, في مرضه, لزيارة القطط.
وتراه ينفعل كثيراً لتلك الوحدة الوجودية التي تجعل الديك يكون السباق إلى تبشير الناس بنهار جديد :
يا الفروج يا الفروج
يا مول الأوقات الصحيحة
لو كان تصلي وتصوم
ما تجوز فيك الذبيحة
وإذا كان المجذوب يحيي الديك باعتباره أول مؤمن ينهض لصلاة الفجر, فكذلك
هو لا يبخل بصداقته على حيوان آخر كالبقرة. فتراه معادياً لذبحها, هي التي
يسمو بها إلى مرتبة الأم المرضعة :
البقر عوض الأمهات
والقمح هو النصيح
ذابحكم يا البقرات
ما يشوف ليل مليح
هذا التمهيد المفصح عن حساسية الشاعر المفرطة تجاه الحيوان, يكمله ذلك
الاهتمام بالإنسان في شعره, اهتمام به في جميع أطوار حياته, واهتمام
بتربيته ومساره في الحياة.
ومن ذلك أنه ينصح للإنسان بتخير رفاقه, وتجنب رفاق السوء للطفل, فهو يكون في الحياة بحسب من يرافق :
من خالط الأجواد جاد بجودهم
ومن خالط الأرذال زال غناه
ومن جاور قدرة انطلى بحمومها
ومن جاور صابون جاب نقاه
وهي رباعية جاءتنا السيدة خليفة لها بتنويع آخر من التقاليد الجزائرية :
لا من عطاني طريحة
على خلاطي مع الشمايت
هم اداوا المليحة
وأنا في الحبس بايت
لذلك
ينصح للشاب اليافع أن يختار لرفقته الصديق الحقيقي. وينصح له أن يؤثر
لصداقته أنداده, والأفضل أن يكونوا من سليلي الأسر الكريمة :
البس قدك والعب مع ندك
واشرب وكل ما تريده
وما تخالط غير الي يعرف
قيمة باباك وجده
وإذا لزم المرء أن يثق بشخص, إلى حد تسليمه روحه, فليكن في يد الشخص الأمين, الذي لا يبخل عليه بالضحية في أوقات الشدة :
الي تصيبه ما تقطع نصيبه
والي ما فيه فائدة يندفع
في الدنيا ما ينفع
وفي الآخرة ما يشفع
2008/9/27
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
مواضيع مماثلة
» سيدي عبدالرحمان المجذوب
» صفحات من ديوان سيدي عبدالرحمن المجذوب
» تقرير حول زراعة التبغ بجماعة سيدي رضوان و الناحية من إعداد محمد ابراهمي عضو الغرفة الفلاحية بدائرة سيدي رضوان - بني كلة
» الفنان الساخر أحمد السنوسي
» من أقوال المجذوب !
» صفحات من ديوان سيدي عبدالرحمن المجذوب
» تقرير حول زراعة التبغ بجماعة سيدي رضوان و الناحية من إعداد محمد ابراهمي عضو الغرفة الفلاحية بدائرة سيدي رضوان - بني كلة
» الفنان الساخر أحمد السنوسي
» من أقوال المجذوب !
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى