سوسيولوجـــــــيا .....
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
سوسيولوجـــــــيا .....
السوسيولوجيا الكولونيالية في المغرب.. أصولها واتجاهاتها
(المخزن هو المخزن لكن الاستعمار أعطاه الوسائل التي تعوزه)
إدريس بنعلي.
(إن كاتب هذه السطور يتذكر بالذات أول زيارة للمارشال ليوتي إلى تازة
التي احتلتها حديثا فرقنا العسكرية... لقد لفت نظره تميز رؤساء البربر
المحليين، والفرق الدينية المحلية الذين يدعون قبول السلطة الفرنسية،
لكنهم رفضوا الخضوع للمخزن. ولم يكن أحد الضباط الحاضرين يخشى من أن يقول:
إنها اللحظة التي يمكن فيها تأسيس جمهورية تازة البربرية التي سيكون
ولاؤها لنا...)
الجنرال ب.جي. أندريه / أحد المشاركين في احتلال المغرب.
(دون شك أنت على حق، لكنني في المغرب من أجل إعادة صيانة سلطة السلطان في ربوع البلاد، ولا يمكنني أن أفعل غير ذلك.)
المارشال ليوطي
في سنة 1956 أصدر جاك بيرك دراسة تحت عنوان «مائة وخمس وعشرون سنة من
السوسيولوجـــــــيا المغاربية»، حيث يرصد ميلاد هذا العلم مؤرخا له منذ
بداية 1830.
وبناء على ذلك، ورغم التحفظات التي يمكن تسجيلها، فقد عرفت الدراسات
السوسيولوجية حول المغرب بداية مبكرة نسبيا الأمر الذي ساعد على تحصيل
تراكم معرفي كمي ونوعي رصدا وتحليلا، نقدا وتأويلا لمجمل الظواهر
الاجتماعية وعلى جميع المستويات، بما في ذلك نمط الروابط الاجتماعية
والأسرية والقبلية، وكذلك علاقة الدولة بالمجتمع، أدوار القبيلة والعلاقات
النسبية، دور بعض الفئات الاجتماعية كالفلاحين مثلا، المرأة، الشباب، كما
كان الاهتمام منصبا على الظاهرة الدينية وسيروراتها الداخلية والخارجية،
بما في ذلك دور الدين في السياسة والحركات السياسية ذات المرجعية الدينية،
وامتد اعتناء السوسيولوجيا ليشمل دراسة وتقييم دور السلطة السياسية في
تحديث المجتمع ونشر الديمقراطية، بالاعتماد على مقاربات من صلب سوسيولوجيا
السياسة وسوسيولوجيا الانتخابات، دون أن تغفل هذه الدراسات عن مقاربة
أشكال ومظاهر الهجرة بكل أنواعها الداخلية والخارجية الشرعية وغير
الشرعية. وبصفة عامة لم تترك السوسيولوجيا ظاهرة اجتماعية إلا وجعلت منها
موضوع درس وبحث وتأمل. ولم تقتصر تلك المساهمات على سوسيولوجيين مغاربة بل
شارك في ذلك سوسيولوجيون أجانب من شتى المشارب والاتجاهات والمدارس
الفكرية. من أوربا وأمريكا على الخصوص. وإذا استثنينا الإرث الكولونيالي
الذي تم التعريف به في أكثر من مناسبة فإن الحصيلة المتوفرة تعتبر على قدر
كبير من الأهمية، رغم ما يمكن تسجيله من عيوب ونقائص هي من طبيعة البحث
السوسيولوجي وإكراهاته، خصوصا إذا علمنا أن السوسيولوجيا في المغرب ظلت
علما غير مرغوب فيه على مدى عقود من الزمن، وهي الآن مازالت تحت تأثير
مفاعيل تلك الإعاقة التي لحقتها بصفتها مجالا معرفيا لا يتطور إلا ضمن
سياق اجتماعي وثقافي وعلمي له قواعده الخاصة به. برزت السوسيولوجيا
والعلوم الاجتماعية عامة في المغرب المعاصر ضمن شروط سياسية وثقافية مميزة
تحكم بها سؤال أساسي مرتبط بهوية هذا الاختصاص في ظرف تاريخي بقيت فيه
الأبحاث التي أنجزتها بعثات الاحتلال الفرنسي تحتم على المغاربة أخذ زمام
المبادرة والإعلان عن ميلاد مدرسة في التفكير السوسيولوجي لها من الخصوصية
ما يميزها عن ذلك الإرث الكولونيالي، الذي كان يدعي مهندسوه أنهم يحملون
للمغرب مشروعا لإصلاح المجتمع باستعمال معطيات المعرفة العلمية لأجل تحقيق
الحضارة، التقدم، التنمية والحداثة. ما هي حقيقة وخلفيات السوسيولوجيا
الكولونيالية؟ ما طبيعة أهدافها؟ ما قيمة إرثها المعرفي؟ وما هي حدود
صلاحيته؟
مثلت مدرسة الآداب بالعاصمة الجزائر، والتي تأسست سنة 1879، تحت إدارة
René Basset المختبر الرئيسي للفكر الكلونيالي حول المغرب العربي
عامة. في حين سوف يتم تأسيس بعثة علمية خاصة بالمغرب، بعد أقل من ثلاثين
سنة عن تأسيس مدرسة الجزائر وتحديدا في سنة 1904.
قبل هذا التاريخ بدأت عمليات اكتشاف المغرب عن طريق استعمال المعرفة،
إذ يعد كتاب: (المغرب المجهول) لـ: مولييراس الذي ظهر منه الجزء الأول سنة
1895، أول بحث إتنولوجي تناول جزءا كبيرا من العادات والتقاليد التي كانت
سائدة في المجتمع المغربي.
(المغرب المجهول) كتاب يأتي ضمن سياسة أشرف على توجيهها الحاكم العام
في الجزائر: كامبون والذي عرف عنه ميله إلى استغلال العلوم الاجتماعية في
تنفيذ سياسات الاحتلال مستفيدا من التجربة الفرنسية في الجزائر.
وعلى نهج هذا التصور برزت دراسات إتنوغرافية أخرى منها (مراكش) و(في القبيلة) وهما عبارة عن دراستين أنجزهما إدموند دوتي.
وبرأي عبد الله حمودي، يمكن القول بأن إدموند دوتي لعب دورا هاما في
انتقال المدرسة الجزائرية إلى المغرب. وقد سبق لبول باسكون أن كشف عن بعض
الأدوار الخفية لمثل هؤلاء الإتنوغرافيينن إذ يذكر أن دوتي مثلا كتب
تقريرا سريا عن سبل اختراق الوضع السياسي في الحوز سنة 1907.
كانت البعثة العلمية تابعة لكرسي سوسيولوجيا العالم الإسلامي بـ:
Collège de France وقد أشرف على إدارتها Alfred Le Chatelier وهو أستاذ
السوسيولوجيا والسوسيوغرافيا الإسلامية.
كان من أبرز مهامها الاعتناء بكل ما يرتبط بما عرف في حينه بالشؤون
الإسلامية، وهي البعثة التي سيكون لـ«ليوطي» دور في توجيهها، مستفيدا في
ذلك مما راكمته تجربة الاحتلال الفرنسي للجزائر، وهو صاحب إيديولوجية
كراهية التسيير المباشر، والمعروف (باحترامه) للمؤسسات التقليدية:
الإسلام، المخزن، الطرق والزوايا ... هذه الإيديولوجيا سوف تنعكس على
التوجه (العلمي) للبعثة العلمية، ومعهد الدراسات العليا المغربية فيما
بعد.
وقد أوضح بورك، في سياق تناوله بالدراسة للبعثة العلمية، جملة من
الرهانات والتجاذبات التي رافقت تأسيس البعثة من خلال توصيف الصراع من أجل
السيطرة عليها، صراع بين الاتجاه الذي كان يمثله أتباع الجناح الاستعماري
التقليدي والجناح الاستعماري الجديد الذي كان يتبنى مذهبا مخالفا لأتباع
مدرسة الجزائر.
سوف يتغير اسم البعثة العلمية سنة 1920 ليصبح شعبة سوسيولوجيا الشؤون
الأهلية Section sociologique des Affaires indigènes هذه البعثة سوف يصبح
لها فيما بعد، وتحديدا سنة 1925، مسمى آخر هو: معهد الدراسات العليا
المغربية، L’Institut des Hautes Études Marocaines (IHEM) وهو المعهد
الذي توحدت فيه (البعثة العلمية و(المدرسة العليا للغة العربية واللهجات
البربرية) و(القسم السوسيولوجي).
وفي كل الأحوال كانت هذه المؤسسة خاضعة سياسيا لتوجيهات المقيم العام
الفرنسي، وإيديولوجيا لتوجيهات جورج هاردي، وقد أنتجت هذه المؤسسة أطلسين
حول المغرب، أطلس الأولياء والصلحاء والزوايا، وأطلس اللهجات المحلية.
د. محمد الغيلاني
* باحث في السوسيولوجيا
المساء
02/9/2008
(المخزن هو المخزن لكن الاستعمار أعطاه الوسائل التي تعوزه)
إدريس بنعلي.
(إن كاتب هذه السطور يتذكر بالذات أول زيارة للمارشال ليوتي إلى تازة
التي احتلتها حديثا فرقنا العسكرية... لقد لفت نظره تميز رؤساء البربر
المحليين، والفرق الدينية المحلية الذين يدعون قبول السلطة الفرنسية،
لكنهم رفضوا الخضوع للمخزن. ولم يكن أحد الضباط الحاضرين يخشى من أن يقول:
إنها اللحظة التي يمكن فيها تأسيس جمهورية تازة البربرية التي سيكون
ولاؤها لنا...)
الجنرال ب.جي. أندريه / أحد المشاركين في احتلال المغرب.
(دون شك أنت على حق، لكنني في المغرب من أجل إعادة صيانة سلطة السلطان في ربوع البلاد، ولا يمكنني أن أفعل غير ذلك.)
المارشال ليوطي
في سنة 1956 أصدر جاك بيرك دراسة تحت عنوان «مائة وخمس وعشرون سنة من
السوسيولوجـــــــيا المغاربية»، حيث يرصد ميلاد هذا العلم مؤرخا له منذ
بداية 1830.
وبناء على ذلك، ورغم التحفظات التي يمكن تسجيلها، فقد عرفت الدراسات
السوسيولوجية حول المغرب بداية مبكرة نسبيا الأمر الذي ساعد على تحصيل
تراكم معرفي كمي ونوعي رصدا وتحليلا، نقدا وتأويلا لمجمل الظواهر
الاجتماعية وعلى جميع المستويات، بما في ذلك نمط الروابط الاجتماعية
والأسرية والقبلية، وكذلك علاقة الدولة بالمجتمع، أدوار القبيلة والعلاقات
النسبية، دور بعض الفئات الاجتماعية كالفلاحين مثلا، المرأة، الشباب، كما
كان الاهتمام منصبا على الظاهرة الدينية وسيروراتها الداخلية والخارجية،
بما في ذلك دور الدين في السياسة والحركات السياسية ذات المرجعية الدينية،
وامتد اعتناء السوسيولوجيا ليشمل دراسة وتقييم دور السلطة السياسية في
تحديث المجتمع ونشر الديمقراطية، بالاعتماد على مقاربات من صلب سوسيولوجيا
السياسة وسوسيولوجيا الانتخابات، دون أن تغفل هذه الدراسات عن مقاربة
أشكال ومظاهر الهجرة بكل أنواعها الداخلية والخارجية الشرعية وغير
الشرعية. وبصفة عامة لم تترك السوسيولوجيا ظاهرة اجتماعية إلا وجعلت منها
موضوع درس وبحث وتأمل. ولم تقتصر تلك المساهمات على سوسيولوجيين مغاربة بل
شارك في ذلك سوسيولوجيون أجانب من شتى المشارب والاتجاهات والمدارس
الفكرية. من أوربا وأمريكا على الخصوص. وإذا استثنينا الإرث الكولونيالي
الذي تم التعريف به في أكثر من مناسبة فإن الحصيلة المتوفرة تعتبر على قدر
كبير من الأهمية، رغم ما يمكن تسجيله من عيوب ونقائص هي من طبيعة البحث
السوسيولوجي وإكراهاته، خصوصا إذا علمنا أن السوسيولوجيا في المغرب ظلت
علما غير مرغوب فيه على مدى عقود من الزمن، وهي الآن مازالت تحت تأثير
مفاعيل تلك الإعاقة التي لحقتها بصفتها مجالا معرفيا لا يتطور إلا ضمن
سياق اجتماعي وثقافي وعلمي له قواعده الخاصة به. برزت السوسيولوجيا
والعلوم الاجتماعية عامة في المغرب المعاصر ضمن شروط سياسية وثقافية مميزة
تحكم بها سؤال أساسي مرتبط بهوية هذا الاختصاص في ظرف تاريخي بقيت فيه
الأبحاث التي أنجزتها بعثات الاحتلال الفرنسي تحتم على المغاربة أخذ زمام
المبادرة والإعلان عن ميلاد مدرسة في التفكير السوسيولوجي لها من الخصوصية
ما يميزها عن ذلك الإرث الكولونيالي، الذي كان يدعي مهندسوه أنهم يحملون
للمغرب مشروعا لإصلاح المجتمع باستعمال معطيات المعرفة العلمية لأجل تحقيق
الحضارة، التقدم، التنمية والحداثة. ما هي حقيقة وخلفيات السوسيولوجيا
الكولونيالية؟ ما طبيعة أهدافها؟ ما قيمة إرثها المعرفي؟ وما هي حدود
صلاحيته؟
مثلت مدرسة الآداب بالعاصمة الجزائر، والتي تأسست سنة 1879، تحت إدارة
René Basset المختبر الرئيسي للفكر الكلونيالي حول المغرب العربي
عامة. في حين سوف يتم تأسيس بعثة علمية خاصة بالمغرب، بعد أقل من ثلاثين
سنة عن تأسيس مدرسة الجزائر وتحديدا في سنة 1904.
قبل هذا التاريخ بدأت عمليات اكتشاف المغرب عن طريق استعمال المعرفة،
إذ يعد كتاب: (المغرب المجهول) لـ: مولييراس الذي ظهر منه الجزء الأول سنة
1895، أول بحث إتنولوجي تناول جزءا كبيرا من العادات والتقاليد التي كانت
سائدة في المجتمع المغربي.
(المغرب المجهول) كتاب يأتي ضمن سياسة أشرف على توجيهها الحاكم العام
في الجزائر: كامبون والذي عرف عنه ميله إلى استغلال العلوم الاجتماعية في
تنفيذ سياسات الاحتلال مستفيدا من التجربة الفرنسية في الجزائر.
وعلى نهج هذا التصور برزت دراسات إتنوغرافية أخرى منها (مراكش) و(في القبيلة) وهما عبارة عن دراستين أنجزهما إدموند دوتي.
وبرأي عبد الله حمودي، يمكن القول بأن إدموند دوتي لعب دورا هاما في
انتقال المدرسة الجزائرية إلى المغرب. وقد سبق لبول باسكون أن كشف عن بعض
الأدوار الخفية لمثل هؤلاء الإتنوغرافيينن إذ يذكر أن دوتي مثلا كتب
تقريرا سريا عن سبل اختراق الوضع السياسي في الحوز سنة 1907.
كانت البعثة العلمية تابعة لكرسي سوسيولوجيا العالم الإسلامي بـ:
Collège de France وقد أشرف على إدارتها Alfred Le Chatelier وهو أستاذ
السوسيولوجيا والسوسيوغرافيا الإسلامية.
كان من أبرز مهامها الاعتناء بكل ما يرتبط بما عرف في حينه بالشؤون
الإسلامية، وهي البعثة التي سيكون لـ«ليوطي» دور في توجيهها، مستفيدا في
ذلك مما راكمته تجربة الاحتلال الفرنسي للجزائر، وهو صاحب إيديولوجية
كراهية التسيير المباشر، والمعروف (باحترامه) للمؤسسات التقليدية:
الإسلام، المخزن، الطرق والزوايا ... هذه الإيديولوجيا سوف تنعكس على
التوجه (العلمي) للبعثة العلمية، ومعهد الدراسات العليا المغربية فيما
بعد.
وقد أوضح بورك، في سياق تناوله بالدراسة للبعثة العلمية، جملة من
الرهانات والتجاذبات التي رافقت تأسيس البعثة من خلال توصيف الصراع من أجل
السيطرة عليها، صراع بين الاتجاه الذي كان يمثله أتباع الجناح الاستعماري
التقليدي والجناح الاستعماري الجديد الذي كان يتبنى مذهبا مخالفا لأتباع
مدرسة الجزائر.
سوف يتغير اسم البعثة العلمية سنة 1920 ليصبح شعبة سوسيولوجيا الشؤون
الأهلية Section sociologique des Affaires indigènes هذه البعثة سوف يصبح
لها فيما بعد، وتحديدا سنة 1925، مسمى آخر هو: معهد الدراسات العليا
المغربية، L’Institut des Hautes Études Marocaines (IHEM) وهو المعهد
الذي توحدت فيه (البعثة العلمية و(المدرسة العليا للغة العربية واللهجات
البربرية) و(القسم السوسيولوجي).
وفي كل الأحوال كانت هذه المؤسسة خاضعة سياسيا لتوجيهات المقيم العام
الفرنسي، وإيديولوجيا لتوجيهات جورج هاردي، وقد أنتجت هذه المؤسسة أطلسين
حول المغرب، أطلس الأولياء والصلحاء والزوايا، وأطلس اللهجات المحلية.
د. محمد الغيلاني
* باحث في السوسيولوجيا
المساء
02/9/2008
ربيع- عدد الرسائل : 1432
العمر : 48
تاريخ التسجيل : 04/07/2008
تجربة البعثة العلمية ميشو بلير وروبير مونتاني
لعل أبرز محطة في تجربة البعثة العلمية هي تلك التي دشنها ميشو بلير Édouard Michaux-Bellaire (1857-1930), الذي تحمل مسؤولية إدارة البعثة سنة 1907، حيث كانت جهوده الشخصية ذات قيمة جوهرية في المشروع الكولونيالي خصوصا على مستوى إعداد المونوغرافيات. وقد عرفت البعثة تحت إدارته غزارة في الإنتاج، ويتعلق الأمر هنا بإعداد جملة من المصنفات والمحفوظات من قبيل:
مدن وقبائل المغرب
الأرشيفات المغربية
الأرشيفات البربرية
مجلة العالم الإسلامي، التي أسسها Le chatelier سنة 1906.
بالإضافة إلى ذلك لا شك في أهمية الدور الكبير لميشو بلير في رسم السياسات الأهلية للحماية والتي سيتم اعتمادها حتى ما بعد مرحلة الحرب العالمية الثانية. لقد كانت مقاربة ميشو بلير عبارة عن رصد إثنولوجي دقيق يعتني بجينيالوجيا الساكنة وتنقلاتها، وتنوع عاداتها وأعرافها وسلوكها الاقتصادي، وخاصة ما يتعلق بالتدبير الضريبي والعقاري، كما اعتنت أبحاثه بما يسمى الممرات السرية في التاريخ والذاكرة المغربية للعناصر ما قبل إسلامية، وخصوصا الممارسات الوثنية التي يعتقد أن الإسلام عجز عن تدميرها والقضاء عليها كلية. بالإضافة إلى ذلك عمدت بحوث ميشو بلير إلى صياغة المبررات الأخلاقية لتواجد الاحتلال الفرنسي كالتزام حضاري على عاتق فرنسا إزاء المغرب، لأنها ستجلب له الحضارة والتمدين والتقدم والحداثة.
عمدت البعثة العلمية إلى التعرف عن قرب على التنظيم السوسيوسياسي المغربي، وتمكين الاحتلال الفرنسي من معلومات ووثائق على درجة عالية من الأهمية والدقة. ويذكر عبد الكبير الخطيبي أن كما كبيرا من تلك الوثائق والأرشيفات تم ترحيلها قبيل خروج الفرنسيين من المغرب ما يحرم المؤرخ المغربي من كتابة تاريخ حقيقي عن بلده. لم تسع هذه الأبحاث في واقع الأمر سوى إلى تعبيد الطريق لاحتلال المغرب.
في مقال لـ: ميشو بلير تحت عنوان «السوسيولوجيا المغربية» يتحدث عن ثلاثة تصنيفات للسوسيولوجيا الخاصة بالمغرب، منها سوسيولوجيا المخزن والتي تهتم بدراسة مناطق سيطرة المخزن (التي تسمى بلاد الشرع)، والسوسيولوجيا الإسلامية وهي خاصة بالبحث في التعبيرات والأشكال الدينية الرسمية، ثم أخيرا السوسيولوجيا المغربية، والتي تأخذ على عاتقها مهمة الاعتناء بالقبائل البربرية مع رصد البقايا التعبدية الوثنية في الممارسة الدينية.
لقد كان ميشو بلير إضافة لذلك، أول من انتبه ودعا إلى توظيف الثنائية: العرب/البربر، وهي الثنائية التي استندت عليها الحماية لدعم تغلغلها، وتلك الأطروحة عرفت أوج تبلورها مع صدور الظهير البربري سنة 1930، كوسيلة للهيمنة الكولونيالية. هذه الثنائية ذات البعد العرقي ستأخذ أبعادا أخرى في أبحاث ميشو بلير وغيره من الباحثين الكولونياليين عندما بدأ الحديث عن بلاد السيبا وبلاد المخزن، والدعوة إلى المحافظة على هذه الثنائية في السياسية الكولونيالية لما لها من نتائج عميقة ومؤثرة في عمليات السيطرة الفرنسية على المجتمع وإضعاف الدولة وإنهاك قواها. وقد لعبت هذه السياسة دور كبيرا في اختراق الدولة المغربية أفقيا وتدريجيا عبر إعادة صياغة هياكلها وأجهزتها ونمط اشتغالها (سياسة المخزن)، فيما تعتني «سياسة القبيلة» بالرهان على تناقضات القوى المحلية لخلق قوى ورموز ترتبط مصالحهم بسلطة الاحتلال الفرنسي مباشرة، وفي الوقت نفسه تتناقض مع السلطة المركزية للدولة المغربية.
ساد تصور عرقي في مقاربة الاحتلال الفرنسي للمجتمع المغربي بناء على رؤية مثلت سلفا إيديولوجيا البعثة العلمية مقتضى هذا التصور، كما يبين ذلك تقرير تم تحريره سنة 1914، أنه ينبغي تفادي أسلمة وتعريب البربر وعلى السياسة الكولونيالية أن تعمل على إلحاقهم بالحضارة الغربية، وألا تسمح بتعزيز روابطهم بالثقافة الإسلامية (من ذلك ادعاء الخصوصية البربرية على مستوى ارتباط تشريعات القبائل البربرية بالقانون الروماني، كما تدعي ذلك أطروحة هانوطو ولوتورنو).
بناء على هذه الثنائيات التي تتحكم بالنظام الاجتماعي والسياسي المغربي سوف ينطلق عمل روبير مونتانيي Robert Montagne (1893-1954)، والذي كان مشرفا على القسم السابع المتخصص في الإثنولوجيا والسوسيولوجيا المغربية التابع لـ»معهد الدراسات العليا المغربية».
كلف مونتانيي (الذي كان ضابطا في المخابرات السياسية بالبحرية) من طرف ليوطي بدراسة أصول السلطة عند القياد الكبار ودراسة القبائل المتمردة في الجنوب المغربي، وهي قبائل معروفة بتنظيماتها المميزة والمحكمة، لقد كان روبير مونتانيي على دراية بوسائل الإخضاع التي طبقها على القبائل عن طريق فكرة التهدئة التي أثمرت نتائج تؤكد خبرة مونتانيي، كما كان له دور في محاربة ثورة الريف بزعامة محمد بن عبد الكريم الخطابي، وذلك من خلال مهامه الاستخباراتية.
يعد كتاب روبير مونتانيي «البربر والمخزن» أول دراسة سوسيولوجية ظهرت حول المغرب، وهي دراسة جاءت على خلفية سياسة الاحتلال الفرنسي لتقسيم المغرب في إطار ما عرف بـ»الظهير البربري»، وعلى العموم فهو في هذه الدراسة يجمع بين التفاصيل الأنتربولوجية والتعميمات التاريخية Robert Montagne ; Les Berbères et le Makhzen dans le sud du Maroc : essai sur la transformation politique des Berbères sédentaires, groupe chleuhe. Paris : Librairie Félix Alcan 1930، لذلك نلاحظ تزامنا كرونولوجيا بين الكتاب والظهير (1930). لقد كانت تلك السياسة تسعى إلى تقسيم المغرب بناء على معطيات اجتماعية انطلقت من اعتبار المناطق الخاضعة للشرع مناطق تابعة للمخزن، فيما المناطق الخاضعة للعرف، وهي مناطق بربرية، تابعة للمقيم العام الفرنسي.
في كتابه «البربر والمخزن» اهتم روبير مونتانيي بدراسة القبائل البربرية في منطقة سوس بالجنوب المغربي، ويمكن أن نسجل بخصوص هذه الدراسة استعمال الباحث في وصفه لواقع المنطقة لمفاهيم ذات وقع خاص كاستخدامه لـ»الجمهوريات البربرية» أو «الدولة البربرية الصغيرة»، كتعبير عن نمط المؤسسات السياسية والاجتماعية القائمة. كما اهتمت الدراسة بمسألة تداول السلطة داخل القبائل وسبل الهيمنة للحصول على الحظوة داخل المنطق القبلي التي تقود بدورها إلى التمثيل المزدوج لأمغار كزعيم للقبيلة وكـ»قايد يحوز على ثقة المخزن. لعل امتلاك الـ»أمغار» لسلطة ذات بعدين قبلية ومخزنية سيساهم في منح القائد موقعا تفاوضيا يجعل منه معادلة أساسية في كل من سياسة المخزن وسياسة الاحتلال الفرنسي، لذلك عملت السوسيولوجيا الكولونيالية على بلورة استراتيجيات الاختراق من خلال استخدام فرضية التعارض بين البربر والمخزن، والتي عكسها الظهير البربري كإيديولوجيا تتجاوز ذلك التعارض لتجعل منه تعارضا اجتماعيا وعرقيا وحضاريا بين العرب والبربر. لقد انخرطت السوسيولوجيا بحكم هذا الدور في مشروع عنصري يبرر تفكيك المقومات الحضارية للاستقرار الاجتماعي باستخدام المعرفة. ولذلك سوف تظهر فيما بعد دراسات «تطهرية» «ترد وتنتقد» هذا النوع من السوسيولوجيا، كما سنرى ذلك لاحقا مع جاك بيرك في دراسته «البنيات الاجتماعية في الأطلس الكبير».
برأي أرنست كلنرفإن، روبير مونتاني بدين في دراسته «البربر والمخزن» بشكل أساسي لماسكراي، كما يدين إيفانس بريتشارد لإميل دركايم، وسنعود إلى توضيح ذلك في سياق تناولنا للنظرية الانقسامية. اهتم روبير مونتانيي بآليات حفظ وصيانة النظام القبلي والدور الحاسم للوساطات، ثم زاد على ذلك بإثارته لمسألة تأرجح المجتمعات القبلية بين نمطين: نمط قائم على المساواة والمشاركة، وآخر يعتمد البروز المستمر لزعامات قوية، كما اعتنى بالقدر نفسه بعلاقة القبائل بالدولة وأدوار الأمغار، ويشير إرنست كلنر في هذا الخصوص بتأثر مونتانيي (وكذا ماسكراي) بابن خلدون، بل يدعي أنه امتداد فكري له، ويضيف أن مونتانيي بدوره أثر في عالم الأنتربولوجيا الأمريكي كارلتون كون الذي أثر بدوره في ديفيد هارت.
امتدت خبرة مونتانيي إلى مجالات أخرى، منها إشرافه على البحث الواسع الذي تناول نشأة البروليتاريا المغربية بين 1948 و1950، Montagne R. Naissance du prolétariat marocaine : Enquête collective, 1948-1950 (Paris : Peyronnet 1951)، وهو البحث الذي أبرز تصاعد مد الهجرة القروية باتجاه المدن والذي واكبه اتساع رقعة المجال الحضري الذي يعتقد مونتانيي أنه الآلية الفعالة لتجدر وتعميم النظام الكولونيالي ضدا على النخب المثقفة والبورجوازية التقليدية، وكان المستهدف من ذلك إعاقة نمو الحركة الوطنية المغربية.
مثل روبير مونتانيي قمة الإثنوغرافيا الكولونيالية الفرنسية وكذلك قمة السوسيولوجيا في المغرب، واختلطت أفكاره بموقفه السياسي. ففي كتابه «الثورة في المغرب» الذي أنجزه قبيل وفاته توقع مونتانيي نكوص النزعة القومية المغربية، غير أن الأحداث المتوالية جعلت توقعاته في غير محلها. لكن بالرغم من ذلك لا يمكن أن ننكر، برأي أرنست كلنر، صحة تحاليله، حيث إنه استعمل العوامل الصحيحة ليستنتج خلاصات خاطئة. فـ: مونتانيي يعتبر أن القوميين المغاربة المؤدلجين فشلوا لأنهم تجاهلوا الواقع الاجتماعي للبادية المغربية. ويقول كلنر بهذا الخصوص إن إعادة صياغة سؤال مونتانيي بطريقة أخرى ستجعلنا نقول: لماذا كانت السلطة المركزية التقليدية قادرة على السيطرة على الراديكاليين اليساريين؟ يوجد في كتاب مونتانيي الكثير للجواب عن هذا السؤال.
تندرج الأبحاث السوسيولوجية الكولونيالية ضمن نمطين رئيسيين:
اتجاه الدراسات السوسيولوجية العرقية.
اتجاه الدراسات السوسيولوجية للتحولات الاجتماعية في المدن المغربية (دراسة الطبقات والنخب).
الاتجاه الأول كان أيسر ونتائجه شبه مضمونة، لأن أرضيته جاهزة للاستعمال والتوظيف، فيما الاتجاه الثاني كان يتطلب جهودا إضافية على مستوى نشر التعليم والدفع بعجلة التصنيع، وهي التكاليف التي لم يكن الاحتلال الفرنسي على استعداد لتحمل أعبائها.
مدن وقبائل المغرب
الأرشيفات المغربية
الأرشيفات البربرية
مجلة العالم الإسلامي، التي أسسها Le chatelier سنة 1906.
بالإضافة إلى ذلك لا شك في أهمية الدور الكبير لميشو بلير في رسم السياسات الأهلية للحماية والتي سيتم اعتمادها حتى ما بعد مرحلة الحرب العالمية الثانية. لقد كانت مقاربة ميشو بلير عبارة عن رصد إثنولوجي دقيق يعتني بجينيالوجيا الساكنة وتنقلاتها، وتنوع عاداتها وأعرافها وسلوكها الاقتصادي، وخاصة ما يتعلق بالتدبير الضريبي والعقاري، كما اعتنت أبحاثه بما يسمى الممرات السرية في التاريخ والذاكرة المغربية للعناصر ما قبل إسلامية، وخصوصا الممارسات الوثنية التي يعتقد أن الإسلام عجز عن تدميرها والقضاء عليها كلية. بالإضافة إلى ذلك عمدت بحوث ميشو بلير إلى صياغة المبررات الأخلاقية لتواجد الاحتلال الفرنسي كالتزام حضاري على عاتق فرنسا إزاء المغرب، لأنها ستجلب له الحضارة والتمدين والتقدم والحداثة.
عمدت البعثة العلمية إلى التعرف عن قرب على التنظيم السوسيوسياسي المغربي، وتمكين الاحتلال الفرنسي من معلومات ووثائق على درجة عالية من الأهمية والدقة. ويذكر عبد الكبير الخطيبي أن كما كبيرا من تلك الوثائق والأرشيفات تم ترحيلها قبيل خروج الفرنسيين من المغرب ما يحرم المؤرخ المغربي من كتابة تاريخ حقيقي عن بلده. لم تسع هذه الأبحاث في واقع الأمر سوى إلى تعبيد الطريق لاحتلال المغرب.
في مقال لـ: ميشو بلير تحت عنوان «السوسيولوجيا المغربية» يتحدث عن ثلاثة تصنيفات للسوسيولوجيا الخاصة بالمغرب، منها سوسيولوجيا المخزن والتي تهتم بدراسة مناطق سيطرة المخزن (التي تسمى بلاد الشرع)، والسوسيولوجيا الإسلامية وهي خاصة بالبحث في التعبيرات والأشكال الدينية الرسمية، ثم أخيرا السوسيولوجيا المغربية، والتي تأخذ على عاتقها مهمة الاعتناء بالقبائل البربرية مع رصد البقايا التعبدية الوثنية في الممارسة الدينية.
لقد كان ميشو بلير إضافة لذلك، أول من انتبه ودعا إلى توظيف الثنائية: العرب/البربر، وهي الثنائية التي استندت عليها الحماية لدعم تغلغلها، وتلك الأطروحة عرفت أوج تبلورها مع صدور الظهير البربري سنة 1930، كوسيلة للهيمنة الكولونيالية. هذه الثنائية ذات البعد العرقي ستأخذ أبعادا أخرى في أبحاث ميشو بلير وغيره من الباحثين الكولونياليين عندما بدأ الحديث عن بلاد السيبا وبلاد المخزن، والدعوة إلى المحافظة على هذه الثنائية في السياسية الكولونيالية لما لها من نتائج عميقة ومؤثرة في عمليات السيطرة الفرنسية على المجتمع وإضعاف الدولة وإنهاك قواها. وقد لعبت هذه السياسة دور كبيرا في اختراق الدولة المغربية أفقيا وتدريجيا عبر إعادة صياغة هياكلها وأجهزتها ونمط اشتغالها (سياسة المخزن)، فيما تعتني «سياسة القبيلة» بالرهان على تناقضات القوى المحلية لخلق قوى ورموز ترتبط مصالحهم بسلطة الاحتلال الفرنسي مباشرة، وفي الوقت نفسه تتناقض مع السلطة المركزية للدولة المغربية.
ساد تصور عرقي في مقاربة الاحتلال الفرنسي للمجتمع المغربي بناء على رؤية مثلت سلفا إيديولوجيا البعثة العلمية مقتضى هذا التصور، كما يبين ذلك تقرير تم تحريره سنة 1914، أنه ينبغي تفادي أسلمة وتعريب البربر وعلى السياسة الكولونيالية أن تعمل على إلحاقهم بالحضارة الغربية، وألا تسمح بتعزيز روابطهم بالثقافة الإسلامية (من ذلك ادعاء الخصوصية البربرية على مستوى ارتباط تشريعات القبائل البربرية بالقانون الروماني، كما تدعي ذلك أطروحة هانوطو ولوتورنو).
بناء على هذه الثنائيات التي تتحكم بالنظام الاجتماعي والسياسي المغربي سوف ينطلق عمل روبير مونتانيي Robert Montagne (1893-1954)، والذي كان مشرفا على القسم السابع المتخصص في الإثنولوجيا والسوسيولوجيا المغربية التابع لـ»معهد الدراسات العليا المغربية».
كلف مونتانيي (الذي كان ضابطا في المخابرات السياسية بالبحرية) من طرف ليوطي بدراسة أصول السلطة عند القياد الكبار ودراسة القبائل المتمردة في الجنوب المغربي، وهي قبائل معروفة بتنظيماتها المميزة والمحكمة، لقد كان روبير مونتانيي على دراية بوسائل الإخضاع التي طبقها على القبائل عن طريق فكرة التهدئة التي أثمرت نتائج تؤكد خبرة مونتانيي، كما كان له دور في محاربة ثورة الريف بزعامة محمد بن عبد الكريم الخطابي، وذلك من خلال مهامه الاستخباراتية.
يعد كتاب روبير مونتانيي «البربر والمخزن» أول دراسة سوسيولوجية ظهرت حول المغرب، وهي دراسة جاءت على خلفية سياسة الاحتلال الفرنسي لتقسيم المغرب في إطار ما عرف بـ»الظهير البربري»، وعلى العموم فهو في هذه الدراسة يجمع بين التفاصيل الأنتربولوجية والتعميمات التاريخية Robert Montagne ; Les Berbères et le Makhzen dans le sud du Maroc : essai sur la transformation politique des Berbères sédentaires, groupe chleuhe. Paris : Librairie Félix Alcan 1930، لذلك نلاحظ تزامنا كرونولوجيا بين الكتاب والظهير (1930). لقد كانت تلك السياسة تسعى إلى تقسيم المغرب بناء على معطيات اجتماعية انطلقت من اعتبار المناطق الخاضعة للشرع مناطق تابعة للمخزن، فيما المناطق الخاضعة للعرف، وهي مناطق بربرية، تابعة للمقيم العام الفرنسي.
في كتابه «البربر والمخزن» اهتم روبير مونتانيي بدراسة القبائل البربرية في منطقة سوس بالجنوب المغربي، ويمكن أن نسجل بخصوص هذه الدراسة استعمال الباحث في وصفه لواقع المنطقة لمفاهيم ذات وقع خاص كاستخدامه لـ»الجمهوريات البربرية» أو «الدولة البربرية الصغيرة»، كتعبير عن نمط المؤسسات السياسية والاجتماعية القائمة. كما اهتمت الدراسة بمسألة تداول السلطة داخل القبائل وسبل الهيمنة للحصول على الحظوة داخل المنطق القبلي التي تقود بدورها إلى التمثيل المزدوج لأمغار كزعيم للقبيلة وكـ»قايد يحوز على ثقة المخزن. لعل امتلاك الـ»أمغار» لسلطة ذات بعدين قبلية ومخزنية سيساهم في منح القائد موقعا تفاوضيا يجعل منه معادلة أساسية في كل من سياسة المخزن وسياسة الاحتلال الفرنسي، لذلك عملت السوسيولوجيا الكولونيالية على بلورة استراتيجيات الاختراق من خلال استخدام فرضية التعارض بين البربر والمخزن، والتي عكسها الظهير البربري كإيديولوجيا تتجاوز ذلك التعارض لتجعل منه تعارضا اجتماعيا وعرقيا وحضاريا بين العرب والبربر. لقد انخرطت السوسيولوجيا بحكم هذا الدور في مشروع عنصري يبرر تفكيك المقومات الحضارية للاستقرار الاجتماعي باستخدام المعرفة. ولذلك سوف تظهر فيما بعد دراسات «تطهرية» «ترد وتنتقد» هذا النوع من السوسيولوجيا، كما سنرى ذلك لاحقا مع جاك بيرك في دراسته «البنيات الاجتماعية في الأطلس الكبير».
برأي أرنست كلنرفإن، روبير مونتاني بدين في دراسته «البربر والمخزن» بشكل أساسي لماسكراي، كما يدين إيفانس بريتشارد لإميل دركايم، وسنعود إلى توضيح ذلك في سياق تناولنا للنظرية الانقسامية. اهتم روبير مونتانيي بآليات حفظ وصيانة النظام القبلي والدور الحاسم للوساطات، ثم زاد على ذلك بإثارته لمسألة تأرجح المجتمعات القبلية بين نمطين: نمط قائم على المساواة والمشاركة، وآخر يعتمد البروز المستمر لزعامات قوية، كما اعتنى بالقدر نفسه بعلاقة القبائل بالدولة وأدوار الأمغار، ويشير إرنست كلنر في هذا الخصوص بتأثر مونتانيي (وكذا ماسكراي) بابن خلدون، بل يدعي أنه امتداد فكري له، ويضيف أن مونتانيي بدوره أثر في عالم الأنتربولوجيا الأمريكي كارلتون كون الذي أثر بدوره في ديفيد هارت.
امتدت خبرة مونتانيي إلى مجالات أخرى، منها إشرافه على البحث الواسع الذي تناول نشأة البروليتاريا المغربية بين 1948 و1950، Montagne R. Naissance du prolétariat marocaine : Enquête collective, 1948-1950 (Paris : Peyronnet 1951)، وهو البحث الذي أبرز تصاعد مد الهجرة القروية باتجاه المدن والذي واكبه اتساع رقعة المجال الحضري الذي يعتقد مونتانيي أنه الآلية الفعالة لتجدر وتعميم النظام الكولونيالي ضدا على النخب المثقفة والبورجوازية التقليدية، وكان المستهدف من ذلك إعاقة نمو الحركة الوطنية المغربية.
مثل روبير مونتانيي قمة الإثنوغرافيا الكولونيالية الفرنسية وكذلك قمة السوسيولوجيا في المغرب، واختلطت أفكاره بموقفه السياسي. ففي كتابه «الثورة في المغرب» الذي أنجزه قبيل وفاته توقع مونتانيي نكوص النزعة القومية المغربية، غير أن الأحداث المتوالية جعلت توقعاته في غير محلها. لكن بالرغم من ذلك لا يمكن أن ننكر، برأي أرنست كلنر، صحة تحاليله، حيث إنه استعمل العوامل الصحيحة ليستنتج خلاصات خاطئة. فـ: مونتانيي يعتبر أن القوميين المغاربة المؤدلجين فشلوا لأنهم تجاهلوا الواقع الاجتماعي للبادية المغربية. ويقول كلنر بهذا الخصوص إن إعادة صياغة سؤال مونتانيي بطريقة أخرى ستجعلنا نقول: لماذا كانت السلطة المركزية التقليدية قادرة على السيطرة على الراديكاليين اليساريين؟ يوجد في كتاب مونتانيي الكثير للجواب عن هذا السؤال.
تندرج الأبحاث السوسيولوجية الكولونيالية ضمن نمطين رئيسيين:
اتجاه الدراسات السوسيولوجية العرقية.
اتجاه الدراسات السوسيولوجية للتحولات الاجتماعية في المدن المغربية (دراسة الطبقات والنخب).
الاتجاه الأول كان أيسر ونتائجه شبه مضمونة، لأن أرضيته جاهزة للاستعمال والتوظيف، فيما الاتجاه الثاني كان يتطلب جهودا إضافية على مستوى نشر التعليم والدفع بعجلة التصنيع، وهي التكاليف التي لم يكن الاحتلال الفرنسي على استعداد لتحمل أعبائها.
د.محمد الغيلاني
* باحث في السوسيولوجيا
المساء
03/9/2008
ربيع- عدد الرسائل : 1432
العمر : 48
تاريخ التسجيل : 04/07/2008
نقد السوسيولوجيا الكولونيالية
يمكن اعتبار البحث الذي أنجزه جاك بيرك (1910-1995) تحت عنوان: «البنيات الاجتماعية في الأطلس الكبير»، ردا على الأبحاث الكولونيالية ونوعا من التبرؤ من «تدنيس» السوسيولوجيا الذي قام به سوسيولوجيو الاحتلال الفرنسي. لقد قام في هذه الدراسة بإعادة النظر في روابط الشرع بالعرف، كما قام بافتحاص تلك العلاقة، مبرزا طبيعتها التجاذبية وعجز السوسيولوجيا الكولونيالية عن استيعاب وفهم تلك الطبيعة. إذ حاول جاك بيرك التشكيك في كل خلاصات وفرضيات السوسيولوجيا الكولونيالية انطلاقا من إعادة صياغة مفهوم القبيلة وانتماءاتها القرابية (مفهوم الجد المشترك كمفهوم وهمي)، وانطلاقا أيضا من علاقة الاقتصادي بالاجتماعي، نافيا بذلك مركزية السياسي كما كانت تدعي السوسيولوجيا الكولونيالية.
لقد حاول جاك بيرك أن يمارس نقدا ذاتيا للسوسيولوجيا الكولونيالية، وأن يدشن البدايات الأولى لتقويم وتقييم النماذج التحليلية لذلك الإرث السوسيولوجي المرتبط بمرحلة تاريخية سيئة الذكر. ففي كتابه الصادر عشية زوال الاحتلال الفرنسي، ركز بيرك على عمليات التحديث التي عرفتها شريحة الفلاحين، أي تجربة التنمية القروية، وهذه الملاحظات مستلهمة من محصلة سوسيولوجية تعترف بأهمية وحيوية الجماعات القروية ومحصلة من الرهان على المكننة الزراعية. يمكن تصنيف جاك بيرك ضمن الباحثين الذين سعوا إلى تأسيس أنتربولوجيا بمضمون يقطع مع كل النماذج النظرية للسوسيولوجيا الكولونيالية، ويمكن إدراج بحثه المعنون بـ«ماذا تعني قبيلة شمال إفريقية؟» (صدر حوالي سنة 1953، وقد ترجم هذا النص ونشر تحت عنوان «في مدلول القبيلة بشمال إفريقيا») ضمن سلسلة من الأبحاث التي تبنت هذا المنهج. ففي النص الذي ألفه حول معنى القبيلة، خلص جاك بيرك إلى اعتبار القبيلة ظاهرة ثانوية، ما يفسر القطائع التي تكتنف سيرورتها ويعيق بالتالي فهمها. Berque J., 1953, Qu’est-ce qu’une tribu nord-africaine ? in Collectif, Hommage à Lucien Febvre, Paris, Armand Colin, 261-271.
يمكن اعتبار هذه الدراسة كسؤال كبير موجه إلى السوسيولوجيا الكولونيالية وتحديدا إلى روبير مونتانيي. يكشف من خلاله عن الأهداف الحقيقية للدراسات الكولونيالية وارتباطاتها بسياسة الاحتلال، ويسائل المعرفة الكولونيالية برمتها.
كما يمكن النظر إلى هذه الدراسة بوصفها عملا بحثيا ونموذجا تحليليا جديدا سيدشن لأنتربولوجيا أنجلوسكسونية حول المغرب الذي أصبح بلدا يستقطب اهتمام باحثين أنجلوسكسونيين منذ سنة 1960.
في أواخر الخمسينيات وعلى مشارف الستينيات، بدأ البحث السوسيولوجي الفرنسي يهتم أساسا بالتحولات الاجتماعية التي قادت إلى بروز المدن كوجهة استقطاب بفعل احتضانها لنمط جديد من الإنتاج الاقتصادي والصناعي والقيمي، فعملت بعض الدراسات على متابعة تلك التحولات وما رافقها من ظواهر اجتماعية جديدة في المجتمع المغربي كـ: الهجرة، العمال، المدن الهامشية (مدن القصدير)، في هذا الصدد لابد من الإشارة إلى أعمال أندري آدم، جاك بيرك وغيرهما.
بموازاة ذلك، وفي الفترة التاريخية نفسها (1960)، سوف تبدأ السوسيولوجيا الأنجلوسكسونية في اكتشاف المجتمع المغربي من خلال استخدام فرضيات وأطر تحليلية تنتمي إلى الأطروحة الانقسامية، والتي سنتناولها في هذه الدراسة لاحقا.
منذ البداية، برغم هذا الرصيد الضخم من الأبحاث والدراسات، لم تعمل البعثات العلمية الفرنسية على أن تجعل من أهدافها تعميم المعرفة الاجتماعية على المغاربة، كما أنها لم تساعد على تكوين أطر محلية وتأطيرها علميا وأكاديميا من خلال إعطائها الفرصة للمشاركة والمساهمة في ما كانت تنجزه من أبحاث ميدانية وتعده من تقارير حول المجتمع المغربي، وبهذا المعنى فقد حرصت هذه البعثات وغيرها من المعاهد والمؤسسات التي اعتمدها الاحتلال الفرنسي على عدم إشراك المغاربة أو مساعدتهم على تأسيس مدرسة سوسيولوجية مغربية، مع أن هذا يفترض أن يكون على قائمة الأهداف التي تساعد المجتمع على الرقي والتحضر الذي بشرت به فرنسا المغاربة. لقد كان يتم تحويل كل معطيات البحوث والتحقيقات السوسيولوجية والإثنوغرافية والأنتربولوجية باتجاه المركز أي فرنسا، من دون أن يستفيد المغاربة منها. سوف يخلق هذا الوضع فيما بعد مفارقة معقدة، إذ سيجد المغاربة أنفسهم، وخاصة الباحثين في العلوم الاجتماعية لما بعد المرحلة الفرنسية، أمام إرث كولونيالي ضخم لم يساهموا فيه ولم يشاركوا في وضع توجهاته وبناء أطروحاته، فبقدر ما مثل الإرث الكولونيالي في مجال البحث الاجتماعي رصيدا معرفيا لا يمكن تجاوزه، كان هذا الإرث إعاقة إضافية لنشأة طبيعية لمدرسة مغربية في التفكير والتنظير الاجتماعيين، وعلى العموم كان على السوسيولوجيين المغاربة أن يبذلوا جهودا في مجال التكوين لخلق جيل من الباحثين المتمكنين في مجال البحث العلمي الاجتماعي، وهو ما بقي رهانا يواجه حتى هذه اللحظة صعوبات إن لم نقل إخفاقات.
لقد كان الاحتلال الفرنسي يدرك جيدا أن تمكين المغاربة من أدوات المعرفة السوسيولوجية يعني تمكينهم من سلاح معرفي نقدي سوف ترتد مفاعيله على سياسات الاحتلال، وهو ما كان يخشاه الفرنسيون.
وجد الجيل الأول من السوسيولوجيين المغاربة أنفسهم أمام هذه المفارقة: كيف التعامل مع هذا الكم الهائل من المعارف والمعطيات التي اهتمت بالمجتمع وهي الآن تفرض نفسها بإلحاح كما لو أنها تمثل معرفة مشتبه في صدقية أطروحاتها. لقد هيمن هاجس هذه المعرفة على السوسيولوجيين المغاربة لتحفظهم على كونها معرفة قد تحول دون فهم دقيق وصحيح لمجتمعهم، ولذلك نجد أن قدرا مهما من الأبحاث التي قدمها هؤلاء بقيت لمدة من الزمن تحاور وتسائل وتنتقد الإرث السوسيولوجي الكولونيالي. ولذلك، وبرغم العامل الزمني، مازال سؤال القطيعة المعرفية يفرض نفسه على السوسيولوجيا المغربية إزاء نظيرتها الكولونيالية.
لم تترك فرنسا وراءها جامعات أو مراكز بحث أو ما شابه، ولم تعمل على تكوين المغاربة وتدريبهم على مناهج البحث في ميدان العلوم الاجتماعية، فقط المبادرات الذاتية المنفلتة من قيود الإرث الكولونيالي والمناهضة له وحدها من تكفلت بعناء التأسيس لما يمكن أن نطلق عليه مدرسة سوسيولوجية مغربية.
د. محمد الغيلاني
* باحث في السوسيولوجيا
المساء
04/9/2008
لقد حاول جاك بيرك أن يمارس نقدا ذاتيا للسوسيولوجيا الكولونيالية، وأن يدشن البدايات الأولى لتقويم وتقييم النماذج التحليلية لذلك الإرث السوسيولوجي المرتبط بمرحلة تاريخية سيئة الذكر. ففي كتابه الصادر عشية زوال الاحتلال الفرنسي، ركز بيرك على عمليات التحديث التي عرفتها شريحة الفلاحين، أي تجربة التنمية القروية، وهذه الملاحظات مستلهمة من محصلة سوسيولوجية تعترف بأهمية وحيوية الجماعات القروية ومحصلة من الرهان على المكننة الزراعية. يمكن تصنيف جاك بيرك ضمن الباحثين الذين سعوا إلى تأسيس أنتربولوجيا بمضمون يقطع مع كل النماذج النظرية للسوسيولوجيا الكولونيالية، ويمكن إدراج بحثه المعنون بـ«ماذا تعني قبيلة شمال إفريقية؟» (صدر حوالي سنة 1953، وقد ترجم هذا النص ونشر تحت عنوان «في مدلول القبيلة بشمال إفريقيا») ضمن سلسلة من الأبحاث التي تبنت هذا المنهج. ففي النص الذي ألفه حول معنى القبيلة، خلص جاك بيرك إلى اعتبار القبيلة ظاهرة ثانوية، ما يفسر القطائع التي تكتنف سيرورتها ويعيق بالتالي فهمها. Berque J., 1953, Qu’est-ce qu’une tribu nord-africaine ? in Collectif, Hommage à Lucien Febvre, Paris, Armand Colin, 261-271.
يمكن اعتبار هذه الدراسة كسؤال كبير موجه إلى السوسيولوجيا الكولونيالية وتحديدا إلى روبير مونتانيي. يكشف من خلاله عن الأهداف الحقيقية للدراسات الكولونيالية وارتباطاتها بسياسة الاحتلال، ويسائل المعرفة الكولونيالية برمتها.
كما يمكن النظر إلى هذه الدراسة بوصفها عملا بحثيا ونموذجا تحليليا جديدا سيدشن لأنتربولوجيا أنجلوسكسونية حول المغرب الذي أصبح بلدا يستقطب اهتمام باحثين أنجلوسكسونيين منذ سنة 1960.
في أواخر الخمسينيات وعلى مشارف الستينيات، بدأ البحث السوسيولوجي الفرنسي يهتم أساسا بالتحولات الاجتماعية التي قادت إلى بروز المدن كوجهة استقطاب بفعل احتضانها لنمط جديد من الإنتاج الاقتصادي والصناعي والقيمي، فعملت بعض الدراسات على متابعة تلك التحولات وما رافقها من ظواهر اجتماعية جديدة في المجتمع المغربي كـ: الهجرة، العمال، المدن الهامشية (مدن القصدير)، في هذا الصدد لابد من الإشارة إلى أعمال أندري آدم، جاك بيرك وغيرهما.
بموازاة ذلك، وفي الفترة التاريخية نفسها (1960)، سوف تبدأ السوسيولوجيا الأنجلوسكسونية في اكتشاف المجتمع المغربي من خلال استخدام فرضيات وأطر تحليلية تنتمي إلى الأطروحة الانقسامية، والتي سنتناولها في هذه الدراسة لاحقا.
منذ البداية، برغم هذا الرصيد الضخم من الأبحاث والدراسات، لم تعمل البعثات العلمية الفرنسية على أن تجعل من أهدافها تعميم المعرفة الاجتماعية على المغاربة، كما أنها لم تساعد على تكوين أطر محلية وتأطيرها علميا وأكاديميا من خلال إعطائها الفرصة للمشاركة والمساهمة في ما كانت تنجزه من أبحاث ميدانية وتعده من تقارير حول المجتمع المغربي، وبهذا المعنى فقد حرصت هذه البعثات وغيرها من المعاهد والمؤسسات التي اعتمدها الاحتلال الفرنسي على عدم إشراك المغاربة أو مساعدتهم على تأسيس مدرسة سوسيولوجية مغربية، مع أن هذا يفترض أن يكون على قائمة الأهداف التي تساعد المجتمع على الرقي والتحضر الذي بشرت به فرنسا المغاربة. لقد كان يتم تحويل كل معطيات البحوث والتحقيقات السوسيولوجية والإثنوغرافية والأنتربولوجية باتجاه المركز أي فرنسا، من دون أن يستفيد المغاربة منها. سوف يخلق هذا الوضع فيما بعد مفارقة معقدة، إذ سيجد المغاربة أنفسهم، وخاصة الباحثين في العلوم الاجتماعية لما بعد المرحلة الفرنسية، أمام إرث كولونيالي ضخم لم يساهموا فيه ولم يشاركوا في وضع توجهاته وبناء أطروحاته، فبقدر ما مثل الإرث الكولونيالي في مجال البحث الاجتماعي رصيدا معرفيا لا يمكن تجاوزه، كان هذا الإرث إعاقة إضافية لنشأة طبيعية لمدرسة مغربية في التفكير والتنظير الاجتماعيين، وعلى العموم كان على السوسيولوجيين المغاربة أن يبذلوا جهودا في مجال التكوين لخلق جيل من الباحثين المتمكنين في مجال البحث العلمي الاجتماعي، وهو ما بقي رهانا يواجه حتى هذه اللحظة صعوبات إن لم نقل إخفاقات.
لقد كان الاحتلال الفرنسي يدرك جيدا أن تمكين المغاربة من أدوات المعرفة السوسيولوجية يعني تمكينهم من سلاح معرفي نقدي سوف ترتد مفاعيله على سياسات الاحتلال، وهو ما كان يخشاه الفرنسيون.
وجد الجيل الأول من السوسيولوجيين المغاربة أنفسهم أمام هذه المفارقة: كيف التعامل مع هذا الكم الهائل من المعارف والمعطيات التي اهتمت بالمجتمع وهي الآن تفرض نفسها بإلحاح كما لو أنها تمثل معرفة مشتبه في صدقية أطروحاتها. لقد هيمن هاجس هذه المعرفة على السوسيولوجيين المغاربة لتحفظهم على كونها معرفة قد تحول دون فهم دقيق وصحيح لمجتمعهم، ولذلك نجد أن قدرا مهما من الأبحاث التي قدمها هؤلاء بقيت لمدة من الزمن تحاور وتسائل وتنتقد الإرث السوسيولوجي الكولونيالي. ولذلك، وبرغم العامل الزمني، مازال سؤال القطيعة المعرفية يفرض نفسه على السوسيولوجيا المغربية إزاء نظيرتها الكولونيالية.
لم تترك فرنسا وراءها جامعات أو مراكز بحث أو ما شابه، ولم تعمل على تكوين المغاربة وتدريبهم على مناهج البحث في ميدان العلوم الاجتماعية، فقط المبادرات الذاتية المنفلتة من قيود الإرث الكولونيالي والمناهضة له وحدها من تكفلت بعناء التأسيس لما يمكن أن نطلق عليه مدرسة سوسيولوجية مغربية.
د. محمد الغيلاني
* باحث في السوسيولوجيا
المساء
04/9/2008
ربيع- عدد الرسائل : 1432
العمر : 48
تاريخ التسجيل : 04/07/2008
السوسيولوجيا والإيديولوجيا: الانـقـسـامـيـة ومـنـتـقـدوها
(إن المــــــــــدرســــــــــة الأنجلوسكسونية لا تعد سوى إعادة صياغة
لنتائج سابقة لا يزال البعض منها في حاجة إلى المزيد من التحري والإثبات:
فالانقسامية مصطلح جديد لديمقراطية مونطاني، والهامشية اسم جديد لعملية
الانزواء التاريخي التي وصفها بيرك. فهي طفيلية... وأهم سؤال يمكن طرحه
بصددها هو حول مدى قدرتها على المساهمة في إبداع فهم أفضل للمجتمع
المغربي، والإجابة السلبية عن هذا السؤال لا شك فيها)
عبد الله العروي.
تميزت نهاية الستينيات وبداية السبعينيات بعودة قوية إلى رؤية
واهتمام الآخر لكن هذه المرة -وبخلاف الآخر الكولونيالي- جاء التعاطي
الجديد بخلفيات ورهانات مختلفة تماما. وقد كانت هذه العودة في أجواء
سياسية عرفت بهيمنة الهاجس الأمني لدى السلطات، غير أن المفارقة تمثلت في
السماح لبعض الأنتربولوجيين بإجراء بحوثهم الميدانية، حتى إن ريمي لوفو
يذكر أن الجنرال أفقير نفسه، وزير الداخلية آنذاك، منح تراخيص لإجراء بعض
البحوث.
على العموم اتخذ الأنتربولوجيون الأنجلوسكسونيون على عاتقهم تطبيق
بعض النظريات التي تبلورت لديهم من خلال تجاربهم الميدانية. قاد هذه
الرؤية ثلة من الباحثين الأنجلوسكسونيين نذكر منهم: Ernest Gellner,
Clifford Geertz, William Zartman, David Hart, John Waterbury, Dale
Eickelmann
يعتقد البعض أن المدرسة الأنجلوسكسونية حاولت أن تعيد الاعتبار إلى
«الجرأة النظرية التي عبر عنها روبير مونتاني»، كما ادعت أنها تريد
التمييز بين الموقف الإيديولوجي والموقف العلمي الكامن في ذلك الإرث
الكولونيالي.
سوف يجعل هؤلاء الباحثين من المجتمع المغربي ورشا مميزا لاختبار
فرضيات الأنتربولوجيا الانقسامية. ويمكن اعتبار كتاب إرنست كلنر: «صلحاء
الأطلس» المنشور سنة 1969 بجامعة شيغاغو عينة تمثيلية لهذا النمط والاتجاه
من الدراسات. (دراسة اهتمت بقبائل الأطلس الكبير والأوسط وبدور زاوية
أحنصال وهي في الأصل أطروحة دكتوراه كان عنوانها الأصلي: تنظيم ودورزاوية
بربرية 1961). Ernest Gellner, Saint of Atlas. London/Chicago 1969.
لقد تمت الاستعانة بالأنتربولوجيا الانقسامية لتطبيق أطرها النظرية
في المجتمع البربري بعد أن تم استلهام نماذج منها طبقت على قبيلة
النويرالنيلية بالسودان وبدو ليبيا من قبل Evans-Pritchard. ولعل من
«حسنات» هذا التوجه في البحث الاجتماعي استقطابه لباحثين مغاربة سينفتحون
لأول مرة على المدرسة الأنجلوسكسونية في التفكير السوسيولوجي
والأنتربولوجي، وخصوصا الاتجاه نحو الجامعات الأمريكية.
أرنست غلنر (1925- 1995).
يعد غلنر من المساهمين في نظريات العلوم الاجتماعية حول الإسلام
والعالم الإسلامي. غير أن المغرب مثل حقل اختبار تلك النظريات والفرضيات
التي اشتغل عليها إرنست غلنر.
يقارب غلنر في أبحاثه حول المجتمع الإسلامي الكيفيات التي يتعايش بها
ومعها المجتمع مع الدين، معتمدا في ذلك على سلوك المجتمع وحياته اليومية
وروابطه الداخلية، وتحديدا على الدورة اليومية للحياة الدينية، أكثر من
الاعتماد على النصوص، مستنتجا الفروق الكبيرة لتلك الحياة الدينية
بالمقارنة مع بيئة وجوده (القبيلة والمدينة).
وتقوم ملاحظة غلنر الأساسية على اعتبار القبيلة بوصفها مجتمعا
تقليديا تتفوق باستمرار على الدولة القائمة في بيئة مدينية، مبررا ذلك
باللجوء الكثيف إلى القداسة، مستلهما في ذلك بعض الجوانب التحليلية من ابن
خلدون، وبالاعتماد على رؤية بريتشارد حول دور المقدس في صيانة النظام
القبلي من خلال نظام اجتماعي مؤسس على النسب.
أرنست غلنر يفسر المقاربة الخلدونية للمجتمع وكيف استعيد ابن خلدون
من قبل كبار السوسيولوجيين الأوروبيين الذين استلهموا منه أفكارهم.
فمن خلال أعمال ابن خلدون يمكن فهم المجتمع المحلي التقليدي على أنه
تكتلات عضوية تتداخل نشاطاتها وتتميز بتوليد الشعور بالتضامن، فيما
المجتمع الحديث قائم على الارتباط العضوي الحر لأشخاص أحرار على أساس عقود
اختيارية تم التفاوض بشأنها مسبقا لتحقيق أهداف واضحة على أسس عقلانية.
يقول غلنر إن ابن خلدون اهتم بهذه الثنائية بطريقة مختلفة، حيث اعتبر
الصيغتين ضروريتين للاجتماع البشري، وعليه فإن وجودهما معا ضروري
باعتبارهما تعبيرا طبيعيا عن نمطين من الحياة الاجتماعية، نمط المجتمع
المغلق ونمط المجتمع المفتوح.
يتسم المجتمع المحلي المتماسك الريفي البسيط بإدارة ذاتية مستقلة.
حيث الولاء الداخلي قوي في غياب سلطة مركزية تضمن الأمن. هذا النوع من
المجتمع يحتاج إلى التماسك ليضمن بقاءه، وقد يساعدهم ذلك على إنتاج حكم
ذاتي قوي أو يمهد لهم الشروط لحكم الآخرين.
بهذا المعنى، فإن القبيلة هي مدرسة الفضيلة السياسية، وإن غياب التخصص هو النتيجة التابعة لتلك الفضيلة السياسية.
فأعضاء القبيلة موحدون لأنهم متشابهون ولا يثقون في غيرهم، بسبب
اختلافهم عنهم، هذا النمط من التضامن القائم على التشابه سيسميه فيما بعد
دوركايم: التضامن الآلي.
ويرى غلنر في سياق تأويله لابن خلدون أن هذا النوع من المجتمعات عاجز
عن إنتاج الشروط المادية والثقافية اللازمة لاجتماع بشري متحضر. ولعل
تحقيق ذلك لا يرتبط فقط بوجود وسطاء ومتخصصين، لأن الحاجة إلى المدينة
بوصفها حالة حضارية لاحتياجات وضروريات الحياة المادية في تزايد مستمر، بل
لأن مطلب التطور والمدنية يتجاوز المدينة ليشمل المجتمع ككل. فمجتمع
التضامن الآلي يدرك تلك الضرورة ويتطلع إليها كغيره من المجتمعات.
بينما سكان الحضر بإمكانهم تحقيق شروط الحياة المادية، لكنهم مقابل
ذلك يدفعون أثمانا باهظة من أجل حماية شروط حياتهم تلك، ويعتمدون على سلطة
عليا، قوة قاهرة، لا على تضامنهم، ومن تم فهم عاجزون سياسيا وعسكريا.
ولأنهم فردانيون يعجزون عن العيش المشترك ويميلون إلى اللذة والرفاه. هم
بحاجة إلى من يحكمهم لأنهم غير قادرين على القيام بذلك هم أنفسهم.
لا يكتفي غلنر بذلك، إنه يتابع التأثيرات التي حملتها عمليات
التحديث على التوازنات داخل هذا النظام الاجتماعي، بفعل تنامي قوة الدولة
وما رافق ذلك من تعديلات على الممارسة الدينية، أو ما يمكن تسميته بشروط
الممارسة الدينية.
ففي كتابه «مجتمع مسلم» الذي خصص أجزاء مهمة منه للمغرب، يسعى غلنر
إلى تقديم نموذج تفسيري لدراسة المجتمعات الإسلامية والعربية. وبرغم الجدل
الذي يمكن أن يثيره مثل هذا الطموح، فإن معرفة منهج هذه النظرية وطرق
صياغتها يفيد في التعرف على الأبعاد المعرفية والأنتربولوجية لدراساته حول
المغرب.
يقوم النموذج النظري الذي صاغه غلنر لدراسة المجتمع المغربي على عدة
مرجعيات، منها مقدمة ابن خلدون والنظرية الانقسامية التي ألف مبانيها
البريطاني إيفانس بريتشارد.
مع أن غلنر مارس انتقائية واضحة في استعمال أفكار ابن خلدون لتطويعها
وفقا لمقتضيات وخلفيات الأنتربولوجيا التي يسعى إلى تطبيق مناهجها على
المجتمع المغربي. من تلك الأفكار التي استعادها غلنر من ابن خلدون نظرة
الأخير إلى المجتمع انطلاقا من بناء قبلي قائم على العصبية والغزو
والانقسامية اللامتناهية.
كما أنه ليس خاف تأثير آراء ماكس فيبر وإيميل دركايم وآراء هيوم
الدينية بالإضافة إلى كارل ماركس، تلك هي مصادر التفكير الأساسية والمؤطرة
لنظرة غلنر.
تعرضت نظريات غلنر لنقد قوي من قبل مفكرين وباحثين من مختلف
المشارب، فعلى المستوى العام يمكن الاكتفاء بذكر نقد إدوارد سعيد ونقد
طلال أسد (البحث عن مفهوم لأنتربولوجيا الإسلام)، حيث يركز على الطبيعة
التلفيقية والتجزيئية والاختزالية لأبحاث غلنر، فيما سامي زبيدة يرى أن
أرنست غلنر استعاد ابن خلدون من دون أن يضيف جديدا كما عاب عليه تعميم
نتائجه، أما النقد الموجه إلى إرنست غلنر على مستوى الباحثين المغاربة
-كما سنرى ذلك لاحقا مع بعض التفصيل- فيمكن الإشارة إلى عبد الله العروي
وعبد الله حمودي، اللذين اعترضا على صوابية وصلاحية النظرية الانقسامية من
خلال وقائع تاريخية واجتماعية، وبرغم اعتماد هذا النوع من النقد على بعض
التفاصيل المرتبطة بالمفاهيم والمناهج، إلا أن ذلك يعد أساسيا من زاوية
تراكمية في تفنيد مبررات النموذج الانقسامي. وقد استمر غلنر في الدفاع عن
«انقساميته» حتى وفاته، حيث كان يرد على النقد الذي تعرضت له أطروحته من
قبل عبد الله حمودي وطلال أسد وكليفورد غيرتز، إذ اعتبر ذلك النقد وقع في
خطأ لعدم قدرته على التمييز بين النموذج المثالي والواقع.
* باحث في السوسيولوجيا
لنتائج سابقة لا يزال البعض منها في حاجة إلى المزيد من التحري والإثبات:
فالانقسامية مصطلح جديد لديمقراطية مونطاني، والهامشية اسم جديد لعملية
الانزواء التاريخي التي وصفها بيرك. فهي طفيلية... وأهم سؤال يمكن طرحه
بصددها هو حول مدى قدرتها على المساهمة في إبداع فهم أفضل للمجتمع
المغربي، والإجابة السلبية عن هذا السؤال لا شك فيها)
عبد الله العروي.
تميزت نهاية الستينيات وبداية السبعينيات بعودة قوية إلى رؤية
واهتمام الآخر لكن هذه المرة -وبخلاف الآخر الكولونيالي- جاء التعاطي
الجديد بخلفيات ورهانات مختلفة تماما. وقد كانت هذه العودة في أجواء
سياسية عرفت بهيمنة الهاجس الأمني لدى السلطات، غير أن المفارقة تمثلت في
السماح لبعض الأنتربولوجيين بإجراء بحوثهم الميدانية، حتى إن ريمي لوفو
يذكر أن الجنرال أفقير نفسه، وزير الداخلية آنذاك، منح تراخيص لإجراء بعض
البحوث.
على العموم اتخذ الأنتربولوجيون الأنجلوسكسونيون على عاتقهم تطبيق
بعض النظريات التي تبلورت لديهم من خلال تجاربهم الميدانية. قاد هذه
الرؤية ثلة من الباحثين الأنجلوسكسونيين نذكر منهم: Ernest Gellner,
Clifford Geertz, William Zartman, David Hart, John Waterbury, Dale
Eickelmann
يعتقد البعض أن المدرسة الأنجلوسكسونية حاولت أن تعيد الاعتبار إلى
«الجرأة النظرية التي عبر عنها روبير مونتاني»، كما ادعت أنها تريد
التمييز بين الموقف الإيديولوجي والموقف العلمي الكامن في ذلك الإرث
الكولونيالي.
سوف يجعل هؤلاء الباحثين من المجتمع المغربي ورشا مميزا لاختبار
فرضيات الأنتربولوجيا الانقسامية. ويمكن اعتبار كتاب إرنست كلنر: «صلحاء
الأطلس» المنشور سنة 1969 بجامعة شيغاغو عينة تمثيلية لهذا النمط والاتجاه
من الدراسات. (دراسة اهتمت بقبائل الأطلس الكبير والأوسط وبدور زاوية
أحنصال وهي في الأصل أطروحة دكتوراه كان عنوانها الأصلي: تنظيم ودورزاوية
بربرية 1961). Ernest Gellner, Saint of Atlas. London/Chicago 1969.
لقد تمت الاستعانة بالأنتربولوجيا الانقسامية لتطبيق أطرها النظرية
في المجتمع البربري بعد أن تم استلهام نماذج منها طبقت على قبيلة
النويرالنيلية بالسودان وبدو ليبيا من قبل Evans-Pritchard. ولعل من
«حسنات» هذا التوجه في البحث الاجتماعي استقطابه لباحثين مغاربة سينفتحون
لأول مرة على المدرسة الأنجلوسكسونية في التفكير السوسيولوجي
والأنتربولوجي، وخصوصا الاتجاه نحو الجامعات الأمريكية.
أرنست غلنر (1925- 1995).
يعد غلنر من المساهمين في نظريات العلوم الاجتماعية حول الإسلام
والعالم الإسلامي. غير أن المغرب مثل حقل اختبار تلك النظريات والفرضيات
التي اشتغل عليها إرنست غلنر.
يقارب غلنر في أبحاثه حول المجتمع الإسلامي الكيفيات التي يتعايش بها
ومعها المجتمع مع الدين، معتمدا في ذلك على سلوك المجتمع وحياته اليومية
وروابطه الداخلية، وتحديدا على الدورة اليومية للحياة الدينية، أكثر من
الاعتماد على النصوص، مستنتجا الفروق الكبيرة لتلك الحياة الدينية
بالمقارنة مع بيئة وجوده (القبيلة والمدينة).
وتقوم ملاحظة غلنر الأساسية على اعتبار القبيلة بوصفها مجتمعا
تقليديا تتفوق باستمرار على الدولة القائمة في بيئة مدينية، مبررا ذلك
باللجوء الكثيف إلى القداسة، مستلهما في ذلك بعض الجوانب التحليلية من ابن
خلدون، وبالاعتماد على رؤية بريتشارد حول دور المقدس في صيانة النظام
القبلي من خلال نظام اجتماعي مؤسس على النسب.
أرنست غلنر يفسر المقاربة الخلدونية للمجتمع وكيف استعيد ابن خلدون
من قبل كبار السوسيولوجيين الأوروبيين الذين استلهموا منه أفكارهم.
فمن خلال أعمال ابن خلدون يمكن فهم المجتمع المحلي التقليدي على أنه
تكتلات عضوية تتداخل نشاطاتها وتتميز بتوليد الشعور بالتضامن، فيما
المجتمع الحديث قائم على الارتباط العضوي الحر لأشخاص أحرار على أساس عقود
اختيارية تم التفاوض بشأنها مسبقا لتحقيق أهداف واضحة على أسس عقلانية.
يقول غلنر إن ابن خلدون اهتم بهذه الثنائية بطريقة مختلفة، حيث اعتبر
الصيغتين ضروريتين للاجتماع البشري، وعليه فإن وجودهما معا ضروري
باعتبارهما تعبيرا طبيعيا عن نمطين من الحياة الاجتماعية، نمط المجتمع
المغلق ونمط المجتمع المفتوح.
يتسم المجتمع المحلي المتماسك الريفي البسيط بإدارة ذاتية مستقلة.
حيث الولاء الداخلي قوي في غياب سلطة مركزية تضمن الأمن. هذا النوع من
المجتمع يحتاج إلى التماسك ليضمن بقاءه، وقد يساعدهم ذلك على إنتاج حكم
ذاتي قوي أو يمهد لهم الشروط لحكم الآخرين.
بهذا المعنى، فإن القبيلة هي مدرسة الفضيلة السياسية، وإن غياب التخصص هو النتيجة التابعة لتلك الفضيلة السياسية.
فأعضاء القبيلة موحدون لأنهم متشابهون ولا يثقون في غيرهم، بسبب
اختلافهم عنهم، هذا النمط من التضامن القائم على التشابه سيسميه فيما بعد
دوركايم: التضامن الآلي.
ويرى غلنر في سياق تأويله لابن خلدون أن هذا النوع من المجتمعات عاجز
عن إنتاج الشروط المادية والثقافية اللازمة لاجتماع بشري متحضر. ولعل
تحقيق ذلك لا يرتبط فقط بوجود وسطاء ومتخصصين، لأن الحاجة إلى المدينة
بوصفها حالة حضارية لاحتياجات وضروريات الحياة المادية في تزايد مستمر، بل
لأن مطلب التطور والمدنية يتجاوز المدينة ليشمل المجتمع ككل. فمجتمع
التضامن الآلي يدرك تلك الضرورة ويتطلع إليها كغيره من المجتمعات.
بينما سكان الحضر بإمكانهم تحقيق شروط الحياة المادية، لكنهم مقابل
ذلك يدفعون أثمانا باهظة من أجل حماية شروط حياتهم تلك، ويعتمدون على سلطة
عليا، قوة قاهرة، لا على تضامنهم، ومن تم فهم عاجزون سياسيا وعسكريا.
ولأنهم فردانيون يعجزون عن العيش المشترك ويميلون إلى اللذة والرفاه. هم
بحاجة إلى من يحكمهم لأنهم غير قادرين على القيام بذلك هم أنفسهم.
لا يكتفي غلنر بذلك، إنه يتابع التأثيرات التي حملتها عمليات
التحديث على التوازنات داخل هذا النظام الاجتماعي، بفعل تنامي قوة الدولة
وما رافق ذلك من تعديلات على الممارسة الدينية، أو ما يمكن تسميته بشروط
الممارسة الدينية.
ففي كتابه «مجتمع مسلم» الذي خصص أجزاء مهمة منه للمغرب، يسعى غلنر
إلى تقديم نموذج تفسيري لدراسة المجتمعات الإسلامية والعربية. وبرغم الجدل
الذي يمكن أن يثيره مثل هذا الطموح، فإن معرفة منهج هذه النظرية وطرق
صياغتها يفيد في التعرف على الأبعاد المعرفية والأنتربولوجية لدراساته حول
المغرب.
يقوم النموذج النظري الذي صاغه غلنر لدراسة المجتمع المغربي على عدة
مرجعيات، منها مقدمة ابن خلدون والنظرية الانقسامية التي ألف مبانيها
البريطاني إيفانس بريتشارد.
مع أن غلنر مارس انتقائية واضحة في استعمال أفكار ابن خلدون لتطويعها
وفقا لمقتضيات وخلفيات الأنتربولوجيا التي يسعى إلى تطبيق مناهجها على
المجتمع المغربي. من تلك الأفكار التي استعادها غلنر من ابن خلدون نظرة
الأخير إلى المجتمع انطلاقا من بناء قبلي قائم على العصبية والغزو
والانقسامية اللامتناهية.
كما أنه ليس خاف تأثير آراء ماكس فيبر وإيميل دركايم وآراء هيوم
الدينية بالإضافة إلى كارل ماركس، تلك هي مصادر التفكير الأساسية والمؤطرة
لنظرة غلنر.
تعرضت نظريات غلنر لنقد قوي من قبل مفكرين وباحثين من مختلف
المشارب، فعلى المستوى العام يمكن الاكتفاء بذكر نقد إدوارد سعيد ونقد
طلال أسد (البحث عن مفهوم لأنتربولوجيا الإسلام)، حيث يركز على الطبيعة
التلفيقية والتجزيئية والاختزالية لأبحاث غلنر، فيما سامي زبيدة يرى أن
أرنست غلنر استعاد ابن خلدون من دون أن يضيف جديدا كما عاب عليه تعميم
نتائجه، أما النقد الموجه إلى إرنست غلنر على مستوى الباحثين المغاربة
-كما سنرى ذلك لاحقا مع بعض التفصيل- فيمكن الإشارة إلى عبد الله العروي
وعبد الله حمودي، اللذين اعترضا على صوابية وصلاحية النظرية الانقسامية من
خلال وقائع تاريخية واجتماعية، وبرغم اعتماد هذا النوع من النقد على بعض
التفاصيل المرتبطة بالمفاهيم والمناهج، إلا أن ذلك يعد أساسيا من زاوية
تراكمية في تفنيد مبررات النموذج الانقسامي. وقد استمر غلنر في الدفاع عن
«انقساميته» حتى وفاته، حيث كان يرد على النقد الذي تعرضت له أطروحته من
قبل عبد الله حمودي وطلال أسد وكليفورد غيرتز، إذ اعتبر ذلك النقد وقع في
خطأ لعدم قدرته على التمييز بين النموذج المثالي والواقع.
* باحث في السوسيولوجيا
ربيع- عدد الرسائل : 1432
العمر : 48
تاريخ التسجيل : 04/07/2008
رد: سوسيولوجـــــــيا .....
(عموما، كان الاستيلاء الأوروبي على العالم غير أنيق سوسيولوجيا: فلقد تعامل الأوروبيون أحيانا مع ملوك ورفضوا القبائل بازدراء، ودمروا أحيانا الملكية ونظروا إلى القبائل بمعزل عما يحيط بهم، وتعاملوا أحيانا أخرى مع قبائل كانت على أي حال معزولة في ظروفها الأولية. لكن المغرب كان استثناء. وهنا، وكحالة فريدة، استخدم المحتل مبضع التشريح في مورفولوجيا المجتمع برمته، إذ أراد في الوقت نفسه أن يحافظ على الملكية ويستفيد من القبائل. ولم يكن التشريح قاتلا، فالملكية لا تزال قائمة وكذلك القبائل) أرنست كلنر.
تطبيق التحليل الانقسامي
برز التحليل الانقسامي في الإرث السوسيولوجي حول المجتمع المغربي مع المدرسة الأنجلوسكسونية بالأساس، كما تزامن هذا الاهتمام مع بداية تفكك القبائل وتصاعد سيطرة الحكم المركزي. اهتمت الانقسامية بأنماط التنظيم القبلي في المجتمعات البربرية تحديدا. ويمكن الإشارة إلى أنه على رأس رواد التحليل الانقسامي في المغرب نجد كلا من إرنست كلنر ود.م. هارت (له أطروحة حول قبيلة آيت عطا وقبيلة آيت ورياغل بالريف ودكالة، كما انتقد بعض جوانب في دراسة كلنر)، كما أن هناك عددا آخر من الأنتربولوجيين الذين اعتنوا بالقبيلة المغربية منهم: ر. دون وأ. فينوكرادوف و: ر. جاموس (له بحث حول قبيلة إقرعيين بالريف)، ومن هؤلاء من انتمى إلى التحليل الانقسامي غير أنه في ذات الوقت كان يدعو إلى إجراء بعض التعديلات عليه.
في دراسته المعروفة: «صلحاء الأطلس»، حاول كلنر، كما يقول عبد الله حمودي، الجواب عن مجموعة من الأسئلة كان أهمها: كيف يتم الحفاظ على الاستقرار والأمن داخل هذه القبائل في غياب جهاز الدولة؟
كما ركز في كتابه على استلهام فكرة ديمقراطية القبائل البربرية من كل من هانوطو ولوتورنو، لكن أيضا من روبير مونتاني الذي سبق له أن قام ببحوث حول الأطلس الكبير، حيث خلص في كتابه إلى أن ديمقراطية تلك القبائل بنيوية لا تحمل أي نفس إيديولوجي، فالقبائل البربرية تتصف بالانقسامية والهامشية.
توصيف القبائل البربرية بكونها انقسامية جاء بناء على تطابق عناصر المجتمع الانقسامي التي توصلت إليها البحوث خارج المغرب مع النمط المجتمعي البربري (ولذلك السبب ربما وصف جاك بيرك الفرضية الانقسامية بأنها إسقاط لبنى اجتماعية في أعالي النيل على جبال الأطلس المتوسط).
من بين العناصر الانقسامية المستخلصة يعدد كلنر ما يلي:
أولا، دور النسب الأبوي والقرابة.
ثانيا، هيمنة مبدأ الانصهار والانشطار.
ثالثا، تداخلات وتخارجات التعارض معقد اشتغال النظام القبلي.
رابعا، المساواة الاجتماعية.
يبين كلنر في كتابه أن نظام تعيين الـ«أمغار» يقوم على نوع من التداول والتناوب. وهو التعيين الذي يتم في حضرة ولي صالح (أكرام)، بوصفه مكانا محايدا.
خامسا، استمرارية التنظيم الاجتماعي تكفله أطراف خارجية، عادة يقوم الصلحاء بهذه الوظيفة بحكم موقعهم الرمزي والديني، إنهم فضلا عن ذلك يحضون بالحرمة والبركة.
كما استعمل كلنر بالإضافة إلى مفهوم الانقسامية مفهوما آخر يطلق عليه الهامشية، ليميز الحالة المغربية عن النماذج القبلية التي تناولتها الانقسامية في المناطق الإفريقية، حيث الفرق بينها في وجود نظام حكم مركزي في النموذج المغربي.
تفيد الهامشية تمسك القبائل من الناحية السياسية والثقافية بنوع من الاستقلال عن الحكم المركزي. غير أن هذه القبائل تشارك باقي المجتمع القيم والمعتقدات، لكنها تتحفظ على بعض القيم السائدة في النظامين الأخلاقي والسياسي.
وعلى النقيض مما ذهب إليه كل من روبير مونتاني وجاك بيرك (اللذين استنتجا عدم تجانس السكان وبالتالي أسبقية التراب على القرابة)، يعتقد كلنر مع غيره من الدارسين الانقساميين أن إدماج الأجانب في السلالات القبلية لا يلحق أي اختلال بالتنظيم الاجتماعي المؤسس على القرابة والنسب. (مفهوم القبيلة يتجاذبه تفسيران، الأول يقول بالاندماج والثاني يقول بالتجميع).
اعتنى علماء الأنتربولوجيا الاجتماعية البريطانيون بآليات حماية واستمرارية النظام القبلي أكثر من اعتنائهم بعلاقة القبيلة بالدولة.
قامت فكرة الدراسات الانقسامية على مجموعة مركبة من الأفكار باعتماد مركزية النسب وهيمنة الدين على السياسة والتنظيم الاجتماعي المساواتي (الذي يرفض باسكون القول به) والتضامن الآلي ولاعقلانية التدين الشعبي في علاقته بموقع الصلحاء في الحياة الاجتماعية القبلية، تلك هي العناصر الأساسية التي استندت إليها المقاربة الانقسامية عند تطبيقها على النموذج المجتمعي المغربي.
في حين تقوم فكرة الانقسامية لدى دوركايم على اعتبار أن المجموعات الاجتماعية في التنظيم الاجتماعي الانقسامي لا تتكون فقط من مجرد مجموعات ثانوية متشابهة، وإنما تشبه المجموعات الأكبر التي هي جزء منها. وقد استخدم دوركايم النموذج القبلي لتوضيح ذلك. كما يشير إلى أهمية السيطرة الجماعية على الملكية في مثل هذا النموذج الانقسامي، ويفسر ذلك بكونه نتيجة ثانوية لمسألة افتقاد الفردية في هذا النمط من المجتمعات، رغم أن دوركايم، وعلى عكس الماركسيين، لم يعتن بدراسة هذه المجتمعات برأي أرنست كلنر.
يشير أرنست كلنر في مقاله «المغرب مرآة العالم» إلى أن إميل ماسكوراي والذي وصفه بالعالم الفرنسي المنسي، قام في كتابه «أشكال المدن عند السكان الحضر في الجزائر»، الصادر سنة 1886، بدراسة للمجموعات الثلاث البربرية الجزائرية الأساسية (مع لمسة جانبية لوسط المغرب) وفي هذه الدراسة قام ماسكوراي بجمع المادة العلمية التي ساهمت فيما بعد في ظهور النظرية الانقسامية.
ما قدمه ماسكوراي ودوركايم يقود إلى إيفانس بريتشارد الذي بفضله أخذت «الانقسامية» كمفهوم وأداة تحليل موقعا مركزيا في أعمال المتخصصين في الأنتربولوجيا الاجتماعية. ومن خلال جهوده أصبحت النظرية الانقسامية واسعة الانتشار بحسبانها تعالج كيف يكون ممكنا للنظام الاجتماعي أن يصان في ظل غياب الدولة. حيث بمقدور مجموعات اجتماعية تعتمد المساواة والمشاركة أن تحمي نمط عيشها من خلال التقابل والتوازن إزاء مجموعات شبيهة، وكل مجموعة مسؤولة جماعيا عن تصرفات مسيئة قد تصدر عن أحد أعضائها مقابل المجموعات الأخرى. فيما يتم الحفاظ على النظام الداخلي من خلال المجموعات الثانوية المتقابلة. تقوم العلاقات القانونية في هذه المجتمعات على مبدأ الثأر والقسم المشترك ودفع الدية جماعة واستلامها وتوزيعها جماعة أيضا.
أما مبدأ التوازن في المجتمع الانقسامي فيقوم على فعل تكراري داخل المجموعة، بحيث يوازي حجم الصراع أو الخلاف المحتمل، ومن ثم تنتج مفاعيل التجمع، حيث المجموعات جزء من مجموعات أكبر لها الخصائص نفسها على المستوى التنظيمي والوظيفي والمفاهيمي. وعليه، لا وجود ضمن هذا التشكيل الاجتماعي لوحدة مهيمنة، بفضل مبدأ التوازن التقابلي الذي يخترق كل وحدة. ضعف القيادات لدى المجموعات يجد سنده في دعم من تقودهم، في حين تبرز فعالية المجموعات حصريا في الأنشطة التعاونية المبنية على أساس الصراع. هكذا يكون توازن القوة وتفعيل التماسك مرتبطين بالتهديد الخارجي باعتباره مجرد مبدأ للحفاظ على النظام في المجتمعات الأخرى.
غير أنه تجدر الإشارة إلى أن الدراسات الأنتربولوجية الأنجلوسكسونية عرفت فيما بعد تحولات جوهرية، أفرزت توجهين، يعتني الأول بدراسة أنساق المعنى (الثقافة) بدلا من البنى الاجتماعية، فيما اعتنى الثاني بمهمة التطهر من خطيئة الاحتلال.
كما أن مفهوم الانقسامية انتقل من حقل الأنتربولوجيا الاجتماعية إلى العلوم السياسية، في مسعى إلى تفسير وتحليل النظام السياسي الذي تتجاذبه شبكات الوصاية والمصالح المتنافسة على السيطرة، وهي شبكات تخترق وتتجاوز الطبقات الاجتماعية، وهو الاتجاه التحليلي الذي اتبعه جون واتربوري في كتابه: «أمير المؤمنين».
تطبيق التحليل الانقسامي
برز التحليل الانقسامي في الإرث السوسيولوجي حول المجتمع المغربي مع المدرسة الأنجلوسكسونية بالأساس، كما تزامن هذا الاهتمام مع بداية تفكك القبائل وتصاعد سيطرة الحكم المركزي. اهتمت الانقسامية بأنماط التنظيم القبلي في المجتمعات البربرية تحديدا. ويمكن الإشارة إلى أنه على رأس رواد التحليل الانقسامي في المغرب نجد كلا من إرنست كلنر ود.م. هارت (له أطروحة حول قبيلة آيت عطا وقبيلة آيت ورياغل بالريف ودكالة، كما انتقد بعض جوانب في دراسة كلنر)، كما أن هناك عددا آخر من الأنتربولوجيين الذين اعتنوا بالقبيلة المغربية منهم: ر. دون وأ. فينوكرادوف و: ر. جاموس (له بحث حول قبيلة إقرعيين بالريف)، ومن هؤلاء من انتمى إلى التحليل الانقسامي غير أنه في ذات الوقت كان يدعو إلى إجراء بعض التعديلات عليه.
في دراسته المعروفة: «صلحاء الأطلس»، حاول كلنر، كما يقول عبد الله حمودي، الجواب عن مجموعة من الأسئلة كان أهمها: كيف يتم الحفاظ على الاستقرار والأمن داخل هذه القبائل في غياب جهاز الدولة؟
كما ركز في كتابه على استلهام فكرة ديمقراطية القبائل البربرية من كل من هانوطو ولوتورنو، لكن أيضا من روبير مونتاني الذي سبق له أن قام ببحوث حول الأطلس الكبير، حيث خلص في كتابه إلى أن ديمقراطية تلك القبائل بنيوية لا تحمل أي نفس إيديولوجي، فالقبائل البربرية تتصف بالانقسامية والهامشية.
توصيف القبائل البربرية بكونها انقسامية جاء بناء على تطابق عناصر المجتمع الانقسامي التي توصلت إليها البحوث خارج المغرب مع النمط المجتمعي البربري (ولذلك السبب ربما وصف جاك بيرك الفرضية الانقسامية بأنها إسقاط لبنى اجتماعية في أعالي النيل على جبال الأطلس المتوسط).
من بين العناصر الانقسامية المستخلصة يعدد كلنر ما يلي:
أولا، دور النسب الأبوي والقرابة.
ثانيا، هيمنة مبدأ الانصهار والانشطار.
ثالثا، تداخلات وتخارجات التعارض معقد اشتغال النظام القبلي.
رابعا، المساواة الاجتماعية.
يبين كلنر في كتابه أن نظام تعيين الـ«أمغار» يقوم على نوع من التداول والتناوب. وهو التعيين الذي يتم في حضرة ولي صالح (أكرام)، بوصفه مكانا محايدا.
خامسا، استمرارية التنظيم الاجتماعي تكفله أطراف خارجية، عادة يقوم الصلحاء بهذه الوظيفة بحكم موقعهم الرمزي والديني، إنهم فضلا عن ذلك يحضون بالحرمة والبركة.
كما استعمل كلنر بالإضافة إلى مفهوم الانقسامية مفهوما آخر يطلق عليه الهامشية، ليميز الحالة المغربية عن النماذج القبلية التي تناولتها الانقسامية في المناطق الإفريقية، حيث الفرق بينها في وجود نظام حكم مركزي في النموذج المغربي.
تفيد الهامشية تمسك القبائل من الناحية السياسية والثقافية بنوع من الاستقلال عن الحكم المركزي. غير أن هذه القبائل تشارك باقي المجتمع القيم والمعتقدات، لكنها تتحفظ على بعض القيم السائدة في النظامين الأخلاقي والسياسي.
وعلى النقيض مما ذهب إليه كل من روبير مونتاني وجاك بيرك (اللذين استنتجا عدم تجانس السكان وبالتالي أسبقية التراب على القرابة)، يعتقد كلنر مع غيره من الدارسين الانقساميين أن إدماج الأجانب في السلالات القبلية لا يلحق أي اختلال بالتنظيم الاجتماعي المؤسس على القرابة والنسب. (مفهوم القبيلة يتجاذبه تفسيران، الأول يقول بالاندماج والثاني يقول بالتجميع).
اعتنى علماء الأنتربولوجيا الاجتماعية البريطانيون بآليات حماية واستمرارية النظام القبلي أكثر من اعتنائهم بعلاقة القبيلة بالدولة.
قامت فكرة الدراسات الانقسامية على مجموعة مركبة من الأفكار باعتماد مركزية النسب وهيمنة الدين على السياسة والتنظيم الاجتماعي المساواتي (الذي يرفض باسكون القول به) والتضامن الآلي ولاعقلانية التدين الشعبي في علاقته بموقع الصلحاء في الحياة الاجتماعية القبلية، تلك هي العناصر الأساسية التي استندت إليها المقاربة الانقسامية عند تطبيقها على النموذج المجتمعي المغربي.
في حين تقوم فكرة الانقسامية لدى دوركايم على اعتبار أن المجموعات الاجتماعية في التنظيم الاجتماعي الانقسامي لا تتكون فقط من مجرد مجموعات ثانوية متشابهة، وإنما تشبه المجموعات الأكبر التي هي جزء منها. وقد استخدم دوركايم النموذج القبلي لتوضيح ذلك. كما يشير إلى أهمية السيطرة الجماعية على الملكية في مثل هذا النموذج الانقسامي، ويفسر ذلك بكونه نتيجة ثانوية لمسألة افتقاد الفردية في هذا النمط من المجتمعات، رغم أن دوركايم، وعلى عكس الماركسيين، لم يعتن بدراسة هذه المجتمعات برأي أرنست كلنر.
يشير أرنست كلنر في مقاله «المغرب مرآة العالم» إلى أن إميل ماسكوراي والذي وصفه بالعالم الفرنسي المنسي، قام في كتابه «أشكال المدن عند السكان الحضر في الجزائر»، الصادر سنة 1886، بدراسة للمجموعات الثلاث البربرية الجزائرية الأساسية (مع لمسة جانبية لوسط المغرب) وفي هذه الدراسة قام ماسكوراي بجمع المادة العلمية التي ساهمت فيما بعد في ظهور النظرية الانقسامية.
ما قدمه ماسكوراي ودوركايم يقود إلى إيفانس بريتشارد الذي بفضله أخذت «الانقسامية» كمفهوم وأداة تحليل موقعا مركزيا في أعمال المتخصصين في الأنتربولوجيا الاجتماعية. ومن خلال جهوده أصبحت النظرية الانقسامية واسعة الانتشار بحسبانها تعالج كيف يكون ممكنا للنظام الاجتماعي أن يصان في ظل غياب الدولة. حيث بمقدور مجموعات اجتماعية تعتمد المساواة والمشاركة أن تحمي نمط عيشها من خلال التقابل والتوازن إزاء مجموعات شبيهة، وكل مجموعة مسؤولة جماعيا عن تصرفات مسيئة قد تصدر عن أحد أعضائها مقابل المجموعات الأخرى. فيما يتم الحفاظ على النظام الداخلي من خلال المجموعات الثانوية المتقابلة. تقوم العلاقات القانونية في هذه المجتمعات على مبدأ الثأر والقسم المشترك ودفع الدية جماعة واستلامها وتوزيعها جماعة أيضا.
أما مبدأ التوازن في المجتمع الانقسامي فيقوم على فعل تكراري داخل المجموعة، بحيث يوازي حجم الصراع أو الخلاف المحتمل، ومن ثم تنتج مفاعيل التجمع، حيث المجموعات جزء من مجموعات أكبر لها الخصائص نفسها على المستوى التنظيمي والوظيفي والمفاهيمي. وعليه، لا وجود ضمن هذا التشكيل الاجتماعي لوحدة مهيمنة، بفضل مبدأ التوازن التقابلي الذي يخترق كل وحدة. ضعف القيادات لدى المجموعات يجد سنده في دعم من تقودهم، في حين تبرز فعالية المجموعات حصريا في الأنشطة التعاونية المبنية على أساس الصراع. هكذا يكون توازن القوة وتفعيل التماسك مرتبطين بالتهديد الخارجي باعتباره مجرد مبدأ للحفاظ على النظام في المجتمعات الأخرى.
غير أنه تجدر الإشارة إلى أن الدراسات الأنتربولوجية الأنجلوسكسونية عرفت فيما بعد تحولات جوهرية، أفرزت توجهين، يعتني الأول بدراسة أنساق المعنى (الثقافة) بدلا من البنى الاجتماعية، فيما اعتنى الثاني بمهمة التطهر من خطيئة الاحتلال.
كما أن مفهوم الانقسامية انتقل من حقل الأنتربولوجيا الاجتماعية إلى العلوم السياسية، في مسعى إلى تفسير وتحليل النظام السياسي الذي تتجاذبه شبكات الوصاية والمصالح المتنافسة على السيطرة، وهي شبكات تخترق وتتجاوز الطبقات الاجتماعية، وهو الاتجاه التحليلي الذي اتبعه جون واتربوري في كتابه: «أمير المؤمنين».
-----------------------
المساء-8/9/2008
ربيع- عدد الرسائل : 1432
العمر : 48
تاريخ التسجيل : 04/07/2008
عبد الله العروي منتقدا الاتجاه الانقسامي
(الانقسامية ليست نظرية تفسيرية.. إنها تهمل التاريخ.. وتهمل السيرورة..)
عبد الله العروي
بصفة عامة كانت الأنتربولوجيا الانقسامية محط نقد لاذع وتشريح دقيق من قبل عبد الله العروي، خصوصا في كتابه المميز «الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية» الصادر سنة 1977، معتبرا أن الأبحاث الأنجلوسكسونية مجموعة من التأويلات التي لم تأت بجديد، وأن كل ما قامت به لا يعدو كونه استعادة سطحية لنتائج أبحاث سابقة، وهكذا برأي عبد الله العروي تم تحويل ديمقراطية روبير مونتانيي إلى انقسامية، وتحويل وصف بيرك للانزواء التاريخي إلى هامشية، معتبرا أن الأبحاث الأنجلوسكسونية عبارة عن مقولات فارغة.
كان مونتانيي ينطلق من الديمقراطية فيما كان بيرك ينطلق من الارتباط بالوطن، في حين لجأ الانقساميون إلى اختزال الأشكال الاجتماعية الموجودة في المغرب، والتي تعرفوا عليها في إفريقيا، في بنية واحدة. فكان طبيعيا أن ينطوي التفسير الانقسامي على إهمال عناصر المضمون التي تعبر عن صنوف التمايز.
لعل من أخطر نتائج هذا الاختزال التخلص من التمييز بين المستوى الملاحظ والمستوى الافتراضي كالقبيلة. وبالتالي لم تعد هناك فرصة لتحديد مجموعة حاسمة، حيث الانقسام يمثل العلامة الرئيسية، وحيث المجموعات تنقسم إلى مجموعات فرعية ضمن توازنات محددة.
ثغرات في انقسامية كلنر
تقدم الانقسامية برأي عبد الله العروي خطاطة أولية عن الواقع، لكنه لا يعتبرها نظرية تفسيرية إلا في حال كان التوازن دليلا على التكافؤ الفعلي بين القوى الاجتماعية وأدى إلى إلغاء التأثير المتبادل لمكونات هذه القوى. يستدعي ذلك الاعتماد على المقاربة البنيوية: حيث فعالية الوقائع تقاس بمدى الدينامية التي تحدثها في القوى الكامنة. وهو تفسير يستند إلى بنيات الحاضر، كما يقول كلنر، باعتبار الماضي تابعا له، أي عكس التفسيرات التكوينية. فالوقائع التاريخية تنتهي مفاعيلها في اللحظة التي تعلن عن وجودها.
لم يضمن كلنر، برأي العروي، المفهوم الانقسامي كل معطيات القبيلة المغربية. إذ يجب وصف القبيلة انطلاقا من عناصر ملموسة. عندما يعتبر كلنر الاستناد على تعريف إيفانس بريتشارد للقبيلة باعتبارها أكبر جماعة بشرية يظن أعضاؤها أن من واجبهم حل نزاعاتهم باللجوء إلى التحكيم، يؤدي إلى اعتبار المجتمع المغربي برمته قبيلة واحدة. إلا أن كلنر لا يقبل بهذا التعريف لأن المغاربة أنفسهم يعترفون بالتعدد القبلي، لكن برغم ادعاء كلنر تجاوز هذا التعريف فإن عبد الله العروي يعتقد أن السؤال الجوهري لم تتم الإجابة عنه، إنه سؤال ما إن كان المجتمع المغربي القبلي انقساميا أم لا. فوفقا لتعريف بريتشارد ليس المجتمع انقساميا، وبالتالي لا معنى للبحث عن تعريف دقيق للقبيلة المغربية. لقد تورط كلنر برأي العروي في مفارقة وليدة نظرية لا تنتمي إلى مجالها الاجتماعي. برغم تأكيد كلنر على الاستقلال الذاتي للقبائل، غير أنه قام بتعميم دور الزوايا والـ»أكرام»، على عكس وجهة نظر روبير مونتانيي، بهدف إعطاء القبائل البربرية صبغة انقسامية مبالغا فيها. كما أنه عرف الزوايا بحسبانها جماعة وراثية تحظى بالبركة وتحول الأولياء إلى أصنام تعبد. وهو ما ينكره جاك برك بقوة. بهذا المعنى تتحول الزاوية، بوصفها وحدة انقسامية متفردة، إلى عامل ضروري لانقسامية القبيلة. يلجأ كلنر لتأكيد أطروحته إلى تفسير بروز الـ»أكرام» بدوره في التعاقدات التي تنضوي في إطارها القبائل لاستغلال مشترك (الانتجاع) للأراضي بصفته الضامن، غير أنه لا يمكن تعميم هذه الحالة، لأن هناك مناطق لا تقوم فيها مثل هذه التعاقدات.
يرى عبد الله العروي أن الانقسامية مقاربة انتقائية للمجتمع المغربي، ولذلك لم يتحرر كلنر من أبحاث الضباط الكولونياليين «المتعاطفين» مع الثقافة البربرية، حيث تبدو الانتقائية واضحة في تركيزهم على الأطلس المتوسط لأبحاثهم، وكلنر تبعهم في ذلك وحاول تعميم النتائج دون أن يكلف نفسه عناء إجراء المقارنات. ويبين عبد الله العروي كيف أن كلنر برغم اعترافه بأن الزاوية عبارة عن عالم منتشر، حيث يتوزع أبناء الشيخ المؤسس على المناطق والجهات لإقامة زوايا أخرى، مما يجعلهم بالضرورة يتفاعلون مع تلك البيئات الجديدة، بيد أن كلنر يؤكد أن الزاوية لها استقلالية كاملة كما لها القدرة على استيعاب المؤثرات الخارجية وتكييفها مع ديناميتها الداخلية. غير أن عبد الله العروي يرى أن هذا التفسير لا يقوم على فرضيات سليمة ولا قدرة له على الصمود، مما اضطر معه كلنر إلى اللجوء إلى مفهوم «الهامشية»، والقول من ثم بوجود قبيلة حقيقية وقبيلة بدائية وقبيلة هامشية، وبإضافة هذا المفهوم فقدت الانقسامية جدواها.
مرد ضعف النظرية الانقسامية برأي عبد الله العروي له مستويان:
الأول: المبالغة في الشكلانية مما يحرمها من امتلاك قوة تفسيرية، فتقدم لنا تعريفا خاطئا لمفهوم القبيلة.
الثاني: الاعتماد على نماذج غير تمثلية يسقطها بالضرورة في تناقض استنتاجاتها، (مشكل الانتقائية والتعميم).
لقد حاول كلنر الجمع بين مفاهيم البنيوية والانقسامية والهامشية، فكانت النتائج مفارقة، وأوضح مثال على ذلك عندما حاول تطبيق تلك المفاهيم على الأساطير والحكايات المروية، فيما أبحاث أخرى أثبتت عكس ما توصل إليه كلنر، الذي حاول، عبر تأويل تلك الأساطير، التدليل على هامشية القبيلة البربرية، لكن نزعته نحو البنيوية أفضت به إلى ممارسة تأويل من دون الاستناد إلى تاريخ المغرب. الأمر ذاته حصل لكلنر عندما حاول تأويل الروابط النسبية (الأنساب) التي وصفها بكونها وهمية، في حين أن النسب الشريف في المغرب يخضع لرقابة الأشراف و»أهل البركة». إن إقرار كلنر بأن للنسب وظيفتين متناقضتين، وظيفة أساسية ووظيفة ثانوية، راجع إلى الانتقائية النظرية التي لجأ إليها باستخدام التفسير البنيوي. هذه الانتقائية أفقدت التفسير البنيوي بالقدر الذي أفقدت فيه مفهوم الهامشية كل قوتهما، وجرد الأطروحة الانقسامية من قدرتها التحليلية والتفسيرية، لذلك بقيت الانقسامية برأي عبد الله العروي مقولة تجريدية وسطحية.
في المحصلة النهائية، فشل الاتجاه الأنجلوسكسوني (الذي اعتبره عبد الله العروي طفيليا) في تجاوز الإرث الكولونيالي. وتوقف عند إعادة إنتاج أطروحات بحاجة إلى كثير من المراجعة والتدقيق، وبتعبير عبد الله العروي فإن الانقسامية ليست سوى صياغة جديدة لديمقراطية روبير مونتانيي، فيما مفهوم الهامشية تعبير بديل عن الانزواء الذي وصفه بيرك.
حاول عبد الله العروي في كتابيه: «مجمل تاريخ المغرب» و»أصول الوطنية المغربية»، إثبات عجز المنظور الأنتربولوجي عامة والانقسامية بصفة خاصة، عن فهم السيرورة التاريخية للتحولات الاجتماعية، ما جعلهما يميلان أكثر إلى منهج اختزالي وتعسفي بالاعــــتماد على سببية بنيوية سكونية تلغي العوامل والديناميات التاريخية التي تعــــتمل في سيرورة التحولات، كما تلغي العوامل التي تساعد على التحـــكم بتلك التحولات لأجل توجيهها أو إعـــاقتها.
بناء على ذلك، يشكك عبد الله العروي في قدرة الانقسامية على تقديم فهم أفضل للمجتمع المغربي. Laroui A., 1977, Les origines sociales et culturelles du nationalisme marocain (1830-1912), Paris, Maspero. pp. 174-177.
-----------------
محمد الغيلاني
* باحث في السوسيولوجيا
المساء
9/9/2008
عبد الله العروي
بصفة عامة كانت الأنتربولوجيا الانقسامية محط نقد لاذع وتشريح دقيق من قبل عبد الله العروي، خصوصا في كتابه المميز «الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية» الصادر سنة 1977، معتبرا أن الأبحاث الأنجلوسكسونية مجموعة من التأويلات التي لم تأت بجديد، وأن كل ما قامت به لا يعدو كونه استعادة سطحية لنتائج أبحاث سابقة، وهكذا برأي عبد الله العروي تم تحويل ديمقراطية روبير مونتانيي إلى انقسامية، وتحويل وصف بيرك للانزواء التاريخي إلى هامشية، معتبرا أن الأبحاث الأنجلوسكسونية عبارة عن مقولات فارغة.
كان مونتانيي ينطلق من الديمقراطية فيما كان بيرك ينطلق من الارتباط بالوطن، في حين لجأ الانقساميون إلى اختزال الأشكال الاجتماعية الموجودة في المغرب، والتي تعرفوا عليها في إفريقيا، في بنية واحدة. فكان طبيعيا أن ينطوي التفسير الانقسامي على إهمال عناصر المضمون التي تعبر عن صنوف التمايز.
لعل من أخطر نتائج هذا الاختزال التخلص من التمييز بين المستوى الملاحظ والمستوى الافتراضي كالقبيلة. وبالتالي لم تعد هناك فرصة لتحديد مجموعة حاسمة، حيث الانقسام يمثل العلامة الرئيسية، وحيث المجموعات تنقسم إلى مجموعات فرعية ضمن توازنات محددة.
ثغرات في انقسامية كلنر
تقدم الانقسامية برأي عبد الله العروي خطاطة أولية عن الواقع، لكنه لا يعتبرها نظرية تفسيرية إلا في حال كان التوازن دليلا على التكافؤ الفعلي بين القوى الاجتماعية وأدى إلى إلغاء التأثير المتبادل لمكونات هذه القوى. يستدعي ذلك الاعتماد على المقاربة البنيوية: حيث فعالية الوقائع تقاس بمدى الدينامية التي تحدثها في القوى الكامنة. وهو تفسير يستند إلى بنيات الحاضر، كما يقول كلنر، باعتبار الماضي تابعا له، أي عكس التفسيرات التكوينية. فالوقائع التاريخية تنتهي مفاعيلها في اللحظة التي تعلن عن وجودها.
لم يضمن كلنر، برأي العروي، المفهوم الانقسامي كل معطيات القبيلة المغربية. إذ يجب وصف القبيلة انطلاقا من عناصر ملموسة. عندما يعتبر كلنر الاستناد على تعريف إيفانس بريتشارد للقبيلة باعتبارها أكبر جماعة بشرية يظن أعضاؤها أن من واجبهم حل نزاعاتهم باللجوء إلى التحكيم، يؤدي إلى اعتبار المجتمع المغربي برمته قبيلة واحدة. إلا أن كلنر لا يقبل بهذا التعريف لأن المغاربة أنفسهم يعترفون بالتعدد القبلي، لكن برغم ادعاء كلنر تجاوز هذا التعريف فإن عبد الله العروي يعتقد أن السؤال الجوهري لم تتم الإجابة عنه، إنه سؤال ما إن كان المجتمع المغربي القبلي انقساميا أم لا. فوفقا لتعريف بريتشارد ليس المجتمع انقساميا، وبالتالي لا معنى للبحث عن تعريف دقيق للقبيلة المغربية. لقد تورط كلنر برأي العروي في مفارقة وليدة نظرية لا تنتمي إلى مجالها الاجتماعي. برغم تأكيد كلنر على الاستقلال الذاتي للقبائل، غير أنه قام بتعميم دور الزوايا والـ»أكرام»، على عكس وجهة نظر روبير مونتانيي، بهدف إعطاء القبائل البربرية صبغة انقسامية مبالغا فيها. كما أنه عرف الزوايا بحسبانها جماعة وراثية تحظى بالبركة وتحول الأولياء إلى أصنام تعبد. وهو ما ينكره جاك برك بقوة. بهذا المعنى تتحول الزاوية، بوصفها وحدة انقسامية متفردة، إلى عامل ضروري لانقسامية القبيلة. يلجأ كلنر لتأكيد أطروحته إلى تفسير بروز الـ»أكرام» بدوره في التعاقدات التي تنضوي في إطارها القبائل لاستغلال مشترك (الانتجاع) للأراضي بصفته الضامن، غير أنه لا يمكن تعميم هذه الحالة، لأن هناك مناطق لا تقوم فيها مثل هذه التعاقدات.
يرى عبد الله العروي أن الانقسامية مقاربة انتقائية للمجتمع المغربي، ولذلك لم يتحرر كلنر من أبحاث الضباط الكولونياليين «المتعاطفين» مع الثقافة البربرية، حيث تبدو الانتقائية واضحة في تركيزهم على الأطلس المتوسط لأبحاثهم، وكلنر تبعهم في ذلك وحاول تعميم النتائج دون أن يكلف نفسه عناء إجراء المقارنات. ويبين عبد الله العروي كيف أن كلنر برغم اعترافه بأن الزاوية عبارة عن عالم منتشر، حيث يتوزع أبناء الشيخ المؤسس على المناطق والجهات لإقامة زوايا أخرى، مما يجعلهم بالضرورة يتفاعلون مع تلك البيئات الجديدة، بيد أن كلنر يؤكد أن الزاوية لها استقلالية كاملة كما لها القدرة على استيعاب المؤثرات الخارجية وتكييفها مع ديناميتها الداخلية. غير أن عبد الله العروي يرى أن هذا التفسير لا يقوم على فرضيات سليمة ولا قدرة له على الصمود، مما اضطر معه كلنر إلى اللجوء إلى مفهوم «الهامشية»، والقول من ثم بوجود قبيلة حقيقية وقبيلة بدائية وقبيلة هامشية، وبإضافة هذا المفهوم فقدت الانقسامية جدواها.
مرد ضعف النظرية الانقسامية برأي عبد الله العروي له مستويان:
الأول: المبالغة في الشكلانية مما يحرمها من امتلاك قوة تفسيرية، فتقدم لنا تعريفا خاطئا لمفهوم القبيلة.
الثاني: الاعتماد على نماذج غير تمثلية يسقطها بالضرورة في تناقض استنتاجاتها، (مشكل الانتقائية والتعميم).
لقد حاول كلنر الجمع بين مفاهيم البنيوية والانقسامية والهامشية، فكانت النتائج مفارقة، وأوضح مثال على ذلك عندما حاول تطبيق تلك المفاهيم على الأساطير والحكايات المروية، فيما أبحاث أخرى أثبتت عكس ما توصل إليه كلنر، الذي حاول، عبر تأويل تلك الأساطير، التدليل على هامشية القبيلة البربرية، لكن نزعته نحو البنيوية أفضت به إلى ممارسة تأويل من دون الاستناد إلى تاريخ المغرب. الأمر ذاته حصل لكلنر عندما حاول تأويل الروابط النسبية (الأنساب) التي وصفها بكونها وهمية، في حين أن النسب الشريف في المغرب يخضع لرقابة الأشراف و»أهل البركة». إن إقرار كلنر بأن للنسب وظيفتين متناقضتين، وظيفة أساسية ووظيفة ثانوية، راجع إلى الانتقائية النظرية التي لجأ إليها باستخدام التفسير البنيوي. هذه الانتقائية أفقدت التفسير البنيوي بالقدر الذي أفقدت فيه مفهوم الهامشية كل قوتهما، وجرد الأطروحة الانقسامية من قدرتها التحليلية والتفسيرية، لذلك بقيت الانقسامية برأي عبد الله العروي مقولة تجريدية وسطحية.
في المحصلة النهائية، فشل الاتجاه الأنجلوسكسوني (الذي اعتبره عبد الله العروي طفيليا) في تجاوز الإرث الكولونيالي. وتوقف عند إعادة إنتاج أطروحات بحاجة إلى كثير من المراجعة والتدقيق، وبتعبير عبد الله العروي فإن الانقسامية ليست سوى صياغة جديدة لديمقراطية روبير مونتانيي، فيما مفهوم الهامشية تعبير بديل عن الانزواء الذي وصفه بيرك.
حاول عبد الله العروي في كتابيه: «مجمل تاريخ المغرب» و»أصول الوطنية المغربية»، إثبات عجز المنظور الأنتربولوجي عامة والانقسامية بصفة خاصة، عن فهم السيرورة التاريخية للتحولات الاجتماعية، ما جعلهما يميلان أكثر إلى منهج اختزالي وتعسفي بالاعــــتماد على سببية بنيوية سكونية تلغي العوامل والديناميات التاريخية التي تعــــتمل في سيرورة التحولات، كما تلغي العوامل التي تساعد على التحـــكم بتلك التحولات لأجل توجيهها أو إعـــاقتها.
بناء على ذلك، يشكك عبد الله العروي في قدرة الانقسامية على تقديم فهم أفضل للمجتمع المغربي. Laroui A., 1977, Les origines sociales et culturelles du nationalisme marocain (1830-1912), Paris, Maspero. pp. 174-177.
-----------------
محمد الغيلاني
* باحث في السوسيولوجيا
المساء
9/9/2008
ربيع- عدد الرسائل : 1432
العمر : 48
تاريخ التسجيل : 04/07/2008
عبد الله حمودي منتقدا الانقسامية
(الانقسامية من بين النظريات التي تمارس إغراء كبيرا على الباحثين في ميدان المجتمع القروي بالمغرب)
عبد الله حمودي.
(ومن الواضح أن الروابط العرفية، والدينية (الزوايا) والحرفية قابلة
لقسط من حرية اختيار الانتماء، كما يمكن بطقوس خاصة تغيير الانتماء
القبلي، والخروج من زاوية والدخول في أخرى. وباستثناء حرية العقيدة، فقد
كان هناك مجال للاختيار، وحتى العقيدة لا يمكن أن نقول بأن اعتناقها كان
يتم عند جميع الأفراد والفئات بشكل يمنع النقاش والتساؤل منعا كليا. وكل
هذا يفند النظرية الانقسامية من حيث نظرتها إلى الأفراد والفئات، وكأن
سلوكاتهم مسيرة من طرف ميكانيكية عمياء.)
عبد الله حمودي
بعد تناولنا للنقد الذي صوبه عبد الله العروي باتجاه الأطروحة
الانقسامية، يمكن أن نسجل في هذا السياق أن من أبرز نقاد النظرية
الانقسامية يمكن ذكر: عبد الله حمودي، هنري منسون، ديل أيكلمان، جاك بيرك،
عبد الكبير الخطيبي، فجميعهم يسجلون افتراضية النموذج الانقسامي وجهوزية
أفكاره وأحكامه.
يعد عبد الله حمودي من أوائل منتقدي النظرية الانقسامية، إذ ظهرت
أولى مقالاته بهذا الخصوص سنة 1974(المقصود هنا مقالته: “القداسة والسلطة
والمجتمع”). ويعيد أسباب ذلك النقد إلى كون الانقسامية تفسر السلوك
الإنساني بإرجاعه إلى التأثير اللاشعوري لعوامل بنيوية، فيما تبين التجربة
الميدانية أن المجتمع يعتمد أنماطا ومداخل متعددة للتعاطي مع محيطه وظروفه
وحاضره ومستقبله. فالمجتمع البدوي ليس بالضرورة رهين التقليد الآلي، إنه
مجتمع يتصرف وفق قواعد تواصلية تعتمد التاريخ والذاكرة والمعرفة والحوار.
فيما كانت المقاربة الانقسامية مقيدة برؤية بنيوية جامدة لا تعترف للتاريخ
بأهميته.
ركز عبد الله حمودي في تناوله للانقسامية على مناقشة غلنر حول ثلاث نقط رئيسية وردت في كتابه الأخير المعروف بـ”صلحاء الأطلس”:
أولا: مسألة النسب ودوره في تحديد هوية الفئات الاجتماعية.
ثانيا: التراتبية الاجتماعية وإشكالية السلطة السياسية، (حيث تبنى
غلنر موقفا نظريا حال دون إدراكه لتمظهرات التراتب الاجتماعي وتأثير ذلك
على الجانب السياسي).
ثالثا: وظائف الصلحاء وأدوارهم السلمية والسياسية (الصلحاء الذين لا ينحدرون من نسب شريف).
السؤال المركزي في كتاب غلنر يتعلق بكيفية الحفاظ على الأمن والاستقرار في المجتمع الانقسامي؟
بالنسبة إلى غلنر، فإن الاستقرار والأمن يتم تحصيلهما من خلال توازن
العنف وما تفرضه آلية التحكيم التي يمارسها الصلحاء بنوع من الاعتدال.
كما تتميز قبائل الأطلس بغياب التراتب الاجتماعي وانعدام تقسيم العمل وضعف القيادة بسبب البنية الانقسامية وهيمنة الصلحاء.
نظرية غلنر برأي عبد الله حمودي تموقع الأولياء خارج السياق المجتمعي،
وهو من ثم لا يميز بين هامشية معيارية وهامشية اجتماعية. الأولياء يوجدون
في صلب البنية الاجتماعية وليسوا كيانا هامشيا.
كما يفند عبد الله حمودي أطروحة غلنر حول مسألة التراتبية الاجتماعية
بتقديم نماذج قبلية تمارس الكثير من الهيمنة من خلال دمج الغير في تنظيم
اجتماعي “غير منصف”. إن هناك هرمية لا يمكن التغاضي عن ملاحظتها في
القسمات الاجتماعية، وإن الصلحاء جزء من ذلك التراتب الهرمي. كما أن ما
يصفه إرنست غلنر انتخابا لزعامة القبيلة يعتبره عبد الله حمودي “تعيينا”،
فيما هذا التعيين يقوم على أساس الجاه والنفوذ (النسب والثروة) الذي لا
يتأتى إلا للنواة المؤسسة للقبيلة، وبالتالي هناك إقصاء لبقية الشرائح
بعكس ما يدعيه كلنر.
بينما يعلق حمودي على فكرة غلنر حول وظيفة الصلحاء في ربط القبيلة
بالمجتمع الإسلامي بحكم موقعهم ونفوذهم الديني، إذ يعتبر أن الأولياء
يتجاوزون تلك الوظيفة الإيديولوجية والدينية، حيث يساهمون في الدمج
السياسي على مستوى الرهانات المحلية من جهةـ وعلى المستوى المركزي في
علاقة بالمخزن من جهة ثانية.
من جهة أخرىـ تساءل حمودي حول الوظيفة السلمية والحيادية للأولياء،
إذ من خلال الوقائع والروايات تبين أن لهؤلاء عبر التاريخ أدوارا عسكرية
يصعب تفسيرها وتحليلها في ضوء النظرية الانقسامية. إن الولي يستغل
الالتباس القائم بين القداسة والسياسة لينخرط في معركة السعي إلى الحكم.
ويزيد على ذلك الاستشهاد ببعض الوثائق والرسائل والمخطوطات التي تكشف عن
طبيعة العلاقة المعقدة بين الولي والمخزن. ولذلك يعتبر حمودي أن من الأفضل
تتبع الحركية التي تقود الولي من الوظيفة السلمية إلى النشاط السياسي، ومن
ثم إلى الاستيلاء على السلطة.
ينطلق غلنر من نظرية التوازنات الانقسامية في التنظير ليس فقط
للمجتمع المغربي بل لمجتمعات العالم العربي والإسلامي ككل. ويصف غلنر تلك
التوازنات التي تبسط الأمن بكونها آليات من نمط هوبزي (نسبة لـ: هوبز). مع
أن غلنر يغفل عن مفعول الفروقات الاجتماعية التي يحدثها انضمام الغرباء
لسبب من الأسباب، ثم تعود للانسحاب فتتعرض في إثر ذلك فكرة الانقسامية
للارتباك والتناقض لأن آلية التوازنات تتعرض للاختلال.
منطلقا من اعتبار القبيلة لا تعدو كونها مجرد لغة يتم تداولها،
ينتقد عبد الله حمودي اعتبار القبيلة الوحدة الأساسية في المعاملات، حيث
حولت الانقسامية بطريقة ميكانيكية وظائفها (يمكن الرجوع إلى الاجتهادات
النظرية التي توصل إليها كليفورد غيرتز لتمييز الفارق بينها وبين
الانقسامية من خلال نظام المبادلات الاقتصادية). يتفق عبد الله حمودي مع
رأي عبد الله العروي عندما يعتبر أن غلنر ضمن مقاربته مفارقة أضرت
بالتحليل الانقسامي، عندما همش معطيات التاريخ.
ويمكن أن نلخص انتقادات عبد الله حمودي للانقسامية عند غلنر في العناصر التالية:
عدم الاعتناء بتفاصيل الحياة اليومية للمجتمع (يعود ذلك بحسب تحريات
حمودي إلى عدم استقرار غلنر المتواصل بالمنطقة المدروسة، وتنطبق هذه
الملاحظة على أغلب الباحثين الانقساميين الذين لا يدققون في مصادرهم ولا
يعملون على تنويعها).
إغفال تعدد الروابط واختزالها في البنية العشائرية للقبيلة.
توصيف ميكانيكي للممارسات والمؤسسات.
توصيف أحادي وسكوني للنظام القبلي لا ينتبه للتحولات العميقة التي طرأت على هذا النظام.
إغفال معطيات النظرة القبلية لـ: النسب والمساواة والتحالفات التي تتبدل أحجامها وفقا لظهور أو اختفاء التناقضات الداخلية.
إغفال سيرورات العلاقة بين المخزن والقبيلة.
دور الأولياء يتعدى وظيفة الوساطة ولا يكتفي بها.
اندراج القبيلة في سيرورة التاريخ ما قد ينتج من صلبها الدولة والمخزن في بعض الحالات.
محمد الغيلاني
* باحث في السوسيولوجيا
المساء
10/9/2008
عبد الله حمودي.
(ومن الواضح أن الروابط العرفية، والدينية (الزوايا) والحرفية قابلة
لقسط من حرية اختيار الانتماء، كما يمكن بطقوس خاصة تغيير الانتماء
القبلي، والخروج من زاوية والدخول في أخرى. وباستثناء حرية العقيدة، فقد
كان هناك مجال للاختيار، وحتى العقيدة لا يمكن أن نقول بأن اعتناقها كان
يتم عند جميع الأفراد والفئات بشكل يمنع النقاش والتساؤل منعا كليا. وكل
هذا يفند النظرية الانقسامية من حيث نظرتها إلى الأفراد والفئات، وكأن
سلوكاتهم مسيرة من طرف ميكانيكية عمياء.)
عبد الله حمودي
بعد تناولنا للنقد الذي صوبه عبد الله العروي باتجاه الأطروحة
الانقسامية، يمكن أن نسجل في هذا السياق أن من أبرز نقاد النظرية
الانقسامية يمكن ذكر: عبد الله حمودي، هنري منسون، ديل أيكلمان، جاك بيرك،
عبد الكبير الخطيبي، فجميعهم يسجلون افتراضية النموذج الانقسامي وجهوزية
أفكاره وأحكامه.
يعد عبد الله حمودي من أوائل منتقدي النظرية الانقسامية، إذ ظهرت
أولى مقالاته بهذا الخصوص سنة 1974(المقصود هنا مقالته: “القداسة والسلطة
والمجتمع”). ويعيد أسباب ذلك النقد إلى كون الانقسامية تفسر السلوك
الإنساني بإرجاعه إلى التأثير اللاشعوري لعوامل بنيوية، فيما تبين التجربة
الميدانية أن المجتمع يعتمد أنماطا ومداخل متعددة للتعاطي مع محيطه وظروفه
وحاضره ومستقبله. فالمجتمع البدوي ليس بالضرورة رهين التقليد الآلي، إنه
مجتمع يتصرف وفق قواعد تواصلية تعتمد التاريخ والذاكرة والمعرفة والحوار.
فيما كانت المقاربة الانقسامية مقيدة برؤية بنيوية جامدة لا تعترف للتاريخ
بأهميته.
ركز عبد الله حمودي في تناوله للانقسامية على مناقشة غلنر حول ثلاث نقط رئيسية وردت في كتابه الأخير المعروف بـ”صلحاء الأطلس”:
أولا: مسألة النسب ودوره في تحديد هوية الفئات الاجتماعية.
ثانيا: التراتبية الاجتماعية وإشكالية السلطة السياسية، (حيث تبنى
غلنر موقفا نظريا حال دون إدراكه لتمظهرات التراتب الاجتماعي وتأثير ذلك
على الجانب السياسي).
ثالثا: وظائف الصلحاء وأدوارهم السلمية والسياسية (الصلحاء الذين لا ينحدرون من نسب شريف).
السؤال المركزي في كتاب غلنر يتعلق بكيفية الحفاظ على الأمن والاستقرار في المجتمع الانقسامي؟
بالنسبة إلى غلنر، فإن الاستقرار والأمن يتم تحصيلهما من خلال توازن
العنف وما تفرضه آلية التحكيم التي يمارسها الصلحاء بنوع من الاعتدال.
كما تتميز قبائل الأطلس بغياب التراتب الاجتماعي وانعدام تقسيم العمل وضعف القيادة بسبب البنية الانقسامية وهيمنة الصلحاء.
نظرية غلنر برأي عبد الله حمودي تموقع الأولياء خارج السياق المجتمعي،
وهو من ثم لا يميز بين هامشية معيارية وهامشية اجتماعية. الأولياء يوجدون
في صلب البنية الاجتماعية وليسوا كيانا هامشيا.
كما يفند عبد الله حمودي أطروحة غلنر حول مسألة التراتبية الاجتماعية
بتقديم نماذج قبلية تمارس الكثير من الهيمنة من خلال دمج الغير في تنظيم
اجتماعي “غير منصف”. إن هناك هرمية لا يمكن التغاضي عن ملاحظتها في
القسمات الاجتماعية، وإن الصلحاء جزء من ذلك التراتب الهرمي. كما أن ما
يصفه إرنست غلنر انتخابا لزعامة القبيلة يعتبره عبد الله حمودي “تعيينا”،
فيما هذا التعيين يقوم على أساس الجاه والنفوذ (النسب والثروة) الذي لا
يتأتى إلا للنواة المؤسسة للقبيلة، وبالتالي هناك إقصاء لبقية الشرائح
بعكس ما يدعيه كلنر.
بينما يعلق حمودي على فكرة غلنر حول وظيفة الصلحاء في ربط القبيلة
بالمجتمع الإسلامي بحكم موقعهم ونفوذهم الديني، إذ يعتبر أن الأولياء
يتجاوزون تلك الوظيفة الإيديولوجية والدينية، حيث يساهمون في الدمج
السياسي على مستوى الرهانات المحلية من جهةـ وعلى المستوى المركزي في
علاقة بالمخزن من جهة ثانية.
من جهة أخرىـ تساءل حمودي حول الوظيفة السلمية والحيادية للأولياء،
إذ من خلال الوقائع والروايات تبين أن لهؤلاء عبر التاريخ أدوارا عسكرية
يصعب تفسيرها وتحليلها في ضوء النظرية الانقسامية. إن الولي يستغل
الالتباس القائم بين القداسة والسياسة لينخرط في معركة السعي إلى الحكم.
ويزيد على ذلك الاستشهاد ببعض الوثائق والرسائل والمخطوطات التي تكشف عن
طبيعة العلاقة المعقدة بين الولي والمخزن. ولذلك يعتبر حمودي أن من الأفضل
تتبع الحركية التي تقود الولي من الوظيفة السلمية إلى النشاط السياسي، ومن
ثم إلى الاستيلاء على السلطة.
ينطلق غلنر من نظرية التوازنات الانقسامية في التنظير ليس فقط
للمجتمع المغربي بل لمجتمعات العالم العربي والإسلامي ككل. ويصف غلنر تلك
التوازنات التي تبسط الأمن بكونها آليات من نمط هوبزي (نسبة لـ: هوبز). مع
أن غلنر يغفل عن مفعول الفروقات الاجتماعية التي يحدثها انضمام الغرباء
لسبب من الأسباب، ثم تعود للانسحاب فتتعرض في إثر ذلك فكرة الانقسامية
للارتباك والتناقض لأن آلية التوازنات تتعرض للاختلال.
منطلقا من اعتبار القبيلة لا تعدو كونها مجرد لغة يتم تداولها،
ينتقد عبد الله حمودي اعتبار القبيلة الوحدة الأساسية في المعاملات، حيث
حولت الانقسامية بطريقة ميكانيكية وظائفها (يمكن الرجوع إلى الاجتهادات
النظرية التي توصل إليها كليفورد غيرتز لتمييز الفارق بينها وبين
الانقسامية من خلال نظام المبادلات الاقتصادية). يتفق عبد الله حمودي مع
رأي عبد الله العروي عندما يعتبر أن غلنر ضمن مقاربته مفارقة أضرت
بالتحليل الانقسامي، عندما همش معطيات التاريخ.
ويمكن أن نلخص انتقادات عبد الله حمودي للانقسامية عند غلنر في العناصر التالية:
عدم الاعتناء بتفاصيل الحياة اليومية للمجتمع (يعود ذلك بحسب تحريات
حمودي إلى عدم استقرار غلنر المتواصل بالمنطقة المدروسة، وتنطبق هذه
الملاحظة على أغلب الباحثين الانقساميين الذين لا يدققون في مصادرهم ولا
يعملون على تنويعها).
إغفال تعدد الروابط واختزالها في البنية العشائرية للقبيلة.
توصيف ميكانيكي للممارسات والمؤسسات.
توصيف أحادي وسكوني للنظام القبلي لا ينتبه للتحولات العميقة التي طرأت على هذا النظام.
إغفال معطيات النظرة القبلية لـ: النسب والمساواة والتحالفات التي تتبدل أحجامها وفقا لظهور أو اختفاء التناقضات الداخلية.
إغفال سيرورات العلاقة بين المخزن والقبيلة.
دور الأولياء يتعدى وظيفة الوساطة ولا يكتفي بها.
اندراج القبيلة في سيرورة التاريخ ما قد ينتج من صلبها الدولة والمخزن في بعض الحالات.
محمد الغيلاني
* باحث في السوسيولوجيا
المساء
10/9/2008
ربيع- عدد الرسائل : 1432
العمر : 48
تاريخ التسجيل : 04/07/2008
قراءة تمهيدية في الإرث السوسيولوجي لـ«بول باسكون»
تمتلك سوسيولوجيا بول باسكون Paul Pascon (1932-1985) الكثير من راهنيتها،
لقد كانت استنتاجاته وانتقاداته المبنية على البحث والرصد تتصف بكثير من
العمق. تحليلاته للمجتمع المغربي تشهد على منسوب التحولات كما تشهد على
منسوب الجمود. عندما نتأمل آراءه حول البادية أو التعليم أو توزيع الثروات
مثلا، نشعر بأنه قريب زمنيا ومكانيا من أوضاعنا الاجتماعية المعاصرة، وهو
الذي كان يردد أن الصراع الاجتماعي في المغرب أصم، لأن المغاربة لا يريدون
الخروج من بطن التاريخ ولا من بيت الأب. لم يكن باسكون سوسيولوجيا عاديا،
لقد كان مؤسسا ومنخرطا عاطفيا ووجدانيا في مشروع كان المجتمع المغربي
عنوانه الكبير.
نشر بول باسكون أول دراسة بالمجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع سنة
1954 «هجرة شلوح سوس»، فيما أصبح عضوا بهيئة تحريرها ابتداء من 1966، حيث
دشن مشاركته فيها بدراسة مميزة حول «اليد العاملة والتشغيل في القطاع
التقليدي». يحتل باسكون بفضل غزارة بحوثه مكانا أساسيا في السوسيولوجيا
المغربية وليس فقط في الأبحاث القروية التي اشتهر بها على مدى حياته. لقد
كان حاضرا على كل واجهات العلوم الاجتماعية، بما في ذلك الإثنوغرافيا
والجغرافيا والتاريخ... فضلا عن السوسيولوجيا.
لعل اسم بول باسكون سيبقى من دون منازع مخلدا في أي عمل تأريخي لنشأة
السوسيولوجيا المغربية، بفضل جهوده البحثية التأسيسية. لقد كان يشتغل على
جميع المستويات كأستاذ وباحث وإطار إداري، وهو القادم من خلفية اجتماعية
قريبة من نمط العيش المغربي، فبرغم أصوله الفرنسية إلا أنه ولد ونشأ في
المغرب وحمل جنسيته، ومع أنه كان من الناحية السوسيولوجية والمعرفية
والنظرية متأثرا بالتصور الماركسي، إلا أنه مع ذلك لم يكن يعتبر نفسه
شيوعيا (الماركسية مقاربة تساعد على رؤية ما وراء الحجاب، ترغب المجتمعات
باستمرار في إخفاء ما تمارسه وما هي عليه) فبول باسكون لا يرفض ولا يشكك
في المنهجية الماركسية إنما يحاول استخدامها وفقا لإمكاناته، وإن كانت
كغيرها لا تحل كل شيء برأيه.
مع بول باسكون والمجموعة المغربية من الشباب المثقفين والباحثين
الذين التحقوا به فيما بعد، ستعرف السوسيولوجيا ولادتها الأولى في المغرب
المعاصر. فبرغم تعقيدات التأسيس حيث غموض الرؤية وصعوبة تكوين تصور شمولي
حول المجتمع وتداخل الميادين المعرفية والتباس منسوب القطائع بينها، إلا
أن هدف ومشروع السوسيولوجيا في بداياتها الأولى كان يتطلع إلى بناء
سوسيولوجيا «مستقلة»، نقدية وقابلة للتطبيق. سوسيولوجيا نقدية إزاء الإرث
الكولونيالي وإزاء المغرب العتيق الذي لم يتخلص بعد من هيمنة «النظام
السلطوي الهجين» الذي تحتل فيه سلطة القائد موقعا مركزيا، وحيث الصراعات
حول الأراضي الجماعية تستمر من دون توقف، كانت هذه السوسيولوجيا تعتقد
-بناء على فرضية مركزية- أنه فقط من خلال البادية يمكن تدشين تحول عميق في
المجتمع المغربي برمته. وهذه أطروحة تستلهم أفكارها من مرجعيتين
سوسيولوجيتين: مرجعية لها قواسم مشتركة مع بعض عناصر التفكير الكولونيالي
الذي عرف بنزوعه نحو الدراسات حول البادية المغربية، ومرجعية ثانية تستلهم
من الأطروحة البركية (نسبة إلى جاك بيرك)، التي تدافع عن تحديث البادية
المغربية، بعض اتجاهاتها.
انطوت هذه السوسيولوجيا الوليدة على وضع تصور حول الأبعاد
السوسيولوجية للمجتمع التقليدي وتوازناته وتأثيراتها، وقد جعلت من أهداف
مشروعها العلمي دراسة التحولات الحاصلة في النسيج الاجتماعي والاقتصادي
بسبب تغير أنماط وعلاقات الإنتاج، تلك هي الأطروحة التي لخصها باسكون في
مقولته «المجتمع المركب»، وهو تصنيف سوسيولوجي مستلهم من مصادر نظرية
متعددة، منها التصور الماركسي وبعض أفكار غورفيتش ومن أبحاث جاك بيرك
وأيضا من منظري الانقسامية. بهذا المعنى يمكن القول إن مقولة بول باسكون
هي بدورها تمثل رؤية مركبة حول مجتمع مركب.
يتعلق الأمر بالنسبة لــبول باسكون في حالة النموذج المجتمعي
المغربي بالاهتمام بالأشكال الفئوية والتجزيئية مع الاعتناء بتمفصل مختلف
الأنساق والأنظمة السياسية والاقتصادية والقانونية والاجتماعية والرمزية،
حيث تجري رهانات التغيير التلقائي والسلس لنمطي العيش والإنتاج. تلك هي
مجمل الأفكار التي شكلت محور بحث ورصد وتحليل في أهم إنتاجات باسكون والتي
يمكن ذكر بعض منها:
حوز مراكش: التاريخ الاجتماعي والبنيات الزراعية (أطروحة دكتوراه
الدولة تخصص سوسيولوجيا)، دار إليغ: التاريخ الاجتماعي لتازروالت (بمشاركة
عريف وشرويتر وطوزي ويوستن).
هذه فقط نماذج من الدراسات والأبحاث التي أنجزها بول باسكون والذي
خلف وراءه، بعد رحيله المفجع حيث قضى في حادثة سير (يوم 21 أو 22 أبريل من
سنة 1985)، بيبليوغرافيا غنية تمثل ثروة معرفية وسوسيولوجية لا يمكن
تجاوزها في التأريخ للسوسيولوجيا المغربية.
لقد كان بول باسكون يعي أهمية تأسيس سوسيولوجيا مستقلة عن الدولة كما
عن المصالح الخاصة. فبادر سنة 1959 إلى تأسيس ما عرف بـ: EIRESH، وهو فريق
عمل متداخل الاختصاصات للبحث في العلوم الإنسانية (تكون في حينه من:
بنعلي، بنسيمون، بودربالة، شوفالدوني، دوليليز، فوييل، أني جاركو،
كارسونتي، لشكر، لحليمي، لحلو، لازاريف، أوليفيي، مواتي، فييناي...)، لقد
كانت هذه أول محاولة محلية لمأسسة البحث السوسيولوجي في المغرب. استمر عمل
هذا الفريق حتى سنة 1963. وكان يعمل بشكل أساسي مع الاتحاد المغربي للشغل،
وهي النقابة العمالية التي كانت مرتبطة بحزب الاتحاد الوطني للقوات
الشعبية، كما كان يعمل مع بعض المصالح التقنية لبعض الوزارات منها المكتب
الوطني للري، الذي سيلتحق به باسكون فيما بعد أي تحديدا سنة 1964، بينما
بعض أعضاء هذا الفريق سيشاركون في إعداد المخطط الخماسي «التقدمي» 1960-
1965 لحكومة عبد الله إبراهيم التي تمت إقالتها سنة 1960. شهدت هذه
المرحلة ولادة البحوث الميدانية الأولى في المجال السوسيولوجي المغربي.
محمد الغيلاني
* باحث في السوسيولوجيا
المساء
11/9/2008
لقد كانت استنتاجاته وانتقاداته المبنية على البحث والرصد تتصف بكثير من
العمق. تحليلاته للمجتمع المغربي تشهد على منسوب التحولات كما تشهد على
منسوب الجمود. عندما نتأمل آراءه حول البادية أو التعليم أو توزيع الثروات
مثلا، نشعر بأنه قريب زمنيا ومكانيا من أوضاعنا الاجتماعية المعاصرة، وهو
الذي كان يردد أن الصراع الاجتماعي في المغرب أصم، لأن المغاربة لا يريدون
الخروج من بطن التاريخ ولا من بيت الأب. لم يكن باسكون سوسيولوجيا عاديا،
لقد كان مؤسسا ومنخرطا عاطفيا ووجدانيا في مشروع كان المجتمع المغربي
عنوانه الكبير.
نشر بول باسكون أول دراسة بالمجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع سنة
1954 «هجرة شلوح سوس»، فيما أصبح عضوا بهيئة تحريرها ابتداء من 1966، حيث
دشن مشاركته فيها بدراسة مميزة حول «اليد العاملة والتشغيل في القطاع
التقليدي». يحتل باسكون بفضل غزارة بحوثه مكانا أساسيا في السوسيولوجيا
المغربية وليس فقط في الأبحاث القروية التي اشتهر بها على مدى حياته. لقد
كان حاضرا على كل واجهات العلوم الاجتماعية، بما في ذلك الإثنوغرافيا
والجغرافيا والتاريخ... فضلا عن السوسيولوجيا.
لعل اسم بول باسكون سيبقى من دون منازع مخلدا في أي عمل تأريخي لنشأة
السوسيولوجيا المغربية، بفضل جهوده البحثية التأسيسية. لقد كان يشتغل على
جميع المستويات كأستاذ وباحث وإطار إداري، وهو القادم من خلفية اجتماعية
قريبة من نمط العيش المغربي، فبرغم أصوله الفرنسية إلا أنه ولد ونشأ في
المغرب وحمل جنسيته، ومع أنه كان من الناحية السوسيولوجية والمعرفية
والنظرية متأثرا بالتصور الماركسي، إلا أنه مع ذلك لم يكن يعتبر نفسه
شيوعيا (الماركسية مقاربة تساعد على رؤية ما وراء الحجاب، ترغب المجتمعات
باستمرار في إخفاء ما تمارسه وما هي عليه) فبول باسكون لا يرفض ولا يشكك
في المنهجية الماركسية إنما يحاول استخدامها وفقا لإمكاناته، وإن كانت
كغيرها لا تحل كل شيء برأيه.
مع بول باسكون والمجموعة المغربية من الشباب المثقفين والباحثين
الذين التحقوا به فيما بعد، ستعرف السوسيولوجيا ولادتها الأولى في المغرب
المعاصر. فبرغم تعقيدات التأسيس حيث غموض الرؤية وصعوبة تكوين تصور شمولي
حول المجتمع وتداخل الميادين المعرفية والتباس منسوب القطائع بينها، إلا
أن هدف ومشروع السوسيولوجيا في بداياتها الأولى كان يتطلع إلى بناء
سوسيولوجيا «مستقلة»، نقدية وقابلة للتطبيق. سوسيولوجيا نقدية إزاء الإرث
الكولونيالي وإزاء المغرب العتيق الذي لم يتخلص بعد من هيمنة «النظام
السلطوي الهجين» الذي تحتل فيه سلطة القائد موقعا مركزيا، وحيث الصراعات
حول الأراضي الجماعية تستمر من دون توقف، كانت هذه السوسيولوجيا تعتقد
-بناء على فرضية مركزية- أنه فقط من خلال البادية يمكن تدشين تحول عميق في
المجتمع المغربي برمته. وهذه أطروحة تستلهم أفكارها من مرجعيتين
سوسيولوجيتين: مرجعية لها قواسم مشتركة مع بعض عناصر التفكير الكولونيالي
الذي عرف بنزوعه نحو الدراسات حول البادية المغربية، ومرجعية ثانية تستلهم
من الأطروحة البركية (نسبة إلى جاك بيرك)، التي تدافع عن تحديث البادية
المغربية، بعض اتجاهاتها.
انطوت هذه السوسيولوجيا الوليدة على وضع تصور حول الأبعاد
السوسيولوجية للمجتمع التقليدي وتوازناته وتأثيراتها، وقد جعلت من أهداف
مشروعها العلمي دراسة التحولات الحاصلة في النسيج الاجتماعي والاقتصادي
بسبب تغير أنماط وعلاقات الإنتاج، تلك هي الأطروحة التي لخصها باسكون في
مقولته «المجتمع المركب»، وهو تصنيف سوسيولوجي مستلهم من مصادر نظرية
متعددة، منها التصور الماركسي وبعض أفكار غورفيتش ومن أبحاث جاك بيرك
وأيضا من منظري الانقسامية. بهذا المعنى يمكن القول إن مقولة بول باسكون
هي بدورها تمثل رؤية مركبة حول مجتمع مركب.
يتعلق الأمر بالنسبة لــبول باسكون في حالة النموذج المجتمعي
المغربي بالاهتمام بالأشكال الفئوية والتجزيئية مع الاعتناء بتمفصل مختلف
الأنساق والأنظمة السياسية والاقتصادية والقانونية والاجتماعية والرمزية،
حيث تجري رهانات التغيير التلقائي والسلس لنمطي العيش والإنتاج. تلك هي
مجمل الأفكار التي شكلت محور بحث ورصد وتحليل في أهم إنتاجات باسكون والتي
يمكن ذكر بعض منها:
حوز مراكش: التاريخ الاجتماعي والبنيات الزراعية (أطروحة دكتوراه
الدولة تخصص سوسيولوجيا)، دار إليغ: التاريخ الاجتماعي لتازروالت (بمشاركة
عريف وشرويتر وطوزي ويوستن).
هذه فقط نماذج من الدراسات والأبحاث التي أنجزها بول باسكون والذي
خلف وراءه، بعد رحيله المفجع حيث قضى في حادثة سير (يوم 21 أو 22 أبريل من
سنة 1985)، بيبليوغرافيا غنية تمثل ثروة معرفية وسوسيولوجية لا يمكن
تجاوزها في التأريخ للسوسيولوجيا المغربية.
لقد كان بول باسكون يعي أهمية تأسيس سوسيولوجيا مستقلة عن الدولة كما
عن المصالح الخاصة. فبادر سنة 1959 إلى تأسيس ما عرف بـ: EIRESH، وهو فريق
عمل متداخل الاختصاصات للبحث في العلوم الإنسانية (تكون في حينه من:
بنعلي، بنسيمون، بودربالة، شوفالدوني، دوليليز، فوييل، أني جاركو،
كارسونتي، لشكر، لحليمي، لحلو، لازاريف، أوليفيي، مواتي، فييناي...)، لقد
كانت هذه أول محاولة محلية لمأسسة البحث السوسيولوجي في المغرب. استمر عمل
هذا الفريق حتى سنة 1963. وكان يعمل بشكل أساسي مع الاتحاد المغربي للشغل،
وهي النقابة العمالية التي كانت مرتبطة بحزب الاتحاد الوطني للقوات
الشعبية، كما كان يعمل مع بعض المصالح التقنية لبعض الوزارات منها المكتب
الوطني للري، الذي سيلتحق به باسكون فيما بعد أي تحديدا سنة 1964، بينما
بعض أعضاء هذا الفريق سيشاركون في إعداد المخطط الخماسي «التقدمي» 1960-
1965 لحكومة عبد الله إبراهيم التي تمت إقالتها سنة 1960. شهدت هذه
المرحلة ولادة البحوث الميدانية الأولى في المجال السوسيولوجي المغربي.
محمد الغيلاني
* باحث في السوسيولوجيا
المساء
11/9/2008
ربيع- عدد الرسائل : 1432
العمر : 48
تاريخ التسجيل : 04/07/2008
المجتمع المغربي في سوسيولوجيا بول باسكون
التضامن الناتج عن القرابة هو أكثر الأشكال التضامنية هيمنة على الإطلاق، فيما التضامن الثيوقراطي يعتبر تضامنا عابرا.
الباحثون المنبهرون (يقصد الأنتربولوجيين الأمريكيين على الخصوص الذين
توافدوا على المغرب خلال سنوات الستينيات) ما زالوا يلهثون وراء اكتشاف
العالم القروي (في أعالي الجبال وعلى تخوم البيداء بتعبير باسكون) فيما
حياة اجتماعية أخرى جديدة بدأت تتعاظم منذ زمن بعيد في أماكن أخرى.. في
السهول والمدن.
عندما يتعلق الأمر بالفلاح المغربي نجد أن ثمة تجاذبات اجتماعية يقع
الفلاح تحت تأثيرها. فمن ناحية الانتماء يمكن القول إن هناك شرائح
اجتماعية تعد من الوجهاء القرويين تمثل سندا للدولة، في حين ترتبط شريحة
من الفلاحين بالدولة عاطفيا ودينيا، وإن كان باسكون يعتبر علاقة الدولة
بالفلاحين يشوبها الكثير من الغموض، فالدولة، بتعبيره، إله رهيب ومصدر
لنعم غير متوقعة. لكن صغار الفلاحين يتحملون ضغوطا كبيرة، ينتفضون في صمت
إلا أنهم لا يمثلون طبقة بالمعنى الدقيق للمفهوم. فردود فعلهم تنحصر في
مستوى أدنى، أي في التضامنات التقليدية المسنودة بالقرابة والنسب. لذلك
اعتبر بول باسكون أن الأعيان يمسكون بالفلاحين اجتماعيا. ولذلك يتفق مع
جون واتربوري حول هيمنة الأعيان على النظام التمثيلي، مادام الفلاحون
يصوتون في كل الأحوال لفائدة الأعيان الذين يمسكون بالفلاحين سياسيا.
الفلاح يدرك أن الأعيان بحكم مواقعهم وجاههم وارتباطاتهم يستغلون لكنهم
يوفرون الحماية.
يصف باسكون الصراع الطبقي الذي عاينه في البادية المغربية بأنه ليس
صراعا بين كبار الملاكين وغيرهم، بل صراع بين المقيمين وغير المقيمين،
ويرد ذلك لاعتبارات ثقافية مرتبطة بالمساهمة في الحياة المحلية، بعكس غير
المقيمين الذين يعتمدون على غيرهم للإشراف على أراضيهم ولهم نمط عيش يعتمد
أساسا على مداخيل غير زراعية.
يصف بول باسكون التطور الحاصل في المجتمع القروي على مستوى
الاستهلاك وطرق العيش والإعلام بأنه تطور مفارق، إذ بموازاته يلاحظ تناميا
في حدة التباينات بين المناطق، حيث هناك القطيعة بين المجتمع القروي وبين
المدينة والدولة معا، فيما فرص الخروج من تلك العزلة تبدو ضئيلة، باستثناء
بعض الجهات التي تستفيد إلى حد ما من عوائد الهجرة، تعاني البادية
المغربية من الحصار. بل إن تلك المناطق القروية التي عرفت ظاهرة الهجرة
المكثفة خارج المغرب لم تعرف تحولات اجتماعية لأن تلك الهجرة برأي باسكون
خلقت أوضاعا معقدة من الناحية الاجتماعية والاقتصادية أكثر مما جلبت معها
حلولا. لم ينجح المهاجرون برغم احتكاكهم بأنماط اجتماعية مغايرة في أن
يخترقوا النسيج التقليدي للبادية المغربية، لأن ذلك كان يتناقض مع
استراتيجياتهم الاجتماعية التي كانت تسعى إلى الارتقاء الاجتماعي في صلب
الأدوار التقليدية المهيمنة.
كان بول باسكون يعتبر أن سوسيولوجيا المراكز الصغرى متخلفة عن
مواكبة التحولات الاجتماعية التي تعتمل في تلك المناطق. يصف تلك التحولات
بأنها عنيفة بسبب عمليات الهجرة إليها بعد فشل البادية في استيعاب بعض
الفئات الاجتماعية كالفلاحين أو المهاجرين خارج المغرب، والذين اضطروا إلى
الاستقرار في تلك المراكز، بدل المدن الكبرى، بحثا عن حياة جديدة وبديلة.
لقد تم خلق هذه المراكز الصغرى على خلفية سياسية أكثر منها اجتماعية، غير
أن الوجود الاجتماعي انطوى على توترات حادة بسبب البطالة والمخدرات
والفساد، أدى إلى بروز نظام اجتماعي هامشي.
البادية مهددة بهيمنة منطق السوق، وهي تتعرض شيئا فشيئا للإفراغ.
ويجري البحث عن بدائل وأدوار جديدة للمراكز الصغرى لأنها أصبحت تلعب دورا
سياسيا متناميا.
المجتمع المركب
ينطلق باسكون من تنوع المجتمع المغربي الذي يعطي الانطباع بتعدد
ثقافاته، وتعايش أنماط اجتماعية تنتمي إلى مرجعيات تاريخية تمزج بين
القديم والجديد في تناغم قل نظيره. تساكن التقليد والحداثة يعكس مفارقات
وتعارضات، من غير الممكن تحليلها بالاعتماد على استنتاجات تبسيطية إثنية
تتم مقابلتها في الغالب مع العامل الثقافي. صحيح أنه منذ ميشو بلير ومن
جاء بعده، خصوصا مونتاني، ساهمت التعارضات: عرب/بربر، بلاد المخزن/بلاد
السيبة، الشرع/العرف، الاستبداد/الديمقراطية، في تقديم إجابات سهلة
ومختزلة. إن ذلك لن يتم برأي بول باسكون إلا بنوع من التأمل والتجاوز
المعرفيين لمجمل الاستنتاجات التي وصلتنا بطرق متعددة.
في الحقيقة ثمة نماذج متعددة من التنظيمات الاجتماعية المكتفية
بذاتها والمتصارعة في قلب المجتمع. لا يتعلق الأمر بمجتمع محدد بل بمظاهر
جزئية لمجتمعات عدة تتعايش في الزمان والمكان نفسيهما. بناء على هذا
التحليل ينتمي فرد بعينه، في الوقت نفسه، وحسب سلوكاته وتوجهاته إلى
مجتمعات متعددة. النماذج والعينات تبين ثقل التاريخ وحضوره. لا يمكن توقع
مواقف الأفراد. فتارة تهيمن التقنية وتارة العلاقات الاجتماعية، مرة
المؤسسات ومرة الثقافة، أحيانا التعاقدات وأحيانا أخرى الأخلاق أو
التقاليد والأعراف، المواقف أو المعتقدات، الرموز أو الإيديولوجيا...
وهكذا يقع المجتمع في نمط من الاستلاب العام. ما يحصل في المغرب من جراء
الحرص الشديد على وحدة الجسم الاجتماعي. فالمجتمع يتستر على الأشياء
الجديدة بالكلمات القديمة. هكذا هو حال عدد من القواعد والمؤسسات العرفية.
غير خاف أن كل هذه المعاني يمكن ردها إلى مجتمع محدد، قد يفسر هذا المظهر
من مقاومة المصطلح للتطور الاجتماعي ووضع العراقيل أمام أي توضيح للأوضاع
السوسيوتاريخية.
لفهم المجتمع من حولنا لا بد من صياغة تسلسل سوسيولوجي منسجم لرصد كل
أنماط التضامن السائدة في المجتمع المغربي. كل نمط من التضامن ينتج مجتمعا
خاصا به. لدينا أنماط مهيمنة من التضامن الناتج عن علاقات القرابة العصبية
(الأبوية)، ثم هناك التضامن الديني (الثيوقراطي/الإيديولوجي/الطرقي...)،
وهناك التضامن السياسي الترابي (القبلي)، ثم هناك أيضا التضامن القائم على
الوصاية (القايد وهو تضامن فيودالي)... الخ. يعتبر بول باسكون أن التضامن
الناتج عن القرابة هو أكثر الأشكال التضامنية هيمنة على الإطلاق، فيما
التضامن الثيوقراطي يعتبره تضامنا عابرا. من خلال الصراع بين هذه الأشكال
من التضامن يمكننا كتابة تاريخ المغرب برأي بول باسكون، خصوصا إذا علمنا
أن التضامن الناتج عن القرابة كان مستهدفا من قبل باقي الأشكال الأخرى غير
أنه مازال يمتلك قدرة على المقاومة والاستمرارية.
يلخص باسكون مفهوم المجتمع المركب بغياب رؤية مجتمعية ومشروع مجتمعي
له ما يكفي من المصداقية ما يجعله خيارا واضحا وقابلا للتطبيق. من دون هذا
البديل سيستمر منطق المجتمع المركب في الحضور طالما بقي المجتمع المغربي
يستعير وينتج خطابا تلفيقيا مجتزأ من بدائل منتقاة من كل اتجاه، وتلك هي
مواصفات المجتمع المركب بامتياز.
الحقول البحثية التي فتح أوراشها باسكون من قبيل دار إليغ في الجنوب
المغربي تكشف تقاطع أسئلة التاريخ الاجتماعي وأسئلة إعداد التراب، كما
تبين مدى تأثير النموذج التحليلي القروي الذي ورثه باسكون عن
السوسيولوجــــــــيا الكولونيالية كنزعة نظرية في تحليل المجتمع المغربي
انطلاقا من بواديه وهوامشه. وهو التوجه الذي سينتقده بول باسكون نفسه فيما
بعد، حيث اعتبر أن الباحثين المنبهرين (يقصد الأنتربولوجيين الأمريكيين
على الخصوص الذين توافدوا على المغرب خلال سنوات الستينيات) مازالوا
يلهثون وراء اكتشاف العالم القروي (في أعالي الجبال وعلى تخوم البيداء
بتعبير باسكون) فيما حياة اجتماعية أخرى جديدة بدأت تتعاظم منذ زمن بعيد
في أماكن أخرى.. في السهول والمدن.
ليس معنى ذلك أن هذا الجيل لم يكن يهتم بالمجال الحضري وإنما كان
الغرق في استنتاجات جاك بيرك يدفعهم للعالم القروي بحثا عن أجوبة عن
السؤال لماذا ومتى تهشم التاريخ الاجتماعي المغربي، معتقدين أنه انطلاقا
من البادية المغربية يمكن إطلاق وتفعيل مشروع تاريخي يمنح بديلا له ما
يكفي من المصداقية لمواجهة الهيمنة الرأسمالية الخارجية، وهو المشروع الذي
لم يكن متوافرا برأي بول باسكون في مرحلة السبعينيات، حيث شبه تلك المرحلة
بما كان عليه الوضع أيضا في بداية القرن العشرين.
محمد الغيلاني
* باحث في السوسيولوجيا
المساء
15/9/2008
الباحثون المنبهرون (يقصد الأنتربولوجيين الأمريكيين على الخصوص الذين
توافدوا على المغرب خلال سنوات الستينيات) ما زالوا يلهثون وراء اكتشاف
العالم القروي (في أعالي الجبال وعلى تخوم البيداء بتعبير باسكون) فيما
حياة اجتماعية أخرى جديدة بدأت تتعاظم منذ زمن بعيد في أماكن أخرى.. في
السهول والمدن.
عندما يتعلق الأمر بالفلاح المغربي نجد أن ثمة تجاذبات اجتماعية يقع
الفلاح تحت تأثيرها. فمن ناحية الانتماء يمكن القول إن هناك شرائح
اجتماعية تعد من الوجهاء القرويين تمثل سندا للدولة، في حين ترتبط شريحة
من الفلاحين بالدولة عاطفيا ودينيا، وإن كان باسكون يعتبر علاقة الدولة
بالفلاحين يشوبها الكثير من الغموض، فالدولة، بتعبيره، إله رهيب ومصدر
لنعم غير متوقعة. لكن صغار الفلاحين يتحملون ضغوطا كبيرة، ينتفضون في صمت
إلا أنهم لا يمثلون طبقة بالمعنى الدقيق للمفهوم. فردود فعلهم تنحصر في
مستوى أدنى، أي في التضامنات التقليدية المسنودة بالقرابة والنسب. لذلك
اعتبر بول باسكون أن الأعيان يمسكون بالفلاحين اجتماعيا. ولذلك يتفق مع
جون واتربوري حول هيمنة الأعيان على النظام التمثيلي، مادام الفلاحون
يصوتون في كل الأحوال لفائدة الأعيان الذين يمسكون بالفلاحين سياسيا.
الفلاح يدرك أن الأعيان بحكم مواقعهم وجاههم وارتباطاتهم يستغلون لكنهم
يوفرون الحماية.
يصف باسكون الصراع الطبقي الذي عاينه في البادية المغربية بأنه ليس
صراعا بين كبار الملاكين وغيرهم، بل صراع بين المقيمين وغير المقيمين،
ويرد ذلك لاعتبارات ثقافية مرتبطة بالمساهمة في الحياة المحلية، بعكس غير
المقيمين الذين يعتمدون على غيرهم للإشراف على أراضيهم ولهم نمط عيش يعتمد
أساسا على مداخيل غير زراعية.
يصف بول باسكون التطور الحاصل في المجتمع القروي على مستوى
الاستهلاك وطرق العيش والإعلام بأنه تطور مفارق، إذ بموازاته يلاحظ تناميا
في حدة التباينات بين المناطق، حيث هناك القطيعة بين المجتمع القروي وبين
المدينة والدولة معا، فيما فرص الخروج من تلك العزلة تبدو ضئيلة، باستثناء
بعض الجهات التي تستفيد إلى حد ما من عوائد الهجرة، تعاني البادية
المغربية من الحصار. بل إن تلك المناطق القروية التي عرفت ظاهرة الهجرة
المكثفة خارج المغرب لم تعرف تحولات اجتماعية لأن تلك الهجرة برأي باسكون
خلقت أوضاعا معقدة من الناحية الاجتماعية والاقتصادية أكثر مما جلبت معها
حلولا. لم ينجح المهاجرون برغم احتكاكهم بأنماط اجتماعية مغايرة في أن
يخترقوا النسيج التقليدي للبادية المغربية، لأن ذلك كان يتناقض مع
استراتيجياتهم الاجتماعية التي كانت تسعى إلى الارتقاء الاجتماعي في صلب
الأدوار التقليدية المهيمنة.
كان بول باسكون يعتبر أن سوسيولوجيا المراكز الصغرى متخلفة عن
مواكبة التحولات الاجتماعية التي تعتمل في تلك المناطق. يصف تلك التحولات
بأنها عنيفة بسبب عمليات الهجرة إليها بعد فشل البادية في استيعاب بعض
الفئات الاجتماعية كالفلاحين أو المهاجرين خارج المغرب، والذين اضطروا إلى
الاستقرار في تلك المراكز، بدل المدن الكبرى، بحثا عن حياة جديدة وبديلة.
لقد تم خلق هذه المراكز الصغرى على خلفية سياسية أكثر منها اجتماعية، غير
أن الوجود الاجتماعي انطوى على توترات حادة بسبب البطالة والمخدرات
والفساد، أدى إلى بروز نظام اجتماعي هامشي.
البادية مهددة بهيمنة منطق السوق، وهي تتعرض شيئا فشيئا للإفراغ.
ويجري البحث عن بدائل وأدوار جديدة للمراكز الصغرى لأنها أصبحت تلعب دورا
سياسيا متناميا.
المجتمع المركب
ينطلق باسكون من تنوع المجتمع المغربي الذي يعطي الانطباع بتعدد
ثقافاته، وتعايش أنماط اجتماعية تنتمي إلى مرجعيات تاريخية تمزج بين
القديم والجديد في تناغم قل نظيره. تساكن التقليد والحداثة يعكس مفارقات
وتعارضات، من غير الممكن تحليلها بالاعتماد على استنتاجات تبسيطية إثنية
تتم مقابلتها في الغالب مع العامل الثقافي. صحيح أنه منذ ميشو بلير ومن
جاء بعده، خصوصا مونتاني، ساهمت التعارضات: عرب/بربر، بلاد المخزن/بلاد
السيبة، الشرع/العرف، الاستبداد/الديمقراطية، في تقديم إجابات سهلة
ومختزلة. إن ذلك لن يتم برأي بول باسكون إلا بنوع من التأمل والتجاوز
المعرفيين لمجمل الاستنتاجات التي وصلتنا بطرق متعددة.
في الحقيقة ثمة نماذج متعددة من التنظيمات الاجتماعية المكتفية
بذاتها والمتصارعة في قلب المجتمع. لا يتعلق الأمر بمجتمع محدد بل بمظاهر
جزئية لمجتمعات عدة تتعايش في الزمان والمكان نفسيهما. بناء على هذا
التحليل ينتمي فرد بعينه، في الوقت نفسه، وحسب سلوكاته وتوجهاته إلى
مجتمعات متعددة. النماذج والعينات تبين ثقل التاريخ وحضوره. لا يمكن توقع
مواقف الأفراد. فتارة تهيمن التقنية وتارة العلاقات الاجتماعية، مرة
المؤسسات ومرة الثقافة، أحيانا التعاقدات وأحيانا أخرى الأخلاق أو
التقاليد والأعراف، المواقف أو المعتقدات، الرموز أو الإيديولوجيا...
وهكذا يقع المجتمع في نمط من الاستلاب العام. ما يحصل في المغرب من جراء
الحرص الشديد على وحدة الجسم الاجتماعي. فالمجتمع يتستر على الأشياء
الجديدة بالكلمات القديمة. هكذا هو حال عدد من القواعد والمؤسسات العرفية.
غير خاف أن كل هذه المعاني يمكن ردها إلى مجتمع محدد، قد يفسر هذا المظهر
من مقاومة المصطلح للتطور الاجتماعي ووضع العراقيل أمام أي توضيح للأوضاع
السوسيوتاريخية.
لفهم المجتمع من حولنا لا بد من صياغة تسلسل سوسيولوجي منسجم لرصد كل
أنماط التضامن السائدة في المجتمع المغربي. كل نمط من التضامن ينتج مجتمعا
خاصا به. لدينا أنماط مهيمنة من التضامن الناتج عن علاقات القرابة العصبية
(الأبوية)، ثم هناك التضامن الديني (الثيوقراطي/الإيديولوجي/الطرقي...)،
وهناك التضامن السياسي الترابي (القبلي)، ثم هناك أيضا التضامن القائم على
الوصاية (القايد وهو تضامن فيودالي)... الخ. يعتبر بول باسكون أن التضامن
الناتج عن القرابة هو أكثر الأشكال التضامنية هيمنة على الإطلاق، فيما
التضامن الثيوقراطي يعتبره تضامنا عابرا. من خلال الصراع بين هذه الأشكال
من التضامن يمكننا كتابة تاريخ المغرب برأي بول باسكون، خصوصا إذا علمنا
أن التضامن الناتج عن القرابة كان مستهدفا من قبل باقي الأشكال الأخرى غير
أنه مازال يمتلك قدرة على المقاومة والاستمرارية.
يلخص باسكون مفهوم المجتمع المركب بغياب رؤية مجتمعية ومشروع مجتمعي
له ما يكفي من المصداقية ما يجعله خيارا واضحا وقابلا للتطبيق. من دون هذا
البديل سيستمر منطق المجتمع المركب في الحضور طالما بقي المجتمع المغربي
يستعير وينتج خطابا تلفيقيا مجتزأ من بدائل منتقاة من كل اتجاه، وتلك هي
مواصفات المجتمع المركب بامتياز.
الحقول البحثية التي فتح أوراشها باسكون من قبيل دار إليغ في الجنوب
المغربي تكشف تقاطع أسئلة التاريخ الاجتماعي وأسئلة إعداد التراب، كما
تبين مدى تأثير النموذج التحليلي القروي الذي ورثه باسكون عن
السوسيولوجــــــــيا الكولونيالية كنزعة نظرية في تحليل المجتمع المغربي
انطلاقا من بواديه وهوامشه. وهو التوجه الذي سينتقده بول باسكون نفسه فيما
بعد، حيث اعتبر أن الباحثين المنبهرين (يقصد الأنتربولوجيين الأمريكيين
على الخصوص الذين توافدوا على المغرب خلال سنوات الستينيات) مازالوا
يلهثون وراء اكتشاف العالم القروي (في أعالي الجبال وعلى تخوم البيداء
بتعبير باسكون) فيما حياة اجتماعية أخرى جديدة بدأت تتعاظم منذ زمن بعيد
في أماكن أخرى.. في السهول والمدن.
ليس معنى ذلك أن هذا الجيل لم يكن يهتم بالمجال الحضري وإنما كان
الغرق في استنتاجات جاك بيرك يدفعهم للعالم القروي بحثا عن أجوبة عن
السؤال لماذا ومتى تهشم التاريخ الاجتماعي المغربي، معتقدين أنه انطلاقا
من البادية المغربية يمكن إطلاق وتفعيل مشروع تاريخي يمنح بديلا له ما
يكفي من المصداقية لمواجهة الهيمنة الرأسمالية الخارجية، وهو المشروع الذي
لم يكن متوافرا برأي بول باسكون في مرحلة السبعينيات، حيث شبه تلك المرحلة
بما كان عليه الوضع أيضا في بداية القرن العشرين.
محمد الغيلاني
* باحث في السوسيولوجيا
المساء
15/9/2008
ربيع- عدد الرسائل : 1432
العمر : 48
تاريخ التسجيل : 04/07/2008
دروب البحث عن الهوية
في سنة 1960 سيتم إنشاء معهد السوسيولوجيا بالرباط، وهو المعهد الذي سيؤشر على ولادة منطق جديد في مأسسة حقل العلوم الاجتماعية المغربية، وإعطائها نفسا جديدا، كما أن المعهد جسد بداية البعد الأكاديمي في الدراسات الاجتماعية بحكم اندراجه ضمن مؤسسات الدولة وتحديدا في منظومة التعليم العالي من دون أن تفقد السوسيولوجيا حسها النقدي والمعرفي بحكم ذاك الارتباط. في هذا السياق كان على السوسيولوجيا المغربية بقوة الواقع أن تخوض «نضالا» من أجل إثبات الذات والدفاع عن مشروعها ومشروعيتها في آن واحد. أمام السوسيولوجيا في مثل هذه المنعطفات التاريخية برأي عبد الكبير الخطيبي، مهمة نقدية ذات بعدين: تقتضي المهمة الأولى تهشيم المفاهيم وليدة المعرفة والخطاب السوسيولوجي الذي أنتجه الآخر حول مجتمعنا والمميز بنوع من الاستعلاء الغربي وبإيديولوجيا مركزية الذات، كما تقتضي المهمة الثانية -وفي الوقت ذاته وبموازاة المهمة الأولى- نقد الخطاب والمعرفة اللذين أنتجهما المجتمع حول نفسه. ومن ثم كان موقف الخطيبي إزاء الاستشراق (جاك بيرك أحد تعابيره) وتراكم المعرفة التي خلفها الإرث الكولونيالي، متسما بنوع من الحدة كما هو جلي في النص الذي كتبه سنة 1983، كاشفا متاهات المعرفة الاستشراقية حول المجتمع.
لقد تميزت، إذن، مرحلة معهد السوسيولوجيا -وهي مرحلة شهدت أيضا نشأة جمعية البحث في العلوم الاجتماعية وتحديدا سنة 1965- ما يمكن وصفه باتجاه يدعو إلى سوسيولوجيا من الداخل كنوع من الحاجة إلى تطبيع علاقة السوسيولوجيا بالمجتمع أو بصيغة عبد الكبير الخطيبي الذي كان يدافع عن إحلال التاريخ محل الإثنولوجيا وتفعيل اللغة الأم لوضع قواعد الأجهزة المفاهيمية المتطابقة مع لغة المجتمع ذاته.
مع أن هذا الطموح بقي مجرد أمنيات. استقطب معهد السوسيولوجيا خلال 1965 – 1966 عددا من الطلبة قدر بـ: 266 طالبا، لقد كانت النزعة الماركسية تمثل حينها خلفية البحث في مجال العلوم الاجتماعية ولم يكن بالإمكان لمعهد السوسيولوجيا أن يشذ عن هذه القاعدة، ما جعل الأبحاث حينها -وأبحاث بول باسكون منها على الخصوص- تندرج في سياق معرفي يصل البحث في مجال العلوم الإنسانية بالحركة الاجتماعية، ولذلك كان الخطاب السوسيولوجي لهذه المرحلة متماهيا مع المبادئ والشعارات السياسية، بل امتدت الانتماءات السياسية لبعض المنتمين لهذه التجربة لتشمل تيارات سياسية عرفت براديكاليتها (حركة 23 مارس والحزب الشيوعي على سبيل المثال).
تقاطعت مرحلة التأسيس للسوسيولوجيا مع الصعود السياسي للاتجاهات اليسارية وتنامي مد الحركة الطلابية في الجامعات المغربية التي عرفت تسييسا قويا خلال تلك الحقبة انتهت بإقفال معهد السوسيولوجيا سنة 1970 بقرار من السلطات العليا، وهو القرار الذي سيترتب عنه أفول التقليد السوسيولوجي في الجامعة المغربية. ومنذ ذلك الحين بقيت السوسيولوجيا تخصصا منبوذا وغير معترف به بل ينظر إليه كما لو أنه علم القلاقل والعصيان.
في يناير 1973 تأسست الجمعية المغربية لعلم الاجتماع، تكون مكتبها الوطني في حينه من: عبد الله حمودي، بول باسكون، محمد جسوس، عبد الكبير الخطيبي، محمد المعروفي، حميد الطاهري. وبينما كان السوسيولوجيون المغاربة يخوضون «نضالا» من أجل ترسيخ تقاليد سوسيولوجية مؤسساتية، كان على زملائهم العرب الانتظار حتى منتصف الثمانينيات لتأسيس جمعية لسوسيولوجيي العالم العربي سنة 1985.
لكن برغم التضييق بقيت الممارسة السوسيولوجية مستمرة بأشكال متنوعة منها على الخصوص إصدار المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع المعروفة اختصارا بـ: BESM، وهي المجلة التي استمرت في نشر الدراسات وبقيت متنفسا للباحثين في ميدان العلوم الاجتماعية، سيعمل عبد الكبير الخطيبي فيما بعد (تحديدا سنة 1988) على إصدارها تحت اسم جديد: Signes du présent، كما بقيت أسئلة السوسيولوجيا متضمنة في تخصصات علمية أخرى كنوع من اللجوء الأكاديمي والمعرفي في انتظار رفع الحصار الصادر والمطبق بقرار سياسي في حق حقل علمي.
سوف تعرف السوسيولوجيا ومعها العلوم الاجتماعية عامة بداية من الثمانينيات إعادة مأسسة حذرة ومتوجسة لأن تجربة السبعينيات مازالت ذكراها حية في عقول أصحاب القرار، كما أن السوسيولوجيا في هذه المرحلة لم تكن لتطمح إلى الاستقلالية، إذ بقيت مندمجة في الجامعة المغربية ضمن شعب الآداب والقانون والاقتصاد.
وفي هذا السياق، تم تأسيس المعهد الجامعي للبحث العلمي IURS تقلد إدارته عبد الكبير الخطيبي، غير أن هذا المعهد لم يتمكن من منح مهنة الباحث الاجتماعي هوية تميزه، وقد بقيت مساهماته بعيدة عن متطلبات النهوض بالسوسيولوجيا في المغرب.
كما بقي الإنتاج السوسيولوجي محصورا ومحاصرا خاضعا في الأغلب الأعم للعوامل الموضوعية، كما أن الأطروحات الجامعية التي تندرج ضمن تخصص السوسيولوجيا لم تكن ترى طريقها إلى التتويج إلا في مناسبات نادرة مقارنة مع باقي التخصصات، وقد بقي الوضع على حاله حتى أواخر التسعينيات من القرن الماضي.
صحيح أن دينامية جديدة عرفها الإنتاج السوسيولوجي المغربي في مطلع القرن، غير أن هذه الدينامية مازالت في بداياتها الأولى وهي بالإضافة إلى ذلك مرتبطة بنوع خاص من السوسيولوجيا، إذ تندرج بشكل أساسي ضمن الأبحاث القطاعية التي تستجيب لمتطلبات الأجهزة والمؤسسات الدولية أو الرسمية المحلية. وهي بهذا المعنى أبحاث لا تستجيب لاستراتيجية السوسيولوجيا ذاتها، وإنما تشتغل لحساب استراتيجيات ظرفية ومملاة، مما يجعل السوسيولوجيا لا تتحكم ببرنامجها وبمشروعها بقدر ما تؤول إلى سوسيولوجيا تحت الطلب في إطار منطق التأقلم مع مقتضيات السوق وليس في إطار الانسجام مع مقتضيات المجتمع.
وإن كنا لا ننكر أهمية بعض أوجه هذا النوع من التوجه في البحث السوسيولوجي، إلا أن التوجس يبقى مشروعا من ذوبان السوسيولوجيا النقدية والتفسيرية والتحليلية واستبدالها بسوسيولوجيا مؤقتة وظرفية وتبريرية في خدمة مصالح وإيديولوجيات لوبيات القرار السياسي والاقتصادي والتجاري والمالي. وأن ترتد هذه السوسيولوجيا على نفسها وتبيع مناهجها ومعرفتها مقابل تحصيل مكاسب وهمية وأنانية.
ولذلك لم تنعتق بعد السوسيولوجيا ولم تتحرر بالكامل، فمازالت تفكر وتنقب في المواضيع المسموح بها، وتنقصها الجرأة والفعالية اللازمتان لممارسة تقليد معرفي يفضح كل أنواع الخدع والدجل التي تمارس باسم المجتمع لتهيمن عليه. مازال القرار السوسيولوجي مُهَرّبا (بضم الميم)، لمصلحة من يجهلون فوائد السوسيولوجيا أو من يخشون وجودها، وطالما بقيت استقلالية البحث الاجتماعي رهينة مؤسسات لا تعترف للسوسيولوجيا بوظائفها المجتمعية فسيستفحل عجزها وهامشيتها. سلاح السوسيولوجيا هو منهجها ومعرفتها، صدقيتها في مدى قدرتها على ممارسة التفسير الذي يحتاجه المجتمع في لحظات التحول. وإلا فلا فائدة ولا جدوى من السوسيولوجيا.
لقد تميزت، إذن، مرحلة معهد السوسيولوجيا -وهي مرحلة شهدت أيضا نشأة جمعية البحث في العلوم الاجتماعية وتحديدا سنة 1965- ما يمكن وصفه باتجاه يدعو إلى سوسيولوجيا من الداخل كنوع من الحاجة إلى تطبيع علاقة السوسيولوجيا بالمجتمع أو بصيغة عبد الكبير الخطيبي الذي كان يدافع عن إحلال التاريخ محل الإثنولوجيا وتفعيل اللغة الأم لوضع قواعد الأجهزة المفاهيمية المتطابقة مع لغة المجتمع ذاته.
مع أن هذا الطموح بقي مجرد أمنيات. استقطب معهد السوسيولوجيا خلال 1965 – 1966 عددا من الطلبة قدر بـ: 266 طالبا، لقد كانت النزعة الماركسية تمثل حينها خلفية البحث في مجال العلوم الاجتماعية ولم يكن بالإمكان لمعهد السوسيولوجيا أن يشذ عن هذه القاعدة، ما جعل الأبحاث حينها -وأبحاث بول باسكون منها على الخصوص- تندرج في سياق معرفي يصل البحث في مجال العلوم الإنسانية بالحركة الاجتماعية، ولذلك كان الخطاب السوسيولوجي لهذه المرحلة متماهيا مع المبادئ والشعارات السياسية، بل امتدت الانتماءات السياسية لبعض المنتمين لهذه التجربة لتشمل تيارات سياسية عرفت براديكاليتها (حركة 23 مارس والحزب الشيوعي على سبيل المثال).
تقاطعت مرحلة التأسيس للسوسيولوجيا مع الصعود السياسي للاتجاهات اليسارية وتنامي مد الحركة الطلابية في الجامعات المغربية التي عرفت تسييسا قويا خلال تلك الحقبة انتهت بإقفال معهد السوسيولوجيا سنة 1970 بقرار من السلطات العليا، وهو القرار الذي سيترتب عنه أفول التقليد السوسيولوجي في الجامعة المغربية. ومنذ ذلك الحين بقيت السوسيولوجيا تخصصا منبوذا وغير معترف به بل ينظر إليه كما لو أنه علم القلاقل والعصيان.
في يناير 1973 تأسست الجمعية المغربية لعلم الاجتماع، تكون مكتبها الوطني في حينه من: عبد الله حمودي، بول باسكون، محمد جسوس، عبد الكبير الخطيبي، محمد المعروفي، حميد الطاهري. وبينما كان السوسيولوجيون المغاربة يخوضون «نضالا» من أجل ترسيخ تقاليد سوسيولوجية مؤسساتية، كان على زملائهم العرب الانتظار حتى منتصف الثمانينيات لتأسيس جمعية لسوسيولوجيي العالم العربي سنة 1985.
لكن برغم التضييق بقيت الممارسة السوسيولوجية مستمرة بأشكال متنوعة منها على الخصوص إصدار المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع المعروفة اختصارا بـ: BESM، وهي المجلة التي استمرت في نشر الدراسات وبقيت متنفسا للباحثين في ميدان العلوم الاجتماعية، سيعمل عبد الكبير الخطيبي فيما بعد (تحديدا سنة 1988) على إصدارها تحت اسم جديد: Signes du présent، كما بقيت أسئلة السوسيولوجيا متضمنة في تخصصات علمية أخرى كنوع من اللجوء الأكاديمي والمعرفي في انتظار رفع الحصار الصادر والمطبق بقرار سياسي في حق حقل علمي.
سوف تعرف السوسيولوجيا ومعها العلوم الاجتماعية عامة بداية من الثمانينيات إعادة مأسسة حذرة ومتوجسة لأن تجربة السبعينيات مازالت ذكراها حية في عقول أصحاب القرار، كما أن السوسيولوجيا في هذه المرحلة لم تكن لتطمح إلى الاستقلالية، إذ بقيت مندمجة في الجامعة المغربية ضمن شعب الآداب والقانون والاقتصاد.
وفي هذا السياق، تم تأسيس المعهد الجامعي للبحث العلمي IURS تقلد إدارته عبد الكبير الخطيبي، غير أن هذا المعهد لم يتمكن من منح مهنة الباحث الاجتماعي هوية تميزه، وقد بقيت مساهماته بعيدة عن متطلبات النهوض بالسوسيولوجيا في المغرب.
كما بقي الإنتاج السوسيولوجي محصورا ومحاصرا خاضعا في الأغلب الأعم للعوامل الموضوعية، كما أن الأطروحات الجامعية التي تندرج ضمن تخصص السوسيولوجيا لم تكن ترى طريقها إلى التتويج إلا في مناسبات نادرة مقارنة مع باقي التخصصات، وقد بقي الوضع على حاله حتى أواخر التسعينيات من القرن الماضي.
صحيح أن دينامية جديدة عرفها الإنتاج السوسيولوجي المغربي في مطلع القرن، غير أن هذه الدينامية مازالت في بداياتها الأولى وهي بالإضافة إلى ذلك مرتبطة بنوع خاص من السوسيولوجيا، إذ تندرج بشكل أساسي ضمن الأبحاث القطاعية التي تستجيب لمتطلبات الأجهزة والمؤسسات الدولية أو الرسمية المحلية. وهي بهذا المعنى أبحاث لا تستجيب لاستراتيجية السوسيولوجيا ذاتها، وإنما تشتغل لحساب استراتيجيات ظرفية ومملاة، مما يجعل السوسيولوجيا لا تتحكم ببرنامجها وبمشروعها بقدر ما تؤول إلى سوسيولوجيا تحت الطلب في إطار منطق التأقلم مع مقتضيات السوق وليس في إطار الانسجام مع مقتضيات المجتمع.
وإن كنا لا ننكر أهمية بعض أوجه هذا النوع من التوجه في البحث السوسيولوجي، إلا أن التوجس يبقى مشروعا من ذوبان السوسيولوجيا النقدية والتفسيرية والتحليلية واستبدالها بسوسيولوجيا مؤقتة وظرفية وتبريرية في خدمة مصالح وإيديولوجيات لوبيات القرار السياسي والاقتصادي والتجاري والمالي. وأن ترتد هذه السوسيولوجيا على نفسها وتبيع مناهجها ومعرفتها مقابل تحصيل مكاسب وهمية وأنانية.
ولذلك لم تنعتق بعد السوسيولوجيا ولم تتحرر بالكامل، فمازالت تفكر وتنقب في المواضيع المسموح بها، وتنقصها الجرأة والفعالية اللازمتان لممارسة تقليد معرفي يفضح كل أنواع الخدع والدجل التي تمارس باسم المجتمع لتهيمن عليه. مازال القرار السوسيولوجي مُهَرّبا (بضم الميم)، لمصلحة من يجهلون فوائد السوسيولوجيا أو من يخشون وجودها، وطالما بقيت استقلالية البحث الاجتماعي رهينة مؤسسات لا تعترف للسوسيولوجيا بوظائفها المجتمعية فسيستفحل عجزها وهامشيتها. سلاح السوسيولوجيا هو منهجها ومعرفتها، صدقيتها في مدى قدرتها على ممارسة التفسير الذي يحتاجه المجتمع في لحظات التحول. وإلا فلا فائدة ولا جدوى من السوسيولوجيا.
د.محمد الغيلاني
* باحث في السوسيولوجيا
* باحث في السوسيولوجيا
المساء
16/9/2008
ربيع- عدد الرسائل : 1432
العمر : 48
تاريخ التسجيل : 04/07/2008
السوسيولوجيا السياسية.. ريمي لوفو والجيل المؤسس
(هناك أيضا تفسير آخر له شعبية كبيرة بين المغاربة أنفسهم وهو كما يلي:
المغرب ملكية. ومن ثم فإن أي تمرد إنما هو في الحقيقة تمرد ضد الملك. لكن
المغاربة يحبون ملكهم. لكن مع ذلك، فإنهم في لحظات الطيش والنسيان يقومون
بالتمرد. لكنهم ما إن يلاحظوا ما قد فعلوه حتى يصبحوا آسفين، ويتوقفوا عما
فعلوه -وهذا يفسر سرعة سقوط التمردات- لكن مع ذلك فإن الملك يحب كل
رعاياه، وهو سعيد بأن يعفو عنهم، وهذا يفسر التغاضي والتسامح النسبي ضد
المتمردين).
إرنست كلنر.
في أكثر من دراسة يتم التنبيه إلى أن إقحام الخدمات الحكومية في
المناطق القروية والتي رافقتها أهداف مرتبطة بالتنمية الاقتصادية
والاجتماعية، بدت كما لو أنها قوضت إن لم تكن أبادت أنظمة التسيير المحلية
والقبلية. ضمن كل هذه الإصلاحات وضع السكان بسرعة يدهم على الطبيعة
المعيبة للآلية الانتخابية ونتائجها الكارثية على الأشكال المحلية للتنظيم
الاجتماعي. منذ 1962، ظهرت الانتخابات كوسيلة للتنمية السياسية مع إنشاء
الجماعات القروية التي كشفت عن نمط التسيير في المجال القروي الذي اعتمدته
الحكومة وأجهزتها. هكذا اختفت كل أشكال التسيير التقليدية العرفية
والجماعية والإدارية التي كانت قائمة قبل تدخل الدولة. مع خروج المحتل
قامت الدولة المغربية، التي صممت على إفراغ النظام الاجتماعي من ملامحه
القبلية ومحاولة «تحديث» المجال المحلي، بالهيمنة على إدارة المجال
القبلي. هذه التطورات على مستوى السياسيات القروية شكلت الاهتمام الرئيسي،
وأخذت الحيز الأكبر في الكتابات السوسيولوجية عن مغرب ما بعد الاحتلال
الفرنسي والإحالة هنا على جملة من الباحثين: ميللر 1999، كلنر، واتربوري
1977، عبد الله حمودي 1997، ريمي لوفو 1985، وليام زارتمان 1964 وآخرين.
لوفو الباحث في السياق
في هذا السياق تندرج معظم أعمال ريمي لوفو، الباحث الفرنسي الذي بدأ
أبحاثه الأولى تحت إشراف روني ريموند. عرف لوفو بأبحاثه حول الأنظمة
السياسية المعاصرة في العالم العربي والإسلامي وحول الإسلام في أوروبا،
كما يصنف، فرنسيا، بكونه من رواد العلوم الاجتماعية التطبيقية حول العالم
العربي والإسلامي..
متزوج من مدرسة كانت تقيم بالمغرب الذي التحق به في أوائل الاستقلال
كمتعاون ملحق بوزارة الداخلية. كلف بتنظيم الانتخابات، مما جعله في قلب
سوسيولوجيا الانتخابات، وهي التجربة التي ستكون مادة أطروحته فيما بعد
المعروفة: «الفلاح المغربي حامي العرش» تحت إشراف موريس دوفيرجير وهو
الكتاب الذي سوف يحتل موقعا أساسيا في سوسيولوجيا السياسة، وسوسيولوجيا
الانتخابات تحديدا، حول المغرب كمرجع لا يمكن تجاوزه لما توافرت فيه من
معطيات سياسية وسوسيوديمغرافية نشرت لأول مرة، وهي دراسة مؤسسة في مجال
تخصصها، كما ساعدت الدراسة في فتح مسالك جديدة للبحث لم تكن ممكنة من ذي
قبل. كانت هذه التجربة محفزا لـريمي لوفو ليصبح واحدا من المتخصصين في
الدراسات حول العالم العربي والإسلامي (استقر لفترات بكل من لبنان ومصر)،
ليخوض بذلك مهمة تسليط العلوم الاجتماعية على الاستشراق الكلاسيكي. وستمثل
جهوده فيما بعد عناصر إثارة لأنتربولوجيين من العيار الثقيل (من قبيل
إرنست كلنر وكليفورد غيرتزمثلا) الذين سيلتفتون لأهمية الاشتغال في المغرب
واختبار فرضيات سوسيولوجية وأنتربولوجية ساعدتهم على إنجاز بحوث ذات قيمة
معرفية عالية.
كما كان من الأوائل الذين اهتموا بدور الدين في الحياة السياسية
بفرنسا، إذ سيشرف ابتداء من 1987 على إصدار مشترك مع جيل كيبل وآخرين لـ:
Les musulmans dans la société française، أتبعه في 1998 بكتاب: Islam(s)
d’Europe، كما أصدر في 1993 كتابا حول المغرب العربي تحت عنوان Le Sabre
et le Turban. عمل كمستشار قانوني لوزير الداخلية المغربي رضا كديرة بين
سنتي 1968-1974. كما عمل في ليبيا مستشارا ثقافيا، ودرس في لبنان، ثم
التحق بسفارة فرنسا كمستشار ثقافي بالقاهرة.
درس ريمي لوفو بكلية الحقوق بالرباط بين سنتي 1958 و1965. في سن 72 سنة ودع لوفو الحياة (توفي في 2 مارس 2005).
في مهب التقليد
في كتابه «الفلاح المغربي حامي العرش» (صدر في سنة 1976)، يصف ريمي
لوفو استبداد وهيمنة الملك على الحياة السياسية المغربية بواسطة المؤسسات
المخزنية. يصف في الكتاب كيف استطاع الحسن الثاني، من خلال التحالف مع
النخب التقليدية، أن يتجاوز الحركة الوطنية التي كانت تستعد لحكم المغرب
المعاصر في بداية مرحلة تأسيس الدولة بعد مرحلة الاحتلال الفرنسي. يحاول
ريمي لوفو أن يفسر كيف ساهم ذلك التحالف في تهشيم عمليات التحديث بالقدر
نفسه الذي زاد من حدة التوترات الاجتماعية والسياسية. فلم تكن السياسات
العمومية التي قادها النظام السياسي قائمة إلا على تعزيز الأشكال
التقليدية للسلطة السياسية وترويض العناصر المتمردة وتعميق شبكات الزبونية
والأعيان. هذه الاستراتيجيات، كما كان يعتقد ذلك ريمي لوفو، مكنت القوى
السياسية المحافظة من الهيمنة على الحياة السياسة، وبالذات احتواء
الاتجاهات والتيارات الاحتجاجية، وفي الوقت نفسه فرملت، إن لم تكن عطلت،
وجمدت انتشار القوى التغييرية البديلة. تجسد حالة الحراطين جماعة غير
مهيمنة وتنتمي إلى الفئات الدنيا في الهرم الاجتماعي، نموذجا حيث الجماعات
الدنيا وليس الأعيان القرويين هم من أسسوا لمستقبل ديمقراطي، مستقبل يؤمل
منه نزع كل أشكال التقليد والمحافظة المتجذران في المشهد القروي. لقد
حاولت هذه المجموعة التشويش على الميكانيزمات التقليدية والقرابية
والامتيازات الزبونية والمحافظة، وهذه كلها مفاهيم مفتاحية اعتمدت في كثير
من التحاليل في مجال سوسيولوجيا السياسة لمغرب ما بعد الاحتلال. في
الواقع، ريمي لوفو، وكما يوحي بذلك عنوان كتابه المكرس للحياة السياسة
المغربية، اعتبر الفلاح المغربي الدعامة الأساسية للنزعة التقليدية في
النظام السياسي والمدافع عن العرش الملكي، وريمي لوفو بذلك إنما يدافع عن
الأطروحة التي تعتبر أن التحالف مع النخب القروية يسند استقرار النظام
الملكي في التجربة السياسية المغربية. لقد كانت الفكرة الرئيسية لمشروع
الدولة تحويل الإدارة المباشرة إلى تقنية ومبدأ تنظيمي لتنمية العالم
القروي: تحديث التقليدي والقبلي. وهي التقنية التي ستدفع برموز قروية عن
طريق الانتخابات التمثيلية إلى التواجد على رأس الجماعات القروية المحلية،
ومن ثم التواجد في البرلمان. لقد كان لذلك تأثير جذري على نمط الحياة
الاجتماعية للبادية المغربية، أصبحت الدولة وأجهزتها تعتني بكل تفاصيل
التسيير والإدارة، بدءا بالشأن الفلاحي والديني، وانتهاء بفض المنازعات
التي أصبحت بيد المحاكم بدل اللجوء إلى الآليات التقليدية لحل المنازعات
القبلية. اهتمت الدولة بتحويل الأرض إلى المجال الترابي والإداري على
المستوى الوطني، مما أثر على نمط العيش القروي، لأن الأرض أصبحت لها أبعاد
مغايرة، إذ لم تعد أرض القبيلة إنما جزءا من سياسة دولة تتصرف بمنطق تحكمه
فلسفة إعداد التراب الوطني، وتحكمه خلفيات التقطيع الانتخابي، بما يسمح
بمزيد من الهيمنة ويفيد في خلق نخب موالية للدولة المركزية ومرتبطة بها
وبأهدافها وبرامجها ومشاريعها. ولذلك يمكن اعتبار أعمال ريمي لوفو إلى
جانب آخرين (واتربوري 1975 وجون كلود سانتوشي 1979/1985/1991) تندرج ضمن
التنظير الذي يؤسس لسوسيولوجيا الانتخابات.
د. محمد الغيلاني
* باحث في السوسيولوجيا
المساء
17/9/2008
المغرب ملكية. ومن ثم فإن أي تمرد إنما هو في الحقيقة تمرد ضد الملك. لكن
المغاربة يحبون ملكهم. لكن مع ذلك، فإنهم في لحظات الطيش والنسيان يقومون
بالتمرد. لكنهم ما إن يلاحظوا ما قد فعلوه حتى يصبحوا آسفين، ويتوقفوا عما
فعلوه -وهذا يفسر سرعة سقوط التمردات- لكن مع ذلك فإن الملك يحب كل
رعاياه، وهو سعيد بأن يعفو عنهم، وهذا يفسر التغاضي والتسامح النسبي ضد
المتمردين).
إرنست كلنر.
في أكثر من دراسة يتم التنبيه إلى أن إقحام الخدمات الحكومية في
المناطق القروية والتي رافقتها أهداف مرتبطة بالتنمية الاقتصادية
والاجتماعية، بدت كما لو أنها قوضت إن لم تكن أبادت أنظمة التسيير المحلية
والقبلية. ضمن كل هذه الإصلاحات وضع السكان بسرعة يدهم على الطبيعة
المعيبة للآلية الانتخابية ونتائجها الكارثية على الأشكال المحلية للتنظيم
الاجتماعي. منذ 1962، ظهرت الانتخابات كوسيلة للتنمية السياسية مع إنشاء
الجماعات القروية التي كشفت عن نمط التسيير في المجال القروي الذي اعتمدته
الحكومة وأجهزتها. هكذا اختفت كل أشكال التسيير التقليدية العرفية
والجماعية والإدارية التي كانت قائمة قبل تدخل الدولة. مع خروج المحتل
قامت الدولة المغربية، التي صممت على إفراغ النظام الاجتماعي من ملامحه
القبلية ومحاولة «تحديث» المجال المحلي، بالهيمنة على إدارة المجال
القبلي. هذه التطورات على مستوى السياسيات القروية شكلت الاهتمام الرئيسي،
وأخذت الحيز الأكبر في الكتابات السوسيولوجية عن مغرب ما بعد الاحتلال
الفرنسي والإحالة هنا على جملة من الباحثين: ميللر 1999، كلنر، واتربوري
1977، عبد الله حمودي 1997، ريمي لوفو 1985، وليام زارتمان 1964 وآخرين.
لوفو الباحث في السياق
في هذا السياق تندرج معظم أعمال ريمي لوفو، الباحث الفرنسي الذي بدأ
أبحاثه الأولى تحت إشراف روني ريموند. عرف لوفو بأبحاثه حول الأنظمة
السياسية المعاصرة في العالم العربي والإسلامي وحول الإسلام في أوروبا،
كما يصنف، فرنسيا، بكونه من رواد العلوم الاجتماعية التطبيقية حول العالم
العربي والإسلامي..
متزوج من مدرسة كانت تقيم بالمغرب الذي التحق به في أوائل الاستقلال
كمتعاون ملحق بوزارة الداخلية. كلف بتنظيم الانتخابات، مما جعله في قلب
سوسيولوجيا الانتخابات، وهي التجربة التي ستكون مادة أطروحته فيما بعد
المعروفة: «الفلاح المغربي حامي العرش» تحت إشراف موريس دوفيرجير وهو
الكتاب الذي سوف يحتل موقعا أساسيا في سوسيولوجيا السياسة، وسوسيولوجيا
الانتخابات تحديدا، حول المغرب كمرجع لا يمكن تجاوزه لما توافرت فيه من
معطيات سياسية وسوسيوديمغرافية نشرت لأول مرة، وهي دراسة مؤسسة في مجال
تخصصها، كما ساعدت الدراسة في فتح مسالك جديدة للبحث لم تكن ممكنة من ذي
قبل. كانت هذه التجربة محفزا لـريمي لوفو ليصبح واحدا من المتخصصين في
الدراسات حول العالم العربي والإسلامي (استقر لفترات بكل من لبنان ومصر)،
ليخوض بذلك مهمة تسليط العلوم الاجتماعية على الاستشراق الكلاسيكي. وستمثل
جهوده فيما بعد عناصر إثارة لأنتربولوجيين من العيار الثقيل (من قبيل
إرنست كلنر وكليفورد غيرتزمثلا) الذين سيلتفتون لأهمية الاشتغال في المغرب
واختبار فرضيات سوسيولوجية وأنتربولوجية ساعدتهم على إنجاز بحوث ذات قيمة
معرفية عالية.
كما كان من الأوائل الذين اهتموا بدور الدين في الحياة السياسية
بفرنسا، إذ سيشرف ابتداء من 1987 على إصدار مشترك مع جيل كيبل وآخرين لـ:
Les musulmans dans la société française، أتبعه في 1998 بكتاب: Islam(s)
d’Europe، كما أصدر في 1993 كتابا حول المغرب العربي تحت عنوان Le Sabre
et le Turban. عمل كمستشار قانوني لوزير الداخلية المغربي رضا كديرة بين
سنتي 1968-1974. كما عمل في ليبيا مستشارا ثقافيا، ودرس في لبنان، ثم
التحق بسفارة فرنسا كمستشار ثقافي بالقاهرة.
درس ريمي لوفو بكلية الحقوق بالرباط بين سنتي 1958 و1965. في سن 72 سنة ودع لوفو الحياة (توفي في 2 مارس 2005).
في مهب التقليد
في كتابه «الفلاح المغربي حامي العرش» (صدر في سنة 1976)، يصف ريمي
لوفو استبداد وهيمنة الملك على الحياة السياسية المغربية بواسطة المؤسسات
المخزنية. يصف في الكتاب كيف استطاع الحسن الثاني، من خلال التحالف مع
النخب التقليدية، أن يتجاوز الحركة الوطنية التي كانت تستعد لحكم المغرب
المعاصر في بداية مرحلة تأسيس الدولة بعد مرحلة الاحتلال الفرنسي. يحاول
ريمي لوفو أن يفسر كيف ساهم ذلك التحالف في تهشيم عمليات التحديث بالقدر
نفسه الذي زاد من حدة التوترات الاجتماعية والسياسية. فلم تكن السياسات
العمومية التي قادها النظام السياسي قائمة إلا على تعزيز الأشكال
التقليدية للسلطة السياسية وترويض العناصر المتمردة وتعميق شبكات الزبونية
والأعيان. هذه الاستراتيجيات، كما كان يعتقد ذلك ريمي لوفو، مكنت القوى
السياسية المحافظة من الهيمنة على الحياة السياسة، وبالذات احتواء
الاتجاهات والتيارات الاحتجاجية، وفي الوقت نفسه فرملت، إن لم تكن عطلت،
وجمدت انتشار القوى التغييرية البديلة. تجسد حالة الحراطين جماعة غير
مهيمنة وتنتمي إلى الفئات الدنيا في الهرم الاجتماعي، نموذجا حيث الجماعات
الدنيا وليس الأعيان القرويين هم من أسسوا لمستقبل ديمقراطي، مستقبل يؤمل
منه نزع كل أشكال التقليد والمحافظة المتجذران في المشهد القروي. لقد
حاولت هذه المجموعة التشويش على الميكانيزمات التقليدية والقرابية
والامتيازات الزبونية والمحافظة، وهذه كلها مفاهيم مفتاحية اعتمدت في كثير
من التحاليل في مجال سوسيولوجيا السياسة لمغرب ما بعد الاحتلال. في
الواقع، ريمي لوفو، وكما يوحي بذلك عنوان كتابه المكرس للحياة السياسة
المغربية، اعتبر الفلاح المغربي الدعامة الأساسية للنزعة التقليدية في
النظام السياسي والمدافع عن العرش الملكي، وريمي لوفو بذلك إنما يدافع عن
الأطروحة التي تعتبر أن التحالف مع النخب القروية يسند استقرار النظام
الملكي في التجربة السياسية المغربية. لقد كانت الفكرة الرئيسية لمشروع
الدولة تحويل الإدارة المباشرة إلى تقنية ومبدأ تنظيمي لتنمية العالم
القروي: تحديث التقليدي والقبلي. وهي التقنية التي ستدفع برموز قروية عن
طريق الانتخابات التمثيلية إلى التواجد على رأس الجماعات القروية المحلية،
ومن ثم التواجد في البرلمان. لقد كان لذلك تأثير جذري على نمط الحياة
الاجتماعية للبادية المغربية، أصبحت الدولة وأجهزتها تعتني بكل تفاصيل
التسيير والإدارة، بدءا بالشأن الفلاحي والديني، وانتهاء بفض المنازعات
التي أصبحت بيد المحاكم بدل اللجوء إلى الآليات التقليدية لحل المنازعات
القبلية. اهتمت الدولة بتحويل الأرض إلى المجال الترابي والإداري على
المستوى الوطني، مما أثر على نمط العيش القروي، لأن الأرض أصبحت لها أبعاد
مغايرة، إذ لم تعد أرض القبيلة إنما جزءا من سياسة دولة تتصرف بمنطق تحكمه
فلسفة إعداد التراب الوطني، وتحكمه خلفيات التقطيع الانتخابي، بما يسمح
بمزيد من الهيمنة ويفيد في خلق نخب موالية للدولة المركزية ومرتبطة بها
وبأهدافها وبرامجها ومشاريعها. ولذلك يمكن اعتبار أعمال ريمي لوفو إلى
جانب آخرين (واتربوري 1975 وجون كلود سانتوشي 1979/1985/1991) تندرج ضمن
التنظير الذي يؤسس لسوسيولوجيا الانتخابات.
د. محمد الغيلاني
* باحث في السوسيولوجيا
المساء
17/9/2008
ربيع- عدد الرسائل : 1432
العمر : 48
تاريخ التسجيل : 04/07/2008
النخب السياسية كموضوع سوسيولوجي
أسس ريمي لوفو مع غيره من الباحثين في مجال سوسيولوجيا السياسة
وسوسيولوجيا الانتخابات بالتحديد لتيار بحثي جعل من الانتخابات محطة رصد
ومتابعة لتحليل وتفسير السلوك السياسي والانتخابي لدى الفئات الاجتماعية
للمجتمع المغربي، وذلك من خلال الاعتناء بأهمية ووظيفة الاقتراع العام في
تشكل النظام السياسي لمغرب ما بعد الاحتلال الفرنسي، وتحديدا في العقد
الذي تلا هذه المرحلة، وهو عقد تأسيسي لهذا النمط من الأبحاث لو أردنا
التحقيب للبحث السوسيولوجي، يمكن الإحالة هنا على أعمال ريمي لوفو
المنشورة باسمه أو بالأسماء المستعارة التي كان يلجأ إلى استعمالها، منها
ما نشره لوفو تحت اسم Chambergeat 1961, 1963, 1965, 1966، وكذلك تحت اسم
مستعار آخر: Octave MARAIS 1972 ; 1964 ; 1963 (للإشارة فقد كان ريمي لوفو
ينشر بعض أبحاثه باستعمال أسماء مستعارة نذكر منها: Octave Marais ; Henri
Breton ; Paul Chambergeat ; Jules Aubin ; Jim Aubin)، وما تراكم بعدها
من أبحاث خلال السبعينيات والثمانينيات استلهم واستفاد من المرحلة
التأسيسية لهذا النوع من البحث السوسيولوجي نذكر على الخصوص: Jean-Claude
Santucci 1979 ;1985 ; 2001. Claisse 1984. Rémy Leveau 1985. Sehimi
1985.
أما ما يتعلق بعقد التسعينيات، فيمكن العودة مثلا إلى: Catusse 2000 - Daoud 1997 - Elmossadeq 2001 - Roussillon 1999.
تبين هذه الأبحاث أن الوظيفة الأساسية للانتخابات هي تعزيز الملكية
وخلق توافقات عبر تعبئة فوقية، وعليه فإن هذه الانتخابات تنتج باستمرار ما
يسمى بظاهرة العزوف.
ينطوي تاريخ الانتخابات في المغرب على سيرورة سياسية لتهميش وتفتيت
الأحزاب. ذلك ما حاول جون واتربوري (1975) أن يفسره في بحثه المشهور «أمير
المؤمنين»، والذي حاول فيه تحليل النظام السياسي في المغرب من خلال تطبيق
الأطروحة الانقسامية. إذ يعتبر جون واتربوري أن كل المغاربة من أصول
قبلية، كما أن المدن المغربية عرفت بدورها تنظيما له طابع انقسامي يقوم
على تجاوز وحدات اجتماعية في مجال جغرافي معين، الأمر الذي كان له انعكاس
على الحياة السياسية، إذ بدت هذه الأخيرة كما لو أنها لعبة من التحالفات
والعداوات الطقوسية، وإن كانت النخب السياسية تقوم بالتلاعب بالآليات
التقليدية للأنظمة السياسية الحديثة.
ويعلق إرنست كلنر على هذا التحليل (في ما يشبه نقدا) بالقول إنه يجب
تمييز الانقسامية في الأنتربولوجيا الاجتماعية، المستعملة لتحليل وتفسير
التماسك وصيانة نظام القبائل التي تعيش من دون دول، كما يجب أن تتميز
الانقسامية عن التطبيقات الممتدة للمصطلح في العلوم السياسية، ويضيف: «إن
عمليات الضبط والربط المتبادلة المفروضة على الأقسام القبلية، المفرغة من
أي قيادة قوية، والعاملة في الحقل والمراعي هي شيء، والمؤامرات المائعة
للشبكات المرنة من الرعاية المتنافسة، التي يتلاعب بها ملك يقوم على
تشذيبها هي شيء آخر. قد تكون هناك أوجه تشابه بين الظاهرتين، ولا شك أن
تمديد المفاهيم وتوسيع مداها له بكل تأكيد دلالات: لكن الظاهرتين دون شك
مختلفتان».
يفسر واتربوري اختراق النزعة الانقسامية بعدم قدرة النظام على تغيير
بنيته جذريا. إذ من طبيعة النظام الانقسامي أن يعمل باستمرار على تحقيق
التوازن الداخلي. فعلى منوال القبيلة حيثما حققت جماعة تقدما داخل النظام
قد يهدد التوازنات داخل النخب السياسية إلا برز تحالف الجماعات الأخرى
لتحقيق التوازن أو إرباك تلك الجماعة. ويبني جون واتربوري على ذلك
استنتاجا مفاده أن الفاعلين في اللعبة السياسية داخل نظام انقسامي
يتعاملون مع السلطة من زاوية سكونية. لقد كان واتربوري يدافع عن أطروحات
كلنر لتفسير التوازن الذي يسود في النسق السياسي المغربي لما بعد مرحلة
الاحتلال الفرنسي، ويعمل واتربوري على استخدام الانقسامية باعتبارها
استراتيجية الحكم المركزي بهدف إضعاف القوى السياسية المنافسة. حيث أوضح
أن تقسيم الحقل السياسي المغربي ارتبط بطبيعة بنيته التنظيمية الفوقية
وبالثقافة الانقسامية المهيمنة عليه.
يعني ذلك أنه للهيمنة أو التحكم في اللعبة السياسية، حاولت الملكية
توقع نمط الصراعات الاجتماعية التي قد يواكبها بروز قوى سياسية غير قابلة
للترويض، أو أن تتوقع طبيعة المطالب الاجتماعية التي قد تتبناها القوى
الموجودة أصلا فيسهل عليها استباقها والالتفاف عليها بما يمكنها من إفراغ
تلك القوى من مضمونها السياسي وبالتالي سحب شرعيتها «النضالية»، وخصوصا
شرعية المعارضة. ولذلك فإن كل الانشقاقات الحزبية وكل الأحزاب الجديدة
تظهر تباعا عشية الانتخابات، ولا تكون أيادي الإدارة بعيدة عن ذلك المشهد
المألوف. ومما يعزز ذلك التحليل تزايد عدد الأحزاب بشكل تصاعدي منذ
انتخابات 1977 حتى آخر انتخابات 2007.
رهان الدولة قام على السعي الحثيث والمستمر من أجل إيجاد سند وخلفية
لتقوية نفوذها وهيمنتها على المجتمع من دون مراعاة متطلبات الدينامية
السياسية، وبرأي ريمي لوفو (1985) لم يكن يتطلب بناء الدولة تشكيل نخب
محلية وفية ومرتهنة للمخزن، ولم يكن لأجل ذلك مسموحا المس بالوضع القائم
في المجال القروي لما يضخه من توازنات سياسية لاستقرار نمط الحكم السياسي
السائد. استخدم مبدأ التعددية السياسية بغرض إضعاف المنافسة السياسية التي
يحتمل أن تفرضها القوى السياسية على الملكية، هذا ما حاول كل من ريمي لوفو
(1985) وجون واتربوري (1975) إبرازه في أبحاثهما، أي ما يمكن وصفه
سوسيولوجيا بقيام نموذج مركزي فضفاض يقوم على الرعاية. (يتبع)
محمد الغيلاني
* باحث في السوسيولوجيا
المساء
18/9/2008
وسوسيولوجيا الانتخابات بالتحديد لتيار بحثي جعل من الانتخابات محطة رصد
ومتابعة لتحليل وتفسير السلوك السياسي والانتخابي لدى الفئات الاجتماعية
للمجتمع المغربي، وذلك من خلال الاعتناء بأهمية ووظيفة الاقتراع العام في
تشكل النظام السياسي لمغرب ما بعد الاحتلال الفرنسي، وتحديدا في العقد
الذي تلا هذه المرحلة، وهو عقد تأسيسي لهذا النمط من الأبحاث لو أردنا
التحقيب للبحث السوسيولوجي، يمكن الإحالة هنا على أعمال ريمي لوفو
المنشورة باسمه أو بالأسماء المستعارة التي كان يلجأ إلى استعمالها، منها
ما نشره لوفو تحت اسم Chambergeat 1961, 1963, 1965, 1966، وكذلك تحت اسم
مستعار آخر: Octave MARAIS 1972 ; 1964 ; 1963 (للإشارة فقد كان ريمي لوفو
ينشر بعض أبحاثه باستعمال أسماء مستعارة نذكر منها: Octave Marais ; Henri
Breton ; Paul Chambergeat ; Jules Aubin ; Jim Aubin)، وما تراكم بعدها
من أبحاث خلال السبعينيات والثمانينيات استلهم واستفاد من المرحلة
التأسيسية لهذا النوع من البحث السوسيولوجي نذكر على الخصوص: Jean-Claude
Santucci 1979 ;1985 ; 2001. Claisse 1984. Rémy Leveau 1985. Sehimi
1985.
أما ما يتعلق بعقد التسعينيات، فيمكن العودة مثلا إلى: Catusse 2000 - Daoud 1997 - Elmossadeq 2001 - Roussillon 1999.
تبين هذه الأبحاث أن الوظيفة الأساسية للانتخابات هي تعزيز الملكية
وخلق توافقات عبر تعبئة فوقية، وعليه فإن هذه الانتخابات تنتج باستمرار ما
يسمى بظاهرة العزوف.
ينطوي تاريخ الانتخابات في المغرب على سيرورة سياسية لتهميش وتفتيت
الأحزاب. ذلك ما حاول جون واتربوري (1975) أن يفسره في بحثه المشهور «أمير
المؤمنين»، والذي حاول فيه تحليل النظام السياسي في المغرب من خلال تطبيق
الأطروحة الانقسامية. إذ يعتبر جون واتربوري أن كل المغاربة من أصول
قبلية، كما أن المدن المغربية عرفت بدورها تنظيما له طابع انقسامي يقوم
على تجاوز وحدات اجتماعية في مجال جغرافي معين، الأمر الذي كان له انعكاس
على الحياة السياسية، إذ بدت هذه الأخيرة كما لو أنها لعبة من التحالفات
والعداوات الطقوسية، وإن كانت النخب السياسية تقوم بالتلاعب بالآليات
التقليدية للأنظمة السياسية الحديثة.
ويعلق إرنست كلنر على هذا التحليل (في ما يشبه نقدا) بالقول إنه يجب
تمييز الانقسامية في الأنتربولوجيا الاجتماعية، المستعملة لتحليل وتفسير
التماسك وصيانة نظام القبائل التي تعيش من دون دول، كما يجب أن تتميز
الانقسامية عن التطبيقات الممتدة للمصطلح في العلوم السياسية، ويضيف: «إن
عمليات الضبط والربط المتبادلة المفروضة على الأقسام القبلية، المفرغة من
أي قيادة قوية، والعاملة في الحقل والمراعي هي شيء، والمؤامرات المائعة
للشبكات المرنة من الرعاية المتنافسة، التي يتلاعب بها ملك يقوم على
تشذيبها هي شيء آخر. قد تكون هناك أوجه تشابه بين الظاهرتين، ولا شك أن
تمديد المفاهيم وتوسيع مداها له بكل تأكيد دلالات: لكن الظاهرتين دون شك
مختلفتان».
يفسر واتربوري اختراق النزعة الانقسامية بعدم قدرة النظام على تغيير
بنيته جذريا. إذ من طبيعة النظام الانقسامي أن يعمل باستمرار على تحقيق
التوازن الداخلي. فعلى منوال القبيلة حيثما حققت جماعة تقدما داخل النظام
قد يهدد التوازنات داخل النخب السياسية إلا برز تحالف الجماعات الأخرى
لتحقيق التوازن أو إرباك تلك الجماعة. ويبني جون واتربوري على ذلك
استنتاجا مفاده أن الفاعلين في اللعبة السياسية داخل نظام انقسامي
يتعاملون مع السلطة من زاوية سكونية. لقد كان واتربوري يدافع عن أطروحات
كلنر لتفسير التوازن الذي يسود في النسق السياسي المغربي لما بعد مرحلة
الاحتلال الفرنسي، ويعمل واتربوري على استخدام الانقسامية باعتبارها
استراتيجية الحكم المركزي بهدف إضعاف القوى السياسية المنافسة. حيث أوضح
أن تقسيم الحقل السياسي المغربي ارتبط بطبيعة بنيته التنظيمية الفوقية
وبالثقافة الانقسامية المهيمنة عليه.
يعني ذلك أنه للهيمنة أو التحكم في اللعبة السياسية، حاولت الملكية
توقع نمط الصراعات الاجتماعية التي قد يواكبها بروز قوى سياسية غير قابلة
للترويض، أو أن تتوقع طبيعة المطالب الاجتماعية التي قد تتبناها القوى
الموجودة أصلا فيسهل عليها استباقها والالتفاف عليها بما يمكنها من إفراغ
تلك القوى من مضمونها السياسي وبالتالي سحب شرعيتها «النضالية»، وخصوصا
شرعية المعارضة. ولذلك فإن كل الانشقاقات الحزبية وكل الأحزاب الجديدة
تظهر تباعا عشية الانتخابات، ولا تكون أيادي الإدارة بعيدة عن ذلك المشهد
المألوف. ومما يعزز ذلك التحليل تزايد عدد الأحزاب بشكل تصاعدي منذ
انتخابات 1977 حتى آخر انتخابات 2007.
رهان الدولة قام على السعي الحثيث والمستمر من أجل إيجاد سند وخلفية
لتقوية نفوذها وهيمنتها على المجتمع من دون مراعاة متطلبات الدينامية
السياسية، وبرأي ريمي لوفو (1985) لم يكن يتطلب بناء الدولة تشكيل نخب
محلية وفية ومرتهنة للمخزن، ولم يكن لأجل ذلك مسموحا المس بالوضع القائم
في المجال القروي لما يضخه من توازنات سياسية لاستقرار نمط الحكم السياسي
السائد. استخدم مبدأ التعددية السياسية بغرض إضعاف المنافسة السياسية التي
يحتمل أن تفرضها القوى السياسية على الملكية، هذا ما حاول كل من ريمي لوفو
(1985) وجون واتربوري (1975) إبرازه في أبحاثهما، أي ما يمكن وصفه
سوسيولوجيا بقيام نموذج مركزي فضفاض يقوم على الرعاية. (يتبع)
محمد الغيلاني
* باحث في السوسيولوجيا
المساء
18/9/2008
ربيع- عدد الرسائل : 1432
العمر : 48
تاريخ التسجيل : 04/07/2008
الملكية المعاصرة وتنافس المراكز
تنتج الملكية منذ القرن التاسع عشر شحنة جديدة للزعامة وتحيط نفسها
بنمط من الحظوة الممزوجة بالفعالية، وهي بذلك تنافس قوى ندية ذات اعتبار
ومصادر أخرى للمنافسة على القيادة (القبيلة، الزاوية...). لكن هل يمكن
تفسير كل شيء بإرجاعه إلى العلاقات الطقوسية؟ ثم كيف نفسر تهشم هذا النمط
بالعوامل الخارجية مع أن ذلك ليس هينا؟
بقيت الملكية في المغرب إلى حدود منتصف القرن التاسع عشر تتصرف بمنأى
عن التفاعل مع مجريات الأحداث برؤية سكونية إزاء المجتمع الذي احتفظ
بنظامه الاجتماعي وبنمط الملكية ومنظومة العرف، ولم تبذل الملكية جهدا
لتغيير الوثائر الاجتماعية العميقة التي يعتبرها حمودي خاضعة بتعبيره لقوة
الرموز ورموز القوة، حيث كان يفترض أن يقوم الحكم بتحويل النمط الديني
والمعيشي، في حين كان يبرر محدودية قدرته بأحكام الشريعة، بينما كشف هذا
المنطق عن تناقض في الإنفاق على أنماط استهلاكية، وقد كان العالم من حول
المغرب يتطور على مستوى الإنتاج وإنتاج المعرفة خاصة. ويستشهد حمودي في
هذا السياق برحلة قام بها Delacroix إلى المغرب، حيث اعترضته في طريقه
مشاق التنقل، فعبر عن ذلك لأحد الوجهاء المغاربة (البياز)، مندهشا من كون
عبور الأنهار يتم عبر المجازات بدلا من القناطر، فرد عليه البياز بأن ذلك
يسهل القبض على اللصوص. تبين هذه الواقعة العوائق الثقافية لأي مشروع
تحديثي تنموي، عوائق راسخة في بنية الحكم وفي تمثلاته وأدواره. على هذا
المستوى يمكن الاتفاق على أن لا شيء تغير فعلا. كل الأدوار قابلة للتفعيل
عدا إطلاق دينامية مجتمعية منفتحة على تحويل النشاط البشري إلى موارد تضخ
الفعالية والإيجابية والإنتاجية في مسالك تحديث المجتمع. تكمن استثنائية
الملكية في المغرب في استثمارها المكثف واللانهائي في اكتشاف مستمر لمصادر
وأنماط جديدة من الشرعية.
مع الاحتلال الفرنسي انكمشت الملكية بعد مسار طويل من التغلغل
الأجنبي التدريجي وما رافقه من عمليات التحويل الاجتماعي. بقيت الملكية
بعيدة عن تسيير البلاد، إلى أن عاودت بالظهور من جديد مستقوية بملابسات
نهاية الاحتلال لتستعيد جزءا من مركزيتها وتخلق حولها الإجماع الضروري
لترسيخ نظام حكمها. لكن الآن وبعد كل هذه السنين يبرز سؤال أساسي: هل
مازالت الملكية تحوز على القدر نفسه من الحظوة والتمكين والإجماع؟
برغم دواهي التحولات العنيفة والمتوترة التي شابت صراع الملكية من
أجل الحفاظ على وجودها، وبرغم بعض مظاهر التحول الحاصل على مستوى
التعبيرات المجتمعية، مازال التردد في الانخراط الكلي في العصر مثار شك
وريبة. كل مظاهر الملكية العتيقة والتي يتم الحرص على إتقانها وإخراجها
بأفضل الطرق عرضا وبهرجة مازالت مفاعيلها سارية في تصريف القرار السياسي
واستجلاب دهشة النخب.
وبصيغة أقل وضوحا، يدعو حمودي الملكية إلى الفصل بين الملك والحكم
ولعب دور التحكيم الديمقراطي لأن ذلك حتما يعد مسلكا يؤمن للملكية مصادر
جديدة للاستمرارية.
الضحية وأقنعتها:
من خلال الاحتفال و«وصف الاحتفال» تبنى هذا الكتاب دعوة غير مباشرة
لأهمية الاعتناء الجماعي بالثقافة غير المكتوبة وبالمخيلة لأنها لا تقل
إبداعا وفنية عن غيرها من أنماط الإنتاج الثقافي. ليس من منظور ترفيهي
فلكلوري، وإنما باعتبار تلك الثقافة مطلبا حيويا لاستمرارية أية جماعة.
الشخصية الدينية في المجتمع المغربي تعترف بأهمية ذلك فهي لا تدعي التسامح
مع أنماط الثقافة الجمعية لأنها تحسبها أصلا جزءا منها ومن احتفاليتها.
تتميز طقـــوس المجتـــــمع بتعدد أنماطها، وكتــــاب الضحية
وأقنـــعتها جاء ليعيد قــــراءة تـــــلك الأنـــــــشطة الــــثقافية
والذهـــنية والرمزية بحـــسبانها تضمر خطابات عن الذات وعن العالم
الخارجي بالاستعانة بالترفيه والاحتفال الجماعي، والكتاب بالإضــافة إلى
كـــل ذلك يسعى إلى اقــــتــــفاء تلــــك الطـــقوس لفهم الممارسة
الاجتماعية بعيدا عن الإسقــاط باســـتقرائها من زاوية تعـــددية
التأويلات. في «الضحية وأقنعتها»، يتم الربط بين الاحتفال والــبعد الديني
المرتبط بالتعاليم الإسلامية، هكذا يبدو الاحتفـــال كنوع من الممارسة
التعبدية في جو روحي. الهدف النهائي هو محاولة إبراز تعـــــددية الأبعاد
الثـــــقافية للمجتمع وانفتاحيته ردا على الـــقراءات التـــجزيئية.
الشيخ والمريد:
كتب حمودي «الشيخ والمريد» في سياق بحثه المتواصل عن الأجوبة الممكنة
لسؤال المصير: مصير المجتمع المغربي، طبيعته وخصائصه وسيروراته. هاجسه
الأساس سؤال معرفي.
يهتم حمودي بدراسة أنماط السلوك والفعل لفهم البنيات المجتمعية
القائمة وطبيعتها. كل المعرفة السابقة على ذلك مجرد فرضيات يجب اختبارها
باستمرار في الواقع المعيش لتفادي الوقوع في الانتقائية والاختزال.
حاول حمودي في كتابه الشيخ والمريد أن يبين أن الثقافة هي أيضا مجال
للتناقضات، للتوافقات والتعارضات، من خلال دراساته وأبحاثه حول الزاوية
والولاية، كما حاول أن يبين فيه الاستمرارية وما يسمى بالتقليد والتراث،
وكيفيات إعادة إنتاجهما.
الشيخ والمريد كتاب يمارس نوعا من التاريخانية، ولا يطمئن للقراءات
التي تنظر إلى المجتمع من زاوية البنيات الساكنة، وإنما يحاول الباحث أن
يتجاوز القول بوجود ذهنيات راسخة، ثابتة وغير قابلة للتغيير، هناك مفاهيم
ذهنية وممارسات وقيم يعاد، وفقا لحيثيات اجتماعية أو سياسية، توليدها بصيغ
متعددة. يمكن تلمس ذلك بتحليل أنتربولوجي لمرحلة ينعتها حمودي بـ: العهد
الكلاسيكي (1965-1975) من خلال مفهوم البركة والأبعاد التي منحت له كسلطة
اقتصادية، كما يمكن تتبع استعادة تلك الممارسات من خلال الاعتناء بالأضرحة
والمواسم كدلالات على الارتباط بطقوس الولاء بالتركيز على صور الطاعة.
والأهم من ذلك صيغ التبرير الاجتماعي لمحاولات إعادة البناء المستمرة لمثل
هذا النمط من السلوك عبر دمجه في قيم جديدة تدعي أحيانا المزاوجة،
والتوفيق أحيانا أخرى بين الأصالة والمعاصرة.
هيمنة علاقة الشيخ والمريد في العلاقات السياسية ينطوي على قدر كبير
من إعادة البناء والمحاكاة، حيث في صلب هذه المعادلة تتوطد علاقة خاصة بين
الشيخ ومريديه لتتجاوز تلك العلاقة أهمية العرفان لمصلحة أهمية العارف. تم
التخلي عن منهج المعرفة للتعلق بالعارف، وهذا يحدث برأي حمودي منذ القرن
الخامس عشر بأشكال متنوعة لكنها مستمرة في مجالي المعرفة والسياسة.
إعادة إنتاج التقاليد هي نوع من البحث عن سبل جديدة للسيرورة
المجتمعية والخصوصية الثقافية، غير أن ذلك لا ينفي خضوع هذا البحث للتأويل
الذي يبقى بدوره انعكاسا لضغوط مادية وسياسية. ويجوز طبقا لذلك النظر إلى
عمليات إعادة الإنتاج لعلاقة الشيخ بالمريد في ميدان التصوف كونها وظيفة
روحية تساعد المريد على اكتشاف مسالك جديدة. لذلك يقترح حمودي في ضوء هذا
المنهج إمكانية قراءة «الأصولية» من خلال مقارنتها بالتجربة الصوفية
الدرقاوية.
محمد الغيلاني
المساء
22_9_2008
* باحث في السوسيولوجيا
ربيع- عدد الرسائل : 1432
العمر : 48
تاريخ التسجيل : 04/07/2008
النخب والمشروعية
في دراسة لريمي لوفو (نشرت باسم مستعار Octave Marais) حول النخب الوسيطة
والسلطة والمشروعية في المغرب (1971) يفسر كيف ضمنت الإدارة الفرنسية
السيطرة على «المغرب النافع» بترك الوجهاء/الأعيان يستغلون العالم القروي
التقليدي. الأمر نفسه ينطبق على القياد الذين كانوا من الناحية القانونية
ممثلين للسلطان في القبائل. في الواقع قامت عملية إخضاع بلاد السيبة بفضل
السلطات الفرنسية، فيما روابط بعض القياد في الريف والجنوب مع العرش كانت
جد هشة.
هكذا لجأت الحماية إلى نوع من التحالفات تضمن لها شرعية جديدة. فعوض
أن تستمد سلطتها من تفويض السلطان، ستشجع على زرع نظام محلي (يشبه برلمانا
منتخبا) لتوليد شرعية ديمقراطية. كان يفترض في هذا النظام ألا يمثل خطرا
على الإدارة الفرنسية، ولكن يمكن استخدامه في ظروف طارئة ضد القصر
والبرجوازية الوطنية. غير أن بروز الصراع بين القصر والمقاومة منع المشروع
الذي كان يستهدف تهشيم نظام الوجهاء/الأعيان من أخذ طريقه نحو التنفيذ.
في 1953 سيحدث العكس عندما قررت الحماية نفي محمد الخامس بالاستعانة
بالباشوات والقياد. آليات العلاقات بين الإدارة الفرنسية والأعيان تتجاوز
المستوى البسيط لعلاقات السيطرة. يتعلق الأمر بتضامن للسيطرة على العالم
القروي، ضد القصر والوطنيين الذين كانوا يسعون إلى الإطاحة بهذا النظام.
لقد كان الوجهاء/الأعيان مستغلي العالم القروي التقليدي، محط استغلال
القصر أيضا، باستخدام الأساليب نفسها التي يعرفونها، لخشيتهم من طموحات
البرجوازية الوطنية. في بلاد السيبة القديمة كانت الظنون إزاء الوطنيين
كثيرة كما كانت بالقدر نفسه إزاء صلابة الحماية وصمودها وقدرتها.
بالنسبة إلى بيروقراطيي العاصمة، كان الاستقلال يعني مجرد تسليم سلط
لفائدة البرجوازية المغربية، مما يزيد في تعقد المسألة بالنسبة إلى العالم
القروي. أرادت الحماية أن يتعهد السلطان بعد عودته من المنفى بضمان النسيج
القديم للقياد الذين انخرطوا في السابق في مشروع تنحيته (أي السلطان). لكن
بعد تردد كبير، قرر الملك رفض التواطؤ مع الوجهاء/الأعيان القدامى. لقد
كان على علم بالحقائق ولإدراكه أنه بإقامة تحالفات جديدة مع العالم القروي
سيهيمن على النظام السياسي برمته. إذا ترك سلطة الوجهاء السياسية تنهار،
فإن الملك سيعيق كل ما من شأنه أن يؤذي وضعهم الاقتصادي... سيعمد القصر
إلى تشكيل نظام نخب محلية تدعمه، بالادعاء الحفاظ على التضامنات الإثنية
التي سيعتمد عليها النظام اللاحق.
لقد تم خلق نخب إدارية محلية مدعومة بالنخب المحلية المنتخبة من
خلال الاقتراع العام (الانتخابات)، وتعزيز دور المقدمين والشيوح للتحكم
بالإدارة المحلية للبوادي.
بصفة عامة يمكن القول بأنه من خلال المنتخبين (وبوساطتهم) ومن خلال
أدوار الإداريين الصغار استطاع القصر تشكيل نظام تحالفات مع النخب المحلية
لمواجهة كل من الأنتلجنسيا الصاعدة والبرجوازية المدينية «الحضرية»
و»البروليتاريا». برأي لوفو، فإن التحكم في العالم القروي عامل أساسي في
الاستقرار السياسي. ليضمن للملكية مشروعية جديدة استخدم الحسن الثاني على
هذه الخلفية، العالم القروي لتمرير دستور 1962 عن طريق الاستفتاء الشعبي،
فيما أخفق باستعمال المنهجية نفسها، في الحصول على أغلبية لفائدة الحكومة
الموالية له.
تبعثر تحالفات الملكية سيعيق كذلك كل محاولات التحديث لصالح العالم
القروي والتي تمر عبر إصلاحات بنيوية. فالنخب التقليدية المحلية التي
ينتمي إليها أغلب المنتخبين والإداريين الصغار لديهم حساسية كبرى إزاء أي
إجراءات تتعلق بأوضاع الأراضي التي كانوا بحاجة مستمرة إلى بيروقراطية
المخزن للسيطرة عليها... كانوا يخشون الإصلاحات الزراعية لأنها تهدد
تملكهم للأرض بحكم إعادة التوزيع الضرورية للنهوض بقطاع الفلاحة فيما لم
يكونوا ضد تحديث يخلصهم من القرويين عن طريق القذف بهم في أتون الهجرة إلى
المدن أو إلى الخارج.
السلطة نفسها لم تكن تثق في هذه التطورات لأنها كانت تريد التحكم في
التوازنات السكانية، وتشجيع تحويل الفلاحين إلى مأجورين، والذي كانت
السلطة تستفيد فيه من المساعدة الخارجية. عملت الملكية على الاعتماد على
الدعم المالي الخارجي (المخصص لقطاع الفلاحة) في استراتيجيتها إزاء النخب.
لكن فشل الدمقرطة برأي لوفو أدى إلى توقف تلك المساعدات وبالتالي
تعطل مشروع تحديث الزراعة، كذلك أدى إلى تعطيل تحديث النظام السياسي
وبنيات العالم القروي، الأمر الذي جعل الملكية تخشى فقدان دعم النخب
القروية. كان نجاح التحديث يعني تقزيم دور الملك ليصبح فقط رمزا للمشروعية
والوحدة. شكوك الحسن الثاني إزاء مخاطر التحديث على نظامه جعلته يعمق
المظاهر المحافظة والتعبوية لسياسته ما سيعزز فيما بعد ظهور توترات
اجتماعية حادة من دون حل، وللحفاظ على الهدنة مع العالم القروي استمر
الحسن الثاني في الاحتفاظ بدعم النخب المحلية.
يعتبر لوفو هذا التحليل بمثابة مقدمات لفهم مسألتين: طرق إدماج
النخب المحلية في النسيج الإداري، وخلفيات التعايش بين الإدارة
والمنتخبين.
لم يكن ممكنا ترك العالم القروي من دون تأطير إداري. خاصة بعد الشعور
السياسي الغاضب الذي تولد لدى ساكنة القرى إثر المراحل الأولى للاستقلال.
ثورات عدي أوبيهي 1957، ومثيلاتها في الريف والأطلس والتي تم القضاء عليها
بالدعم المعنوي للملك وللجيش الذي كان تحت سيطرته.
فيما الشيوخ والمقدمون يستعيدون أدوارهم التي كانوا يقومون بها خلال
الاحتلال الفرنسي، بعد أن تبين أن القياد الإداريين الجدد بحاجة إلى وسطاء
يعرفون الساكنة المحلية عن قرب. بعض هؤلاء الشيوخ والمقدمين الجدد تم
تعيينهم أو اقتراحهم أو تزكيتهم من قبل بعض الأحزاب شريطة أن يكونوا
مقبولين من قبل الساكنة. قلة من الشيوخ الذين عملوا مع الحماية ممن تمت
استعادتهم. وتبين وظيفة الشيوخ والمقدمين بصفة عامة عدم إمكانية فعالية
الإدارة من دون التعامل مع عناصر من خارج النخب المحلية.
من الصعب تحديد وتعريف دور هؤلاء المقدمين والشيوخ، أكيد أنه دور
يتجاوز ما هو مرسوم لهم من قبل القايد. الشيخ بصفة عامة رجل غني فلاح كبير
بدأ في تحديث زراعته باقتناء جرار آلي واستعمال الأسمدة. يهتم أكثر بوضعه
الاجتماعي أكثر مما يهتم بما تذره عليه وظيفته. المقدم أيضا من الأعيان
المحليين ولكن من درجة أقل.
أهمية أدوار هؤلاء تعود إلى عدم انتماء القياد الجدد إلى أي مجموعة
إثنية. فالقياد مدينيون ولا يستقرون أكثر من سنتين أو ثلاث سنوات في مناطق
تعيينهم، حيث يتنقلون بصحبة العامل، وليس لهم احتكاك مباشر بالساكنة. منهم
من أقام بعيدا عن منطقة مسؤولياته بعشرات الكيلومترات. فالقرويون بطبيعة
الحال سيتواصلون أكثر مع الشيوخ والمقدمين المتواجدين في القبيلة.
من دون الشيخ لا يمكن للقائد أن ينجز مهامه ولا أن يتعرف على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية لدائرته.
بعد الإجماع على قبول الشيخ من قبل «جماعة» يبقى في مهامه طالما بقي
وفيا للإدارة.. تنحية الشيخ لا تتم إلا بعد تدخل وزير الداخلية في ضوء
تقرير العامل أو الديوان الملكي، وكان يحدث أحيانا أن يتدخل العاهل نفسه
للحسم في مشكل تنحية الشيخ بعد طلب التحكيم من قبل القبيلة أو ما شابه.
الإصلاح الجماعي طرح مشكل التعايش بين الشيخ ورئيس الجماعة. ما جعل
الإدارة تبدع حلا لهذه المعضلة بتعيين «مساعدته» الشيخ في رئاسة الجماعة.
فيما الدولة استمرت في تعزيز أدوارهم وتقريبهم من المخزن مما أعطاهم حظوة
أكبر مما كان للمنتخب. وأعطيت للمقدمين مهام للإشراف على أصغر تجمع سكني
(دوار ومجموعة دواوير) أي مزيدا من تغلغل المقدمين، (1957 كان بالمغرب
20000 مقدم)
أوضاع المقدمين المادية ستدفعهم إلى استخلاص مصادر غير شرعية للدخل
والدولة ستتغاضى عن ذلك، أما دورهم السياسي في المراقبة والترصد للساكنة
فسيتعاظم في مرحلة عرفت بكونها مرحلة الانتهاكات، فقد لاحظ لوفو أن
المرشحين للانتخابات الجماعية الأولى هم بصفة عامة من شيوخ ومقدمي المرحلة
الفرنسية أو من عائلاتهم. كما أن الدولة ساعدت شيوخا ومقدمين من المنتخبين
القدامى ليتقلدوا مناصب رؤساء ومستشاري الجماعات.
يستنتج لوفو من التحليل أعلاه أن إدماج النخب المحلية في الإدارة
المخزنية/الدولة ساعد على تفادي تمرد البادية، كما ساعد على إخضاع
البادية. فالأعيان لتفادي التمرد كانوا يفاوضون ويبحثون عن تفاهمات، لكنهم
أيضا كانوا وينذرون ويخبرون السلطة.
د.محمد الغيلاني
* باحث في السوسيولوجيا
المساء
23/9/2008
والسلطة والمشروعية في المغرب (1971) يفسر كيف ضمنت الإدارة الفرنسية
السيطرة على «المغرب النافع» بترك الوجهاء/الأعيان يستغلون العالم القروي
التقليدي. الأمر نفسه ينطبق على القياد الذين كانوا من الناحية القانونية
ممثلين للسلطان في القبائل. في الواقع قامت عملية إخضاع بلاد السيبة بفضل
السلطات الفرنسية، فيما روابط بعض القياد في الريف والجنوب مع العرش كانت
جد هشة.
هكذا لجأت الحماية إلى نوع من التحالفات تضمن لها شرعية جديدة. فعوض
أن تستمد سلطتها من تفويض السلطان، ستشجع على زرع نظام محلي (يشبه برلمانا
منتخبا) لتوليد شرعية ديمقراطية. كان يفترض في هذا النظام ألا يمثل خطرا
على الإدارة الفرنسية، ولكن يمكن استخدامه في ظروف طارئة ضد القصر
والبرجوازية الوطنية. غير أن بروز الصراع بين القصر والمقاومة منع المشروع
الذي كان يستهدف تهشيم نظام الوجهاء/الأعيان من أخذ طريقه نحو التنفيذ.
في 1953 سيحدث العكس عندما قررت الحماية نفي محمد الخامس بالاستعانة
بالباشوات والقياد. آليات العلاقات بين الإدارة الفرنسية والأعيان تتجاوز
المستوى البسيط لعلاقات السيطرة. يتعلق الأمر بتضامن للسيطرة على العالم
القروي، ضد القصر والوطنيين الذين كانوا يسعون إلى الإطاحة بهذا النظام.
لقد كان الوجهاء/الأعيان مستغلي العالم القروي التقليدي، محط استغلال
القصر أيضا، باستخدام الأساليب نفسها التي يعرفونها، لخشيتهم من طموحات
البرجوازية الوطنية. في بلاد السيبة القديمة كانت الظنون إزاء الوطنيين
كثيرة كما كانت بالقدر نفسه إزاء صلابة الحماية وصمودها وقدرتها.
بالنسبة إلى بيروقراطيي العاصمة، كان الاستقلال يعني مجرد تسليم سلط
لفائدة البرجوازية المغربية، مما يزيد في تعقد المسألة بالنسبة إلى العالم
القروي. أرادت الحماية أن يتعهد السلطان بعد عودته من المنفى بضمان النسيج
القديم للقياد الذين انخرطوا في السابق في مشروع تنحيته (أي السلطان). لكن
بعد تردد كبير، قرر الملك رفض التواطؤ مع الوجهاء/الأعيان القدامى. لقد
كان على علم بالحقائق ولإدراكه أنه بإقامة تحالفات جديدة مع العالم القروي
سيهيمن على النظام السياسي برمته. إذا ترك سلطة الوجهاء السياسية تنهار،
فإن الملك سيعيق كل ما من شأنه أن يؤذي وضعهم الاقتصادي... سيعمد القصر
إلى تشكيل نظام نخب محلية تدعمه، بالادعاء الحفاظ على التضامنات الإثنية
التي سيعتمد عليها النظام اللاحق.
لقد تم خلق نخب إدارية محلية مدعومة بالنخب المحلية المنتخبة من
خلال الاقتراع العام (الانتخابات)، وتعزيز دور المقدمين والشيوح للتحكم
بالإدارة المحلية للبوادي.
بصفة عامة يمكن القول بأنه من خلال المنتخبين (وبوساطتهم) ومن خلال
أدوار الإداريين الصغار استطاع القصر تشكيل نظام تحالفات مع النخب المحلية
لمواجهة كل من الأنتلجنسيا الصاعدة والبرجوازية المدينية «الحضرية»
و»البروليتاريا». برأي لوفو، فإن التحكم في العالم القروي عامل أساسي في
الاستقرار السياسي. ليضمن للملكية مشروعية جديدة استخدم الحسن الثاني على
هذه الخلفية، العالم القروي لتمرير دستور 1962 عن طريق الاستفتاء الشعبي،
فيما أخفق باستعمال المنهجية نفسها، في الحصول على أغلبية لفائدة الحكومة
الموالية له.
تبعثر تحالفات الملكية سيعيق كذلك كل محاولات التحديث لصالح العالم
القروي والتي تمر عبر إصلاحات بنيوية. فالنخب التقليدية المحلية التي
ينتمي إليها أغلب المنتخبين والإداريين الصغار لديهم حساسية كبرى إزاء أي
إجراءات تتعلق بأوضاع الأراضي التي كانوا بحاجة مستمرة إلى بيروقراطية
المخزن للسيطرة عليها... كانوا يخشون الإصلاحات الزراعية لأنها تهدد
تملكهم للأرض بحكم إعادة التوزيع الضرورية للنهوض بقطاع الفلاحة فيما لم
يكونوا ضد تحديث يخلصهم من القرويين عن طريق القذف بهم في أتون الهجرة إلى
المدن أو إلى الخارج.
السلطة نفسها لم تكن تثق في هذه التطورات لأنها كانت تريد التحكم في
التوازنات السكانية، وتشجيع تحويل الفلاحين إلى مأجورين، والذي كانت
السلطة تستفيد فيه من المساعدة الخارجية. عملت الملكية على الاعتماد على
الدعم المالي الخارجي (المخصص لقطاع الفلاحة) في استراتيجيتها إزاء النخب.
لكن فشل الدمقرطة برأي لوفو أدى إلى توقف تلك المساعدات وبالتالي
تعطل مشروع تحديث الزراعة، كذلك أدى إلى تعطيل تحديث النظام السياسي
وبنيات العالم القروي، الأمر الذي جعل الملكية تخشى فقدان دعم النخب
القروية. كان نجاح التحديث يعني تقزيم دور الملك ليصبح فقط رمزا للمشروعية
والوحدة. شكوك الحسن الثاني إزاء مخاطر التحديث على نظامه جعلته يعمق
المظاهر المحافظة والتعبوية لسياسته ما سيعزز فيما بعد ظهور توترات
اجتماعية حادة من دون حل، وللحفاظ على الهدنة مع العالم القروي استمر
الحسن الثاني في الاحتفاظ بدعم النخب المحلية.
يعتبر لوفو هذا التحليل بمثابة مقدمات لفهم مسألتين: طرق إدماج
النخب المحلية في النسيج الإداري، وخلفيات التعايش بين الإدارة
والمنتخبين.
لم يكن ممكنا ترك العالم القروي من دون تأطير إداري. خاصة بعد الشعور
السياسي الغاضب الذي تولد لدى ساكنة القرى إثر المراحل الأولى للاستقلال.
ثورات عدي أوبيهي 1957، ومثيلاتها في الريف والأطلس والتي تم القضاء عليها
بالدعم المعنوي للملك وللجيش الذي كان تحت سيطرته.
فيما الشيوخ والمقدمون يستعيدون أدوارهم التي كانوا يقومون بها خلال
الاحتلال الفرنسي، بعد أن تبين أن القياد الإداريين الجدد بحاجة إلى وسطاء
يعرفون الساكنة المحلية عن قرب. بعض هؤلاء الشيوخ والمقدمين الجدد تم
تعيينهم أو اقتراحهم أو تزكيتهم من قبل بعض الأحزاب شريطة أن يكونوا
مقبولين من قبل الساكنة. قلة من الشيوخ الذين عملوا مع الحماية ممن تمت
استعادتهم. وتبين وظيفة الشيوخ والمقدمين بصفة عامة عدم إمكانية فعالية
الإدارة من دون التعامل مع عناصر من خارج النخب المحلية.
من الصعب تحديد وتعريف دور هؤلاء المقدمين والشيوخ، أكيد أنه دور
يتجاوز ما هو مرسوم لهم من قبل القايد. الشيخ بصفة عامة رجل غني فلاح كبير
بدأ في تحديث زراعته باقتناء جرار آلي واستعمال الأسمدة. يهتم أكثر بوضعه
الاجتماعي أكثر مما يهتم بما تذره عليه وظيفته. المقدم أيضا من الأعيان
المحليين ولكن من درجة أقل.
أهمية أدوار هؤلاء تعود إلى عدم انتماء القياد الجدد إلى أي مجموعة
إثنية. فالقياد مدينيون ولا يستقرون أكثر من سنتين أو ثلاث سنوات في مناطق
تعيينهم، حيث يتنقلون بصحبة العامل، وليس لهم احتكاك مباشر بالساكنة. منهم
من أقام بعيدا عن منطقة مسؤولياته بعشرات الكيلومترات. فالقرويون بطبيعة
الحال سيتواصلون أكثر مع الشيوخ والمقدمين المتواجدين في القبيلة.
من دون الشيخ لا يمكن للقائد أن ينجز مهامه ولا أن يتعرف على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية لدائرته.
بعد الإجماع على قبول الشيخ من قبل «جماعة» يبقى في مهامه طالما بقي
وفيا للإدارة.. تنحية الشيخ لا تتم إلا بعد تدخل وزير الداخلية في ضوء
تقرير العامل أو الديوان الملكي، وكان يحدث أحيانا أن يتدخل العاهل نفسه
للحسم في مشكل تنحية الشيخ بعد طلب التحكيم من قبل القبيلة أو ما شابه.
الإصلاح الجماعي طرح مشكل التعايش بين الشيخ ورئيس الجماعة. ما جعل
الإدارة تبدع حلا لهذه المعضلة بتعيين «مساعدته» الشيخ في رئاسة الجماعة.
فيما الدولة استمرت في تعزيز أدوارهم وتقريبهم من المخزن مما أعطاهم حظوة
أكبر مما كان للمنتخب. وأعطيت للمقدمين مهام للإشراف على أصغر تجمع سكني
(دوار ومجموعة دواوير) أي مزيدا من تغلغل المقدمين، (1957 كان بالمغرب
20000 مقدم)
أوضاع المقدمين المادية ستدفعهم إلى استخلاص مصادر غير شرعية للدخل
والدولة ستتغاضى عن ذلك، أما دورهم السياسي في المراقبة والترصد للساكنة
فسيتعاظم في مرحلة عرفت بكونها مرحلة الانتهاكات، فقد لاحظ لوفو أن
المرشحين للانتخابات الجماعية الأولى هم بصفة عامة من شيوخ ومقدمي المرحلة
الفرنسية أو من عائلاتهم. كما أن الدولة ساعدت شيوخا ومقدمين من المنتخبين
القدامى ليتقلدوا مناصب رؤساء ومستشاري الجماعات.
يستنتج لوفو من التحليل أعلاه أن إدماج النخب المحلية في الإدارة
المخزنية/الدولة ساعد على تفادي تمرد البادية، كما ساعد على إخضاع
البادية. فالأعيان لتفادي التمرد كانوا يفاوضون ويبحثون عن تفاهمات، لكنهم
أيضا كانوا وينذرون ويخبرون السلطة.
د.محمد الغيلاني
* باحث في السوسيولوجيا
المساء
23/9/2008
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
المجتمـع والإســلام فـي المـغـرب
المشكل الذي يواجهنا ويزداد تعقيدا يوما بعد يوم، ليس هو تعريف الدين ولكن العثور عليه.
كليفورد غيرتز
أبحاث غيرتز حول المغرب
يعد كتاب كليفورد غيرتز «الإسلام ملاحظا» Islam Observed : Religious
Development in Morocco and Indonesia. University of Chicago Press.
1968. من أغنى وأهم أبحاثه، فهو يمثل عصارة تنظيراته. كما أن أهميته نابعة
من كونه كتابا كان له دور معرفي ومنهجي في حقل الأنتربولوجيا. مثل هذا
العمل محور مدرسة فكرية اتسعت دراساتها حول العالم العربي والإسلامي بفضل
الأطروحات التي ضمنها غيرتز كتابه.
من الناحية المنهجية والنظرية يعد كليفورد غيرتز أهم الباحثين
الأنتربولوجيين المعاصرين، عدا عن كونه من الباحثين الميدانيين المهمين.
فقد اهتم بما يسميه الوصف الكثيف للمعطيات الميدانية أو ما يسمى التحليل
الرمزي وتحليل المعنى والأنساق الثقافية. للإشارة، يعد كتاب غيرتز سوق
صفرو أشهر كتبه حول المغرب Le souk de Sefrou : sur l’économie du bazar.
Editions Bouchene. 2003.، حيث يقوم بدراسة ظاهرة السوق التقليدية بصفرو
إبان الستينات، كما اعتنى بخصوصية المعاملة الاقتصادية في إطار ثقافي
مغربي، وكانت الدراسة، كما يشير إلى ذلك عبد الله حمودي، تندرج في خضم
نقاشات نظرية حول علاقة الاقتصاد بالثقافة.
وله أيضا كتاب مشترك تحت عنوان: Order and Meaning in Moroccan
Society. Geertz and Rosen النظام والمعنى في المجتمع المغربي. (غيرتز
ولاري روزن ). وفي هذا الكتاب، يحاول غيرتز الدفاع عن نوع معين من
الأنتربولوجيا باعتبارها ليست علما شبيها بالعلوم الطبيعية وإنما ترتكز
على التجربة، بمعنى أنها نوع من الكتابة التي تستهدف استخراج المعاني من
الرموز. كما أن الكتاب يعتبر الثقافة منظومة رمزية ويعتمد على منهجية
التأويل والوصف الكثيف، وقال غيرتز في كتابه هذا بعدم وجوب محاكاة
الأنتربولوجيا للعلوم الطبيعية في منهج التحليل لأن اهتمامها يدور حول
الثقافات كإنجازات بشرية تختلف عن الظواهر الطبيعية التي لها نواميس
وقواعد تسير الطبيعة وفقها).
غيرتز ومرجعياته المعرفية
يتحدث كليفورد عن مصادر التأثير التي يستلهم منها أفكاره وأبحاثه في
مجال الدراسة المقارنة للأديان من خلال التفاعل السلبي والإيجابي مع
مفاهيم ومناهج Talcott Parsons, Clyde Kluckhohn, Edward Shils, Robert
Bellah, Wilfred Cantwell Smith. وطبعا يبقى Max Weber أهم ملهم لغيرتز
(تأثير عبقري).
كما يمكن أن نضيف مصادر أخرى استلهم منها غيرتز منهجه كـ: ألفرد شوتس
والظواهريين الجدد (بيتر برغو وتوماس لوكمان...)، أي الاعتماد على منهج
للبحث في الجوهري والعميق. يغلب على هذا المنهج الطابع الفلسفي والتاريخي
لفهم المجتمع من الداخل.
أنجز غــــيرتز أهم أبحاثه في كل من المغرب وإندونيسيا، (أبحاث من
قبيل: التجار الصغار والأمـــراء والديـــن في جــزيــــرة جـــــاوه
والزراعة وتأثـــيرها على الحياة الاجتماعية الإندونيسية وعن الأنساب
والبنية في جـــزيرة بالي. وحول المغرب له: «المعنى والنظام في المغـــرب»
وهو كتـــاب مــــشترك مع روزن وزوجته، وله أيـــضا الكــــتاب الشهير
«سوق صـــفرو»).
كما أن تأثير غيرتز امتد ليشمل باحثين درسوا المغرب من قبيل ديل
إيكلمان وبول رابنو وكاربانازو، بل إن هذا التأثير شمل أيضا المدرسة
الأنتربولوجية الفرنسية المعاصرة «مدرسة الحوليات»، غير أن من أهم خصوم
غيرتز البريطاني أرنست كلنر الذي سبق لنا مناقشة بعض أفكاره في هذا
السلسلة.
«الإسلام ملاحظا»: غيرتز يعيد قراءة كتابه
في تقديمه للترجمة الفرنسية لكتابه «الإسلام ملاحظا» Observer l’Islam
: changements religieux au Maroc et en Indonésie. Ed. La
découverte.1992، يعيد غيرتز قراءة عمله الصادر سنة 1968، محاولا وضع
الدراسة في سياقها العام. حيث يبدو التحليل المقارن للدين له فوائد برغم
أن تلك المحاولة انطلقت في مرحلة كان فيها هذا التحليل في بداياته الأولى،
معتمدا على الأبحاث الميدانية التي أنجزها بين 1952 و1954 بإندونيسيا،
وبين 1964 و1965 بالمغرب، عدا عن الزيارات المتكررة للمغرب، حيث كان
الاهتمام منصبا على متابعة ورصد الحياة الدينية والاجتماعية، معتمدا أيضا
على التجربة الشخصية وتأثيراتها. ويمكننا أن نجمل أسئلة الأبحاث التي قام
بها غيرتز في بعدها النظري والأنتربولوجي حول علاقة الدين بالمجتمع في ما
يلي:
ما هي التجربة الدينية وما هي أنماطها؟
هل تخضع عقيدة تدعي الكونية للتغيير؟
كيف يجيب الإسلام على تحدي الحداثة؟
يتصدى كليفورد غيرتز للإجابة عن هذه الأسئلة السوسيولوجية الكبرى من
خلال كتابه «الإسلام ملاحظا». بصفته وريثا لماكس فيبر، يقطع غيرتز مع
السوسيولوجيا المقارنة، بالقدر نفسه الذي يقطع فيه مع الاستشراق، ويرفض
ملاحظة الإسلام كإيمان واحد (موحد)، والعالم الإسلامي ككيان متجانس مقاوم
للتاريخ.
في النهاية، يختار غيرتز تحليل تشكل تجربتين اجتماعيتين تنتميان
للحضارة الإسلامية، إندونيسيا والمغرب، ورصد التمايزات والاختلافات التي
تتعارض مع الأساليب الدينية التقليدية للمجتمعين، وتتبع التحولات منذ
القرن التاسع عشر. كما يبين غيرتز كيف أن هذه التطورات أنتجت عوالم روحية
جد متباينة: في المغرب، الرؤية الدينية تستدعي النمط الحركي، والأخلاقي،
والفرداني، في إندونيسيا، العكس، جمالية، استدخالية، تحلل/ذوبان الشخصية.
بهذا العمل يضع غيرتز أسس أنتربولوجيا ثقافية تأويلية والتي عرفت تطورا
كبيرا في الولايات المتحدة الأمريكية.
يقال عن هذا الكتاب إنه من أهم وأخطر كتب كليفورد غيرتز، إذ سعى فيه
إلى بسط نظرية شمولية حول العالم الإسلامي من خلال نموذجي المغرب
وإندونيسيا. حيث أصبحت الخطوط العريضة لأطروحته تشكل منهج الدراسات
الأنتربولوجية حول المغرب منذ صدور كتابه. من الواضح أن خطورة وأهمية كتاب
غيرتز «الإسلام ملاحظا» لا جدال فيها، إذ بات منذ صدوره مرجعا أساسيا
للبريطانيين العاملين في البعثات الدبلوماسية التي يتم تعيينها في المغرب،
لأنه يساعدهم على فهم أعمق للمجتمع والثقافة والقيم المغربية.
اهتم كليفورد غيرتز بدراسة المغرب من خلال العوامل التالية: الثقافة
الدينية، الصراع الديني، التطور الديني، ازدواجية مظهر الدين الإسلامي: في
بعده المحلي وفي بعده الكوني، في مرحلة الاستقرار السياسي أو في حالة
الاستمرارية السياسية.
محمد الغيلاني
* باحث في السوسيولوجيا
المساء
24/9/2008
كليفورد غيرتز
أبحاث غيرتز حول المغرب
يعد كتاب كليفورد غيرتز «الإسلام ملاحظا» Islam Observed : Religious
Development in Morocco and Indonesia. University of Chicago Press.
1968. من أغنى وأهم أبحاثه، فهو يمثل عصارة تنظيراته. كما أن أهميته نابعة
من كونه كتابا كان له دور معرفي ومنهجي في حقل الأنتربولوجيا. مثل هذا
العمل محور مدرسة فكرية اتسعت دراساتها حول العالم العربي والإسلامي بفضل
الأطروحات التي ضمنها غيرتز كتابه.
من الناحية المنهجية والنظرية يعد كليفورد غيرتز أهم الباحثين
الأنتربولوجيين المعاصرين، عدا عن كونه من الباحثين الميدانيين المهمين.
فقد اهتم بما يسميه الوصف الكثيف للمعطيات الميدانية أو ما يسمى التحليل
الرمزي وتحليل المعنى والأنساق الثقافية. للإشارة، يعد كتاب غيرتز سوق
صفرو أشهر كتبه حول المغرب Le souk de Sefrou : sur l’économie du bazar.
Editions Bouchene. 2003.، حيث يقوم بدراسة ظاهرة السوق التقليدية بصفرو
إبان الستينات، كما اعتنى بخصوصية المعاملة الاقتصادية في إطار ثقافي
مغربي، وكانت الدراسة، كما يشير إلى ذلك عبد الله حمودي، تندرج في خضم
نقاشات نظرية حول علاقة الاقتصاد بالثقافة.
وله أيضا كتاب مشترك تحت عنوان: Order and Meaning in Moroccan
Society. Geertz and Rosen النظام والمعنى في المجتمع المغربي. (غيرتز
ولاري روزن ). وفي هذا الكتاب، يحاول غيرتز الدفاع عن نوع معين من
الأنتربولوجيا باعتبارها ليست علما شبيها بالعلوم الطبيعية وإنما ترتكز
على التجربة، بمعنى أنها نوع من الكتابة التي تستهدف استخراج المعاني من
الرموز. كما أن الكتاب يعتبر الثقافة منظومة رمزية ويعتمد على منهجية
التأويل والوصف الكثيف، وقال غيرتز في كتابه هذا بعدم وجوب محاكاة
الأنتربولوجيا للعلوم الطبيعية في منهج التحليل لأن اهتمامها يدور حول
الثقافات كإنجازات بشرية تختلف عن الظواهر الطبيعية التي لها نواميس
وقواعد تسير الطبيعة وفقها).
غيرتز ومرجعياته المعرفية
يتحدث كليفورد عن مصادر التأثير التي يستلهم منها أفكاره وأبحاثه في
مجال الدراسة المقارنة للأديان من خلال التفاعل السلبي والإيجابي مع
مفاهيم ومناهج Talcott Parsons, Clyde Kluckhohn, Edward Shils, Robert
Bellah, Wilfred Cantwell Smith. وطبعا يبقى Max Weber أهم ملهم لغيرتز
(تأثير عبقري).
كما يمكن أن نضيف مصادر أخرى استلهم منها غيرتز منهجه كـ: ألفرد شوتس
والظواهريين الجدد (بيتر برغو وتوماس لوكمان...)، أي الاعتماد على منهج
للبحث في الجوهري والعميق. يغلب على هذا المنهج الطابع الفلسفي والتاريخي
لفهم المجتمع من الداخل.
أنجز غــــيرتز أهم أبحاثه في كل من المغرب وإندونيسيا، (أبحاث من
قبيل: التجار الصغار والأمـــراء والديـــن في جــزيــــرة جـــــاوه
والزراعة وتأثـــيرها على الحياة الاجتماعية الإندونيسية وعن الأنساب
والبنية في جـــزيرة بالي. وحول المغرب له: «المعنى والنظام في المغـــرب»
وهو كتـــاب مــــشترك مع روزن وزوجته، وله أيـــضا الكــــتاب الشهير
«سوق صـــفرو»).
كما أن تأثير غيرتز امتد ليشمل باحثين درسوا المغرب من قبيل ديل
إيكلمان وبول رابنو وكاربانازو، بل إن هذا التأثير شمل أيضا المدرسة
الأنتربولوجية الفرنسية المعاصرة «مدرسة الحوليات»، غير أن من أهم خصوم
غيرتز البريطاني أرنست كلنر الذي سبق لنا مناقشة بعض أفكاره في هذا
السلسلة.
«الإسلام ملاحظا»: غيرتز يعيد قراءة كتابه
في تقديمه للترجمة الفرنسية لكتابه «الإسلام ملاحظا» Observer l’Islam
: changements religieux au Maroc et en Indonésie. Ed. La
découverte.1992، يعيد غيرتز قراءة عمله الصادر سنة 1968، محاولا وضع
الدراسة في سياقها العام. حيث يبدو التحليل المقارن للدين له فوائد برغم
أن تلك المحاولة انطلقت في مرحلة كان فيها هذا التحليل في بداياته الأولى،
معتمدا على الأبحاث الميدانية التي أنجزها بين 1952 و1954 بإندونيسيا،
وبين 1964 و1965 بالمغرب، عدا عن الزيارات المتكررة للمغرب، حيث كان
الاهتمام منصبا على متابعة ورصد الحياة الدينية والاجتماعية، معتمدا أيضا
على التجربة الشخصية وتأثيراتها. ويمكننا أن نجمل أسئلة الأبحاث التي قام
بها غيرتز في بعدها النظري والأنتربولوجي حول علاقة الدين بالمجتمع في ما
يلي:
ما هي التجربة الدينية وما هي أنماطها؟
هل تخضع عقيدة تدعي الكونية للتغيير؟
كيف يجيب الإسلام على تحدي الحداثة؟
يتصدى كليفورد غيرتز للإجابة عن هذه الأسئلة السوسيولوجية الكبرى من
خلال كتابه «الإسلام ملاحظا». بصفته وريثا لماكس فيبر، يقطع غيرتز مع
السوسيولوجيا المقارنة، بالقدر نفسه الذي يقطع فيه مع الاستشراق، ويرفض
ملاحظة الإسلام كإيمان واحد (موحد)، والعالم الإسلامي ككيان متجانس مقاوم
للتاريخ.
في النهاية، يختار غيرتز تحليل تشكل تجربتين اجتماعيتين تنتميان
للحضارة الإسلامية، إندونيسيا والمغرب، ورصد التمايزات والاختلافات التي
تتعارض مع الأساليب الدينية التقليدية للمجتمعين، وتتبع التحولات منذ
القرن التاسع عشر. كما يبين غيرتز كيف أن هذه التطورات أنتجت عوالم روحية
جد متباينة: في المغرب، الرؤية الدينية تستدعي النمط الحركي، والأخلاقي،
والفرداني، في إندونيسيا، العكس، جمالية، استدخالية، تحلل/ذوبان الشخصية.
بهذا العمل يضع غيرتز أسس أنتربولوجيا ثقافية تأويلية والتي عرفت تطورا
كبيرا في الولايات المتحدة الأمريكية.
يقال عن هذا الكتاب إنه من أهم وأخطر كتب كليفورد غيرتز، إذ سعى فيه
إلى بسط نظرية شمولية حول العالم الإسلامي من خلال نموذجي المغرب
وإندونيسيا. حيث أصبحت الخطوط العريضة لأطروحته تشكل منهج الدراسات
الأنتربولوجية حول المغرب منذ صدور كتابه. من الواضح أن خطورة وأهمية كتاب
غيرتز «الإسلام ملاحظا» لا جدال فيها، إذ بات منذ صدوره مرجعا أساسيا
للبريطانيين العاملين في البعثات الدبلوماسية التي يتم تعيينها في المغرب،
لأنه يساعدهم على فهم أعمق للمجتمع والثقافة والقيم المغربية.
اهتم كليفورد غيرتز بدراسة المغرب من خلال العوامل التالية: الثقافة
الدينية، الصراع الديني، التطور الديني، ازدواجية مظهر الدين الإسلامي: في
بعده المحلي وفي بعده الكوني، في مرحلة الاستقرار السياسي أو في حالة
الاستمرارية السياسية.
محمد الغيلاني
* باحث في السوسيولوجيا
المساء
24/9/2008
ربيع- عدد الرسائل : 1432
العمر : 48
تاريخ التسجيل : 04/07/2008
المجتمـع والإســلام فـي المـغـرب
محمد الغيلاني
يعد كتاب «الإسلام ملاحظا» عبارة عن إطار عام لتحليل مقارن للأديان
حاول الكاتب تطبيقه على الإسلام من خلال المقارنة بين حضارتين متمايزتين،
يتعلق الأمر بإندونيسيا والمغرب. يعتبر غيرتز أن تأويل مجرى الحياة
الروحية يحفه الكثير من المغامرة والخشية من السطحية والغموض. يل يميل
الأنتربولوجي دائما إلى ترجمة تجربته البحثية أو بالأحرى تأثيرات تلك
التجربة عليه. العمل الميداني مكن غيرتز من بلورة فرضيات معزولة ولكنها
نماذج عامة لتأويل ثقافي واجتماعي.
هل يمكن اختزال حضارة واقتصاد ونظام سياسي وبنية طبقات، في
(وانطلاقا من) تفاصيل نظام اجتماعي مصغر؟ أليس من اللامبالاة (من عدم
الاحتياط) افتراض أن نظام مصغر هو نموذج مطابق لبلد برمته؟ الأكيد أنه ليس
بديهيا معرفة وجه الماضي من خلال حفنة معطيات مستخلصة من الحاضر.
الأنتربولوجيون لا يجيزون هذا التعميم، إنهم لا يسمحون بتعميم
الحقائق الجزئية بصفتها حقائق عامة، لا يقبلون الاختزال.. ما يبحثون عنه
(وأنا تحديدا) هو اكتشاف فائدة تلك الحقائق الجزئية على المستوى العام،
وما تفتحه الاكتشافات الجزئية والعميقة من مسالك لتأويلات عامة..
فالأنتربولوجيون علماء متخصصون ولا فرق في تعاطيهم مقارنة مع سواهم من
علماء سياسة أو اقتصاد أو تاريخ أو سوسيولوجيا، يعتبر غيرتز أن قيمة عمل
الأنتربولوجي تكمن في المساهمة التي يمكن أن يقدمها، حيث لا يكون لها معنى
إن تصدى لها كحقل علمي معزول. وهو بذلك يعترف بدور وأهمية التداخل العلمي
وفوائده.
الدين في أنتربولوجيا غيرتز ظاهرة اجتماعية، وثقافية وسيكولوجية.
ومن ثم يعتبر أن المشكل الذي يواجهنا ويزداد تعقيدا يوما بعد يوم، ليس هو
تعريف الدين ولكن العثور عليه. غير أن السؤال الذي لم يطرحه غيرتز: كيف
نعثر على شيء لا نعرفه؟ وهل عندما نعثر عليه نكون قد توقفنا عن البحث عنه
من دون أن نعرفه أو نعيد تعريفه؟
التدين والمجتمع
يعتبر غيرتز أن المغرب من المجتمعات التي لم تكره الدين على التكيف مع التحولات الحادة لشكل ونمط النظام المركزي.
ولذلك تقوم في المغرب تحالفات خاصة لشخصيات نافذة تشكل سلطة هرمية
مستقلة يهيمن عليها الملك، فيما بقيت التوجهات الدينية في عمقها على حالها
ولم تتغير سوى تعبيراتها وصياغاتها.
بينما فشلت الأصولية (التطرف، الإسلام الراديكالي...) في المغرب،
برأي غيرتز، عمل النظام الملكي على توجيه الحماسة الدينية لمصلحة سياساته،
عبر دعم المؤسسات الدينية التقليدية. وقدم الملك نفسه كممثل وحام للأمة.
ما يمكن تسجيله بهذا الخصوص أن المجتمع نفسه بات يشكل حاجزا أمام
الاتجاهات الجذرية، وتمت المحافظة على التوازنات بفضل تكيف الإسلام الشعبي
مع تعديلات مرنة لأنماط التفكير.
يفسر غيرتز الرؤية الروحية في المجتمع المغربي بكونها تتصف بنوع من
الوحدة، فيما السؤال المركزي يدور حول طرق وسبل تنزيل تلك الرؤية على
الواقع المعيش واليومي وتكييف ومطابقة متغيرات السلوك الناتجة عن
التغييرات التي شهدها المغرب، أي تلك التغــــيرات ذات الطابع العملي أكثر
منها الإيديولوجي.
لكن يجب مع ذلك الانتـــباه إلى كــــون هذا النوع من الخـــلاصات
التي توصل إليها كليـــفورد غـــيرتز بحاجة اليــوم إلى تحيين وافتحاص حيث
التســــاؤل يبــــقى مشروعا حول حقيقة الوحدة الروحية والاختيارات
الدينية على المســـتوى الفردي كما الجمـــاعي في بــــعديه
الإيديولــــوجي والتــطبيقي.
على جميع مستويات المجتمع بقي السؤال المهم بالنسبة لغيرتز هو: أهمية
استناد العلاقة بين الأفراد على المبادئ العلمانية لدى البعض (الثروات،
التربية، الكفاءة السياسية، العلاقات العائلية)، ولدى البعض الآخر العلاقة
القائمة على أسس دينية (متعلمون، قضاة، زعماء كاريزميون، قياديو الزوايا،
موثقون وعدليون...). إذ إن تشكل وانهيار نظام التحالفات يجري ببرود
وبراغماتية، لا شيء مهم يحدث داخل المجتمع باستقلال عن ضغوط الإيمان
الديني، لكن هذا يعني أن لا شيء مهم يحدث باستقلال عن العلماء، والشرفاء،
والأولياء، الذين لا دور لهم سوى الحفاظ على تلك الضغوط. يستمر ذلك، في
الدولة والجماعة معا، لأن هناك مؤمنين يشاركون في دعم تلك الاستمرارية
بقوة.
المتدينون يلعبون دورا أساسيا... غير أن هذا الدور يبدو اليوم أقل
تأكيدا.. غير مضمون بالقوة نفسها. دور الولي الصالح أصبح تقليديا، وأقل
وضوحا. السلطة بدأت تأخذ أشكالا علمانية باعتبار ذلك مدخلا للعالم
المعاصر، فيما أصبح القطاع الديني والمؤمنون ينظرون إلى ذلك بتردد وتوجس،
لعل سؤالا كبيرا يؤرقهم: كيف يتموقعون داخل (وفي) علاقة مع تلك السلطة.
الملكية والدين
الملك يمارس نوعا من الغموض في استثمار الدين، يحرص على بذل الجهد
لربط ممثلي الإسلام الشعبي بشخصه وبعرشه، وفي هذا نوع من الاستمرارية في
الحياة الدينية المغربية، كما أنه نوع من التقويم الذي تتعرض له تلك
الحياة على مستوى الممارسة.
هناك بهذا المعنى تعديل لروابط الشخصيات السياسية والدينية، وبناء
عليه يجب النظر إلى مثل ذلك التعديل كنوع من التمديد لنمط قائم من الوجود
الروحي في نسيج وشروط حياة جماعية في تحول دائم.
تراكم التغييرات التدريجية والمستمرة تنتهي بعد طول مدة إلى تغيير كل
شيء. إذا لم يكن المجتمع المغربي قد تعرض لقطيعة عنيفة، فإن ذلك لا يعني
أن مثل هذه القطيعة مستحيلة ولكنها تطور لن يؤدي، بأي حال من الأحوال، إلى
تحول عميق. وفي جميع الأحوال، سواء تعلق الأمر بتغيير مرحلي أو بإعادة
توليد، أو هما معا، فإن الماضي يبقى مقدمة للحاضر.
برأي عبد الله حمودي، فإن غيرتز يقوم بمقارنة بين خصائص الولاية
(الصلاح والصلحاء) بالمغرب وبين خصائصها في إندونيسيا، ليكشف هنا أن الولي
كرمز ومصدر للبركة، وكذلك أهمية ودور البركة في تنظيم حياة الأشخاص، في
السياسة والمعاملات في التقاليد المغربية. أما الولي في إندونيسيا فهو رمز
للانسلاخ التام عن الدنيا والذوبان في تراتبيات الكون والسلام الروحاني
المتطابق مع إسلاميات القيم والنظام الاجتماعي.
* باحث في السوسيولوجيا
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
المجتمـع والإســلام فـي المـغـرب
المقارنة على مستوى الخصائص التي اتبعها كليفورد غيرتز تساعد على التعمق
في فهم المجتمعات، وهي أفضل من التعميمات التي يعتقد عبد الله حمودي أنها
لا تفيد شيئا بحكم سطحيتها. لعل من مميزات البحث الذي أنجزه غيرتز عدم
اندراجه في منهج لتزكية نظرية عامة، غير أنه يدفع إلى المزيد من الجهد
لتعميق وتوسيع المسح الميداني لتطوير النظريات نفسها بدلا من اقتناص
الأمثلة والانتقائية التي تخدم تكرار نظرية ما والدفاع عنها فقط كما يقول
حمودي، الشيء الذي يكبل المجهود النظري ويسجنه في حلقات مفرغة. فتقصي
الخصوصيات مرتبط بـ: «الوصف الكثيف»، حيث يحاول الباحث رصد معطيات المحيط
الاجتماعي والثقافي مع تقصي الجزئيات والرجوع إلى الأماكن والمواقف،
والمناقشات والمؤسسات، والمؤسسات والأشخاص باستمرار وتكرار قد يساعدان على
الشعور بأهمية جزئيات لا تظهر من خلال المسح السطحي والعابر، ولا تظهر
أيضا من خلال المسح المبرمج. الأنتربولوجي مدعو إلى الاتجاه نحو الملموس،
والخاص، والجزئي. أو كما يصرح بذلك غيرتز نفسه: Nous sommes les
miniaturistes des sciences sociales. بما بفيد الاعتناء بالتفاصيل.
تطمح أنتربولوجيا غيرتز من خلال المستويات الأكثر جزئية اكتشاف ما
ينفلت في مستوى أعم، العثور على حقائق عامة بالمرور عبر الحالات الأكثر
جزئية. هذا ما قام به غيرتز لفحص التطور الديني في المغرب وماليزيا.
الشيء الوحيد الذي يجمع بين المغرب وإندونيسيا هو التشابه الديني،
لكنه يمثل أيضا من الناحية الثقافية، الاختلاف. فالمجتمعان ينتميان بطرق
مختلفة إلى حضارة واحدة، بدرجات مختلفة، وبنتائج جد متباينة.
ينطوي الكتاب الذي نعتمده على معطيات صادمة وعنيفة، إنه يكشف وجه
مجتمعنا لدى الآخرين، كيف نحن وكيف نصبح مادة بحثية؟ كيف يتناول الباحثون
حياتنا الدينية والثقافية والتاريخية والسياسية والاجتماعية؟ وكيف تعتمل
مجموع تلك العوامل في سيرورة مجتمعنا وأنماط تشكلنا.
الدين أكثر المظاهر الاجتماعية انفلاتا من الرصد والقياس.
لا تكمن الصعوبة فقط في اكتشاف سبل تغير أشكال التجربة الدينية، إن
كانت فعلا تتغير، بل إننا لا نعرف تحديدا، ما طبيعة الأشياء التي يليق بنا
ملاحظتها للتمكن من تحليل ذلك التغير.
إن الأبحاث الدينية المقارنة عانت باستمرار من صعوبة خاصة: الكامنة
في طبيعة موضوعها المستعصي والمنفلت. ليست المعضلة في تعريف الدين، فهناك
تخمة وفائض في التعريفات. حتى إن عددها يمثل واحدا من أعراض محنتنا. إن
الأمر بوضوح يتعلق باكتشاف أي نمط للاعتقادات والممارسات يدعم أي نوع من
الإيمان، وفي أية شروط يتم كل ذلك.
مشكلتنا التي تتعقد يوما بعد يوم ليست هي تعريف الدين، ولكن العثور عليه.
يبدو ذلك مستغربا. يتساءل غيرتز حول حقيقة تلك المعطيات المبثوثة في
بعض الكتابات الإثنوغرافية على مدى قرن من الزمن المتعلقة بالأساطير
الطوطمية، والمعتقدات السحرية، والممارسات الطقوسية حول المس والأشباح
والأرواح والجن وما شابه ذلك. كما يتساءل حول مصداقية بعض الأبحاث
التاريخية حول تطور القانون العبري، والفلسفة الكونفوشوسية والثيولوجيا
المسيحية (اللاهوت المسيحي). تمتد تساؤلات غيرتز لتشمل الدراسات
السوسيولوجية حول المؤسسات من قبيل أشكال الجماعات والطوائف وأنماط التدين
في الهند أو الجماعات والفرق الدينية في الإسلام، وعبادة الإمبراطور في
اليابان أو التضحية بالقطيع في إفريقيا. جميع هذه المعطيات لا أهمية لها
من دون أن يكون الهدف من دراسة الدين، أو بالأحرى يجب أن يكون، ليس فقط
وصف الأفكار، والأفعال والمؤسسات، ولكن الوقوف على كيفية دعم تلك
الممارسات والأفكار أو عدم دعمها، ومن ثم -أو بالأحرى- تجميدها للإيمان
الديني. بمعنى التعلق المتحصل من منظور عبر زمني للواقع (منظور يتجاوز
الزمان لتكوين مفهوم عن الواقع).
إن لم نكن نرى في ذلك ما هو عجائبي أو عقائدي، فمعنى ذلك أن علينا أن
نميز بين موقف ديني أمام التجربة، وبين أنماط الأجهزة الاجتماعية التي
تدعم عادة، في الزمن والمكان، ذلك الموقف الديني. انطلاقا من هذا التمييز
يمكن للدراسة المقارنة للأديان أن تتحول من مجرد لاقطة للأشياء الغرائبية
لتصبح نوعا من العلم. وتكف بالتالي عن أن تكون مجرد تخصص يرصد ويصنف، أو
يقوم اعتباطا بتعميم معطيات على أساس أن لها علاقة بالدين، هذا الاحتياط
سيمكن الدراسة المقارنة من أن تصبح تخصصا يسائل بدقة تلك المعطيات: متى
وكيف لتلك المواقف علاقة فعلية بالدين؟ لا يمكن أن نتوقع تقدما في تحليل
التحول الديني/التطور الديني -أي كل ما يستدعي تعديل مولدات الإيمان- قبل
الحسم بوضوح في تلك المولدات لدى كل حالة على حدة، وكيف، والحالة هذه،
تشجع تلك المولدات على الإيمان.
كيفما كان بمقدور، أو عدم قدرة، مصادر الإيمان لدى الإنسان أو جماعة
من الناس، فمن دون جدال أنها مدعومة، في هذا العالم، بأنماط رمزية
وترتيبات اجتماعية. إن ما يمثل دينا معينا -مضمونه الخاص- يتم التعبير عنه
في الصور والمجازات والاستعارات والإحالات التي يستعملها معتنقوه للتعبير
عن الواقع وتمثله. إن مسار الدين -ومصيره التاريخي- يستند بدوره على
المؤسسات التي تضع تلك الصور والمجازات رهن إشارة أولئك الذين يسعون
إليها.
أخذا بهذا المنهج، تكفي نظرة بسيطة إلى الوضعية الدينية لملاحظة
الاتجاه الرئيسي للتطور/التغير: بالنسبة إلى البعض وفي ظروف محددة،
العلاقة بين التنويعات الخاصة بالإيمان، وبين الصور والمؤسسات التي تغذيها
في طور التفكك. في كل الحالات، فإن السؤال الذي يشغل الأنتربولوجي هو: ما
هو رد فعل الأفراد الذين لهم حساسية دينية عندما تتآكل آلية الإيمان؟ ما
الذي يفعلونه عندما ينهار التقليد؟
في هذه الحالة يمكن للأفراد أن يلجؤوا إلى شتى أنواع المواقف، منها
فقدان تلك الحساسية، تحويلها إلى إيديولوجيا، تبني معتقدات مستوردة،
الانطواء على الذات، التشبث بقوة بالتقاليد المنهارة، محاولة إعادة بناء
تلك التقاليد عبر أشكال أكثر فعالية، الانشطار إلى قسمين: العيش
(الانتماء) روحيا في الماضي وجسديا في الحاضر، ومنهم من يجهد نفسه للتعبير
عن تقواه من خلال أنشطة دنيوية، منهم أيضا من لا يعتقد أن عالمه يتحول،
ومنهم من يعتقد أنه (أي ذلك العالم) انهار كليا.
لفهم تلك التحولات، فإن بعض الأجوبة العامة لا تضيء لنا الطريق، ليس
فقط بسبب عموميتها ولكن أيضا وخصوصا لأنها تجعلنا نمر مر الكرام ودون
انتباه لما يهمنا وما علينا معرفته: عبر أية مسالك، وأية سيرورات اجتماعية
وثقافية، تتشكل تلك الحركة/الدينامية باتجاه الشكوكية، والحماسة السياسية،
التحول، التجديد، الذاتية، الدنيوية، الإصلاح؟ وما هي الأشكال الجديدة
التي تحضن مختلف تحولات تلك الحساسية؟
يفسر غيرتز مسالك الحياة الدينية في المجتمع المغربي بكونها جملة
عوامل من المضاعفات، فالإيمان الديني برغم وحدة مصدره غير أنه يمثل قوة
تميز اجتماعي وخصوصية متفردة، بالقدر نفسه الذي يمثل فيه قوة شمولية، وإن
اكتساب هذا الدين أو ذلك كونية ما رهين بمدى قدرته على استقبال أوسع قدر
ممكن من التصورات الفردية للوجود ومن خلال القدرة على دعم وتأكيد كل من
تلك التصورات. عندما يتحقق ذلك بنجاح، سيكون بمقدور تلك التصورات الفردية
أن تتضافر وتغتني من بغضها البعض، لكن وفي كل الأحوال، سواء تعلق الأمر
بانحراف أو استقامة الإيمان الشخصي، فإن تقليدا من هذا القبيل لا يمكن
إعاقة ازدهاره. وعلى العكس من ذلك، وفي حال فشل الإيمان الديني في السيطرة
على الفرد، يتحول الإيمان إلى جمودية غارقة في المثل، أو بالأحرى تفقد
وجودها الفعلي، نسخة مشوهة، وفارغة. المفارقة الجوهرية للتطور الديني هي
كونه بقدر ما يمثل تجربة روحية أكثر اتساعا، وبقدر ما يتقدم ويزدهر بقدر
ما يضعف، بل حتى نجاحاته تنتج مراراته. تلك هي محصلة «الإسلام» في المغرب
من وجهة نظر غيرتز.
لقد كانت الأسلمة بمثابة سيرورة مزدوجة. فقد بذل جهد معتبر لتكييف
المعطيات المحلية الأخلاقية والميتافيزيقية والفردية مع نظام كوني منسجم
قوامه طقوس ومعتقدات. كما تبدو تلك الأسلمة كما لو أنها معركة لدعم الهوية
الإسلامية ليس فقط كدين بالمعنى العام، ولكن باعتبارها أوامر إلهية
للإنسانية تم تنزلها من خلال النبوة. بفضل هذا التوتر الذي تزايد بشكل
متصاعد عبر الزمان، الذي رافقه تعقيد اجتماعي، تمت إعادة النظر في الذات
الاجتماعية، وبفعل هذه الدينامية المفارقة انتشر الإسلام في المغرب وتوسع
وجوده، لكن ازدادت أيضا حدة أزمة الشرعية فيه. ولذلك يعتقد غيرتز أن إدراك
الإيمان الديني وتحصيله ثم المحافظة عليه باتت من الأمور الأكثر صعوبة.
تستدعي ملاحظة غيرتز طرح سؤال جوهري:
من يحدد للمغاربة دينهم؟
كيف يكون المغاربة أتباع نمط موحد من التدين فيما أغلبهم يستقي معرفته وعقائده وفتاواه الدينية من مصادر ومرجعيات متناقضة؟
هل المغاربة متدينون بالطريقة نفسها؟
هل هناك تطابق بين الدين والتدين؟
هل المغاربة يعتنقون دينا واحدا؟
وهل يصدقون أنهم فعلا ينتمون إلى نمط ديني واحد يسمى اعتباطا «الإسلام المغربي»؟
أعتقد أن أهمية وقيمة أنتربولوجيا كليفورد غيرتز تكمن في كونها تفيدنا
وتساعدنا اليوم على إعادة النظر في علاقة الدين بالمجتمع، كما تساعدنا على
تفسير تلك الظواهر الاجتماعية والدينية التي نتعاطى معها في الغالب بطريقة
ساذجة.
د. محمد الغيلاني *
* باحث في السوسيولوجيا
المساء
26/9/2008
في فهم المجتمعات، وهي أفضل من التعميمات التي يعتقد عبد الله حمودي أنها
لا تفيد شيئا بحكم سطحيتها. لعل من مميزات البحث الذي أنجزه غيرتز عدم
اندراجه في منهج لتزكية نظرية عامة، غير أنه يدفع إلى المزيد من الجهد
لتعميق وتوسيع المسح الميداني لتطوير النظريات نفسها بدلا من اقتناص
الأمثلة والانتقائية التي تخدم تكرار نظرية ما والدفاع عنها فقط كما يقول
حمودي، الشيء الذي يكبل المجهود النظري ويسجنه في حلقات مفرغة. فتقصي
الخصوصيات مرتبط بـ: «الوصف الكثيف»، حيث يحاول الباحث رصد معطيات المحيط
الاجتماعي والثقافي مع تقصي الجزئيات والرجوع إلى الأماكن والمواقف،
والمناقشات والمؤسسات، والمؤسسات والأشخاص باستمرار وتكرار قد يساعدان على
الشعور بأهمية جزئيات لا تظهر من خلال المسح السطحي والعابر، ولا تظهر
أيضا من خلال المسح المبرمج. الأنتربولوجي مدعو إلى الاتجاه نحو الملموس،
والخاص، والجزئي. أو كما يصرح بذلك غيرتز نفسه: Nous sommes les
miniaturistes des sciences sociales. بما بفيد الاعتناء بالتفاصيل.
تطمح أنتربولوجيا غيرتز من خلال المستويات الأكثر جزئية اكتشاف ما
ينفلت في مستوى أعم، العثور على حقائق عامة بالمرور عبر الحالات الأكثر
جزئية. هذا ما قام به غيرتز لفحص التطور الديني في المغرب وماليزيا.
الشيء الوحيد الذي يجمع بين المغرب وإندونيسيا هو التشابه الديني،
لكنه يمثل أيضا من الناحية الثقافية، الاختلاف. فالمجتمعان ينتميان بطرق
مختلفة إلى حضارة واحدة، بدرجات مختلفة، وبنتائج جد متباينة.
ينطوي الكتاب الذي نعتمده على معطيات صادمة وعنيفة، إنه يكشف وجه
مجتمعنا لدى الآخرين، كيف نحن وكيف نصبح مادة بحثية؟ كيف يتناول الباحثون
حياتنا الدينية والثقافية والتاريخية والسياسية والاجتماعية؟ وكيف تعتمل
مجموع تلك العوامل في سيرورة مجتمعنا وأنماط تشكلنا.
الدين أكثر المظاهر الاجتماعية انفلاتا من الرصد والقياس.
لا تكمن الصعوبة فقط في اكتشاف سبل تغير أشكال التجربة الدينية، إن
كانت فعلا تتغير، بل إننا لا نعرف تحديدا، ما طبيعة الأشياء التي يليق بنا
ملاحظتها للتمكن من تحليل ذلك التغير.
إن الأبحاث الدينية المقارنة عانت باستمرار من صعوبة خاصة: الكامنة
في طبيعة موضوعها المستعصي والمنفلت. ليست المعضلة في تعريف الدين، فهناك
تخمة وفائض في التعريفات. حتى إن عددها يمثل واحدا من أعراض محنتنا. إن
الأمر بوضوح يتعلق باكتشاف أي نمط للاعتقادات والممارسات يدعم أي نوع من
الإيمان، وفي أية شروط يتم كل ذلك.
مشكلتنا التي تتعقد يوما بعد يوم ليست هي تعريف الدين، ولكن العثور عليه.
يبدو ذلك مستغربا. يتساءل غيرتز حول حقيقة تلك المعطيات المبثوثة في
بعض الكتابات الإثنوغرافية على مدى قرن من الزمن المتعلقة بالأساطير
الطوطمية، والمعتقدات السحرية، والممارسات الطقوسية حول المس والأشباح
والأرواح والجن وما شابه ذلك. كما يتساءل حول مصداقية بعض الأبحاث
التاريخية حول تطور القانون العبري، والفلسفة الكونفوشوسية والثيولوجيا
المسيحية (اللاهوت المسيحي). تمتد تساؤلات غيرتز لتشمل الدراسات
السوسيولوجية حول المؤسسات من قبيل أشكال الجماعات والطوائف وأنماط التدين
في الهند أو الجماعات والفرق الدينية في الإسلام، وعبادة الإمبراطور في
اليابان أو التضحية بالقطيع في إفريقيا. جميع هذه المعطيات لا أهمية لها
من دون أن يكون الهدف من دراسة الدين، أو بالأحرى يجب أن يكون، ليس فقط
وصف الأفكار، والأفعال والمؤسسات، ولكن الوقوف على كيفية دعم تلك
الممارسات والأفكار أو عدم دعمها، ومن ثم -أو بالأحرى- تجميدها للإيمان
الديني. بمعنى التعلق المتحصل من منظور عبر زمني للواقع (منظور يتجاوز
الزمان لتكوين مفهوم عن الواقع).
إن لم نكن نرى في ذلك ما هو عجائبي أو عقائدي، فمعنى ذلك أن علينا أن
نميز بين موقف ديني أمام التجربة، وبين أنماط الأجهزة الاجتماعية التي
تدعم عادة، في الزمن والمكان، ذلك الموقف الديني. انطلاقا من هذا التمييز
يمكن للدراسة المقارنة للأديان أن تتحول من مجرد لاقطة للأشياء الغرائبية
لتصبح نوعا من العلم. وتكف بالتالي عن أن تكون مجرد تخصص يرصد ويصنف، أو
يقوم اعتباطا بتعميم معطيات على أساس أن لها علاقة بالدين، هذا الاحتياط
سيمكن الدراسة المقارنة من أن تصبح تخصصا يسائل بدقة تلك المعطيات: متى
وكيف لتلك المواقف علاقة فعلية بالدين؟ لا يمكن أن نتوقع تقدما في تحليل
التحول الديني/التطور الديني -أي كل ما يستدعي تعديل مولدات الإيمان- قبل
الحسم بوضوح في تلك المولدات لدى كل حالة على حدة، وكيف، والحالة هذه،
تشجع تلك المولدات على الإيمان.
كيفما كان بمقدور، أو عدم قدرة، مصادر الإيمان لدى الإنسان أو جماعة
من الناس، فمن دون جدال أنها مدعومة، في هذا العالم، بأنماط رمزية
وترتيبات اجتماعية. إن ما يمثل دينا معينا -مضمونه الخاص- يتم التعبير عنه
في الصور والمجازات والاستعارات والإحالات التي يستعملها معتنقوه للتعبير
عن الواقع وتمثله. إن مسار الدين -ومصيره التاريخي- يستند بدوره على
المؤسسات التي تضع تلك الصور والمجازات رهن إشارة أولئك الذين يسعون
إليها.
أخذا بهذا المنهج، تكفي نظرة بسيطة إلى الوضعية الدينية لملاحظة
الاتجاه الرئيسي للتطور/التغير: بالنسبة إلى البعض وفي ظروف محددة،
العلاقة بين التنويعات الخاصة بالإيمان، وبين الصور والمؤسسات التي تغذيها
في طور التفكك. في كل الحالات، فإن السؤال الذي يشغل الأنتربولوجي هو: ما
هو رد فعل الأفراد الذين لهم حساسية دينية عندما تتآكل آلية الإيمان؟ ما
الذي يفعلونه عندما ينهار التقليد؟
في هذه الحالة يمكن للأفراد أن يلجؤوا إلى شتى أنواع المواقف، منها
فقدان تلك الحساسية، تحويلها إلى إيديولوجيا، تبني معتقدات مستوردة،
الانطواء على الذات، التشبث بقوة بالتقاليد المنهارة، محاولة إعادة بناء
تلك التقاليد عبر أشكال أكثر فعالية، الانشطار إلى قسمين: العيش
(الانتماء) روحيا في الماضي وجسديا في الحاضر، ومنهم من يجهد نفسه للتعبير
عن تقواه من خلال أنشطة دنيوية، منهم أيضا من لا يعتقد أن عالمه يتحول،
ومنهم من يعتقد أنه (أي ذلك العالم) انهار كليا.
لفهم تلك التحولات، فإن بعض الأجوبة العامة لا تضيء لنا الطريق، ليس
فقط بسبب عموميتها ولكن أيضا وخصوصا لأنها تجعلنا نمر مر الكرام ودون
انتباه لما يهمنا وما علينا معرفته: عبر أية مسالك، وأية سيرورات اجتماعية
وثقافية، تتشكل تلك الحركة/الدينامية باتجاه الشكوكية، والحماسة السياسية،
التحول، التجديد، الذاتية، الدنيوية، الإصلاح؟ وما هي الأشكال الجديدة
التي تحضن مختلف تحولات تلك الحساسية؟
يفسر غيرتز مسالك الحياة الدينية في المجتمع المغربي بكونها جملة
عوامل من المضاعفات، فالإيمان الديني برغم وحدة مصدره غير أنه يمثل قوة
تميز اجتماعي وخصوصية متفردة، بالقدر نفسه الذي يمثل فيه قوة شمولية، وإن
اكتساب هذا الدين أو ذلك كونية ما رهين بمدى قدرته على استقبال أوسع قدر
ممكن من التصورات الفردية للوجود ومن خلال القدرة على دعم وتأكيد كل من
تلك التصورات. عندما يتحقق ذلك بنجاح، سيكون بمقدور تلك التصورات الفردية
أن تتضافر وتغتني من بغضها البعض، لكن وفي كل الأحوال، سواء تعلق الأمر
بانحراف أو استقامة الإيمان الشخصي، فإن تقليدا من هذا القبيل لا يمكن
إعاقة ازدهاره. وعلى العكس من ذلك، وفي حال فشل الإيمان الديني في السيطرة
على الفرد، يتحول الإيمان إلى جمودية غارقة في المثل، أو بالأحرى تفقد
وجودها الفعلي، نسخة مشوهة، وفارغة. المفارقة الجوهرية للتطور الديني هي
كونه بقدر ما يمثل تجربة روحية أكثر اتساعا، وبقدر ما يتقدم ويزدهر بقدر
ما يضعف، بل حتى نجاحاته تنتج مراراته. تلك هي محصلة «الإسلام» في المغرب
من وجهة نظر غيرتز.
لقد كانت الأسلمة بمثابة سيرورة مزدوجة. فقد بذل جهد معتبر لتكييف
المعطيات المحلية الأخلاقية والميتافيزيقية والفردية مع نظام كوني منسجم
قوامه طقوس ومعتقدات. كما تبدو تلك الأسلمة كما لو أنها معركة لدعم الهوية
الإسلامية ليس فقط كدين بالمعنى العام، ولكن باعتبارها أوامر إلهية
للإنسانية تم تنزلها من خلال النبوة. بفضل هذا التوتر الذي تزايد بشكل
متصاعد عبر الزمان، الذي رافقه تعقيد اجتماعي، تمت إعادة النظر في الذات
الاجتماعية، وبفعل هذه الدينامية المفارقة انتشر الإسلام في المغرب وتوسع
وجوده، لكن ازدادت أيضا حدة أزمة الشرعية فيه. ولذلك يعتقد غيرتز أن إدراك
الإيمان الديني وتحصيله ثم المحافظة عليه باتت من الأمور الأكثر صعوبة.
تستدعي ملاحظة غيرتز طرح سؤال جوهري:
من يحدد للمغاربة دينهم؟
كيف يكون المغاربة أتباع نمط موحد من التدين فيما أغلبهم يستقي معرفته وعقائده وفتاواه الدينية من مصادر ومرجعيات متناقضة؟
هل المغاربة متدينون بالطريقة نفسها؟
هل هناك تطابق بين الدين والتدين؟
هل المغاربة يعتنقون دينا واحدا؟
وهل يصدقون أنهم فعلا ينتمون إلى نمط ديني واحد يسمى اعتباطا «الإسلام المغربي»؟
أعتقد أن أهمية وقيمة أنتربولوجيا كليفورد غيرتز تكمن في كونها تفيدنا
وتساعدنا اليوم على إعادة النظر في علاقة الدين بالمجتمع، كما تساعدنا على
تفسير تلك الظواهر الاجتماعية والدينية التي نتعاطى معها في الغالب بطريقة
ساذجة.
د. محمد الغيلاني *
* باحث في السوسيولوجيا
المساء
26/9/2008
ربيع- عدد الرسائل : 1432
العمر : 48
تاريخ التسجيل : 04/07/2008
موقع السوسيولوجيا في المجتمع ما زال موضع جدل
تطمح هذه الملاحظات إلى تثمين المعطيات السوسيولوجية بهدف إصلاح المشروع العلمي للسوسيولوجيا، وتترتب عن ذلك جملة من الأسئلة المهمة:
ما هي المقاربات النظرية والمنهجية والإبستيمية الأكثر تخصيبا للمعرفة السوسيولوجية؟
ما هي طبيعة التوجه الذي ينبغي للسوسيولوجيا أن تأخذه إزاء الرهانات الاجتماعية التي تواجه المجتمع؟
كما هو شأن السوسيولوجيا على المستوى العالمي، محكوم على السوسيولوجيا
في المغرب بالانفتاح على/وفتح مجالات اجتماعية تبدو راهنية وملحة، من قبيل
الظواهر المرتبطة بدراسة وتحليل أنماط العلاقات والروابط في المجتمع في
ضوء التحولات الجديدة، بما في ذلك علاقة المجتمع بالدين، الدولة والمجتمع،
العلاقة بين التدين والسياسة، إنتاج النخب، تحولات منظومة القيم، روابط
الأجيال، الجريمة والمدينة، القيم المدنية، الجماعات والحركات الاجتماعية
الجديدة، الهوية والإثنيات... إلخ.
تنضاف إلى كل ذلك التحديات الداخلية للسوسيولوجيا والمرتبطة تحديدا
بتطور المدارس الفكرية العالمية وتأثيراتها على المشروع النظري والفكري
لسوسيولوجيا منشغلة بالمجتمع وتحولاته. ومن تلك التحديات كيفية استعمال
التعدد النظري والتقاط المقاربات الأجود مردودية من الناحية المعرفية. ليس
عيبا أن نتعاطى مع رواد الفكر السوسيولوجي ونستفيد منهم ولا يمكن تجاهل
مساهمات السوسيولوجيين الكلاسيكيين من قبيل: ماركس ودركايم وويبد وبارسون
أو غيرهم من المفكرين الذين تم اكتشافهم أو إعادة اكتشافهم كما هو حال كل
من: موس وديواي وزراندت وشولتز.
لكن لابد أيضا من مواكبة تلك الأطروحات التي تأسست على أنقاض تاريخ
الجدل السوسيولوجي بين الوظيفية والماركسية والبنيوية الوظيفية والاستفادة
من أزمة الماركسية، حيث برز الآن توجه نحو التداخل النظري أو التعدد
النظري. كما يجب الاعتناء بتطوير التفكير السوسيولوجي خارج الثنائيات:
فرد-مجتمع، ذاتية-موضوعية، الماكرو-الميكرو، الفعل-البنية،
العقلانية-اللاعقلانية... إلخ.
تجاوز الثنائيات لا يمكنه أن يتم إلا عبر تبني مقاربات متعددة
الأبعاد، حيث يقتضي ذلك التعدد النظري الذي يفيد في إنتاج سوسيولوجيا مرنة
قابلة للتكيف وقادرة على المواكبة ومؤهلة لتحليل وتفسير تبدلات المجتمع.
فمن دون تلك الكفاءة والفعالية لن يكون للمجتمع حاجة للسوسيولوجيا.
مازال موقع السوسيولوجيا في المجتمع مثار جدل، وسيبقى كذلك طالما
بقيت الظواهر الاجتماعية الجديدة خارج مجالات اهتمامها، بل إن قيمة ذلك
الاهتمام تتجاوز مجرد الرصد والتوصيف لتشمل مقتضيات أخرى، منها القيام
بتأمل نظري وإبستيمي يمكن استثمار نتائجه من خلال مستويين:
أولا، عقد المقارنات بين مختلف رواد التفكير السوسيولوجي (المعاصرين
على الخصوص)، ونحن هنا لا غنى لنا عن بورديو وبودون وتورين ولوهمان
وهابرماس وجيرتز وجيرنس وفريتانج وكولمان وتايلور.
ثانيا، لإغناء التأمل النظري المرتبط بالفكر السوسيولوجي المغربي
لابد من تفادي الاختزال والتعميم، والاستفادة من الهيرمنوطيقا وكذا تفعيل
مقاربات تواصلية وتكثيف الدراسات الثقافية (سوسيولوجيا الثقافة)
والاستفادة من نقد نظرية الحداثة ودراسات الخطاب وتحليله. من دون إغفال
دور التكنولوجيا في المجتمع، ومن خلال استخدام مفهوم «مجتمع المعرفة»،
والتركيز على تحليل السيرورات الإبستمولوجية، وما إن كانت البنيات
الاجتماعية هي التي تحسم في البنيات المعرفية أم العكس.
تواجه السوسيولوجيا في المغرب تحديا آخر، لا يبدو أن تجاوزه سيكون
أمر متاحا من دون مراجعات جذرية. فالسؤال الذي كان يؤرق السوسيولوجيا في
بداياتها كان حول إمكانية تحقيق الموضوعية، أما اليوم فإن السؤال المركزي
يدور حول إمكانية تحقيق الكونية: بمعنى هل من الممكن للسوسيولوجيا تأسيس
خطاب كوني؟ هذا السؤال مهم بالنسبة إلى السوسيولوجيا لكن توظيفاته قد تحمل
مخاطر على المجتمع. إنه سؤال ينطلق من مبدأ معروف هو وحدة المسارات
التاريخية ووحدة مصائر المجتمعات الإنسانية، لكنه لا ينتبه كثيرا إلى
الخصوصيات والجوانب الرمزية والثقافية والعقائدية مثلا، إلا من زاوية
شمولية أو يستعملها لتبرير الحتمية التي تكتنف الخطاب الكوني. ويكفي أن
المجتمع المغربي كان في كثير من المقاربات ضحية هذا النوع من الخطاب الذي
يدعي العلمية.
وعليه، لابد من إيجاد التوازن اللازم بين طموح السوسيولوجيا لإنتاج
خطاب كوني، وبين مقتضيات اكتشاف المجتمع المغربي وفق متطلبات المجتمع
نفسه، وفق تساؤلاته وانشغالاته، ووفق ذاتياته وخصوصياته. يجوز أن
السوسيولوجيا تريد بناء أطرها النظرية بما يضمن بناءها الداخلي وتماسكها
الجوهري، فهي علم قائم على قوانين استخلصها الباحثون من خلال التجربة
البشرية، لكن ذلك لا يمنع أن المجتمع المغربي هو أيضا بحاجة إلى اكتشاف
سبل ومسالك انسجامه الداخلي وتماسكه الاجتماعي، وهو لذلك يتوقع من
السوسيولوجيا أن تكون مرشده ودليله نحو هذا المطلب.
هذه معادلة دقيقة ومعقدة: كيف الاعتناء بالتنظير السوسيولوجي من دون
التفريط في معطيات الواقع الاجتماعي؟ من دون التعسف في استخدام المعطيات؟
لا إمكانية لتحقيق ذلك من دون تمثل التنظير السوسيولوجي والإمساك
بوتائر التحول الاجتماعي بالقدر نفسه من الحرص والعمق. ومعنى ذلك أن حل
تلك المعادلة رهين بتأسيس أفق إبستيمي واضح ودقيق ينسجم مع القوانين
الاجتماعية العامة التي ثبتت صدقيتها. من الواضح أن أهم الأسئلة التي
تواجه السوسيولوجيا في المغرب تقود إلى الإبستيمولوجيا. ذلك أن كل علم،
والسوسيولوجيا بالذات، منفتحة ومفتوحة على المؤثرات المفارقة في بنيتها
الداخلية، لأن حدودها المنهجية غير قارة وفي تبدل مستمر. وعليه فلابد
للسوسيولجيا في المغرب من تجديد ذاتها وموضوعاتها ومناهجها.
مصداق هذه الملاحظات يمكن البرهنة عليه عندما نريد اختبار
السوسيولوجيا في ميادين خاضعة للتبدل باستمرار بوصفها ظواهر هشة كالعائلة
مثلا، أو الأشكال الجديدة للجريمة في المدن المغربية، أو أنماط مأسسة
العمل الجماعي، أو القوى الثقافية الجديدة، أو الهجرة السرية، أو أنماط
التدين وتعبيراته... إلخ.
بالوقوف مثلا على تحولات العائلة المغربية، يمكن الحديث عن بروز
أنماط جديدة من الروابط وأشكال جديدة من التفكك. من ذلك مثلا، تبدل موقع
ومنطق الأبوة رمزيا ونَسَبيا، وبروز مفهوم «الأم العازبة»، والطلاق،
والسلطة الاقتصادية، ولذلك فإن مستقبل الدراسات في هذا الميدان رهين بوضع
تلك التحولات الحادة والعنيفة ضمن سياقها الاجتماعي بالاعتماد على مقاربات
علمية متعددة ومتداخلة التخصصات.
أما بخصوص الأشكال الجديدة للجريمة كمثال ثان، فيستدعي السوسيولوجيا
في المغرب إلى تطوير إطار مفاهيمي متعدد التخصصات وأطر نظرية لفهم هذه
الأشكال الجديدة من الجريمة، لفهم كيفيات انتشارها والمصادر الاجتماعية
الداعمة لها. ويمكن مثلا في هذا السياق استخدام مفهوم «الرأسمال
الاجتماعي» لتحليل هذه الأشكال الجديدة من الجريمة، خصوصا لدى الشباب
الذين يعيشون ظروفا اجتماعية لاإنسانية ولااجتماعية. وهذا المفهوم له
فائدتان، فهو من ناحية يساعد على تطوير وتجديد البحث السوسيولوجي في
المغرب بالقدر نفسه الذي يساعد علم الإجرام من ناحية ثانية. فهذا المفهوم
يقترح الاعتماد على نظرية عدم تكافؤ الفرص عندما يتعلق الأمر بالاستفادة
من الرأسمال الاجتماعي، مع الأخذ بعين الاعتبار دور المؤسسات كالمدرسة أو
الوسط بوصفهما عاملين لتفسير كيفيات تحول الشباب إلى عالم الجريمة.
ونحن نلاحظ ذلك بقوة في المغرب، حيث ارتبطت العوامل المباشرة للجريمة
بالمستوى التعليمي، والإقصاء الاجتماعي، والسكن غير اللائق، وانعدام فرص
العمل. كما أن الحلول التي يتم اللجوء إليها بدعوى محاربة السكن العشوائي،
لم تسهم إلا في مزيد من تغذية عوالم الجريمة، بل ساعدت على أن تأخذ
الجريمة أبعادا جماعية بعد أن كانت فردية. فالسكن الاجتماعي والاقتصادي
خلق مدنا للإجرام.
لذلك، لن يكون ممكنا للسوسيولوجيا في المغرب أن تكسب احترام المجتمع
طالما بقيت بعيدة عن توتراته الحقيقية، عن أسئلته الوجودية. أن تعيد
السوسيولوجيا بناء ذاتها ومشروعها معرفيا معناه أن تحظى بالقدرة على
الاستجابة لأسئلة المجتمع، وأن تحضر بقوة وبذكاء في إبداع الحلول
والمخارج. تحقيق ذلك رهين باكتساب السوسيولوجيا حسا اجتماعيا واستقلالية
معرفية، وبرنامجا علميا ونقديا حتى يكون بمقدورها أن تجيب عن الأسئلة
الداخلية للمجتمع. ذلك هو السبيل الأوحد لكي تحظى السوسيولوجيا بالاحترام
الذي تبحث عنه وينعم المجتمع المغربي بالسوسيولوجيا التي يستحقها.
د. محمد الغيلاني
* باحث في السوسيولوجيا
المساء
30/9/2008
ما هي المقاربات النظرية والمنهجية والإبستيمية الأكثر تخصيبا للمعرفة السوسيولوجية؟
ما هي طبيعة التوجه الذي ينبغي للسوسيولوجيا أن تأخذه إزاء الرهانات الاجتماعية التي تواجه المجتمع؟
كما هو شأن السوسيولوجيا على المستوى العالمي، محكوم على السوسيولوجيا
في المغرب بالانفتاح على/وفتح مجالات اجتماعية تبدو راهنية وملحة، من قبيل
الظواهر المرتبطة بدراسة وتحليل أنماط العلاقات والروابط في المجتمع في
ضوء التحولات الجديدة، بما في ذلك علاقة المجتمع بالدين، الدولة والمجتمع،
العلاقة بين التدين والسياسة، إنتاج النخب، تحولات منظومة القيم، روابط
الأجيال، الجريمة والمدينة، القيم المدنية، الجماعات والحركات الاجتماعية
الجديدة، الهوية والإثنيات... إلخ.
تنضاف إلى كل ذلك التحديات الداخلية للسوسيولوجيا والمرتبطة تحديدا
بتطور المدارس الفكرية العالمية وتأثيراتها على المشروع النظري والفكري
لسوسيولوجيا منشغلة بالمجتمع وتحولاته. ومن تلك التحديات كيفية استعمال
التعدد النظري والتقاط المقاربات الأجود مردودية من الناحية المعرفية. ليس
عيبا أن نتعاطى مع رواد الفكر السوسيولوجي ونستفيد منهم ولا يمكن تجاهل
مساهمات السوسيولوجيين الكلاسيكيين من قبيل: ماركس ودركايم وويبد وبارسون
أو غيرهم من المفكرين الذين تم اكتشافهم أو إعادة اكتشافهم كما هو حال كل
من: موس وديواي وزراندت وشولتز.
لكن لابد أيضا من مواكبة تلك الأطروحات التي تأسست على أنقاض تاريخ
الجدل السوسيولوجي بين الوظيفية والماركسية والبنيوية الوظيفية والاستفادة
من أزمة الماركسية، حيث برز الآن توجه نحو التداخل النظري أو التعدد
النظري. كما يجب الاعتناء بتطوير التفكير السوسيولوجي خارج الثنائيات:
فرد-مجتمع، ذاتية-موضوعية، الماكرو-الميكرو، الفعل-البنية،
العقلانية-اللاعقلانية... إلخ.
تجاوز الثنائيات لا يمكنه أن يتم إلا عبر تبني مقاربات متعددة
الأبعاد، حيث يقتضي ذلك التعدد النظري الذي يفيد في إنتاج سوسيولوجيا مرنة
قابلة للتكيف وقادرة على المواكبة ومؤهلة لتحليل وتفسير تبدلات المجتمع.
فمن دون تلك الكفاءة والفعالية لن يكون للمجتمع حاجة للسوسيولوجيا.
مازال موقع السوسيولوجيا في المجتمع مثار جدل، وسيبقى كذلك طالما
بقيت الظواهر الاجتماعية الجديدة خارج مجالات اهتمامها، بل إن قيمة ذلك
الاهتمام تتجاوز مجرد الرصد والتوصيف لتشمل مقتضيات أخرى، منها القيام
بتأمل نظري وإبستيمي يمكن استثمار نتائجه من خلال مستويين:
أولا، عقد المقارنات بين مختلف رواد التفكير السوسيولوجي (المعاصرين
على الخصوص)، ونحن هنا لا غنى لنا عن بورديو وبودون وتورين ولوهمان
وهابرماس وجيرتز وجيرنس وفريتانج وكولمان وتايلور.
ثانيا، لإغناء التأمل النظري المرتبط بالفكر السوسيولوجي المغربي
لابد من تفادي الاختزال والتعميم، والاستفادة من الهيرمنوطيقا وكذا تفعيل
مقاربات تواصلية وتكثيف الدراسات الثقافية (سوسيولوجيا الثقافة)
والاستفادة من نقد نظرية الحداثة ودراسات الخطاب وتحليله. من دون إغفال
دور التكنولوجيا في المجتمع، ومن خلال استخدام مفهوم «مجتمع المعرفة»،
والتركيز على تحليل السيرورات الإبستمولوجية، وما إن كانت البنيات
الاجتماعية هي التي تحسم في البنيات المعرفية أم العكس.
تواجه السوسيولوجيا في المغرب تحديا آخر، لا يبدو أن تجاوزه سيكون
أمر متاحا من دون مراجعات جذرية. فالسؤال الذي كان يؤرق السوسيولوجيا في
بداياتها كان حول إمكانية تحقيق الموضوعية، أما اليوم فإن السؤال المركزي
يدور حول إمكانية تحقيق الكونية: بمعنى هل من الممكن للسوسيولوجيا تأسيس
خطاب كوني؟ هذا السؤال مهم بالنسبة إلى السوسيولوجيا لكن توظيفاته قد تحمل
مخاطر على المجتمع. إنه سؤال ينطلق من مبدأ معروف هو وحدة المسارات
التاريخية ووحدة مصائر المجتمعات الإنسانية، لكنه لا ينتبه كثيرا إلى
الخصوصيات والجوانب الرمزية والثقافية والعقائدية مثلا، إلا من زاوية
شمولية أو يستعملها لتبرير الحتمية التي تكتنف الخطاب الكوني. ويكفي أن
المجتمع المغربي كان في كثير من المقاربات ضحية هذا النوع من الخطاب الذي
يدعي العلمية.
وعليه، لابد من إيجاد التوازن اللازم بين طموح السوسيولوجيا لإنتاج
خطاب كوني، وبين مقتضيات اكتشاف المجتمع المغربي وفق متطلبات المجتمع
نفسه، وفق تساؤلاته وانشغالاته، ووفق ذاتياته وخصوصياته. يجوز أن
السوسيولوجيا تريد بناء أطرها النظرية بما يضمن بناءها الداخلي وتماسكها
الجوهري، فهي علم قائم على قوانين استخلصها الباحثون من خلال التجربة
البشرية، لكن ذلك لا يمنع أن المجتمع المغربي هو أيضا بحاجة إلى اكتشاف
سبل ومسالك انسجامه الداخلي وتماسكه الاجتماعي، وهو لذلك يتوقع من
السوسيولوجيا أن تكون مرشده ودليله نحو هذا المطلب.
هذه معادلة دقيقة ومعقدة: كيف الاعتناء بالتنظير السوسيولوجي من دون
التفريط في معطيات الواقع الاجتماعي؟ من دون التعسف في استخدام المعطيات؟
لا إمكانية لتحقيق ذلك من دون تمثل التنظير السوسيولوجي والإمساك
بوتائر التحول الاجتماعي بالقدر نفسه من الحرص والعمق. ومعنى ذلك أن حل
تلك المعادلة رهين بتأسيس أفق إبستيمي واضح ودقيق ينسجم مع القوانين
الاجتماعية العامة التي ثبتت صدقيتها. من الواضح أن أهم الأسئلة التي
تواجه السوسيولوجيا في المغرب تقود إلى الإبستيمولوجيا. ذلك أن كل علم،
والسوسيولوجيا بالذات، منفتحة ومفتوحة على المؤثرات المفارقة في بنيتها
الداخلية، لأن حدودها المنهجية غير قارة وفي تبدل مستمر. وعليه فلابد
للسوسيولجيا في المغرب من تجديد ذاتها وموضوعاتها ومناهجها.
مصداق هذه الملاحظات يمكن البرهنة عليه عندما نريد اختبار
السوسيولوجيا في ميادين خاضعة للتبدل باستمرار بوصفها ظواهر هشة كالعائلة
مثلا، أو الأشكال الجديدة للجريمة في المدن المغربية، أو أنماط مأسسة
العمل الجماعي، أو القوى الثقافية الجديدة، أو الهجرة السرية، أو أنماط
التدين وتعبيراته... إلخ.
بالوقوف مثلا على تحولات العائلة المغربية، يمكن الحديث عن بروز
أنماط جديدة من الروابط وأشكال جديدة من التفكك. من ذلك مثلا، تبدل موقع
ومنطق الأبوة رمزيا ونَسَبيا، وبروز مفهوم «الأم العازبة»، والطلاق،
والسلطة الاقتصادية، ولذلك فإن مستقبل الدراسات في هذا الميدان رهين بوضع
تلك التحولات الحادة والعنيفة ضمن سياقها الاجتماعي بالاعتماد على مقاربات
علمية متعددة ومتداخلة التخصصات.
أما بخصوص الأشكال الجديدة للجريمة كمثال ثان، فيستدعي السوسيولوجيا
في المغرب إلى تطوير إطار مفاهيمي متعدد التخصصات وأطر نظرية لفهم هذه
الأشكال الجديدة من الجريمة، لفهم كيفيات انتشارها والمصادر الاجتماعية
الداعمة لها. ويمكن مثلا في هذا السياق استخدام مفهوم «الرأسمال
الاجتماعي» لتحليل هذه الأشكال الجديدة من الجريمة، خصوصا لدى الشباب
الذين يعيشون ظروفا اجتماعية لاإنسانية ولااجتماعية. وهذا المفهوم له
فائدتان، فهو من ناحية يساعد على تطوير وتجديد البحث السوسيولوجي في
المغرب بالقدر نفسه الذي يساعد علم الإجرام من ناحية ثانية. فهذا المفهوم
يقترح الاعتماد على نظرية عدم تكافؤ الفرص عندما يتعلق الأمر بالاستفادة
من الرأسمال الاجتماعي، مع الأخذ بعين الاعتبار دور المؤسسات كالمدرسة أو
الوسط بوصفهما عاملين لتفسير كيفيات تحول الشباب إلى عالم الجريمة.
ونحن نلاحظ ذلك بقوة في المغرب، حيث ارتبطت العوامل المباشرة للجريمة
بالمستوى التعليمي، والإقصاء الاجتماعي، والسكن غير اللائق، وانعدام فرص
العمل. كما أن الحلول التي يتم اللجوء إليها بدعوى محاربة السكن العشوائي،
لم تسهم إلا في مزيد من تغذية عوالم الجريمة، بل ساعدت على أن تأخذ
الجريمة أبعادا جماعية بعد أن كانت فردية. فالسكن الاجتماعي والاقتصادي
خلق مدنا للإجرام.
لذلك، لن يكون ممكنا للسوسيولوجيا في المغرب أن تكسب احترام المجتمع
طالما بقيت بعيدة عن توتراته الحقيقية، عن أسئلته الوجودية. أن تعيد
السوسيولوجيا بناء ذاتها ومشروعها معرفيا معناه أن تحظى بالقدرة على
الاستجابة لأسئلة المجتمع، وأن تحضر بقوة وبذكاء في إبداع الحلول
والمخارج. تحقيق ذلك رهين باكتساب السوسيولوجيا حسا اجتماعيا واستقلالية
معرفية، وبرنامجا علميا ونقديا حتى يكون بمقدورها أن تجيب عن الأسئلة
الداخلية للمجتمع. ذلك هو السبيل الأوحد لكي تحظى السوسيولوجيا بالاحترام
الذي تبحث عنه وينعم المجتمع المغربي بالسوسيولوجيا التي يستحقها.
د. محمد الغيلاني
* باحث في السوسيولوجيا
المساء
30/9/2008
ربيع- عدد الرسائل : 1432
العمر : 48
تاريخ التسجيل : 04/07/2008
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى