من طرف said الجمعة 26 سبتمبر 2008 - 0:49
يقول رويشة كلمته عندما يجتاحه حال خاص لا يمكن أن يسكنه إلا في حضرة سياق زماني وجلال مكاني يؤثثه حضور البساطة والعفوية التي تعكسها وجوه الأصدقاء التي تشبه بحيرة أكلمام أزكزا في صفائها وحدائق « جن ألماس » في عذريتها وصمت الجبال في خلقها ، لكي تنطلق وصلات العراك بين الأنامل الرشيقة والأوتار الرنانة حيث سيتحول الجو تدريجيا إلى مايشبه عاصفة حقيقية من الحب الذي يقاوم النوم ويصر على السهر الذي يبعد الشروق خوفا من انبلاج نهار التكرار والفاجعة والكائن الجريح . يعاتب رويشة مدينته في زمن الجمر هذا ، وهي« الخائنة» التي قررت أن تطرد أبناءها من رحمها لتستقبل بالأحضان الغرباء. يستمر رويشة في توجيه هذا اللوم كلما حل الليل وخارت عيون رقيب النهار الذي كان بليدا لأنه يفتقد آليات فهم بلاغة الصور والاستعارات التي تخفي فيها لغة البلد أسرارها الفاتنة . لقد تباهى جيل السبعينات مع هذا الاستنكار الفظيع الذي يدين هذه الأم التي تهجر أبناءها لكي تتوج الغرباء أمراء على عروشها المتهرئة. إنها لحظة خروجنا من مدينتنا ورحيلنا صوب « مدينة ظهر المهراز » بحثا عن العلم والثورة في ساحة جامعية متمردة اتسع مجالها لكل أبناء الفقراء القادمين من الأطلس والصحراء والشرق والريف لكي يحلموا بين جدرانها بثورة ممكنة بعدما يئست القبيلة من غرس شجرتها المباركة على أعلى قمة أطلسية . ندخل الحرم الجامعي ونحن مثخنين بجراح البلد الأصيل ونجوب المدرجات والمسالك و نتأمل الخطابات والتحاليل التي كانت تفنى ليلا في عشق طلابي بين الذكور والإناث من الرفاق الذين يستمرون مثلنا في نسج ليل الحكايات بعيدا عن عيون الرقباء التي تملأ النهار بفضاضة ممجوجة عند شباب السبعينات . لكن أشرطة أغاني رويشة تعاند الرحيل لتحتفظ بمكان لها بين أمتعتنا المتواضعة التي حملناها معنا من أحيائنا الآيلة للسقوط ننام على هديرها ونستفيق على حنين العودة إلى العقبات والوعورة التي تركناها هناك في ذاكرة عشق الليل في زمن الرصاص .لقد وجد رويشة حلفاؤه في مقصف الحي الجامعي ، وعثر جيلنا على فن ثائر قادم من المشرق يغني للكرامة والأرض ويحث الشباب على العمل والاستقامة وفهم أسرار معارك الفجر. هكذا سيدخل مارسيل خليفة والشيخ إمام في سجل جراحنا وسيندغم الأطلس في أرز لبنان ويقع النيل في شراك حب النخيل المغربي ، وتنطلق الزغرودة الحرة من حنجرة أم معتقل أو مختفي من جبال الأطلس الكبير لكي تنفجر شعرا لدرويش وطربا رائعا لفيروز . لقد شبعنا الألم والفرح في ظهر المهراز ونحن الذين كنا نعتقد أننا وحدنا في العذاب . لقد خرجنا من سياق الصمت والحصار ومن بين أنياب التماسيح وقفزنا وراء المتاريس عندما حصلنا على باكلوريا في عز القمع والإقصاء . إننا جيل الإفلاس السياسي وأبناء الأزمات وكائنات خربها التجريب المتتالي للإصلاحات التي تعادي الفقراء وترسم الحلول للأغنياء والأكواخ للتعساء . لقد علمنا الفن في بلدتنا ونحن نرافق سفر الحلم العاطفي مع رويشة كيف نصر على الضحك والغناء وسرقة شهادة جامعية لعلها تدخل قليلا من الدفء على قلوب الآباء الذين تركناهم يتدبرون الورطة الوجودية التي فرضها عليهم حصار سلطة تخاف من البساطة وتخشى التواضع . لكن ما كان يجهله الرفاق القاطنون في قلعة ظهر المهراز هو أننا جئنا من حيث انتهت الثورة لكي نعانق شبابا يحلمون بها في كتب المفكرين ومؤلفات المنظرين من مهدي عامل وحسين مروة وماركس ولينين وروزا الكسنبورغ وبن بركة وكل الأسماء التي احتلت المخيال السياسي لجيلنا . لا يستوي من عاش الحرب مع من سمع عنها أو قرأ المؤلفات التي كتبت حولها. كما لا يستو من خبر المحن مع من اكتشفها في الروايات أو تابع أحداثها على شاشات السينما والمسارح. نلملم أسرارنا ونخفي حزننا ونحرص على أن لانفارق الغناء والسفر إلى خنيفرة لترسيخ الوصال مع صوت رويشة الذي بدأ صداه يغادر المدينة ليحط الرحال على خشبة مسرح محمد الخامس ونحن وقتها بصدد الخروج من ظهر المهراز للانخراط في الحياة المهنية . وتلك قصة أخرى في مسار الحب والسياسة والفن. انتهى 2008/9/25 |
|
| |
|