من طرف said الأحد 19 أكتوبر 2008 - 19:30
الصورة وأصلها المفقود محمد برادة
توظف هالة كوثراني في روايتها الثانية ( «استديو بيروت»، دارالساقي، 2008 ) عنصري السينما والسيناريو في بناء النص ورسم ملامح الشخوص وتعديد الأصوات...وهذه " الاستعارة " من السينما أصبحت لافتة للنظر في الفترة الأخيرة مثلما نطالع في " قصقصْ ورق " لعبير إسبير، و"زهوروسارة وناريمان" لخليل صويلح ، على سبيل المثال لا الحصر . لكن هذا التوظيف يختلف من كاتب لآخر ويضفي على النص أبعادا متباينة... ويتعلق الأمر في " استديو بيروت " بمخرجة أفلام وثائقية عادت إلى بيروت مع زوجها ربيع بعد أن عاشا في كندا هروبا من الحرب وويلاتها ؛ والساردة متحمسة للعودة أكثر من زوجها ، لأنها تبحث عن استقرار يحميها من التوجس ويتيح لها أن تجرب الأمومة وتعيش حياة عادية تمنحها القوة لمواجهة الرعب الدائم من الموت . هذا الانتقال من فضاء "آمـن " إلى آخر ملتـهب يحدث تصدعا بين الزوجين ويفتح باب التساؤلات والهواجس أمام الساردةـ المخرجة السينمائية التي ستجعل من تصوير فيلمها وسيلة أيضا لاستيعاب التحولات التي باتت تعيشها في حياتها الخاصة ومن حولها عبر علائقها بالآخرين. وتكون نقطة الانطلاق في فيلمها الجديد من سيناريو سلمتها إياه ريــما الفتاة المتمردة ، الباحثة عن طريق لمستقبلها. في الأثناء، تكتشف المخرجة أن ريما هي ابنة أخت هيام التي تلتقي بها في صالون الحلاقة حيث تشتغل أولغا الأوكرانية الملمة بأخبار المترددات على الصالون.. عندما توطدت علاقة المخرجة بهيام،وجدتْ أن هذه الأخيرة تعشق السينما وتحفظ أسماء الممثلين والممثلات عربا وأجانب ، وأنها تحلم بالتمثيل في أفلام فليـني! قررتْ المخرجة أن تنجز فيلما عن هيام التي تحتضن قصة حب غريبة مع ابن عمها عماد ، وفي الآن نفسه تستعين بالسيناريو الذي كتبته ريـما. على هذا النحو،يتـمُّ السرد من خلال تقاطـُع عدة أصوات : ــ ما يحكيه سيناريو ريما الذي يشبه البوح ، ــ ما تحكيه المخرجة عن علاقتها بزوجها ، ــ ما تحكيه هيام عاشقة السينما التي أحبتْ عماد طوال 37 سنة وقبلتْ أن تتزوجه وهي في سن 52 ، ــ ما تحكيه أولغا عن حياتها في أوكرانيا والإمارات وزواجها من لبناني التقته هناك ... وشيئا فشيئا يتخذ الحكــيُ شكل سرد مرآتـي فتستضيء قصة كل امرأة بملامح من محكيات الأخريات ؛ ويتضاعف السرد أيضا من خلال الجمع بين مستويـيْن : المستوى الواقعي داخل النص، أي علاقة الساردة بزوجها ربيع ؛ والمستوى الوثائقي التخييلي من خلال إنجاز المخرجة لفيلمها عن هيام... هذا البناء المتشابك ، المتعدد القنوات، ينعكس على خطاب الرواية الذي يتخذ منحـىً مزدوجا :خطاب الساردة وهي تجوس في أنحاء ذاتها ؛ وخطاب أصوات نسائية منقولا من خلال الساردة التي تبحث فيه عن سمات مشتركة مع تجربتها . ٭ البحث عن قوة لمواجهة رعب الموت يمكن القول بأن " استديو بيروت " هي مجمع أصوات ووجوه نسائية بامتياز، سواء من حيث البناء والشخوص أو المحكيات المتقاطعة التي تهتمّ بالحفر في أعماق الذات ورصد المعيش لاستيعاب التغيرات التي تتمّ خلسة أو عَــنـْوة داخل النفوس والأمكنة . ومنذ البدء تضطلع مخرجة الفيلم بتحديد المعضلة التي تعيشها بعد عودتها من مونتريال إلى بيروت ، فنستشعـر الخلفية الموجهة لرؤيتها وتفكيرها والتي ستحاول أن تجد لها التقاء مع ما تعيشه نساء أخريات لهن وضع اعتباريّ مغاير ، إلا أنهن جميعا يعشقن السينما ويتخذن منها عكازا يستندن عليه في رحلة الحياة . وتشـكـّـل بيروت برمزيـّتها وفي وصفها جسدا يحمل ندوب حرب لمْ تلتئمْ بعد، فضاء مشتركا يـُضفي على شخوص الرواية طابع القلق والانتظار والبحث عن مخرج لمواجهة رعب الموت المتربـّص بالجميع . من ثمّ تجد الساردة في فكرة إنجاز فيلم وثائقي عن هيام وقصة حبها الأسطوري ، فرصة لتذويب خوفها من انفصال زوجها عنها لأنه لا يحتمل بيروت التي فقدتْ نسغ الحياة وغدتْ أشبه باستديو لالتقاط الصور وتخزينها : " ربيع مثلي يتعلق بالأمكنة ويحس في بعض شوارع بيروت بأنه يمشي في استديو واسع حيث الحياة دون ألوان، مجرد حياة، حياة بالأبيض والأسود، دون أقواس قـُزح وعلب ألوان تملأ اللوحات البيض في الشوارع . تختفي ألوان الحياة حيث يهدد العنفُ بانفجاره ، ويدبّ الرعب في مدينة تفقد ألوانها " ص.106 والساردة بدورها تحس أنها تغوص في متاهة تـُباعد بينها وبين زوجها وهي التي كانت تأمل أن تسترجع في مدينة الطفولة ما يدفع الخوف وهاجس الموت...ومن خلال تصوير السيناريو الذي كتبته ريما ومثلتـْه هيام من دون أن تقرأه ، تتكشف للساردة عناصر تحيلها على معضلتها. ذلك أن هناك جوانب تجمعها بهيام وريما وأولغا ، بل وبأم ريما التي ماتت في عز شبابها وكانت مغامرة تعشق الحياة. من هنا يكون الشغف بالسينما سمة مشتركة بين شخوص الرواية ، وتغدو الكاميرا وسيلة لالتقاط تفاصيل حياة الناس،وتصبح الصورة مدخلا لفهم ما تعيشه المخرجة في " استديو " بيرؤت التي لم تعد هي بيروت التي عرفتها قبل أن ترحل إلى مونتريال : " الكاميرا،أين الكاميرا؟ أسأل نفسي . وأسأل لنفسي أيضا وأحرص على ألا يسمعني ربيع " ألهذا تركنا كل شيء في كندا وجئنا إلى بيروت ؟ الكاميرا تبحث عن الحقائق الكثيرة ، الحقائق المتشردة في الشوارع والتي تحتاج إلى تركيب. الكاميرا تلتقط الحقائق كلها،الحقائق المتناقضة، المتضاربة، الحقائق الفجة القاسية الجميلة الموجعة كمرايــا مكسورة "ص37. تتخذ الساردة من الكاميرا إذاً ،أداة للنفاذ إلى أعماق هيام التي هي الشخصية الأساس الموازية لشخصية المخرجة، والتي ستلعب دور المرآة الكاشفة بالنسبة إليها . هيام التي تسكن بعلبك وتزور صالون الحلاقة في بيروت مرة كل شهر، تتكئ على السينما للاستمرار في الحياة والحفاظ على قصة حبها لابن عمها الذي تزوجته بعد سبع وثلاثين سنة من الانتظار . إنها أشبه بمراهقة من القرن التاسع عشر، تعيش قصة حب رومانسية وتتحدى بيئتها لتتزوج من عماد الذي تزوج أكثر من مرة قبلها وخاض مغامرات نسائية وبذر أمواله ، فيما كانت هيام تنتظر عودته إليها لتتزوجه وعمرها اثنان وخمسون سنة ...وعندما اقترحت الساردة أن تسجل معها فيلما عن حياتها وقصتها مع عماد،رحبت بالفكرة وأنجزتها في طلاقة ويـُسر . وأثناء تحضير الفيلم وتصويره أدركت المخرجة أن اختلافها مع ربيع زوجها، لا يعود إلى التعلق بالأمكنة أو الرغبة في الاستقرار، بل هو كامن في عدم القبول بمنطق الرعب والخوف من خطر محتمل : " ..وربما ما لم تقله هيام لي هو أنها بعد يقظتها من موت أختها اعتادتْ المغامرات المجنونة، وأصبحت تهتم بالتعبير عما تحس به والعودة إلى ما أرادتْ أن تكون،لا إلى ما أصبحتْ عليه ..."ص50.. ما يثير الانتباه أيضا في شخصية هيام،وهي تعيش بين تخييل السينما وواقع الحال في لبنان، أنها ظلتْ متشبثة بقيمة الغيرية على رغم انتشار العنف وانعكاساته على علائق الناس بعضهم ببعض : " وحين استطعتُ رؤية نفسي في المرآة، كان الزمن قد تأخر. لكنني كنتُ أحلم دوما بأنني بطلة فيلم سينمائي وبوجْـه عمــاد . عشتُ من أجل غيري ولم أندم على ذلك بل أسعدني هذا الأمر، لكنني أعترف بأن إهمالي حياتي غباوة أسميها أسماء كثيرة "ص52 . في مقابل تعلــّـق هيام بالبقاء في لبنان وانتظار عودة الحبيب الضالّ ،تعيش ريما على قلق وتكتب السييناريو مستوحية قصة أمها وخالتها هيام ، باحثة عن قرار مصيري تستهدي به : "..أريد أن أقترب من القرار المصيري الذي لا رجوع عنه، أن أمسكه بيدي(...)أريد أن أجده أولا، فقط أن أجده. كيف تسعفني الكلمات؟ كيف تسمح الكلمات لغضبي أن يسيل؟ "ص60. والساردة المخرجة تريد بدورها أن تمسك بقرار مصيري تواجه به تصـدُّع علاقتها بزوجها وترمــّـم ُالشقوق التي تسللتْ إلى عواطفهما بعد عودتهما إلى بيروت . على هذا النحو، تتفرع دلالات " استديو بيروت " لتحيلنا على لعبة مرايا تقتنص سمات من حياة الذين ينتمون إلى لبنان : العيش في "الداخل" أو"هناك" ، التعود على الحرب والموت المباغت أوالهروب إلى مكان يوهم بالاطمئنان ،الاندماج في واقع مألوف تحوطه مشاهد رمادية أو الإصرار على ابتداع حياة خاصة وسط الخراب... لكن ميزة رواية " استديو بيروت" أنها تكتب تجربة استمرار الحرب من منظور نفوس لها حساسية رقيقة تـُمكنها من التقاط اليومي ومزج المعيش بالمتخيل، والتعلق بالحياة على رغم الرعب الذي يتهددها. وعلى رغم أن النص ينبني على تعدد الأصوات، فإننا لا نجد تضاريس لافتة تـُمـايـز بين مستويات لغة الشخصيات وقاموسها ؛ فهل آثرت الكاتبة الحفاظ على التناسق اللغوي والأسلوبي مكتفية بتعديـد المحكيات وتنويع رؤيات الشخصيات النسائية المؤطـّـرة للنص ؟.. مهما يكن، فإن رواية هالة كوثراني ، بحجمها الصغير وكثافة السرد واللغة ،والتوظيف المـُوفق لعنصر السينما في البناء ورسم الشخوص ، تقدم للقارئ نصا يـُزاوج بين المتعة والتحليل، ويلتقط ملامح منسية من " اللبنان " العائش دوما في حالة ترقـُّـب وتوجس، من دون أن يتخلى عن متابعة العيش وابتداع قصص الحب و«الهـيام«.
2008/10/17 |
|
| الإتحاد الإشتراكي |
|
|