«قباحة القبيح»/عبده وازن الحياة - 27/10/08//
صفحة 1 من اصل 1
«قباحة القبيح»/عبده وازن الحياة - 27/10/08//
أغرب ما شاهدت قبل أيام على الشاشة الصغيرة، لقطات من معرض للجثث تقيمه
إحدى الصالات في لندن. كانت اللقطات قبيحة بل شائنة نظراً الى قباحة
الأشلاء والجثث المعروضة، ولم تستطع الكاميرا أن «تجمّلها» وتجعل منها
لوحات أو صوراً فنية على غرار الجثث التي طالما رسمها رسامون كبار،
محرّرين إياها من قسوتها الواقعية وقبحها الطبيعيّ. لكنّ الأغرب أيضاً أن
صاحب «الجثث» عالم تشريح ألماني يدعى غونترفون هاغنز ويُسمى «طبيب الموت»،
وقد تعرض سابقاً لحملة نقدية قاسية بعدما أطل مرة على الشاشة الصغيرة
يشرّح جثثاً على الهواء مباشرة.
مثل هذا المعرض لا ينتمي الى عالم الفن التشكيلي مهما حاول هذا
«الطبيب» أن يكون فناناً، وأن يوزّع الجثث والأشلاء توزيعاً «جمالياً».
لكنّه استطاع أن يجذب جمهوراً كبيراً من خلال معرضه الجوّال عبر العالم،
فقد أقبل على مشاهدة «الجثث» نحو خمسة وعشرين مليون زائر، وهذا رقم هائل
سمح للطبيب أن يجمع ثروة هائلة، علماً أنه لا يبيع «جثته» بل يعرضها فقط.
معرض غايةٌ في البشاعة بحسب ما نمّت به اللوحات التي عُرضت على شاشة
إحدى المحطات الأوروبية، وقد بلغت بشاعته ذروتها عندما اقتربت الكاميرا من
الجثث أو الأشلاء، معرّية «عريها» الفاضح وقسوتها ووحشيتها. لم تكن
الكاميرا هنا أداة فنية بمقدار ما كانت عيناً متلصّصة تمارس بنفسها، مثل
الكثير من الزائرين، التعذيب الذاتي الذي لا يخلو من البعد المازوخيّ. هذا
ما شعرتُ به حين أبصرت اللقطات من غير أن أغمض عينيّ. شعرت بألم شديد
مصحوب بالقرف والغثيان وخفت فعلاً من المشرط أو آلة التشريح القادرة على
تشويه الإنسان والجسد الإنسانيّ والروح الإنسانية. أصبح الجسد الميت مادة
مشهدية تثير في النفس حالاً من الاضطراب والارتباك الداخلي. إنه الجسد
يموت مرة ومرتين وثلاثاً ... إنه الجسد يعاود موته كلما توالت عليه أنظار
الزائرين الذين يدفعهم فضولهم الى مشاهدة ما يشبه أجسادهم وأشلاءهم.
ليس هذا معرضاً فنياً حتى وإن أُدرج ضمن الفنون التركيبية التي شوّهت
الفن التشكيلي المعاصر، بخفتها وسذاجتها وادعائها. القبح هنا يزداد قباحة
ويتخلى عن واقعيّته ليصبح لا واقعياً. إنه «القبح بذاته» كما يعبّر أمبرتو
إيكو في كتابه البديع «تاريخ القبح» وليس «القبح الصوري أو الشكلي»، قبح
ينفّر ويخيف، قبح «يبلور النفور» كما يقول إيكو أيضاً. المشاهدون هنا
ليسوا أمام لوحات للفنان فرنسيس بيكون بقسوتها الميتافيزيقية، ولا أمام
أجساد رسمها بيكاسو بريشته التشريحية. حتى العنف الذي تضمره هذه «الجثث»
ليس بعنف تطهيري. هذا قبح بلا أفق، قبح لا حدّ له، قبح لا زاوية فيه لما
يسمّى «جمال القبح». هذا المعرض لا يمكن إدراجه أيضاً في سياق فنّ
«الكيتش» الذي يتماهى بالقباحة. لا هزل هنا ولا هزء ولا سخرية صفراء أو
سوداء.
عندما شاهدت الصور تذكرت أيضاً قصيدة «جيفة» للشاعر بودلير، القصيدة
التي قلبت «المعادلة» الجمالية في الشعر الفرنسي خلال القرن التاسع عشر،
وألبت على شاعر «أزهار الشر» النقاد والشعراء فاتّهم بـ «الزندقة» الشعرية
والمروق والقباحة. لكنّ «جيفة» بودلير كانت قصيدة بديعة. «جيفة» منتنة
«تحت السماء» يصفها الشاعر بـ «الزهرة المتفتحة» مسبغاً عليها «روحاً
سماوية». هذا هو الفن الحقيقي يرقى بالقبح والمبتذل الى مرتبة التسامي
والجمال. ولطالما تحدثت البلاغة العربية عن «جمال القبح»، وتكفي العودة
مثلاً الى نصوص للجاحظ والى قصائد لابن الرومي حتى يتضح هذا المفهوم الذي
عرّى القبح من قبحه ودفعه الى مصاف الجمال، بمعاييره المختلفة. وكم تبارى
الشعراء العرب، قديماً وحديثاً على تجميل القبح مثلهم مثل الناثرين الذين
يتفنون في خلق الجمال من صميم ما ليس جميلاً.
أعترف أنني تذكّرت أيضاً صور الجثث التي فاضت بها المقابر الجماعية في
العراق بعد جرفها، لكنّ الكاميرا كانت أقل قسوة أو لأقل أشد رحمة بالجثث
نفسها والمشاهدين نفسهم، فبدت الصور التي بثتها الشاشات الصغيرة كأنها
مغلّفة بالحزن والأسى الداخليّ. صور المقابر تلك بدت أشد لطافة من صور
المعرض الرهيب، أشد إنسانية أيضاً وأشد «جمالاً» في قبحها. الجثث هنا
قُتلت مرّة ودُفنت تحت التراب، أما الجثث هناك فهي تقتل كل يوم من غير أن
تُدفن. إنها أيضاً تذكّر المشاهدين بأناس كانوا، بوجوه وأيد وأقدام كانت
قبل أن يُنعم فيها «المشرط» تقطيعاً وتمزيقاً. ولا أخفي أيضاً أنني شعرت
بصدمة عندما عرض رجال المقاومة في لبنان أشلاء لجنود إسرائيليين، وكان
المنظر قاسياً مع أنهم استبدلوا بالأشلاء أسرى لبنانيين في السجون
الاسرائيلية. لكن الأشلاء تظل أشلاء ولا هوية لها.
ترى ألا تستحق الجثث أن ترتاح عائدة الى التراب، التراب الذي صنعت منه؟
هذا السؤال لا بدّ من طرحه على «طبيب الموت»، الطبيب الساديّ الذي يتقن فن
القتل «المجازي» وفن البشاعة التي لا غاية لها إلا البشاعة!
إحدى الصالات في لندن. كانت اللقطات قبيحة بل شائنة نظراً الى قباحة
الأشلاء والجثث المعروضة، ولم تستطع الكاميرا أن «تجمّلها» وتجعل منها
لوحات أو صوراً فنية على غرار الجثث التي طالما رسمها رسامون كبار،
محرّرين إياها من قسوتها الواقعية وقبحها الطبيعيّ. لكنّ الأغرب أيضاً أن
صاحب «الجثث» عالم تشريح ألماني يدعى غونترفون هاغنز ويُسمى «طبيب الموت»،
وقد تعرض سابقاً لحملة نقدية قاسية بعدما أطل مرة على الشاشة الصغيرة
يشرّح جثثاً على الهواء مباشرة.
مثل هذا المعرض لا ينتمي الى عالم الفن التشكيلي مهما حاول هذا
«الطبيب» أن يكون فناناً، وأن يوزّع الجثث والأشلاء توزيعاً «جمالياً».
لكنّه استطاع أن يجذب جمهوراً كبيراً من خلال معرضه الجوّال عبر العالم،
فقد أقبل على مشاهدة «الجثث» نحو خمسة وعشرين مليون زائر، وهذا رقم هائل
سمح للطبيب أن يجمع ثروة هائلة، علماً أنه لا يبيع «جثته» بل يعرضها فقط.
معرض غايةٌ في البشاعة بحسب ما نمّت به اللوحات التي عُرضت على شاشة
إحدى المحطات الأوروبية، وقد بلغت بشاعته ذروتها عندما اقتربت الكاميرا من
الجثث أو الأشلاء، معرّية «عريها» الفاضح وقسوتها ووحشيتها. لم تكن
الكاميرا هنا أداة فنية بمقدار ما كانت عيناً متلصّصة تمارس بنفسها، مثل
الكثير من الزائرين، التعذيب الذاتي الذي لا يخلو من البعد المازوخيّ. هذا
ما شعرتُ به حين أبصرت اللقطات من غير أن أغمض عينيّ. شعرت بألم شديد
مصحوب بالقرف والغثيان وخفت فعلاً من المشرط أو آلة التشريح القادرة على
تشويه الإنسان والجسد الإنسانيّ والروح الإنسانية. أصبح الجسد الميت مادة
مشهدية تثير في النفس حالاً من الاضطراب والارتباك الداخلي. إنه الجسد
يموت مرة ومرتين وثلاثاً ... إنه الجسد يعاود موته كلما توالت عليه أنظار
الزائرين الذين يدفعهم فضولهم الى مشاهدة ما يشبه أجسادهم وأشلاءهم.
ليس هذا معرضاً فنياً حتى وإن أُدرج ضمن الفنون التركيبية التي شوّهت
الفن التشكيلي المعاصر، بخفتها وسذاجتها وادعائها. القبح هنا يزداد قباحة
ويتخلى عن واقعيّته ليصبح لا واقعياً. إنه «القبح بذاته» كما يعبّر أمبرتو
إيكو في كتابه البديع «تاريخ القبح» وليس «القبح الصوري أو الشكلي»، قبح
ينفّر ويخيف، قبح «يبلور النفور» كما يقول إيكو أيضاً. المشاهدون هنا
ليسوا أمام لوحات للفنان فرنسيس بيكون بقسوتها الميتافيزيقية، ولا أمام
أجساد رسمها بيكاسو بريشته التشريحية. حتى العنف الذي تضمره هذه «الجثث»
ليس بعنف تطهيري. هذا قبح بلا أفق، قبح لا حدّ له، قبح لا زاوية فيه لما
يسمّى «جمال القبح». هذا المعرض لا يمكن إدراجه أيضاً في سياق فنّ
«الكيتش» الذي يتماهى بالقباحة. لا هزل هنا ولا هزء ولا سخرية صفراء أو
سوداء.
عندما شاهدت الصور تذكرت أيضاً قصيدة «جيفة» للشاعر بودلير، القصيدة
التي قلبت «المعادلة» الجمالية في الشعر الفرنسي خلال القرن التاسع عشر،
وألبت على شاعر «أزهار الشر» النقاد والشعراء فاتّهم بـ «الزندقة» الشعرية
والمروق والقباحة. لكنّ «جيفة» بودلير كانت قصيدة بديعة. «جيفة» منتنة
«تحت السماء» يصفها الشاعر بـ «الزهرة المتفتحة» مسبغاً عليها «روحاً
سماوية». هذا هو الفن الحقيقي يرقى بالقبح والمبتذل الى مرتبة التسامي
والجمال. ولطالما تحدثت البلاغة العربية عن «جمال القبح»، وتكفي العودة
مثلاً الى نصوص للجاحظ والى قصائد لابن الرومي حتى يتضح هذا المفهوم الذي
عرّى القبح من قبحه ودفعه الى مصاف الجمال، بمعاييره المختلفة. وكم تبارى
الشعراء العرب، قديماً وحديثاً على تجميل القبح مثلهم مثل الناثرين الذين
يتفنون في خلق الجمال من صميم ما ليس جميلاً.
أعترف أنني تذكّرت أيضاً صور الجثث التي فاضت بها المقابر الجماعية في
العراق بعد جرفها، لكنّ الكاميرا كانت أقل قسوة أو لأقل أشد رحمة بالجثث
نفسها والمشاهدين نفسهم، فبدت الصور التي بثتها الشاشات الصغيرة كأنها
مغلّفة بالحزن والأسى الداخليّ. صور المقابر تلك بدت أشد لطافة من صور
المعرض الرهيب، أشد إنسانية أيضاً وأشد «جمالاً» في قبحها. الجثث هنا
قُتلت مرّة ودُفنت تحت التراب، أما الجثث هناك فهي تقتل كل يوم من غير أن
تُدفن. إنها أيضاً تذكّر المشاهدين بأناس كانوا، بوجوه وأيد وأقدام كانت
قبل أن يُنعم فيها «المشرط» تقطيعاً وتمزيقاً. ولا أخفي أيضاً أنني شعرت
بصدمة عندما عرض رجال المقاومة في لبنان أشلاء لجنود إسرائيليين، وكان
المنظر قاسياً مع أنهم استبدلوا بالأشلاء أسرى لبنانيين في السجون
الاسرائيلية. لكن الأشلاء تظل أشلاء ولا هوية لها.
ترى ألا تستحق الجثث أن ترتاح عائدة الى التراب، التراب الذي صنعت منه؟
هذا السؤال لا بدّ من طرحه على «طبيب الموت»، الطبيب الساديّ الذي يتقن فن
القتل «المجازي» وفن البشاعة التي لا غاية لها إلا البشاعة!
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى