زيتون مُملح ومسبّح وفالق نيعُه...
صفحة 1 من اصل 1
زيتون مُملح ومسبّح وفالق نيعُه...
زيتون مُملح ومسبّح وفالق نيعُه...
يا أهل البلد عموووووووم.. بكرة النزول على 'الزتون'، هكذا كان الناطور أبو درويش رحمه الله يدور في الحارات ليعلن بدء الموسم.
ويبدأ
عيدنا وموسمنا الخاص بنا نحن الأولاد، نمضي وراء من جمعوا محصولهم
ونتبعّر، أي أننا نلتقط ما تبقى من حبات منسية بين الأوراق على التراب
وبين الأشواك وعلى الأغصان وفي أعباب الأشجار خصوصاً المعمر منها!
نلتقطها
حبة حبة حتى نملأ تنكاتنا أو دلاءنا ثم نذهب بها قبيل المغيب الى (أم
شحادة) فتستقبلنا ببشاشة، وإذا كنا مبللين تدعونا للاقتراب من الكانون
لنتدفأ وننشّف ملابسنا، تشتري البضاعة منا ليكون لها موسمها من الزيتون
مثل غيرها، تصنفه 'مملح ومسبّح ورصيص وفالق نيعه...والباقي
للزيت'...تنقدنا ثمنه، وبلحظات نحلق بعيدا فوق خط الفقر، فقد كبرنا وصرنا
نطمح الى أكثر من البسكوت وملبّس بيض الحمام، الزيتون يمنحنا بطاقة دخول
الى ذلك السحر الذي اسمه 'السينما'، وليس هذا فقط، في استراحة منتصف العرض
نقف مثل الكبار'الأغنياء' الذين يعملون عادة في حيفا، ونطلب نصف رغيف من
الفلافل مع قنينة كازوز باردة، وبعد هذا نشتري بذور عباد الشمس نفصّها
خلال العرض، ومسك الختام قطعة من الهريسة المرصعة ب'الفزدُءْ' وهو الفول
السوداني، وهذا يثير الغيرة حتى لدى بعض الكبار المفلسين! ولهذا كان
الموسم غالياً على قلوبنا مثل موسم بيع النرجس للسائحين المارين على شارع
عكا ـ صفد (قبل أن تحرم الدولة قطفه) ثم موسم سرقة التين والبامية للأسباب
الجليلة نفسها، قلت سرقة!! لنكن صريحين إذاً، فالأمر لم
يقتصرعلى'البعارة'، ودعونا نعترف أننا كنا نضعف أمام الشجرة المثقلة
بثمارها، خصوصا من كروم الأهل والأقرباء وأولئك الذين يملكون الكثير(أو
يضمنون أملاك الغائبين من الدولة)، نغزوه ونفرط من الأغصان مباشرة إلى
دلائنا أو تنكاتنا فنملؤها خلال دقائق ونوفر عناء النهار، ومن خلال
'البعارة' صرنا نعرف الفلاح (الفرّاط) الحريص الذي ينظف الشجرة تماما فلا
يترك عليها شيئاً للبعّار، وذاك الذي يتعفف عن الأغصان العالية، أو خفيف
النظر الذي نعثر وراءه على كنوز.
بعضنا كان يقضي حاجته من البيت
مباشرة، أي بعد أن يجمع ذووه الموسم في البيت قبيل درسه وعصره، يغافل
أسرته فيملأ دلواً ويذهب ليبيعه! وكان البعض مقداماً جدا، فيتسلل الى
المعصرة نفسها حيث الأحواض المملوءة بالثمار المقدسة والأكياس من حولها
وفي ساحتها، يغافل الكبار المنهمكين بلف التبغ وشرب القهوة وتذوق الزيت
الطازج وتقدير (قطعيّة) الزيتون، وينقل الى دلوه حفنة حفنة حتى يملأها،
طبعا لم تخل هذه المغامرات من الوقوع في كمين نصبه صاحب الزيتون، حينئذ
يصادر كل ما جمعه المقبوض عليه، مع التوبيخ وشد الأذن وتقديم شكوى رسمية
للوالد، أما الخطر الأكبر فهو الوقوع بقبضة الشخصية الأكثر كرهاً لدى
الأولاد، وهو المخضّر (حارس المراعي)، لأن هذا يعني تغريم والدك ببضع
ليرات من قبل مجلس الشيوخ الذي كان مقره بيت المختار، وسيأخذ الوالد بثأره
منك.
بعض الفلاحين كان يشكو أمر الغزو للوالد (من باب الأمل وحسن
الظن والصداقة والنسب والقرابة)، وبعضهم لا يساوم فيتوجه لمربي الصف في
المدرسة، وفي تلك الأيام الجميلة كان المربي يصفع ويرفس ويجلد ويبطح بهدف
التربية على مكارم الأخلاق! وهكذا وصلت شكوى ضد زميلنا المسكين (طه) بأنه
غزا شجراً ودخله قبل أصحابه!
سأل المربي ووجهه ينبئ بالشر: من منكم كان
'يتبعر' يوم أمس في الزيتون الغربي؟ فرد أكثر من واحد معترفاً..أنا أستاذ،
فالبعارة نشاط معترف به ولا يعتبر مخالفة جنائية أو أخلاقية.....
- وأنت يا طه..هل تبعّرت الزيتون؟
- نعم أستاذ ..
- وماذا فعلت به؟
- بعته لأم شحادة ...
- وبكم بعته يا طه؟
- بثلاث ليرات أستاذ...
- أف هذا كثير ...وين المصاري يا طه؟
صار طه يبكي، ونحن دهشنا، فثلاث ليرات هي ثلاثة أضعاف ما نحصّله في نهار ممتاز...
- ليش بتبكي يا طه....؟
- أخذها أبوي منّي..أستاذ ...
- كلها!
- لم يعطني منها إلا عشرة قروش..
- طيّب طيّب...ولكنك لم تتبعّر الزيتون بل فرطت من الحامل يا طه...
- الصلاة على النبي أستاذ..وجدتُ زيتونة حاملة فقطفت منها...
- ولكن هذه سرقة يا طه وليست بعارة؟
صمت طه
- ألم أقل لكم ان السرقة ممنوعة؟
رد طه ببلاهة ـ أستاذ انت نبهتنا عن سرقة أقلام الرصاص فقط!!
وكاد
الأستاذ يجن وهو يلطم طه المسكين ويجعر بأن منع السرقة يشمل أقلام الرصاص
والحبر والدفاتر والمساطر والمحايات والزيتون والتين والحصرم والمشمش وحتى
الذرة! والسارق مصيره أن يشرب الحمأ المسنون في النار....
- ماذا سيشرب؟
- الحمأ المسنون في النار...
- وماذا سيأكل؟
- ثمار شجرة الزقوم ...
-
إذاً أكتبوا وظيفة أيها السفلة...إنسخوا عشرين مرة..لا تسرق لا تسرق لا
تسرق. نسخناها، وطبعاً واصلنا 'البعارة' مع حفظ الحقوق في الحالات
الإضطرارية، لأننا لم نعرف بالضبط ما هو الحمأ المسنون، وتخيلنا ثمار
الزقوم مثل السفرجل قبل نضوجه، فيما بعد علمنا أن'لا تسرق' هذه واحدة من
عشر وصايا مثل لا تقتل ..لا تشته امرأة قريبك أو حماره...إلخ، وهذه نزلت
على سيدنا موسى كليم الله وموسى هو نبي اليهود!
كبرنا وانقرضت أيام 'بعارة' الزيتون الحلوة، وصرنا نتبعّر الأخبار ونتساءل، باسم أي دين ونبي يسرق المستوطنون زيتون الفلسطينيين!
باسم
إلهنا إله إسرائيل نطلق النار على هذا الحمار ونجندله...ونطلق النار على
هذا الفلاح من نسل إسماعيل فنرديه جريحا، ونشتم زوجته وبناته ونبصق عليهن
ونحطم سيارة الإسعاف التي هُرعت لإنقاذه...
باسم إلهنا إله إسرائيل
نسرق الزيتون فنعصر بعضه ونستعمل زيته المقدس للسَلطة والطبيخ، لأنه لذيذ
ويفيد في تخفيض الكوليسترول الرديء من الدمّ، ثم نأكل بعضه...'مُملّح
ومسبّح ورْصيص وفالق نيعُه'...
سهيل كيوان
30/10/2008
يا أهل البلد عموووووووم.. بكرة النزول على 'الزتون'، هكذا كان الناطور أبو درويش رحمه الله يدور في الحارات ليعلن بدء الموسم.
ويبدأ
عيدنا وموسمنا الخاص بنا نحن الأولاد، نمضي وراء من جمعوا محصولهم
ونتبعّر، أي أننا نلتقط ما تبقى من حبات منسية بين الأوراق على التراب
وبين الأشواك وعلى الأغصان وفي أعباب الأشجار خصوصاً المعمر منها!
نلتقطها
حبة حبة حتى نملأ تنكاتنا أو دلاءنا ثم نذهب بها قبيل المغيب الى (أم
شحادة) فتستقبلنا ببشاشة، وإذا كنا مبللين تدعونا للاقتراب من الكانون
لنتدفأ وننشّف ملابسنا، تشتري البضاعة منا ليكون لها موسمها من الزيتون
مثل غيرها، تصنفه 'مملح ومسبّح ورصيص وفالق نيعه...والباقي
للزيت'...تنقدنا ثمنه، وبلحظات نحلق بعيدا فوق خط الفقر، فقد كبرنا وصرنا
نطمح الى أكثر من البسكوت وملبّس بيض الحمام، الزيتون يمنحنا بطاقة دخول
الى ذلك السحر الذي اسمه 'السينما'، وليس هذا فقط، في استراحة منتصف العرض
نقف مثل الكبار'الأغنياء' الذين يعملون عادة في حيفا، ونطلب نصف رغيف من
الفلافل مع قنينة كازوز باردة، وبعد هذا نشتري بذور عباد الشمس نفصّها
خلال العرض، ومسك الختام قطعة من الهريسة المرصعة ب'الفزدُءْ' وهو الفول
السوداني، وهذا يثير الغيرة حتى لدى بعض الكبار المفلسين! ولهذا كان
الموسم غالياً على قلوبنا مثل موسم بيع النرجس للسائحين المارين على شارع
عكا ـ صفد (قبل أن تحرم الدولة قطفه) ثم موسم سرقة التين والبامية للأسباب
الجليلة نفسها، قلت سرقة!! لنكن صريحين إذاً، فالأمر لم
يقتصرعلى'البعارة'، ودعونا نعترف أننا كنا نضعف أمام الشجرة المثقلة
بثمارها، خصوصا من كروم الأهل والأقرباء وأولئك الذين يملكون الكثير(أو
يضمنون أملاك الغائبين من الدولة)، نغزوه ونفرط من الأغصان مباشرة إلى
دلائنا أو تنكاتنا فنملؤها خلال دقائق ونوفر عناء النهار، ومن خلال
'البعارة' صرنا نعرف الفلاح (الفرّاط) الحريص الذي ينظف الشجرة تماما فلا
يترك عليها شيئاً للبعّار، وذاك الذي يتعفف عن الأغصان العالية، أو خفيف
النظر الذي نعثر وراءه على كنوز.
بعضنا كان يقضي حاجته من البيت
مباشرة، أي بعد أن يجمع ذووه الموسم في البيت قبيل درسه وعصره، يغافل
أسرته فيملأ دلواً ويذهب ليبيعه! وكان البعض مقداماً جدا، فيتسلل الى
المعصرة نفسها حيث الأحواض المملوءة بالثمار المقدسة والأكياس من حولها
وفي ساحتها، يغافل الكبار المنهمكين بلف التبغ وشرب القهوة وتذوق الزيت
الطازج وتقدير (قطعيّة) الزيتون، وينقل الى دلوه حفنة حفنة حتى يملأها،
طبعا لم تخل هذه المغامرات من الوقوع في كمين نصبه صاحب الزيتون، حينئذ
يصادر كل ما جمعه المقبوض عليه، مع التوبيخ وشد الأذن وتقديم شكوى رسمية
للوالد، أما الخطر الأكبر فهو الوقوع بقبضة الشخصية الأكثر كرهاً لدى
الأولاد، وهو المخضّر (حارس المراعي)، لأن هذا يعني تغريم والدك ببضع
ليرات من قبل مجلس الشيوخ الذي كان مقره بيت المختار، وسيأخذ الوالد بثأره
منك.
بعض الفلاحين كان يشكو أمر الغزو للوالد (من باب الأمل وحسن
الظن والصداقة والنسب والقرابة)، وبعضهم لا يساوم فيتوجه لمربي الصف في
المدرسة، وفي تلك الأيام الجميلة كان المربي يصفع ويرفس ويجلد ويبطح بهدف
التربية على مكارم الأخلاق! وهكذا وصلت شكوى ضد زميلنا المسكين (طه) بأنه
غزا شجراً ودخله قبل أصحابه!
سأل المربي ووجهه ينبئ بالشر: من منكم كان
'يتبعر' يوم أمس في الزيتون الغربي؟ فرد أكثر من واحد معترفاً..أنا أستاذ،
فالبعارة نشاط معترف به ولا يعتبر مخالفة جنائية أو أخلاقية.....
- وأنت يا طه..هل تبعّرت الزيتون؟
- نعم أستاذ ..
- وماذا فعلت به؟
- بعته لأم شحادة ...
- وبكم بعته يا طه؟
- بثلاث ليرات أستاذ...
- أف هذا كثير ...وين المصاري يا طه؟
صار طه يبكي، ونحن دهشنا، فثلاث ليرات هي ثلاثة أضعاف ما نحصّله في نهار ممتاز...
- ليش بتبكي يا طه....؟
- أخذها أبوي منّي..أستاذ ...
- كلها!
- لم يعطني منها إلا عشرة قروش..
- طيّب طيّب...ولكنك لم تتبعّر الزيتون بل فرطت من الحامل يا طه...
- الصلاة على النبي أستاذ..وجدتُ زيتونة حاملة فقطفت منها...
- ولكن هذه سرقة يا طه وليست بعارة؟
صمت طه
- ألم أقل لكم ان السرقة ممنوعة؟
رد طه ببلاهة ـ أستاذ انت نبهتنا عن سرقة أقلام الرصاص فقط!!
وكاد
الأستاذ يجن وهو يلطم طه المسكين ويجعر بأن منع السرقة يشمل أقلام الرصاص
والحبر والدفاتر والمساطر والمحايات والزيتون والتين والحصرم والمشمش وحتى
الذرة! والسارق مصيره أن يشرب الحمأ المسنون في النار....
- ماذا سيشرب؟
- الحمأ المسنون في النار...
- وماذا سيأكل؟
- ثمار شجرة الزقوم ...
-
إذاً أكتبوا وظيفة أيها السفلة...إنسخوا عشرين مرة..لا تسرق لا تسرق لا
تسرق. نسخناها، وطبعاً واصلنا 'البعارة' مع حفظ الحقوق في الحالات
الإضطرارية، لأننا لم نعرف بالضبط ما هو الحمأ المسنون، وتخيلنا ثمار
الزقوم مثل السفرجل قبل نضوجه، فيما بعد علمنا أن'لا تسرق' هذه واحدة من
عشر وصايا مثل لا تقتل ..لا تشته امرأة قريبك أو حماره...إلخ، وهذه نزلت
على سيدنا موسى كليم الله وموسى هو نبي اليهود!
كبرنا وانقرضت أيام 'بعارة' الزيتون الحلوة، وصرنا نتبعّر الأخبار ونتساءل، باسم أي دين ونبي يسرق المستوطنون زيتون الفلسطينيين!
باسم
إلهنا إله إسرائيل نطلق النار على هذا الحمار ونجندله...ونطلق النار على
هذا الفلاح من نسل إسماعيل فنرديه جريحا، ونشتم زوجته وبناته ونبصق عليهن
ونحطم سيارة الإسعاف التي هُرعت لإنقاذه...
باسم إلهنا إله إسرائيل
نسرق الزيتون فنعصر بعضه ونستعمل زيته المقدس للسَلطة والطبيخ، لأنه لذيذ
ويفيد في تخفيض الكوليسترول الرديء من الدمّ، ثم نأكل بعضه...'مُملّح
ومسبّح ورْصيص وفالق نيعُه'...
سهيل كيوان
30/10/2008
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى