مجموعة قصصية لرجاء الطالبي: جدلية الرؤيا والعبارة في 'عين هاجر'
صفحة 1 من اصل 1
مجموعة قصصية لرجاء الطالبي: جدلية الرؤيا والعبارة في 'عين هاجر'
استطاعت القصة القصيرة، كجنس أدبي إبداعي، على امتداد فترات زمنية
متفاوتة، أن تحقق رواجا وانتشارا على مستوى التلقي والتداول، وذلك بالنظر
للإصدارات التي توالت فأغنت الخزانة الثقافية. ولعل تنوع العناوين القصصية
وتعدد أسماء كتابها واختلاف أساليبهم ورؤاهم الفنية، هو ما دفع النقد
الأدبي، للنظر والتأمل في هذه الأعمال ومحاورة أصحابها وفق آليات وشروط
قرائية مختلفة.
وتعد الكاتبة رجاء الطالبي من الأسماء القصصية، التي
أوجدت لنفسها موقعا متميزا، في خريطة الإبداع المغربي، من خلال مجموعتيها
القصصيتين 'شموس الهاوية' و'عين هاجر' . وهما تجربتان تنمان عن جهد إبداعي
واضح ومهارة تعبيرية، في التعامل مع الموضوعات واللغة. هما تجربتان
تتلاحمان وتتوحدان، تصورا وبناء. ويهمنا هنا أن نخص بالقراءة والتحليل،
مجموعتها الثانية 'عين هاجر'.
فماذا عن هذه المجموعة القصصية؟ وماذا
عن عوالمها الحكائية؟ وكيف تبدت رؤى الكاتبة عبر أداة اللغة، كوسيلة
للتعبير؟ وبالتالي، ما الجديد الإبداعي الذي تراهن عليه الكاتبة فنيا،
موازاة مع مجموعتها الأولى؟
تضم المجموعة 'عين هاجر' ثماني قصص
متفاوتة، من حيث الطول والقصر ومتفاوتة أيضا، من حيث طبيعة الموضوعات
المقترحة. قصص اختارت لها الكاتبة عناوين موغلة في الاستعارة ومشبعة
بالإيحاء والرمزية، وهي: من يوميات عاشق أبيقوري، حبة كرز، موت بشفاه لا
مرئية، هاي! شيري!، جنائن النار، ذئبة الجحيم، نزيف الشفافية، حديقة
أبيقور. وقد قدم لهذه المجموعة الناقد حسن المودن، واضعا المتلقي أمام
مسارات الكاتبة المتعددة، وراصدا بعض أهم الملامح الفنية، التي تقوم عليها
هذه التجربة الجديدة. يقول: 'وتأتي نصوص رجاء الطالبي في سياق أدبي يركب
التجريب، لكننا نفترض أنها تذهب أبعد من التجريب الذي يستلذ بتدمير
الكتابة وهلاك المعنى مكتفيا بجمال اللغة وبلاغته. فهي نصوص تستعيد الهوية
الأصلية للكتابة، وتعيد طرح الأسئلة القديمة قدم الإنسان: ما الإنسان؟ ما
الوجود؟ ما الحياة؟ ما العالم؟ لكن السؤال في نصوصها يطرح بقوة الحياة
والحب والأمل، فتتحول الكتابة إلى 'هاته الشهوة العارمة'، 'شهوة العالم'،
الشهوة التي تتغذى من اللعب والطفولة والفوضى من أجل بناء معنى جديد
للعالم والحياة والإنسان' (ص6).
1ـ في الموضوعات
تتنوع
الموضوعات المقترحة، داخل المجموعة، تبعا لنوعية الاشتغال الإبداعي، الذي
تروم إليه الكاتبة وتعمل في سياقه. ولعل موضوعات الطفولة والحلم والحب
والمواجهة والزمن والمكان وكل القيم النبيلة من بين موضوعات عدة، شكلت
عالما حكائيا لـُفّ بغير قليل من التأمل والنظر والإنصات لنبض الذات
والواقع.
وهكذا تغنت الطالبي بكل قيم الحرية والاختلاف وبكل ما يمنح
الإنسان شهوة الحياة وطلب الانعتاق. تقول: 'أحب أن أستنزف الحياة حتى آخر
رمق.. أقبل عليها كالذي سوف يموت في اللحظة الآتية. منذ ولدت وإحساسي
بالموت يلاحقني لا يفارقني.. سأموت الآن، هذه الفكرة تملؤني بالمرارة
لاستحالة تمكني من التمتع بجمال الحياة لاحقا، الموت مجهول حالك ينتظرني
يسلبني لذة أن أحيا، أن أكون بما أعشق.. ذلك المجهول المعالم الذي ينتظرني
بمجرد أن تستدل ستائر العيش ونأمر بالتحليق في مطلق هاته الظلمات الرهيبة'
(ص16).
ولأن الحياة كانت جزءا من ارتباط الإنسان بالأرض وصورة بديعة
لالتحام الذات بالمكان؛ فإن عودة الإنسان إلى الأرض تصبح، بمعنى من
المعاني، عودة للرحم البدائية، حيث الموت ولادة جديدة وحياة متجددة. تقول
الكاتبة على لسان ساردتها: 'ها أنت في محرابك الغابوي ملفعة في الصمت
وجسدك السلطاني يطفو فوق مياه الحلم الخضراء، في استراحتك الأبدية تلك
تطلين على تحولك الخرافي البديع، تتجمع الأرض حول أطراف السفلية وتنشق
أظافر قدميك عن جذور تنغرس في الأرض تذهب بعيدا قلب التربة سكرى بهاته
الرطوبة الندية التي تلفحها بها العتمات يتحول جسدك إلى لحاء شجرة ودمك
إلى عصارة نباتية تمتدين شجرة دلب عظيمة تحضنين بوريفك الأموسي طفولة
العالم.' (ص47).
في هذا السياق التخيلي، الذي يمتح من مرجعيات ثقافية
وفكرية عديدة، تمضي رجاء الطالبي في تمرير جملة من القناعات والتأملات
والتصورات حول العالم. تعلن، من خلالها عن دور الحياة في إضاءة الروح
والإحساس والمشاعر الدفينة للإنسان، إلى حد أن الزمن والموت، رغم
جبروتهما، لا يستطيعان النيل من اشتعال الرغبة واشتهاء المجهول. تقول: 'هي
لا تعترف بصنيع الزمن؛ ما تؤمن به هو هاته القوة الداخلية النهرية القادرة
على جرف كل تجاعيد الباطن، أثقاله وآلامه. تستطيع أن تنهض من رمادها
وتتجدد؛ يسعفها دمها الملكي الذي لا يزداد مع مرور الأعوام إلا عنفوانا
وقوة وتحديا. دمها المتسلطن، عربداته، شطحاته، لهبه، تسجره احتراقه،
حريقه، لا تعترف إلا بسلطان هذا الدم، يشتعل فتشتعل في الرأس الرغبة في
احتضان المستقبل، تشتعل الرغبة في احتضان هذا الأمام الذي يهزم الموت.
وحدها شهوة الحياة سيدة، تكتسح الكيان فيمتلئ باشتهاء المجهول، اشتهاء
لذيذ وجوداته وحيواته' (ص52).
ولم تكن هذه التأملات الفكرية والفلسفية،
في المجموعة، مجرد أفكار عابرة أو مفاهيم جاهزة؛ وإنما حركها هاجس
الاختلاف والمغايرة والمغامرة، الروحية والجسدية معا، حيث تماهت الذات
القصصية بالموضوع عبر لغة شاعرية مفتوحة على كل الرؤى والاحتمالات. ومن
ثمة، اقتضى الأمر ملامسة بعض القضايا الحميمة كالأمومة والطفولة وعلاقات
الرجل والمرأة وما اتصل بمشاعر الرغبة واللذة. تقول الكاتبة على لسان
ساردتها، في هذا الإطار: 'أنت لا تلتذ فقط بالمضاجعة، بالأكل، بالشرب
والتمتع بكل ما هو مادي، أرضي. حقا هذه اللذة أيضا تمتلك جمالها وفتنتها،
تمتلك سحرها ونشواتها، لكن أيضا هناك اللذة التي مبعثها ما لا يرى وما لا
يلمس، لذة مجردة خالصة من كل ما هو مادي اللهم فقط تلك النشوة المشتعلة في
الدم في الرأس، في العروق، في الأعضاء وكامل الجسد' (ص69(.
لهذا كله،
تصبح المجموعة عالما فريدا من الوقائع والمشاهد، الواقعية منها والمفترضة،
على حد سواء، وعالما فسيحا من القناعات والرؤى والمبادئ، تعمد الكاتبة إلى
ترويجها والدفاع عنها، بسلطة الفكر واللغة. وهما عالمان يشدان القارئ إلى
ما في المجموعة من جرأة في الطرح وحضور للوعي الثقافي والجمالي، لدى
الكاتبة لحظة الإبداع. ولا شك أن طبيعة اللغة التي وظفتها الطالبي، في
تحرير قصصها وتبرير مواقفها، كانت وراء العديد من الانزياحات الفنية
والدلالية، التي أعطت لعالم القصة بعدا تجريبيا يفيض بالجمال والسؤال،
ويمضي في محاورة النص الجديد، كخطاب وكتابة، قصد استشراف عوالمه وآفاقه
المنفتحة على المستقبل والفضاءات اللامحدودة.
2ـ في اللغة والأسلوب
يزخر
الفضاء القصصي لمجموعة 'عين هاجر' بالعديد من الإمدادات اللغوية الكثيرة،
التي رافقت تصور الكاتبة، حيث تم استعمال صور ومعاني متباينة ذات إحالات
مستقاة من الفلسفة والتاريخ والتصوف والأدب والفن. إحالات خصبة متناسلة
قلبتها الكاتبة ذات اليمين وذات الشمال، لتقول الصمت الساكن في الأعماق،
دون تمييز في الكتابة بين رجل وامرأة. وهي إحالات واقتباسات واعية مشدودة
إلى الذات، في علاقتها بالأشياء وبالكتابة. هذه الأخيرة التي تصبح في
النهاية، عالما مستقلا متعدد الجوانب تتجاوز فيه الذات نفسها بحثا عن
الحقيقة والعمق والجوهر. تقول رجاء الطالبي في مقطع حواري بين أم وطفلها/
طفلتها، حيث التعارض والتقاطع في الرؤية والأفكار بينهما:
- ' بغيت ماما شيتا !
- بغيت ماما الما !
- أريد حبيبي دهشتك
- أريد حبيبي اكتشافاتك
- أريد حبيبي صور العالم تهطل أمام عينيك تدهشك، تستل صرختك
- صه! طفلي
- صمتا طفلتي! الأفكار، الأحلام، الرؤى في رأسي مدوية، بروقها تهطل على
رأسي صواعق، بروقها منفلتة، أريد صمتكم، أحتاج صمتي الكلي، تطلبه البروق
الهاطلة على رأسي، صمتي قراءتي، صمتي إنصاتي، صمتي صفحة شفافيتي الناصعة.'
(ص58).
وكما تحضر الأسطورة، برموزها ودلالاتها المتعددة (طائر الفينيق،
وعيون ميدوزا، وغيرهما مثلا)، تحضر الطبيعة والجسد أيضا، بمكوناتهما
المختلفة، الثابتة والمتحركة، لتأثيث مشاهد الحكي وتدعيم فضاء البوح
القصصي، في انسياب تام يتماهى فيه الوصف والسرد ولا ينفصلان. تقول: 'خرجت
من بعض المدن وفي حلقي غصة الفراق وفي قلبي أشواك الوحشة منغرسة.. مدمى
حتى النبض لا يمكن إلا أن أكون.. أنا الذي أشرعت خزائن أعصابي وشموس قلبي
لها.. لقيتها بالاندهاش وفارقتها بكثير من الحسرة والالتياع. ولأنني أكره
أن أنهك خفق ولوعي فقد غادرت وشموسها في النبض لا تزال متوهجة للتو رمتني
سماؤها ببعض ندى الطل فابتهجت لهطوله زهور شراييني. أدمنتها أعماقي كما
أدمنت حبيباتي تلك اللواتي هجرتهن خوفا من أن ينطفئ سحرهن المشتعل كالحريق
في أحشائي.' (ص11-).
وهكذا، بما تمنحه اللغة من أدوات ووحدات تشكيلية
تروم التعبير عن الأفكار والخواطر والهواجس وغيرها، تنظم الكاتبة فقرات
نصوصها، تارة بـ'العناوين الفرعية'، داخل المتن، وتارة بتنويع 'الضمائر
الساردة' فيها (متكلم، مخاطب، غائب) وتارة أخرى بتوظيف عناصر 'التكرار'،
سواء تعلق الأمر بتكرار الأفعال أو الأسماء أو المصادر والجمل، وباعتماد
'شواهد' من الشعر والأمثال قصد إغناء الدلالة ودعمها، بما يناسب من
الألفاظ والعبارات الموصولة بالتفكير والوجدان. أو بتكثيف بعض 'الظواهر
الصوتية' لما تضفيه من إيقاع ونغم على جمالية التركيب والأسلوب. ففي مقطع
رومانسي دال يحفل بالذاتية، تتوالى الأفعال وتتدفق الأحاسيس والمشاعر في
اتجاه لا محدود ولا نهائي، كأنه غيض من فيض أو سيل جارف، تقول الكاتبة:
'أقفز لا أهوى الفقر، أعتلي الحافلة وأتيه في شوارع الحداثة، أخاصر
الفاتنات، أصم الآذان بموسيقى صخابة، أمحي سمرتي بصباغة شقراء ومكياج وردي
يفتح لون بشرتي، أشد جسدي وأقفز فوق واقعي أحلم، يسرقني الحلم، أتيه،
أضيع، أبتعد، أنسلخ، لا أريد؛ ألتقي هذا.. يعجبني.. أجربه.. لا يروقني..
أفارقه، أرى ذاك يفتنني، تعجبني قامته الفارهة، وجهه الأنيق القسمات..
سيارته.. رصيده.. نلتقي، أستنفذه، يستنفذني، نفارق.. يبحث عن غيري.. أبحث
عن غيره..' (ص39).
إنها لغة مسكونة بالشاعرية، يجنح خلالها الخيال
ويحطم الحدود رافضا الانصياع للتقليد والمثال. فثمة فقرات بكاملها تمتد
على أكثر من أحد عشر سطرا دون أن تجود الكاتبة بعلامة ترقيم (نقطة، فاصلة،
أو غيرهما) بين كلماتها أو جملها. فالكلام ينساب تلقائيا متخطيا حواجز
الفواصل والتنظيم والترتيب. (انظر مثلا فقرات من قصة 'جنائن النار'
ص43-44) .
وانطلاقا مما سبق، تأبى نصوص 'عين هاجر' الامتثال للتجنيس
والتصنيف، أو الانقياد لعرف الكتابة. فهي نصـــــوص بين القصة والشعر
والخاطرة والسيرة واليومــية، بين الفلســـفة والتأمل والتصوف.
نصـــوص
تركب إيقاع 'العبارة' كي تبلغ عالم 'الرؤيا'؛ غير أن هذا العالم المنشود
المشتهى لا يُبلغ أبدا. لذلك تظل الألفاظ والكلمات والصور، داخل هذه
المجموعة وفي تصور الكاتبة، عينا سحرية ليس إلا، من خلالها ترى الذات
الكاتبة دواخلها وسواكنها بلا حجب أو أقنعة، كما ترى أسرار العالم وما
خلفه، بآماله وأحلامه، بصمته وضجيجه.
3ـ تـركـيـب خـتـامـي
هكذا،
تكون الكاتبة قد راهنت على فعل الكتابة ذاته، كأفق للتخييل وملامسة مادية
لسحر النص وشعرية اللغة والأسلوب. وما استدعاء الحلم والجنون والبحث
والمغامرة واقتفاء أثر الموت والصمت والانكسار والانتظار، سوى حفر لا
نهائي في الذاكرة والوجود، وانشداد إنساني ووجداني إلى جوهر الأشياء،
وتطلع دائم إلى ضوء الآتي والمستقبل.
وبهذه المجموعة، تكون الكاتبة رجاء الطالبي قد أعطت صورة جديدة عن القصة القصيرة، في بعديها الموضوعاتي والانزياحي.
قصة
قابلة لأن تكون مجالا للتطوير والإضافة والتحـوير، ومحطة إبداعية ترسو
عندها أفكار الكاتب وتصوراته وتخيلاته، دون أن يتم الاستغناء، بشكل من
الأشكال، عن جانب اللغة مهما ضاقت أو قصرت، هذه اللغة، عن إدراك الرؤيا
والخيال المتصل بالدواخل وبالعوالم البعيدة واللامرئية.
شاعر وناقد أدبي من المغرب
د. أحـمـد زنـيـبـر
متفاوتة، أن تحقق رواجا وانتشارا على مستوى التلقي والتداول، وذلك بالنظر
للإصدارات التي توالت فأغنت الخزانة الثقافية. ولعل تنوع العناوين القصصية
وتعدد أسماء كتابها واختلاف أساليبهم ورؤاهم الفنية، هو ما دفع النقد
الأدبي، للنظر والتأمل في هذه الأعمال ومحاورة أصحابها وفق آليات وشروط
قرائية مختلفة.
وتعد الكاتبة رجاء الطالبي من الأسماء القصصية، التي
أوجدت لنفسها موقعا متميزا، في خريطة الإبداع المغربي، من خلال مجموعتيها
القصصيتين 'شموس الهاوية' و'عين هاجر' . وهما تجربتان تنمان عن جهد إبداعي
واضح ومهارة تعبيرية، في التعامل مع الموضوعات واللغة. هما تجربتان
تتلاحمان وتتوحدان، تصورا وبناء. ويهمنا هنا أن نخص بالقراءة والتحليل،
مجموعتها الثانية 'عين هاجر'.
فماذا عن هذه المجموعة القصصية؟ وماذا
عن عوالمها الحكائية؟ وكيف تبدت رؤى الكاتبة عبر أداة اللغة، كوسيلة
للتعبير؟ وبالتالي، ما الجديد الإبداعي الذي تراهن عليه الكاتبة فنيا،
موازاة مع مجموعتها الأولى؟
تضم المجموعة 'عين هاجر' ثماني قصص
متفاوتة، من حيث الطول والقصر ومتفاوتة أيضا، من حيث طبيعة الموضوعات
المقترحة. قصص اختارت لها الكاتبة عناوين موغلة في الاستعارة ومشبعة
بالإيحاء والرمزية، وهي: من يوميات عاشق أبيقوري، حبة كرز، موت بشفاه لا
مرئية، هاي! شيري!، جنائن النار، ذئبة الجحيم، نزيف الشفافية، حديقة
أبيقور. وقد قدم لهذه المجموعة الناقد حسن المودن، واضعا المتلقي أمام
مسارات الكاتبة المتعددة، وراصدا بعض أهم الملامح الفنية، التي تقوم عليها
هذه التجربة الجديدة. يقول: 'وتأتي نصوص رجاء الطالبي في سياق أدبي يركب
التجريب، لكننا نفترض أنها تذهب أبعد من التجريب الذي يستلذ بتدمير
الكتابة وهلاك المعنى مكتفيا بجمال اللغة وبلاغته. فهي نصوص تستعيد الهوية
الأصلية للكتابة، وتعيد طرح الأسئلة القديمة قدم الإنسان: ما الإنسان؟ ما
الوجود؟ ما الحياة؟ ما العالم؟ لكن السؤال في نصوصها يطرح بقوة الحياة
والحب والأمل، فتتحول الكتابة إلى 'هاته الشهوة العارمة'، 'شهوة العالم'،
الشهوة التي تتغذى من اللعب والطفولة والفوضى من أجل بناء معنى جديد
للعالم والحياة والإنسان' (ص6).
1ـ في الموضوعات
تتنوع
الموضوعات المقترحة، داخل المجموعة، تبعا لنوعية الاشتغال الإبداعي، الذي
تروم إليه الكاتبة وتعمل في سياقه. ولعل موضوعات الطفولة والحلم والحب
والمواجهة والزمن والمكان وكل القيم النبيلة من بين موضوعات عدة، شكلت
عالما حكائيا لـُفّ بغير قليل من التأمل والنظر والإنصات لنبض الذات
والواقع.
وهكذا تغنت الطالبي بكل قيم الحرية والاختلاف وبكل ما يمنح
الإنسان شهوة الحياة وطلب الانعتاق. تقول: 'أحب أن أستنزف الحياة حتى آخر
رمق.. أقبل عليها كالذي سوف يموت في اللحظة الآتية. منذ ولدت وإحساسي
بالموت يلاحقني لا يفارقني.. سأموت الآن، هذه الفكرة تملؤني بالمرارة
لاستحالة تمكني من التمتع بجمال الحياة لاحقا، الموت مجهول حالك ينتظرني
يسلبني لذة أن أحيا، أن أكون بما أعشق.. ذلك المجهول المعالم الذي ينتظرني
بمجرد أن تستدل ستائر العيش ونأمر بالتحليق في مطلق هاته الظلمات الرهيبة'
(ص16).
ولأن الحياة كانت جزءا من ارتباط الإنسان بالأرض وصورة بديعة
لالتحام الذات بالمكان؛ فإن عودة الإنسان إلى الأرض تصبح، بمعنى من
المعاني، عودة للرحم البدائية، حيث الموت ولادة جديدة وحياة متجددة. تقول
الكاتبة على لسان ساردتها: 'ها أنت في محرابك الغابوي ملفعة في الصمت
وجسدك السلطاني يطفو فوق مياه الحلم الخضراء، في استراحتك الأبدية تلك
تطلين على تحولك الخرافي البديع، تتجمع الأرض حول أطراف السفلية وتنشق
أظافر قدميك عن جذور تنغرس في الأرض تذهب بعيدا قلب التربة سكرى بهاته
الرطوبة الندية التي تلفحها بها العتمات يتحول جسدك إلى لحاء شجرة ودمك
إلى عصارة نباتية تمتدين شجرة دلب عظيمة تحضنين بوريفك الأموسي طفولة
العالم.' (ص47).
في هذا السياق التخيلي، الذي يمتح من مرجعيات ثقافية
وفكرية عديدة، تمضي رجاء الطالبي في تمرير جملة من القناعات والتأملات
والتصورات حول العالم. تعلن، من خلالها عن دور الحياة في إضاءة الروح
والإحساس والمشاعر الدفينة للإنسان، إلى حد أن الزمن والموت، رغم
جبروتهما، لا يستطيعان النيل من اشتعال الرغبة واشتهاء المجهول. تقول: 'هي
لا تعترف بصنيع الزمن؛ ما تؤمن به هو هاته القوة الداخلية النهرية القادرة
على جرف كل تجاعيد الباطن، أثقاله وآلامه. تستطيع أن تنهض من رمادها
وتتجدد؛ يسعفها دمها الملكي الذي لا يزداد مع مرور الأعوام إلا عنفوانا
وقوة وتحديا. دمها المتسلطن، عربداته، شطحاته، لهبه، تسجره احتراقه،
حريقه، لا تعترف إلا بسلطان هذا الدم، يشتعل فتشتعل في الرأس الرغبة في
احتضان المستقبل، تشتعل الرغبة في احتضان هذا الأمام الذي يهزم الموت.
وحدها شهوة الحياة سيدة، تكتسح الكيان فيمتلئ باشتهاء المجهول، اشتهاء
لذيذ وجوداته وحيواته' (ص52).
ولم تكن هذه التأملات الفكرية والفلسفية،
في المجموعة، مجرد أفكار عابرة أو مفاهيم جاهزة؛ وإنما حركها هاجس
الاختلاف والمغايرة والمغامرة، الروحية والجسدية معا، حيث تماهت الذات
القصصية بالموضوع عبر لغة شاعرية مفتوحة على كل الرؤى والاحتمالات. ومن
ثمة، اقتضى الأمر ملامسة بعض القضايا الحميمة كالأمومة والطفولة وعلاقات
الرجل والمرأة وما اتصل بمشاعر الرغبة واللذة. تقول الكاتبة على لسان
ساردتها، في هذا الإطار: 'أنت لا تلتذ فقط بالمضاجعة، بالأكل، بالشرب
والتمتع بكل ما هو مادي، أرضي. حقا هذه اللذة أيضا تمتلك جمالها وفتنتها،
تمتلك سحرها ونشواتها، لكن أيضا هناك اللذة التي مبعثها ما لا يرى وما لا
يلمس، لذة مجردة خالصة من كل ما هو مادي اللهم فقط تلك النشوة المشتعلة في
الدم في الرأس، في العروق، في الأعضاء وكامل الجسد' (ص69(.
لهذا كله،
تصبح المجموعة عالما فريدا من الوقائع والمشاهد، الواقعية منها والمفترضة،
على حد سواء، وعالما فسيحا من القناعات والرؤى والمبادئ، تعمد الكاتبة إلى
ترويجها والدفاع عنها، بسلطة الفكر واللغة. وهما عالمان يشدان القارئ إلى
ما في المجموعة من جرأة في الطرح وحضور للوعي الثقافي والجمالي، لدى
الكاتبة لحظة الإبداع. ولا شك أن طبيعة اللغة التي وظفتها الطالبي، في
تحرير قصصها وتبرير مواقفها، كانت وراء العديد من الانزياحات الفنية
والدلالية، التي أعطت لعالم القصة بعدا تجريبيا يفيض بالجمال والسؤال،
ويمضي في محاورة النص الجديد، كخطاب وكتابة، قصد استشراف عوالمه وآفاقه
المنفتحة على المستقبل والفضاءات اللامحدودة.
2ـ في اللغة والأسلوب
يزخر
الفضاء القصصي لمجموعة 'عين هاجر' بالعديد من الإمدادات اللغوية الكثيرة،
التي رافقت تصور الكاتبة، حيث تم استعمال صور ومعاني متباينة ذات إحالات
مستقاة من الفلسفة والتاريخ والتصوف والأدب والفن. إحالات خصبة متناسلة
قلبتها الكاتبة ذات اليمين وذات الشمال، لتقول الصمت الساكن في الأعماق،
دون تمييز في الكتابة بين رجل وامرأة. وهي إحالات واقتباسات واعية مشدودة
إلى الذات، في علاقتها بالأشياء وبالكتابة. هذه الأخيرة التي تصبح في
النهاية، عالما مستقلا متعدد الجوانب تتجاوز فيه الذات نفسها بحثا عن
الحقيقة والعمق والجوهر. تقول رجاء الطالبي في مقطع حواري بين أم وطفلها/
طفلتها، حيث التعارض والتقاطع في الرؤية والأفكار بينهما:
- ' بغيت ماما شيتا !
- بغيت ماما الما !
- أريد حبيبي دهشتك
- أريد حبيبي اكتشافاتك
- أريد حبيبي صور العالم تهطل أمام عينيك تدهشك، تستل صرختك
- صه! طفلي
- صمتا طفلتي! الأفكار، الأحلام، الرؤى في رأسي مدوية، بروقها تهطل على
رأسي صواعق، بروقها منفلتة، أريد صمتكم، أحتاج صمتي الكلي، تطلبه البروق
الهاطلة على رأسي، صمتي قراءتي، صمتي إنصاتي، صمتي صفحة شفافيتي الناصعة.'
(ص58).
وكما تحضر الأسطورة، برموزها ودلالاتها المتعددة (طائر الفينيق،
وعيون ميدوزا، وغيرهما مثلا)، تحضر الطبيعة والجسد أيضا، بمكوناتهما
المختلفة، الثابتة والمتحركة، لتأثيث مشاهد الحكي وتدعيم فضاء البوح
القصصي، في انسياب تام يتماهى فيه الوصف والسرد ولا ينفصلان. تقول: 'خرجت
من بعض المدن وفي حلقي غصة الفراق وفي قلبي أشواك الوحشة منغرسة.. مدمى
حتى النبض لا يمكن إلا أن أكون.. أنا الذي أشرعت خزائن أعصابي وشموس قلبي
لها.. لقيتها بالاندهاش وفارقتها بكثير من الحسرة والالتياع. ولأنني أكره
أن أنهك خفق ولوعي فقد غادرت وشموسها في النبض لا تزال متوهجة للتو رمتني
سماؤها ببعض ندى الطل فابتهجت لهطوله زهور شراييني. أدمنتها أعماقي كما
أدمنت حبيباتي تلك اللواتي هجرتهن خوفا من أن ينطفئ سحرهن المشتعل كالحريق
في أحشائي.' (ص11-).
وهكذا، بما تمنحه اللغة من أدوات ووحدات تشكيلية
تروم التعبير عن الأفكار والخواطر والهواجس وغيرها، تنظم الكاتبة فقرات
نصوصها، تارة بـ'العناوين الفرعية'، داخل المتن، وتارة بتنويع 'الضمائر
الساردة' فيها (متكلم، مخاطب، غائب) وتارة أخرى بتوظيف عناصر 'التكرار'،
سواء تعلق الأمر بتكرار الأفعال أو الأسماء أو المصادر والجمل، وباعتماد
'شواهد' من الشعر والأمثال قصد إغناء الدلالة ودعمها، بما يناسب من
الألفاظ والعبارات الموصولة بالتفكير والوجدان. أو بتكثيف بعض 'الظواهر
الصوتية' لما تضفيه من إيقاع ونغم على جمالية التركيب والأسلوب. ففي مقطع
رومانسي دال يحفل بالذاتية، تتوالى الأفعال وتتدفق الأحاسيس والمشاعر في
اتجاه لا محدود ولا نهائي، كأنه غيض من فيض أو سيل جارف، تقول الكاتبة:
'أقفز لا أهوى الفقر، أعتلي الحافلة وأتيه في شوارع الحداثة، أخاصر
الفاتنات، أصم الآذان بموسيقى صخابة، أمحي سمرتي بصباغة شقراء ومكياج وردي
يفتح لون بشرتي، أشد جسدي وأقفز فوق واقعي أحلم، يسرقني الحلم، أتيه،
أضيع، أبتعد، أنسلخ، لا أريد؛ ألتقي هذا.. يعجبني.. أجربه.. لا يروقني..
أفارقه، أرى ذاك يفتنني، تعجبني قامته الفارهة، وجهه الأنيق القسمات..
سيارته.. رصيده.. نلتقي، أستنفذه، يستنفذني، نفارق.. يبحث عن غيري.. أبحث
عن غيره..' (ص39).
إنها لغة مسكونة بالشاعرية، يجنح خلالها الخيال
ويحطم الحدود رافضا الانصياع للتقليد والمثال. فثمة فقرات بكاملها تمتد
على أكثر من أحد عشر سطرا دون أن تجود الكاتبة بعلامة ترقيم (نقطة، فاصلة،
أو غيرهما) بين كلماتها أو جملها. فالكلام ينساب تلقائيا متخطيا حواجز
الفواصل والتنظيم والترتيب. (انظر مثلا فقرات من قصة 'جنائن النار'
ص43-44) .
وانطلاقا مما سبق، تأبى نصوص 'عين هاجر' الامتثال للتجنيس
والتصنيف، أو الانقياد لعرف الكتابة. فهي نصـــــوص بين القصة والشعر
والخاطرة والسيرة واليومــية، بين الفلســـفة والتأمل والتصوف.
نصـــوص
تركب إيقاع 'العبارة' كي تبلغ عالم 'الرؤيا'؛ غير أن هذا العالم المنشود
المشتهى لا يُبلغ أبدا. لذلك تظل الألفاظ والكلمات والصور، داخل هذه
المجموعة وفي تصور الكاتبة، عينا سحرية ليس إلا، من خلالها ترى الذات
الكاتبة دواخلها وسواكنها بلا حجب أو أقنعة، كما ترى أسرار العالم وما
خلفه، بآماله وأحلامه، بصمته وضجيجه.
3ـ تـركـيـب خـتـامـي
هكذا،
تكون الكاتبة قد راهنت على فعل الكتابة ذاته، كأفق للتخييل وملامسة مادية
لسحر النص وشعرية اللغة والأسلوب. وما استدعاء الحلم والجنون والبحث
والمغامرة واقتفاء أثر الموت والصمت والانكسار والانتظار، سوى حفر لا
نهائي في الذاكرة والوجود، وانشداد إنساني ووجداني إلى جوهر الأشياء،
وتطلع دائم إلى ضوء الآتي والمستقبل.
وبهذه المجموعة، تكون الكاتبة رجاء الطالبي قد أعطت صورة جديدة عن القصة القصيرة، في بعديها الموضوعاتي والانزياحي.
قصة
قابلة لأن تكون مجالا للتطوير والإضافة والتحـوير، ومحطة إبداعية ترسو
عندها أفكار الكاتب وتصوراته وتخيلاته، دون أن يتم الاستغناء، بشكل من
الأشكال، عن جانب اللغة مهما ضاقت أو قصرت، هذه اللغة، عن إدراك الرؤيا
والخيال المتصل بالدواخل وبالعوالم البعيدة واللامرئية.
شاعر وناقد أدبي من المغرب
د. أحـمـد زنـيـبـر
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
مواضيع مماثلة
» أمثال في مجموعة قصصية ثانية..
» الشاعر محمد السرغيني /الملحق الثقافي-الاتحاد الاشتراكي
» أحمد بوزفور.. جدلية النقد والإبداع/حسن مخافي
» عبد العالي الطالبي
» هاجر عدنان
» الشاعر محمد السرغيني /الملحق الثقافي-الاتحاد الاشتراكي
» أحمد بوزفور.. جدلية النقد والإبداع/حسن مخافي
» عبد العالي الطالبي
» هاجر عدنان
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى