الوعي الديني ... قراءة في إشكالية المصطلح/مسفر بن علي القحطاني
صفحة 1 من اصل 1
الوعي الديني ... قراءة في إشكالية المصطلح/مسفر بن علي القحطاني
برز الحديث عن الوعي الديني في الخطاب التجديدي الذي حمله عدد من المشاريع
الإصلاحية المعاصرة بدءاً من مشروع الإمام محمد بن عبد الوهاب ورفاعة
الطهطاوي ومحمد عبده واختتاماً بالمحاولات الراهنة التي سعى عدد من
الباحثين كالجابري وأركون والطيب تيزيني لتفسير العلاقة الدينية بالنهضة
وتحليل مفاهيمها وإسقاطها على الواقع المعاصر.
وقد كان الوعي ومراجعاته
أبرز بنود الأجندة الإصلاحية التي حملها كل فريق، القدماء والمحدثين.
ولعلي أتناول المقاربات الفكرية بين الوعي الديني والنهضة الحديثة التي
حاول بعض الباحثين تقمص المناهج العلمية الغربية، إما في التقريب أو
التفكيك أو التهميش، فالمفكر المغربي محمد عابد الجابري قدم مشروعه في
إظهار القيم المعرفية في التراث من خلال «نقد العقل العربي» متناولاً
البنية التراثية في أنظمةٍ ثلاثة هي: النظام البياني، والبرهاني،
والعرفاني، ومؤسساً مقاربته على أبحاث الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو. وفي
منحى أخر طرح المفكر الجزائري محمد أركون مشروعه التفكيكي في «نقد العقل
الإسلامي» من أفكار جاك دريدا, وهي قراءة علمانية لإشكاليات الثقافة
الإسلامية. واعتقد أن علاقة الجابري و أركون بمفكري «مابعد الحداثة» من
قبيل التوافق على فصل الثراث عن هويته الذاتية واتصاله التاريخي.
أما
الطيب تيزيني وحسين مروة فقد كان المنحى التهميشي للدور النهضوي في الفكر
الإسلامي منطلقا من المرجعية الماركسية التي يؤسسان عليها فلسفتهما
المادية الجدلية. مع عدم إغفال عدد من المساهمات الأخرى مثل مقاربات، زكي
نجيب محمود، وبرهان غليون، وطه عبدالرحمن وغيرهم.
هذه المشاريع
والتحولات هي في غالبيتها عودة نحو الوعي ودلالاته في النظر إلى الدين
الإسلامي، ولكن من خلال رؤى مختلفة ومناظير مستوردة. أعتقد أن قطب الرحى
هو في محاولة فهمٍ أعمق للدلالات الشرعية لأحكام الدين وارتباطها بالحياة
من خلال فلسفة الوعي الغربية ومناهجها العقلانية الحديثة.
والحقيقة أن
الدخول في الوعي حتى من بابه المصطلحي الفلسفي عند الغربيين أنفسهم، يعني
الوقوع في متاهه لا نهاية لها، ولا زالت حالة الوعي كمصطلح تعني التماهي
في تفاصيل هذه المتاهه العقلية.
إنه اللغز المحير والمتبادر أيضاً إلى
كل ذهن، يقول القديس أوغسطين: «عندما لا يطرح المرء السؤال: (ما هو
الزمان)؟ فإنه يعرف ما عساه أن يكون الزمان، ولكنه إذا طرح السؤال فإنه لا
يعرف عن الزمان شيئاً»، فالوعي من حيث الاستعمال لا إشكال في توافق
الأذهان على المراد العام منه، ولكن عند تحليل معناه وتوضيح مبناه
المصطلحي فإن فضاءً واسعاً من النجوم البعيدة تراه أمامك في حيرةٍ وذهول.
ففي
هذا القرن طُرحت أسئلة حول الوعي وماهيته، ليس من الفلاسفة فحسب بل من
علماء النفس والأعصاب والإدراك وحتى من بعض الفيزيائيين، كلها تدل على
وجود لغز محير في ظلام دامس.
يقول دانيال دينيت في تفسير هذا المصطلح
من الناحية المادية: «إن الوعي الإنساني هو تقريباً اللغز الأخير المتبقي»
ثم يكمل بعدما سرد بعض الألغاز الكونية والطبيعية: «ومع ذلك فإننا لا نزال
مع الوعي في لبس شديد، فالوعي يقف اليوم بمفرده باعتباره الموضوع الذي
يترك حتى المفكرين العظام وقد عقدت ألسنتهم وأخذتهم الحيرة من كل جانب».
وبالتالي
خرجت مناهج واتجاهات تحليلية للتعامل مع لغز الوعي أو ما يسميه الفلاسفة
«الفجوة التفسيرية»، وأغلب فلاسفة هذه الاتجاهات هم من الغربيين، فأصحاب
النزعة الاستبعادية ينكرون وجوده بوصفه ظاهرة حقيقية، وأصحاب التصور
الإعجازي ينظرون إلى الوعي على أنه لغز وسر يتجاوز الطبيعة، وهناك اتجاه
يسمى نزعة صاحب اللغز الجديدة ويرون أن الوعي ظاهرة طبيعية ولكن تفسيرها
النظري مستحيل، وهناك أصحاب المذهب الطبيعي والذين يعتبرون الوعي ظاهرة
حقيقية ويمكن تفسيرها في حدود طبيعية. فهذا الإتجاه الأخير هو ما اختاره
عدد من الفلاسفة المعاصرين مثل: تشيرشلاند ودنييت وفلاناجان وجون سيرل،
ولعل الأخير أكثر من كتب في هذا الموضوع الذي أزال اللثام عن حقيقته في
مؤلفات، قام بدراستها الدكتور صلاح إسماعيل في كتابه «فلسفة العقل».
نلحظ
مما مضى أن هناك ملامح نظرية علمية للوعي متروكة لمستقبل التطور البحثي في
علوم النفس والعقل والأعصاب يتنبأ بها عدد من الفلاسفة المعاصرين. وهذا
يفتح الباب للسؤال المعتاد في دور المفكرين والمثقفين المسلمين من هذا
التنادي المعرفي لاكتشاف الوعي؟. وأعتقد أن الوعي الإسلامي لا يعاني من
مشكلة إثبات الوجود، فهو حاضر في المكوّنات الرئيسة للدين من نصوص القرآن
والسنة الواضحة في دلالاتها و ثبوتها، ولكن المشكلة المركبة لدينا هي في
اكتشاف نظرية الوعي في بطون هذا الإرث العظيم، فغيابها أو تغيبيها ناتج من
انحرافات الجهل والأهواء التي تلبست بها الأمة في عصورها المتأخرة، بحسب
رأي الإمام الشاطبي في دوافع الفرقة والانحراف في تاريخ الأمة.
ويمكن
تقريب جهاز النظر في أهم ملامح الوعي الديني لدى المسلمين، من خلال
القضايا الأربع التالية: (الفهم البياني) الصحيح لدلالات النصوص على
معانيها، و(التأصيل الاستدلالي) المعرِّف بأحكام النوازل الجديدة وفق
قواعد التنزيل المحكم، و(الشهود الاستخلافي) القائم بواجب عمارة الدنيا
ونهضة معاش الناس، و (التلازم المقاصدي) بجمع النصوص لتتوافق مع حقائق
المقاصد الكلية للشريعة وتحقق المنافع من عبودية الخلق لله تعالى. فهذه
الملامح الأربعة هي أشبه بمقاربة اجتهادية، لعلها تفتح الباب لرصد الجوانب
العليّة من نظرية الوعي الديني في الشريعة الإسلامية.
الحياة - 29/11/08//
الإصلاحية المعاصرة بدءاً من مشروع الإمام محمد بن عبد الوهاب ورفاعة
الطهطاوي ومحمد عبده واختتاماً بالمحاولات الراهنة التي سعى عدد من
الباحثين كالجابري وأركون والطيب تيزيني لتفسير العلاقة الدينية بالنهضة
وتحليل مفاهيمها وإسقاطها على الواقع المعاصر.
وقد كان الوعي ومراجعاته
أبرز بنود الأجندة الإصلاحية التي حملها كل فريق، القدماء والمحدثين.
ولعلي أتناول المقاربات الفكرية بين الوعي الديني والنهضة الحديثة التي
حاول بعض الباحثين تقمص المناهج العلمية الغربية، إما في التقريب أو
التفكيك أو التهميش، فالمفكر المغربي محمد عابد الجابري قدم مشروعه في
إظهار القيم المعرفية في التراث من خلال «نقد العقل العربي» متناولاً
البنية التراثية في أنظمةٍ ثلاثة هي: النظام البياني، والبرهاني،
والعرفاني، ومؤسساً مقاربته على أبحاث الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو. وفي
منحى أخر طرح المفكر الجزائري محمد أركون مشروعه التفكيكي في «نقد العقل
الإسلامي» من أفكار جاك دريدا, وهي قراءة علمانية لإشكاليات الثقافة
الإسلامية. واعتقد أن علاقة الجابري و أركون بمفكري «مابعد الحداثة» من
قبيل التوافق على فصل الثراث عن هويته الذاتية واتصاله التاريخي.
أما
الطيب تيزيني وحسين مروة فقد كان المنحى التهميشي للدور النهضوي في الفكر
الإسلامي منطلقا من المرجعية الماركسية التي يؤسسان عليها فلسفتهما
المادية الجدلية. مع عدم إغفال عدد من المساهمات الأخرى مثل مقاربات، زكي
نجيب محمود، وبرهان غليون، وطه عبدالرحمن وغيرهم.
هذه المشاريع
والتحولات هي في غالبيتها عودة نحو الوعي ودلالاته في النظر إلى الدين
الإسلامي، ولكن من خلال رؤى مختلفة ومناظير مستوردة. أعتقد أن قطب الرحى
هو في محاولة فهمٍ أعمق للدلالات الشرعية لأحكام الدين وارتباطها بالحياة
من خلال فلسفة الوعي الغربية ومناهجها العقلانية الحديثة.
والحقيقة أن
الدخول في الوعي حتى من بابه المصطلحي الفلسفي عند الغربيين أنفسهم، يعني
الوقوع في متاهه لا نهاية لها، ولا زالت حالة الوعي كمصطلح تعني التماهي
في تفاصيل هذه المتاهه العقلية.
إنه اللغز المحير والمتبادر أيضاً إلى
كل ذهن، يقول القديس أوغسطين: «عندما لا يطرح المرء السؤال: (ما هو
الزمان)؟ فإنه يعرف ما عساه أن يكون الزمان، ولكنه إذا طرح السؤال فإنه لا
يعرف عن الزمان شيئاً»، فالوعي من حيث الاستعمال لا إشكال في توافق
الأذهان على المراد العام منه، ولكن عند تحليل معناه وتوضيح مبناه
المصطلحي فإن فضاءً واسعاً من النجوم البعيدة تراه أمامك في حيرةٍ وذهول.
ففي
هذا القرن طُرحت أسئلة حول الوعي وماهيته، ليس من الفلاسفة فحسب بل من
علماء النفس والأعصاب والإدراك وحتى من بعض الفيزيائيين، كلها تدل على
وجود لغز محير في ظلام دامس.
يقول دانيال دينيت في تفسير هذا المصطلح
من الناحية المادية: «إن الوعي الإنساني هو تقريباً اللغز الأخير المتبقي»
ثم يكمل بعدما سرد بعض الألغاز الكونية والطبيعية: «ومع ذلك فإننا لا نزال
مع الوعي في لبس شديد، فالوعي يقف اليوم بمفرده باعتباره الموضوع الذي
يترك حتى المفكرين العظام وقد عقدت ألسنتهم وأخذتهم الحيرة من كل جانب».
وبالتالي
خرجت مناهج واتجاهات تحليلية للتعامل مع لغز الوعي أو ما يسميه الفلاسفة
«الفجوة التفسيرية»، وأغلب فلاسفة هذه الاتجاهات هم من الغربيين، فأصحاب
النزعة الاستبعادية ينكرون وجوده بوصفه ظاهرة حقيقية، وأصحاب التصور
الإعجازي ينظرون إلى الوعي على أنه لغز وسر يتجاوز الطبيعة، وهناك اتجاه
يسمى نزعة صاحب اللغز الجديدة ويرون أن الوعي ظاهرة طبيعية ولكن تفسيرها
النظري مستحيل، وهناك أصحاب المذهب الطبيعي والذين يعتبرون الوعي ظاهرة
حقيقية ويمكن تفسيرها في حدود طبيعية. فهذا الإتجاه الأخير هو ما اختاره
عدد من الفلاسفة المعاصرين مثل: تشيرشلاند ودنييت وفلاناجان وجون سيرل،
ولعل الأخير أكثر من كتب في هذا الموضوع الذي أزال اللثام عن حقيقته في
مؤلفات، قام بدراستها الدكتور صلاح إسماعيل في كتابه «فلسفة العقل».
نلحظ
مما مضى أن هناك ملامح نظرية علمية للوعي متروكة لمستقبل التطور البحثي في
علوم النفس والعقل والأعصاب يتنبأ بها عدد من الفلاسفة المعاصرين. وهذا
يفتح الباب للسؤال المعتاد في دور المفكرين والمثقفين المسلمين من هذا
التنادي المعرفي لاكتشاف الوعي؟. وأعتقد أن الوعي الإسلامي لا يعاني من
مشكلة إثبات الوجود، فهو حاضر في المكوّنات الرئيسة للدين من نصوص القرآن
والسنة الواضحة في دلالاتها و ثبوتها، ولكن المشكلة المركبة لدينا هي في
اكتشاف نظرية الوعي في بطون هذا الإرث العظيم، فغيابها أو تغيبيها ناتج من
انحرافات الجهل والأهواء التي تلبست بها الأمة في عصورها المتأخرة، بحسب
رأي الإمام الشاطبي في دوافع الفرقة والانحراف في تاريخ الأمة.
ويمكن
تقريب جهاز النظر في أهم ملامح الوعي الديني لدى المسلمين، من خلال
القضايا الأربع التالية: (الفهم البياني) الصحيح لدلالات النصوص على
معانيها، و(التأصيل الاستدلالي) المعرِّف بأحكام النوازل الجديدة وفق
قواعد التنزيل المحكم، و(الشهود الاستخلافي) القائم بواجب عمارة الدنيا
ونهضة معاش الناس، و (التلازم المقاصدي) بجمع النصوص لتتوافق مع حقائق
المقاصد الكلية للشريعة وتحقق المنافع من عبودية الخلق لله تعالى. فهذه
الملامح الأربعة هي أشبه بمقاربة اجتهادية، لعلها تفتح الباب لرصد الجوانب
العليّة من نظرية الوعي الديني في الشريعة الإسلامية.
الحياة - 29/11/08//
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى