سؤال الهوية المتأخر: جمال الدين الأفغاني .. سنّي أم شيعي؟
صفحة 1 من اصل 1
سؤال الهوية المتأخر: جمال الدين الأفغاني .. سنّي أم شيعي؟
سؤال تشخيصي تصادمي ومتأخر، هذا الذي يمكن أن يُقذف في بركة الأسئلة الراكدة ليعكر صفوها أسوة بعكارة بحر الأسئلة المتلاطمة حولها.
سؤال سيجيب عنه الاقصائيون من الطرفين، بصرامة وجزم: بأن الأفغاني لم يكن سنياً ولا شيعياً، لأنه ببساطة علماني ماسوني غنوصي!
لكن أليس من العجب أن لم يبحث متعصبو السنة عن الجذور الشيعية لجمال الدين الأفغاني ليحطموا أسطورة القائد الإصلاحي في الذهنية السنية من العالم العربي، ويكفوا أنفسهم عناء البحث عن تهم أخرى عائمة.. قد تثبت ولا تثبت.
والأعجب أن لم يشهر متعصبو الشيعة مثالب البيئة السنية التي ترعرعت فيها منهجية التفكير عند الأفغاني، حتى يخففوا من الاندفاع الشيعي الراهن لإثبات شيعيته.
مناوشات تجري الآن بين معاهد ومؤسسات شيعية وأخرى سنية، كلّ منها يدّعي أن جمال الدين الأفغاني ينتمي لمذهبه. لكن القارئ والمطّلع على فكر وسيرة الأفغاني لا يمكنه الحكم إن كان الرجل شيعياً أو سنياً.
كيف أمكن لذاك الرجل أن يهرب من صنارة التصنيف؟
* *
ولد جمال الدين الأفغاني عام 1838 لأسرة أفغانية عريقة ونشأ في مدينة كابل، وأتقن في بداية تعليمه اللغتين العربية والفارسية، ودرس القرآن الكريم والعلوم الإسلامية. ثم في الهند درس العلوم العصرية. ثم في الاستانة بدأ يشهر مبادئه الإصلاحية. وفي مصر أعلن صراحة عن ضرورة السعي إلى توحيد العالم الإسلامي وتحرير المسلمين من هيمنة الفكر الاستعماري. ثم بدأ تضييق الإنكليز يشتد عليه فعاد إلى الهند، ومنها غادر إلى لندن ثم انتقل إلى باريس، وهناك تضامن مع الشيخ محمد عبده فأصدرا في المهجر جريدة «العروة الوثقى»، لكن بعد سنوات من الحرية في باريس جاءته دعوة شاه إيران آنذاك للقدوم إلى طهران، واحتفى به الإيرانيون، لكن ما انفك يدعو إلى أفكاره الإصلاحية الوحدوية التحررية في آن، مما جعله شخصاً غير مرغوب فيه. فغادر طهران إلى موسكو ثم بطرسبرغ. ومن طهران مرة أخرى إلى البصرة ومنها إلى لندن ثم إلى الاستانة في ضيافة السلطان عبدالحميد الثاني، حتى توفي فيها في عام 1897 عن عمر يناهز ستين عاماً.
وقد تميز الأفغاني «بقدرة خارقة على التكيف مع المحيط الاجتماعي والسياسي الذي يحل فيه، وتمثّل ذلك في تغييره ألقابه، فهو الأفغاني والحسيني والكابلي والاسطنبولي والأسد أبادي. ولم يقتصر التكيف على ألقابه، بل كان زيّه هو الآخر يتبدل حسب الظروف وتقاليد المجتمع الذي يحل فيه فمن العمائم السود والبيض والخضر إلى طربوش أزهري أو تركي وعقال وكوفية حجازية». (علي الوردي: ملامح اجتماعية من تاريخ العراق الحديث).
لكن لماذا عجز الباحثون أن يتفقوا على رأي واحد في تشيّع الأفغاني من عدمه؟ لأن السيد جمال الدين «كان ينفتح على الفكر الإسلامي بكل مشاربه ويتعامل مع المسلمين بشتى مذاهبهم الفقهية ومدارسهم العقائدية، ساعياً إلى الوحدة الإسلامية نابذاً لعناصر الفرقة والتعصب، مما أتاح له آفاقاً للتحرك باتجاه مشروعه النهضوي في مختلف الساحات الإسلامية... وفي سبيل تحقيق هذا الهدف كان يعمل على التقريب بين السنة والشيعة». (المصدر السابق).
وكان يقول إن إثارة قضية الخلافة بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) أمر يضر المسلمين في الوقت الحاضر ولا ينفعهم. ويتساءل في ذلك قائلاً: لو أن أهل السنة وافقوا الشيعة الآن على أحقية علي بالخلافة فهل يستفيد الشيعة من ذلك شيئاً؟ ولو أن الشيعة وافقوا أهل السنة على أحقية أبي بكر فهل ينتفع أهل السنة؟ ثم يهتف: «أما آن للمسلمين أن ينتبهوا من هذه الغفلة، ومن هذا الموت قبل الموت؟». (المصدر السابق).
* *
مرة أخرى: هل كان جمال الدين الأفغاني سنياً أم شيعياً؟
يصعب الجزم حتى الآن بالإجابة الصحيحة على هذا السؤال، لأن الأفغاني كان رجلاً إصلاحياً، والذي يدعو الناس إلى الإصلاح لا ينبغي أن يجعل نفسه عرضة للتصنيف، لأن التصنيف والتجزئة هما عدوا الإصلاح.
مقالة اليوم ليست عن جمال الدين الأفغاني، بل عن الصراع على الهوية.. لا صراع الهوية!
تهميش الهوية بالكلية يؤدي إلى «تجمد» الشعوب وتصعيدها يؤدي بهم إلى «الغليان»! وهي على الانسان مثل الملصق على حقيبة السفر، فمن دونه قد تضيع الحقيبة، لكن الخوف من ضياعها لا يبرر وضع ملصق أكبر من الحقيبة ذاتها أو أثمن من محتويات الحقيبة نفسها!
الأفغاني كان رجلاً عالمياً عولمياً يضع في البند الأول من برنامجه الإصلاحي نبذ التجزئة واستنبات الوحدة. كما أن الزمن في منتصف القرن التاسع عشر لم يكن زمن الالتواء على النفس وتصنيفها وتشطيرها، بل كان زمن المواجهة بين الشعوب المسلمة ضد المستعمر. ولذا لم يكن عداؤه ضد الغرب لأنه غرب، بل لأنه مستعمر.
ونحن الآن في زمن تكالبت فيه تطاحنات الفئتين: هذه التي بلا هوية وتلك التي ليس لديها سوى الهوية.
وبعد هل ستبقى مشروعية للسؤال المنبعث الآن: إن كان جمال الدين الأفغاني سنياً أم شيعياً؟
سيعجز الباحثون، المتخصصون في تصنيف الناس، عن الوصول إلى إجابة حاسمة عن هذا السؤال. لكن لحسن الحظ أن هؤلاء المتخصصين لن يتعبوا أو يملّوا، لأنهم ببساطة يزاولون «هوايتهم» المفضلة!
زياد بن عبدالله الدريس الحياة - 03/12/08//
* كاتب سعودي
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى