هل مازالَ إليُـوت مُمْكِناً..؟/صلاح بوسريف
صفحة 1 من اصل 1
هل مازالَ إليُـوت مُمْكِناً..؟/صلاح بوسريف
هل مازالَ إليُـوت مُمْكِناً..؟
إلى الصديق الشاعر نوري الجراح
[1]
لا
أنْتَمِي إلى جيلِ السياب، و عبدالصبور. و لَسْتُ، أيضاً من الجيل الذي
جاء بَعْدَهُما. هؤلاء، جميعاً، من الشُّعَراء الذين خَاضُوا تجربةَ ما
سُمِّيَ بـ « الشِّعر الحُرّ «. الزَّمَنُ، آنذاكَ، كانَ حافِلاً بكثيرٍ
من التَّوَتُّرات، ليس على صعيدِ الفكر وَحْدَهُ، بل في كُلَّ أصْعِدَةِ
الحياةِ. كَانَ الشِّعْرُ، ما زالَ أداةً لِلْمُواجَهَةِ، رغْمَ ما كَانَ
يَشُوبُهُ من انتماءٍ للِشَّكْلِ القديمِ، و ما كانَ لِلْماضِي فيه مِنْ
حُضُورٍ لَمْ تَطَلْهُ حتَّى تِلْكَ التَّحَوُّلات التي حَدَثَتْ في
بَعْضِ مُكَوِّناتِ هذا البناء، أو في زَاوِيَةِ الرُّؤْيَةِ، بما عُرِفَ
بالشِّعر الرومانسي. السيابُ، و غيرُه من جيل « الرواد «، أعني الأوائل في
مُمَارَسَةِ « الشعر الحُرّ «، كَانُوا مِنَ المُزاوِلِينَ لهذا
المُقْتَرَحِ الشِّعْرِيِّ. لا أحَدَ من هؤلاء نَقَلَ النَّصَّ، مِنْ
قَدِيمِهِ، رَأْساً، إلى تِْلكَ الحُرِّيَةِ التي بها اتَسَمَّتْ تَجربةُ
هذا الشِّعر الذي رَاهَنَتِ الشِّعْرِيَةُ العربيةُ على اخْتِرَاقَاتِهِ.
مَنْ
يَعُودُ إلى مُقْتَرَحاتِ « النهضَةِ الشِّعْرِيَةِ «، في بِداياتِ القرنِ
الماضي، سَيَلْمَسُ بِوُضُوحٍ، رِجْعَةَ الشُّعَراء إلى الشَّكْلِ القديم،
و إلى مَجَازاتِ لُغَتِهِ، و تَسْمِيَاتِها، كَشَكْلٍ من أشكالِ « الإحياء
« و الابْتعَاث، ما يعني أنَّ الماضِيَ، في هذا المُقْتَرَحِ، هو بَديلُ
الحاضِرِ، و أنَّ البُحْتُرِيَّ مازالَ يَصْلُحُ كَإنَاءٍ لِماءِ الحاضرِ.
لَمْ يَعْبَأ شَوْقِي، باعتباره مِثالاً لهذه المرحلة، بِما كَانَ
يَحْدُثُ حَوْلَهُ مِنْ انْقلاباتٍ في شَكْلِ الشِّعْرِ، و في
مَفْهُوماتِهِ التي حَدَثَتْ في أوروبا، رغم أنَّ شوقي، كان على مَرْمَى
حَجَرٍ من أوروبا، و كان على مَعْرِفَةْ بالفرنسية، فهو اكتفى بماضي الشعر
العربي، و حتى عندما، غَيَّرَ وِجْهَةَ الشكْلِ، أو سَعَى لِتَوْسيعِ هذا
الشكل من خلال تَبَنِّيهِ للمَسْرَحِ الشِّعْرِيِّ، فهو حَفَّهُ بِلِباسِ
الشَّكْلِ القديمِ. ليس مفهوم الشكل كما أعنيـه هنا، هو المظْهَر «
العمُـوديّ « للنص، بل عِمَـارَة النص، بمـا هو، في تَسْمِيَتِهِ
القديمـة، « القصيدة «. لهذه التَّسْمِيَةِ تاريخُها، و لها، أيضاً
مَآزِقُها.
ليس عَبَثاً أن يَتِمَّ، في المُمَارَسَةِ النقديةِ
القديمةِ، اخْتِزالُ كُلِّ الشِّعْرِ في « القصيدة «، كمُقْتَرَحٍ، من بين
غيره من المُقتَرَحاتِ التي كانت سائدةً آنذاكَ، وَتَمَّ حَجْبُها.
«
النهضَةُ «، بهذا المعنى، كانت استعادَةً، و لَمْ تَكُن أُفُقاً، أو ظلَّت
في تَصَوُّرِها العام، اكْتِفَاءً بما هو مَوْجُودٌ. أو كما يقُولُ أحد
الباحثين المُعاصرين؛ فالإحيائيون اسْتَسْلَمُواُ للماضي، وكانوا، فيما
أقدَمُوا عليه من اختيار، « يَجْتَرُّونَ المعاني القديمة «، و « كأنَّهُم
تَوَهَّمُوا أنّ لُغَةَ الشِّعرِ و معانِيَهُ و صُوَرَهُ، يَنْبَغِي أنْ
تُسْتَمَدَّ من القديم «.
الماضي مَرْجِعٌ، في شِعِرِيَةِ شوقي. لا
أحَدَ يَنْفِي أنَّ لِشَوْقي تَوْقيعاتُهُ الخاصَّة في ما كَتَبَهُ، لكن
الأمْرَ غَير مُرْتَبِطٍ هُنا بالمَوْهِبَةِ الفردية، بقدر ما هو ارتباطٌ
بزَمَنِ الشاعِرِ، و بزَمَن الشِّعرِ ذاتِهِ، أي بحداثته. التّوَقيعُ،
هنا، هو تَوْقيعٌ تاريخِيٌّ، و هو إضافةٌ، و ليس استِعادَةً.
تَذَكَّروا
مَعِي نَقْدَ طه حسين، لِشوقي، في كتابه « حافظ و شوقي «، رغمََ أنَّهُ
تَجاهَلَ بَقاءَ حافظَ نَفْسَهُ في نَفْسِ أرْضِ شوقي، أي في عِمارَةِ
النص ذاتِهِ؛ الشكلُ هو نَفْسُهُ، و كذلك المفهوم. كانَ نقد طه حُسين، في
بعض مفاصِلِه، سَعْياً لِتَوْكِيدِ روح العصر، و لِلُغَتِه، و
مَجَازَاتِها.
[2]
زَمَنِياً،
إليوت، كانَ مُعاصراً لشوقي. إليوت في تكوينِهِ الثقافي كان كلاسيكياً،
انْشَغَلَ هو أيضاً بالماضي، أعني بالتـراث، أي بـ « رغبته في إحياء
االتراث «، و هـو مَنْ عَمِلَ على إحيـاء تراث
الشعراء
الميتافيزيقيينَ. حتى حين التَفَتَ إلى الشعر الإنجليزي في القرن التاسع
عشر، فهو كان، في نفس الوقت، يُدِيرُ لَهُ ظَهْرَهُ، لأنَّ مفهومَهُ
للماضي، كانَ مُسْتَمَدّاً من المُستقبل، أي كان الماضي عندهُ أُفُقاً، و
اسْتِشْرَافاً. أو كما يقولُ هو نفسُه « إذا انقطعنا عن الإيمان بالمستقبل
فلن يعُود الماضي ماضينا نحن تماماً؛ بل سيغدو ماضي حضارةٍ مَيِّتَةٍ «.
لم
يكُن إليوت مُكْتَفِياً بما هو مَوْجُودٌ و مُتاحٌ، لَمْ يَكْتَفِ بالشعر
الإنجليزيِّ وَحْدَهُ، فهو استفادَ من معرفته بِلُغاتٍ أخرى، استمَدَّ
منها انْشِراحَهُ الشِّعْرِيَّ، و النَّظَرِيَّ أيضاً، و بشكل خاصٍّ
الفرنسية، التي عَرَّفَتْهُ بلافورج، وبودلير، ورامبو، و لهذين الأخيرين
حُضورهُما في تجربة إليوت، خُصُوصاً في عَمَِلهِ الرَّائدِ « الأرضُ
الخراب «. مَرْجِعيات أُخرى، من ثقافاتٍ أخرى، كان لَها حُضُورُها في
البرنامَج الشعري لإليوت، « الإنْيَادَة « لفرجيل، و « الكوميديا الإلهية
« لدَانْتي، و « رباعيات الخيام « التي قرأها مُتَرْجَمَةً.. انتقالٌ بين
الثقافات. شِعْرِياتٌ مُختَِلفَةٌ تتقاَطُعُ فيما بينها، تُجَاوِرُ
بَعْضَها، دون أدنى إحساسٍ بِفُقْدانِ الذَّاتِ، أو تَمْجِيدِها. «
النُّزُوعُ إلى التَّنَوُّعِ بَدَلَ النُّزُوعِ إلى الكَمَالِ «،
[التَّعْبِير لإليوت]، هذا ما مَيَّزَ، في تَصَوُّرِنا تَجْرِبَةَ هذا
الأخير، عن شِعْرِيَةِ الاستعادة، التي بقيَ الشعر العربي إبَّانَ « زمن
النهضة « مُكْتَفِياً بِرَجَاحَتِها.
يَذْهَبُ إليوت إلى أبعَد من هذا
حين يُقَرِّرُ، و هو الشاعر ـ الناقد، في سياق حديثه عن الأشكالِ
الشِّعْرِيَةِ؛ « أن هناك أشْكَالا تُنَاسِبُ بَعْضَ اللُّغات و لا
تُنَاسِبُ لُغات أخرى، و جميع الأشكال أكثر مُناسَبَةً في عُصُورٍ منها في
عُصُورٍ أخرى «. فهذا الانفتاح المعرفي على الثقافات الأخرى، أو ما
تُسَمُّونَهُ، في وَرَقَةِ هذا اللقاء، بـ « المُثَاقَفَة «، كان أحدَ
مَداخِلِ إليوت للحداثة الشعرية، و لِرَفْضِ البقاء في نَفْسِ الأرضِ، أو
اسْتِعْمـال نفس الآلة لِحَـرْثِ الأرضِ ذاتِها.. لا شَيْءََ كانَ في
نَظَرِ إليـوت مُسْتَقِـرّاً، أو كَامِلاً، كُلُّ شَيْءٍ قابِلٌ
لِلْحَياةِ وِفْقَ زَمَنِهِ هُوَ، وَوِفْقَ الشَّكْلِ الذي هُو آلَةُ
تَعْبيرِهِ. لامَكانَ، هنا للاستعارَةِ من الآخر، بل أن نَكُونَ نِدّاً
لَهُ، و كُلُّ ما يأتينا، من أي مكانٍ كانَ، حتى من الماضي نفسِه، قابلٌ
لأنْ يَصيرَ دالاًّ من دَوَالِّ تَجرِبَتِنا، شَرِيطَةَ أن يكونَ
مُمْتَلِئاً بالحياة.
« القصيدةُ «، هذا المفهوم الذي يَرْتَبِطُ في
ثقافتنا بالماضي، و بـ « نَمَطٍ شِعْرِيٍّ «، هو في أصِْلهِ آتٍ مِنَ
الِّلسَانِ، و هو المفهوم الذي لا نتذَكَّرُ نسيانَهُ، بالأسف، هي شكلٌ
مُسْتَقِرٌّ، بَلَغَ حَدَّ كمَالِهِ. رُبَّما في ذهابِ « النهضة « إلى هذا
النمط، دون السَّيْرِ إلى ما كان يَعْتَمِلُ في المعرفة الشعرية، في
العالم، آنذاك، كان سَعْياً لـ « الكمال «.
يقول إليوت في السياقِ
ذاتِهِ « الشَّكْلُ الذي يبلُغُ حَدَّ كمالِهِ، أي الشكل الذي
يَتَجَمَّدُ، و يَسْتَقِرُّ، و هو الشكل الذي يَتِمُّ حَصْرُهُ في قواعدَ
و قوانين مُحَدَّدَة، أي يَتِمُّ إغْلاقُهُ، و حَسْمُ تَطَوُّره «. لا
يعني هذا أنَّ إليوت كان يَرْفُضُ « المعيارَ الكلاسيكيَّ «، فهو كان يرى
فيه « أهَمِّيَةً حَيَوِيَةً بالنِّسْبَةِ إلينا «، لكن المعيارَ، لم يكُن
عند إليوت، إناءً، بل هو أرْضٌ، تُرَبُها تَحْتَمِلُ زُرُوعاً
مُخْتَلِفَةً، و تَقْبَلُ الحرْثَ في كُلِّ الاتِّجاهاتِ. كما أنَّ مفهومَ
المعيار عندهُ، ليس مُعادِلاً للقاعدة، أو القانون، كما أنَّهُ ليسَ من
المُسَلَّمات. المعيار، بهذا المعنى، هو احْتِمَالٌ، و ليسَ اكْتِمالاً،
ما أُسَمِّيهِ، دائماً، بالشكل المُنْشَرِحِ. « لا يُمكن لعصرٍ واحد ولا
كاتبٍ واحد قَطُّ، يقول إليوت، أن يُنْشِىء معياراً «. المعيارُ، حَرَكَةٌ
دائِبَةٌ، سَيَلانٌ، و نَفَسٌ يَتِمُّ بِوَتَائِرَ مُخْتَلِفَةٍ، لا بِنفس
الوَتيرَةِ، هذا ما كان باوند يُسمِّيه « روح الرومانس «؛ فالشاعر
يتمثَّلُ من تُراثِ غيرهِ هذه الروح، ثُمّ يُشَكِّلُها من عنده، و
يُعَبِّرُ عنها بما يُناسبُ موهبتَه الشِّعرية.
[3]
لَمْ
يَكُن لإليوت حُضوراً، أو أيَّ نوع من التأثير، في الشعر العربي خلال
الستةِ عُقُودٍ الأولى من القرن الماضي، ما يعني، أن « النهضة «، و ما
تلاها من مُقْتَرَحات شعرية، لم يَصِل إليها تأثيرُ إليوت، بما في ذلك،
الشُّعراء الذين كانت الإنجليزية اللغة التي يقرأون بها، أو كانت مرجِعَ
معرفتهم الشعرية، في العلاقة بالثقافة الأوروبية. أتساءَلُ، هنا، بصدَد
جبران، هذا الذي لم يَتَوَانَ في الذَّهاب إلى أقصى مُمْكنات التجريب
الشِّعْرِيِّ، و إلى أقصى تُخُوم المرجعياتِ الشِّعْرِيَةِ و الفكرية، في
الثقافة الإنسانية .
كما أتساءَلُ بصددِ شُعراء المهجَر، الذين كانَ
لظروف المكان، و السياق الثقافي الذي وُجِدوا فيه، ما يَشِي بالإقدام على
خَوْضِ كُلِّ أشكالِ التجديد، وأتساءلُ أيضاً بصدَدِ « أبولو «، و « جماعة
الديوان «، شكري، المازني، العقاد، هؤلاء الذين انتقدوا شوقي
بِشَراسَةٍ...
« الأرضُ الخراب « نُشِرَت سنة 1922. في هذه الفترة
بالذّات، كانت هذه الأراضي الشعريـةِ، بصيغة أو بأخرى، تَعيش « زمنَ
النَّهضَة «، و تَسْعَى لابْتِداع نموذجٍ شعـريٍّ يَقْبَلُ بـ « الآخـر «،
بمعرفتـه، و بمُنْجَزِهِ الشِّعْرِيِّ، و النظريِّ. رغم اختلاف
استرتيجياتٍ كُل طَرَفٍ، فَجميع الأطراف كانت تُؤسِّسُ لمشروعاتٍ، كُلُّ
طَرَفٍ كانَ يرى في مشروعه، الأرض التي تَصْلُحُ لنهضَة جديدةٍ.
بالعودة
إلى « جماعة الديوان «، يَتَبَدَّى لنا بِوُضُوح، أنَّ القلقَ و
التَّرَدُّدَ و اليأسَ الذي كانَ أساسَ رُِؤْيَةِ إليوت، في « الأرض
الخراب «، هو نفسه، رغم اختلاف السياق، الذي كان يَشْغَلُ أفراد هذه
الجماعة. ولم يكُن الأمْـرُ، كما في تقـديم العقـاد لـ « ديوان المازني «،
يَقْتَصِرُ على التّـَرَدُّدِ بيـن الماضي، و المُستقبل، بل إنّ القلقَ و
التردُّدَ طَالاَ كُلَّ مَنَاحِي الحياة. ما دَفَع العقاد لِيُقَرِّرَ أنّ
العَصْرَ « طبيعَته القلق و التردُّد بين ماضٍ عتيقٍ ... و مستقبل مُريبٍ.
و قد بَعُدَتِ المسافة بين اعتقاد الناس فيما يجب أن يكون و بين ما هو
كائن «، و هو نفس ما عبَّر عنه شكري، بصدَد « الشباب المصري « الذي أصبح
يعيشُ في يأسٍ « عظيم «، رغم ما كان يَسْتَشْعِرُهُ من أملٍ. ارْتِبَاكٌ،
و « حَيْرةٌ «، حيثُ لا مُسْتَقَرّ.
أليس هذا حَافِزَ لِقاءٍ، بين
شِعْرِيَتَيْنِ، كِلاهُما اسْتَشْعَرَتْ نَفْسَ الهشاشة، و رُبَّما
ارتجاجَ الأرْضِ من تَحْتِهِما، بما تعنيه كلمةُ أرضٍ من إيحاءاتٍ، بما
فيها ما تُفضي إليه « الأرضُ الخراب « ؟
لَمْ يَحْدُثِ اللِّقاءُ، و
ظَلَّ إليوتُ مُؤَجَّلاً، زَمَنُهُ، لم يَكُن زَمَنَ « نَهْضَةٍ «، اكتفَت
بمفهومٍ لـ « الحديث «، كانَ، باستثناء جبران، يَسْتَوْحِي الحديثَ من
الماضي، أو يكتفي بمفهومه للعصرِ، أي المفهومَ الزمنيَّ، و ليس بما
يَسْتَتْبِعُ ذلك من جُرأةٍ في خَلْخََلةِ الأُسُسِ.
هذا ما يجعَلُني
لا أتفقُ، في استعمال مفهوم « حديث «، في هذه الندوة، بِصَدَد الشعرية
العربية، في علاقتِها بإليوت، إذا كان مفهوم حديث، هو ما يعني زمنياً، ما
يبدأ من « زمن النهضة «، شعرياً، أي من بداية القرنِ الماضي.
[4]
إليوت
جاء، عَربياً، من الشِّعْريَةِ المُعَاصِرَةِ. ترجماتُ عَمَلِهِ الشعريِّ
« الأرض الخراب «، و أنا هنا، لا أستعمل مفهوم « قصيدَة « لأنَّ هذا العمل
أكبر من أن يَسْتَوْعِبَه هذا الشكل المُسْتَقِر، ناهيك عن اختلاف المفهوم
بين ثقافتين، و شِعْرِيَتَيْن. كانت في الخمسينيات، و استمرَّت في
التناسُل إلى ما بعد هذا التاريخ. و أُشير إلى ترجمـةُ لويس عـوض فـي خريف
سنة 1968، و كانت نُشِرت في مجلة « شعـر «. لننتبه إلى التاريخ، و مكان
النشر، فثمَّةَ فيهما ما يُؤكِّدُ الحاجَةَ لإليوت، ليس في مستوى الرؤيةِ،
أو السياق الفكري الذي تتأسَّسُ عليه هذه الرؤية، و هو ما دَعَى، رُبَّمَا
لِتَرْجَمَةِ هذا النص، إبَّانَ فترة « النكبة «، أو هزيمة 1967، بل و في
طبيعَة البرنامَج الشعري الذي كانَ هذا العمل يُقْدِمُ عليه.
[5]
السياب كان، قبل هذا التاريخ، من بين أوائل الشعُراء الذين انفتَحُوا على
هذه الشعرية الجديدة، و على البرنامجِ الشِّعْرِيِّ لتجربة إليوت. كانت
المُمارَسَة الشعرية، عند السياب، هي المُخْتَبَر الذي بَدَتْ فيه تجربة
إليوت، قابلةً لأن تَكونَ طريقاً من طُرُق الشعرِ، في الشعرية العربية
المُعاصرة.
يذهَبُ، محمد جاهين، مُستعيناً برأيِ جبرا إبراهيم جبرا، في
الموضوع، إلى أن « الأرض الخراب « كـ « تجربة مأساوية « ستُوازي عند
الشعراء العرب، بما صار عليه الوضع العربي بعد الحرب العالمية الثانية، و
نكبة فلسطين. و لعلَّ في البُعد الأسطوري، و ما يَتَرَتَّبُ عنه من
تَمَثُّلاتٍ في التجربة الشعرية، و علاقة ذلك بما يجري في الواقع، ساهمَ
في اعتبار « الأرض الخراب «، أرضاً شعريةً للتَّحَقُّق من ثقل الرؤية، و
حَجْم المأساة التي أصبحت تُطْبِقُ على الواقع العربي.
لم تكُن « الأرض
الخراب «، نصّاً، يَسْتَجيبُ للوضع المأساوي، و لِما يَحْدُثُ في الواقع
العربي، فقط، فهي كانت نصّاً حداثياً، بالمعنى الشعريِّ، رغمَ أنَّ
إليـوتَ نفْسَهُ، سيعتبرُها تجربةً « تنتمي إلى الماضي «، و أنَّ الرغبةَ
التي تَنْتَابُهُ، هي « تجـربةُ أسلوبٍ جـديدٍ في الكتابـة «، أي ما
يتجـاوَزُ، هذا النص، و هو ما سيُحَقِّقُهُ في أعماله الشعرية اللاَّحقةِ،
لعلَّ على رأسِها « رُباعيات أربع « الصادرة في عام 1944، و هو العمل الذي
بلغَ جُمهوراً أوسع، و هو في نظر هيلين غاردنير، أهم أعماله، لأنه يحتوي،
قِيَاساً بأعماله الأخرى، الحلَّ الشِّعْرِيَ لِمشاكله الخاصة، باعتباره
شاعراً. و هو العمل الذي اعتبرتْهُ غاردنير، عَمَلاً فَنِّياً ?uvre d
art.
إلى الصديق الشاعر نوري الجراح
[1]
لا
أنْتَمِي إلى جيلِ السياب، و عبدالصبور. و لَسْتُ، أيضاً من الجيل الذي
جاء بَعْدَهُما. هؤلاء، جميعاً، من الشُّعَراء الذين خَاضُوا تجربةَ ما
سُمِّيَ بـ « الشِّعر الحُرّ «. الزَّمَنُ، آنذاكَ، كانَ حافِلاً بكثيرٍ
من التَّوَتُّرات، ليس على صعيدِ الفكر وَحْدَهُ، بل في كُلَّ أصْعِدَةِ
الحياةِ. كَانَ الشِّعْرُ، ما زالَ أداةً لِلْمُواجَهَةِ، رغْمَ ما كَانَ
يَشُوبُهُ من انتماءٍ للِشَّكْلِ القديمِ، و ما كانَ لِلْماضِي فيه مِنْ
حُضُورٍ لَمْ تَطَلْهُ حتَّى تِلْكَ التَّحَوُّلات التي حَدَثَتْ في
بَعْضِ مُكَوِّناتِ هذا البناء، أو في زَاوِيَةِ الرُّؤْيَةِ، بما عُرِفَ
بالشِّعر الرومانسي. السيابُ، و غيرُه من جيل « الرواد «، أعني الأوائل في
مُمَارَسَةِ « الشعر الحُرّ «، كَانُوا مِنَ المُزاوِلِينَ لهذا
المُقْتَرَحِ الشِّعْرِيِّ. لا أحَدَ من هؤلاء نَقَلَ النَّصَّ، مِنْ
قَدِيمِهِ، رَأْساً، إلى تِْلكَ الحُرِّيَةِ التي بها اتَسَمَّتْ تَجربةُ
هذا الشِّعر الذي رَاهَنَتِ الشِّعْرِيَةُ العربيةُ على اخْتِرَاقَاتِهِ.
مَنْ
يَعُودُ إلى مُقْتَرَحاتِ « النهضَةِ الشِّعْرِيَةِ «، في بِداياتِ القرنِ
الماضي، سَيَلْمَسُ بِوُضُوحٍ، رِجْعَةَ الشُّعَراء إلى الشَّكْلِ القديم،
و إلى مَجَازاتِ لُغَتِهِ، و تَسْمِيَاتِها، كَشَكْلٍ من أشكالِ « الإحياء
« و الابْتعَاث، ما يعني أنَّ الماضِيَ، في هذا المُقْتَرَحِ، هو بَديلُ
الحاضِرِ، و أنَّ البُحْتُرِيَّ مازالَ يَصْلُحُ كَإنَاءٍ لِماءِ الحاضرِ.
لَمْ يَعْبَأ شَوْقِي، باعتباره مِثالاً لهذه المرحلة، بِما كَانَ
يَحْدُثُ حَوْلَهُ مِنْ انْقلاباتٍ في شَكْلِ الشِّعْرِ، و في
مَفْهُوماتِهِ التي حَدَثَتْ في أوروبا، رغم أنَّ شوقي، كان على مَرْمَى
حَجَرٍ من أوروبا، و كان على مَعْرِفَةْ بالفرنسية، فهو اكتفى بماضي الشعر
العربي، و حتى عندما، غَيَّرَ وِجْهَةَ الشكْلِ، أو سَعَى لِتَوْسيعِ هذا
الشكل من خلال تَبَنِّيهِ للمَسْرَحِ الشِّعْرِيِّ، فهو حَفَّهُ بِلِباسِ
الشَّكْلِ القديمِ. ليس مفهوم الشكل كما أعنيـه هنا، هو المظْهَر «
العمُـوديّ « للنص، بل عِمَـارَة النص، بمـا هو، في تَسْمِيَتِهِ
القديمـة، « القصيدة «. لهذه التَّسْمِيَةِ تاريخُها، و لها، أيضاً
مَآزِقُها.
ليس عَبَثاً أن يَتِمَّ، في المُمَارَسَةِ النقديةِ
القديمةِ، اخْتِزالُ كُلِّ الشِّعْرِ في « القصيدة «، كمُقْتَرَحٍ، من بين
غيره من المُقتَرَحاتِ التي كانت سائدةً آنذاكَ، وَتَمَّ حَجْبُها.
«
النهضَةُ «، بهذا المعنى، كانت استعادَةً، و لَمْ تَكُن أُفُقاً، أو ظلَّت
في تَصَوُّرِها العام، اكْتِفَاءً بما هو مَوْجُودٌ. أو كما يقُولُ أحد
الباحثين المُعاصرين؛ فالإحيائيون اسْتَسْلَمُواُ للماضي، وكانوا، فيما
أقدَمُوا عليه من اختيار، « يَجْتَرُّونَ المعاني القديمة «، و « كأنَّهُم
تَوَهَّمُوا أنّ لُغَةَ الشِّعرِ و معانِيَهُ و صُوَرَهُ، يَنْبَغِي أنْ
تُسْتَمَدَّ من القديم «.
الماضي مَرْجِعٌ، في شِعِرِيَةِ شوقي. لا
أحَدَ يَنْفِي أنَّ لِشَوْقي تَوْقيعاتُهُ الخاصَّة في ما كَتَبَهُ، لكن
الأمْرَ غَير مُرْتَبِطٍ هُنا بالمَوْهِبَةِ الفردية، بقدر ما هو ارتباطٌ
بزَمَنِ الشاعِرِ، و بزَمَن الشِّعرِ ذاتِهِ، أي بحداثته. التّوَقيعُ،
هنا، هو تَوْقيعٌ تاريخِيٌّ، و هو إضافةٌ، و ليس استِعادَةً.
تَذَكَّروا
مَعِي نَقْدَ طه حسين، لِشوقي، في كتابه « حافظ و شوقي «، رغمََ أنَّهُ
تَجاهَلَ بَقاءَ حافظَ نَفْسَهُ في نَفْسِ أرْضِ شوقي، أي في عِمارَةِ
النص ذاتِهِ؛ الشكلُ هو نَفْسُهُ، و كذلك المفهوم. كانَ نقد طه حُسين، في
بعض مفاصِلِه، سَعْياً لِتَوْكِيدِ روح العصر، و لِلُغَتِه، و
مَجَازَاتِها.
[2]
زَمَنِياً،
إليوت، كانَ مُعاصراً لشوقي. إليوت في تكوينِهِ الثقافي كان كلاسيكياً،
انْشَغَلَ هو أيضاً بالماضي، أعني بالتـراث، أي بـ « رغبته في إحياء
االتراث «، و هـو مَنْ عَمِلَ على إحيـاء تراث
الشعراء
الميتافيزيقيينَ. حتى حين التَفَتَ إلى الشعر الإنجليزي في القرن التاسع
عشر، فهو كان، في نفس الوقت، يُدِيرُ لَهُ ظَهْرَهُ، لأنَّ مفهومَهُ
للماضي، كانَ مُسْتَمَدّاً من المُستقبل، أي كان الماضي عندهُ أُفُقاً، و
اسْتِشْرَافاً. أو كما يقولُ هو نفسُه « إذا انقطعنا عن الإيمان بالمستقبل
فلن يعُود الماضي ماضينا نحن تماماً؛ بل سيغدو ماضي حضارةٍ مَيِّتَةٍ «.
لم
يكُن إليوت مُكْتَفِياً بما هو مَوْجُودٌ و مُتاحٌ، لَمْ يَكْتَفِ بالشعر
الإنجليزيِّ وَحْدَهُ، فهو استفادَ من معرفته بِلُغاتٍ أخرى، استمَدَّ
منها انْشِراحَهُ الشِّعْرِيَّ، و النَّظَرِيَّ أيضاً، و بشكل خاصٍّ
الفرنسية، التي عَرَّفَتْهُ بلافورج، وبودلير، ورامبو، و لهذين الأخيرين
حُضورهُما في تجربة إليوت، خُصُوصاً في عَمَِلهِ الرَّائدِ « الأرضُ
الخراب «. مَرْجِعيات أُخرى، من ثقافاتٍ أخرى، كان لَها حُضُورُها في
البرنامَج الشعري لإليوت، « الإنْيَادَة « لفرجيل، و « الكوميديا الإلهية
« لدَانْتي، و « رباعيات الخيام « التي قرأها مُتَرْجَمَةً.. انتقالٌ بين
الثقافات. شِعْرِياتٌ مُختَِلفَةٌ تتقاَطُعُ فيما بينها، تُجَاوِرُ
بَعْضَها، دون أدنى إحساسٍ بِفُقْدانِ الذَّاتِ، أو تَمْجِيدِها. «
النُّزُوعُ إلى التَّنَوُّعِ بَدَلَ النُّزُوعِ إلى الكَمَالِ «،
[التَّعْبِير لإليوت]، هذا ما مَيَّزَ، في تَصَوُّرِنا تَجْرِبَةَ هذا
الأخير، عن شِعْرِيَةِ الاستعادة، التي بقيَ الشعر العربي إبَّانَ « زمن
النهضة « مُكْتَفِياً بِرَجَاحَتِها.
يَذْهَبُ إليوت إلى أبعَد من هذا
حين يُقَرِّرُ، و هو الشاعر ـ الناقد، في سياق حديثه عن الأشكالِ
الشِّعْرِيَةِ؛ « أن هناك أشْكَالا تُنَاسِبُ بَعْضَ اللُّغات و لا
تُنَاسِبُ لُغات أخرى، و جميع الأشكال أكثر مُناسَبَةً في عُصُورٍ منها في
عُصُورٍ أخرى «. فهذا الانفتاح المعرفي على الثقافات الأخرى، أو ما
تُسَمُّونَهُ، في وَرَقَةِ هذا اللقاء، بـ « المُثَاقَفَة «، كان أحدَ
مَداخِلِ إليوت للحداثة الشعرية، و لِرَفْضِ البقاء في نَفْسِ الأرضِ، أو
اسْتِعْمـال نفس الآلة لِحَـرْثِ الأرضِ ذاتِها.. لا شَيْءََ كانَ في
نَظَرِ إليـوت مُسْتَقِـرّاً، أو كَامِلاً، كُلُّ شَيْءٍ قابِلٌ
لِلْحَياةِ وِفْقَ زَمَنِهِ هُوَ، وَوِفْقَ الشَّكْلِ الذي هُو آلَةُ
تَعْبيرِهِ. لامَكانَ، هنا للاستعارَةِ من الآخر، بل أن نَكُونَ نِدّاً
لَهُ، و كُلُّ ما يأتينا، من أي مكانٍ كانَ، حتى من الماضي نفسِه، قابلٌ
لأنْ يَصيرَ دالاًّ من دَوَالِّ تَجرِبَتِنا، شَرِيطَةَ أن يكونَ
مُمْتَلِئاً بالحياة.
« القصيدةُ «، هذا المفهوم الذي يَرْتَبِطُ في
ثقافتنا بالماضي، و بـ « نَمَطٍ شِعْرِيٍّ «، هو في أصِْلهِ آتٍ مِنَ
الِّلسَانِ، و هو المفهوم الذي لا نتذَكَّرُ نسيانَهُ، بالأسف، هي شكلٌ
مُسْتَقِرٌّ، بَلَغَ حَدَّ كمَالِهِ. رُبَّما في ذهابِ « النهضة « إلى هذا
النمط، دون السَّيْرِ إلى ما كان يَعْتَمِلُ في المعرفة الشعرية، في
العالم، آنذاك، كان سَعْياً لـ « الكمال «.
يقول إليوت في السياقِ
ذاتِهِ « الشَّكْلُ الذي يبلُغُ حَدَّ كمالِهِ، أي الشكل الذي
يَتَجَمَّدُ، و يَسْتَقِرُّ، و هو الشكل الذي يَتِمُّ حَصْرُهُ في قواعدَ
و قوانين مُحَدَّدَة، أي يَتِمُّ إغْلاقُهُ، و حَسْمُ تَطَوُّره «. لا
يعني هذا أنَّ إليوت كان يَرْفُضُ « المعيارَ الكلاسيكيَّ «، فهو كان يرى
فيه « أهَمِّيَةً حَيَوِيَةً بالنِّسْبَةِ إلينا «، لكن المعيارَ، لم يكُن
عند إليوت، إناءً، بل هو أرْضٌ، تُرَبُها تَحْتَمِلُ زُرُوعاً
مُخْتَلِفَةً، و تَقْبَلُ الحرْثَ في كُلِّ الاتِّجاهاتِ. كما أنَّ مفهومَ
المعيار عندهُ، ليس مُعادِلاً للقاعدة، أو القانون، كما أنَّهُ ليسَ من
المُسَلَّمات. المعيار، بهذا المعنى، هو احْتِمَالٌ، و ليسَ اكْتِمالاً،
ما أُسَمِّيهِ، دائماً، بالشكل المُنْشَرِحِ. « لا يُمكن لعصرٍ واحد ولا
كاتبٍ واحد قَطُّ، يقول إليوت، أن يُنْشِىء معياراً «. المعيارُ، حَرَكَةٌ
دائِبَةٌ، سَيَلانٌ، و نَفَسٌ يَتِمُّ بِوَتَائِرَ مُخْتَلِفَةٍ، لا بِنفس
الوَتيرَةِ، هذا ما كان باوند يُسمِّيه « روح الرومانس «؛ فالشاعر
يتمثَّلُ من تُراثِ غيرهِ هذه الروح، ثُمّ يُشَكِّلُها من عنده، و
يُعَبِّرُ عنها بما يُناسبُ موهبتَه الشِّعرية.
[3]
لَمْ
يَكُن لإليوت حُضوراً، أو أيَّ نوع من التأثير، في الشعر العربي خلال
الستةِ عُقُودٍ الأولى من القرن الماضي، ما يعني، أن « النهضة «، و ما
تلاها من مُقْتَرَحات شعرية، لم يَصِل إليها تأثيرُ إليوت، بما في ذلك،
الشُّعراء الذين كانت الإنجليزية اللغة التي يقرأون بها، أو كانت مرجِعَ
معرفتهم الشعرية، في العلاقة بالثقافة الأوروبية. أتساءَلُ، هنا، بصدَد
جبران، هذا الذي لم يَتَوَانَ في الذَّهاب إلى أقصى مُمْكنات التجريب
الشِّعْرِيِّ، و إلى أقصى تُخُوم المرجعياتِ الشِّعْرِيَةِ و الفكرية، في
الثقافة الإنسانية .
كما أتساءَلُ بصددِ شُعراء المهجَر، الذين كانَ
لظروف المكان، و السياق الثقافي الذي وُجِدوا فيه، ما يَشِي بالإقدام على
خَوْضِ كُلِّ أشكالِ التجديد، وأتساءلُ أيضاً بصدَدِ « أبولو «، و « جماعة
الديوان «، شكري، المازني، العقاد، هؤلاء الذين انتقدوا شوقي
بِشَراسَةٍ...
« الأرضُ الخراب « نُشِرَت سنة 1922. في هذه الفترة
بالذّات، كانت هذه الأراضي الشعريـةِ، بصيغة أو بأخرى، تَعيش « زمنَ
النَّهضَة «، و تَسْعَى لابْتِداع نموذجٍ شعـريٍّ يَقْبَلُ بـ « الآخـر «،
بمعرفتـه، و بمُنْجَزِهِ الشِّعْرِيِّ، و النظريِّ. رغم اختلاف
استرتيجياتٍ كُل طَرَفٍ، فَجميع الأطراف كانت تُؤسِّسُ لمشروعاتٍ، كُلُّ
طَرَفٍ كانَ يرى في مشروعه، الأرض التي تَصْلُحُ لنهضَة جديدةٍ.
بالعودة
إلى « جماعة الديوان «، يَتَبَدَّى لنا بِوُضُوح، أنَّ القلقَ و
التَّرَدُّدَ و اليأسَ الذي كانَ أساسَ رُِؤْيَةِ إليوت، في « الأرض
الخراب «، هو نفسه، رغم اختلاف السياق، الذي كان يَشْغَلُ أفراد هذه
الجماعة. ولم يكُن الأمْـرُ، كما في تقـديم العقـاد لـ « ديوان المازني «،
يَقْتَصِرُ على التّـَرَدُّدِ بيـن الماضي، و المُستقبل، بل إنّ القلقَ و
التردُّدَ طَالاَ كُلَّ مَنَاحِي الحياة. ما دَفَع العقاد لِيُقَرِّرَ أنّ
العَصْرَ « طبيعَته القلق و التردُّد بين ماضٍ عتيقٍ ... و مستقبل مُريبٍ.
و قد بَعُدَتِ المسافة بين اعتقاد الناس فيما يجب أن يكون و بين ما هو
كائن «، و هو نفس ما عبَّر عنه شكري، بصدَد « الشباب المصري « الذي أصبح
يعيشُ في يأسٍ « عظيم «، رغم ما كان يَسْتَشْعِرُهُ من أملٍ. ارْتِبَاكٌ،
و « حَيْرةٌ «، حيثُ لا مُسْتَقَرّ.
أليس هذا حَافِزَ لِقاءٍ، بين
شِعْرِيَتَيْنِ، كِلاهُما اسْتَشْعَرَتْ نَفْسَ الهشاشة، و رُبَّما
ارتجاجَ الأرْضِ من تَحْتِهِما، بما تعنيه كلمةُ أرضٍ من إيحاءاتٍ، بما
فيها ما تُفضي إليه « الأرضُ الخراب « ؟
لَمْ يَحْدُثِ اللِّقاءُ، و
ظَلَّ إليوتُ مُؤَجَّلاً، زَمَنُهُ، لم يَكُن زَمَنَ « نَهْضَةٍ «، اكتفَت
بمفهومٍ لـ « الحديث «، كانَ، باستثناء جبران، يَسْتَوْحِي الحديثَ من
الماضي، أو يكتفي بمفهومه للعصرِ، أي المفهومَ الزمنيَّ، و ليس بما
يَسْتَتْبِعُ ذلك من جُرأةٍ في خَلْخََلةِ الأُسُسِ.
هذا ما يجعَلُني
لا أتفقُ، في استعمال مفهوم « حديث «، في هذه الندوة، بِصَدَد الشعرية
العربية، في علاقتِها بإليوت، إذا كان مفهوم حديث، هو ما يعني زمنياً، ما
يبدأ من « زمن النهضة «، شعرياً، أي من بداية القرنِ الماضي.
[4]
إليوت
جاء، عَربياً، من الشِّعْريَةِ المُعَاصِرَةِ. ترجماتُ عَمَلِهِ الشعريِّ
« الأرض الخراب «، و أنا هنا، لا أستعمل مفهوم « قصيدَة « لأنَّ هذا العمل
أكبر من أن يَسْتَوْعِبَه هذا الشكل المُسْتَقِر، ناهيك عن اختلاف المفهوم
بين ثقافتين، و شِعْرِيَتَيْن. كانت في الخمسينيات، و استمرَّت في
التناسُل إلى ما بعد هذا التاريخ. و أُشير إلى ترجمـةُ لويس عـوض فـي خريف
سنة 1968، و كانت نُشِرت في مجلة « شعـر «. لننتبه إلى التاريخ، و مكان
النشر، فثمَّةَ فيهما ما يُؤكِّدُ الحاجَةَ لإليوت، ليس في مستوى الرؤيةِ،
أو السياق الفكري الذي تتأسَّسُ عليه هذه الرؤية، و هو ما دَعَى، رُبَّمَا
لِتَرْجَمَةِ هذا النص، إبَّانَ فترة « النكبة «، أو هزيمة 1967، بل و في
طبيعَة البرنامَج الشعري الذي كانَ هذا العمل يُقْدِمُ عليه.
[5]
السياب كان، قبل هذا التاريخ، من بين أوائل الشعُراء الذين انفتَحُوا على
هذه الشعرية الجديدة، و على البرنامجِ الشِّعْرِيِّ لتجربة إليوت. كانت
المُمارَسَة الشعرية، عند السياب، هي المُخْتَبَر الذي بَدَتْ فيه تجربة
إليوت، قابلةً لأن تَكونَ طريقاً من طُرُق الشعرِ، في الشعرية العربية
المُعاصرة.
يذهَبُ، محمد جاهين، مُستعيناً برأيِ جبرا إبراهيم جبرا، في
الموضوع، إلى أن « الأرض الخراب « كـ « تجربة مأساوية « ستُوازي عند
الشعراء العرب، بما صار عليه الوضع العربي بعد الحرب العالمية الثانية، و
نكبة فلسطين. و لعلَّ في البُعد الأسطوري، و ما يَتَرَتَّبُ عنه من
تَمَثُّلاتٍ في التجربة الشعرية، و علاقة ذلك بما يجري في الواقع، ساهمَ
في اعتبار « الأرض الخراب «، أرضاً شعريةً للتَّحَقُّق من ثقل الرؤية، و
حَجْم المأساة التي أصبحت تُطْبِقُ على الواقع العربي.
لم تكُن « الأرض
الخراب «، نصّاً، يَسْتَجيبُ للوضع المأساوي، و لِما يَحْدُثُ في الواقع
العربي، فقط، فهي كانت نصّاً حداثياً، بالمعنى الشعريِّ، رغمَ أنَّ
إليـوتَ نفْسَهُ، سيعتبرُها تجربةً « تنتمي إلى الماضي «، و أنَّ الرغبةَ
التي تَنْتَابُهُ، هي « تجـربةُ أسلوبٍ جـديدٍ في الكتابـة «، أي ما
يتجـاوَزُ، هذا النص، و هو ما سيُحَقِّقُهُ في أعماله الشعرية اللاَّحقةِ،
لعلَّ على رأسِها « رُباعيات أربع « الصادرة في عام 1944، و هو العمل الذي
بلغَ جُمهوراً أوسع، و هو في نظر هيلين غاردنير، أهم أعماله، لأنه يحتوي،
قِيَاساً بأعماله الأخرى، الحلَّ الشِّعْرِيَ لِمشاكله الخاصة، باعتباره
شاعراً. و هو العمل الذي اعتبرتْهُ غاردنير، عَمَلاً فَنِّياً ?uvre d
art.
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: هل مازالَ إليُـوت مُمْكِناً..؟/صلاح بوسريف
[6]
إذا
كانت « الأرض الخراب «، نَقْلَةً جديدةً، في بنائها الإيقاعي، أي في
نظامها العروضي بشكل خاص، قي تجربة إليوت، فانعكاسَاتُها كانت أقوى على
الشعر الإنجليزي. فالقوالب التي سادَت، و الوضع الذي آلَ إليه الشعر
الإنجليزي، و ما عَرَفَه من انحسار في شَكِْلِه، و لُغَتِهِ و صُوَرِهِ
التي كانت تُمَثِّلُ الميولَ الرومانسيةَ التي لم تعُد تقبلُ التغيير، في
أواخر القرن التاسع، و ما تَرَكَهُ ذلك من تأثير على الشعراء
اللاَّحِقِينَ، جاءتِ « الأرضُ الخراب « لِتَضَعَهُ في المَهَبِّ، و
لِتَعْصِفَ بِكُلِّ القَناعات التي اعْتُبِرَت، إلى ذلك الحين، أساسَ
كُلِّ شِعريَةٍ، و مِعْيَاراً مُحَدِّداً لقوانينها. و هذا ما حَدا
بغاردنير أن تَعْتَبِرَها « نَقْلَةً جديدةً « في الشعر الإنجليزي.
إنَّ
القلَقَ الذي مَيَّزَ رُؤيَةَ إليوت، هو نَفْسُهُ الذي مَيَّز تَجربَتَه.
بمعنى أنَّ تجربة إليـوت لم تكُن مُسْتَقِرَّةً، و لَمْ تُوَطِّن نفسَها
على الثبات. من عَمَلٍ إلى آخر، ثَمّـةَ ماء يَجْري. ما يعني أنَّنا بصدد
نهر هيراقليط، هذا الذي لا يُمكِنُ أن نَسْبَحَ فيه أكثر من مَرَّةٍ.
لا
يعني هذا أنَّ إليوت كانَ يَعْمَلُ خارجَ الأعراف الشعرية، أو كان
يَكْتُبُ وفق هواهُ، فهو صاحِبُ نَظَرِيَةٍ في الشِّعْرِ، أي صاحب مشروع
شعري. ما يعني أنَّ هذه الأعراف، كانت فـي يَـدِهِ، مادَّةً قابِلَةً
للاشتعالِ.
فهو كانَ يَعْمَلُ على تأجِيجِ فَتِيلِها، و على بَثِّ الحياةِ في
رَمِيمِها. أو كما يقول إليـوت نَفْسُهُ، « هناك أزمانٌ لاسْتِكْشَاف أرضٍ
جديدةٍ، و هناك أزمانٌ لاستثمار الأرض التي فَتَحْناها « و « إن الأشكالَ
تحتاجُ أن تُحَطَّمَ و يُعادَ صُنْعُها من جديد، أما أن يتَحَرَّر
الشِّعرُ تمامَ التحرُّرِ من كُلِّ الأشكال فلا «. هذا التَّراَوُحُ بين
زَمَنَيْنِ، عَمَلٌ في اتِّجَاهَيْنِ؛ الماضي، لِأَجْلِ تأْجيجِ الحاضِرِ،
و ليس الماضي، لِتَثْبِيتِ الحاضر، كما حَدَثَ في فَهْمِنا لـ « النهضَةِ
« و لـ « التراث «.
[7]
لم
تكُنِ الشِّعريةُ العربية المُعاصِرة واعيةً بطبيعةِ البرنامَج الشعري
لاليوت، أو لَمْ تَكُن مُنْشَغِلَةً به، بقدر انْشِغَالِها بالبُعْدِ
المأساويِّ لِرُؤْيَتِهِ. سَيَتِمُّ استثمارُ إليوت، كَفِكْرَةٍ، أو كنوعٍ
من عَزَاءِ الذاتِ لِنَفْسِها. الحالاتُ التي كانَ يَتِمُّ فيها استثمار
التجربة شِعْرِياً، كان يَتِمُّ فيها الاكتفاء ببعض الجُزئيات، كاللغة
اليومية، أو الموسيقى الشعرية مثلاً، ولم يكُن وَعْيُ التَّصَوُّر
الإليوتي، كخارطة طريقٍ، أو كطريق بتعبير هايدغر، حاضراً في بالِ الشعراء،
و حتى النقاد. صحيح أن هناك كتابات ذَهَبَت إلى بعض أُسُسِ النظرية
الشعرية لإليوت، وصحيحٌ أنَّ السياب، في بعض أعماله، وعلى رأسها « أنشودة
المطر «
عَمِلَ على استثمار هذه التجربة بشكل رائدٍ، لكن إليوت، كان
آنذاك مَوْجَةً، أو هَبَّةً بالأحرى، أو أنها رُبما جاءت في غير أوانِها.
حين
نعود اليوم لقراءة إليوت، ثمَّة أشياء في تجربته لها أهميتُها الخاصة، و
هي ذاتُ صلة بما يَعْتَمِلُ في الشعر اليوم أكثر مما كان يَعْتَمِلُ فيه
من قبل. فاليوم، الوَعْيُ بشعرية النص، و بجمالياته، أصبح أكثر ظُهوراً
مما كان عليه من قبل. فباستثناء تجربة « شعر «، و بعض التجارب الشعرية
الفردية، التي بقيَت مَعْزولَةً، و لم يَتِمَّ الانتباهُ إليها، كان
السياق العام، هو سياق أفكارٍ، و إيديولوجيات، و الشِّعرُ، كان في هذا
السياق صورةً لِما يجري، و لم يكن تجربةً جماليةً تُوازي في جماليتها، ما
يَحْدُثُ في الواقع، أو لم تكُن، بالأحرى، واقعاً يُوازي الواقع و
يُحايثُهُ، لا صَدىً لَهُ.
[8]
لعلَّ
ما شَدَّ بعض الشعراء العرب لتجربة إليوت، خُصوصاً أولئك الذين قرأوه في
لُغَتِهِ الأصلية، و ليس مُتَرْجَماً، هو البُعدُ الشفاهي في كتابَتهِ.
فإليوت كان يُعطي أهمية كبيرةً، في تركيباتِهِ الإيقاعية، و في شكل
أوزانِه، و ما يختارهُ من وَقَفاتٍ في أواخر الأبيات، و التَّصادِي
المُعجمي لكلماتٍ من نفس الحقلِ، أو ذات اشتقاقٍ مُتقاربٍ، و كذلك
اللَّعِبِ بالأصوات، أو ما تُحدِثُهُ بعض الأصوات من تداعياتٍ في نفس
القارىء، أو المُتلقي، للبُعْدِ الصوتيِّ، و لِإنْشادِيَةِ النص. فهو في
تأثُّره بفرجيل، كان يرى أن أهمية فرجيل، تَكْمُنُ في هذا الجانب بالذات،
أو كما يقول، عنه « فأنا لا أستطيع أن أصُدَّ نفسي عن الاشتباه في أن
جزءاً من المُتْعَة في الشِّعر عند جمهور المُسْتَمِعِين المُتحَضِّر في
عهد فرجيل، كان ينشأ عن وُجود نظامين عروضيين فيه، و في نوع من التقابُل
حتى على الرغم من أن جمهور المُستمعين قد لا يكون بالضَّرُورَة قادراً على
تحليل تلك المُعاناة و بصورة مُشابِهَة..».
كأننا، هنا، بصددِ
تبريرٍ، ليس لِما قامَ به فرجيل، بل لِما أَقْدَمَ عليه إليوت، في
جَمْعِهِ بين تركيباتٍ عروضيةٍ مُخْتَلِفَةٍ في نفس النص. و ما قد
يُحْدِثُه هذا النوع من التَّركيب الإيقاعي، الذي يتخطَّى الوزن و
يتجاوزُهُ، من صَدًى، هو ذلك الصوت الذي يبقى عالقاً في نفس المتلقي.
راهَنَ
إليوت، في تنويعاتِه الإيقاعية، على البُعـد الصوتي، و هو ما كان يُتيحُ
له، في كتاباته النظرية، و النقدية، أن ينظرَ إلى النص الشعري، و فق هذا
النوع من التركيب الإيقاعي الجديد، كسمفونية، نسيجُها الموسيقي العام، هو
حاصِلُ مجمـوع الأصوات، التـي تتصادى فيما بينها. و هو ما يُسَمِّيه بـ «
تداخُل الأصوات، و تَعَدُّدِها،في النص الواحد ، ليس هناك صوت واحد مسموع
فحسب، في أية قصيدة حقيقية «. و سَتُدْرِكُ غاردنير، هذا البُعد الحداثي
في تجربة إليوت، حين ترى أن أكبر استحقاقٍ للتجربة الشعرية الجديدة
لإليوت، هي تلك الحُرية التي سَمَحَت له باستخدام كل التَّنْوِيعَات
الأسلوبية المُمْكِنَة، و توظيفِ الشِّعْرِيِّ بجُرأةٍ، أَوْسَع مما هو
نثري، و ذلك بدون أي تعارُض. و هذا ما سمح لإليوت أن يُعبِّر عن رؤيتهِ
الخاصة. فالرباعيات مثلاً، هي نموذج صالح، لهذا التنويع الإيقاعي الذي جعل
من الشعر الجديد أحد المقترحات الشعرية المقبولة، أو المُمكِنَة.
[9]
هنا
تَتَبدّى ملامحُ المشروع الشعري لإليوت، باعتباره عِمارةً وَاحِدَةً، و
بناءً لا يُمكن فصلُ طَوَابِقِهِ عن بَعْضها، أو الاكتفاء ببعض الغُرَفِ
دون غيرها. فهو مشروع شعريٌّ، يُشيرُ إلى مُمْكِنات العمل الشعري، وإلى ما
يُمكِنُ أن نَسْتَبيحَهُ من أراضٍ، لا تزالُ الكثير من تُرَبِها لم
تُقْلَب بَعْدُ. هذا ما جعل إليوت يَعْتَبِرُ الفَصْلَ، في اللغة، بين
كلماتٍ تَصْلُحُ للِشِّعر، و أخرى لا تَصْلُحُ لهُ، أو تُفْسِدُهُ، نظراً
لوضعها غير المُتَّسِق مع السياق الشعري للصورة، أو البيت، غير مقبولٍ،
لأنَّهُ كان يعتبِرُ اللغةَ أرضاً واحدةً، و أن ثمةَ سِحْراً، يكمنُ في
الكلمات، ما سمَّاهُ بـ « السِّحر البدائيِّ الكامن في اللفظة «. الذي
يعمل الشاعرُ على تَفْتِيقِهِ، و على تَوْليد شعرية الكلام، ليس في قيمة
اللفظة بمفردها، بل في مجموع النشيد الشعري.
فكما عَمِلَ إليوت، على
اختراق مبدأ صَفَاءِ الوزن الشِّعري، عَمِلَ على اختراق مبدأ صفاء اللغة
الشعرية. و جعل الشِّعْرَ كامناً في كُلِّ الأشياء، لا في اتِّجاهِ
الشِّعر، كمفهوم كلاسيكي مُغلق، بل الشِّعْر، كإمكانٍ، و كطريقٍ.
وفق
أي تَصَـوُّرٍ، إذن، عَمِلَتِ الشِّعريةُ العَربِيَـةُ على اسْتِحْضَار
تجـربة إليوت في سياقها العـربي، و ما الذي استثمرتْهُ في هذه التجربة...
السياب،
مثلاً، قامَ بالمزج بين بعض البحور الشعرية، وهي تجربةٌ لها ما يُوازيها،
من حيثُ التصور، عند أبي شادي الذي كان يُسَمِّي هذا الجمع بين أكثر من
بحر واحِدٍ، في قصيدة واحدة، بـ « مَجْمع البُحُور «، أما عبد الصبور فذهب
إلى اللغة اليومية، التي نجد لها صَدًى في مُحاضرة يوسف الخال، في
الخمسينيات، حين أكَّدَ في « الشعر الطليعي « و التَّسْمِيَةُ لهُ، على»
إبدال التعابير و المفردات القديمة...بتعابير ومفردات جديدة، مُسْتَمَدَّة
من صميم التجربة، ومن حياة الشعب «.
لكن السياب، بَقِيَ في لُغَتِه،
مَشْدُوداً إلى بلاغة النمط التعبيري المُستمدِّ من « القصيدة «، رغم
الصُّوَر المُبتَدَعة التي أقْدَمَ عليها، و شكل البناء الذي أقام عليه
قصيدتَه المعروفة، « أنشودة المطر «، و ظلَّ يُراوِحُ الأوزانَ الخليليةَ،
بنوع من « المُساومَةِ «، كما يقول شاعر عراقي، من شعراء الستينيات، في
نقده لتجربة « الرواد «.
عبد الصبور أيضاً، اكتفى ببعض جُزئيات هذا
البرنامج، و اختار منه ما ارْتَضاهُ لطبيعة تجربته، رغم اعتباره إليوت «
رجعياً « من حيث التصور.
تقول هيلين غاردنير « فالحقيقة، هي أنَّ
إليوت، قد تَرَكَ على النَّظْمِ الشِّعْرِيِّ أثراً لن يَزُولَ. لستُ أعني
أن الشعراء سيظلون يَنْظُمون بنفس طريقته الخاصة، فقد خرجوا عليها منذ
سنوات عديدة، و لكن أعني أنه، ما من شاعر صَادِقٍ نَظَمَ شِعْرَهُ بعد
صدور « الأرض الخراب « يستطيع أن يعودَ بالأداء الشعري، بل بمفهوم الشِّعر
نفسه، إلى ما كان عليه من قبل «.
هنا بالذات تكمُنُ أهمية البرنامج
الشعري لإليوت. حين قلتُ إنه يأتي من المستقبل، هذا ما كنتُ أعنيه. فليس
تغيير بعض مُكوِّنات النص، أو تعديل وَضْعِها، هو جوهرُ الحداثة، فإليوت
حداثي، بمعنى تغييره لِمَفْهُومات الأشيـاء، و لِوَعْيِنا بها. لِيْسَ
أهَمّ، و أخطـر من تغيير الذوق و تغييـر الإحساس بالشيء، و النظر فيه من
زاوية، لم تَكُن بادِيَةً من قبلُ لنا، بالصورة التي أصبحت تبدو عليها،
حين قلبنا فَهْمَنا لها، و لم نُسَلِّم بِثَبَاتِها.
هذا هو ما ذَهَبت
إليه مجلة « شعر «، حين ترجمت لإليوت، و حين نشرت مختارات من شعره.
رُبَّما كان النزوع الجمالي للشعر، و وضع شعرية النص في الواجهة، مُقابِلَ
ما كان سائداً آنذاك من تَوَجُّهات فكرية و أيديولوجية، هو ما جعل البُعدَ
الحداثيَّ يبدو أكثر وُضوحاً في تصوُّرات « شعر «، و يصير إليوت، بالتالي
أحد النماذج التي اسْتَعَانَتْ بها هذه الجماعة، لبناء مفهومها للشِّعر.
فَأَنْ
يَمُسَّ إليوت مفهومَنا للشعر، معناهُ أنه غَيَّر طبيعةَ قراءتنا له، و
غيَّرَ حُكمَنا عليه، كما أيْقَظَ فينا الحِسَّ النَّقْدِيَ الذي ظلَّ
تَاوِياً في دَواخِلِنا، كامِناً، ينتظر تلك الشعلةَ القادمة من نداء
الشعر، أعني من رِيحِهِ.
ما لم تَعِهِ الشعرية العربية، في « النهضة «
التي ظلت مُنْكَفِئَةً على ماضيها، و لا في المُقترحات الموازية لها، أعني
جبران، و من جاؤوا بعدَهُ بقليل، و حتى أصحاب « الديوان « الذين اكتفَوْا
بالمُنْجَز الرومانسي، هو هذا النظر في الأُسُس، بالمعنى الذي أعطاه نيتشه
لهذا المفهوم، حين تحدث عن الإغريق، في سياق حديثه عن فلاسفة ما قبل
سُقراط.
إليوت، حتى لا يأخُذَنا النِّسْيَانُ، دَرَسَ الفلسفةَ، و هو
يعرفُ أكثر من غيره، هذا المعنى، و يَعِي، جَيِّداً، أن الصيرورة، ليست
حَركَةً فقط، بل هي انقلاب، أو كما يقولُ هيراقليط، فالشمس التي نراها في
كُلِّ يوم ليست هي الشَّمْسُ ذاتُها. و هذا يقتضي وَعْي المعنى البعيد
للحداثة، التي لا ترتبط بوجُودِنا في زمنٍ تالٍ، فهي قَلْبٌ في المعرفة،
في الرُّؤَى، و في المواقف، و ليست سِباحَةً دائمَةً في نفس النَّهْر.
هذا
الأفُق الإليوتي، كان طريقاً تُفْضي إلى طُرُقٍ. لم يكُن سَيْراً بالمعنى
الخطيِّ، في نفس الاتجاه، بل كان خَوْضاً في اللِّوَى و المُنْعَرَجاتِ. و
هذا ما جعـل « الأرض الخـراب « تَخْتَلـِفُ حـولها الآراء و المواقف، و
يَعْتَبِرُها البعض « ألعوبَةً « و « خُدْعَةً «، لا يمكن فَكُّ غُموضِها.
و هذا هو ثمن مثل هذه التجارب التي لا تَتَوجَّهُ إلى حاضِرِها، الذي قد
يصيرُ حِجاباً لها، فهي تسيرُ قُدُماً إلى زمنٍ يَجيءُ بِلا انقطاعٍ، أو
لا يَتَوَقَّفُ عن المَجيءُ، و هذا هو المفهوم البعيد للصيرورة.
إنَّ
إليوت، في فَهْمِي و تَصَوُّرِي لَهُ، هو هذا البناء الكُلِّيّ، و ليس
فقط، تَوْليف بُحُورٍ، أو إيقاعاتٍ. ليس إليوت، هو « لُغة الشعب «، أو»
المُعادِلَ الموضُوعِيَ «، أو أصوات الشعر الثلاثة «، فإليوت هو برنامَجٌ
شامِلٌ، مفتوحٌ على المُستقبَل، تَصَيُّرٌ، و حَرَكَةٌ دائِبَةٌ، لا
تَعْرِفُ الهُدْنَةَ. بهذا المعنى، أفهَمُ قولَ غاردنير،
إنَّ
الشُّعراء خرجوا منذ زمنٍ عن طريقة إليوت، أي عن اخْتياراتِهِ الفردية.
لنتذكَّر هنا مفهوم « الموهبة الفردية «، أما ما هو جوهري في تجربته، فهو
مُتَعَلِّقٌ بالمفهـوم الكُلِّـيِّ للشِّعِرِ، أي ذلك الجوهَرُ الذي لا
يتنازَلُ عن جَوْهَرِيَتِهِ.
[10]
إذا
كان إليوت، في المشرق العربي، لم يَحْضُر بالمعنى الذي به ابْتَنـى أُفُقَ
مَشـروعِه، أو شعريتِـهِ، و ظلَّ مُجَرَّدَ تقنياتٍ، أو بعضَ آليات بناء
النص، و المشرقُ هو مَنْ كانَ على صِلَةٍ مُباشرةٍ بإليوت، من خلال
المعرفة بِلُغَتِهِ، كلُغَةٍ أولى، أو ثانيةٍ، فالمغربُ جاءَ لِقاؤهُ
بالحداثة من الشرق، و لم يَعُد لاستدراك الحداثة، أو الاقتراب منها،
مُباشَرةً، إلا من خلال الشرق ذاتِهِ. فالمغرب ذهَبَ إلى الغرب عبر الشرق،
دَوْرَةٌ كامِلَةٌ، للعَوْدَةِ إلى الأصل القريب الذي لم يذهَب إليه إلاَّ
مَنْ كتبوا بالفرنسية مُباشَرَةً، في أوَّلِ الأمر.
إليـوت جاء إلى
المغرب من خـلال السياب، و عبد الصبور، كما جـاء من خلال مجلة « شعـر «، و
ترجماتُ « الأرض الخـراب « التي تَمَّت بالعربية، كان مصدرُها الشـرق؛
ترجمة يوسف الخـال و أدونيس، و ترجمة لويس عوض، و عبد الواحد لؤلؤة، وماهر
شفيق...و مَنْ بَدَلَ جُهْداً مُغَايِراً ذهبَ إلى إليوت من خلال
الفرنسية، و الأمرُ سَيَّانِ.
الشاعر الراحل، عبد الله راجع، في
ديوانه الأول، « الهجرةُ إلى المـُدُن السُّفلى « الصادر سنة 1976، و هو
أحد شعراء السبعينيات، اسْتَوْحَى إليوت في هذا الديوان، في أكثر من نصٍّ،
لكن النص الذي فيه تَقَاطَعَ مع إليوت بشكل مُعْلَنٍ، هو « الأرضُ
الخراب.. تثمة حديثة «. و راجع كان أقربَ الشعراء المغاربة إلى تجربة
إليوت، و هذا، رُبما، لشغَفِهِ بتجربة السياب، و كذلك عبد الصبور، و
عَمَلِه بشكل خاص في أعمالـه اللاحقـة، علـى إيقاعات العامية، و على
توظيفها في ديوانيـه التاليين؛ « سلاماً و ليشربوا البحار «، و « أيادٍ
كانت تسرقُ القمر «.
ثمَّة شاعر من شعراء الستينيات، تتبدَّى قسمات
إليوت في شعره، لكنها، تتبدَّى بنوع من المُوَارَبَةِ، أي من خلال صَدَى
شاعر آخر كان له عليه تأثير واضح و هو صلاح عبد الصبور، و أعني به الشاعر
الراحل أيضاً، أحمد الجوماري.
أعرفُ أن الراحل الآخر، محمد بنعمارة،
كتب دراسةً عن إليوت، في علاقته بالشعرية العربية، لم تصدُر رغم وُجُودِها
في ذمَّة اتحاد كُتاب المغرب، المكتب المركزي، لكنني لا أستطيع العُثورَ
على إليوت في شعره، رغم الميول الدينية التي جمعت بين الاثنين.
لا
حُضورَ لإليوت في الشعر المغربي.
فهو مَرَّ عابراً
أو جاءنا من خلال المشرق
لكن حُضورَهُ لم يكن بنفس الوتيرة التي كان بها حاضراً هناك، بالمعنى الذي تَوَقَّفْتُ عنده.
[11]
لَسْتُ
من جيل السياب، لأنني كواحد من شُعراء ما بعد السبعينيات، لم أهتمَّ
بإليوت شعرياً، أو لم أقرأهُ إلا في وقت مُتأخِّرٍ. قرأتُهُ في نقدهِ، و
شِعْرُهُ جاء تالياً، بعد أن تَعَلَّمْتُ من الشعراء المغاربة السابقين،
أن للحداثة أكثر من مَصْدَرٍ، لذا كان إليوت، في مَرْجِعي النظري و
النَّصِّي، هو أحـد هذه المصادر، و ليس لهُ عليَّ أي تأثير إلاَّ بالقدر
الذي يجعلُ منه شاعراً أزاحَ بعضَ الضباب الذي كانَ يَحْجُبُ البَحْرَ،
فبدتْ لنا الزُّرْقَةُ لاَزَوَرْدِيَةً، و هذا كان وَضْعُ الأجيال التي
جاءت بعد السبعينيات، و ربما هو الوضعُ ذاتُه في المشرق العربي اليوم...
في
ضَوْءِ هذا التصَوُّر الذي أقدمنا عليه، جاء السؤالُ الذي فَرَضَ نفسَهُ
عَلَيَّ، و قد يكون سؤلاً مُوَجَّهاً إلينا جميعاً، هل ما زالَ إليوت
مُمْكِناً؟ و هذا هو عنوانُ مُداخلتي.
********************
نص المداخلة التي شاركتُ بها في الملتقى الشعري العربي الأول، بالقنيطرة، ت.س.إليوت و الشعرية العربية. 16/4/2009
العلم الثقافي
إذا
كانت « الأرض الخراب «، نَقْلَةً جديدةً، في بنائها الإيقاعي، أي في
نظامها العروضي بشكل خاص، قي تجربة إليوت، فانعكاسَاتُها كانت أقوى على
الشعر الإنجليزي. فالقوالب التي سادَت، و الوضع الذي آلَ إليه الشعر
الإنجليزي، و ما عَرَفَه من انحسار في شَكِْلِه، و لُغَتِهِ و صُوَرِهِ
التي كانت تُمَثِّلُ الميولَ الرومانسيةَ التي لم تعُد تقبلُ التغيير، في
أواخر القرن التاسع، و ما تَرَكَهُ ذلك من تأثير على الشعراء
اللاَّحِقِينَ، جاءتِ « الأرضُ الخراب « لِتَضَعَهُ في المَهَبِّ، و
لِتَعْصِفَ بِكُلِّ القَناعات التي اعْتُبِرَت، إلى ذلك الحين، أساسَ
كُلِّ شِعريَةٍ، و مِعْيَاراً مُحَدِّداً لقوانينها. و هذا ما حَدا
بغاردنير أن تَعْتَبِرَها « نَقْلَةً جديدةً « في الشعر الإنجليزي.
إنَّ
القلَقَ الذي مَيَّزَ رُؤيَةَ إليوت، هو نَفْسُهُ الذي مَيَّز تَجربَتَه.
بمعنى أنَّ تجربة إليـوت لم تكُن مُسْتَقِرَّةً، و لَمْ تُوَطِّن نفسَها
على الثبات. من عَمَلٍ إلى آخر، ثَمّـةَ ماء يَجْري. ما يعني أنَّنا بصدد
نهر هيراقليط، هذا الذي لا يُمكِنُ أن نَسْبَحَ فيه أكثر من مَرَّةٍ.
لا
يعني هذا أنَّ إليوت كانَ يَعْمَلُ خارجَ الأعراف الشعرية، أو كان
يَكْتُبُ وفق هواهُ، فهو صاحِبُ نَظَرِيَةٍ في الشِّعْرِ، أي صاحب مشروع
شعري. ما يعني أنَّ هذه الأعراف، كانت فـي يَـدِهِ، مادَّةً قابِلَةً
للاشتعالِ.
فهو كانَ يَعْمَلُ على تأجِيجِ فَتِيلِها، و على بَثِّ الحياةِ في
رَمِيمِها. أو كما يقول إليـوت نَفْسُهُ، « هناك أزمانٌ لاسْتِكْشَاف أرضٍ
جديدةٍ، و هناك أزمانٌ لاستثمار الأرض التي فَتَحْناها « و « إن الأشكالَ
تحتاجُ أن تُحَطَّمَ و يُعادَ صُنْعُها من جديد، أما أن يتَحَرَّر
الشِّعرُ تمامَ التحرُّرِ من كُلِّ الأشكال فلا «. هذا التَّراَوُحُ بين
زَمَنَيْنِ، عَمَلٌ في اتِّجَاهَيْنِ؛ الماضي، لِأَجْلِ تأْجيجِ الحاضِرِ،
و ليس الماضي، لِتَثْبِيتِ الحاضر، كما حَدَثَ في فَهْمِنا لـ « النهضَةِ
« و لـ « التراث «.
[7]
لم
تكُنِ الشِّعريةُ العربية المُعاصِرة واعيةً بطبيعةِ البرنامَج الشعري
لاليوت، أو لَمْ تَكُن مُنْشَغِلَةً به، بقدر انْشِغَالِها بالبُعْدِ
المأساويِّ لِرُؤْيَتِهِ. سَيَتِمُّ استثمارُ إليوت، كَفِكْرَةٍ، أو كنوعٍ
من عَزَاءِ الذاتِ لِنَفْسِها. الحالاتُ التي كانَ يَتِمُّ فيها استثمار
التجربة شِعْرِياً، كان يَتِمُّ فيها الاكتفاء ببعض الجُزئيات، كاللغة
اليومية، أو الموسيقى الشعرية مثلاً، ولم يكُن وَعْيُ التَّصَوُّر
الإليوتي، كخارطة طريقٍ، أو كطريق بتعبير هايدغر، حاضراً في بالِ الشعراء،
و حتى النقاد. صحيح أن هناك كتابات ذَهَبَت إلى بعض أُسُسِ النظرية
الشعرية لإليوت، وصحيحٌ أنَّ السياب، في بعض أعماله، وعلى رأسها « أنشودة
المطر «
عَمِلَ على استثمار هذه التجربة بشكل رائدٍ، لكن إليوت، كان
آنذاك مَوْجَةً، أو هَبَّةً بالأحرى، أو أنها رُبما جاءت في غير أوانِها.
حين
نعود اليوم لقراءة إليوت، ثمَّة أشياء في تجربته لها أهميتُها الخاصة، و
هي ذاتُ صلة بما يَعْتَمِلُ في الشعر اليوم أكثر مما كان يَعْتَمِلُ فيه
من قبل. فاليوم، الوَعْيُ بشعرية النص، و بجمالياته، أصبح أكثر ظُهوراً
مما كان عليه من قبل. فباستثناء تجربة « شعر «، و بعض التجارب الشعرية
الفردية، التي بقيَت مَعْزولَةً، و لم يَتِمَّ الانتباهُ إليها، كان
السياق العام، هو سياق أفكارٍ، و إيديولوجيات، و الشِّعرُ، كان في هذا
السياق صورةً لِما يجري، و لم يكن تجربةً جماليةً تُوازي في جماليتها، ما
يَحْدُثُ في الواقع، أو لم تكُن، بالأحرى، واقعاً يُوازي الواقع و
يُحايثُهُ، لا صَدىً لَهُ.
[8]
لعلَّ
ما شَدَّ بعض الشعراء العرب لتجربة إليوت، خُصوصاً أولئك الذين قرأوه في
لُغَتِهِ الأصلية، و ليس مُتَرْجَماً، هو البُعدُ الشفاهي في كتابَتهِ.
فإليوت كان يُعطي أهمية كبيرةً، في تركيباتِهِ الإيقاعية، و في شكل
أوزانِه، و ما يختارهُ من وَقَفاتٍ في أواخر الأبيات، و التَّصادِي
المُعجمي لكلماتٍ من نفس الحقلِ، أو ذات اشتقاقٍ مُتقاربٍ، و كذلك
اللَّعِبِ بالأصوات، أو ما تُحدِثُهُ بعض الأصوات من تداعياتٍ في نفس
القارىء، أو المُتلقي، للبُعْدِ الصوتيِّ، و لِإنْشادِيَةِ النص. فهو في
تأثُّره بفرجيل، كان يرى أن أهمية فرجيل، تَكْمُنُ في هذا الجانب بالذات،
أو كما يقول، عنه « فأنا لا أستطيع أن أصُدَّ نفسي عن الاشتباه في أن
جزءاً من المُتْعَة في الشِّعر عند جمهور المُسْتَمِعِين المُتحَضِّر في
عهد فرجيل، كان ينشأ عن وُجود نظامين عروضيين فيه، و في نوع من التقابُل
حتى على الرغم من أن جمهور المُستمعين قد لا يكون بالضَّرُورَة قادراً على
تحليل تلك المُعاناة و بصورة مُشابِهَة..».
كأننا، هنا، بصددِ
تبريرٍ، ليس لِما قامَ به فرجيل، بل لِما أَقْدَمَ عليه إليوت، في
جَمْعِهِ بين تركيباتٍ عروضيةٍ مُخْتَلِفَةٍ في نفس النص. و ما قد
يُحْدِثُه هذا النوع من التَّركيب الإيقاعي، الذي يتخطَّى الوزن و
يتجاوزُهُ، من صَدًى، هو ذلك الصوت الذي يبقى عالقاً في نفس المتلقي.
راهَنَ
إليوت، في تنويعاتِه الإيقاعية، على البُعـد الصوتي، و هو ما كان يُتيحُ
له، في كتاباته النظرية، و النقدية، أن ينظرَ إلى النص الشعري، و فق هذا
النوع من التركيب الإيقاعي الجديد، كسمفونية، نسيجُها الموسيقي العام، هو
حاصِلُ مجمـوع الأصوات، التـي تتصادى فيما بينها. و هو ما يُسَمِّيه بـ «
تداخُل الأصوات، و تَعَدُّدِها،في النص الواحد ، ليس هناك صوت واحد مسموع
فحسب، في أية قصيدة حقيقية «. و سَتُدْرِكُ غاردنير، هذا البُعد الحداثي
في تجربة إليوت، حين ترى أن أكبر استحقاقٍ للتجربة الشعرية الجديدة
لإليوت، هي تلك الحُرية التي سَمَحَت له باستخدام كل التَّنْوِيعَات
الأسلوبية المُمْكِنَة، و توظيفِ الشِّعْرِيِّ بجُرأةٍ، أَوْسَع مما هو
نثري، و ذلك بدون أي تعارُض. و هذا ما سمح لإليوت أن يُعبِّر عن رؤيتهِ
الخاصة. فالرباعيات مثلاً، هي نموذج صالح، لهذا التنويع الإيقاعي الذي جعل
من الشعر الجديد أحد المقترحات الشعرية المقبولة، أو المُمكِنَة.
[9]
هنا
تَتَبدّى ملامحُ المشروع الشعري لإليوت، باعتباره عِمارةً وَاحِدَةً، و
بناءً لا يُمكن فصلُ طَوَابِقِهِ عن بَعْضها، أو الاكتفاء ببعض الغُرَفِ
دون غيرها. فهو مشروع شعريٌّ، يُشيرُ إلى مُمْكِنات العمل الشعري، وإلى ما
يُمكِنُ أن نَسْتَبيحَهُ من أراضٍ، لا تزالُ الكثير من تُرَبِها لم
تُقْلَب بَعْدُ. هذا ما جعل إليوت يَعْتَبِرُ الفَصْلَ، في اللغة، بين
كلماتٍ تَصْلُحُ للِشِّعر، و أخرى لا تَصْلُحُ لهُ، أو تُفْسِدُهُ، نظراً
لوضعها غير المُتَّسِق مع السياق الشعري للصورة، أو البيت، غير مقبولٍ،
لأنَّهُ كان يعتبِرُ اللغةَ أرضاً واحدةً، و أن ثمةَ سِحْراً، يكمنُ في
الكلمات، ما سمَّاهُ بـ « السِّحر البدائيِّ الكامن في اللفظة «. الذي
يعمل الشاعرُ على تَفْتِيقِهِ، و على تَوْليد شعرية الكلام، ليس في قيمة
اللفظة بمفردها، بل في مجموع النشيد الشعري.
فكما عَمِلَ إليوت، على
اختراق مبدأ صَفَاءِ الوزن الشِّعري، عَمِلَ على اختراق مبدأ صفاء اللغة
الشعرية. و جعل الشِّعْرَ كامناً في كُلِّ الأشياء، لا في اتِّجاهِ
الشِّعر، كمفهوم كلاسيكي مُغلق، بل الشِّعْر، كإمكانٍ، و كطريقٍ.
وفق
أي تَصَـوُّرٍ، إذن، عَمِلَتِ الشِّعريةُ العَربِيَـةُ على اسْتِحْضَار
تجـربة إليوت في سياقها العـربي، و ما الذي استثمرتْهُ في هذه التجربة...
السياب،
مثلاً، قامَ بالمزج بين بعض البحور الشعرية، وهي تجربةٌ لها ما يُوازيها،
من حيثُ التصور، عند أبي شادي الذي كان يُسَمِّي هذا الجمع بين أكثر من
بحر واحِدٍ، في قصيدة واحدة، بـ « مَجْمع البُحُور «، أما عبد الصبور فذهب
إلى اللغة اليومية، التي نجد لها صَدًى في مُحاضرة يوسف الخال، في
الخمسينيات، حين أكَّدَ في « الشعر الطليعي « و التَّسْمِيَةُ لهُ، على»
إبدال التعابير و المفردات القديمة...بتعابير ومفردات جديدة، مُسْتَمَدَّة
من صميم التجربة، ومن حياة الشعب «.
لكن السياب، بَقِيَ في لُغَتِه،
مَشْدُوداً إلى بلاغة النمط التعبيري المُستمدِّ من « القصيدة «، رغم
الصُّوَر المُبتَدَعة التي أقْدَمَ عليها، و شكل البناء الذي أقام عليه
قصيدتَه المعروفة، « أنشودة المطر «، و ظلَّ يُراوِحُ الأوزانَ الخليليةَ،
بنوع من « المُساومَةِ «، كما يقول شاعر عراقي، من شعراء الستينيات، في
نقده لتجربة « الرواد «.
عبد الصبور أيضاً، اكتفى ببعض جُزئيات هذا
البرنامج، و اختار منه ما ارْتَضاهُ لطبيعة تجربته، رغم اعتباره إليوت «
رجعياً « من حيث التصور.
تقول هيلين غاردنير « فالحقيقة، هي أنَّ
إليوت، قد تَرَكَ على النَّظْمِ الشِّعْرِيِّ أثراً لن يَزُولَ. لستُ أعني
أن الشعراء سيظلون يَنْظُمون بنفس طريقته الخاصة، فقد خرجوا عليها منذ
سنوات عديدة، و لكن أعني أنه، ما من شاعر صَادِقٍ نَظَمَ شِعْرَهُ بعد
صدور « الأرض الخراب « يستطيع أن يعودَ بالأداء الشعري، بل بمفهوم الشِّعر
نفسه، إلى ما كان عليه من قبل «.
هنا بالذات تكمُنُ أهمية البرنامج
الشعري لإليوت. حين قلتُ إنه يأتي من المستقبل، هذا ما كنتُ أعنيه. فليس
تغيير بعض مُكوِّنات النص، أو تعديل وَضْعِها، هو جوهرُ الحداثة، فإليوت
حداثي، بمعنى تغييره لِمَفْهُومات الأشيـاء، و لِوَعْيِنا بها. لِيْسَ
أهَمّ، و أخطـر من تغيير الذوق و تغييـر الإحساس بالشيء، و النظر فيه من
زاوية، لم تَكُن بادِيَةً من قبلُ لنا، بالصورة التي أصبحت تبدو عليها،
حين قلبنا فَهْمَنا لها، و لم نُسَلِّم بِثَبَاتِها.
هذا هو ما ذَهَبت
إليه مجلة « شعر «، حين ترجمت لإليوت، و حين نشرت مختارات من شعره.
رُبَّما كان النزوع الجمالي للشعر، و وضع شعرية النص في الواجهة، مُقابِلَ
ما كان سائداً آنذاك من تَوَجُّهات فكرية و أيديولوجية، هو ما جعل البُعدَ
الحداثيَّ يبدو أكثر وُضوحاً في تصوُّرات « شعر «، و يصير إليوت، بالتالي
أحد النماذج التي اسْتَعَانَتْ بها هذه الجماعة، لبناء مفهومها للشِّعر.
فَأَنْ
يَمُسَّ إليوت مفهومَنا للشعر، معناهُ أنه غَيَّر طبيعةَ قراءتنا له، و
غيَّرَ حُكمَنا عليه، كما أيْقَظَ فينا الحِسَّ النَّقْدِيَ الذي ظلَّ
تَاوِياً في دَواخِلِنا، كامِناً، ينتظر تلك الشعلةَ القادمة من نداء
الشعر، أعني من رِيحِهِ.
ما لم تَعِهِ الشعرية العربية، في « النهضة «
التي ظلت مُنْكَفِئَةً على ماضيها، و لا في المُقترحات الموازية لها، أعني
جبران، و من جاؤوا بعدَهُ بقليل، و حتى أصحاب « الديوان « الذين اكتفَوْا
بالمُنْجَز الرومانسي، هو هذا النظر في الأُسُس، بالمعنى الذي أعطاه نيتشه
لهذا المفهوم، حين تحدث عن الإغريق، في سياق حديثه عن فلاسفة ما قبل
سُقراط.
إليوت، حتى لا يأخُذَنا النِّسْيَانُ، دَرَسَ الفلسفةَ، و هو
يعرفُ أكثر من غيره، هذا المعنى، و يَعِي، جَيِّداً، أن الصيرورة، ليست
حَركَةً فقط، بل هي انقلاب، أو كما يقولُ هيراقليط، فالشمس التي نراها في
كُلِّ يوم ليست هي الشَّمْسُ ذاتُها. و هذا يقتضي وَعْي المعنى البعيد
للحداثة، التي لا ترتبط بوجُودِنا في زمنٍ تالٍ، فهي قَلْبٌ في المعرفة،
في الرُّؤَى، و في المواقف، و ليست سِباحَةً دائمَةً في نفس النَّهْر.
هذا
الأفُق الإليوتي، كان طريقاً تُفْضي إلى طُرُقٍ. لم يكُن سَيْراً بالمعنى
الخطيِّ، في نفس الاتجاه، بل كان خَوْضاً في اللِّوَى و المُنْعَرَجاتِ. و
هذا ما جعـل « الأرض الخـراب « تَخْتَلـِفُ حـولها الآراء و المواقف، و
يَعْتَبِرُها البعض « ألعوبَةً « و « خُدْعَةً «، لا يمكن فَكُّ غُموضِها.
و هذا هو ثمن مثل هذه التجارب التي لا تَتَوجَّهُ إلى حاضِرِها، الذي قد
يصيرُ حِجاباً لها، فهي تسيرُ قُدُماً إلى زمنٍ يَجيءُ بِلا انقطاعٍ، أو
لا يَتَوَقَّفُ عن المَجيءُ، و هذا هو المفهوم البعيد للصيرورة.
إنَّ
إليوت، في فَهْمِي و تَصَوُّرِي لَهُ، هو هذا البناء الكُلِّيّ، و ليس
فقط، تَوْليف بُحُورٍ، أو إيقاعاتٍ. ليس إليوت، هو « لُغة الشعب «، أو»
المُعادِلَ الموضُوعِيَ «، أو أصوات الشعر الثلاثة «، فإليوت هو برنامَجٌ
شامِلٌ، مفتوحٌ على المُستقبَل، تَصَيُّرٌ، و حَرَكَةٌ دائِبَةٌ، لا
تَعْرِفُ الهُدْنَةَ. بهذا المعنى، أفهَمُ قولَ غاردنير،
إنَّ
الشُّعراء خرجوا منذ زمنٍ عن طريقة إليوت، أي عن اخْتياراتِهِ الفردية.
لنتذكَّر هنا مفهوم « الموهبة الفردية «، أما ما هو جوهري في تجربته، فهو
مُتَعَلِّقٌ بالمفهـوم الكُلِّـيِّ للشِّعِرِ، أي ذلك الجوهَرُ الذي لا
يتنازَلُ عن جَوْهَرِيَتِهِ.
[10]
إذا
كان إليوت، في المشرق العربي، لم يَحْضُر بالمعنى الذي به ابْتَنـى أُفُقَ
مَشـروعِه، أو شعريتِـهِ، و ظلَّ مُجَرَّدَ تقنياتٍ، أو بعضَ آليات بناء
النص، و المشرقُ هو مَنْ كانَ على صِلَةٍ مُباشرةٍ بإليوت، من خلال
المعرفة بِلُغَتِهِ، كلُغَةٍ أولى، أو ثانيةٍ، فالمغربُ جاءَ لِقاؤهُ
بالحداثة من الشرق، و لم يَعُد لاستدراك الحداثة، أو الاقتراب منها،
مُباشَرةً، إلا من خلال الشرق ذاتِهِ. فالمغرب ذهَبَ إلى الغرب عبر الشرق،
دَوْرَةٌ كامِلَةٌ، للعَوْدَةِ إلى الأصل القريب الذي لم يذهَب إليه إلاَّ
مَنْ كتبوا بالفرنسية مُباشَرَةً، في أوَّلِ الأمر.
إليـوت جاء إلى
المغرب من خـلال السياب، و عبد الصبور، كما جـاء من خلال مجلة « شعـر «، و
ترجماتُ « الأرض الخـراب « التي تَمَّت بالعربية، كان مصدرُها الشـرق؛
ترجمة يوسف الخـال و أدونيس، و ترجمة لويس عوض، و عبد الواحد لؤلؤة، وماهر
شفيق...و مَنْ بَدَلَ جُهْداً مُغَايِراً ذهبَ إلى إليوت من خلال
الفرنسية، و الأمرُ سَيَّانِ.
الشاعر الراحل، عبد الله راجع، في
ديوانه الأول، « الهجرةُ إلى المـُدُن السُّفلى « الصادر سنة 1976، و هو
أحد شعراء السبعينيات، اسْتَوْحَى إليوت في هذا الديوان، في أكثر من نصٍّ،
لكن النص الذي فيه تَقَاطَعَ مع إليوت بشكل مُعْلَنٍ، هو « الأرضُ
الخراب.. تثمة حديثة «. و راجع كان أقربَ الشعراء المغاربة إلى تجربة
إليوت، و هذا، رُبما، لشغَفِهِ بتجربة السياب، و كذلك عبد الصبور، و
عَمَلِه بشكل خاص في أعمالـه اللاحقـة، علـى إيقاعات العامية، و على
توظيفها في ديوانيـه التاليين؛ « سلاماً و ليشربوا البحار «، و « أيادٍ
كانت تسرقُ القمر «.
ثمَّة شاعر من شعراء الستينيات، تتبدَّى قسمات
إليوت في شعره، لكنها، تتبدَّى بنوع من المُوَارَبَةِ، أي من خلال صَدَى
شاعر آخر كان له عليه تأثير واضح و هو صلاح عبد الصبور، و أعني به الشاعر
الراحل أيضاً، أحمد الجوماري.
أعرفُ أن الراحل الآخر، محمد بنعمارة،
كتب دراسةً عن إليوت، في علاقته بالشعرية العربية، لم تصدُر رغم وُجُودِها
في ذمَّة اتحاد كُتاب المغرب، المكتب المركزي، لكنني لا أستطيع العُثورَ
على إليوت في شعره، رغم الميول الدينية التي جمعت بين الاثنين.
لا
حُضورَ لإليوت في الشعر المغربي.
فهو مَرَّ عابراً
أو جاءنا من خلال المشرق
لكن حُضورَهُ لم يكن بنفس الوتيرة التي كان بها حاضراً هناك، بالمعنى الذي تَوَقَّفْتُ عنده.
[11]
لَسْتُ
من جيل السياب، لأنني كواحد من شُعراء ما بعد السبعينيات، لم أهتمَّ
بإليوت شعرياً، أو لم أقرأهُ إلا في وقت مُتأخِّرٍ. قرأتُهُ في نقدهِ، و
شِعْرُهُ جاء تالياً، بعد أن تَعَلَّمْتُ من الشعراء المغاربة السابقين،
أن للحداثة أكثر من مَصْدَرٍ، لذا كان إليوت، في مَرْجِعي النظري و
النَّصِّي، هو أحـد هذه المصادر، و ليس لهُ عليَّ أي تأثير إلاَّ بالقدر
الذي يجعلُ منه شاعراً أزاحَ بعضَ الضباب الذي كانَ يَحْجُبُ البَحْرَ،
فبدتْ لنا الزُّرْقَةُ لاَزَوَرْدِيَةً، و هذا كان وَضْعُ الأجيال التي
جاءت بعد السبعينيات، و ربما هو الوضعُ ذاتُه في المشرق العربي اليوم...
في
ضَوْءِ هذا التصَوُّر الذي أقدمنا عليه، جاء السؤالُ الذي فَرَضَ نفسَهُ
عَلَيَّ، و قد يكون سؤلاً مُوَجَّهاً إلينا جميعاً، هل ما زالَ إليوت
مُمْكِناً؟ و هذا هو عنوانُ مُداخلتي.
********************
نص المداخلة التي شاركتُ بها في الملتقى الشعري العربي الأول، بالقنيطرة، ت.س.إليوت و الشعرية العربية. 16/4/2009
العلم الثقافي
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
مواضيع مماثلة
» الشِّعْرُ والفلْسَفَة إبْداعُ القَلَــق / صلاح بوسريف
» هل العربية، عندنا، لُغَةٌ رسمية؟ - صلاح بوسريف
» السِّيــاق الجَمالِــيّ للغــةِ العَربِيَّــة / صلاح بوسريف
» حول التدريس بالدارجة !
» هدى صلاح
» هل العربية، عندنا، لُغَةٌ رسمية؟ - صلاح بوسريف
» السِّيــاق الجَمالِــيّ للغــةِ العَربِيَّــة / صلاح بوسريف
» حول التدريس بالدارجة !
» هدى صلاح
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى