مبــــادرة جـديــــدة/محمد الساسي
صفحة 1 من اصل 1
مبــــادرة جـديــــدة/محمد الساسي
الساحة اليسارية والديمقراطية المغربية اليوم ربما في حاجة إلى صنع حدث سياسي ما وإلـــى إبـــراز شيء جديــــد
في
تصريح وزارة الداخلية، بمناسبة الإعلان عن نتائج الانتخابات الأخيرة، تمت
الإشارة إلى أن 8 هيئات سياسية حصلت على ما مجموعه 89.3 % من عدد المقاعد
الواجب شغلها، كما نالت 84 % من مجموع الأصوات المعبر عنها. الرسالة هنا
واضحة، وهي أن من بين 30 حزباً سياسياً وتحالفاً سياسياً واحداً ومرشحين
مستقلين، تقدموا جميعاً لانتخابات 12 يونيو 2009، نحن ربما في حاجة إلى 8
أحزاب على أبعد تقدير، لأنها حصدت لوحدها قرابة 90 % من المقاعد، وتركت
لبقية الأحزاب ما يشبه الفُتات. وبمعنى آخر، فإن حوالي 22 حزباً ما كان
لها أن تكون، وتُعتبر زائدة، وعليها أن تعترف بحقيقة وضعها وتبحث لها عن
مخرج قبل حلول زمن الانقراض التام حيث تتحول إلى مجرد ذكرى لماض سياسي
مغربي.
لقد ساهم نظام العتبة القاسي (6 %) في إقصاء الأحزاب الصغيرة
وحرمانها من حق نيل مقاعد أكثر، وبالتالي لعب ذلك النظام دوراً في المزيد
من إضعافها ووضعها على الهامش. ومن الصعب أن ننتظر أن تتدارك ضعفها وتنجح
في الانتقال من أحزاب صغيرة إلى أحزاب متوسطة القوة أو قوية، فلربما تكون
قد مرت أكثر الفرص التي كانت تسمح بتوقع مثل هذا الاحتمال، والدينامية
الانتخابية كما تجري في المغرب اليوم، تهمش السياسة في ذاتها والحزب في
ذاته، فبالأحرى الأحزاب الصغيرة مهما تعددت ألوانها، ولا يظهر أن هناك
مؤشرات يمكنها أن تغير جذرياً، في المدى المنظور، مسار الدينامية
الانتخابية وتجعلها تَعدُ بمعطيات أخرى.
البلقنة في المغرب حقيقة واقعة ومؤلمة ويجب أن يوضع لها حد، لكن ذلك
لا يتعين أن يتم بوسائل القسر والإكراه، بل عن طريق فتح آفاق التكتلات
والاندماجات، وخاصة بين الأحزاب المغربية التي تستوفي شروط الحزب المتعارف
عليها عالمياً. وهذه الآفاق انفتحت نسبياً ثم تعطلت بعد ذلك، فلقد ظهر
تجمع اليسار الديمقراطي ثم تحالف اليسار الديمقراطي، وتم تأسيس اتحاد حزبي
بين حزبي العهد والوطني الديمقراطي، واتحاد آخر بين رابطة الحريات والقوات
المواطنة. وفي مجال الاندماجات، مثل الحزب الاشتراكي الموحد ثمرة اندماج
خمسة مكونات يسارية، والتحق الحزب الاشتراكي الديمقراطي بالاتحاد
الاشتراكي للقوات الشعبية، وأعلن حزب الأصالة والمعاصرة عن انصهار خمسة
أحزاب سابقة في البناء التنظيمي المنبثق عن تأسيس الحزب، وأعادت أغلب
الأحزاب المتفرعة عن الحركة الشعبية تجميع صفوفها في كيان حزبي واحد.
لكن الانتخابات الأخيرة لم تعرف إلا مشاركة تحالف انتخابي واحد، مكون
من ثلاثة أحزاب فقط، بينما كان المأمول أن يفيض عن تكوين الفضاءات
اليسارية المحلية في عدد من المدن ميلاد لوائح مشتركة لستة من قوى اليسار،
لكن التجربة على العموم لم تُكلل بالنجاح. الأحزاب الثلاثة التي تقدمت في
إطار تحالف اليسار الديمقراطي لم تتمكن من الحصول سوى على 475 مقعداً
بنسبة 1.7 في المائة وبــ133.956 صوتاً بنسبة 2.2 في المائة. فرغم أن
أحزاب التحالف المذكور حرصت على التشبث بأخلاقيات الحملة الانتخابية وظلت
وفية لمنطلقاتها وأفكارها، فإنها مع ذلك عانت من عدم قدرتها على إفراز نخب
محلية ذات إشعاع مكين، ومحدودية خبراتها ومعلوماتها الميدانية، وعدم
توفرها على الطاقات البشرية والمادية الكافية لتشغيل الآلة الانتخابية،
وفشلها في تجنيد الطبقة المتوسطة واستمالتها إلى صفها. فهل هذه الأحزاب
مطالبة اليوم بالتطلع إلى صياغة تجربة جديدة، أم إنها ستظل على هذه الحال،
تطوقها الإحباطات، والعجز عن تشكيل بديل على الأرض. لقد شرع بعض المحللين
في التكهن بأن الأحزاب التي لا تدخل عموماً في نادي الثمانية ستؤول إلى
زوال، وبتوالي الهزائم ستجد نفسها محاصرة بمنطق التصويت الناجع والمفيد،
إذ إن الناخب لا يمكن أن يدمن على المراهنة دائماً على الجياد الخاسرة،
وفي أحسن الأحوال إذا كان مقتنعاً باستقامة ونزاهة فريق من السياسيين
الذين لا يتوصلون إلى ولوج البرلمان أو الجماعة، فإنه سيهجر مكاتب
التصويت.
إن الناخب المغربي، بلا شك تزعجه كثرة الأحزاب والرموز واللوائح،
ويعتبر ذلك أحد الأعراض المرضية للجسم الحزبي المغربي، كما أن منطق تكوين
الحكومات القوية والمنسجمة وضمان الاستقرار السياسي يفترض وجود أقطاب كبرى
تتناوب على الحكم، وتطبق برنامجاً متفقاً عليه مسبقاً (طبعاً في ظل أنظمة
تعترف لصناديق الاقتراع بحق تحديد البرنامج واجب التطبيق).
في بلادنا، مثلا، قطب محافظ يجمع بين البراغماتية والدفاع عن الأصول،
يتشكل من حزبي الإستقلال والعدالة والتنمية، لكنه مُخترق أيضاً بنزعات
تقدمية وتيارت حداثية محدودة الأثر.
وفي بلادنا أيضاً قطب يميني مرتبط بشكل أو بآخر بالدولة، على الأقل
انطلاقاً من ظروف ميلاده، أو من كونه لا يستطيع أن يجرؤ على معالجة ملف من
الملفات العامة خارج المقاربة التي يظهر له أنها تنبع من مركز الدولة.
يتزعم هذا القطب حزب الأصالة والمعاصرة الذي يختصر فلسفة وجوده في دعم
المسار التحديثي والأوراش الكبرى للملك محمد السادس، ويعتبر أن إطاره
المرجعي الفكري و«تقريره المذهبي» هو تقرير الخمسينية وتوصيات هيئة
الإنصاف والمصالحة. وتُصَنّف ضمن عائلة هذا الحزب، أحزاب أخرى تُنعت
بـ«الإدارية»، منتهى ما تريد الوصول إليه هو تشريفها بتكليفات رسمية،
وتتمنى لو تحظى بما حظي به حزب الأصالة والمعاصرة، وتستعد دائماً لوضع
نفسها في الخدمة، مع هيكلية شكلية وجوفاء في الغالب، لا تلعب إلا دوراً
ضعيفاً وباهتاً في رسم مسار خاص بالحزب عدا الدفاع عن مصالح أفراد النخب
المشكلة لتلك الأحزاب، واستعداد لأداء ثمن تلبية تلك المصالح.
وهناك أحزاب يسارية مغربية عريقة لعبت أدوارا تاريخية في التنوير
وبناء أسس ثقافة ديمقراطية حداثية وإسماع صوت المظلومين وزرع هياكل
التأطير الجماهيري والتعبئة الشعبية، وقدمت تضحيات جمة، ولكنها تظهر اليوم
كمن لا يستطيع مقاومة نهج الازدواجية والخلط وتفضيل «العيش» قريباً من
مراكز السلطة و«الانفتاح» على وسائل اليمين واستيعاب الرحل والاستهانة
بقيمة البرنامج وبطابعه الإلزامي.
بعد الشرخ الذي أصاب صفوف اليسار بسبب الاختلاف حول قضيتي الدستور
والمشاركة الحكومية، بدأت تباشير التقارب تلوح في الأفق، وخاصة بعد
النسبية التي أصبح خطاب اليسار الحكومي يدخلها على مقولة تحقق الانتقال،
وبعد إعادة بعث مطلب الإصلاح الدستوري من طرف هذا اليسار، وبعد التطور
التنظيمي الذي يَعد ببناء مقومات الديمقراطية الداخلية المنفتحة والقائمة
على شرعنة تعدد التيارات، وبعد حصول إنتاج فكري غزير يحمل نفحات نقدية
تطال مجالات السلوك الانتخابي وطبيعة التحالفات والعلاقة مع منتخبي الحزب
ومصير قواعد المحاسبة والعضوية والالتزام. الأحزاب اليسارية المغربية
اليوم تتفرع إلى فريقين: فريق الأحزاب الحريصة على ارتباطها بالمبادئ
والمفتقدة لنفوذ انتخابي معتبر، وفريق الأحزاب المالكة لقدر من النفوذ
الانتخابي والتي انفك شيئاً فشيئاً عقد ارتباطها بالمبادئ، ولكن رياح
التراجع تهب على الفريقين معاً وتهدد بإغراق مراكبهما.
وهناك في الأخير حشد من أحزاب أخرى، أغلبها ليبرالي وبلا تأثير وازن،
أو أنه مفتقد لهوية واضحة. وقد حاول حزب الأصالة والمعاصرة إدماجها في
بنيته التنظيمية، ليصنع منها شيئاً سياسياً جديداً، ولكنه اضطر في نهاية
المطاف إلى جعل هذا «الشيء» يحمل من عناصر العتاقة والقدم أكثر مما يحمل
من عناصر التجديد والتحديث. إلا أن الحاجة في بلادنا تظل قائمة إلى انبثاق
قوة ليبرالية حقيقية، مستقلة عن الدولة، وقادرة على ابتكار الحلول خارج
المختبر المخزني. لقد حوربت فكرة بناء هذه القوة في الماضي والحاضر،
وحوصرت أيما حصار. وفضل البعض عوض ظهور حزب «الحداثة والمعاصرة» أن يظهر
حزب «الأصالة والمعاصرة»، حتى يتحكم منطق الأصالة في أي طموح للذهاب
بعيداُ في مسار المعاصرة.
الساحة اليسارية والديمقراطية المغربية اليوم، ربما في حاجة إلى صنع
حدث سياسي ما وإلى إبراز شيء جديد. هناك ربما ضرورة إلى انبثاق إطار جديد،
يستوعب القديم ويطوره، ويحقق تجميعاً للقوى على قاعدة برنامج مشترك
ومنهجية في العمل متحدة المنطلقات والمرجع. ويظل الاتحاد الاشتراكي للقوات
الشعبية، بحكم تاريخه، في موقع المطوق بواجب إطلاق المبادرة الجديدة. لكن
بحكم حاضره، تظل أهليته لقيادة مسار المبادرة متوقفة على درجة تخلصه على
الأقل من ثلاث عقد:
العقدة الأولى هي عقدة الاسم. فليس من الضروري أن تستمر قيادة
الاتحاد في الاعتقاد بأن التفريط في الاسم هو تنازل عن تاريخ لملاحم
مشهودة. المهم أن يجد اليساريون من كل الآفاق أنفسهم (الاتحاد الاشتراكي –
التقدم والاشتراكية – الاشتراكي الموحد – الطليعة - المؤتمر الوطني
الاتحادي – الحزب الاشتراكي – العمالي..) في حظيرة بيت واحد، متعدد
التيارات والحساسيات، ولكنه وطيد الأركان، وقادر على مغالبة التحديات، أي
في حظيرة حزب اشتراكي كبير.
العقدة الثانية هي عقدة التناوب، ذلك أن الاتحاد مطالب ربما بالإقرار
الصريح بالأثر السلبي الذي خلفته مشاركته في الحكومة على مسار تطور النضال
الديمقراطي من جهة، وما شهدته تلك المشاركة من إخفاقات وانزياحات عن بعض
القيم المؤسسة للهوية الديمقراطية والاشتراكية. لقد بدّدَ التناوب رصيداً
هائلا،ً مقابل تحسينات محدودة كان بالإمكان تحقيقها ربما دون مشاركة
الاتحاد.
العقدة الثالثة هي عقدة الوسائل، وذلك بوضع حد لكل المغامرات غير
محسوبة العواقب كاستعارة وسائل اليمين. كفى، إذن، من سياسة استيراد
الأعيان الوافدين من أحزاب إدارية، ومن التحالفات غير الطبيعية، ومن
الأدوات «الاستثنائية» التي قيل إنها خاصة بــ«الظروف الاستثنائية» والتي
تحولت إلى قواعد أصلية قارة.
ويظهر أن التحالف مع حزب العدالة والتنمية في العاصمة، مثلاً، لنيل
مقعد عمدة الرباط فقط –رغم هزالة نتائج الاتحاد- يدل على أن النزعة
البراغماتية التي تبحث عن المقاعد بأي ثمن، ودونما اعتبار للبرامج
والاختيارات، لا زالت مستحكمة لدى قيادة، كان عليها بعد فشل التناوب - ومع
كل الاحترام الواجب لأفرادها - أن تفسح المجال لقيادة جديدة.
إن مثل هذا التحالف بين الاتحاد الاشتراكي والعدالة والتنمية لن تظهر
آثاره الخطيرة والمدمرة إلا في مدى متوسط أو بعيد، عندما ينتهي إلى ترسيخ
فكرة بين الناس، مؤداها أن الاختلاف حول مدى الالتزام الكامل أو عدم
الالتزام الكامل بالمرجعية الكونية لحقوق الإنسان، ليس عائقاً في وجه
قيادة الطرفين المختلفين بصورة مشتركة لمهام البناء الديمقراطي!
وبعبارة أخرى، وخارج هذا المثال، يمكن القول إجمالاً، إن قيام
الاتحاد بمبادرة جديدة ذات مفعول تاريخي، ومطروحة بإلحاح، يتطلب من الحزب
أن ينجح، من بعض الوجوه، في القيام بثورة أو انتفاضة على نفسه، فهل يفعل؟
المساء
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
مواضيع مماثلة
» النقد الذاتي / محمد الساسي
» شعـب محافـظ/محمد الساسي
» الحــزب الواحـد/محمد الساسي
» محمد الساسي، شعـب محافـظ.
» الوصفــة العجيبة للفــوز فــي الانتخابــات/ محمد الساسي
» شعـب محافـظ/محمد الساسي
» الحــزب الواحـد/محمد الساسي
» محمد الساسي، شعـب محافـظ.
» الوصفــة العجيبة للفــوز فــي الانتخابــات/ محمد الساسي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى