حركة التوحيد والإصلاح بالمغرب/سعد الدين العثماني
3 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
حركة التوحيد والإصلاح بالمغرب/سعد الدين العثماني
حركة التوحيد والإصلاح بالمغرب ..حصيلة التحولات والمراجعات
مقدمات عامة
-1 ينبني القيام بالمراجعات لدى فرد أو مجموعة بشرية أو منظمة على ممارسة النقد الذاتي؛ وهو ذلك الجهد النظري والسلوكي الذي يرمي إلى تجاوز العديد من الأفكار وأساليب الفعل والسلوك لدى تجمع معين أو منظمة عن طريق إلقاء الضوء على إنجازاتها وإيجابياتها، من جهة، وعلى ثغراتها ونقائصها، من جهة ثانية. والنقد الذاتي ظاهرة صحية في المؤسسات والمجتمعات المتحضرة، بل هو جزء أساس من عملية التطوير والتقويم المستمر. لكن ذلك النقد لا يعني دائما خطأ الأفكار أو السلوكات المطلوب التخلي عنها، بل قد يعني تاريخيتها، بكونها صالحة في زمن وظرف وعدم صلاحيتها في زمن وظرف مختلفين.
وقد كثرت المراجعات وأعمال النقد والنقد الذاتي داخل الحركة الإسلامية منذ عقود من الزمان، وذلك بمحاولة إعادة النظر في المناهج والتصورات والاجتهادات الفكرية والفقهية والتربوية المتبناة أو السائدة داخل صفوفها. وكتب في ذلك عدد من العلماء والمفكرين والباحثين. وكانت لها تأثيرات إيجابية عديدة من مثل توضيح مواطن الخلل، وترشيد السلوك الدعوي والحركي، وإغناء المسيرة، والتمكين من مواجهة التحديات بكفاءة ونجاح أكبر. وتبرز تلك المراجعات أكثر في اللحظات العصيبة والمنعطفات الصعبة في مسيرة تلك الحركات. كما شهد كل سياق أشكالا مختلفة من تلك المراجعات من حيث طبيعتها أو مواضيعها أو نتائجها؛ فالمراجعات في بيئة تعرف قدرا معقولا من الانفتاح السياسي ومن الممارسة الديمقراطية هي غيرها في بيئة مغلقة تتصف بسيطرة البعد الأمني.
2 - وفي المغرب، ربما تكون حركة التوحيد والإصلاح أكثر الأطراف الإسلامية حيوية وتجددا ونقدا ذاتيا، فقد تطورت عبر الكثير من المراحل وشهدت العديد من التغيرات والتطورات فكريا وتنظيميا وسياسيا. ومن الضروري في البداية الإشارة إلى أن حركة التوحيد والإصلاح هي حصيلة توحد فصيلين في العمل الإسلامي سنة 1996م، هما حركة الإصلاح والتجديد (سنصطلح عليها في ما يأتي بالحركة) ورابطة المستقبل الإسلامي. ويمكن القول إن الحركتين شهدتا في المجمل مراجعات متشابهة، وإن اختلفت من حيث تفاصيل التنزيل في الواقع والمدة الزمنية التي استغرقتها. وكاتب هذه السطور عاش في حركة الإصلاح والتجديد مؤسسا وعضوا في هيئاتها القيادية من التأسيس إلى الوحدة، لذلك سيكون هذا المقال بالأساس رصدا لأهم مراجعات هذا الفصيل، قبل أن نعرج قليلا على أهم التحولات المنهجية والفكرية لدى حركة التوحيد والإصلاح بعد إتمام الوحدة.
3 - تختلف المراجعات والتحولات الفكرية التي شهدتها حركة التوحيد والإصلاح جذريا عن المراجعات التي شهدتها تجارب أخرى، مثل «الجماعة الإسلامية» وحركة الجهاد في مصر قبل عدة أعوام. فهاتان التجربتان تميزتا على العموم بممارسة العنف السياسي والتنظير للخروج على الحاكم والاعتداء على السياح والأجانب، وانتهى بعضها إلى تكفير الحاكم والمجتمع. وهذه أمور لم تكن سائدة داخل أغلب وأهم فصائل الحركة الإسلامية المغربية، وخصوصا الروافد التي أعطت حركة التوحيد والإصلاح. وما وجد منها في بعض الفترات بقي هامشيا غير مؤثر في المسار العام للحركة. وبالتالي، فإن الاشتراك في الاسم لا يعني الاشتراك في المسمى. وقد يكون من عوامل ذلك الرشد المبكر لروافد حركة التوحيد والإصلاح:
ـ الجذور العلمية لعدد من قيادات الحركة الإسلامية: التي نشأت ضمن عائلات وأسر لها صلة بحركة المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي ومن أسر علمية تتلمذت وتشربت من معين السلفية الوطنية؛
ـ تأثير عدد من العلماء والمفكرين الإسلاميين من ذوي الاتجاهات المعتدلة، من المغاربة وغير المغاربة، في الحركة الإسلامية وقياداتها؛
ـ التعرض لعدد من الاعتقالات والاحتكاكات الأمنية المتلاحقة بوتيرة سنوية ما بين سنتي 1981 و1985. وكانت أولاها سنة 1982 على خلفية توزيع منشورات تعرض بالنظام الملكي وبرموزه، اعتقل فيها أكثر من خمسين من قيادات وأعضاء الجماعة الإسلامية. وهذا الاحتكاك الصادم بالواقع أسهم في تسريع إنضاج بعض أفكار ومفاهيم هذه المراجعات؛
ـ طبيعة النظام السياسي المغربي الذي تبنى منذ الاستقلال الانفتاح السياسي النسبي والتعددية السياسية، كما عرف في هذه الفترة بالذات مزيدا من الانفتاح على المستويات السياسية والحقوقية. وهو لم يتبن قط في تاريخه المعاصر استراتيجية عدائية للحركة الإسلامية، ولم يسلك، كما سلكت بعض الدول، أسلوب تجفيف منابع التدين لمحاصرتها. ولذلك لم يكن التيار الدعوي العام ملجأ للتشدد والغلو على عكس ما عرفته بعض المجتمعات والأنظمة؛
ـ خصوصيات الواقع الفكري والثقافي المغربي المتأثر عموما بالتوجهات العقلانية الفرنسية وفلسفة الأنوار، وهو ما ترك أثره في مختلف التوجهات الفكرية بالبلاد، وفي مقدمتها الحركة الإسلامية.
4 - تمت أغلب المراجعات وفق تطور «طبيعي» متدرج في المجمل، في تفاعل مع تطورات واقع اجتماعي وثقافي سياسي متحول، كما تم بعضها بعد مخاض فكري، ونقاش داخلي قوي، وتعبئة واسعة في صفوف أعضاء الحركة، ومداراة للعديد من المقاومات المتأثرة بمدارس فكرية متعددة ومتنوعة تمتح من الواقع المغربي العام أو من بعض الأدبيات الإسلامية المشرقية. فهي مراجعات جماعية على العموم وإن كان لبعض قيادات الحركة فيها دور أكبر أو الدور المحرض، في تفاعل مع مجمل تحولات الساحة الفكرية والسياسية المغربية والمراجعات التي تتم في الفكر الإسلامي في دول كثيرة أخرى.
-5 كان للمراجعات التي قامت بها الحركة تأثير مقدر في الأوساط المحيطة بها، فهي لم تكن تتم في محيط مغلق أو داخل تنظيم سري، بل كانت في عمومها تعرض وتناقش في ندوات ومحاضرات مفتوحة ومكثفة، أو على صفحات جريدتي الإصلاح والراية ومجلة الفرقان. وهذا أوجد، في رأينا، تيارا فكريا أو صحويا يتبنى فكر الوسطية والمشاركة والعمل السلمي والمدني، والعمل في إطار المؤسسات، مما أصبح يمثل مدرسة ثقافية قائمة ومترسخة، أسهمت بشكل كبير في ترشيد مواقف الشباب المتدين بالمغرب وتحصينه على العموم من التشدد والغلو.
-1 ينبني القيام بالمراجعات لدى فرد أو مجموعة بشرية أو منظمة على ممارسة النقد الذاتي؛ وهو ذلك الجهد النظري والسلوكي الذي يرمي إلى تجاوز العديد من الأفكار وأساليب الفعل والسلوك لدى تجمع معين أو منظمة عن طريق إلقاء الضوء على إنجازاتها وإيجابياتها، من جهة، وعلى ثغراتها ونقائصها، من جهة ثانية. والنقد الذاتي ظاهرة صحية في المؤسسات والمجتمعات المتحضرة، بل هو جزء أساس من عملية التطوير والتقويم المستمر. لكن ذلك النقد لا يعني دائما خطأ الأفكار أو السلوكات المطلوب التخلي عنها، بل قد يعني تاريخيتها، بكونها صالحة في زمن وظرف وعدم صلاحيتها في زمن وظرف مختلفين.
وقد كثرت المراجعات وأعمال النقد والنقد الذاتي داخل الحركة الإسلامية منذ عقود من الزمان، وذلك بمحاولة إعادة النظر في المناهج والتصورات والاجتهادات الفكرية والفقهية والتربوية المتبناة أو السائدة داخل صفوفها. وكتب في ذلك عدد من العلماء والمفكرين والباحثين. وكانت لها تأثيرات إيجابية عديدة من مثل توضيح مواطن الخلل، وترشيد السلوك الدعوي والحركي، وإغناء المسيرة، والتمكين من مواجهة التحديات بكفاءة ونجاح أكبر. وتبرز تلك المراجعات أكثر في اللحظات العصيبة والمنعطفات الصعبة في مسيرة تلك الحركات. كما شهد كل سياق أشكالا مختلفة من تلك المراجعات من حيث طبيعتها أو مواضيعها أو نتائجها؛ فالمراجعات في بيئة تعرف قدرا معقولا من الانفتاح السياسي ومن الممارسة الديمقراطية هي غيرها في بيئة مغلقة تتصف بسيطرة البعد الأمني.
2 - وفي المغرب، ربما تكون حركة التوحيد والإصلاح أكثر الأطراف الإسلامية حيوية وتجددا ونقدا ذاتيا، فقد تطورت عبر الكثير من المراحل وشهدت العديد من التغيرات والتطورات فكريا وتنظيميا وسياسيا. ومن الضروري في البداية الإشارة إلى أن حركة التوحيد والإصلاح هي حصيلة توحد فصيلين في العمل الإسلامي سنة 1996م، هما حركة الإصلاح والتجديد (سنصطلح عليها في ما يأتي بالحركة) ورابطة المستقبل الإسلامي. ويمكن القول إن الحركتين شهدتا في المجمل مراجعات متشابهة، وإن اختلفت من حيث تفاصيل التنزيل في الواقع والمدة الزمنية التي استغرقتها. وكاتب هذه السطور عاش في حركة الإصلاح والتجديد مؤسسا وعضوا في هيئاتها القيادية من التأسيس إلى الوحدة، لذلك سيكون هذا المقال بالأساس رصدا لأهم مراجعات هذا الفصيل، قبل أن نعرج قليلا على أهم التحولات المنهجية والفكرية لدى حركة التوحيد والإصلاح بعد إتمام الوحدة.
3 - تختلف المراجعات والتحولات الفكرية التي شهدتها حركة التوحيد والإصلاح جذريا عن المراجعات التي شهدتها تجارب أخرى، مثل «الجماعة الإسلامية» وحركة الجهاد في مصر قبل عدة أعوام. فهاتان التجربتان تميزتا على العموم بممارسة العنف السياسي والتنظير للخروج على الحاكم والاعتداء على السياح والأجانب، وانتهى بعضها إلى تكفير الحاكم والمجتمع. وهذه أمور لم تكن سائدة داخل أغلب وأهم فصائل الحركة الإسلامية المغربية، وخصوصا الروافد التي أعطت حركة التوحيد والإصلاح. وما وجد منها في بعض الفترات بقي هامشيا غير مؤثر في المسار العام للحركة. وبالتالي، فإن الاشتراك في الاسم لا يعني الاشتراك في المسمى. وقد يكون من عوامل ذلك الرشد المبكر لروافد حركة التوحيد والإصلاح:
ـ الجذور العلمية لعدد من قيادات الحركة الإسلامية: التي نشأت ضمن عائلات وأسر لها صلة بحركة المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي ومن أسر علمية تتلمذت وتشربت من معين السلفية الوطنية؛
ـ تأثير عدد من العلماء والمفكرين الإسلاميين من ذوي الاتجاهات المعتدلة، من المغاربة وغير المغاربة، في الحركة الإسلامية وقياداتها؛
ـ التعرض لعدد من الاعتقالات والاحتكاكات الأمنية المتلاحقة بوتيرة سنوية ما بين سنتي 1981 و1985. وكانت أولاها سنة 1982 على خلفية توزيع منشورات تعرض بالنظام الملكي وبرموزه، اعتقل فيها أكثر من خمسين من قيادات وأعضاء الجماعة الإسلامية. وهذا الاحتكاك الصادم بالواقع أسهم في تسريع إنضاج بعض أفكار ومفاهيم هذه المراجعات؛
ـ طبيعة النظام السياسي المغربي الذي تبنى منذ الاستقلال الانفتاح السياسي النسبي والتعددية السياسية، كما عرف في هذه الفترة بالذات مزيدا من الانفتاح على المستويات السياسية والحقوقية. وهو لم يتبن قط في تاريخه المعاصر استراتيجية عدائية للحركة الإسلامية، ولم يسلك، كما سلكت بعض الدول، أسلوب تجفيف منابع التدين لمحاصرتها. ولذلك لم يكن التيار الدعوي العام ملجأ للتشدد والغلو على عكس ما عرفته بعض المجتمعات والأنظمة؛
ـ خصوصيات الواقع الفكري والثقافي المغربي المتأثر عموما بالتوجهات العقلانية الفرنسية وفلسفة الأنوار، وهو ما ترك أثره في مختلف التوجهات الفكرية بالبلاد، وفي مقدمتها الحركة الإسلامية.
4 - تمت أغلب المراجعات وفق تطور «طبيعي» متدرج في المجمل، في تفاعل مع تطورات واقع اجتماعي وثقافي سياسي متحول، كما تم بعضها بعد مخاض فكري، ونقاش داخلي قوي، وتعبئة واسعة في صفوف أعضاء الحركة، ومداراة للعديد من المقاومات المتأثرة بمدارس فكرية متعددة ومتنوعة تمتح من الواقع المغربي العام أو من بعض الأدبيات الإسلامية المشرقية. فهي مراجعات جماعية على العموم وإن كان لبعض قيادات الحركة فيها دور أكبر أو الدور المحرض، في تفاعل مع مجمل تحولات الساحة الفكرية والسياسية المغربية والمراجعات التي تتم في الفكر الإسلامي في دول كثيرة أخرى.
-5 كان للمراجعات التي قامت بها الحركة تأثير مقدر في الأوساط المحيطة بها، فهي لم تكن تتم في محيط مغلق أو داخل تنظيم سري، بل كانت في عمومها تعرض وتناقش في ندوات ومحاضرات مفتوحة ومكثفة، أو على صفحات جريدتي الإصلاح والراية ومجلة الفرقان. وهذا أوجد، في رأينا، تيارا فكريا أو صحويا يتبنى فكر الوسطية والمشاركة والعمل السلمي والمدني، والعمل في إطار المؤسسات، مما أصبح يمثل مدرسة ثقافية قائمة ومترسخة، أسهمت بشكل كبير في ترشيد مواقف الشباب المتدين بالمغرب وتحصينه على العموم من التشدد والغلو.
منصور- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 1943
العمر : 44
Localisation : loin du bled
تاريخ التسجيل : 07/05/2007
رد: حركة التوحيد والإصلاح بالمغرب/سعد الدين العثماني
أولا ـ أهم المراجعات في مرحلة حركة الإصلاح والتجديد
(من 1981 إلى 1996)
تأسست حركة الإصلاح والتجديد، تحت اسم «الجماعة الإسلامية»، سنة 1981 بعد مغادرة أعضائها لحركة الشبيبة الإسلامية. ويمكن أن نميز في تطور الحركة، منذ تأسيسها إلى قيام الوحدة مع رابطة المستقبل الإسلامي وتأسيس حركة التوحيد والإصلاح سنة 1996، أربعة أنواع من المراجعات. والتمييز بينها منهجي وإلا فهي متداخلة ومتزامنة في المجمل. وهي المراجعات المرتبطة بالمستوى التنظيمي وذات العلاقة بالنظام السياسي ونظرية العمل والجوانب التأصيلية والفكرية.
1 ـ المراجعات على المستوى التنظيمي
لعل أولى المراجعات التي شهدتها «الجماعة الإسلامية» بمجرد تأسيسها تتعلق بتطوير عدد من التقاليد التنظيمية المتوارثة عن الفترة السابقة المتميزة بالتأثر بمناخ ما بعد مرحلة محنة بعض الحركات الإسلامية المشرقية، وبمرحلة التوتر التي دخلتها حركة الشبيبة الإسلامية بعد اغتيال القيادي اليساري عمر بن جلون في دجنبر 1975. وهكذا، بدأ منذ الأيام الأولى القطع مع الاستفراد بالقرار واعتمدت الشورى مع القبول المطرد تعدد الآراء واختلاف وجهات النظر.
وبرز الوعي بالخصوصية المغربية، بما يعنيه ذلك من البحث عن نموذج خاص متكيف مع تلك الخصوصية. وترتب عن ذلك الميل إلى صياغة مفردات وخطاب وصيغ تنظيمية تتناسب معها. ثم تطور أيضا ليترسخ موقف الرفض لأي ارتباط تنظيمي أو مالي بأي جهة خارجية، سواء كانت تنظيمات أو حركات أو دولا.
كما بدأ تدريجيا التخلص من كثير من مظاهر السرية المتلائمة مع تنظيمات تعيش حالة اضطهاد وتوتر في العلاقة بأنظمتها وواقعها السياسي. وقد أخذ ذلك بضع سنوات من النقاش قبل أن يتخلى كلية عن العمل السري. ومن مراحله تأسيس «جمعية الجماعة الإسلامية» سنة 1983 إطارا قانونيا تجريبيا في مدينة الرباط بإلحاح من الأستاذ عبد الإله بنكيران، قبل أن يتم تعميمه في العديد من مناطق المغرب، وكانت الجماعة الإسلامية قبل ذلك تنظيما دون إطار قانوني.
وقد تطورت هذه المقدمات لتجعل العمل المؤسساتي يكتسب تدريجيا داخل الحركة مكانة متميزة. وهو ما احتاج إلى بعض الوقت لإرساء تقاليد سليمة ومستقرة في هذا المجال. وتتجلى أبرز مظاهر المؤسساتية في الأمور التالية:
ـ وضع قانون داخلي للجماعة منذ السنتين الأوليين، يحدد العلاقات التنظيمية بوضوح، ويحدد الصلاحيات، مع الحرص على الالتزام بمقتضياتها؛
ـ انتظام مواعيد عقد الهيئات التقريرية والشورية والتنفيذية؛
ـ جعل جميع المسؤوليات التنظيمية بالانتخاب؛
ـ التزام مبدإ الشورى في اتخاذ القرار في جميع هيئات وأجهزة الحركة، واعتماد آليتي التداول والتصويت وباعتماد أغلبية الأصوات. وبعض القرارات المهمة أو الاستراتيجية يتم عرضها على مجلس الشورى، مثل قرار تأسيس حزب التجديد الوطني سنة 1992. وأحيانا، يتكلف الجمع العام الوطني ببعض القرارات ذات الطابع الاستراتيجي مثل تحديد أولويات الحزب في المرحلة التالية:
ـ الإرساء التدريجي لمبدأ اللامركزية في إدارة شؤون الحركة وأجهزتها التنظيمية.
ومن سمات هذه المراجعات التنظيمية أنها كانت، في الغالب، ذات طبيعة عملية براغماتية، أكثر منها فكرية تنظيرية، وكانت تمليها الضرورات ويقود إليها أحيانا الحدس أو تهدي إليها المراجعات التي كانت تتم في ذات الفترة لدى عدد من المفكرين أو الحركات الإسلامية في المشرق أو باقي الدول المغاربية.
وستتطور هذه التحولات لتطال طبيعة التنظيم نفسه وتعطي نتيجتين أساسيتين هما:
ـ بروز فكرة التخصص أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي، لتتبنى بعد ذلك بالتمييز بين وظائف تنظيم الحركة ووظائف التخصصات. وهو التمييز الذي سيكتمل بعد تأسيس حركة التوحيد والإصلاح وسيكون له تأثير على علاقة حركة التوحيد والإصلاح بحزب العدالة والتنمية التي توصف في أدبياتها بأنها استقلالية وتمايز مع شراكة.
ـ تطور الوضع التنظيمي للمرأة: فعلى الرغم من أن الاهتمام بإسهام المرأة في عمل الحركة كان موجودا منذ بداياتها، فإن وضعيتها التنظيمية تطورت من تخصيص مجال عمل ممحض لها، إلى الحرص على إسهامها المباشر في هيئات الحركة الشورية ثم التنفيذية، إلى صيغ متقدمة من العمل المشترك يسهم فيه الرجال والنساء على حد سواء. وهذه الصيغة الأخيرة تشهد صعودا وهبوطا مع مرور الوقت واختلاف المناطق. ولم تتم هذه التحولات دون مقاومات ونقاشات حادة أحيانا، لكن تمت بالتدريج إزالة أغلب العقبات وتمهيد الطريق أمام المرأة للتقدم في مسار مساواة تنظيمية حقيقية لم تبلغ بعد في رأينا مداها كما يقتضيه التنظير.
2 ـ المراجعات في موضوع العلاقة مع النظام السياسي
يشكل كل من الموقف من النظام السياسي وطبيعة العلاقة معه المستوى الثاني من المراجعات.
وهكذا، برز تدريجيا الوعي بكون الدولة في المغرب ذات جذور تاريخية تمتد إلى أكثر من اثني عشر قرنا، ظلت باستمرار كيانا سياسيا مستقلا، والوعي بأهمية استنادها منذ البداية إلى الشرعية الدينية. فكان مبرر وجودها، على العموم، هو الدفاع عن الدين ونشره، وهو أيضا مبرر الاستمرار. وذلك على الرغم من التحفظ أو الرفض لعدد من الممارسات المنافية للحكم الرشيد أو لمقاصد الدين أو لمصلحة البلاد. وقد تعززت تلك الشرعية الدينية بالتنصيص في الدستور بعد الاستقلال على أن المغرب دولة إسلامية وأن الملك أمير المؤمنين. وبالتالي، فإن تأثير صدمة سقوط «الخلافة الإسلامية» على المغرب كان أخف بكثير منه على المشرق العربي، لأن الجميع يعتبر أن الدولة الإسلامية في المغرب مستمرة، لم تنقطع ولم تسقط. وقد أعطى ذلك ما عرف بـ«الخصوصية المغربية»، مما كان له تأثير بعيد المدى على السلوك الدعوي والتنظيمي والسياسي للحركة.
ومن تأثيرات ذلك، القطيعة التدريجية مع فكرة «إقامة الدولة الإسلامية» التي أخذت مفهوما انقلابيا طيلة العقود الأخيرة لدى بعض الحركات الإسلامية المشرقية، وبروز الحديث عن خطاب الإسهام في إقامة الدين بدل خطاب إقامة الدولة. وأكدت الحركة في أدبياتها على أن الدولة والمجتمع لا يخرجان عن صفتهما الإسلامية، وأن مبرر العمل الإسلامي هو الإسهام في إعطاء مضمون لهذه الصفة في الواقع والإسهام في تقويم الوهن في عرى الدين.
ومن تأثيرات تلك المراجعات أيضا إعادة النظر في موقع السياسي وهيمنته في نظرية العمل لدى فصائل واسعة من الحركة الإسلامية، وإعطائه موقعا إلى جانب الأبعاد الأخرى التربوية والفكرية والاجتماعية.
وقد ساعد هذا التحول ـمن بين عوامل أخرىـ في الحسم مع التفكير الانقلابي والقطع مع منطق المواجهة مع النظام، والتبني النهائي للمنهج الإصلاحي في التغيير. ولهذا، تم سنة 1987 إصدار جريدة الإصلاح التي كان شعارها «إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت». وتم التوجه بحزم إلى تبني العمل في إطار الدستور والقوانين الجاري بها العمل، ومن داخل المؤسسات.
ونشير مرة أخرى إلى أن البيئة السياسية في المغرب والانفتاح الذي بدأ يعرفه في هذه الفترة بالذات على المستويات السياسية والحقوقية، كانا من العوامل التي أسهمت في التوجه نحو الاعتدال والنضج والتفاعل مع الواقع السياسي وإجراء المراجعات المذكورة. فلكل واقع شروط تؤثر في مختلف مكوناته.
(من 1981 إلى 1996)
تأسست حركة الإصلاح والتجديد، تحت اسم «الجماعة الإسلامية»، سنة 1981 بعد مغادرة أعضائها لحركة الشبيبة الإسلامية. ويمكن أن نميز في تطور الحركة، منذ تأسيسها إلى قيام الوحدة مع رابطة المستقبل الإسلامي وتأسيس حركة التوحيد والإصلاح سنة 1996، أربعة أنواع من المراجعات. والتمييز بينها منهجي وإلا فهي متداخلة ومتزامنة في المجمل. وهي المراجعات المرتبطة بالمستوى التنظيمي وذات العلاقة بالنظام السياسي ونظرية العمل والجوانب التأصيلية والفكرية.
1 ـ المراجعات على المستوى التنظيمي
لعل أولى المراجعات التي شهدتها «الجماعة الإسلامية» بمجرد تأسيسها تتعلق بتطوير عدد من التقاليد التنظيمية المتوارثة عن الفترة السابقة المتميزة بالتأثر بمناخ ما بعد مرحلة محنة بعض الحركات الإسلامية المشرقية، وبمرحلة التوتر التي دخلتها حركة الشبيبة الإسلامية بعد اغتيال القيادي اليساري عمر بن جلون في دجنبر 1975. وهكذا، بدأ منذ الأيام الأولى القطع مع الاستفراد بالقرار واعتمدت الشورى مع القبول المطرد تعدد الآراء واختلاف وجهات النظر.
وبرز الوعي بالخصوصية المغربية، بما يعنيه ذلك من البحث عن نموذج خاص متكيف مع تلك الخصوصية. وترتب عن ذلك الميل إلى صياغة مفردات وخطاب وصيغ تنظيمية تتناسب معها. ثم تطور أيضا ليترسخ موقف الرفض لأي ارتباط تنظيمي أو مالي بأي جهة خارجية، سواء كانت تنظيمات أو حركات أو دولا.
كما بدأ تدريجيا التخلص من كثير من مظاهر السرية المتلائمة مع تنظيمات تعيش حالة اضطهاد وتوتر في العلاقة بأنظمتها وواقعها السياسي. وقد أخذ ذلك بضع سنوات من النقاش قبل أن يتخلى كلية عن العمل السري. ومن مراحله تأسيس «جمعية الجماعة الإسلامية» سنة 1983 إطارا قانونيا تجريبيا في مدينة الرباط بإلحاح من الأستاذ عبد الإله بنكيران، قبل أن يتم تعميمه في العديد من مناطق المغرب، وكانت الجماعة الإسلامية قبل ذلك تنظيما دون إطار قانوني.
وقد تطورت هذه المقدمات لتجعل العمل المؤسساتي يكتسب تدريجيا داخل الحركة مكانة متميزة. وهو ما احتاج إلى بعض الوقت لإرساء تقاليد سليمة ومستقرة في هذا المجال. وتتجلى أبرز مظاهر المؤسساتية في الأمور التالية:
ـ وضع قانون داخلي للجماعة منذ السنتين الأوليين، يحدد العلاقات التنظيمية بوضوح، ويحدد الصلاحيات، مع الحرص على الالتزام بمقتضياتها؛
ـ انتظام مواعيد عقد الهيئات التقريرية والشورية والتنفيذية؛
ـ جعل جميع المسؤوليات التنظيمية بالانتخاب؛
ـ التزام مبدإ الشورى في اتخاذ القرار في جميع هيئات وأجهزة الحركة، واعتماد آليتي التداول والتصويت وباعتماد أغلبية الأصوات. وبعض القرارات المهمة أو الاستراتيجية يتم عرضها على مجلس الشورى، مثل قرار تأسيس حزب التجديد الوطني سنة 1992. وأحيانا، يتكلف الجمع العام الوطني ببعض القرارات ذات الطابع الاستراتيجي مثل تحديد أولويات الحزب في المرحلة التالية:
ـ الإرساء التدريجي لمبدأ اللامركزية في إدارة شؤون الحركة وأجهزتها التنظيمية.
ومن سمات هذه المراجعات التنظيمية أنها كانت، في الغالب، ذات طبيعة عملية براغماتية، أكثر منها فكرية تنظيرية، وكانت تمليها الضرورات ويقود إليها أحيانا الحدس أو تهدي إليها المراجعات التي كانت تتم في ذات الفترة لدى عدد من المفكرين أو الحركات الإسلامية في المشرق أو باقي الدول المغاربية.
وستتطور هذه التحولات لتطال طبيعة التنظيم نفسه وتعطي نتيجتين أساسيتين هما:
ـ بروز فكرة التخصص أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي، لتتبنى بعد ذلك بالتمييز بين وظائف تنظيم الحركة ووظائف التخصصات. وهو التمييز الذي سيكتمل بعد تأسيس حركة التوحيد والإصلاح وسيكون له تأثير على علاقة حركة التوحيد والإصلاح بحزب العدالة والتنمية التي توصف في أدبياتها بأنها استقلالية وتمايز مع شراكة.
ـ تطور الوضع التنظيمي للمرأة: فعلى الرغم من أن الاهتمام بإسهام المرأة في عمل الحركة كان موجودا منذ بداياتها، فإن وضعيتها التنظيمية تطورت من تخصيص مجال عمل ممحض لها، إلى الحرص على إسهامها المباشر في هيئات الحركة الشورية ثم التنفيذية، إلى صيغ متقدمة من العمل المشترك يسهم فيه الرجال والنساء على حد سواء. وهذه الصيغة الأخيرة تشهد صعودا وهبوطا مع مرور الوقت واختلاف المناطق. ولم تتم هذه التحولات دون مقاومات ونقاشات حادة أحيانا، لكن تمت بالتدريج إزالة أغلب العقبات وتمهيد الطريق أمام المرأة للتقدم في مسار مساواة تنظيمية حقيقية لم تبلغ بعد في رأينا مداها كما يقتضيه التنظير.
2 ـ المراجعات في موضوع العلاقة مع النظام السياسي
يشكل كل من الموقف من النظام السياسي وطبيعة العلاقة معه المستوى الثاني من المراجعات.
وهكذا، برز تدريجيا الوعي بكون الدولة في المغرب ذات جذور تاريخية تمتد إلى أكثر من اثني عشر قرنا، ظلت باستمرار كيانا سياسيا مستقلا، والوعي بأهمية استنادها منذ البداية إلى الشرعية الدينية. فكان مبرر وجودها، على العموم، هو الدفاع عن الدين ونشره، وهو أيضا مبرر الاستمرار. وذلك على الرغم من التحفظ أو الرفض لعدد من الممارسات المنافية للحكم الرشيد أو لمقاصد الدين أو لمصلحة البلاد. وقد تعززت تلك الشرعية الدينية بالتنصيص في الدستور بعد الاستقلال على أن المغرب دولة إسلامية وأن الملك أمير المؤمنين. وبالتالي، فإن تأثير صدمة سقوط «الخلافة الإسلامية» على المغرب كان أخف بكثير منه على المشرق العربي، لأن الجميع يعتبر أن الدولة الإسلامية في المغرب مستمرة، لم تنقطع ولم تسقط. وقد أعطى ذلك ما عرف بـ«الخصوصية المغربية»، مما كان له تأثير بعيد المدى على السلوك الدعوي والتنظيمي والسياسي للحركة.
ومن تأثيرات ذلك، القطيعة التدريجية مع فكرة «إقامة الدولة الإسلامية» التي أخذت مفهوما انقلابيا طيلة العقود الأخيرة لدى بعض الحركات الإسلامية المشرقية، وبروز الحديث عن خطاب الإسهام في إقامة الدين بدل خطاب إقامة الدولة. وأكدت الحركة في أدبياتها على أن الدولة والمجتمع لا يخرجان عن صفتهما الإسلامية، وأن مبرر العمل الإسلامي هو الإسهام في إعطاء مضمون لهذه الصفة في الواقع والإسهام في تقويم الوهن في عرى الدين.
ومن تأثيرات تلك المراجعات أيضا إعادة النظر في موقع السياسي وهيمنته في نظرية العمل لدى فصائل واسعة من الحركة الإسلامية، وإعطائه موقعا إلى جانب الأبعاد الأخرى التربوية والفكرية والاجتماعية.
وقد ساعد هذا التحول ـمن بين عوامل أخرىـ في الحسم مع التفكير الانقلابي والقطع مع منطق المواجهة مع النظام، والتبني النهائي للمنهج الإصلاحي في التغيير. ولهذا، تم سنة 1987 إصدار جريدة الإصلاح التي كان شعارها «إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت». وتم التوجه بحزم إلى تبني العمل في إطار الدستور والقوانين الجاري بها العمل، ومن داخل المؤسسات.
ونشير مرة أخرى إلى أن البيئة السياسية في المغرب والانفتاح الذي بدأ يعرفه في هذه الفترة بالذات على المستويات السياسية والحقوقية، كانا من العوامل التي أسهمت في التوجه نحو الاعتدال والنضج والتفاعل مع الواقع السياسي وإجراء المراجعات المذكورة. فلكل واقع شروط تؤثر في مختلف مكوناته.
منصور- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 1943
العمر : 44
Localisation : loin du bled
تاريخ التسجيل : 07/05/2007
رد: حركة التوحيد والإصلاح بالمغرب/سعد الدين العثماني
3 ـ المراجعات في نظرية العمل
تزامنت مع المراجعات السابقة مراجعات أخرى في نظرية العمل وأدوات الاشتغال.
أولى تلك المراجعات تكمن في التبني النهائي للعمل المدني والمؤسساتي (أي العمل من داخل مؤسسات المجتمع شعبية ورسمية)، وهو تطور مهم يصعب استيعاب جميع العوامل التي قادت إليه. لكن من المؤكد أن من بينها التجارب الواقعية المحيطة وطلب النجاعة في العمل والتحولات في التقييم والموقف السياسيين. لكن تجب الإشارة إلى أن الرفض التام للعمل المؤسساتي لم يكن من قبل طاغيا على الحركة، وإنما كان رد فعل في مرحلة التوتر التي أعقبت اغتيال القيادي اليساري عمر بن جلون. والدليل على ذلك أن قياديي حركة الشبيبة الإسلامية نفسها كانوا، في أغلبهم، يشتغلون من خلال جمعيات ومؤسسات. والراجح أن من العوامل التي ساعدت بقوة على ذلك، كون الجيل الذي أسهم في النضال من أجل الإصلاح في مرحلة ما بعد الاستقلال كان يشتغل من خلال المؤسسات. وكثير من قياديي الحركة إما من أبنائه أو تلامذته بطريقة أو بأخرى. ومن الطبيعي أن تنتقل إليهم قناعاتهم، ويختاروا بدورهم العمل المؤسساتي.
ومن ذلك أن والد كاتب هذه السطور، الأستاذ امحمد العثماني، كان عضوا بجمعية علماء سوس، وهي جمعية قامت بعمل مشهود في جنوب المغرب على المستوى التربوي وبناء معاهد للتعليم والنشاط الثقافي والتوعية الدينية وغيرها. وقد نشأت شخصيا في جزء من هذا الجو واستفدت منه وتفاعلت معه. وكذلك الشأن بالنسبة إلى قيادات أخرى. فقد نشأت على ثقافة لم تكن رافضة ولا محتقرة للعمل المؤسساتي.
ومن مظاهر تبني العمل المؤسساتي بدء تأسيس الجمعيات الثقافية والتربوية والاجتماعية من قبل أعضاء الحركة بالموازاة مع ربط الجسور مع بعض المؤسسات الرسمية، وفي مقدمتها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وممارسة بعض قيادات الحركة الخطابة والوعظ في المساجد.
ثاني المراجعات في نظرية العمل تتمثل في الأخذ بفكرة الإصلاح التدريجي والقطع مع الإصلاح بالطفرات أو فكرة «كل شيء أو لا شيء». وهكذا، برزت النسبية في المواقف من الأشخاص والهيئات وسهل، بالتالي، التعاون مع الآٍخرين على الخير وفتحت قنوات الاتصال مع التوجهات الفكرية الأخرى دون تردد أو شعور بمركب نقص.
وتطورت هذه التحولات وتفاعلت مع التحولات التنظيمية السابقة ومع التخلي عن الفكر الإطلاقي لتسهم في الاقتراب من الواقعية والمسلك العملي والنضال السلمي، وتسريع المراجعات النظرية والفكرية مع التبني السريع لمفاهيم الديمقراطية والقبول بالآخر والتعددية الحزبية والتداول على السلطة... وغيرها.
4 ـ المراجعات ذات الطابع التأصيلي والفكري
هذا المستوى الرابع من المراجعات يتعلق بالأسس المنهجية والفكرية والمعرفية لفهم الدين وتقييم الواقع وبناء نظرية الإصلاح. وهي تهدف، من بين ما تهدف إليه، إلى إعادة صياغة الفكرة الإسلامية والمشروع المتبنى لنصرتها وفق تأصيل فكر فقهي ونظري على أسس جديدة. وهذه المراجعات وإن كانت امتدادا وتنظيرا للتي سبقتها، فإن الأولى ذات طابع عملي، وهذه ذات طابع نظري وفكري، وهي أعمق من الأولى وأكثر تأثيرا في الفكر وأبقى عبر الزمان، وبدونها تبدو التحولات التي تعرفها الحركة نوعا من التقلبات غير المبررة وربما أورثت اهتزازا في المفاهيم لدى أعضائها.
وهذه التحولات في المنهج والفكر تمت بتواز وتفاعل مع اجتهادات فكرية للعديد من العلماء والمفكرين الإسلاميين، ومع دراسات صدرت في نقد بعض جوانب تجربة جماعة الإخوان المسلمين وجماعات إسلامية أخرى، ومع نمو اجتهادات تجارب الحركة الإسلامية في السودان وتركيا وتونس. فقد استفادت الحركة من كل ذلك وكان مجال مناقشات ومدارسات في منتديات عامة وخاصة.
ولئن كان لهذا النوع من المراجعات مدخلان أساسيان هما: المدخل الأصولي المقاصدي والمدخل الفكري النظري، فإن تطبيقاته العملية كانت، في الغالب، تسبقها نسبيا إلى البروز. وأحيانا، تقدح الإشكالات العملية زناد الفكر وتدفعه إلى إيجاد حلول لها. ويستمر التفاعل بين جانبي التنظير والممارسة أو الفكر والتنفيذ بعلاقة تتميز بالتأثير المتبادل. وفي أحايين أخرى، يكون الفكر سابقا دافعا إلى العمل مشجعا على ارتياد الجديد. ففي قضية التمييز بين الدعوي والسياسي، مثلا، كان التطبيق سابقا، يحدوه همّ النجاعة والفاعلية والتخصص، وتلاه الفكر بالتنظير والتأصيل. أما في قضية وضعية المرأة ودورها ومكانتها في الحركة وفي مشروعها الإصلاحي، فقد كان الفكر أسبق نسبيا وأكثر تقدما، وجاذبا للتطبيق إلى الأمام. وهكذا، شهدت الحركة عملية متواصلة من التفاعل يوجه فيها التنظير التطبيق تارة، ويستفز فيها التطبيق التنظير أو يسائله تارة أخرى.
وعلى الرغم من أن أصول هذه المراجعات مدونة في مقالات وكتيبات شكلت أساس التكوين الفكري والتأطير المنهجي لأعضاء الحركة ومناصريها لحوالي عقد ونصف من الزمان، فإن الملاحظ على هذه الفترة أن تلك الكتابات الفكرية والتأصيلية قليلة على العموم ولا تعكس الجهد الكبير الذي بذل في الواقع. ونظن أن من عوامل ذلك:
أ ـ استغراق قيادات الحركة في العمل اليومي التأطيري والدعوي والحركي، وليس منها من تفرغ لتدوين مختلف تجاربه ونظرياته العلمية والفكرية؛
ب ـ كون أغلب تلك القيادات في هذه الفترة شابة في العشرينات أو الثلاثينات من عمرها، وتغير الوضع قليلا في مرحلة ثانية بعد الاتساع النسبي لقاعدة الحركة وكهولة قياداتها؛
ج ـ التأثر بالطابع العام للعلماء المغاربة المتصف عموما بالزهد في الكتابة والرهبة منها؛
د ـ وفرة الكتاب الإسلامي المشرقي في السوق المغربية وعدم ميل المغاربة عموما إلى التكرار والكتابة في ما هو مكتوب فيه أصلا.
ولذلك، فإن كثيرا من إنتاج قيادات الحركة لا يزال رهين تسجيلات صوتية أو مصورة في أنشطة تأطيرية وندوات فكرية كانت أساس التأطير لأبناء الحركة ومناصريها.
تزامنت مع المراجعات السابقة مراجعات أخرى في نظرية العمل وأدوات الاشتغال.
أولى تلك المراجعات تكمن في التبني النهائي للعمل المدني والمؤسساتي (أي العمل من داخل مؤسسات المجتمع شعبية ورسمية)، وهو تطور مهم يصعب استيعاب جميع العوامل التي قادت إليه. لكن من المؤكد أن من بينها التجارب الواقعية المحيطة وطلب النجاعة في العمل والتحولات في التقييم والموقف السياسيين. لكن تجب الإشارة إلى أن الرفض التام للعمل المؤسساتي لم يكن من قبل طاغيا على الحركة، وإنما كان رد فعل في مرحلة التوتر التي أعقبت اغتيال القيادي اليساري عمر بن جلون. والدليل على ذلك أن قياديي حركة الشبيبة الإسلامية نفسها كانوا، في أغلبهم، يشتغلون من خلال جمعيات ومؤسسات. والراجح أن من العوامل التي ساعدت بقوة على ذلك، كون الجيل الذي أسهم في النضال من أجل الإصلاح في مرحلة ما بعد الاستقلال كان يشتغل من خلال المؤسسات. وكثير من قياديي الحركة إما من أبنائه أو تلامذته بطريقة أو بأخرى. ومن الطبيعي أن تنتقل إليهم قناعاتهم، ويختاروا بدورهم العمل المؤسساتي.
ومن ذلك أن والد كاتب هذه السطور، الأستاذ امحمد العثماني، كان عضوا بجمعية علماء سوس، وهي جمعية قامت بعمل مشهود في جنوب المغرب على المستوى التربوي وبناء معاهد للتعليم والنشاط الثقافي والتوعية الدينية وغيرها. وقد نشأت شخصيا في جزء من هذا الجو واستفدت منه وتفاعلت معه. وكذلك الشأن بالنسبة إلى قيادات أخرى. فقد نشأت على ثقافة لم تكن رافضة ولا محتقرة للعمل المؤسساتي.
ومن مظاهر تبني العمل المؤسساتي بدء تأسيس الجمعيات الثقافية والتربوية والاجتماعية من قبل أعضاء الحركة بالموازاة مع ربط الجسور مع بعض المؤسسات الرسمية، وفي مقدمتها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وممارسة بعض قيادات الحركة الخطابة والوعظ في المساجد.
ثاني المراجعات في نظرية العمل تتمثل في الأخذ بفكرة الإصلاح التدريجي والقطع مع الإصلاح بالطفرات أو فكرة «كل شيء أو لا شيء». وهكذا، برزت النسبية في المواقف من الأشخاص والهيئات وسهل، بالتالي، التعاون مع الآٍخرين على الخير وفتحت قنوات الاتصال مع التوجهات الفكرية الأخرى دون تردد أو شعور بمركب نقص.
وتطورت هذه التحولات وتفاعلت مع التحولات التنظيمية السابقة ومع التخلي عن الفكر الإطلاقي لتسهم في الاقتراب من الواقعية والمسلك العملي والنضال السلمي، وتسريع المراجعات النظرية والفكرية مع التبني السريع لمفاهيم الديمقراطية والقبول بالآخر والتعددية الحزبية والتداول على السلطة... وغيرها.
4 ـ المراجعات ذات الطابع التأصيلي والفكري
هذا المستوى الرابع من المراجعات يتعلق بالأسس المنهجية والفكرية والمعرفية لفهم الدين وتقييم الواقع وبناء نظرية الإصلاح. وهي تهدف، من بين ما تهدف إليه، إلى إعادة صياغة الفكرة الإسلامية والمشروع المتبنى لنصرتها وفق تأصيل فكر فقهي ونظري على أسس جديدة. وهذه المراجعات وإن كانت امتدادا وتنظيرا للتي سبقتها، فإن الأولى ذات طابع عملي، وهذه ذات طابع نظري وفكري، وهي أعمق من الأولى وأكثر تأثيرا في الفكر وأبقى عبر الزمان، وبدونها تبدو التحولات التي تعرفها الحركة نوعا من التقلبات غير المبررة وربما أورثت اهتزازا في المفاهيم لدى أعضائها.
وهذه التحولات في المنهج والفكر تمت بتواز وتفاعل مع اجتهادات فكرية للعديد من العلماء والمفكرين الإسلاميين، ومع دراسات صدرت في نقد بعض جوانب تجربة جماعة الإخوان المسلمين وجماعات إسلامية أخرى، ومع نمو اجتهادات تجارب الحركة الإسلامية في السودان وتركيا وتونس. فقد استفادت الحركة من كل ذلك وكان مجال مناقشات ومدارسات في منتديات عامة وخاصة.
ولئن كان لهذا النوع من المراجعات مدخلان أساسيان هما: المدخل الأصولي المقاصدي والمدخل الفكري النظري، فإن تطبيقاته العملية كانت، في الغالب، تسبقها نسبيا إلى البروز. وأحيانا، تقدح الإشكالات العملية زناد الفكر وتدفعه إلى إيجاد حلول لها. ويستمر التفاعل بين جانبي التنظير والممارسة أو الفكر والتنفيذ بعلاقة تتميز بالتأثير المتبادل. وفي أحايين أخرى، يكون الفكر سابقا دافعا إلى العمل مشجعا على ارتياد الجديد. ففي قضية التمييز بين الدعوي والسياسي، مثلا، كان التطبيق سابقا، يحدوه همّ النجاعة والفاعلية والتخصص، وتلاه الفكر بالتنظير والتأصيل. أما في قضية وضعية المرأة ودورها ومكانتها في الحركة وفي مشروعها الإصلاحي، فقد كان الفكر أسبق نسبيا وأكثر تقدما، وجاذبا للتطبيق إلى الأمام. وهكذا، شهدت الحركة عملية متواصلة من التفاعل يوجه فيها التنظير التطبيق تارة، ويستفز فيها التطبيق التنظير أو يسائله تارة أخرى.
وعلى الرغم من أن أصول هذه المراجعات مدونة في مقالات وكتيبات شكلت أساس التكوين الفكري والتأطير المنهجي لأعضاء الحركة ومناصريها لحوالي عقد ونصف من الزمان، فإن الملاحظ على هذه الفترة أن تلك الكتابات الفكرية والتأصيلية قليلة على العموم ولا تعكس الجهد الكبير الذي بذل في الواقع. ونظن أن من عوامل ذلك:
أ ـ استغراق قيادات الحركة في العمل اليومي التأطيري والدعوي والحركي، وليس منها من تفرغ لتدوين مختلف تجاربه ونظرياته العلمية والفكرية؛
ب ـ كون أغلب تلك القيادات في هذه الفترة شابة في العشرينات أو الثلاثينات من عمرها، وتغير الوضع قليلا في مرحلة ثانية بعد الاتساع النسبي لقاعدة الحركة وكهولة قياداتها؛
ج ـ التأثر بالطابع العام للعلماء المغاربة المتصف عموما بالزهد في الكتابة والرهبة منها؛
د ـ وفرة الكتاب الإسلامي المشرقي في السوق المغربية وعدم ميل المغاربة عموما إلى التكرار والكتابة في ما هو مكتوب فيه أصلا.
ولذلك، فإن كثيرا من إنتاج قيادات الحركة لا يزال رهين تسجيلات صوتية أو مصورة في أنشطة تأطيرية وندوات فكرية كانت أساس التأطير لأبناء الحركة ومناصريها.
منصور- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 1943
العمر : 44
Localisation : loin du bled
تاريخ التسجيل : 07/05/2007
رد: حركة التوحيد والإصلاح بالمغرب/سعد الدين العثماني
كثير من إنتاج قيادات الحركة لا يزال رهين تسجيلات صوتية أو مصورة في
أنشطة تأطيرية وندوات فكرية كانت أساس التأطير لأبناء الحركة ومناصريها.
وسنحاول هنا توضيح أهم مفردات هذه المراجعات التأصيلية والفكرية:
أ ـ المقاصدية
كانت بداية النقلة في المجال التصوري بروز النظرة المقاصدية والاهتمام
بالدراسات في أصول الفقه باعتبارها مدخلا للفهم السليم للنصوص والأحكام
الشرعية. وهكذا، احتلت كتابات كل من عز الدين بن عبد السلام وشهاب الدين
القرافي وتقي الدين ابن تيمية وأبي إسحاق الشاطبي وابن القيم وغيرهم مكانة
متميزة في «حقل الشواهد الاستدلالية والنصوص الحجاجية والتأصيلية لمفاهيم
الحركة الدعوية والحركية والسياسية».
وقد تكون هذه المكانة التي للثقافة الأصولية في تفكير وخطاب الحركة
ناتجة عن كون العديد من مؤسسيها أبناء لشخصيات علمية، منهم، على سبيل
المثال، الأمين بوخبزة ومحمد عز الدين توفيق والمقرئ الإدريسي أبو زيد
وسعد الدين العثماني. وهذه الخاصية ميزت هذه النخبة بالتأثر بالعلم الشرعي
أكثر من التأثر بالمشرب الصوفي، مع ما يعنيه ذلك من ميل إلى ترشيد فهم
الدين وعقلنة تنزيله في الواقع. وقد تعزز هذا التوجه، كما سنرى، مع الوحدة
وتأسيس حركة التوحيد والإصلاح بأمثال الدكتور أحمد الريسوني وغيره من
الأساتذة والعلماء الأفاضل.
كما أن تأسيس شعب الدراسات الإسلامية بالجامعات المغربية سنة 1980
كان ذا تأثير كبير في نشر الثقافة الإسلامية والعلوم الشرعية في المجتمع
عموما، وبين أبناء الحركة الإسلامية على وجه الخصوص. وكان الكثير من أبناء
الحركة من طلبتها وخريجيها، ثم من أساتذنها.
أما أهم المفاهيم النظرية التي استند إليها هذا التحول فهي:
ـ إن الفقه في مجال السياسة الشرعية «فقه مقاصدي»، لا يجمد على
الوسائل التي وردت بها النصوص، بل يرتبط بالأهداف المتوخاة وراءها أول
مرة. «وبقدر ما يجب أن نكون «نصيين» في مجال الشعائر التعبدية والمقدرات
الشرعية (وهي ما جعل له الشرع مقدارا محددا)، يجب أن نكون مرتبطين بالحكم
والمقاصد في مجال المعاملات وجوانب الفقه المتعلق بالواقع البشري المتغير
والمتجدد»؛
ـ اعتبار العمل الدعوي مما يدخل في مجال السياسة الشرعية ويخضع
لأصولها وقواعدها، «وواجب على الدعاة أن يتفهموها وينطلقوا منها، وإلا
انساقوا إلى أخطاء خطيرة، ربما تكون لها نتائج بعيدة المدى في واقع الدعوة
والأمة معا»؛
ـ تبني النظرة النسبية في تقييم الأمور والتفاعل معها، أخذا بقواعد
المصلحة والموازنة بين المصالح والمفاسد وترجيح الراجح منها عند التزاحم
أو التعارض. وذلك على «عكس النظرة التي تعتمد مقولة «كل شيء أو لا شيء»،
وتعتبر الأمور إما خيرا محضا أو شرا محضا و«تحرم» الشيء أو الفعل لتضمنه
مفاسد مهما كانت قليلة بالمقارنة مع مصالحه ومنافعه». وهذه النظرة منحت
الحركة منهجا عمليا في تقييم الناس والهيئات والأحداث بنسبية وتفاعل
إيجابي.
وإذ تؤشر هذه المقدمات على أن الثقافة الأصولية أصبحت موجهة بطريقة
مباشرة أو غير مباشرة داخل الحركة، مما يشهد له الاستعمال المكثف للمفردات
الأصولية مثل مراعاة المصالح والمفاسد والموازنة بينها ومراعاة مقاصد
التصرفات ومآلاتها، فإنها أقنعت في تلك المرحلة بأن الموقف من السلطة
والتعامل معها يدخل في إطار السياسة الشرعية ويخضع لقواعدها، وبأن الموقف
السياسي ما هو إلا اجتهاد في التقدير المصلحي خاضع لاعتبار الترجيح
والموازنة، وبأنه يدور بين الخطإ والصواب وليس بين الحق والباطل.
كما مهدت المقدمات المذكورة للتعميق النظري لتبني الديمقراطية
والتعددية باعتبار ذلك من آليات وأدوات تدبير الاختلاف وتدبير الشأن
السياسي، ومهدت لاعتماد الخط السلمي المدني كمقاربة جوهرية في التعامل مع
قضايا الوضع السياسي والاقتصادي والثقافي. كما أفادت تلك المنطلقات
الأصولية في منع أي تردد في الاستفادة من الخبرة الغربية في إطار مقاصد
الشرع وقواعده العامة، على أساس أن المسلم يستطيع أن يستفيد من الحكمة
البشرية في مناطق واسعة من حياته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بما
يجلب المصالح ويدرأ المفاسد ويرعى حاجات الناس، أفرادا وجماعات. وهي بذلك
تقدح زناد الاجتهاد والابتكار بمنهج مقاصدي مفتوح.
ب ـ التجديدية:
في تواز مع الفهم المقاصدي للدين وفي تفاعل معه، برز الاهتمام بتجديد الدين، فهما وسلوكا.
وهناك عاملان ساعدا، من بين عوامل أخرى، على الميل إلى تبني العديد من
الآراء التجديدية، أولهما جمع كثير من قيادات الحركة بين الثقافة الشرعية
والثقافة العصرية، فالتشبع بهما معا والعمل على الاستفادة من الواحدة
منهما لفهم الأخرى يشكل ميزة مؤثرة في تطور الحركة؛ والعامل الثاني هو
التحدي الفكري الذي كانت تطرحه الحركة اليسارية القوية في صفوف النخب
المثقفة وطلبة الجامعات، فاستفزت عددا من أبناء الحركة ليطوروا رؤاهم
ونظراتهم. وهذان العاملان جعلا عددا من قيادات الحركة يتشبعون بالثقافة
المنهجية المعاصرة ويكتسبون مرونة في التفاعل مع الواقع ويتبنون العديد من
الاجتهادات الجريئة.
ومن تأثيرات ذلك بروز فكرة الانسجام بين الإسلام والمرجعية
الإسلامية، من جهة، والتحديث ومقتضياته، من جهة ثانية، وتجاوز أي ادعاءات
للتناقض بينهما. وهنا، بدأ تدريجيا تبني المفاهيم الحديثة مثل الديمقراطية
والتعددية والدولة المدنية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة. وهو المسار الذي
انتهى بالعديد من قيادات الحركة إلى اعتماد تلك المفاهيم دون مواربة ولا
تردد، ورفض سلوك خطاب يوحي بالتشكيك في تبنيها
المبدئي.
ج ـ التغيير الحضاري
هذا المستوى من المراجعة الفكرية يروم نقد سيطرة فكرة التغيير السياسي
على الحركات السياسية عموما، مما كان له الأثر على الحركات الإسلامية في
فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. ويعود فضل الكتابة فيه إلى
الأستاذ محمد يتيم. فاستنادا إلى قراءة في الكسب التاريخي للأمة، وبعد عرض
منطلقات الدعوة الإسلامية التي هي عقدية وإصلاحية للمجتمع بالأساس، قام
بالتأكيد على أن مشكلة الأمة حضارية، ولا يمكن اختزالها في البعد السياسي
وحده. والأخطار الحقيقية التي تتهدد هوية الأمة تكمن أساسا في انتصار
القيم الحضارية الغربية في نفوس الكثير من أبنائها. وبالتالي، فإن نقطة
البداية لعمل الحركة الإسلامية هي تربوية وفكرية واجتماعية بالأساس،
ومحورها الإنسان. وهكذا، تأسست ـ بالاستناد إلى منطق التاريخ والواقع
وتطور المجتمعات ـ أرضية فكرية للتحولات والمراجعات الأخرى، مما يروم جعل
الدعوة دعامة لأسس الاستقرار والأمن الاجتماعي ونشر فكر الاعتدال.
وفي هذا السياق، نبع الاهتمام بالمسألة الثقافية وإعطاء الأهمية
للتحصين الثقافي. وكان لمجلة «الفرقان» دور كبير في ذلك، إذ قررت «الجماعة
الإسلامية» إصدارها منذ بدايات تأسيسها، وصدر عددها الأول سنة 1984، وقامت
بنشر جزء هام من الإنتاج الفكري لقيادات الحركة ومن النقاشات حول الأفكار
والمراجعات الجديدة، كما كانت من قنوات الحوار مع التوجهات الإسلامية
الأخرى ومع الفكر اليساري السائد في تلك المرحلة في الساحة المغربية.
أنشطة تأطيرية وندوات فكرية كانت أساس التأطير لأبناء الحركة ومناصريها.
وسنحاول هنا توضيح أهم مفردات هذه المراجعات التأصيلية والفكرية:
أ ـ المقاصدية
كانت بداية النقلة في المجال التصوري بروز النظرة المقاصدية والاهتمام
بالدراسات في أصول الفقه باعتبارها مدخلا للفهم السليم للنصوص والأحكام
الشرعية. وهكذا، احتلت كتابات كل من عز الدين بن عبد السلام وشهاب الدين
القرافي وتقي الدين ابن تيمية وأبي إسحاق الشاطبي وابن القيم وغيرهم مكانة
متميزة في «حقل الشواهد الاستدلالية والنصوص الحجاجية والتأصيلية لمفاهيم
الحركة الدعوية والحركية والسياسية».
وقد تكون هذه المكانة التي للثقافة الأصولية في تفكير وخطاب الحركة
ناتجة عن كون العديد من مؤسسيها أبناء لشخصيات علمية، منهم، على سبيل
المثال، الأمين بوخبزة ومحمد عز الدين توفيق والمقرئ الإدريسي أبو زيد
وسعد الدين العثماني. وهذه الخاصية ميزت هذه النخبة بالتأثر بالعلم الشرعي
أكثر من التأثر بالمشرب الصوفي، مع ما يعنيه ذلك من ميل إلى ترشيد فهم
الدين وعقلنة تنزيله في الواقع. وقد تعزز هذا التوجه، كما سنرى، مع الوحدة
وتأسيس حركة التوحيد والإصلاح بأمثال الدكتور أحمد الريسوني وغيره من
الأساتذة والعلماء الأفاضل.
كما أن تأسيس شعب الدراسات الإسلامية بالجامعات المغربية سنة 1980
كان ذا تأثير كبير في نشر الثقافة الإسلامية والعلوم الشرعية في المجتمع
عموما، وبين أبناء الحركة الإسلامية على وجه الخصوص. وكان الكثير من أبناء
الحركة من طلبتها وخريجيها، ثم من أساتذنها.
أما أهم المفاهيم النظرية التي استند إليها هذا التحول فهي:
ـ إن الفقه في مجال السياسة الشرعية «فقه مقاصدي»، لا يجمد على
الوسائل التي وردت بها النصوص، بل يرتبط بالأهداف المتوخاة وراءها أول
مرة. «وبقدر ما يجب أن نكون «نصيين» في مجال الشعائر التعبدية والمقدرات
الشرعية (وهي ما جعل له الشرع مقدارا محددا)، يجب أن نكون مرتبطين بالحكم
والمقاصد في مجال المعاملات وجوانب الفقه المتعلق بالواقع البشري المتغير
والمتجدد»؛
ـ اعتبار العمل الدعوي مما يدخل في مجال السياسة الشرعية ويخضع
لأصولها وقواعدها، «وواجب على الدعاة أن يتفهموها وينطلقوا منها، وإلا
انساقوا إلى أخطاء خطيرة، ربما تكون لها نتائج بعيدة المدى في واقع الدعوة
والأمة معا»؛
ـ تبني النظرة النسبية في تقييم الأمور والتفاعل معها، أخذا بقواعد
المصلحة والموازنة بين المصالح والمفاسد وترجيح الراجح منها عند التزاحم
أو التعارض. وذلك على «عكس النظرة التي تعتمد مقولة «كل شيء أو لا شيء»،
وتعتبر الأمور إما خيرا محضا أو شرا محضا و«تحرم» الشيء أو الفعل لتضمنه
مفاسد مهما كانت قليلة بالمقارنة مع مصالحه ومنافعه». وهذه النظرة منحت
الحركة منهجا عمليا في تقييم الناس والهيئات والأحداث بنسبية وتفاعل
إيجابي.
وإذ تؤشر هذه المقدمات على أن الثقافة الأصولية أصبحت موجهة بطريقة
مباشرة أو غير مباشرة داخل الحركة، مما يشهد له الاستعمال المكثف للمفردات
الأصولية مثل مراعاة المصالح والمفاسد والموازنة بينها ومراعاة مقاصد
التصرفات ومآلاتها، فإنها أقنعت في تلك المرحلة بأن الموقف من السلطة
والتعامل معها يدخل في إطار السياسة الشرعية ويخضع لقواعدها، وبأن الموقف
السياسي ما هو إلا اجتهاد في التقدير المصلحي خاضع لاعتبار الترجيح
والموازنة، وبأنه يدور بين الخطإ والصواب وليس بين الحق والباطل.
كما مهدت المقدمات المذكورة للتعميق النظري لتبني الديمقراطية
والتعددية باعتبار ذلك من آليات وأدوات تدبير الاختلاف وتدبير الشأن
السياسي، ومهدت لاعتماد الخط السلمي المدني كمقاربة جوهرية في التعامل مع
قضايا الوضع السياسي والاقتصادي والثقافي. كما أفادت تلك المنطلقات
الأصولية في منع أي تردد في الاستفادة من الخبرة الغربية في إطار مقاصد
الشرع وقواعده العامة، على أساس أن المسلم يستطيع أن يستفيد من الحكمة
البشرية في مناطق واسعة من حياته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بما
يجلب المصالح ويدرأ المفاسد ويرعى حاجات الناس، أفرادا وجماعات. وهي بذلك
تقدح زناد الاجتهاد والابتكار بمنهج مقاصدي مفتوح.
ب ـ التجديدية:
في تواز مع الفهم المقاصدي للدين وفي تفاعل معه، برز الاهتمام بتجديد الدين، فهما وسلوكا.
وهناك عاملان ساعدا، من بين عوامل أخرى، على الميل إلى تبني العديد من
الآراء التجديدية، أولهما جمع كثير من قيادات الحركة بين الثقافة الشرعية
والثقافة العصرية، فالتشبع بهما معا والعمل على الاستفادة من الواحدة
منهما لفهم الأخرى يشكل ميزة مؤثرة في تطور الحركة؛ والعامل الثاني هو
التحدي الفكري الذي كانت تطرحه الحركة اليسارية القوية في صفوف النخب
المثقفة وطلبة الجامعات، فاستفزت عددا من أبناء الحركة ليطوروا رؤاهم
ونظراتهم. وهذان العاملان جعلا عددا من قيادات الحركة يتشبعون بالثقافة
المنهجية المعاصرة ويكتسبون مرونة في التفاعل مع الواقع ويتبنون العديد من
الاجتهادات الجريئة.
ومن تأثيرات ذلك بروز فكرة الانسجام بين الإسلام والمرجعية
الإسلامية، من جهة، والتحديث ومقتضياته، من جهة ثانية، وتجاوز أي ادعاءات
للتناقض بينهما. وهنا، بدأ تدريجيا تبني المفاهيم الحديثة مثل الديمقراطية
والتعددية والدولة المدنية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة. وهو المسار الذي
انتهى بالعديد من قيادات الحركة إلى اعتماد تلك المفاهيم دون مواربة ولا
تردد، ورفض سلوك خطاب يوحي بالتشكيك في تبنيها
المبدئي.
ج ـ التغيير الحضاري
هذا المستوى من المراجعة الفكرية يروم نقد سيطرة فكرة التغيير السياسي
على الحركات السياسية عموما، مما كان له الأثر على الحركات الإسلامية في
فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. ويعود فضل الكتابة فيه إلى
الأستاذ محمد يتيم. فاستنادا إلى قراءة في الكسب التاريخي للأمة، وبعد عرض
منطلقات الدعوة الإسلامية التي هي عقدية وإصلاحية للمجتمع بالأساس، قام
بالتأكيد على أن مشكلة الأمة حضارية، ولا يمكن اختزالها في البعد السياسي
وحده. والأخطار الحقيقية التي تتهدد هوية الأمة تكمن أساسا في انتصار
القيم الحضارية الغربية في نفوس الكثير من أبنائها. وبالتالي، فإن نقطة
البداية لعمل الحركة الإسلامية هي تربوية وفكرية واجتماعية بالأساس،
ومحورها الإنسان. وهكذا، تأسست ـ بالاستناد إلى منطق التاريخ والواقع
وتطور المجتمعات ـ أرضية فكرية للتحولات والمراجعات الأخرى، مما يروم جعل
الدعوة دعامة لأسس الاستقرار والأمن الاجتماعي ونشر فكر الاعتدال.
وفي هذا السياق، نبع الاهتمام بالمسألة الثقافية وإعطاء الأهمية
للتحصين الثقافي. وكان لمجلة «الفرقان» دور كبير في ذلك، إذ قررت «الجماعة
الإسلامية» إصدارها منذ بدايات تأسيسها، وصدر عددها الأول سنة 1984، وقامت
بنشر جزء هام من الإنتاج الفكري لقيادات الحركة ومن النقاشات حول الأفكار
والمراجعات الجديدة، كما كانت من قنوات الحوار مع التوجهات الإسلامية
الأخرى ومع الفكر اليساري السائد في تلك المرحلة في الساحة المغربية.
منصور- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 1943
العمر : 44
Localisation : loin du bled
تاريخ التسجيل : 07/05/2007
رد: حركة التوحيد والإصلاح بالمغرب/سعد الدين العثماني
ثانيا ـ المراجعات في مرحلة حركة التوحيد والإصلاح
تلك هي أهم المراجعات التي قامت بها حركة الإصلاح والتجديد في
ثمانينيات القرن الماضي والنصف الأول لتسعينياته. والراجح أن مثلها كان
يتم في الوقت نفسه أو قريب منه في الرافد الآخر لحركة التوحيد والإصلاح:
رابطة المستقبل الإسلامي. وبعد تأسيس حركة التوحيد والإصلاح اغتنت تلك
التحولات والمراجعات بعضها ببعض. وانضافت الدراسات الأصولية والمقاصدية
القيمة للدكتور أحمد الريسوني، وفي مقدمتها «نظرية المقاصد عند الإمام
الشاطبي» و«نظرية التقريب والتغليب»، خصوصا وأنه كان رئيسا لحركة التوحيد
والإصلاح من سنة 1996 إلى سنة 2003. وهكذا تعمقت في هذه الفترة ثلاث
مراجعات أساسية هي:
ـ التنظيم الرسالي؛
ـ تمييز الحركة الأم عن التخصصات؛
ـ التمييز بين العمل الدعوي والعمل السياسي.
1 ـ التنظيم الرسالي
عرفت حركة التوحيد والإصلاح تطورا من التنظيم الجامع إلى التنظيم
الرسالي، أي التنظيم الذي هدفه الأساس ليس هو تجميع الأنصار وتكثير
الأعضاء، بل هو إحداث الأثر في الواقع من حولهم، من تحقيق لمقاصد الدين
وقيمه وإشاعة للخير والصلاح. فوجود الأعضاء ـ كثروا أو قلواـ وسيلة لتحقيق
هذه المقاصد، والمقاصد مقدمة على الوسائل. وهذا ما عبر عنه برسالية
التنظيم، فهو تنظيم يحمل رسالة، تتضمن منطلقات ومبادئ وأهدافا، وواجبه أن
يرتبط برسالته ومدى تمثلها في الواقع، لا أن يشتغل بذاته ولو على حسابها.
وبالتالي، فإن معيار نجاح الحركة في عملها لا يتعلق بعدد الأعضاء
وتطور التنظيم ولكن بالأثر المحدث في الواقع ومدى ضخ التنظيم للمزيد من
الطاقات الدعوية والكفاءات المؤهلة في مختلف المؤسسات الشعبية والرسمية،
فتسهم في إشاعة القيم والمبادئ التي تعمل الحركة من أجلها.
كما تعني عبارة التنظيم الرسالي أن عملية الإصلاح ليس من الضروري أن
تتم من قبل التنظيم ولا حتى من قبل أفراده، بل المهم أن تتحقق في الواقع؛
وهو ما سمي التوسع من خلال المشروع وليس من خلال التنظيم؛ وهو مفهوم يؤدي
على الأقل إلى نتيجتين اثنتين ذواتي أهمية بالغة في منهجية العمل: النتيجة
الأولى أن أهداف الحركة تصبح مجالا واسعا للتعاون أو الشراكة مع الغير،
أفرادا أو هيئات أو مؤسسات. فيكون التعاون منهجا ثابتا لا يشوش عليه ما
يشوش أحيانا على بعض الدعاة أو الحركات من الرفض المبدئي انطلاقا من تبخيس
حق الآخر أو أحقيته في العمل أو التنافس على المواقع أو الغيرة من أن
يشارك الآخرون في الفضل، فالتحقق في الواقع أهم من كل تلك الاعتبارات؛
النتيجة الثانية هي النأي بأهداف الحركة عن أن تكون مجال صراع مع مؤسسات
أخرى تعمل لها، فكل من عمل لها فالحركة سند له، وكل من حققها أو حقق جزءا
منها فالحركة معترفة بفضله وجهوده.
2 ـ تمييز الحركة الأم عن التخصصات
قامت حركة التوحيد والإصلاح منذ تأسيسها بوضع فكرة التخصص وتنزيلها
عمليا من خلال تحويل العديد من وظائف الحركة إلى هيئات تتخصص فيها. وهكذا،
قسمت أعمال الحركة إلى وظائف أساسية ووظائف تخصصية. أما الوظائف الأساسية
فهي ثلاث: الدعوة والتربية والتكوين، وهي الشغل الشاغل للحركة، بينما
تتخصص هيئات وواجهات أخرى في ما سواها من الأعمال والوظائف.
وبرزت فكرة التخصصات في البداية لتفويت بعض الوظائف إلى هيئات تؤسس
لهذا الغرض أو إلى هيئات قائمة، بغية التخفيف على تنظيم الحركة وتمكينه من
التفرغ لوظائفه الأساسية، إضافة إلى تنمية الكفاءة التخصصية لأعضاء
الحركة، كل في المجال الذي يتقنه. وتهدف استراتيجية التخصصات أيضا إلى
الانفتاح على الطاقات البشرية والكفاءات داخل المجتمع بشكل لا يتيسر في
التنظيم العام للحركة.
وهكذا أسست هيئات مدنية تعنى بالعمل الطفولي والعمل الاجتماعي
الإحساني والعمل النسوي والعمل الثقافي والعمل الإعلامي والعمل الطلابي.
بينما يمارس أعضاء الحركة العمل السياسي والعمل النقابي من خلال حزب
العدالة والتنمية ونقابة الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب اللذين كان أسسهما
الدكتور عبد الكريم الخطيب رحمة الله عليه.
والعلاقة بين الحركة والتخصصات مرنة متطورة مع مرور الوقت. فهناك
هيئات تابعة لقيادة الحركة، تتلقى توجيهاتها مباشرة منها، وذلك مثل العمل
التلمذي والعمل الطلابي. بينما تتمتع هيئات أخرى بنوع من الاستقلالية مع
التنسيق أو التبعية في خططها الاستراتيجية مثل العمل الاجتماعي والإحساني
والعمل النسائي وغيرهما.
تلك هي أهم المراجعات التي قامت بها حركة الإصلاح والتجديد في
ثمانينيات القرن الماضي والنصف الأول لتسعينياته. والراجح أن مثلها كان
يتم في الوقت نفسه أو قريب منه في الرافد الآخر لحركة التوحيد والإصلاح:
رابطة المستقبل الإسلامي. وبعد تأسيس حركة التوحيد والإصلاح اغتنت تلك
التحولات والمراجعات بعضها ببعض. وانضافت الدراسات الأصولية والمقاصدية
القيمة للدكتور أحمد الريسوني، وفي مقدمتها «نظرية المقاصد عند الإمام
الشاطبي» و«نظرية التقريب والتغليب»، خصوصا وأنه كان رئيسا لحركة التوحيد
والإصلاح من سنة 1996 إلى سنة 2003. وهكذا تعمقت في هذه الفترة ثلاث
مراجعات أساسية هي:
ـ التنظيم الرسالي؛
ـ تمييز الحركة الأم عن التخصصات؛
ـ التمييز بين العمل الدعوي والعمل السياسي.
1 ـ التنظيم الرسالي
عرفت حركة التوحيد والإصلاح تطورا من التنظيم الجامع إلى التنظيم
الرسالي، أي التنظيم الذي هدفه الأساس ليس هو تجميع الأنصار وتكثير
الأعضاء، بل هو إحداث الأثر في الواقع من حولهم، من تحقيق لمقاصد الدين
وقيمه وإشاعة للخير والصلاح. فوجود الأعضاء ـ كثروا أو قلواـ وسيلة لتحقيق
هذه المقاصد، والمقاصد مقدمة على الوسائل. وهذا ما عبر عنه برسالية
التنظيم، فهو تنظيم يحمل رسالة، تتضمن منطلقات ومبادئ وأهدافا، وواجبه أن
يرتبط برسالته ومدى تمثلها في الواقع، لا أن يشتغل بذاته ولو على حسابها.
وبالتالي، فإن معيار نجاح الحركة في عملها لا يتعلق بعدد الأعضاء
وتطور التنظيم ولكن بالأثر المحدث في الواقع ومدى ضخ التنظيم للمزيد من
الطاقات الدعوية والكفاءات المؤهلة في مختلف المؤسسات الشعبية والرسمية،
فتسهم في إشاعة القيم والمبادئ التي تعمل الحركة من أجلها.
كما تعني عبارة التنظيم الرسالي أن عملية الإصلاح ليس من الضروري أن
تتم من قبل التنظيم ولا حتى من قبل أفراده، بل المهم أن تتحقق في الواقع؛
وهو ما سمي التوسع من خلال المشروع وليس من خلال التنظيم؛ وهو مفهوم يؤدي
على الأقل إلى نتيجتين اثنتين ذواتي أهمية بالغة في منهجية العمل: النتيجة
الأولى أن أهداف الحركة تصبح مجالا واسعا للتعاون أو الشراكة مع الغير،
أفرادا أو هيئات أو مؤسسات. فيكون التعاون منهجا ثابتا لا يشوش عليه ما
يشوش أحيانا على بعض الدعاة أو الحركات من الرفض المبدئي انطلاقا من تبخيس
حق الآخر أو أحقيته في العمل أو التنافس على المواقع أو الغيرة من أن
يشارك الآخرون في الفضل، فالتحقق في الواقع أهم من كل تلك الاعتبارات؛
النتيجة الثانية هي النأي بأهداف الحركة عن أن تكون مجال صراع مع مؤسسات
أخرى تعمل لها، فكل من عمل لها فالحركة سند له، وكل من حققها أو حقق جزءا
منها فالحركة معترفة بفضله وجهوده.
2 ـ تمييز الحركة الأم عن التخصصات
قامت حركة التوحيد والإصلاح منذ تأسيسها بوضع فكرة التخصص وتنزيلها
عمليا من خلال تحويل العديد من وظائف الحركة إلى هيئات تتخصص فيها. وهكذا،
قسمت أعمال الحركة إلى وظائف أساسية ووظائف تخصصية. أما الوظائف الأساسية
فهي ثلاث: الدعوة والتربية والتكوين، وهي الشغل الشاغل للحركة، بينما
تتخصص هيئات وواجهات أخرى في ما سواها من الأعمال والوظائف.
وبرزت فكرة التخصصات في البداية لتفويت بعض الوظائف إلى هيئات تؤسس
لهذا الغرض أو إلى هيئات قائمة، بغية التخفيف على تنظيم الحركة وتمكينه من
التفرغ لوظائفه الأساسية، إضافة إلى تنمية الكفاءة التخصصية لأعضاء
الحركة، كل في المجال الذي يتقنه. وتهدف استراتيجية التخصصات أيضا إلى
الانفتاح على الطاقات البشرية والكفاءات داخل المجتمع بشكل لا يتيسر في
التنظيم العام للحركة.
وهكذا أسست هيئات مدنية تعنى بالعمل الطفولي والعمل الاجتماعي
الإحساني والعمل النسوي والعمل الثقافي والعمل الإعلامي والعمل الطلابي.
بينما يمارس أعضاء الحركة العمل السياسي والعمل النقابي من خلال حزب
العدالة والتنمية ونقابة الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب اللذين كان أسسهما
الدكتور عبد الكريم الخطيب رحمة الله عليه.
والعلاقة بين الحركة والتخصصات مرنة متطورة مع مرور الوقت. فهناك
هيئات تابعة لقيادة الحركة، تتلقى توجيهاتها مباشرة منها، وذلك مثل العمل
التلمذي والعمل الطلابي. بينما تتمتع هيئات أخرى بنوع من الاستقلالية مع
التنسيق أو التبعية في خططها الاستراتيجية مثل العمل الاجتماعي والإحساني
والعمل النسائي وغيرهما.
منصور- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 1943
العمر : 44
Localisation : loin du bled
تاريخ التسجيل : 07/05/2007
رد: حركة التوحيد والإصلاح بالمغرب/سعد الدين العثماني
هي دابا في نظركم هذه الحركة هي الكل في الكل
مجرد سؤال
مجرد سؤال
nezha- عدد الرسائل : 6218
العمر : 61
Localisation : s/a/g
تاريخ التسجيل : 16/04/2008
رد: حركة التوحيد والإصلاح بالمغرب/سعد الدين العثماني
الكل في الكل هو الله سبحانه..ولكن كي نفهم ما يجري في الساحة الوطنية يجب ان نتعرف على مختلف التيارات التي تكون الفسيفساء السياسية المغربية.تحياتي.
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: حركة التوحيد والإصلاح بالمغرب/سعد الدين العثماني
3 ـ التمييز بين العمل الدعوي والعمل السياسي
بدأ التمييز بين العمل الدعوي والعمل السياسي بوصفه إجراء عمليا في إطار التوجه نحو التخصص. وكان هناك، منذ البداية، إصرار على التمييز بين الحركة وبين حزب العدالة والتنمية، باعتبار الحزب فاعلا سياسيا والحركة فاعلا دعويا وتربويا. وساعد على ذلك وجود أعضاء قدماء أو جدد داخل الحزب ليسوا أعضاء في الحركة، وبالتالي لن يقبلوا هيمنة الحركة على قرارات الحزب. ثم تطور ذلك ليصبح خطا مرسوما متفقا عليه. وسمة هذا التمييز بالأساس استقلالية قرارات هيئات الحزب عن قرارات هيئات الحركة. وقد عرفت التجربة، إلى حد الآن، نجاحا ملحوظا على الرغم من بعض العوائق والتحديات التي تشكل الاستجابة لها طريقا لتطوير التجربة نحو الأحسن.
ثم بدأت الفكرة تبرز نظريا بشكل تدريجي. وربما يكون من أهم أوجه ذلك التنظير التمييز بين التصرفات النبوية بالتبليغ والفتيا، من جهة، وبين التصرفات النبوية السياسية أو التصرفات بالإمامة، من جهة أخرى.
أما أهم تأثيرات هذا التمييز فهو تمكين العمل الدعوي من أن يسير دون أن يخضع، بشكل مباشر، لتقلبات العمل السياسي أو إكراهاته أو حاجاته، وأن يمضي العمل السياسي في طريقه دون أن يؤثر، في المجمل، على العمل الدعوي؛ وهو ما جعل حركة التوحيد والإصلاح تمضي في طريقها وتنفيذ برامجها، ولا تتأثر سلبا، على العموم، بالنشاط السياسي رغم حيويته وكثرة المعارك التي يدخلها حزب العدالة والتنمية باستمرار. وقد يبدو، ظاهريا، وكأن حركة التوحيد والإصلاح تركز جهودها على العمل السياسي، ولكن الحقيقة أن الجزء الأكبر من عملها يركز جهوده على العمل الدعوي، غير أن الفعل السياسي يتميز بكثرة صخبه الإعلامي، وتأثيره المباشر على الرأي العام، ويقع الاهتمام به دوليا أكثر من غيره من النشاطات. في حين أن الفعل الدعوي هو، في الغالب، جهد هادئ. وبالتالي، فإن انغماس حزب العدالة والتنمية في داخل الفعل السياسي لا يؤثر على حليفه حركة التوحيد والإصلاح إلا نسبيا، وبالأساس خلال المحطات الانتخابية.
خاتمة
هذه أهم التحولات والمراجعات التي عرفتها حركة التوحيد والإصلاح على مدى ثلاثة عقود من الزمان تقريبا، في إطار عمل تراكمي منهجي. وتبقى المراجعة والنقد الذاتي مطلبا مستمرا لا يرتبط بلحظة تاريخية أو بجهد عابر. فما دام الواقع يتطور، فإن الهيئات العاملة للإصلاح مدعوة أيضا إلى تطوير كسبها النظري والعملي وعدم التوقف عن جهود التجديد، بل عليها أن تحرص على أن يبقى في صفها حيا قويا متوهجا.
ولئن كانت حركة التوحيد والإصلاح قد خطت خطوات مهمة في هذا المجال، فهي ما تزال في حاجة إلى المراجعات على ثلاثة مستويات على الأقل، هي:
1 ـ تثبيت بعض الاجتهادات التي أضحت ثقافة مشتركة داخل الحركة حتى لا يتم التراجع عنها، والعمل على جعلها ثقافة متجذرة بين عموم أعضاء الحركة. ومن الأمثلة على ذلك الحاجة إلى تعميق جهود تحديث فكر الحركة ومواكبة الفكر الإنساني والاستفادة منه كما حاول ذلك بعض قياداتها في بداية المراجعات، وعدم الانغلاق في كتابات صدر أغلبها في سياقات وظروف متجاوزة؛
2 ـ مزيد تدقيق لبعض تلك الاجتهادات وإيصالها إلى نهايتها وتبني تطبيقاتها، وذلك مثل التمييز بين العمل الدعوي والعمل السياسي الذي لا تزال العديد من تفاصيله مجال غموض أو خلاف لدى العديد من أبناء الحركة. ومن الأمثلة على ذلك أيضا الحاجة إلى تدقيق مفهوم اندماج عمل الحركة في مجمل حركة المجتمع دون الانعزال عنه، والانسلاك في قضاياه العامة بدل التركيز فقط على قضايا المرجعية والهوية. وهذا التحول سيجعل الحركة قوة نهضة للمجتمع وعاملا من عوامل الإصلاح الشامل بمنهج جامع، وسيمنع من بعض التصرفات والاجتهادات التي تؤدي إلى إشاعة التوجس من الحركة الإسلامية وعدم السماح لها بأن تتبوأ الموقع اللائق بها في عملية الإصلاح؛
3 ـ ارتياد مجالات لم يطلها التجديد بعد أو قصرت الأنظار عن ارتيادها، لأن الزمن دوار، وإذا توقف الاجتهاد ولم يواكبه كان ذلك تراجعا وارتدادا.
[/justify]بدأ التمييز بين العمل الدعوي والعمل السياسي بوصفه إجراء عمليا في إطار التوجه نحو التخصص. وكان هناك، منذ البداية، إصرار على التمييز بين الحركة وبين حزب العدالة والتنمية، باعتبار الحزب فاعلا سياسيا والحركة فاعلا دعويا وتربويا. وساعد على ذلك وجود أعضاء قدماء أو جدد داخل الحزب ليسوا أعضاء في الحركة، وبالتالي لن يقبلوا هيمنة الحركة على قرارات الحزب. ثم تطور ذلك ليصبح خطا مرسوما متفقا عليه. وسمة هذا التمييز بالأساس استقلالية قرارات هيئات الحزب عن قرارات هيئات الحركة. وقد عرفت التجربة، إلى حد الآن، نجاحا ملحوظا على الرغم من بعض العوائق والتحديات التي تشكل الاستجابة لها طريقا لتطوير التجربة نحو الأحسن.
ثم بدأت الفكرة تبرز نظريا بشكل تدريجي. وربما يكون من أهم أوجه ذلك التنظير التمييز بين التصرفات النبوية بالتبليغ والفتيا، من جهة، وبين التصرفات النبوية السياسية أو التصرفات بالإمامة، من جهة أخرى.
أما أهم تأثيرات هذا التمييز فهو تمكين العمل الدعوي من أن يسير دون أن يخضع، بشكل مباشر، لتقلبات العمل السياسي أو إكراهاته أو حاجاته، وأن يمضي العمل السياسي في طريقه دون أن يؤثر، في المجمل، على العمل الدعوي؛ وهو ما جعل حركة التوحيد والإصلاح تمضي في طريقها وتنفيذ برامجها، ولا تتأثر سلبا، على العموم، بالنشاط السياسي رغم حيويته وكثرة المعارك التي يدخلها حزب العدالة والتنمية باستمرار. وقد يبدو، ظاهريا، وكأن حركة التوحيد والإصلاح تركز جهودها على العمل السياسي، ولكن الحقيقة أن الجزء الأكبر من عملها يركز جهوده على العمل الدعوي، غير أن الفعل السياسي يتميز بكثرة صخبه الإعلامي، وتأثيره المباشر على الرأي العام، ويقع الاهتمام به دوليا أكثر من غيره من النشاطات. في حين أن الفعل الدعوي هو، في الغالب، جهد هادئ. وبالتالي، فإن انغماس حزب العدالة والتنمية في داخل الفعل السياسي لا يؤثر على حليفه حركة التوحيد والإصلاح إلا نسبيا، وبالأساس خلال المحطات الانتخابية.
خاتمة
هذه أهم التحولات والمراجعات التي عرفتها حركة التوحيد والإصلاح على مدى ثلاثة عقود من الزمان تقريبا، في إطار عمل تراكمي منهجي. وتبقى المراجعة والنقد الذاتي مطلبا مستمرا لا يرتبط بلحظة تاريخية أو بجهد عابر. فما دام الواقع يتطور، فإن الهيئات العاملة للإصلاح مدعوة أيضا إلى تطوير كسبها النظري والعملي وعدم التوقف عن جهود التجديد، بل عليها أن تحرص على أن يبقى في صفها حيا قويا متوهجا.
ولئن كانت حركة التوحيد والإصلاح قد خطت خطوات مهمة في هذا المجال، فهي ما تزال في حاجة إلى المراجعات على ثلاثة مستويات على الأقل، هي:
1 ـ تثبيت بعض الاجتهادات التي أضحت ثقافة مشتركة داخل الحركة حتى لا يتم التراجع عنها، والعمل على جعلها ثقافة متجذرة بين عموم أعضاء الحركة. ومن الأمثلة على ذلك الحاجة إلى تعميق جهود تحديث فكر الحركة ومواكبة الفكر الإنساني والاستفادة منه كما حاول ذلك بعض قياداتها في بداية المراجعات، وعدم الانغلاق في كتابات صدر أغلبها في سياقات وظروف متجاوزة؛
2 ـ مزيد تدقيق لبعض تلك الاجتهادات وإيصالها إلى نهايتها وتبني تطبيقاتها، وذلك مثل التمييز بين العمل الدعوي والعمل السياسي الذي لا تزال العديد من تفاصيله مجال غموض أو خلاف لدى العديد من أبناء الحركة. ومن الأمثلة على ذلك أيضا الحاجة إلى تدقيق مفهوم اندماج عمل الحركة في مجمل حركة المجتمع دون الانعزال عنه، والانسلاك في قضاياه العامة بدل التركيز فقط على قضايا المرجعية والهوية. وهذا التحول سيجعل الحركة قوة نهضة للمجتمع وعاملا من عوامل الإصلاح الشامل بمنهج جامع، وسيمنع من بعض التصرفات والاجتهادات التي تؤدي إلى إشاعة التوجس من الحركة الإسلامية وعدم السماح لها بأن تتبوأ الموقع اللائق بها في عملية الإصلاح؛
3 ـ ارتياد مجالات لم يطلها التجديد بعد أو قصرت الأنظار عن ارتيادها، لأن الزمن دوار، وإذا توقف الاجتهاد ولم يواكبه كان ذلك تراجعا وارتدادا.
منصور- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 1943
العمر : 44
Localisation : loin du bled
تاريخ التسجيل : 07/05/2007
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى