ملف : حوارات مع عبد الهادي بوطالب أستاذ الملك الحسن الثاني
صفحة 1 من اصل 1
ملف : حوارات مع عبد الهادي بوطالب أستاذ الملك الحسن الثاني
من يقرأ كتاب «وزير غرناطة» الذي يروي سيرة حياة ذي الوزارتين الشاعر
الاندلسي لسان الدين بن الخطيب، وهو نص ادبي كتبه ذو الوزارات عبد الهادي
بوطالب، يخيل له ان هذا السياسي المغربي المخضرم يروي فيه تجربته في الحكم
على لسان ابن الخطيب. لكن المحقق هو ان بوطالب كتب هذه السيرة سنة 1952
ولم يكن وقتها قد خاض غمار العمل السياسي في القصر والحكومة، وان كان قد
مر بالمعهد المولوي استاذا لولي العهد الامير مولاي الحسن.وقد ربط قراء هذه السيرة بين حياة ومسار الرجلين الاديبين، بل منهم من رأى
فيها «قارئة فنجان» لمستقبل بوطالب السياسي الذي تخللته حالات من المد
والجزر شبيهة في بعض الاوجه بحالات عاشها وزير غرناطة. ويرى بوطالب الذي
كان وما زال معجبا ومتعاطفا مع مأساة ابن الخطيب الذي شغل الناس في حياته
ومماته، انه اذا كان هناك تشابه او نوع من الالتقاء بين شخصيتيهما، فذلك
من صدف التاريخ.واذا كانت نهاية ابن الخطيب مأساوية، لان الرجل قتله الرعاع خنقا واحرقت
جثته بعد ان قطع شعرة معاوية مع بلاط بني الاحمر في غرناطة، وغضبت عليه
الدولة المرينية في فاس، فان بوطالب خرج سليما معافى بعد خمسة عقود من
العمل في حمأة السياسة وأتونها. وفي ذلك يقول «الحمد لله على ذلك، لان
الحكم في بلادي الان ليس مثل حكم بني مرين وبني الاحمر.. فعلاقتي بالملك
محمد الخامس لم تشبها اية شائبة تدعم كلمة «المأساة»، ونفس الامر مع الملك
محمد السادس الذي تجمعني به علاقة طيبة قوامها الحب والتقدير، في حين كانت
حياتي مع الملك الحسن الثاني رحمه الله، حياة لقاءات وتذكر وتفهم وتعاون
صادق واسداء النصيحة وقبولها، الى ان جاءت فترة معينة بدا فيها ان شخصيتي
تصطدم قليلا مع عظم شخصيته الفذة، وانا لم اقصد ذلك ابدا لانني كنت اعمل
بالحكمة القائلة «قل كلمتك وامش». ويضيف قائلا: «كنت اقول الكلمة، لا تلك
التي تسهل لي استمرار البقاء حيث انا، ولكن تلك التي يمكن ان تسبب لي
الابتعاد عما كنت فيه». قد تكون هذه الحكمة مفتاح شخصية بوطالب الذي يشكل
نموذجا متميزا لعلاقة المثقف والسلطة. فهو رجل لا يتنازل عن مبادئه
وافكاره قيد انملة، و ظل متشبثا بها حينما قرر المشاركة في تأسيس الاتحاد
الوطني للقوات الشعبية والانسحاب منه، وحين اعتذر عن عدم المشاركة في مجلس
الدستور وفي حكومة محمد الخامس التي خلفت حكومة عبد الله ابراهيم، وحين
تصادم ايام كان وزيرا للعدل ثم وزيرا للتعليم مع الجنرال محمد اوفقير
حفاظا على حرمة العدالة وكرامة اسرة التعليم. وايضا عندما اكتشف وهو وزير
لخارجية بلاده انه كان اخر من يعلم بشأن فحوى الاتفاق المغربي ـ الجزائري
بعد لقاء تلمسان عام .1970 ونفس الشيء عندما قرر عدم ترشيح نفسه لولاية
جديدة على رأس برلمان 1970 لانه علم ان قرار حله اصبح وشيكا، وبالتالي لم
يسمح له كبرياؤه السياسي ان يقال عنه انه كان «رئيس برلمان محلول».كل هذا نقط في وادي تجربة بوطالب الغزيرة رواها لـ«الشرق الاوسط» على مدى
اسبوعين في منزله بالدار البيضاء. كان خلالها سيل الذكريات يتدفق من علياء
ذاكرته، وقلما استعان بوثائق خاصة.
الاندلسي لسان الدين بن الخطيب، وهو نص ادبي كتبه ذو الوزارات عبد الهادي
بوطالب، يخيل له ان هذا السياسي المغربي المخضرم يروي فيه تجربته في الحكم
على لسان ابن الخطيب. لكن المحقق هو ان بوطالب كتب هذه السيرة سنة 1952
ولم يكن وقتها قد خاض غمار العمل السياسي في القصر والحكومة، وان كان قد
مر بالمعهد المولوي استاذا لولي العهد الامير مولاي الحسن.وقد ربط قراء هذه السيرة بين حياة ومسار الرجلين الاديبين، بل منهم من رأى
فيها «قارئة فنجان» لمستقبل بوطالب السياسي الذي تخللته حالات من المد
والجزر شبيهة في بعض الاوجه بحالات عاشها وزير غرناطة. ويرى بوطالب الذي
كان وما زال معجبا ومتعاطفا مع مأساة ابن الخطيب الذي شغل الناس في حياته
ومماته، انه اذا كان هناك تشابه او نوع من الالتقاء بين شخصيتيهما، فذلك
من صدف التاريخ.واذا كانت نهاية ابن الخطيب مأساوية، لان الرجل قتله الرعاع خنقا واحرقت
جثته بعد ان قطع شعرة معاوية مع بلاط بني الاحمر في غرناطة، وغضبت عليه
الدولة المرينية في فاس، فان بوطالب خرج سليما معافى بعد خمسة عقود من
العمل في حمأة السياسة وأتونها. وفي ذلك يقول «الحمد لله على ذلك، لان
الحكم في بلادي الان ليس مثل حكم بني مرين وبني الاحمر.. فعلاقتي بالملك
محمد الخامس لم تشبها اية شائبة تدعم كلمة «المأساة»، ونفس الامر مع الملك
محمد السادس الذي تجمعني به علاقة طيبة قوامها الحب والتقدير، في حين كانت
حياتي مع الملك الحسن الثاني رحمه الله، حياة لقاءات وتذكر وتفهم وتعاون
صادق واسداء النصيحة وقبولها، الى ان جاءت فترة معينة بدا فيها ان شخصيتي
تصطدم قليلا مع عظم شخصيته الفذة، وانا لم اقصد ذلك ابدا لانني كنت اعمل
بالحكمة القائلة «قل كلمتك وامش». ويضيف قائلا: «كنت اقول الكلمة، لا تلك
التي تسهل لي استمرار البقاء حيث انا، ولكن تلك التي يمكن ان تسبب لي
الابتعاد عما كنت فيه». قد تكون هذه الحكمة مفتاح شخصية بوطالب الذي يشكل
نموذجا متميزا لعلاقة المثقف والسلطة. فهو رجل لا يتنازل عن مبادئه
وافكاره قيد انملة، و ظل متشبثا بها حينما قرر المشاركة في تأسيس الاتحاد
الوطني للقوات الشعبية والانسحاب منه، وحين اعتذر عن عدم المشاركة في مجلس
الدستور وفي حكومة محمد الخامس التي خلفت حكومة عبد الله ابراهيم، وحين
تصادم ايام كان وزيرا للعدل ثم وزيرا للتعليم مع الجنرال محمد اوفقير
حفاظا على حرمة العدالة وكرامة اسرة التعليم. وايضا عندما اكتشف وهو وزير
لخارجية بلاده انه كان اخر من يعلم بشأن فحوى الاتفاق المغربي ـ الجزائري
بعد لقاء تلمسان عام .1970 ونفس الشيء عندما قرر عدم ترشيح نفسه لولاية
جديدة على رأس برلمان 1970 لانه علم ان قرار حله اصبح وشيكا، وبالتالي لم
يسمح له كبرياؤه السياسي ان يقال عنه انه كان «رئيس برلمان محلول».كل هذا نقط في وادي تجربة بوطالب الغزيرة رواها لـ«الشرق الاوسط» على مدى
اسبوعين في منزله بالدار البيضاء. كان خلالها سيل الذكريات يتدفق من علياء
ذاكرته، وقلما استعان بوثائق خاصة.
بديعة- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 6241
العمر : 39
Localisation : الدارالبيضاء
Emploi : موظفة
تاريخ التسجيل : 03/04/2008
1-لا أعلم هل قرأ الملك الحسن الثاني كتاب «الامير» لمكيافلي وليس كل من قرأه يصبح مكيافلي النزعة
في تلك الاثناء بدا لي ان الحسن الثاني، هذا الملك الذي كان وما زال في خواطر المغاربة وقلوبهم، حاضرا معنا. فبوطالب رافقه وعايشه في اشد مراحل المغرب حساسية وحرجا، مثلما بدا لي التاريخ حاضرا ايضا. فكل شيء في بيت بوطالب يفوح بعبقه، اوسمته التي تلقاها من رؤساء الدول، صوره مع كبار العالم وساسة المغرب، لكن الصورة التي لفتت نظري هي صورة للملك الحسن الثاني كتب عليها اهداء يقول فيه «الى استاذنا ووزيرنا السيد عبد الهادي بوطالب كرمز محبتنا وتقديرنا لشخصه داعين له بدوام التوفيق والسعادة (نوفمبر 1965)». والى جانبها بدت شهادة تخرج بوطالب من جامعة القرويين في فاس وقد وقع عليها السلطان محمد بن يوسف الذي كتب ايضا كلمة بخط يده قال فيها «سلمنا هذه الشهادة بيدنا الشريفة لصاحبها مجازاة له على اجتهاده واعتناء بالعلم الشريف. توقيع: محمد بن يوسف امير المؤمنين اعزه الله وايده»... يسترسل الحديث، تحضر اسماء وتغيب اخرى، وذاكرة بوطالب دائما متقدة وخصبة وموشومة. وفي ما يلي بعض من الأجوبة على اسئلة المغرب الحديث. درست العاهل المغربي الراحل اللغة العربية وتفسير القرآن والتاريخ الإسلامي * عايشتم اللحظات الحرجة التي أدت إلى استقلال المغرب. والمعروف أنكم انخرطتم في العمل الوطني في سن مبكرة. فماذا بقي في ذاكرتكم حول حركة النضال الأولى؟ـ التحقت بخلايا العمل الوطني وأنا في سن مبكرة ـ كما قلتم ـ وهي خلايا كانت تلقننا ـ نحن التلاميذ الذين كان يطلق علينا اسم «براعم كتلة العمل الوطني ـ دروسا في الوطنية. وكان يشرف علينا داعيتان وطنيان جليلان هما إبراهيم الوزاني رحمه الله، الذي اختُطِف واغتيل إثر استقلال المغرب من قبل عصابات كانت تقوم بتصفية الوطنيين المنتمين لحزب الشورى والاستقلال (حزب المعارضة)، والهاشمي الفيلالي أمدَّ الله في عمره، وهو أحد أركان حزب الاستقلال.تربيت إذن في أحضان الكفاح الوطني، إضافة إلى أنني ترعرعت في بيت متدين تلقيت فيه من والديَّ وجوب التمسك بالدين والحرص على أداء شعائره، كما تربيت فيه على عدم الاطمئنان إلى الأجانب وعدم الرضا بأن يحكموا المسلمين. وكنت قد حفظت القرآن كله في الكُتَّاب القرآني وأنا ابن تسع سنوات. ومن خلال هاتين المدرستين شبَّت فيَّ غريزة الكفاح وأصبحت أتطلع إلى المساهمة في تحرير بلادي من سيطرة الأجنبي. وكما تعلمون فإن المغرب ظل على امتداد تاريخه الطويل مستقلا تحكمه ملكيات وأمبراطوريات وطنية عظمى. ولما قرر الاستعمار الدولي دك قلعته واحتواءها أخذ يعمل على إنهاء سيادته الوطنية التاريخية وقسَّمه إلى ثلاثة أجزاء: كان هناك استعمار فرنسي في منطقته الجنوبية السلطانية، واستعمار إسباني في منطقته الشمالية الخليفية، وآخر دولي في طنجة، وبذلك تفرق دم المغرب في «القبائل» الاستعمارية.ولقد أسعدني الحظ أن أرى تحقيق نتائج الكفاح الوطني حيث شاركت في أول حكومة وطنية مغربية أٌعلنت عند عودة السلطان محمد بن يوسف من منفاه وأنا في الحادية والثلاثين من عمري. وما أزال حتى الآن وأنا في سن السادسة والسبعين أساهم بالقلم والكلمة في أن أجعل من هذا الاستقلال استقلالا حقيقيا يكرس بتطبيقاته في الحياة اليومية المبادئ التي كافحنا من أجلها: مبادئ الديمقراطية حتى لا يُستبدَل بالاستعمار الاستبداد، وحتى يكون المغرب في عهده الجديد مغربا حداثيا منخرطا في قيم العصر يوفر لمواطنيه الكرامة والحرية والعدل والمساواة. وهي المبادئ التي كنا نؤمن أنها لا تتحقق للمغرب إلا بالاستقلال. * ارتبطتم منذ الأربعينات بعلاقة مع القصر الملكي المغربي. وأود في البداية أن تحكي لي قصة تعرفك على الملك محمد الخامس؟ـ الفترة التي تشيرون إليها ـ وهي تبتدئ من نهاية سنة 1943ـ كان الملك فيها يعرف بالسلطان سيدي محمد بن يوسف. وكان القصر ينعت بالسلطاني أو قصر السلطان أو دار المخزن. ولم يتحول اسم السلطان إلى الملك واسم النظام إلى الملكية إلا بعد الاستقلال وخاصة بعد صدور أول دستور سنة 1962 ينظم مسؤولية الملِك والملَكية. وقد بدأت علاقتي بالسلطان محمد بن يوسف رحمه الله في ظروف أعتبر أنها كانت لي فرصة العمر، لأنه كان يمكن ـ لولا الحادث الذي سأتحدث لكم عنه ـ ألاّ أكون قريبا من القصر الملكي طيلة ما يناهز نصف قرن في خدمة العرش والبلاد تحت قيادة العاهلين الراحلين محمد الخامس والحسن الثاني، وقريبا من الأمير سيدي محمد (الملك محمد السادس). بدأت قصتي مع السلطان محمد بن يوسف حينما أنهيت دراستي العليا في جامعة القرويين بفاس. وكان عمري آنذاك 19 سنة ونصفا. وأضيف لأول مرة إلى مواد امتحان التخرج من التعليم العالي لنيل الإجازة أن يلقي الطالب المتخرج الحامل لشهادة الإجازة درسا جامعيا إذا نجح فيه يحصل على لقب «العلاّمة» الذي كان يعني آنذاك الدكتور. وكان الأستاذ محمد الفاسي رحمه الله مديرا للجامعة، ومعروفا بتعصبه لاستعمال اللغة العربية، ولا يقبل أن يتسرب إليها الدخيل من مفردات اللغات الأجنبية، وبالتالي عرض على المجلس الأعلى للجامعة أن لا يُطلَق على حامل الشهادة العليا لقب «الدكتور» بل مرادفه في العربية وهو لقب «العلاّمة»، في حين يُطلَق على من يحمل شهادة الإجازة لقب «العالم». وبذلك يصبح حامل الإجازة والدكتوراه معا «العالم العلامة» أي «الأستاذ الدكتور». ولأنني كنت المتفوق الأول في امتحان التخرج في الامتحانين الشفوي والكتابي للإجازة من شعبة الدراسات الإسلامية في الفقه والحديث وأصول الدين وما يتصل بها من علوم الشريعة، فإن الدرس الجامعي الذي ألقيته حضره السلطان محمد بن يوسف تكريما لأول فوج يتخرج من جامعة القرويين بعد نظام الإصلاح الذي أُدخِل على الجامعة بمقتضى ظهير (مرسوم ملكي) صادر عام .1930 وكان السلطان يتغيَّى من حضوره معرفة نتائج هذا الإصلاح وجَنْي ثمار ما زرعه باتخاذه مبادرة الإصلاح الذي انتزعه من الحماية الفرنسية. وتابع السلطان الدرس الجامعي الذي ألقيته وحضر أيضا وقائع الأسئلة والأجوبة في الحوار الذي أجرته معي اللجنة العلمية وحصلتُ بعده على نقطة (20 على 20) برتبة حسن جدا. وكانت اللجنة العلمية تأتلف من خمسة أساتذة وعلماء كانوا من بين قِمم العلم والمعرفة بالمغرب آنذاك. وجرت العادة قبل هذه السنة أن يوقع شهادات الجامعة رئيس الجامعة ووزير العدل في حكومة المخزن التي يرأسها السلطان. لكن السلطان محمد بن يوسف رحمه الله قال لهيأة الامتحان: «لا أريد أن يوقع شهادة هذا المتخرج المتفوق على قرنائه أحدٌ غيري». فوقع الشهادة وكتب عليها كلمة بخط يده جاء فيها: «الحمد لله.. سلمنا هذه الشهادة بيدنا الشريفة لصاحبها السيد عبد الهادي بوطالب مجازاة له على اجتهاده وتفوقه واعتناءً منا بالعلم الشريف». وكان الإمضاء «محمد بن يوسف أمير المؤمنين أعزه الله وأيده». وهذه الظاهرة لم يتقدم لها نظير ولم تتكرر لأي متخرج آخر فيما بعد. وإنني أحتفظ بهذه الشهادة العليا باعتزاز كبير كشهادة تاريخية لا نظير لها. * بعد ذلك، أين مضت بك الأيام؟ـ بعد تخرجي من القرويين، بدأت أعطي دروسا طوعية في جامعة القرويين. وهي دروس كانت مفتوحة في وجه العموم في إطار ما كان يسمى آنذاك بنظام «الحلقات» يحضرها مآت من سكان مدينة فاس من مختلف المستويات حيث توجد جامعة القرويين، يجيؤون إليها ويَتداعَوْن للحضور إليها ليستمعوا إلى أصغر أستاذ جامعي عرفته الجامعة. وكانوا منبهرين أن يكون في سني المبكرة. وكانت العادة أنه لا يقتعد كراسي العلم في القرويين إلا الكهول أو الشيوخ. وكنت أدرِّس كتاب «نور اليقين» للخضري في مادة السيرة النبوية.كنت أركِّز في درسي على ملاحم الإسلام الكبرى، وعلى غزوات الرسول الكريم وسيرته الطاهرة، وأُجلّي صور الصحابة الكبار كنماذج يُقتدَى بها. كما كنت أركِّز على استعداد المؤمنين في العهود الأولى للجهاد والفداء لنصرة المثل الإسلامية. واعتبرها الفرنسيون تعبئة للشعب للقيام بثورة ضدهم، فطلبوا مني أن أتوقف عن إلقاء تلك الدروس لكنني رفضت. وقال لي المراقب العسكري الفرنسي في فاس (الكومندان كوجيي) الذي استدعاني لمكتبه (وكان مساعدا للجنرال الحاكم الفرنسي العسكري الأعلى) مهدِّدا: «إذا لم توقف هذه الدروس فسيكون مصيرك مثل مصير علال الفاسي الذي كان يُلقي نفس الدروس في نفس المكان التي تدرِّس فيه، ويُدرِّس نفس الكتاب الذي تُدرِّس. وأنت تعرف أين يوجد الآن». وكان علال الفاسي رحمه الله آنذاك منفيا في الغابون منذ سنة .1937 فكان جوابي «لا شَبَه بيني وبين السيد علال الفاسي. فهو زعيم حزب سياسي وأنا عالم مرشد أقوم بشرح الدين الإسلامي وتاريخ الإسلام للمغاربة وأبث فيهم مبادئ التعلق بدينهم وتاريخهم ليس إلا». * ماذا كان مصير هذه الدروس؟ـ بعد أيام من توقيفي هذه الدروس بسبب عطلة عيد الفطر في أوائل يناير (كانون الثاني) 1943 بعث إليَّ السلطان محمد بن يوسف رسولا هو السيد محمد الغزاوي الذي كان يشرف على تصريف شؤون القصر الملكي بمدينة فاس وأخبرني أنني مدعو إلى القصر الملكي بالرباط ليستقبلني السلطان لأمر خاص. ورافقت الغزاوي إلى الرباط على متن سيارته التي كان يقودها وقال لي ونحن نقطع المسافة إنه لا يعلم أي شيء عن سبب دعوة السلطان لي. وعند وصولنا للقصر الملكي قال: «إن عليَّ أن أتوقف بمكتب وزير المعارف الحاج أحمد بركاش (وكان مكتبه بين «بنائق» الوزراء بمدخل القصر الملكي) فهو الذي سيرافقني إلى لقاء السلطان». وفعلا أخذني الوزير إلى قاعة العرش، حيث خلعنا في مدخلها الحذاء كما تقضي بذلك المراسم. ووجدت السلطان جالسا على عرشه وسُبْحته بين يديه وقد استقبلنا إثر صلاة المغرب. وعندما كنا نتخطى مدخل القاعة قال لي الوزير: «لاحظ كيف سأنحني أمام السلطان وكيف سأقبل يده لتفعل مثلما أفعل». وكان الأمر كذلك. فأشار إلينا السلطان بالجلوس على (السجاد) الزربية المبسوطة. ولم يكن آنذاك مسموحا بالجلوس أمام السلطان على الكراسي. وتلطف بي السلطان سائلا عن صحتي وأسرتي وكأنما لاحظ علي الدهشة فلكل داخلٍ دهشةٌ كما يقول المثل أو الحكمة. ودهشة الداخل لأول مرة للقصر السلطاني ومثوله بين يدي السلطان تفوق كل دهشة.وفتح السلطان الحديث فقال لي: أريدك أن تنضم إلى أساتذة ولدي (سْمِيَّتْ سيدي) أي اسم سيدي. وهكذا كان القصر يتحدث عن ولي العهد مولاي الحسن لأنه يحمل اسم جده الحسن الأول (وسيدي تفيد معنى جدي في اللهجة المغربية). كما كان يُتحدَّث عن الملك محمد السادس عندما كان وليا للعهد بنفس الاسم، لأنه يحمل اسم الجد (محمد الخامس). وزاد يقول: «إنه ما زال يتذكر الدرس الذي ألقيته بين يديه يوم تخرجي من الجامعة، وأن ذلك هو ما جعله يقرر تسميتي أستاذا بالمعهد الملكي». وتمنى لي النجاح في مهمتي. وكانت هذه الالتفاتة الكريمة من لدن جلالته مفاجأة لي. لكن كان من شأنها أن تُحوِّل مجرى حياتي وتقلب ميزان حساباتي، حيث كنت قد بَرْمَجْتُ الالتحاق بالخارج للانتماء إلى إحدى الجامعات الفرنسية للتخصص. فغالبت نفسي وتجرأت على الاعتذار لجلالته عن قبول هذا المنصب مخبرا جلالته بالسبب لكنه ألح علي. وأضاف: «إن في المعهد الملكي أساتذة متخصصين في شتى شُعَب المعرفة يمكنك أن تستفيد منهم. وستقيم بداخلية المعهد بجانب ولدي، وسيكون لك الوقت لمتابعة دراستك العليا بالرباط من المعهد». وعندما لاحظ وزير المعارف ترددي وبدا عليَّ أني مشفق على نفسي من هذا التكليف الكبير صرخ الوزير في وجهي: «سيدنا نصره الله يكلفك وأنت تتردد. قُمْ (هكذا بصيغة الأمر) فلا يقبل الكرامةَ إلا الكريم». ووجدتُني أذعن لهذا القرار وأغادر صحبة وزير المعارف القصر لأتعرف لأول مرة على الأمير ولي العهد مولاي الحسن في المعهد المولوي. هكذا كان اسمه. فالمولى كان لقب السلطان بينما كان يطلق على نظام السلطان بالفرنسية اسم الأمبريالي أي الأمبراطوري وهو النعت الذي أُطلِق على المعهد بالفرنسية. وكان يقال عن أمبراطورية المغرب إنها الإيالة الشريفة. كنت شاهدت بعض صور ولي العهد قبل أن ألقاه، وتمَّ لقائي به في المعهد بعد صلاة المغرب في مسجد المعهد في ليلة 4 أكتوبر 1943 عندما قدمني إليه الوزير بركاش وجها لوجه. وقد أُعِدَّت لي غرفة بجوار الأمير أقمت فيها ما يزيد على سنتين. وكنت ألتقي معه على الغداء والعشاء وأرافقه ومعه أخوه الأمير عبد الله في رحلاته، ويأخذني رفقته في السيارة الملكية لصلاة الجمعة في موكب والده الرسمي. وأراجع معه دروسه العربية التي كان يلقيها أساتذة آخرون بالإضافة إلى التي كنت ألقنها إياه في قواعد اللغة العربية وتفسير القرآن ومادة تاريخ الإسلام وأحيانا تاريخ المغرب. آنذاك تخيلت أن السلطان محمدا بن يوسف بقي مُعجَبا بشكل الأداء الذي قدمت به أمامه وأمام لجنة العلماء درس التخرج من الجامعة. وهو الدرس الذي كان مصدر توقيعه بنفسه على شهادة تخرجي، وأنه بسبب ذلك نادى عليَّ للتدريس في المعهد المولوي. وبقيت أعتقد ذلك حتى وفاتِه رحمه الله. فهو لم يحدثني أبدا بالسر الذي كان وراء مناداته علي. وعلمت فيما بعد من جليسه وصهره الأمير مولاي الحسن بن إدريس السبب الحقيقي حينما سألني هذا الأمير ذات مرة: «هل تعرف لماذا التحقتَ بالمعهد المولوي آخرَ سنة 1943؟» فقلت «لا». فقال الأمير: «لقد جاء المستشار المخزني الفرنسي عند السلطان وأخبره أن سلطة الحماية قررت اعتقالك لأنك رفضت التوقف عن إلقاء الدروس الثورية في جامعة القرويين، وأنهم يخشون أن تثير هذه الدروس فتنة في مدينة فاس. فسألهم السلطان: «من هذا الذي تتحدثون عنه؟» فقالوا: «اسمه عبد الهادي بوطالب» فتذكرني وقال لهم: «لا تقبضوا عليه. سأكفيكم إياه وسآخذه إلى جانبي ولن يُشوِّش عليكم منذ الآن». هذه إذن بداية العلاقة بيني وبين القصر الملكي من خلال الحادثة التي حدثتك عنها ولم تكن لي يد فيها، ولكن الأقدار هي التي صنعتها. * هل لكم أن تتحدثوا لنا عن المعهد الملكي ببعض التفاصيل؟ـ كنت أحد أساتذة المعهد المولوي ولم أكن الأستاذ الوحيد فيه. فقد سبقني إليه أساتذة آخرون، منهم الحاج محمد باحنيني الذي أصبح بعد الاستقلال وزيرا للعدل وأمينا عاما للحكومة، والفقيه خليل الورزازي الذي كان يدرّس الفقه، ومحمد الفاسي، (أول وزير للتربية الوطنية في عهد الاستقلال) وكان آنذاك مديرا لجامعة القرويين وكان يدرِّس تاريخ المغرب، وعبد الرزاق البرنوسي الذي كان أستاذا للنحو والصرف، هذا إلى أساتذة التعليم الثانوي من الفرنسيين.كان المعهد المولوي جزءا من القصر، وتابعا إداريا وماليا لإدارة المعارف أو إدارة التعليم العمومي التي كان يشرف عليها مدير عام فرنسي. والمعهد عبارة عن مدرسة فيها قسم ابتدائي كان يدرس فيه الأمير مولاي عبد الله الابن الأصغر للسلطان، وقسم ثانوي يدرس فيه الأمير ولي العهد مولاي الحسن. وكانا يقيمان في المعهد ويخضعان لنظام داخلي، رفقة 20 تلميذا مُنْتَقَيْن من مدارس المغرب من بين أكثر التلاميذ نجابة وأقواهم دراية وكفاءة، وينتمون إلى عامة الشعب، وفيهم من كان آباؤهم يتبوأون مناصب عليا في مدينة من المدن.كان عدد التلاميذ 20 تلميذا بالإضافة إلى الأميرين: عشرة بكل قسم، يشرف عليهم ما يناهز 20 أستاذا. وانضممت إلى أساتذة القسم الثانوي لأساهم بتلقين المواد الدراسية التي أشرت إليها للأمير ولي العهد مولاي الحسن. ومنذ الوهلة الأولى كان الأمير بشوشا معي. ولاحظت أنه كان مرتاحا إلى أن أكون من بين أساتذته. وفعلا كان يعاملني كما لو كنت صديقا له أو مرشحا لأصبح صديقا له، بحكم أن فارق السن بيننا لم يكن كبيرا بينما كان الأساتذة الآخرون إما في آخر طور الشباب أو في الكهولة أو الشيخوخة.وفي أول اتصال لي مع مدير المعهد الفرنسي السيد ديفال (أستاذ الفلسفة لكن لم يكن يعطي أي درس بالمعهد) وحضره الحاج أحمد بركاش رحمه الله عند وصولنا معا إلى المعهد إثر لقاء السلطان أخبرني المدير أن عليَّ أن ألقن قسم مولاي الحسن بعض المواد باللغة العربية، وأنني سأخضع بدوري لنظام داخلي مثل التلاميذ لأشرف على سير الحياة الخاصة للأميرين مولاي الحسن ومولاي عبد الله، وهو ما يسمى باللغة الفرنسية Percepteur وعلى واجبات ولي العهد ومراقبته عند القيام بواجباته الدراسية وهو ما يطلق عليه اسم المعيد repititeur أما المواد التي عُهد بها إليَّ فسألقيها برتبة أستاذ Professeur وعندما كان السلطان يخرج كل أسبوع لصلاة الجمعة في المسجد المجاور للقصر بحي تواركة كنت أرافق الأميرين على متن السيارة الملكية التي كانت تتبع مباشرة العربة الملكية. لقد شَغلت بالمعهد المولوي إذن عدة وظائف كنت فيها أقرب الأساتذة إلى ولي العهد وأخيه: وظيفة الأستاذ، ووظيفة المربي الملازم، ووظيفة المساعد الساهر على قيام ولي العهد بواجباته المدرسية. وبلغ مجموع الدروس التي كنت ألقيها 11 ساعة في الأسبوع، وشملت مواد تفسير القرآن وتاريخ الإسلام والنصوص العربية. وهي نصوص كنت أعالج فيها مع التلاميذ قواعد اللغة العربية من نحو وصرف وتركيب وإنشاء. وكنت أتناول الطعام غالب الأوقات مع التلميذ مولاي الحسن. واستمر الأمر كذلك أزيد من سنتين. من حسن حظي آنذاك أن السلطان كان يحضر بعض دروسي في تمام الثامنة صباحا. وكان يخرج راجلا من قصره الذي لا يبعد عن المعهد المولوي إلا حوالي 200 متر، يرافقه بعض أعوانه الخاصين. وعندما يدق الجرس الساعة الثامنة يكون حاضرا معنا في قاعة الدرس حيث يخصص له مقعد عادي ويتقدم الصفَّ الأول أمام التلاميذ.وكان السلطان محمد بن يوسف قد هيأته الأقدار لتولي مقاليد العرش في سن مبكرة جدا. فعندما بويع كانت سنه 17 أو 18 سنة. وتلقى دروسه الأولية في القصر السلطاني. وهي دروس عربية دينية كانت تتخللها دروس مبادئ اللغة الفرنسية. وكان الفقيه المعمري هو الذي يلقنها له، وهو من أصل جزائري، وكان يشرف في عهد السلطان محمد بن يوسف على القصور السلطانية كما كان يتولى الترجمة عن السلطان وإليه أثناء الاستقبالات الرسمية التي كان السلطان يخص بها المقيمين العامين أو المستشار المخزني الفرنسي أو حينما يستقبل الزوار الأجانب. والمعمري كان وفيا للسلطان وأسرته. وظل السلطان متعلقا بالدراسة وحب المعرفة وفي شوق إلى تعميق الدراسة التي كان بدأها ولم يمهله تربع العرش مبكرا لمتابعتها.إن عدم تمكنه من إتمام دراسته كان أحد الأسباب التي جعلته ينشئ لابنيه معهدا خاصا بقسميه الابتدائي (وكان يغشاه الأمير مولاي عبد الله) والثانوي (وكان يدرس فيه الأمير ولي العهد مولاي الحسن). وأظن أنه كان يرغب في أن يوفر ما افتقده لأبنائه، إذ كان يريد أن يكون ابناه الأميران مكتملي الدراسة بالغَيْن أعلى مستويات تحصيل المعرفة. * كيف كنت تعامل الأمير ولي العهد مولاي الحسن؟ وهل كنت تتصرف معه كتلميذ عادي أم كأمير؟ـ عندما التحقت بالمعهد المولوي في سني المبكرة كنت أحمل أفكارا حداثية وحتى ثورية. فقررت أن أعامل ولي العهد نفس معاملتي لبقية التلاميذ. وكانت العادة أنه إذا دخل ولي العهد إلى القسم يقف التلاميذ ويقف الأستاذ احتراما فقطعت هذه العادة فيما يخصني، وأمرت التلاميذ أن لا يقفوا له عند دخوله فهو في القسم تلميذ وخارج القسم أمير يُعامَل بما يليق بمقامه من تكريم تُراعى فيه البروتوكولات التقليدية. كنت أعامله معاملة التلميذ دون أن أُخِل باحترامه، لم يطلب مني قط أن أُطْلعه مثلا على مواضيع الامتحانات قبل مواعد إجرائها. ولم أكن أحابيه في النقط، إذ كان يأخذ النقط التي يستحقها. ولم يكن يأخذ دائما النقطة الأولى في دروسي. وهذا لا يمنع من القول إنه كانت له مؤهلات عجيبة وقدرة خارقة للعادة على امتلاك المعرفة والتحصيل. لذلك عندما كان يأخذ في امتحاناته عندي الرتبة الأولى ـ وما أكثر ما أخذها ـ كان يستحقها عن جدارة. لقد كان متوقد الذكاء حريصا على التعلم، مثابرا على العمل الدراسي. وكانت له ميول أدبية أكثر من ميوله الرياضية. ولذلك كان متفوقا في الأدب الفرنسي والأدب العربي والجغرافية والتاريخ وغيرها من المواد الأدبية أكثر مما كان متفوقا في دروس الرياضيات والهندسة.كان إذا تأخر ـ وقلَّما كان يقع ذلك ـ عن الحضور إلى المدرسة بـ10 دقائق أو 15 دقيقة فلأنه كان له عمل مع أبيه. وأغلبية الأساتذة كانوا ينتظرونه حتى يصل. أما أنا فلم أكن أنتظر معتبرا أنه تلميذ. وكل ذلك يتم في جو من الاحترام وإعطاء التلميذ مكانته كأمير وكولي عهد المغرب. ولكني لم أكن أخلط بين المهمتين أو بين الدورين. فدوري كان هو أن يحس الأمير أنه أمام أستاذ يقوم بعمله بروح وضمير المهنة. وأستطيع أن أقول إنني اكتسبت في هذا الجو صداقته من جهة وهيبة واحتراما لشخصي عنده من جهة أخرى. وظل هذا الاحترام يسود علاقاتنا إلى أن تركت العمل معه بالقصر الملكي مستشارا لجلالته ثلاث سنوات قبل وفاته رحمه الله. لقد كان ذكيا إلى درجة أن بعض الأساتذة الذين كانوا يَتملَّقونه أو يتساهلون في التعامل معه لم يكن يضمر لهم الاحترام. وبذلك كان يفرق بين أساتذته الجادّين الذين كانوا يعاملونه معاملة التلميذ ويقومون بواجبهم المهني متجرِّدين عن كل اعتبار آخر وبين المتساهلين. * قلتم إنه كان يتم اختيار 10 تلاميذ من خيرة نجباء أبناء المغرب في كلٍّ من قسمي المعهد المولوي. لماذا 10 تلاميذ؟ـ كان السلطان محمد بن يوسف يؤمن بضرورة تنافس التلاميذ بعضهم مع بعض ليدرسوا بجدية. لذلك حرص على أن يرافق ابنَه قرناء في سنه ومستواه من المتفوقين في مدارسهم ليتم هذا التنافس. فيهم من جاء من البوادي والجبال، وفيهم من كان آباؤهم قُوَّادا أو باشوات (القائد حاكم القرية والباشا حاكم المدينة)، وفيهم من كانوا ينتمون إلى الأسرةِ العلوية أسرةِ السلطان. كان من بين التلاميذ عبد الله غرنيط (مراكش)، وأصبح فيما بعد وزيرا في عهد الملك الحسن الثاني، والأمير مولاي يوسف (ابن أخ السلطان محمد بن يوسف الأمير مولاي إدريس خليفته على مدينة مراكش). وكان هناك آخرون من عامة الشعب. كما التحق بالمعهد المولوي في آخر مرحلة دراسة الأمير الثانوية رفيقا لولي العهد التلميذ أحمد عصمان الذي جاء من وجدة (شرق المغرب) وكان من بين تلاميذي في السنة الأخيرة التي تنتهي فيها الدراسة الثانوية بالمعهد. وهو اليوم زعيم حزب التجمع الوطني للأحرار. وتولى منصبي الوزير الأول ورئيس البرلمان. وكان النظام المتبع آنذاك هو نظام البكالوريا على سنتين. وعصمان التحق في السنة الثانية من البكالوريا، وبقي ملازما لولي العهد عندما التحق بالجامعة وأصبح من أصدقائه المخلصين. وبيني وبينه اليوم صلات مودة وتقدير مشتركة.المهم أنه كان هناك تنويع ولكن كانت هناك أيضا وحدة المقاييس، أي أن يكون التلميذ نجيبا متفوقا حتى يتنافس ولي العهد مع من يضاهونه على أن يكونوا في نفس السن. إذن، المعهد الملكي كان من جهة نخبويا لأنه معهد أمراء، ومن جهة ثانية شعبيا لأن المرافقين للأمراء كانوا من أبناء الشعب. وكان القصد من هذا المزج هو تربية الأمراء تربية شعبية. * هل لك أن تحدثني عن الأسماء الأخرى التي درست مع ولي العهد؟ـ كان من بين التلاميذ أيضا مولاي سلامة بن زيدان وكان والده مؤرخا وصاحب مؤلفات مشهورة خاصة في تاريخ الدولة العلوية وكان يُعتبر مؤرخ القصر الملكي دون أن يحمل هذا اللقب رسميا، وعبد السلام برشيد وكان والده قائدا في برشيد (محافظة سطات)، ومحمد حاجي (أصله من منطقة حاحا، ووالده أيضا كان قائدا في محافظة سطات)، وعبد الحفيظ القادري الذي كان من صميم الشعب وعمل في عدة وظائف سامية في عهد الملك الحسن الثاني. * هل سبق أن وقع لك احتكاك مع التلميذ الأمير أثناء إلقائك الدرس؟ـ الدرس لا يكون فيه احتكاك. لقد كنا نقضي طول اليوم في المعهد. وحتى عندما كان يتفرغ لمراجعة دروسه كنت قريبا منه للمراقبة والمساعدة. ولم يكن هناك قط احتكاك بل كانت علاقتنا دائما طيبة جدا.* قال الملك الحسن الثاني في كتابه «ذاكرة ملك» إنه إلى حدود العاشرة أو الثانية عشرة من عمره تلقى ضربات بالعصا. وكان يسعده أن يتلقاها من أبيه لا من غيره. هل سبق لك أن ضربته بالعصا أو كدت تفعل ذلك؟ـ عندما كان الأمير مولاي الحسن في العاشرة من عمره لم أكن أنا قد التحقت بالمعهد المولوي. وعندما كان في العاشرة من عمره لم يكن المعهد نفسه موجودا. وربما حدث ما قاله داخل القصر الملكي. وتأديب الأطفال من لدن فقيه الكُتَّاب كان تقليدا متبعا. ومما أُثِر عن الرسول عليه السلام أنه أوصى بتربية الأولاد البالغين سبع سنوات على الصلاة وضرْب البالغين عشر سنوات إذا تركوها. والمراد بالضرب الذي لا يكون مبرحا ومؤذيا ويعطي به المربي فقط المثال للصبي حتى يشعر أن لوالده أو الفقيه مربيه سلطة عليه. وربما تعرض الأمير للضرب بالعصا عند الفقيه في المسيد (الكُتَّاب) الذي كان في القصر، شأنه في ذلك شأن تلاميذ عصره. * هل كان الأمير حريصا على إنجاز واجباته الدراسية في الوقت المطلوب؟ـ هذا مؤكد. لأنه كان يفهم لماذا هو محاط بتلاميذ آخرين. وكان بالتالي يريد أن يتغلب في منافستهم عن استحقاق وجدارة. وأذكر أنه كان أقوى التلاميذ تألقا من حيث الحفظ. فقوة الذاكرة أو «الحافظة» عنده كانت تغلب عليه، إذ يكفيه أن يسمع جملة أو شعرا أو حتى نصا أدبيا ليعي ما يسمعه بسرعة ويحتفظ به بذاكرته. وعند الاقتضاء يستعرض عن ظهر قلب مخزون ذاكرته، هذه الذاكرة بهذا المعنى هي التي تُسمى في اللغة العربية الحافظة، وهو تعبير تنفرد به اللغة العربية. فاللغات الأخرى لا يوجد بها إلا تعبير الذاكرة memoire بالفرنسية أو Memory بالإنجليزية. * من كان أقرب زملائه في المعهد الملكي حميمية إليه؟ـ جميع الذين كان يزاملهم ويتعايشون معه كانوا يقدرونه ويتفاهمون معه. الجو في المعهد لم يكن جو مشاكسة أو خصام. ولا أعلم أنه وقعت له مشادة أو خصومة مع أحد زملائه. فقد كانوا يعيشون في المعهد كأسرة واحدة. * هل كان الأمير صبورا؟ـ نعم كان صبورا وذا قدرة خارقة على التحمل، وإلى جانب ذلك كانت له قدرة المثابرة. وكان يرغب في أن ينظر إليه زملاؤه على أنه يستحق الإمارة، ويعمل كل شيء من أجل ذلك. كان عليه أن ينال رضى والده لأنه كان يعلم أن والده لن يرضى عنه إلا إذا كان مثالا وقدوة. فوالده بقدر ما فتح المجال للتلاميذ العشرة الآخرين لخوض التنافس مع الأمير كان يريده أن يكون أحسنهم، لأنه مهيأ لغير ما هم مهيؤون له، أي خلافة والده وتَسلُّم مقاليد حكم المغرب. لذلك كان يحرص على إعطائه التربية الحسنة التي يتأهل بها للقيام بدوره كمساعد وخلف لأبيه. وكان الأمير يبذل الجهد الكبير ليكون أهلا لهذه الثقة مستجيبا لتطلع والده ونظرته إليه. * يقال إن الأمير مولاي الحسن كان في بداية شبابه غَضوبا؟ـ لم يكن غضوبا أمام أبيه أو أمام أساتذته بقدر ما كان في جميع أحواله قوي الشكيمة، شديد المراس، لا يمكن تطويعه بسهولة. كان متخلقا بالأخلاق التي يجب أن يكون عليها الأمير. وكان يعامل زملاءه معاملة طيبة، يعطف عليهم ويُهدي لهم ويُدلِّلهم. وخلال الدرس كان مثال المنسجِم المنتظِم الذي لا تصدر منه أية بادرة سوء في حق هذا التلميذ أو ذاك. أما من تحدثوا عنه بأنه كان شديد الغضب فإنهم لم يفرقوا بين قوة شكيمته وبين اعتزازه بنفسه وحرصه على أن يعطي عن نفسه مثال الرجل الكامل. * ما هي الكتب التي كان يقرأها أثناء دراسته في المعهد؟ـ لقد كان يميل إلى مطالعة الكتب الأدبية، وتَلَذُّ له قراءة التاريخ والأدب باللغتين العربية والفرنسية، ويستظهر ما وسعه جهده من الشعر باللغتين، ويردد ما يسمع من معلقات الشعر الجاهلي والشعر الأندلسي الذي حببه إليه محمد باحنيني أستاذه في الأدب العربي. وكان باحنيني شغوفا بشعر ابن زيدون وما قاله في حق حبيبته ولاَّدة بنت المستكفي. وكان الأمير مولاي الحسن يردد ما يسمعه من أستاذه بإعجاب ويحفظ أشعار ابن زيدون ويطرب لها. أما الأستاذ باحنيني فكان له تضلع في الأدب العربي بالرغم من أنه تخصص في الحقوق ودرس باللغة الفرنسية، لكنه أصبح متبحرا في اللغة العربية لدرجة أنه كان يكتب العربية بأساليب أدباء العرب في القرون القديمة، إذ تأثر بكتاب «الإمتاع والمؤانسة» لأبي حيان التوحيدي وبالأغاني للأصبهاني وغيرهما. ولعلك إذا قرأت خطب العرش الأولى التي كان يكتبها للسلطان محمد بن يوسف وفيما بعدُ للملك الحسن الثاني لوجدتها من حيث السجع والتطريز الأدبي من نوع الأدب العربي القديم. وكان يستعمل المثلَّثات، أي يكرر الجملة الواحدة بثلاث صيغ. وطريقة الأداء اللغوي هذه كانت تدل على تَبحُّر صاحبها في فنون الأدب والنثر مما تصعب محاكاته وفي غالب الأحيان تعسر ترجمته إلى لغة أخرى. * يُنسب إلى المهدي بن بركة قوله إن الأمير مولاي الحسن كان مهتما أكثر بقراءة كتاب «الأمير» لمكيافلي. ما تعليقك؟ـ أولا، أنا لا أعلم ما إذا كان الأمير مولاي الحسن قد قرأ هذا الكتاب أو لم يقرأه. وإذا كان قرأه فربما كما قرأ العديد من الكتب الأخرى. ولا أدري ما اذا كان ابن بركة يقصد بذلك إن صح ما قلتَه عنه. وإذا كان هذا الذي نُسب إليه صحيحا وكان المراد منه نعت الأمير بالمكيافلي فهذا استنتاج غير دقيق. فليس كل من قرأ كتاب الأمير يصبح مكيافلي النزعة.* كان بن بركة زميلا لك في المعهد المولوي. فما هو الفرق الذي لمسته بين بن بركة مدرس الرياضيات، وبن بركة الخصم السياسي ثم الحليف داخل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية؟ـ زمالتي مع بن بركة في المعهد لم تطل أكثر من ثلاثة أشهر. وكانت بيننا علاقة رجلين ينتميان إلى حزبين مشاكسين، ويُعرَف عن كل واحد منا أنه متعصب لحزبه. وماضينا مطبوع بالتجاذبات السياسية، ولكننا تعايشنا أثناء تزاملنا بالمعهد. |
|
بديعة- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 6241
العمر : 39
Localisation : الدارالبيضاء
Emploi : موظفة
تاريخ التسجيل : 03/04/2008
2-قدم الكومندان أوفقير نفسه للوطنيين المغاربة في باريس على أنه الضابط المرافق للمقيم العام الفرنسي في المغرب
* كيف كانت علاقة سلطان الاستعمار ابن عرفة بالسلطان المنفي محمد الخامس؟ـ كان ابن عرفة قبل اغتصابه العرش شخصا مجهولا في مدينة فاس. وحتى سلطة
الحماية لم تكن تعتبره من أعيان البلد. كان يلازم بيته ولم يكن له حضور
بين سكان المدينة. ولم يكن من أغنياء الأسرة العلوية ولكنه أيضا لم يكن من
فقرائها أو مُعْدِميها. وكان له سلوك رجل عادي أو شخص مغمور إلى أن فوجئ
هو نفسه بمناداة الفرنسيين عليه ليخلف السلطان المنفي بدعم من حركة القواد
المتمردين على الشرعية التي كان يرأسها التهامي الكلاوي باشا مراكش وآخرون
ممن وقعوا في الفخ الذي نصبته لهم مؤامرة الإقامة العامة الفرنسية على
السلطان الشرعي.
* ما هي قصة مؤتمر إكس ليبان في فرنسا؟ـ كان يراد منه أن يكون مؤتمر حوار مغربي ـ مغربي، أي بين التقليديين
والوطنيين ليصلوا إلى وفاق بينهم في موضوع العرش على أرضية مشتركة يمكن أن
يستقر عليها الطرفان بالتراضي. وبكلمة جامعة: كان المنظِّرون من دهاقنة
الاستعمار الفرنسي لمشروع التقاء الفرقاء «المتشاكسين» (أو الإخوة
الأعداء) من المغاربة في تجمع كبير «لغسل وسَخهم» يريدون أن يحوِّلوا
القضية المغربية من ثورة الشعب المغربي ـ وعلى رأسه السلطان ـ على فرنسا
إلى مجرد أزمة عرش نشِب فيها خلاف بين مغاربة تلعب فرنسا فيه دور الحكَم
بينما هي الخصم.ولما وصلنا إلى «إكس ليبان» يوم 22 اغسطس (آب) 1955 قيل لنا إن الباشا
التهامي الكلاوي والقواد الآخرين موجودون بالمدينة. فامتنعنا عن لقائهم
وقلنا:«نرفض هؤلاء، فهم ليسوا معنيين بالأمر. هم عملاء للإقامة العامة».
وأفهمنا وفد الحكومة الفرنسية إلى إكس ليبان أن إقامتها العامة في المغرب
تخادعها وتكذب عليها. واضطر الفرنسيون بعد تلكؤ ثم بإمعان النظر إلى
القبول بوجهة نظرنا، فأرجعوا في نهاية الأمر القواد الموالين للإقامة
العامة إلى المغرب من حيث أتوا. ولذلك فإن مؤتمر «إكس ليبان» الذي يتحدث
عنه التاريخ لم يكن مؤتمرا لأنه لم يجتمع قط. وقد سبق لي أن كتبت هذا في
الثمانينات في «موسوعة ذاكرة المغرب» باللغة الفرنسية بعنوان «المؤتمر
الذي لم ينعقد»، لأننا لم نجتمع مع أولئك العملاء ولم نرهم.اضطر الوزراء الفرنسيون الذين جاءوا لإكس ليبان لاستدعائهم وحدهم فاجتمعوا
بهم منفردين، وصرفوهم فرجعوا إلى المغرب من حيث أتوا، واستدعونا نحن
واجتمعوا بنا وحدنا، فأطلعناهم على وجهة نظرنا ووضعنا الأمور في نصابها.
إن مؤتمر «إكس ليبان» انتهى ـ كما قلت ـ قبل أن يبدأ، وبالتالي لم يدخل قط
التاريخ.
* بعد تشكيل جبهة العمل الوطني بين الأحزاب المغربية، ما هي طبيعة الاتصالات التي ظلت قائمة بينكم وبين السلطان المنفي في مدغشقر؟ـ لقد انقطعت الاتصالات بيننا وبين السلطان محمد بن يوسف لأن الحصار كان
مضروبا عليه بمنفاه. ولكن مع توالي الأيام وانتهاء معركة ما أسميه
بــ«خُدعة إكس ليبان» تبين للفرنسيين أنه لا حل للأزمة المغربية إلا
بالدخول في محاورة مباشرة مع الوطنيين في الجبهة، واستبعدت فرنسا الحوار
مع نفسها أي بواسطة القواد والباشوات والعملاء التقليديين. وأنشأت فرنسا
داخل الحكومة الفرنسية وزارة خاصة باسم وزارة الشؤون المغربية والتونسية،
كان يشرف عليها الوزير «بيير جولي» (من اليمين).
* وكيف تعاملت وزارة الشؤون المغربية والتونسية معكم؟ـ رُتِّب لوفد الجبهة الوطنية بباريس موعد مع الوزير «جولي» بعدما تفرق
دون نتيجة تَجمُّع «إكس ليبان». وتوجهنا إلى مكتبه كممثلين لحزب الشورى
والاستقلال ( أنا وعبد القادر بن جلون، وأحمد بن سودة) إلى جانب ممثلي حزب
الاستقلال (عمر بن عبد الجليل، وعبد الرحيم بوعبيد، والمهدي بن بركة).
وكان على رأس الإقامة العامة الفرنسية في المغرب آنذاك الجنرال «بْوَيّي
دولاتور» المقيم العام الفرنسي ما قبل الأخير، أي قبل حصول المغرب على
استقلاله.وتميزت الجلسة الأولى بالمكاشفة. وعرض علينا تشكيل حكومة مؤقتة لتنظيم
مرحلة التفاوض على الاستقلال، فأخبرناه أننا لا نقبل الحديث عن أي حل ما
لم نتصل بالسلطان محمد بن يوسف في منفاه مباشرة، وما لم نتفق معه على ما
يجب أن نقوم به. واستبعدنا أن نعمل أي شيء في غيابه.وأذكر أنه بينما كان وفد الجبهة بقاعة الانتظار كان الوزير يستقبل المقيم
العام الفرنسي بالمغرب الجنرال «بْوَيّي دُولاتُور» فدخل علينا الكومندان
محمد أوفقير ليأخذ معطف المقيم العام، وبيده عصا الجنرال فسلم علينا وقدم
نفسه لنا على أنه الضابط المرافق للجنرال المقيم العام. ثم قال لنا:
«أهنئكم بنجاحكم فالقضية التي دافعتم عنها أصبحت ناضجة». وتظاهر بأنه
يغالب بكاء الفرح الذي لا أستطيع وصفه. وكانت هذه أول مرة ألتقي فيها
الضابط أوفقير. وبعد مرور دقيقة خرج المقيم العام من مكتب الوزير فحياه
أوفقير التحية العسكرية وألبسه معطفه وسلم إليه عصاه وانصرف وراءه. وكانت
هذه أول مرة أرى فيها وجه أوفقير وأمد يدي لمصافحته.وكان الفرنسيون يرغبون في تشكيل حكومة رشحوا لرئاستها أحد المعتدلين
التقليديين هو الفاطمي بن سليمان الذي كان وزيرا للمعارف في حكومة المخزن
ورئيسا للمحكمة العليا بالرباط قبل أن يذهب السلطان إلى المنفى. ثم انفصل
عن الحكومة المخزنية وظل على ولائه للسلطان محمد بن يوسف، وذلك عندما أخذ
من اشتغلوا مع الحماية الفرنسية ينفَضّون من حولها. ولاحظ الفرنسيون أننا
مصممون على موقفنا. وكانوا يخشون أن يفقدونا مثلما فقدوا حركة المقاومة
الفدائية. فلم يكن عندهم أي خيار إلا أن يسايرونا فيما نطلب. وهيأوا لنا
سرا وفي غيبة الإعلام الاتصال بالسلطان في المنفى. وسافرتُ ضمن الوفد
الوطني إلى مدينة أنتسرابي في جزيرة مدغشقر. وضم الوفد عمر بن عبد الجليل،
وعبد الرحيم بوعبيد من حزب الاستقلال، وعبد القادر بن جلون، وعبد الهادي
بوطالب من حزب الشورى والاستقلال. وطارت بنا الطائرة الخاصة في التاسع من
سبتمبر (أيلول) 1955 دون أن نجتاز الحواجز الأمنية والجمركية من مطار خاص
في باريس في الساعة الحادية عشرة صباحا. ولم يُعلَن عن سفرنا للقاء
السلطان إلا بعد رجوعنا. ونحن أيضا لم نخبر أحدا بسفرنا. وقطعنا الرحلة من
باريس إلى «تناناريف» عاصمة مدغشقر في ظرف 36 ساعة، توقفنا خلالها في عشرة
مطارات. فالطائرة التي سافرنا على متنها من نوع «كَرافيل» كانت تطير مسافة
400 كيلومتر وتتوقف للتزود بالوقود. ونزلت الطائرة بنا في مطار
«تناناريف». ثم أقلَّتنا السيارة إلى مدينة «أنتسيرابي» في رحلة استغرقت
أربع ساعات. وكان السلطان يقيم في الفندق الكبير «لي تيرم» بجوار حمة
معدنية كان يغشاها من يرغبون في الاستشفاء ويأتي إليها السياح للاستجمام
أو شرب مياهها للعلاج. وكانوا قبل وصول السلطان يقيمون في ذلك الفندق
الكبير الذي أخلاه الفرنسيون ليقيم فيه السلطان وأسرته.
* ماذا دار بينكم وبين السلطان من أحاديث؟ـ وصلنا إلى الفندق في ساعة متأخرة من الليل. وكان السلطان ينتظرنا،
فاستقبلَنا بترحاب كبير وعلى عينيه نظارتان سوداوان. ويظهر أنه وضعهما على
عينيه حتى يستر الدمع الذي كان يجري بين عينيه. وربما انسابت عبرات على
خده كَفْكَفَها حتى لا نراها. وكان سعيدا بأن يعلم أن الأمور تسير نحو
النهاية، وأن العاصفة في طريقها إلى الهدوء.وبقينا في ضيافة الملك ثلاثة أيام، وكنا نراه كل يوم. كان يقضي معظم وقته
وأُذناه على الراديو لالتقاط أنباء تطورات قضية المغرب ويستمع إلى إذاعات
باريس والبي. بي. سي والقاهرة ليلتقط أخبار المقاومين وما يجري في المغرب.
وكانت تقعد على جانبه ابنته الصغرى للاَّأمينة وهي آخر من أنجب رحمه الله.
وكان يعزها ويحبها وربما كانت سلواه الوحيدة في ذلك المنفى السحيق. لم
يسألنا الملك عن شيء بقدر ما سألنا عما إذا كانت المقاومة في المغرب
ستستمر، وعما إذا كان الشعب المغربي لم يمَلّ الكفاح الوطني. وسأل أكثر من
ذلك حينما قال مُتلطِّفا: «هل حِمْلي كبيرٌ عليكم؟» فكان جوابنا نحن
الأربعة: «لا أبدا. إننا نقوم بعمل وطني، وإن جلالته يجسد السيادة
المغربية ومطامح المغرب الوطنية. وإن كل ما يقوم به الشعب من أجل جلالته
أدى هو سلفا ثمنه من نفسه وتضحيته وعرشه».كان هذا الكلام يُفرِحه ويُسلّيه ويعزيه، لكنه كان يتلقاه منا بتواضع
المؤمنين المحتسبين. ثم سرعان ما وصلنا للحديث عن الموضوع الشائك عندما
أخبرناه أنه مطروح علينا أن نؤلف حكومة في انتظار أن يعود هو إلى المغرب،
وأن الفرنسيين يريدون عودة جلالته على مراحل. أي أن يعود في المرحلة
الأولى إلى فرنسا بصفة مؤقتة، ثم ينتقل بعدها إلى الرباط. وأوضحنا له أننا
نعارض كل هذا وأننا قلنا للفرنسيين: «لا حكومة ولا تفاوض إلا بعد أن يرجع
السلطان إلى عرشه». فصدرت منه رحمه الله مبادرة تعرب عن سمو النفس وحصافة
الحكيم الذي يعرف كيف يوجد للأشياء حلولها. وبدا لنا ساميا في نظرته
مترفعا عن إيثار مصلحته الخاصة على مصلحة شعبه وأمته عندما رد علينا
قائلا: «أنا لا أتفق معكم. بادروا إلى تشكيل الحكومة لأجل أن تعجلوا
باستقلال المغرب. ولا «توقفوا البيضة في الطاس» (كما يقول المثل المغربي).
فكان ردنا أن هذا المبدأ اتفقنا عليه ولن نقبل تشكيل الحكومة قبل عودته.
وأوضحنا له أن الفرنسيين سيقبلون لا محالة في النهاية ما داموا شرعوا في
تقديم التنازلات. فقال الملك: «افعلوا ما ترون، لكن رأيي هو ألا تربطوا
مصير المغرب بمصيري وتجعلوا من عودتي إلى العرش شرطا».أكبرنا هذه المبادرة الطيبة السمحة الكريمة الصادرة عن الملك وزدنا تعلقا
به وتقديرا له. وكان الأمر كما أردنا لا كما أراد. فلم يمض على عودتنا إلا
ما ينيف بقليل على شهر حتى عاد إلى باريس يوم 29 أكتوبر 1955 وأقيم
بالرباط مجلس ثلاثي سمي «مجلس حفظة العرش»، بمعنى أن ابن عرفة ذهب وأصبح
العرش فارغا. ثم أعطت فرنسا لابن عرفة تعويضات نقدية حملها إليه في ظرف
كبير العباس التازي محافظ عاصمة الرباط، وأمَّنت لغاصب العرش الإقامة
بفرنسا والإنفاق عليه إلى أن وافاه الأجل ملفوظا من بلاده. ولسد الفراغ
أنشئ مجلس حفظة العرش وكانوا ثلاثة. لكن هذه العملية أيضا تبخرت وسقطت كما
ينهار قصر من ورق بنفخة ريح. إذن لم تؤسس أية حكومة، ولم يستمر مجلس حفظة
العرش إلا أياما ثم طوي الحديث عنه.وأثناء الأيام المعدودات التي أقام بها السلطان بفرنسا أخذت الوفود تتدفق
من المغرب إلى فرنسا التي لم تمانع في وصولها إلى القصر الذي كان ينزل فيه
السلطان. وتبوأ السلطان عرشه في فرنسا مؤقتا فقط ولبضعة أيام. وكان ضمن
هذه الوفود الباشا التهامي الكلاوي الذي تزعم العصابة المناوئة للسلطان،
حيث ركع أمامه، وقبَّل رجله، وطلب العفو، وأعلن التوبة وقُضي الأمر. وبعد
أيام معدودات عاد السلطان إلى المغرب وشكل الحكومة الأولى يوم 7 ديسمبر
(كانون الأول).1955
* كيف وجدتم الأمير مولاي الحسن في منفاه؟ـ وجدنا الأمير مولاي الحسن كما عهدناه: طاقة من الحماس والحيوية، لم
يعترِه وهَن ولا ضعُف له عزم. كان يؤمن بأن المشكلة المغربية في طريق
الحل، وكان يقوم بدور مهم بجانب أبيه. كان مساعده ومستشاره الخاص، يحرر
الرسائل التي كان يتبادلها والده مع الحكومات الفرنسية المتعاقبة. وظلت
تلك المراسلات بين الحكومة الفرنسية والسلطان تُتَبادل وهو في منفاه إلى
حين عودته.وكان الأمير ولي العهد مولاي الحسن يسهر على تحرير المراسلات السياسية
والمذكرات القانونية بأسلوب معتدل لا تشنج فيه ولا غضب ولا ينمُّ عن
كراهية أو حقد، بحيث كان يعطي لفرنسا الأمل في أن عودة الملك إلى عرشه
وتغيير نظام الحماية لن يكونا قطيعة معها، إذ يمكنها أن تحافظ على مصالحها
رغم تغيير الحماية. فالأمير مولاي الحسن عرف كيف يستعمل دبلوماسيته وخبرته
القانونية وهو مازال في سن مبكرة. لذا كانت رسائله تؤثر على الفرنسيين.
وكان محامي السلطان في فرنسا «جورج إيزار» هو الوسيط بين السلطان المنفي
والفرنسيين. كان يحضر إلى «أنتسرابي» وينقل رسائل فرنسا إلى السلطان ومنه
إلى فرنسا.في منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) 1955 عاد السلطان إلى المغرب عودته
الظافرة ومعه أسرته كما لو كان المغرب قد أعلن استقلاله. وعندما وصل إلى
الرباط كانت الأمواج البشرية متدفقة على طول الطريق الذي يربط المطار
بالقصر هاتفة بحياته واستقلال المغرب. وقد كنت عدت من فرنسا إلى المغرب
يومين قبل عودته لتهييئ استقباله. وأخذت موقفي في الصف الأول لاستقباله
عند سلم الطائرة ساعة وصوله. وكان الحزبان الوطنيان اتـفقا على اقتسام
طريق الاستقبال فأشرف حزب الشورى والاستقلال على تنظيم استقبال السلطان من
المطار إلى مدخل مدينة الرباط. وأشرف حزب الاستقلال على تنظيم استقباله من
مدخل المدينة إلى القصر الملكي. وبعد يومين من وصوله حلت ذكرى عيد العرش
في 18 نوفمبر 1955، وقال الملك في خطاب العرش الذي كلفني بالمساهمة في
تحرير مشروعه مع الأستاذ عبد الرحمن الفاسي والمرحوم أحمد بناني الذي أصبح
مديرا للتشريفات (المراسم): «أبشرك شعبي العزيز: لقد انتهى عهد الحجر
والحماية وأقبل عهد الحرية والاستقلال». وذلك يعني أن السلطان فسخ عقد
الحماية وأعلن الاستقلال من جانب واحد. وكان سكوت سلطات الحماية بمثابة
قبول ضمني. ثم تأكد اعتراف فرنسا بالاستقلال بالإمضاء على اتفاقية مشتركة
في «سيل سان كلو» بفرنسا في 2 مارس (آذار) .1956
* بعد مغادرة السلطان لمدغشقر باتجاه فرنسا، هل استؤنفت المفاوضات التي بدأت في مؤتمر «إكس ليبان» الذي سبق وقلتم عنه إنه لم ينعقد؟ـ استؤنفت المفاوضات بعد شهر فقط، ولكن لم تنعقد في «إكس ليبان». فإكس
ليبان تمت الدعوة إليه في أكتوبر 1955، والملك عاد إلى المغرب في منتصف
نوفمبر، وتأسست الحكومة برئاسة مبارك البكاي يوم 7 ديسمبر .1955 وهي التي
دخلت في المفاوضات مع حكومة فرنسا. وكانت تحمل اسم «حكومة الاتحاد الوطني»
لأنها تألفت من تسعة وزراء من حزب الاستقلال، وستة وزراء من حزب الشورى
والاستقلال، وأُسنِدت إليَّ فيها حقيبة وزارة العمل والشؤون الاجتماعية،
وستة وزراء ممن لا حزب لهم ويسمون بـ«المستقلين». وكانت تسمى أيضا ب
«حكومة المفاوضات». وسمي فيها أربعة وزراء دولة (في المغرب وزير الدولة
يحتل رتبة عليا في الحكومة يتقدم بها على الوزراء. ولا تعني هذه الكلمة
نائب وزير كما يقال في إنجلترا والشرق. فعلى هذا الأخير يطلقون في المغرب
اسم كاتب الدولة). وزراء الدولة الأربعة كانوا مكلفين بحقيبة المفاوضات
وهم عبد الرحيم بوعبيد (حزب الاستقلال)، ومحمد الشرقاوي (حزب الشورى
والاستقلال)، وأحمد رضا جديرة (المستقلين)، وإدريس المحمدي بصفته الشخصية.
* هل كان مبارك البكَّاي وطنيا مائة في المائة؟ـ أعتقد ذلك. لقد سبق له أن تعاون مع الحماية في منصب باشا بمدينة صفرو
وكان المنصب تابعا لحكومة السلطان. لكن تعاون البكّاي من موقع مسؤوليته
كان في حدود الكرامة وعزة النفس وداخل الشرعية التي كان يمثلها سلطان
المغرب الذي يسمي الموظفين بظهير سلطاني. وعندما بلغت الأزمة بين السلطان
والإقامة العامة أشدها أعلن رفضه الانضمام إلى الجبهة المعادية للسلطان
والمتآمرة على سيادة المغرب فعزلته الإقامة العامة الفرنسية من منصبه
كباشا لمدينة صفرو، كما عزلت باشوات وقوادا آخرين نهجوا نفس النهج. كان من
بينهم باشا مدينة فاس الفاطمي بن سليمان، والقائد العيادي قائد منطقة
الرحامنة في مراكش، وأحمد الجنان باشا مكناس وآخرون. وكلهم كانت لهم روابط
متينة بالسلطان قبل نفيه. وبذلك انضم رافد جديد إلى الحركة الوطنية وأخذ
تكتل المتآمرين يتساقط.ثم تنبهت حكومة فرنسا في حسابها لتقدير توازن القوى بالمغرب إلى أن ميزان
القوة أصبح يميل لصالح الوطنيين، وليس لصالح أولئك الذين سخرتهم لتحقيق
أغراضها الدنيئة.
* كيف تشكلت هذه الحكومة إذ أن بعض الأحزاب الوطنية المغربية تقول عنها إنها وليدة «إكس ليبان»؟ـ هذا الكلام عار عن الصحة. فعندما وصلت مرحلة تشكيل الحكومة كانت خدعة
«أكس ليبان» قد دخلت في خبر كان. وعندما عاد السلطان أعلن عن نهاية
الحماية وبداية عهد الاستقلال وفتح في آخر نوفمبر استشارات مع الفعاليات
السياسية المغربية لتشكيل الحكومة. وانطلق رحمه الله من مبدأ وجود جبهة
وطنية بين الأحزاب التي قادت حركة عودته من المنفى وحاورت فرنسا في شأن
استعادة السيادة، فكان أن أشرك في الحكومة ممثلين عن حزب الاستقلال وعددهم
تسعة وزراء، وحزب الشورى والاستقلال وعددهم ستة. وكان يرى أن الخريطة
السياسية المغربية تحتم أن تعكس الحكومة جميع فصائل الأمة، فأعطى ستة
مقاعد وزارية للمستقلين. وكان من بينهم شخصيات من أصول مختلفة. وارتأى أن
يقود الحكومة محايد غير منتم لأي حزب، واختار مبارك البكَّاي لَهْبيل
رئيسا للحكومة لما كان قام به على رأس وفد الجبهة الوطنية في باريس من
نضال للتعريف بقضية المغرب. كما كان من بين اللامنتمين الحسن اليوسي الذي
أسند إليه السلطان وزارة الداخلية، وأحمد رضا كديرة الذي كان أحد وزراء
الدولة للمفاوضات.وتشكيل الحكومة بهذه الطريقة كان ضمن اختصاصات السيادة التي أخذ السلطان
يمارسها بكل حرية منذ عودته. ولا علاقة بين ذلك وبين «إكس ليبان» التي لم
تدخل قط التاريخ كما قلت ذلك مرارا.وأذكر أنه لما أراد الفرنسيون عقد «إكس ليبان» استُدعِيت أنا ومحمد
الشرقاوي من حزب الشورى والاستقلال إلى الإقامة العامة بالرباط، كما
استُدْعي أعضاء من حزب الاستقلال من قبل المقيم العام الفرنسي «جيلبير
جرانفال» الذي أخبرنا أن الحكومة الفرنسية تريد أن تعقد اجتماعا للإنصات
إلينا، وأنها ستُنصت إلى آخرين، أي القواد الذين دبَّروا الثورة على الملك
والشعب، فأخبرناه برفضنا الاجتماع مع هؤلاء.
* وماذا عن المفاوضات التي قادتها حكومة البكَّاي؟ وما هي مرجعيتها؟ـ مرجعيتها هي تحرير السيادة من قبضة الاستعمار واعتبار عقد الحماية
مستوفيا أغراضه، ورفض المغرب أية مرحلة انتقالية من عهد الحماية إلى عهد
الاستقلال التام. أي رفض إقامة أي حكم ذاتي مؤقت يمهِّد للوصول إلى
الاستقلال. والواقع أن هذا الأمر انتهى قبل تشكيل الحكومة. فقد أدركت
فرنسا أن شعب المغرب يقرن بين عودة السلطان إلى عرشه وبين الاستقلال.
ولذلك قال السلطان بعد عودته في خطابه المشهور: «انتهى عهد الحجر
والحماية»، ومارس سلطاته ـ ومعه حكومته ـ على هذا الأساس إلى أن أعلنت
فرنسا اعترافها بالاستقلال في اتفاقية 2 مارس (آذار) 1956. وقبل ذلك عندما
دخلنا الحكومة الوطنية الأولى كان مخاطبونا ـ نحن الوزراء ـ من المديرين
الفرنسيين يفهمون أن الحل السياسي الذي تشكلت الحكومة على أساسه هو إقامة
الاستقلال داخل الترابط مع فرنسا مما جعلنا نعطي الأولوية في كفاحنا معهم
لرفع هذا الالتباس وإجبارهم على العمل تحت إمرتنا وسلطتنا بصفتنا وزراء في
حكومة المغرب المستقل وهم مجرد موظفين سامين. وانتهت هذه المرحلة في أقل
من شهر وزال الالتباس.* الملاحظ أن مفاوضات الاستقلال لم تتناول استقلال المغرب بشكل كلي،
فالصحراء ظلت محتلة وكذلك سبتة ومليلية. كما أن القضية الموريتانية لم
تحُسَم أيضا. فما هي أسباب عدم إثارة هذه الأشياء فيها ؟ـ نحن اعتبرنا أن الرابطة الوحيدة التي لنا مع الاستعمار هي معاهدة
الحماية التي عقدتها فرنسا مع السلطان عبد الحفيظ في ظروف يعرفها الجميع.
ذلك أن هذا السلطان أُرغِم على التوقيع عليها في 30 مارس 1912، وبعد ذلك
تنازل عن العرش غاضبا ومحتجا وقال: «كنت سلطان الاستقلال ولا أريد أن أكون
سلطان الحماية» ثم نُفي إلى باريس.وأبرمت فرنسا بدورها نيابة عن المغرب أو باسمه عقد الحماية مع إسبانيا
لبسط سلطتها على المنطقة الشمالية المغربية أو ما كان يسمى آنذاك بالمنطقة
الخليفية التي كان يحكمها خليفة سلطان المغرب بتفويض من السلطان وبمقتضى
ظهير صادر عنه يعيِّنه فيه على المنطقة الشمالية وعلى الصحراء المغربية،
وهو عقد كنا نسميه عقد كراء تحت الباطن، أي «الكراء الخفي». لذلك تركنا
لفرنسا أن تتصل بإسبانيا لإفراغ المسكن من مكتريه، لأن الحماية الإسبانية
التي تعتمد عليها الاتفاقية الفرنسية ـ الإسبانية انتهت بنهاية عقد
الحماية مع فرنسا.ودخلنا في مفاوضات تطبيقية مع إسبانيا لتوحيد المنطقتين. وقد كانت المنطقة
الشمالية تدار من خليفة للسلطان بتعيين منه بظهير سلطاني يفوض له السلطة
كما يدل عليه لقب الخليفة السلطاني. ولم يكن هذا الأخير سلطانا بالرغم من
أنه وقعت بعض التجاوزات في تخويله سلطات أكبر من حجمها القانوني حيث أصبح
يُسمِّي له ولي العهد ويُؤسِّس حكومة يُعيِّن فيها وزراء ويخرج إلى صلاة
الجمعة في طقوس مراسم السلطان.وبعدما تأسست الحكومة بعاصمة الرباط ذهب الأمير ولي العهد مولاي الحسن على
رأس وفد مغربي إلى مدريد لقيادة مفاوضات توحيد المنطقتين. وكنت ضمن الوفد
الذي ترأسه الأمير بصفتي وزيرا للعمل والشؤون الاجتماعية. وكان هدف
الزيارة هو سحب عملة البسيطة الإسبانية من المنطقة الخليفية لصالح الفرنك
المغربي. وتحضرني هنا قصة غريبة احتفظَتْ بها ذاكرتي عن اجتماع مدريد هذا،
ذلك أن ولي عهد المغرب لم يأت مدريد على رأس الوفد المغربي إلا بعد وصول
حكومتي المغرب وإسبانيا إلى اتفاق على توحيد المنطقتين وسحب العملة
الإسبانية من المنطقة الخليفية. وكان حضوره بمدريد لتكريس إدخال الاتفاق
في حيز التنفيذ. ولم تطل وقائع هذه الجلسة لأن المشاكل المطروحة وجدت حلها
قبل عقد الاجتماع المذكور بمدريد، فقلق الإسبانيون وقالوا لنا: «لا
يُستحْسَن أن ينعقد الاجتماع بيننا وبينكم في هذه الفترة القصيرة لتسوية
شأن خطير. وعلينا أن نمدد هذا الاجتماع لإنقاذ ماء الوجه أمام شعبنا.
والرأي العام الإسباني سيقول إن مفاوضتنا لم تكن جدية أو في نفس الجدية
التي تفاوضت بها فرنسا معكم». ورد الأمير ولي العهد مولاي الحسن على وزير
الخارجية الإسباني «أرْتاخو»: «إننا جئنا لنكرِّس ما وقع الاتفاق عليه
ونعطيه صبغة علنية ورسمية ليس إلا» فقال له الوزير: «أنا أعلم ذلك ولكن
أرجوكم اقعدوا قليلا. إن الشعب الإسباني لا يمكن أن يفهم أننا صفينا
موضوعا خطيرا في دقائق ... أرجوكم سمو الأمير أن تقعدوا، وأن تتناولوا
الشاي في الراحة». وأخذنا نتناول الشاي ونَزْدرِد الحلويات وندردش مع
بعضنا بعضا إلى أن مرت ساعة كاملة. وآنذاك خرجنا من مقر وزارة الخارجية
الإسبانية وأعلن رئيسا الوفدين للصحافة الإسبانية بما وقع عليه الاتفاق.لم تكن لإسبانيا شرعية الوجود في المنطقة الخليفية إلا من مرجعية
الاتفاقية التي أبرمتها معها سلطة الحماية الفرنسية التي تنازلت لها عن
بعض المناطق المغربية. وبعد أن اعترفت إسبانيا باستقلال المغرب ووحدة
أراضيه دخل مسلسل التحرير في مراحله بدءا من تحرير طرفاية وسيدي إيفني إلى
الصحراء المغربية.
* بالنسبة للصحراء وموريتانيا لماذا لم يتم الحسم فيهما منذ البداية؟ـ لم يكن الحسم سهلا، فمطالبنا كانت واضحة والمغرب كان يطالب بأن تكون له
الحدود التاريخية التي كانت له قبل الحماية سواء تعلق الأمر بسيدي إيفني
أو طرفاية أو الصحراء المغربية أو بالحدود الشرقية المتاخمة للجزائر التي
اقتطعتها فرنسا من المغرب وأضافتها إلى الجزائر، أو سبتة ومليلية والجزر
المجاورة وهي محتلة من طرف الإسبان. ولكن المغرب قَبِل أن يتم تحرير هذه
المناطق على مراحل. وحُرّرت طانطان وطرفاية وسيدي إيفني، وأخيرا الصحراء
المغربية. وبالنسبة لسبتة ومليلية لم يفتأ المغرب يطالب برفع الاحتلال
الإسباني عنهما. ودعا الملك الحسن الثاني إلى إنشاء خلية مشتركة للتفكير
بين المغرب وإسبانيا حول مستقبل المدينتين. لقد كانت هناك مبادرات مختلفة
وتوبع مسلسل التحرير بأساليب مختلفة. وكان المهم أن ينتهي المسلسل إلى
تحرير جميع أراضينا المغتصبة وما يزال المغرب يواصل السير. بعد تشكيل
الحكومة الأولى بشهور قليلة واعتراف فرنسا باستقلال المغرب تأسست وزارة
الخارجية المغربية لأول مرة، وأنشئت أيضا وزارة الدفاع الوطني، واستعاد
المغرب مكانته في المجتمع الدولي، وأصبح عضوا في الأمم المتحدة، ودخلنا
أعضاء في المنظمات الدولية. وأنا شخصيا ذهبت إلى جنيف بوصفي وزير العمل
والشؤون الاجتماعية وخطبت في الجلسة العمومية لمنظمة العمل الدولية لتقديم
ملف المغرب للحصول على عضويتها وقُبِل المغرب عضوا بإجماع الأعضاء. ربما
قد يختلف البعض مع مقاربة استرجاع وحدة المغرب الترابية على مراحل، ويرى
في طرح استرجاع التراب الوطني دفعة واحدة الخيار الأفضل، لكن المغرب اتبع
السياسة الواقعية. والمهم أن المسلسل انتهى إلى التحرير الكامل إذا
استثنينا نزاعنا مع الإسبان حول سبتة ومليلية والجزر الذي لا بد أن ينتهي
بالتحرير هو أيضا.* عند الحديث عن حركة المقاومة وجيش التحرير المغربيين تتراءى لنا صورة
ضبابية حولهما سواء من حيث طبيعتهما أو مسارهما أو نهايتهما. وبصفتك ناضلت
بالطرق السياسية كيف تُقيِّم تجربة جيش التحرير؟ ومن كان يقوده أهو الفقيه
البصري أم الدكتور عبد الكريم الخطيب أم آخرون؟ـ كلٌّ من الفقيه البصري والدكتور عبد الكريم الخطيب انتمى إلى قيادة جيش
التحرير وقام بدور وطني مشرِّف في واجهة النضال. لكن جميع أعضاء المقاومة
وجيش التحرير تناسلوا من رحِم الكفاح الوطني السياسي فكان منهم استقلاليون
وشوريون وأعضاء في الحركة الشعبية (التي تأسست حزبا سياسيا في ما بعد) ولا
منتمون. والمقاومة تأسست عندما أشير إليها من لدن الأحزاب السياسية التي
كانت موجودة آنذاك بأن العمل السياسي قد استنفد أغراضه، وأُطلِقت لها ـ
كما قلت في السابق ـ حرية التصرف بالوسائل المتاحة التي تراها بما في ذلك
الاستشهاد واستعمال السلاح الذي بدأ فرديا وأصبح في جيش التحرير جماعيا
منظما. ولكن الانتماء الحزبي لأعضاء المقاومة وجيش التحرير جُمِّد عند
تشكيل حركة المقاومة وجيش التحرير، وتُنوسي استحضار الهُوية الحزبية أو
نُحيت كمرجعية داخل جيش التحرير. لقد كان في قيادة جيش التحرير أعضاء
ينتمون لحزب الاستقلال، وآخرون ينتمون لحزب الشورى والاستقلال والحركة
الشعبية، وآخرون غير منتمين. البعض يقول إن الفقيه البصري مثلا نشأ في
أحضان الحركة القومية والتحق بحزب الاستقلال في ما بعد. (ولست أدري ما إذا
كان هذا صحيحا أم لا). وعندما أُطلِق المجال لعامة الشعب للالتحاق
بالمقاومة وجيش التحرير التقت فصائل الشعب المغربي على صعيديهما. وربما
كانت هناك أكثرية من جهة وأقلية من جهة أخرى. المهم أن هُوية التنظيمين
الجديدين أصبحت هي الانتماء إلى المقاومة أو جيش التحرير بدون وصف آخر.
وأذكر أنه حينما طلب محمد الخامس ـ بعد الاستقلال واسترجاع السيادة وتأسيس
المؤسسات واعتراف فرنسا وإسبانيا باستقلال المغرب ـ أن يوضع حد لمهام جيش
التحرير معتبرا أنه لا يمكن أن يكون في المغرب جيشان خاصة بعد تأسيس الجيش
الملكي النظامي، اتصل بنا رحمه الله بصفتنا وزراء حزب الشورى في حكومته
وطلب منا أن ندعو المنتمين إلينا في المقاومة وجيش التحرير إلى الدخول في
الحياة المدنية والتخلي عن العمل المسلح. وبالفعل ذهب المرحوم عبد الواحد
العراقي إلى القصر الملكي ـ رفقة مجموعة من أعضاء جيش التحرير من حزبنا
الذين وفدوا على الرباط من جبهة التحرير ـ وقدمهم إلى الملك محمد الخامس،
وأعلنوا أمامه عن تخليهم عن العمل بجيش التحرير تلبية لدعوته لأن المغرب
أصبح مستقلا. وبعد 10 أيام من استقبال الملك للعراقي أطلق عليه مجهولون
الرصاص أمام باب بيته بمدينة فاس ومات لأنه لم يكن في جيش التحرير آنذاك
إجماع على وضع السلاح
* من كان في نظرك وراء اغتيال عبد الواحد العراقي؟ـ بعض العناصر التي لم تكن تقبل أن يضع جيش التحرير السلاح لأنهم كانوا
يقولون إن الاستقلال لم يتم بعد، وأن جيش التحرير لم يستوف أغراضه. وربما
اعتبروا أن العراقي خان جيش التحرير. إلا أن حزب الشورى والاستقلال كانت
له وجهة نظر أخرى إزاء ذلك عندما سارع ـ ربما قبل الأوان ـ لتلبية رغبة
الملك محمد الخامس باقتناع وطني بأن الوقت قد حان ليدخل المغرب في عهد
البناء ويكون له جيش واحد.
الحماية لم تكن تعتبره من أعيان البلد. كان يلازم بيته ولم يكن له حضور
بين سكان المدينة. ولم يكن من أغنياء الأسرة العلوية ولكنه أيضا لم يكن من
فقرائها أو مُعْدِميها. وكان له سلوك رجل عادي أو شخص مغمور إلى أن فوجئ
هو نفسه بمناداة الفرنسيين عليه ليخلف السلطان المنفي بدعم من حركة القواد
المتمردين على الشرعية التي كان يرأسها التهامي الكلاوي باشا مراكش وآخرون
ممن وقعوا في الفخ الذي نصبته لهم مؤامرة الإقامة العامة الفرنسية على
السلطان الشرعي.
* ما هي قصة مؤتمر إكس ليبان في فرنسا؟ـ كان يراد منه أن يكون مؤتمر حوار مغربي ـ مغربي، أي بين التقليديين
والوطنيين ليصلوا إلى وفاق بينهم في موضوع العرش على أرضية مشتركة يمكن أن
يستقر عليها الطرفان بالتراضي. وبكلمة جامعة: كان المنظِّرون من دهاقنة
الاستعمار الفرنسي لمشروع التقاء الفرقاء «المتشاكسين» (أو الإخوة
الأعداء) من المغاربة في تجمع كبير «لغسل وسَخهم» يريدون أن يحوِّلوا
القضية المغربية من ثورة الشعب المغربي ـ وعلى رأسه السلطان ـ على فرنسا
إلى مجرد أزمة عرش نشِب فيها خلاف بين مغاربة تلعب فرنسا فيه دور الحكَم
بينما هي الخصم.ولما وصلنا إلى «إكس ليبان» يوم 22 اغسطس (آب) 1955 قيل لنا إن الباشا
التهامي الكلاوي والقواد الآخرين موجودون بالمدينة. فامتنعنا عن لقائهم
وقلنا:«نرفض هؤلاء، فهم ليسوا معنيين بالأمر. هم عملاء للإقامة العامة».
وأفهمنا وفد الحكومة الفرنسية إلى إكس ليبان أن إقامتها العامة في المغرب
تخادعها وتكذب عليها. واضطر الفرنسيون بعد تلكؤ ثم بإمعان النظر إلى
القبول بوجهة نظرنا، فأرجعوا في نهاية الأمر القواد الموالين للإقامة
العامة إلى المغرب من حيث أتوا. ولذلك فإن مؤتمر «إكس ليبان» الذي يتحدث
عنه التاريخ لم يكن مؤتمرا لأنه لم يجتمع قط. وقد سبق لي أن كتبت هذا في
الثمانينات في «موسوعة ذاكرة المغرب» باللغة الفرنسية بعنوان «المؤتمر
الذي لم ينعقد»، لأننا لم نجتمع مع أولئك العملاء ولم نرهم.اضطر الوزراء الفرنسيون الذين جاءوا لإكس ليبان لاستدعائهم وحدهم فاجتمعوا
بهم منفردين، وصرفوهم فرجعوا إلى المغرب من حيث أتوا، واستدعونا نحن
واجتمعوا بنا وحدنا، فأطلعناهم على وجهة نظرنا ووضعنا الأمور في نصابها.
إن مؤتمر «إكس ليبان» انتهى ـ كما قلت ـ قبل أن يبدأ، وبالتالي لم يدخل قط
التاريخ.
* بعد تشكيل جبهة العمل الوطني بين الأحزاب المغربية، ما هي طبيعة الاتصالات التي ظلت قائمة بينكم وبين السلطان المنفي في مدغشقر؟ـ لقد انقطعت الاتصالات بيننا وبين السلطان محمد بن يوسف لأن الحصار كان
مضروبا عليه بمنفاه. ولكن مع توالي الأيام وانتهاء معركة ما أسميه
بــ«خُدعة إكس ليبان» تبين للفرنسيين أنه لا حل للأزمة المغربية إلا
بالدخول في محاورة مباشرة مع الوطنيين في الجبهة، واستبعدت فرنسا الحوار
مع نفسها أي بواسطة القواد والباشوات والعملاء التقليديين. وأنشأت فرنسا
داخل الحكومة الفرنسية وزارة خاصة باسم وزارة الشؤون المغربية والتونسية،
كان يشرف عليها الوزير «بيير جولي» (من اليمين).
* وكيف تعاملت وزارة الشؤون المغربية والتونسية معكم؟ـ رُتِّب لوفد الجبهة الوطنية بباريس موعد مع الوزير «جولي» بعدما تفرق
دون نتيجة تَجمُّع «إكس ليبان». وتوجهنا إلى مكتبه كممثلين لحزب الشورى
والاستقلال ( أنا وعبد القادر بن جلون، وأحمد بن سودة) إلى جانب ممثلي حزب
الاستقلال (عمر بن عبد الجليل، وعبد الرحيم بوعبيد، والمهدي بن بركة).
وكان على رأس الإقامة العامة الفرنسية في المغرب آنذاك الجنرال «بْوَيّي
دولاتور» المقيم العام الفرنسي ما قبل الأخير، أي قبل حصول المغرب على
استقلاله.وتميزت الجلسة الأولى بالمكاشفة. وعرض علينا تشكيل حكومة مؤقتة لتنظيم
مرحلة التفاوض على الاستقلال، فأخبرناه أننا لا نقبل الحديث عن أي حل ما
لم نتصل بالسلطان محمد بن يوسف في منفاه مباشرة، وما لم نتفق معه على ما
يجب أن نقوم به. واستبعدنا أن نعمل أي شيء في غيابه.وأذكر أنه بينما كان وفد الجبهة بقاعة الانتظار كان الوزير يستقبل المقيم
العام الفرنسي بالمغرب الجنرال «بْوَيّي دُولاتُور» فدخل علينا الكومندان
محمد أوفقير ليأخذ معطف المقيم العام، وبيده عصا الجنرال فسلم علينا وقدم
نفسه لنا على أنه الضابط المرافق للجنرال المقيم العام. ثم قال لنا:
«أهنئكم بنجاحكم فالقضية التي دافعتم عنها أصبحت ناضجة». وتظاهر بأنه
يغالب بكاء الفرح الذي لا أستطيع وصفه. وكانت هذه أول مرة ألتقي فيها
الضابط أوفقير. وبعد مرور دقيقة خرج المقيم العام من مكتب الوزير فحياه
أوفقير التحية العسكرية وألبسه معطفه وسلم إليه عصاه وانصرف وراءه. وكانت
هذه أول مرة أرى فيها وجه أوفقير وأمد يدي لمصافحته.وكان الفرنسيون يرغبون في تشكيل حكومة رشحوا لرئاستها أحد المعتدلين
التقليديين هو الفاطمي بن سليمان الذي كان وزيرا للمعارف في حكومة المخزن
ورئيسا للمحكمة العليا بالرباط قبل أن يذهب السلطان إلى المنفى. ثم انفصل
عن الحكومة المخزنية وظل على ولائه للسلطان محمد بن يوسف، وذلك عندما أخذ
من اشتغلوا مع الحماية الفرنسية ينفَضّون من حولها. ولاحظ الفرنسيون أننا
مصممون على موقفنا. وكانوا يخشون أن يفقدونا مثلما فقدوا حركة المقاومة
الفدائية. فلم يكن عندهم أي خيار إلا أن يسايرونا فيما نطلب. وهيأوا لنا
سرا وفي غيبة الإعلام الاتصال بالسلطان في المنفى. وسافرتُ ضمن الوفد
الوطني إلى مدينة أنتسرابي في جزيرة مدغشقر. وضم الوفد عمر بن عبد الجليل،
وعبد الرحيم بوعبيد من حزب الاستقلال، وعبد القادر بن جلون، وعبد الهادي
بوطالب من حزب الشورى والاستقلال. وطارت بنا الطائرة الخاصة في التاسع من
سبتمبر (أيلول) 1955 دون أن نجتاز الحواجز الأمنية والجمركية من مطار خاص
في باريس في الساعة الحادية عشرة صباحا. ولم يُعلَن عن سفرنا للقاء
السلطان إلا بعد رجوعنا. ونحن أيضا لم نخبر أحدا بسفرنا. وقطعنا الرحلة من
باريس إلى «تناناريف» عاصمة مدغشقر في ظرف 36 ساعة، توقفنا خلالها في عشرة
مطارات. فالطائرة التي سافرنا على متنها من نوع «كَرافيل» كانت تطير مسافة
400 كيلومتر وتتوقف للتزود بالوقود. ونزلت الطائرة بنا في مطار
«تناناريف». ثم أقلَّتنا السيارة إلى مدينة «أنتسيرابي» في رحلة استغرقت
أربع ساعات. وكان السلطان يقيم في الفندق الكبير «لي تيرم» بجوار حمة
معدنية كان يغشاها من يرغبون في الاستشفاء ويأتي إليها السياح للاستجمام
أو شرب مياهها للعلاج. وكانوا قبل وصول السلطان يقيمون في ذلك الفندق
الكبير الذي أخلاه الفرنسيون ليقيم فيه السلطان وأسرته.
* ماذا دار بينكم وبين السلطان من أحاديث؟ـ وصلنا إلى الفندق في ساعة متأخرة من الليل. وكان السلطان ينتظرنا،
فاستقبلَنا بترحاب كبير وعلى عينيه نظارتان سوداوان. ويظهر أنه وضعهما على
عينيه حتى يستر الدمع الذي كان يجري بين عينيه. وربما انسابت عبرات على
خده كَفْكَفَها حتى لا نراها. وكان سعيدا بأن يعلم أن الأمور تسير نحو
النهاية، وأن العاصفة في طريقها إلى الهدوء.وبقينا في ضيافة الملك ثلاثة أيام، وكنا نراه كل يوم. كان يقضي معظم وقته
وأُذناه على الراديو لالتقاط أنباء تطورات قضية المغرب ويستمع إلى إذاعات
باريس والبي. بي. سي والقاهرة ليلتقط أخبار المقاومين وما يجري في المغرب.
وكانت تقعد على جانبه ابنته الصغرى للاَّأمينة وهي آخر من أنجب رحمه الله.
وكان يعزها ويحبها وربما كانت سلواه الوحيدة في ذلك المنفى السحيق. لم
يسألنا الملك عن شيء بقدر ما سألنا عما إذا كانت المقاومة في المغرب
ستستمر، وعما إذا كان الشعب المغربي لم يمَلّ الكفاح الوطني. وسأل أكثر من
ذلك حينما قال مُتلطِّفا: «هل حِمْلي كبيرٌ عليكم؟» فكان جوابنا نحن
الأربعة: «لا أبدا. إننا نقوم بعمل وطني، وإن جلالته يجسد السيادة
المغربية ومطامح المغرب الوطنية. وإن كل ما يقوم به الشعب من أجل جلالته
أدى هو سلفا ثمنه من نفسه وتضحيته وعرشه».كان هذا الكلام يُفرِحه ويُسلّيه ويعزيه، لكنه كان يتلقاه منا بتواضع
المؤمنين المحتسبين. ثم سرعان ما وصلنا للحديث عن الموضوع الشائك عندما
أخبرناه أنه مطروح علينا أن نؤلف حكومة في انتظار أن يعود هو إلى المغرب،
وأن الفرنسيين يريدون عودة جلالته على مراحل. أي أن يعود في المرحلة
الأولى إلى فرنسا بصفة مؤقتة، ثم ينتقل بعدها إلى الرباط. وأوضحنا له أننا
نعارض كل هذا وأننا قلنا للفرنسيين: «لا حكومة ولا تفاوض إلا بعد أن يرجع
السلطان إلى عرشه». فصدرت منه رحمه الله مبادرة تعرب عن سمو النفس وحصافة
الحكيم الذي يعرف كيف يوجد للأشياء حلولها. وبدا لنا ساميا في نظرته
مترفعا عن إيثار مصلحته الخاصة على مصلحة شعبه وأمته عندما رد علينا
قائلا: «أنا لا أتفق معكم. بادروا إلى تشكيل الحكومة لأجل أن تعجلوا
باستقلال المغرب. ولا «توقفوا البيضة في الطاس» (كما يقول المثل المغربي).
فكان ردنا أن هذا المبدأ اتفقنا عليه ولن نقبل تشكيل الحكومة قبل عودته.
وأوضحنا له أن الفرنسيين سيقبلون لا محالة في النهاية ما داموا شرعوا في
تقديم التنازلات. فقال الملك: «افعلوا ما ترون، لكن رأيي هو ألا تربطوا
مصير المغرب بمصيري وتجعلوا من عودتي إلى العرش شرطا».أكبرنا هذه المبادرة الطيبة السمحة الكريمة الصادرة عن الملك وزدنا تعلقا
به وتقديرا له. وكان الأمر كما أردنا لا كما أراد. فلم يمض على عودتنا إلا
ما ينيف بقليل على شهر حتى عاد إلى باريس يوم 29 أكتوبر 1955 وأقيم
بالرباط مجلس ثلاثي سمي «مجلس حفظة العرش»، بمعنى أن ابن عرفة ذهب وأصبح
العرش فارغا. ثم أعطت فرنسا لابن عرفة تعويضات نقدية حملها إليه في ظرف
كبير العباس التازي محافظ عاصمة الرباط، وأمَّنت لغاصب العرش الإقامة
بفرنسا والإنفاق عليه إلى أن وافاه الأجل ملفوظا من بلاده. ولسد الفراغ
أنشئ مجلس حفظة العرش وكانوا ثلاثة. لكن هذه العملية أيضا تبخرت وسقطت كما
ينهار قصر من ورق بنفخة ريح. إذن لم تؤسس أية حكومة، ولم يستمر مجلس حفظة
العرش إلا أياما ثم طوي الحديث عنه.وأثناء الأيام المعدودات التي أقام بها السلطان بفرنسا أخذت الوفود تتدفق
من المغرب إلى فرنسا التي لم تمانع في وصولها إلى القصر الذي كان ينزل فيه
السلطان. وتبوأ السلطان عرشه في فرنسا مؤقتا فقط ولبضعة أيام. وكان ضمن
هذه الوفود الباشا التهامي الكلاوي الذي تزعم العصابة المناوئة للسلطان،
حيث ركع أمامه، وقبَّل رجله، وطلب العفو، وأعلن التوبة وقُضي الأمر. وبعد
أيام معدودات عاد السلطان إلى المغرب وشكل الحكومة الأولى يوم 7 ديسمبر
(كانون الأول).1955
* كيف وجدتم الأمير مولاي الحسن في منفاه؟ـ وجدنا الأمير مولاي الحسن كما عهدناه: طاقة من الحماس والحيوية، لم
يعترِه وهَن ولا ضعُف له عزم. كان يؤمن بأن المشكلة المغربية في طريق
الحل، وكان يقوم بدور مهم بجانب أبيه. كان مساعده ومستشاره الخاص، يحرر
الرسائل التي كان يتبادلها والده مع الحكومات الفرنسية المتعاقبة. وظلت
تلك المراسلات بين الحكومة الفرنسية والسلطان تُتَبادل وهو في منفاه إلى
حين عودته.وكان الأمير ولي العهد مولاي الحسن يسهر على تحرير المراسلات السياسية
والمذكرات القانونية بأسلوب معتدل لا تشنج فيه ولا غضب ولا ينمُّ عن
كراهية أو حقد، بحيث كان يعطي لفرنسا الأمل في أن عودة الملك إلى عرشه
وتغيير نظام الحماية لن يكونا قطيعة معها، إذ يمكنها أن تحافظ على مصالحها
رغم تغيير الحماية. فالأمير مولاي الحسن عرف كيف يستعمل دبلوماسيته وخبرته
القانونية وهو مازال في سن مبكرة. لذا كانت رسائله تؤثر على الفرنسيين.
وكان محامي السلطان في فرنسا «جورج إيزار» هو الوسيط بين السلطان المنفي
والفرنسيين. كان يحضر إلى «أنتسرابي» وينقل رسائل فرنسا إلى السلطان ومنه
إلى فرنسا.في منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) 1955 عاد السلطان إلى المغرب عودته
الظافرة ومعه أسرته كما لو كان المغرب قد أعلن استقلاله. وعندما وصل إلى
الرباط كانت الأمواج البشرية متدفقة على طول الطريق الذي يربط المطار
بالقصر هاتفة بحياته واستقلال المغرب. وقد كنت عدت من فرنسا إلى المغرب
يومين قبل عودته لتهييئ استقباله. وأخذت موقفي في الصف الأول لاستقباله
عند سلم الطائرة ساعة وصوله. وكان الحزبان الوطنيان اتـفقا على اقتسام
طريق الاستقبال فأشرف حزب الشورى والاستقلال على تنظيم استقبال السلطان من
المطار إلى مدخل مدينة الرباط. وأشرف حزب الاستقلال على تنظيم استقباله من
مدخل المدينة إلى القصر الملكي. وبعد يومين من وصوله حلت ذكرى عيد العرش
في 18 نوفمبر 1955، وقال الملك في خطاب العرش الذي كلفني بالمساهمة في
تحرير مشروعه مع الأستاذ عبد الرحمن الفاسي والمرحوم أحمد بناني الذي أصبح
مديرا للتشريفات (المراسم): «أبشرك شعبي العزيز: لقد انتهى عهد الحجر
والحماية وأقبل عهد الحرية والاستقلال». وذلك يعني أن السلطان فسخ عقد
الحماية وأعلن الاستقلال من جانب واحد. وكان سكوت سلطات الحماية بمثابة
قبول ضمني. ثم تأكد اعتراف فرنسا بالاستقلال بالإمضاء على اتفاقية مشتركة
في «سيل سان كلو» بفرنسا في 2 مارس (آذار) .1956
* بعد مغادرة السلطان لمدغشقر باتجاه فرنسا، هل استؤنفت المفاوضات التي بدأت في مؤتمر «إكس ليبان» الذي سبق وقلتم عنه إنه لم ينعقد؟ـ استؤنفت المفاوضات بعد شهر فقط، ولكن لم تنعقد في «إكس ليبان». فإكس
ليبان تمت الدعوة إليه في أكتوبر 1955، والملك عاد إلى المغرب في منتصف
نوفمبر، وتأسست الحكومة برئاسة مبارك البكاي يوم 7 ديسمبر .1955 وهي التي
دخلت في المفاوضات مع حكومة فرنسا. وكانت تحمل اسم «حكومة الاتحاد الوطني»
لأنها تألفت من تسعة وزراء من حزب الاستقلال، وستة وزراء من حزب الشورى
والاستقلال، وأُسنِدت إليَّ فيها حقيبة وزارة العمل والشؤون الاجتماعية،
وستة وزراء ممن لا حزب لهم ويسمون بـ«المستقلين». وكانت تسمى أيضا ب
«حكومة المفاوضات». وسمي فيها أربعة وزراء دولة (في المغرب وزير الدولة
يحتل رتبة عليا في الحكومة يتقدم بها على الوزراء. ولا تعني هذه الكلمة
نائب وزير كما يقال في إنجلترا والشرق. فعلى هذا الأخير يطلقون في المغرب
اسم كاتب الدولة). وزراء الدولة الأربعة كانوا مكلفين بحقيبة المفاوضات
وهم عبد الرحيم بوعبيد (حزب الاستقلال)، ومحمد الشرقاوي (حزب الشورى
والاستقلال)، وأحمد رضا جديرة (المستقلين)، وإدريس المحمدي بصفته الشخصية.
* هل كان مبارك البكَّاي وطنيا مائة في المائة؟ـ أعتقد ذلك. لقد سبق له أن تعاون مع الحماية في منصب باشا بمدينة صفرو
وكان المنصب تابعا لحكومة السلطان. لكن تعاون البكّاي من موقع مسؤوليته
كان في حدود الكرامة وعزة النفس وداخل الشرعية التي كان يمثلها سلطان
المغرب الذي يسمي الموظفين بظهير سلطاني. وعندما بلغت الأزمة بين السلطان
والإقامة العامة أشدها أعلن رفضه الانضمام إلى الجبهة المعادية للسلطان
والمتآمرة على سيادة المغرب فعزلته الإقامة العامة الفرنسية من منصبه
كباشا لمدينة صفرو، كما عزلت باشوات وقوادا آخرين نهجوا نفس النهج. كان من
بينهم باشا مدينة فاس الفاطمي بن سليمان، والقائد العيادي قائد منطقة
الرحامنة في مراكش، وأحمد الجنان باشا مكناس وآخرون. وكلهم كانت لهم روابط
متينة بالسلطان قبل نفيه. وبذلك انضم رافد جديد إلى الحركة الوطنية وأخذ
تكتل المتآمرين يتساقط.ثم تنبهت حكومة فرنسا في حسابها لتقدير توازن القوى بالمغرب إلى أن ميزان
القوة أصبح يميل لصالح الوطنيين، وليس لصالح أولئك الذين سخرتهم لتحقيق
أغراضها الدنيئة.
* كيف تشكلت هذه الحكومة إذ أن بعض الأحزاب الوطنية المغربية تقول عنها إنها وليدة «إكس ليبان»؟ـ هذا الكلام عار عن الصحة. فعندما وصلت مرحلة تشكيل الحكومة كانت خدعة
«أكس ليبان» قد دخلت في خبر كان. وعندما عاد السلطان أعلن عن نهاية
الحماية وبداية عهد الاستقلال وفتح في آخر نوفمبر استشارات مع الفعاليات
السياسية المغربية لتشكيل الحكومة. وانطلق رحمه الله من مبدأ وجود جبهة
وطنية بين الأحزاب التي قادت حركة عودته من المنفى وحاورت فرنسا في شأن
استعادة السيادة، فكان أن أشرك في الحكومة ممثلين عن حزب الاستقلال وعددهم
تسعة وزراء، وحزب الشورى والاستقلال وعددهم ستة. وكان يرى أن الخريطة
السياسية المغربية تحتم أن تعكس الحكومة جميع فصائل الأمة، فأعطى ستة
مقاعد وزارية للمستقلين. وكان من بينهم شخصيات من أصول مختلفة. وارتأى أن
يقود الحكومة محايد غير منتم لأي حزب، واختار مبارك البكَّاي لَهْبيل
رئيسا للحكومة لما كان قام به على رأس وفد الجبهة الوطنية في باريس من
نضال للتعريف بقضية المغرب. كما كان من بين اللامنتمين الحسن اليوسي الذي
أسند إليه السلطان وزارة الداخلية، وأحمد رضا كديرة الذي كان أحد وزراء
الدولة للمفاوضات.وتشكيل الحكومة بهذه الطريقة كان ضمن اختصاصات السيادة التي أخذ السلطان
يمارسها بكل حرية منذ عودته. ولا علاقة بين ذلك وبين «إكس ليبان» التي لم
تدخل قط التاريخ كما قلت ذلك مرارا.وأذكر أنه لما أراد الفرنسيون عقد «إكس ليبان» استُدعِيت أنا ومحمد
الشرقاوي من حزب الشورى والاستقلال إلى الإقامة العامة بالرباط، كما
استُدْعي أعضاء من حزب الاستقلال من قبل المقيم العام الفرنسي «جيلبير
جرانفال» الذي أخبرنا أن الحكومة الفرنسية تريد أن تعقد اجتماعا للإنصات
إلينا، وأنها ستُنصت إلى آخرين، أي القواد الذين دبَّروا الثورة على الملك
والشعب، فأخبرناه برفضنا الاجتماع مع هؤلاء.
* وماذا عن المفاوضات التي قادتها حكومة البكَّاي؟ وما هي مرجعيتها؟ـ مرجعيتها هي تحرير السيادة من قبضة الاستعمار واعتبار عقد الحماية
مستوفيا أغراضه، ورفض المغرب أية مرحلة انتقالية من عهد الحماية إلى عهد
الاستقلال التام. أي رفض إقامة أي حكم ذاتي مؤقت يمهِّد للوصول إلى
الاستقلال. والواقع أن هذا الأمر انتهى قبل تشكيل الحكومة. فقد أدركت
فرنسا أن شعب المغرب يقرن بين عودة السلطان إلى عرشه وبين الاستقلال.
ولذلك قال السلطان بعد عودته في خطابه المشهور: «انتهى عهد الحجر
والحماية»، ومارس سلطاته ـ ومعه حكومته ـ على هذا الأساس إلى أن أعلنت
فرنسا اعترافها بالاستقلال في اتفاقية 2 مارس (آذار) 1956. وقبل ذلك عندما
دخلنا الحكومة الوطنية الأولى كان مخاطبونا ـ نحن الوزراء ـ من المديرين
الفرنسيين يفهمون أن الحل السياسي الذي تشكلت الحكومة على أساسه هو إقامة
الاستقلال داخل الترابط مع فرنسا مما جعلنا نعطي الأولوية في كفاحنا معهم
لرفع هذا الالتباس وإجبارهم على العمل تحت إمرتنا وسلطتنا بصفتنا وزراء في
حكومة المغرب المستقل وهم مجرد موظفين سامين. وانتهت هذه المرحلة في أقل
من شهر وزال الالتباس.* الملاحظ أن مفاوضات الاستقلال لم تتناول استقلال المغرب بشكل كلي،
فالصحراء ظلت محتلة وكذلك سبتة ومليلية. كما أن القضية الموريتانية لم
تحُسَم أيضا. فما هي أسباب عدم إثارة هذه الأشياء فيها ؟ـ نحن اعتبرنا أن الرابطة الوحيدة التي لنا مع الاستعمار هي معاهدة
الحماية التي عقدتها فرنسا مع السلطان عبد الحفيظ في ظروف يعرفها الجميع.
ذلك أن هذا السلطان أُرغِم على التوقيع عليها في 30 مارس 1912، وبعد ذلك
تنازل عن العرش غاضبا ومحتجا وقال: «كنت سلطان الاستقلال ولا أريد أن أكون
سلطان الحماية» ثم نُفي إلى باريس.وأبرمت فرنسا بدورها نيابة عن المغرب أو باسمه عقد الحماية مع إسبانيا
لبسط سلطتها على المنطقة الشمالية المغربية أو ما كان يسمى آنذاك بالمنطقة
الخليفية التي كان يحكمها خليفة سلطان المغرب بتفويض من السلطان وبمقتضى
ظهير صادر عنه يعيِّنه فيه على المنطقة الشمالية وعلى الصحراء المغربية،
وهو عقد كنا نسميه عقد كراء تحت الباطن، أي «الكراء الخفي». لذلك تركنا
لفرنسا أن تتصل بإسبانيا لإفراغ المسكن من مكتريه، لأن الحماية الإسبانية
التي تعتمد عليها الاتفاقية الفرنسية ـ الإسبانية انتهت بنهاية عقد
الحماية مع فرنسا.ودخلنا في مفاوضات تطبيقية مع إسبانيا لتوحيد المنطقتين. وقد كانت المنطقة
الشمالية تدار من خليفة للسلطان بتعيين منه بظهير سلطاني يفوض له السلطة
كما يدل عليه لقب الخليفة السلطاني. ولم يكن هذا الأخير سلطانا بالرغم من
أنه وقعت بعض التجاوزات في تخويله سلطات أكبر من حجمها القانوني حيث أصبح
يُسمِّي له ولي العهد ويُؤسِّس حكومة يُعيِّن فيها وزراء ويخرج إلى صلاة
الجمعة في طقوس مراسم السلطان.وبعدما تأسست الحكومة بعاصمة الرباط ذهب الأمير ولي العهد مولاي الحسن على
رأس وفد مغربي إلى مدريد لقيادة مفاوضات توحيد المنطقتين. وكنت ضمن الوفد
الذي ترأسه الأمير بصفتي وزيرا للعمل والشؤون الاجتماعية. وكان هدف
الزيارة هو سحب عملة البسيطة الإسبانية من المنطقة الخليفية لصالح الفرنك
المغربي. وتحضرني هنا قصة غريبة احتفظَتْ بها ذاكرتي عن اجتماع مدريد هذا،
ذلك أن ولي عهد المغرب لم يأت مدريد على رأس الوفد المغربي إلا بعد وصول
حكومتي المغرب وإسبانيا إلى اتفاق على توحيد المنطقتين وسحب العملة
الإسبانية من المنطقة الخليفية. وكان حضوره بمدريد لتكريس إدخال الاتفاق
في حيز التنفيذ. ولم تطل وقائع هذه الجلسة لأن المشاكل المطروحة وجدت حلها
قبل عقد الاجتماع المذكور بمدريد، فقلق الإسبانيون وقالوا لنا: «لا
يُستحْسَن أن ينعقد الاجتماع بيننا وبينكم في هذه الفترة القصيرة لتسوية
شأن خطير. وعلينا أن نمدد هذا الاجتماع لإنقاذ ماء الوجه أمام شعبنا.
والرأي العام الإسباني سيقول إن مفاوضتنا لم تكن جدية أو في نفس الجدية
التي تفاوضت بها فرنسا معكم». ورد الأمير ولي العهد مولاي الحسن على وزير
الخارجية الإسباني «أرْتاخو»: «إننا جئنا لنكرِّس ما وقع الاتفاق عليه
ونعطيه صبغة علنية ورسمية ليس إلا» فقال له الوزير: «أنا أعلم ذلك ولكن
أرجوكم اقعدوا قليلا. إن الشعب الإسباني لا يمكن أن يفهم أننا صفينا
موضوعا خطيرا في دقائق ... أرجوكم سمو الأمير أن تقعدوا، وأن تتناولوا
الشاي في الراحة». وأخذنا نتناول الشاي ونَزْدرِد الحلويات وندردش مع
بعضنا بعضا إلى أن مرت ساعة كاملة. وآنذاك خرجنا من مقر وزارة الخارجية
الإسبانية وأعلن رئيسا الوفدين للصحافة الإسبانية بما وقع عليه الاتفاق.لم تكن لإسبانيا شرعية الوجود في المنطقة الخليفية إلا من مرجعية
الاتفاقية التي أبرمتها معها سلطة الحماية الفرنسية التي تنازلت لها عن
بعض المناطق المغربية. وبعد أن اعترفت إسبانيا باستقلال المغرب ووحدة
أراضيه دخل مسلسل التحرير في مراحله بدءا من تحرير طرفاية وسيدي إيفني إلى
الصحراء المغربية.
* بالنسبة للصحراء وموريتانيا لماذا لم يتم الحسم فيهما منذ البداية؟ـ لم يكن الحسم سهلا، فمطالبنا كانت واضحة والمغرب كان يطالب بأن تكون له
الحدود التاريخية التي كانت له قبل الحماية سواء تعلق الأمر بسيدي إيفني
أو طرفاية أو الصحراء المغربية أو بالحدود الشرقية المتاخمة للجزائر التي
اقتطعتها فرنسا من المغرب وأضافتها إلى الجزائر، أو سبتة ومليلية والجزر
المجاورة وهي محتلة من طرف الإسبان. ولكن المغرب قَبِل أن يتم تحرير هذه
المناطق على مراحل. وحُرّرت طانطان وطرفاية وسيدي إيفني، وأخيرا الصحراء
المغربية. وبالنسبة لسبتة ومليلية لم يفتأ المغرب يطالب برفع الاحتلال
الإسباني عنهما. ودعا الملك الحسن الثاني إلى إنشاء خلية مشتركة للتفكير
بين المغرب وإسبانيا حول مستقبل المدينتين. لقد كانت هناك مبادرات مختلفة
وتوبع مسلسل التحرير بأساليب مختلفة. وكان المهم أن ينتهي المسلسل إلى
تحرير جميع أراضينا المغتصبة وما يزال المغرب يواصل السير. بعد تشكيل
الحكومة الأولى بشهور قليلة واعتراف فرنسا باستقلال المغرب تأسست وزارة
الخارجية المغربية لأول مرة، وأنشئت أيضا وزارة الدفاع الوطني، واستعاد
المغرب مكانته في المجتمع الدولي، وأصبح عضوا في الأمم المتحدة، ودخلنا
أعضاء في المنظمات الدولية. وأنا شخصيا ذهبت إلى جنيف بوصفي وزير العمل
والشؤون الاجتماعية وخطبت في الجلسة العمومية لمنظمة العمل الدولية لتقديم
ملف المغرب للحصول على عضويتها وقُبِل المغرب عضوا بإجماع الأعضاء. ربما
قد يختلف البعض مع مقاربة استرجاع وحدة المغرب الترابية على مراحل، ويرى
في طرح استرجاع التراب الوطني دفعة واحدة الخيار الأفضل، لكن المغرب اتبع
السياسة الواقعية. والمهم أن المسلسل انتهى إلى التحرير الكامل إذا
استثنينا نزاعنا مع الإسبان حول سبتة ومليلية والجزر الذي لا بد أن ينتهي
بالتحرير هو أيضا.* عند الحديث عن حركة المقاومة وجيش التحرير المغربيين تتراءى لنا صورة
ضبابية حولهما سواء من حيث طبيعتهما أو مسارهما أو نهايتهما. وبصفتك ناضلت
بالطرق السياسية كيف تُقيِّم تجربة جيش التحرير؟ ومن كان يقوده أهو الفقيه
البصري أم الدكتور عبد الكريم الخطيب أم آخرون؟ـ كلٌّ من الفقيه البصري والدكتور عبد الكريم الخطيب انتمى إلى قيادة جيش
التحرير وقام بدور وطني مشرِّف في واجهة النضال. لكن جميع أعضاء المقاومة
وجيش التحرير تناسلوا من رحِم الكفاح الوطني السياسي فكان منهم استقلاليون
وشوريون وأعضاء في الحركة الشعبية (التي تأسست حزبا سياسيا في ما بعد) ولا
منتمون. والمقاومة تأسست عندما أشير إليها من لدن الأحزاب السياسية التي
كانت موجودة آنذاك بأن العمل السياسي قد استنفد أغراضه، وأُطلِقت لها ـ
كما قلت في السابق ـ حرية التصرف بالوسائل المتاحة التي تراها بما في ذلك
الاستشهاد واستعمال السلاح الذي بدأ فرديا وأصبح في جيش التحرير جماعيا
منظما. ولكن الانتماء الحزبي لأعضاء المقاومة وجيش التحرير جُمِّد عند
تشكيل حركة المقاومة وجيش التحرير، وتُنوسي استحضار الهُوية الحزبية أو
نُحيت كمرجعية داخل جيش التحرير. لقد كان في قيادة جيش التحرير أعضاء
ينتمون لحزب الاستقلال، وآخرون ينتمون لحزب الشورى والاستقلال والحركة
الشعبية، وآخرون غير منتمين. البعض يقول إن الفقيه البصري مثلا نشأ في
أحضان الحركة القومية والتحق بحزب الاستقلال في ما بعد. (ولست أدري ما إذا
كان هذا صحيحا أم لا). وعندما أُطلِق المجال لعامة الشعب للالتحاق
بالمقاومة وجيش التحرير التقت فصائل الشعب المغربي على صعيديهما. وربما
كانت هناك أكثرية من جهة وأقلية من جهة أخرى. المهم أن هُوية التنظيمين
الجديدين أصبحت هي الانتماء إلى المقاومة أو جيش التحرير بدون وصف آخر.
وأذكر أنه حينما طلب محمد الخامس ـ بعد الاستقلال واسترجاع السيادة وتأسيس
المؤسسات واعتراف فرنسا وإسبانيا باستقلال المغرب ـ أن يوضع حد لمهام جيش
التحرير معتبرا أنه لا يمكن أن يكون في المغرب جيشان خاصة بعد تأسيس الجيش
الملكي النظامي، اتصل بنا رحمه الله بصفتنا وزراء حزب الشورى في حكومته
وطلب منا أن ندعو المنتمين إلينا في المقاومة وجيش التحرير إلى الدخول في
الحياة المدنية والتخلي عن العمل المسلح. وبالفعل ذهب المرحوم عبد الواحد
العراقي إلى القصر الملكي ـ رفقة مجموعة من أعضاء جيش التحرير من حزبنا
الذين وفدوا على الرباط من جبهة التحرير ـ وقدمهم إلى الملك محمد الخامس،
وأعلنوا أمامه عن تخليهم عن العمل بجيش التحرير تلبية لدعوته لأن المغرب
أصبح مستقلا. وبعد 10 أيام من استقبال الملك للعراقي أطلق عليه مجهولون
الرصاص أمام باب بيته بمدينة فاس ومات لأنه لم يكن في جيش التحرير آنذاك
إجماع على وضع السلاح
* من كان في نظرك وراء اغتيال عبد الواحد العراقي؟ـ بعض العناصر التي لم تكن تقبل أن يضع جيش التحرير السلاح لأنهم كانوا
يقولون إن الاستقلال لم يتم بعد، وأن جيش التحرير لم يستوف أغراضه. وربما
اعتبروا أن العراقي خان جيش التحرير. إلا أن حزب الشورى والاستقلال كانت
له وجهة نظر أخرى إزاء ذلك عندما سارع ـ ربما قبل الأوان ـ لتلبية رغبة
الملك محمد الخامس باقتناع وطني بأن الوقت قد حان ليدخل المغرب في عهد
البناء ويكون له جيش واحد.
بديعة- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 6241
العمر : 39
Localisation : الدارالبيضاء
Emploi : موظفة
تاريخ التسجيل : 03/04/2008
3- عينت وزيرا للعمل في أول حكومة مغربية ولم يكن في الوزارة التي يعمل فيها 386 فردا سوى 3 فراشين مغاربة
يواصل عبد الهادي بوطالب السياسي المغربي المخضرم في هذه الحلقة من حوارات
«نصف قرن تحت مجهر السياسة» التي خص بها «الشرق الأوسط»، الحديث عن لحظة
ميلاد اول حكومة مغربية بعد عودة الملك محمد الخامس من المنفى وخلفيات
حصول حزب الشورى والاستقلال على ستة مقاعد وزارية مقابل تسعة مقاعد لحزب
الاستقلال. وفي هذه الحلقة ايضا يرسم بوطالب بورتريهات لبعض الاسماء التي
شاركت في الحكومة الاولى مثل عبد الله ابراهيم وأحمد بلافريج والحسن
اليوسي وعبد القادر بن جلون وأحمد بن سودة.
كما يروي بوطالب الوضعية التي وجد فيها وزارة العمل والشؤون الاجتماعية.* كيف عشتم لحظة ميلاد أول حكومة مغربية بعد عودة محمد الخامس من المنفى،
كشاب مصنَّف ضمن تيار الأقلية (حزب الشورى) التي قبلت بستة مقاعد في
الحكومة؟ وهل تصرف حزبكم كمنافس لحزب الاستقلال دون الأخذ بعين الاعتبار
لجسامة اللحظة التاريخية؟ نود منكم سماع رأي المؤرخ والشاهد الصادق ؟ـ أجدني مضطرا إلى العودة إلى ما قلته من قبل من أن التعددية الحزبية في
المغرب شقت طريقها في منتصف الثلاثينات عندما انقسمت كتلة العمل الوطني
إلى قسمين: الأول تمثل في الحزب الوطني بزعامة علال الفاسي، والثاني تمثل
في الحركة القومية بزعامة محمد بن الحسن الوزاني. أفهم أن ذلك شكل لدى
الحزب الوطني إشكالية صعُب عليه أن يتقبلها بارتياح، قد يكون مرد ذلك إلى
أنه كان يرى أن المرحلة تقتضي ألا تتوزع الجهود بين حزبين، وأن يبقى الحزب
الوطني هو الحزب الوحيد. ولذلك سعى إلى أن يعود الوزاني للالتحاق به من
جديد. وقام بالوساطة بين الجانبين عدد من الوطنيين بدون جدوى.بالنسبة للوزاني كان عنده اتجاه سياسي واضح. كان يناهض الحزب الوحيد ويؤمن
بالتعددية والديمقراطية، بدليل أن جميع الصحف التي كان يصدرها كانت تركز
على شقي التحرير والشورى. كان اسم حزب الشورى والاستقلال منذ أسسناه سنة
1947 يحمل بالفرنسية اسم (Leparti democrate de lصindependance) أي الحزب
الديمقراطي للاستقلال. وكان الاسم وحده عبارة عن برنامج متكامل، فقد كان
يعني عند الشباب انخراط المغرب في قيم الحداثة، وتجديد إهاب الدولة، وحتى
بالنسبة للفرنسيين المتخوفين من التغيير كان عنوان حزبنا وبرنامجه
يعطيانهم بعض الاطمئنان إلى أن حزبنا يراهن على الدخول بالمغرب المستقل
إلى العصر، وعلى ممارسته السلطة حسب المفاهيم المعاصرة التي تعتمد
الديمقراطية والتعددية والتحررية وإحقاق حقوق الإنسان والمساواة وتكريم
الرجل والمرأة. وبذلك تم اختراق فكرة الحزب الوحيد وأصبح الاتجاه واضحا في
أن المغرب اختار التعددية. وأذكر أنه عند تشكيل الحكومة كان لحزب
الاستقلال تطلع إلى أن يأخذ أغلبية مقاعد الحكومة إذ كان يعتبر نفسه يمثل
أغلبية الشعب المغربي، رغم أنه لم تجر عملية اقتراع شعبي تؤكد ذلك. كانت
هناك غالبية وأقلية متعارَف عليها مع العلم أنه في بداية الاستقلال وبعد
أن أصبح حزب الشورى يقود المعارضة المنظمة أصبح الإقبال كبيرا عليه وأخذت
صفوفه تتعزز بانخراطات جديدة وخاصة من العالم القروي والشباب الثوري.وعندما جاء موعد تشكيل الحكومة الأولى اشترط حزب الاستقلال أن تكون له
غالبية المقاعد. واعتمد محمد الخامس حلا وسطا فأعطى له 9 مقاعد، وأعطى حزب
الشورى والاستقلال 6 مقاعد، وللمستقلين أي من لا حزب لهم 6 مقاعد أيضا.
وكانت تلك الحكومة تسمى حكومة «الاتحاد الوطني» أو «الوحدة الوطنية»،
أفرزتها معركة الكفاح من أجل الاستقلال، بطبيعة الحال كان قبولنا ستة
مقاعد في الحكومة تنازلا مرده إلى أننا لم نكن نرغب في إثارة حسابات
المقاعد. فالمهام التي كانت تنتظرنا داخل الحكومة تعلو في أهميتها على هذه
الحسابات أمام خطورة الظرفية التاريخية: خطورة بناء المغرب الجديد. لقد
درسنا في المكتب السياسي لحزبنا موضوع المقاعد الستة التي عرضها علينا
الملك وقبلنا عرضه، لكننا تعويضا عن ضُعف العدد طلبنا إليه أن يُؤْثرنا
ببعض الحقائب الوزارية التي رأينا أننا نستطيع أن نفيد منها البلاد.
وارتأينا أنه تفاديا للدخول في معركة حول عدد المقاعد الوزارية ينبغي أن
نهتم بنوعية المقاعد لا بكميتها. ونزل جلالته عند رغبتنا فأسند إلينا
وزارات مهمة: وزارة دولة للمفاوضات (محمد الشرقاوي)، وزارة المالية (عبد
القادر بن جلون)، ووزارة العمل والشؤون الاجتماعية (عبد الهادي بوطالب)،
وكتابة الدولة (وزارة الدولة) في الشبيبة والرياضة (أحمد بن سودة)، ووزارة
التعمير والسكنى (الدكتور محمد بن بوشعيب)، ووزارة المعادن والإنتاج
الصناعي (التهامي الوزاني).
* أين نصنف رضا جديرة الذي كان ينتمي لحزب الأحرار المستقلين وكنتَ أشرتَ إلى أنه كان ضمن المستقلين؟
ـ هو كذلك لأنه كان ضمن الستة وزراء غير المنتمين الذين أُطلق عليهم اسم المستقلين.
* هل تقصد أن حزبه كان عبارة عن ناد سياسي؟ـ ينعت بعض الناس هذا الحزب بأنه ناد وهذا تقييمهم الخاص. ودعني أقول إن
حزب الأحرار المستقلين كان رئيسه هو محمد رشيد ملين الذي لم يُدعَ
للمشاركة في الحكومة. مما يعني أن كديرة لم يكن يمثل هذا الحزب الذي كان
حركة وطنية لها أنصارها خاصة في الرباط. وكان الحزب حركة تقدمية تحررية
وخصما لدودا لحزب الاستقلال، وأقرب ما يكون إلى حزب الشورى والاستقلال،
لكنه لم يكن معنا في نفس الخط. كما أنه كان ينظِّر للتعامل اللامشروط مع
القصر الملكي.
* كم دامت مفاوضات تشكيل الحكومة الأولى؟
ـ لم تتعد أسبوعا أو عشرة أيام، لأن الملك محمد الخامس رجع إلى المغرب في 16 نوفمبر 1955 وتشكلت الحكومة في 7 ديسمبر .1955
* ضمت الحكومة الأولى يهوديا مغربيا هو دافيد بن زاكين الذي كان وزيرا للبريد. فما هي خلفيات ذلك التعيين؟ـ نحن لم نُستشَر حول تركيبة الهيأة الوزارية. فالملك محمد الخامس هو الذي
كان يقوم بتشكيلها بمشاورة مع البكاي رئيس الحكومة المعين. وكان ابن زاكين
ضمن الوزراء المستقلين الذين لا ينتمون إلى حزب. وكان معروفا عنه أنه
مواطن يهودي وطني. وكان تعيينه في الحكومة إشارة إلى توجه المغرب نحو
الديمقراطية ووحدة المواطنة بصرف النظر عن الدين. ذلك أن المغرب رغم كونه
بلدا إسلاميا فإنه يعتبر اليهود مواطنين لهم جميع الحقوق التي يتمتع بها
المسلمون، ومن حقهم أن يكون من بينهم وزراء. وقد تمثل هذا أيضا في تأسيس
البرلمان حيث كان به أعضاء يهود. كان عدد المواطنين المغاربة اليهود عند
الاستقلال يتجاوز 300 ألف يهودي. ربما كان المغرب آنذاك من بين البلدان
العربية الوحيد الذي كان يحتضن أكبر عدد من اليهود كمواطنين. وكان ذلك
كسبا للحكومة في عين الغرب يؤشر إلى أن المغرب المستقل لن يسير في اتجاه
العنصرية أو النازية أو معاداة السامية. كان المغرب يريد أن يبرهن على أنه
يتجه الاتجاه الصحيح، أي اتجاه العصر. ولا ننسى أن الملك محمد الخامس كان
له موقف تاريخي عظيم حيال اليهود المغاربة أيام الحرب العالمية عندما طلب
منه الألمان أن يطرد اليهود من المغرب ويصادر أموالهم، وأن لا يحميهم من
القوانين النازية التي كان يراد تطبيقها عليهم. فدافع عنهم بكل إصرار
وشجاعة وحـمَاهم وقال «إنهم رعيتي ومواطنون مغاربة ولا يمكن أن يُمسوا
بسوء ماداموا في المغرب». وهذا موقف يعترف له به جميع يهود المغرب. وحتى
يهود إسرائيل مازالوا يذكرون له ذلك بكامل الامتنان. وتعلمون أنه يوجد في
إسرائيل شارع باسم محمد الخامس. وهناك جالية يهودية مغربية في إسرائيل
يبلغ عددها اليوم أكثر من 700 ألف يهودي. في حين يوجد في المغرب اليوم ما
يقارب 5 آلاف يهودي فقط. وتابع الملك الراحل الحسن الثاني هذا الاتجاه
فأعطى حقيبة وزارية في حكومته ليهودي آخر هو سيرج بيرديغو (السياحة). وكان
له مستشار استمر في منصبه في عهد الملك محمد السادس هو أندري أزولاي. وقد
جاء وفد وزاري يهودي إلى المغرب أخيرا واستقبله الملك محمد السادس وأطلعه
على برنامج احتفال إسرائيل الديني بذكرى وفاة الحسن الثاني. ومن بينها
إطلاق اسمه على بعض الشوارع في إسرائيل.ونحن في حزب الشورى والاستقلال رحبنا عند تشكيل الحكومة باختيار يهودي
لمنصب وزير. ذلك أننا ديمقراطيون وننظر إلى وحدة المغرب في إطار وحدة
المواطنة لجميع الذين يحملون الهوية المغربية.
* أود لو ترسم لي «بورتريهات» عن بعض الشخصيات التي شاركت في الحكومة الأولى. فماذا تقول عن أحمد بلافريج وزير الخارجية؟ـ لم يكن من بين الوزراء الذين تشكلت منهم الحكومة إثر رجوع محمد الخامس
إلى العرش من منفاه، ولكنه التحق بالحكومة بعد 5 أشهر من تكوينها، أي
عندما أصبح مقبولا من لدن فرنسا أن تكون للمغرب وزارة خارجية بعد توقيعها
مع المغرب اتفاقية الاستقلال. وكان بلافريج أول وزير خارجية. وكان حريصا
على ممارسة دبلوماسية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. أي أنه كان
يعتمد أسلوب الدبلوماسية اللبقة المغلَّفة أحيانا للوصول إلى الهدف بدون
شفافية واضحة وصريحة. كان شديد التعلق بالطقوس البروتوكولية وقليل
التصريحات. ولم يكن مثل بعض وزراء الخارجية الذين عرفناهم في بعض الأقطار
العربية يتسارعون إلى محطات الإعلام ويدلون بتصريحات في كل وقت وآن وفي كل
موضوع.لقد كان بلافريج أمينا عاما لحزب الاستقلال وعندما جاء إلى الحكومة لم يخف
تطلعه إلى تغيير الحكومة إلى حكومة منسجمة ينفرد فيها حزب الاستقلال
بالحكم. وأخذ منذ الأسابيع الأولى يلاحق الملك محمد الخامس لتغيير
الحكومة. وكان يبدو في الحكومة غير منسجم مع أعضائها. وعندما وصل قمة
الوزارة وتقلد منصب الممثل الشخصي للملك الحسن الثاني أصبح رجل القصر ولم
يعد رجل الحزب.
* وماذا عن عبد الله إبراهيم؟ـ شغل في الحكومة منصب كاتب الدولة (وزير دولة) في الأنباء (الإعلام). وهو
أحد زعماء الحركة الوطنية منذ تأسيسها. برز اسمه في الثلاثينات كممثل كتلة
العمل الوطني ثم الحزب الوطني فشي مراكش. وعُرف بمواقفه الوطنية إزاء
سلطات الحماية الفرنسية. ابتُلي وعُذب وهو صغير السن. كما تميز بثقافته
العربية الأصيلة وأضاف إليها ثقافة مزدوجة. وكتابته يُشِعُّ منها الأدب
العربي الرصين العالي. وقد تأثر بثقافة حزب البعث في المشرق العربي. عمل
في الحكومة الأولى على رأس كتابة الدولة للأنباء والمفروض فيها أنها تابعة
لرئيس الحكومة. ولكن منذ بداية عمل الحكومة تمتع كاتبا الدولة
باستقلاليتهما السياسية عن رئيس الوزراء البكاي وإن ظلا من حيث المراسم
تابعَيْن له. وهكذا كان لعبد الله إبراهيم مطلق التصرف في الوزارة، وإن
كانت وزارته تابعة حسب الرسم البياني للحكومة لسلطة رئيس الحكومة. ونفس
الأمر كان بالنسبة لأحمد بن سودة الذي كان كاتب الدولة في الشبيبة
والرياضة تابعا لرئيس الحكومة وله مطلق الصلاحية في وزارته. ويتميز عبد
الله إبراهيم بأنه وطني قبل أن يكون منتميا لحزبه. لا يُعرَف عنه تعصب ضد
خصومه أو معاداة لهم فهو لطيف المعشر ذو أخلاق عالية. ويعتبر من الوطنيين
الزُّهَّاد كما كان محمد اليزيدي يعتبر في حزب الاستقلال من الزهاد. وكان
علي العراقي عضو المكتب السياسي لحزب الشورى والاستقلال يعتبر مدرسة للزهد
والتقوى والإيمان.
* والحسن اليوسي؟ـ في عهد الحماية كان من بين أعوان الداخلية ضمن القواد الكبار وعُزل من
منصبه عندما رفض أن يخوض في مؤامرة القواد. وكان في الحكومة وزيرا
للداخلية. هو ذو تعليم محدود لكن كان حكيما حكمة شيوخ القبائل الذين
تَعْرِكُهم التجارب. وكان يتوفر فعلا على تجربة كبيرة. وكان يعرف طبيعة
العالم القروي الذي كان ينتمي إليه، أي البادية، يعرف تضاريسها وحاجاتها
ومطالبها ومطامحها وقبائلها ورجالها. وحين عُين في منصبه وزيرا في الحكومة
لم يكن يهتم بأكثر من الأمن ومراقبة أعمال القواد والعمال. لكن كان يوجد
في الوزارة أطر قادرة على تسيير مرافق الوزارة التي هي دائما كبرى
الوزارات، أو كما أصبحت تسمى في عهد الوزير السابق إدريس البصري «أم
الوزارات».
* وعبد القادر بن جلون؟ـ شغل مقعد وزير المالية في الحكومة. درس في باريس العلوم السياسية
والقانون. وكان ثاني محام في المغرب بعد المحامي الأول أحمد زروق. كان
ثائرا وصاحب مشروع فكري مجتمعي وداعية للديمقراطية والحداثة الغربية في
وقت مبكر. كان يشغل في حزب الشورى والاستقلال منصب نائب الأمين العام، أي
الثاني بعد محمد الحسن الوزاني. وقد طبع حزب الشورى والاستقلال ببصماته
الثورية التقدمية.
* أحمد بن سودة وهو من حزبكم أيضا ؟ـ نشأ في النضال الوطني منذ صغر سنه وكبر على ذلك. كان في حزبنا المناضل
الأول الذي قضى سنوات من عمره متنقلا من سجن لآخر. إنه بالنسبة لي صديق
العمر ورفيق النضال. ارتبطت صلاتنا طول عمرنا لم تعترضها قط قطيعة ولا
جفوة. طبع وزارة الشبيبة والرياضة ببصمات نضاله وعمل فيها من موقع المكافح
المناضل. وكان يتعامل مع الوزارة تعامله مع الخلايا الوطنية يرشد ويوجه
ويربي.
* حينما عينتَ وزيرا للعمل والشؤون الاجتماعية كيف وجدتَ الوضعية في الوزارة؟ـ كما سبق أن قلت إن جميع الوزارات كان يوجد على رأسها مدير عام فرنسي:
مدير الداخلية، مدير الشغل والشؤون الاجتماعية، مدير الصحة، مدير المالية،
ومدير الأشغال العمومية إلى آخر السلسلة. وهم في الحقيقة كانوا وزراء باسم
مديرين. ومنذ أن تم تنصيب أعضاء الحكومة الأولى حاول كل مدير منهم أن
يشترك مع الوزير في اتخاذ القرار بفرض إمضائهم المزدوج مع إمضاء الوزراء.
لكننا رفضنا ذلك. وأخذنا نمارس سيادة المغرب باستقلال عنهم. وهذا ما أذعنت
فرنسا إليه في آخر الأمر. وسأعطيكم مثالا غريبا عن هذه الأزمة عشته على
رأس وزارة العمل والشؤون الاجتماعية التي كانت مختصة في تنظيم الشغل (أو
العمل) بين أرباب العمل والشغالين، وتطبيق التشريعات التي تنظم علاقة
الجانبين ولا سيما علاقات أرباب العمل مع النقابات. ولما كان الاقتصاد
الوطني المغربي محتكَرا من لدن الأجانب، والمغاربة إنما كانوا يشتغلون
كعمال في المعامل والمصانع الأجنبية خدمة لهذا الاقتصاد، كانت الإقامة
العامة ترفض إلحاق المغاربة بهذه الوزارة التي كانت مختصة بالتدخل لحسم كل
نزاع يقع بين العمال المغاربة وأصحاب المعامل من الأوروبيين. وبعد الإعلان
عن تشكيل الحكومة الأولى وقبل توجهي إلى الوزارة لِتسَلُّمي مهامها اتصل
بي هاتفيا مديرها العام «روني تومازيني» (وكان هو الوزير الفعلي في
الوزارة) ليقول لي: «علمت أنكم ستتسلمون مكتبكم سيدي الوزير غدا، وأريد أن
أعرف متى ستشرفون لأكون في استقبالكم بباب الإدارة». ولما وصلت إلى مكتبي
في الوزارة سألني سؤالا بدا لي غريبا: «كيف تريد أن يخاطبك الموظفون، هل
بلقب صاحب المعالي أو صاحب السعادة Excellence أو بالسيد الوزير؟» وبدا لي
السؤال غريبا. فسألته: «لِـمَ تسألني هذا السؤال؟» فألح علي أن أختار
واحدا من الألقاب الثلاثة. فقلت له: «بالنسبة لصاحب المعالي أو صاحب
السعادة لا أعرف أين تبتدئ حدود هذا اللقب وأين تنتهي. وقد كنتم تتوجهون
به في عهد الحماية إلى كل موظف من القائد في القرية عبر الباشا في المدينة
إلى الوزير المخزني في العاصمة. ولكن بالنسبة للوزير أعلم أنه يعني عضوا
مسؤولا في الحكومة. ولذلك أفضله على لقب صاحب المعالي أو صاحب السعادة».
فقال «تومازيني»: «حسنا سنفعل ذلك». ثم سألني: «هل ستتوجهون إلى العاملين
في الوزارة بخطاب بمناسبة تنصيبكم على رأسها؟» فقلت: «نعم أريد أن أفعل
ذلك». فبادرني بسؤال آخر صُعِقت به: «هل ترون من الضروري أن يحضر المغاربة
في حفل التنصيب؟» فقلت له «أظن أنك تريد أن تقول الأجانب». فقال: «لا أقصد
المغاربة». فقلت له «لماذا؟» فأجاب قائلا وقد بدا عليه الخجل والتلعثم:
«يا سيدي الوزير هذه الوزارة حساسة. كنا لحد اليوم نراقب جميع العاملين
فيها ونتحفظ منهم. ولا يوجد عندنا الآن في الوزارة التي يبلغ عدد موظفيها
386 فردا سوى ثلاثة «فراشين» («شواش») مغاربة. لذلك أسأل هل ترون من
الضرورة أن يحضروا؟» فقلت : «من الضرورة أن يحضروا ليتمثل المغرب على
الأقل بهم». ثم سألني: «بأي لغة ستخاطبون الموظفين؟» وتركني أفهم أن لا
أحد من الموظفين يعرف العربية فقلت: «لا يهم. سأتكلم باللغة الفرنسية». ثم
سألني: «هل تريد أن يتقدم العاملون في الوزارة للسلام عليك أم تمر أنت
للسلام عليهم؟» فقلت: «أفضل أن أمر للسلام عليهم بدل أن يمروا للسلام علي
فأنا هو الوافد عليهم». ولما انتهيت من إلقاء خطابي باللغة الفرنسية، أخذت
أسلم على موظفي الوزارة واحدا واحدا وكانوا يتألفون من جنسيات فرنسية
واسبانية وبرتغالية وإيطالية وغيرها وليس بينهم مغربي واحد، إلى أن وصلت
إلى آخر القاعة فظهر أمامي في آخر الصف شخصان أحدهما أسود والآخر أسمر،
وعلى رأس الأول عمامة بيضاء تتدلى عَذَبتُها على كتفيه. وكان طويلا فارع
القامة. فلما وصلت إليه ـ وكان آخر من سلمت عليه ـ انحنى ليقبل يدي
فنزعتها وقلت له: «لا بل يدك في يدي». فكان تعليقه: «يا سيدي. إنني أعمل
هنا منذ 33 عاما، ولم تصل هذه اليد الوسخة قط إلى يد أخرى. نحن الشواش
الثلاثة نحيي الجميع بالتحية العسكرية» فقلت له: «هذا أمر انتهى. لقد كنتَ
عبدا للاستعمار والآن أنتَ حرٌّ في عهد الاستقلال، فمُدَّ يدك لتصافحني
فالوزير أخوك». وعند تشكيل الحكومة الأولى كان عندنا في المغرب كله خمسة
أطباء مغاربة، و3 محامين، وثلاثة مهندسين فلاحيين ومهندسا طرق وقناطر. ولم
يكن عدد التلاميذ المسجلين في التعليم الابتدائي والثانوي يتجاوز 200 ألف
تلميذ. كان التعليم لا يصل إلى مرحلة الباكالوريا (الثانوية العامة).
وجميع مرافق الدولة كانت تحت إدارة الفرنسيين وليس للمغاربة فيها نصيب.
* كيف تعاملتم مع هذا الوضع العجيب؟ـ في البداية خاض الوزراء المغاربة مع المديرين العامين جدالا حول من يوقع
على القرارات؟ وتعصبنا لاستقلال القرار المغربي. ولم نقبل أن يوضع خاتم أو
توقيع مدير أجنبي بجانب توقيعنا. واتخذنا القرارات بمفردنا. وكان المديرون
العامون يشتكون إلى الإقامة العامة الفرنسية التي كانت آنذاك مازالت
موجودة وعلى رأسها المقيم العام «ديبْوا» ـ وهو آخر مقيم عام للحماية ـ
فأبلغهم المقيم العام الأمر الذي ورد عليه من باريس: «ما يقوله لكم
الوزراء المغاربة افعلوه» فنفض المديرون الفرنسيون أيديهم من المغرب
وعرفوا أن أمرهم انتهى ولم يعودوا يطمعون أن يشاركونا في التوقيع على
القرارات. بيد أننا كنا مع ذلك في الحقيقة عددا محدودا من المغاربة في كل
وزارة وسط غالبية من الفرنسيين والأجانب. وكنا في أشد الحاجة إلى مساعدتهم
لنا للإحاطة بالملفات. وكما سبق أن قلتُ لك لقد كان عدد المغاربة في وزارة
العمل والشؤون الاجتماعية عند وصولي إليها لا يتجاوز الأربعة: أنا وثلاثة
فراشين (شواش).
* فكيف أمكنكم أن تمسكوا بمقاليد وزارتكم في هذه الأوضاع؟ـ درت إلى تشكيل ديواني الذي وضعت على رأسه مدير الديوان المعطي بوعبيد
الذي أصبح في ما بعد محاميا ثم انتهى إلى تقلد منصب الوزير الأول في حكومة
الملك الحسن الثاني وزعيما لحزب سياسي. وكان قد أنهى دراسته للتُّـوّ
فكلفته بالإشراف على مكتب الضبط حيث يتسلم بريد الوزارة ليسهر على تسجيله
وتوزيعه. فثارت ثائرة الموظفين الأوروبيين على قراري هذا وهددوا بشن إضراب
عن العمل. وقالوا «إنه غير مقبول أن يطلع مغربي على رسائلنا قبل أن تصل
إلينا». هكذا خضنا كفاحا للصراع على الوجود وفَرْضِ قبول التعامل معنا على
أعواننا الأجانب العاملين تحت إمرتنا. هو كفاح غريب لتثبيت السيادة وتحرير
البلاد من قبضة المستعمر الذي لم يكن مستعدا لأن يتنازل بسهولة أو أن
يستخلص النتائج الحتمية بسرعة. ثم تابعت تشكيل ديواني فأسندت رئاسته إلى
حسن الكتاني الذي أصبح بعد سنوات الكاتب العام (وكيل) لوزارة العدل ثم عضو
المجلس الدستوري وطعَّمت الديوان بعناصر مغربية شابة. ولم أغادر الوزارة
إلا بعد أن تركت فيها ما يناهز 30 موظفا مغربيا.
* كيف كانت علاقة الملك محمد الخامس بأعضاء الحكومة آنذاك؟ وما هي ضوابطها؟ـ الملك محمد الخامس كان يتابع عمل الحكومة عن كثب وبجهد متواصل لا ينقطع.
ولا أعلم أنه في عهده وطيلة وجودنا في الحكومة قد أخر الإمضاء على الظهائر
(المراسيم)، أو طُلب منه أن يعطي رأيه أو يتخذ قراره أو يُصدِر تعليماته
في موضوع ما فتمهل أو تباطأ. كان يصارع الزمن ويعمل بسرعة لِتَدارُك ما
تأخر أو ضاع. وكان يرى أن الحكومة بتنويعها وتعدد انتماءاتها خير ضمان
لحفز التنافسية بين أعضائها.
* متى خرجتم من الحكومة الاولى؟ ولماذا؟ـ كان حزب الاستقلال يطمح إلى الانفراد بالحكم ويطالب بحكومة منسجمة قوية.
وكان الملك محمد الخامس يفضل استمرار الحكومة في تشكيلها الذي صنعه بيده.
لكن حزب الاستقلال ألح في الطلب وخاصة بعد أن أثرت الأحداث المؤلمة التي
أشرت إليها قبل على تعايش أعضاء الحكومة وخلقت بينهم جوا من التوتر وصلنا
معه إلى مرحلة أصبح فيها التعايش داخل الحكومة صعبا.
* وماذا وقع بعد ذلك؟ـ قبل مرور سنة على تشكيل الحكومة الأولى وبالضبط في منتصف أكتوبر 1956،
استدعيت رسميا من طرف الرئيس البكاي ليخبرني أن الملك يرى أن يختصر أعضاء
الحكومة لأن عددهم كثير، وأنه يعرض علي اقتراحا بأن ينسحب من بين ستة
وزراء شوريين أربعة وزراء، ويظل في الحكومة اثنان هما عبد الهادي بوطالب
وأحمد بن سودة. وقال البكاي لي: «إن جلالة الملك يريد أن يقترح حزبُكما
عليه الإبقاءَ عليكما داخل الحكومة لتمثيله. وزاد يقول: «إن حزب الاستقلال
يريد الانفراد بالحكومة وجلالته يرى غير ذلك». فأبلغته ـ دون العودة إلى
المكتب السياسي للحزب ـ أن حزب الشورى يرفض أن تنتقص مقاعده في الحكومة.
فقال لي: «إن حزب الاستقلال لا يعارض في بقائكما». وسألني: «ولماذا لا
تشاركان بصفتكما الشخصية؟» فرفضت هذا الحل أيضا.
* وما هو سبب قبول قادة حزب الاستقلال إبقاءك أنت وبن سودة في الحكومة؟ـ ربما ـ إذا صح ما قاله البكاي ـ لأنهم كانوا يعتبرون أنهم يمكنهم
التعايش معنا نحن الاثنين أكثر من الآخرين خلال مرحلة لم تكن لتطول. أو قد
يكون الملك نفسه هو الذي اختار هذا الحل الوسط.
* ألا تعزو ذلك إلى الانتماء الإقليمي؟ـ لا أعتقد ذلك. فحزب الاستقلال لم يكن يضم في صفوفه الفاسيين أو أهل
المدن فقط. فأمينه العام أحمد بلافريج كان رباطيا، وأبوبكر القادري من
سلا، وعبد الله إبراهيم من مراكش، والمختار السوسي من سوس، واليزيدي من
تادلة أصلا.
* وكيف كان رد فعلك إزاء ما حمله إليك البكاي من عروض؟ـ قلت للبكاي: «إننا نفضل أن نخرج من الحكومة لنقوم بدور المعارضة». وهو
ما تم في النهاية. وهكذا أصبحت صحفنا تعارض الحكومة الثانية التي رأسها
البكاي أيضا، وضمت أعضاء حزب الاستقلال وبعض المستقلين. ولم يرض حزب
الاستقلال عن تشكيل الحكومة الجديدة فقد ظل الخيار المفضل لديه هو الحكومة
المنسجمة.* قبل تشكيل الحكومة الثانية أصبح ولي العهد الأمير مولاي الحسن قائدا
عاما للقوات المسلحة الملكية. أود لو تحدثني عن إسهاماته السياسية في تلك
الفترة. وطبيعة علاقته بالحكومة ومكوِّناتها؟ـ كان ولي العهد الأمير مولاي الحسن مستشارا لوالده وإن لم يحمل قط اسم
المستشار. وبما أن والده كان يميل إلى الحلول الوسطى وإلى الطيبوبة في
التعامل، فإنه كان يستبعد المبادرات التي يقترحها ولي عهده إذا كانت تميل
إلى التشدد والحزم في معالجة شؤون الحكم. وكان يمعن النظر في اقتراحاته
قبل أن يتخذ قراراته.أما الأمير ولي العهد فكان لا يتردد ـ إذا ما رأى أن المصلحة تكمن في جانب
ما يقترح من قرارات أو تدابير ـ أن يدافع عنها أمام والده بحماس واحترام
شديد لوالده. كان يسود علاقة الوالد وابنه نوع من التوازن بين أمير شاب
طموح ومندفع اندفاع الشباب، وأب وقور هادئ رزين يعطي للوقت قيمته ويعتبر
أن الرهان على الزمن ينفع. وكابد محمد الخامس هذا وتعلم طريقة التعامل هذه
في مدرسة مكافحة الاستعمار، إذ مر أمامه أكثر من 10 مقيمين عامين فرنسيين
كلهم كانوا إما يهددونه ويوعدونه، أو يستعملون الوسائل لإرضائه وكسب عطفه
ليمرِّروا قراراتهم ومشاريعهم. فكان يتركهم يصارعونه إلى أن ينصرفوا
خائبين ويبقى هو فوق عرشه ثابتا رابط الجأش. ثم يأتي غيرهم من المقيمين
فيكرر معهم نفس التجربة. ودائما يذهبون ويبقى بعدهم ثابتا صامدا. كان يعيش
مع فرنسا أزمة مستمرة. وكان يتغلب عليها بالمصابرة والنفَس الطويل. هناك
حكمة بديعة كان يرددها بعض الملوك المغاربة، وربما كان الملك محمد الخامس
يعمل بها وتقول: «إن المخزن (الحكومة المغربية القديمة) يريِّب (أي
يكسِّر) الجبال بثَقْب الإِبَر ». بمعنى أن المراهنة على الزمن والعمل
المداوَم عليه والصمود الذي لا يعرف الوَهَن تنتهي كلها دائما إلى كسب
المعارك وتحقيق الرهانات مهما كبرت واستعصت.أما بخصوص علاقة ولي العهد بالحكومة، فإنها لم تكن مسؤولة أمامه، بل أمام
والده وحده. أما هو فلم يكن يقوم إلا بالدور الذي كان يعهد به والده إليه
دون أن يكون له اتصال مباشر مع الحكومة إلا فيما كان يكلفه به وهو قليل.
* وكيف كانت علاقتك معه آنذاك؟ـ علاقتي به كانت دائما متميزة. لأنني ارتبطت به ارتباطا وثيقا طيلة أربع
سنوات عشنا فيها قريبا بعضنا من بعض وأصبحت بيننا علاقة حميمة في المعهد
الملكي. كان يعتبرني أستاذه وفي الوقت نفسه رفيقا لا يتحرج منه. لم يكن
يتهيبني مثلما كان يتهيب الأساتذة كبار السن الذين كان يعطيهم أيضا توقيرا
واحتراما. فقد كان من طبيعته احترام الناس وتوقيرهم. وكان احترام أساتذته
أساس تربيته.
* بماذا كان يتميز ولي العهد عن والده الملك؟ـ قال لنا الملك الحسن الثاني مرة في إحدى جلساته التي كان يخصصها لحاشيته
الخاصة: «أريد أن أضع أصابعكم على الفرق بيني وبين والدي رحمه الله. وروى
لنا قصة تخيَّلَها مفادها أن محمدا الخامس وقد أخذ يتهيأ في قصره للخروج
إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة بالطريقة التقليدية، فوفد عليه من قال له:
«هناك صخب وضوضاء ومظاهرة حول المسجد. وبعض المتظاهرين يقولون ما لا يُقبل
أن يقال في حق جلالتكم، وآخرون يردون عليهم». فحينئذ يقول والدي: «ما دام
هناك من يقول عني ما لا أرضى أن أسمعه فإنني لن أخرج إلى الصلاة». أما أنا
ـ يقول الحسن الثاني- عندما يأتون عندي ويقولون لي نفس الكلام وأن هناك
معارضين لي ومؤيدين، أسأل: كم هي نسبة المعارضين والمؤيدين؟ فإن قالوا لي
أن 85 في المائة يقولون «يحيا الملك»، وأن 15 في المائة يقولون «يسقط
الملك»، فإنني أخرج للصلاة دون تردد».
وأضاف قائلا: «أنا لا يهمني أن يكون حولي الإجماع. فالإجماع لا يقع على أحد. أنا رجل يحكم بالديمقراطية، أي الغالبية».هذه القصة الصغيرة الحكيمة توضح الفرق بين الملك الحسن الثاني والملك محمد
الخامس. كان الملك محمد الخامس يريد أن يحكم بالإجماع ولا يقبل أدنى من
ذلك. وكان الملك الحسن الثاني يقبل أن يحكم بالأغلبية كما يحكم
الديمقراطيون ولا يطمع في أكثر من ذلك. الأول كان رجل المدرسة المثالية،
والثاني رجل المدرسة الواقعية.* حينما تشكلت الحكومة الثانية بدا واضحا أن حزب الاستقلال يريد إقصاء حزب
الشورى والاستقلال. ألم تكن للقصر استراتيجية تكمن في الانسياق مع رغبات
حزب الاستقلال للوصول إلى نتائجَ معاكِسة لتلك التي كان الحزب يتوخاها؟ـ أظن أن الملك محمدا الخامس ـ وهو الرجل الذي يقتعد دائما خط الوسط ـ
ارتأى أن يجتاز هذه المرحلة على تدرج ما دام حزب الاستقلال مصرا على أن
تكون الحكومة منسجمة، وكانت المرحلة الأولى هي إبعاد حزب الشورى
والاستقلال، والثانية إبعاد المستقلين.* الملاحَظ أن وزارة الداخلية في الحكومة الثانية تم إسنادها إلى شخص كان
محسوبا على حزب الاستقلال هو إدريس المحمدي، بعدما كان على رأسها شخص
محايد هو الحسن اليوسي. كيف تلقيتم في حزبكم تعيين المحمدي؟ـ كانت لنا عن إدريس المحمدي نظرة طيبة. أَوَّلا لأننا كنا نعلم أنه لم
يكن منسجما تمام الانسجام مع حزب الاستقلال، وربما لم يكن حزب الاستقلال
راضيا عنه كذلك.إدريس المحمدي راهن بعد الاستقلال على أن يكون رجل القصر الملكي وأن يتقرب
إلى خدمته بالأسلوب الذي كان يتميز به في مخاطبة الملك. يصارحه بكل ما
يخطر له بالبال، وينقل إليه كل ما يصله من معلومات، ويوجهه بلباقة واحترام
إلى الطريق الذي يراه الأصلح، ويقدم نصيحته ورأيه مغلَّفين في أشكال
بروتوكولية توفر للملك حرمته وكان يعتبرها ضرورية لمخاطبة الملوك. كان
يبتدئ بالقول مثلا مخاطبا الملك: «يا مولاي إني لا أفهم كما تفهم جلالتكم
ولا أعرف مثلما تعرفون. ولكن خديمكم المتواضع يرى أنه إذا رأت جلالتكم أن
تسمعني فإن لي رأيا قد أكون فيه مخطئا أو مصيبا». ثم يقدم الرأي بعد هذه
المقدمة أو ما يشبهها. كان المحمدي يعارض أن ينفرد حزب الاستقلال بالحكومة
بدليل أنه لم يشارك في الحكومة المنسجمة عند تشكيلها. إنه كان يؤمن بأن
يحكم الملكُ البلادَ بلا شريك.كان المحمدي مدرسة خاصة، لها أسلوبها وأداؤها المتميز، وخاصة تعامُلُه
باللباقة الكاملة مع الملك لا إلى حد الانبطاح، بل احتفظ دائما بشخصيته
وكرامته. وكان الملك يحترمه لذلك.* لقد سعى حزب الاستقلال في ذلك الوقت إلى بلورة خيار استراتيجي يهدف إلى
إقامة نظام الحزب الوحيد. ومما زاد في تأكيد ذلك هو قيامه بإدماج حزب
الإصلاح الذي كان يعمل في المنطقة الخليفية. وابتُلِي حزبكم أشد الابتلاء
إذ كان المراد تصفيته وإقصاءه؟ـ عندما خرجنا من الحكومة الأولى أصبح حزبنا يشكل المعارضة السياسية
المنظَّمة. وكانت معارضتنا شَرِسة شراسة القمع والملاحقات التي كانت تنزل
بنا. كنا نهاجم الحكومة بعنف وندينها بما حل بنا من نكبات بسقوط ضحايانا
واختطاف مناضلين من صفوفنا واعتقالهم في دار بريشة في تطوان وتصفيتهم
جسديا، وجلدهم وتعذيبهم في دهاليز الأمن الوطني. وكانت المعارضة الشعبية
والصحافة هي سلاحنا الوحيد.لكن لم تلبث صحفنا في هذه الفترة أن مُنعت من الصدور بقرار من الحكومة.
وداهمتنا الشرطة ونحن في إدارة صحيفة «الرأي العام» بالعربية وصحيفة
«الديمقراطية» بالفرنسية بشارع دانطون بالدار البيضاء وكان على رأسنا محمد
بن الحسن الوزاني الرجل الذي كان ثاني اثنين أسَّسا الحركة الوطنية ونُفيا
تسع سنوات. ودخلت قوات الشرطة والقوات المساعدة التابعة لوزارة الداخلية
إلى مكاتب صحافة الحزب فأخرجتنا بالقوة جميعا ومن بيننا الوزاني وأحمد بن
سودة مدير جريدة «الرأي العام» وهيأة تحرير الجريدة وأيادينا مرفوعة.
ووراء ظهورنا رشاشات مصوَّبة من القوات المساعدة إلى ظهورنا. وبعد ذلك
تظاهرت جمعية النساء المنتمية لحزبنا «أخوات الصفا» وكانت بينهن زوجاتنا
فتم اعتقالهن. ولم يكتفوا بذلك بل كتبوا على صفحة كاملة من جرائدهم بعنوان
«المانشيط» الكبير: «أنتم لستم أهلا للحرية». وجاء في المقال أن الحرية لا
تُعطَى إلا لمن يستحقها، وأن الحرية ليست لها قيمة مطلقة، وأن من يستحق
الحرية هو الذي ينضبط بالمسؤولية، ومن لا يستحق الحرية يجب أن ينال عقابه
وجزاءه ويُجرد منها. ولم يقدمونا إلى القضاء وإنما اتخذوا ضدنا إجراءات
إدارية وزجرية لو وقعت اليوم لاعتُبِرت خرقا فادحا وسافرا لجميع مقتضيات
حقوق الإنسان والشرعية القانونية. ولم نكن وحدنا في حزب الشورى والاستقلال
الضحايا وإن كانت إصاباتنا الأشد إيلاما. فمعارضون آخرون سُجنوا كالدكتور
الخطيب والمحجوبي أحرضان وعبد الله الوكوتي من الحركة الشعبية وغيرهم.
«نصف قرن تحت مجهر السياسة» التي خص بها «الشرق الأوسط»، الحديث عن لحظة
ميلاد اول حكومة مغربية بعد عودة الملك محمد الخامس من المنفى وخلفيات
حصول حزب الشورى والاستقلال على ستة مقاعد وزارية مقابل تسعة مقاعد لحزب
الاستقلال. وفي هذه الحلقة ايضا يرسم بوطالب بورتريهات لبعض الاسماء التي
شاركت في الحكومة الاولى مثل عبد الله ابراهيم وأحمد بلافريج والحسن
اليوسي وعبد القادر بن جلون وأحمد بن سودة.
كما يروي بوطالب الوضعية التي وجد فيها وزارة العمل والشؤون الاجتماعية.* كيف عشتم لحظة ميلاد أول حكومة مغربية بعد عودة محمد الخامس من المنفى،
كشاب مصنَّف ضمن تيار الأقلية (حزب الشورى) التي قبلت بستة مقاعد في
الحكومة؟ وهل تصرف حزبكم كمنافس لحزب الاستقلال دون الأخذ بعين الاعتبار
لجسامة اللحظة التاريخية؟ نود منكم سماع رأي المؤرخ والشاهد الصادق ؟ـ أجدني مضطرا إلى العودة إلى ما قلته من قبل من أن التعددية الحزبية في
المغرب شقت طريقها في منتصف الثلاثينات عندما انقسمت كتلة العمل الوطني
إلى قسمين: الأول تمثل في الحزب الوطني بزعامة علال الفاسي، والثاني تمثل
في الحركة القومية بزعامة محمد بن الحسن الوزاني. أفهم أن ذلك شكل لدى
الحزب الوطني إشكالية صعُب عليه أن يتقبلها بارتياح، قد يكون مرد ذلك إلى
أنه كان يرى أن المرحلة تقتضي ألا تتوزع الجهود بين حزبين، وأن يبقى الحزب
الوطني هو الحزب الوحيد. ولذلك سعى إلى أن يعود الوزاني للالتحاق به من
جديد. وقام بالوساطة بين الجانبين عدد من الوطنيين بدون جدوى.بالنسبة للوزاني كان عنده اتجاه سياسي واضح. كان يناهض الحزب الوحيد ويؤمن
بالتعددية والديمقراطية، بدليل أن جميع الصحف التي كان يصدرها كانت تركز
على شقي التحرير والشورى. كان اسم حزب الشورى والاستقلال منذ أسسناه سنة
1947 يحمل بالفرنسية اسم (Leparti democrate de lصindependance) أي الحزب
الديمقراطي للاستقلال. وكان الاسم وحده عبارة عن برنامج متكامل، فقد كان
يعني عند الشباب انخراط المغرب في قيم الحداثة، وتجديد إهاب الدولة، وحتى
بالنسبة للفرنسيين المتخوفين من التغيير كان عنوان حزبنا وبرنامجه
يعطيانهم بعض الاطمئنان إلى أن حزبنا يراهن على الدخول بالمغرب المستقل
إلى العصر، وعلى ممارسته السلطة حسب المفاهيم المعاصرة التي تعتمد
الديمقراطية والتعددية والتحررية وإحقاق حقوق الإنسان والمساواة وتكريم
الرجل والمرأة. وبذلك تم اختراق فكرة الحزب الوحيد وأصبح الاتجاه واضحا في
أن المغرب اختار التعددية. وأذكر أنه عند تشكيل الحكومة كان لحزب
الاستقلال تطلع إلى أن يأخذ أغلبية مقاعد الحكومة إذ كان يعتبر نفسه يمثل
أغلبية الشعب المغربي، رغم أنه لم تجر عملية اقتراع شعبي تؤكد ذلك. كانت
هناك غالبية وأقلية متعارَف عليها مع العلم أنه في بداية الاستقلال وبعد
أن أصبح حزب الشورى يقود المعارضة المنظمة أصبح الإقبال كبيرا عليه وأخذت
صفوفه تتعزز بانخراطات جديدة وخاصة من العالم القروي والشباب الثوري.وعندما جاء موعد تشكيل الحكومة الأولى اشترط حزب الاستقلال أن تكون له
غالبية المقاعد. واعتمد محمد الخامس حلا وسطا فأعطى له 9 مقاعد، وأعطى حزب
الشورى والاستقلال 6 مقاعد، وللمستقلين أي من لا حزب لهم 6 مقاعد أيضا.
وكانت تلك الحكومة تسمى حكومة «الاتحاد الوطني» أو «الوحدة الوطنية»،
أفرزتها معركة الكفاح من أجل الاستقلال، بطبيعة الحال كان قبولنا ستة
مقاعد في الحكومة تنازلا مرده إلى أننا لم نكن نرغب في إثارة حسابات
المقاعد. فالمهام التي كانت تنتظرنا داخل الحكومة تعلو في أهميتها على هذه
الحسابات أمام خطورة الظرفية التاريخية: خطورة بناء المغرب الجديد. لقد
درسنا في المكتب السياسي لحزبنا موضوع المقاعد الستة التي عرضها علينا
الملك وقبلنا عرضه، لكننا تعويضا عن ضُعف العدد طلبنا إليه أن يُؤْثرنا
ببعض الحقائب الوزارية التي رأينا أننا نستطيع أن نفيد منها البلاد.
وارتأينا أنه تفاديا للدخول في معركة حول عدد المقاعد الوزارية ينبغي أن
نهتم بنوعية المقاعد لا بكميتها. ونزل جلالته عند رغبتنا فأسند إلينا
وزارات مهمة: وزارة دولة للمفاوضات (محمد الشرقاوي)، وزارة المالية (عبد
القادر بن جلون)، ووزارة العمل والشؤون الاجتماعية (عبد الهادي بوطالب)،
وكتابة الدولة (وزارة الدولة) في الشبيبة والرياضة (أحمد بن سودة)، ووزارة
التعمير والسكنى (الدكتور محمد بن بوشعيب)، ووزارة المعادن والإنتاج
الصناعي (التهامي الوزاني).
* أين نصنف رضا جديرة الذي كان ينتمي لحزب الأحرار المستقلين وكنتَ أشرتَ إلى أنه كان ضمن المستقلين؟
ـ هو كذلك لأنه كان ضمن الستة وزراء غير المنتمين الذين أُطلق عليهم اسم المستقلين.
* هل تقصد أن حزبه كان عبارة عن ناد سياسي؟ـ ينعت بعض الناس هذا الحزب بأنه ناد وهذا تقييمهم الخاص. ودعني أقول إن
حزب الأحرار المستقلين كان رئيسه هو محمد رشيد ملين الذي لم يُدعَ
للمشاركة في الحكومة. مما يعني أن كديرة لم يكن يمثل هذا الحزب الذي كان
حركة وطنية لها أنصارها خاصة في الرباط. وكان الحزب حركة تقدمية تحررية
وخصما لدودا لحزب الاستقلال، وأقرب ما يكون إلى حزب الشورى والاستقلال،
لكنه لم يكن معنا في نفس الخط. كما أنه كان ينظِّر للتعامل اللامشروط مع
القصر الملكي.
* كم دامت مفاوضات تشكيل الحكومة الأولى؟
ـ لم تتعد أسبوعا أو عشرة أيام، لأن الملك محمد الخامس رجع إلى المغرب في 16 نوفمبر 1955 وتشكلت الحكومة في 7 ديسمبر .1955
* ضمت الحكومة الأولى يهوديا مغربيا هو دافيد بن زاكين الذي كان وزيرا للبريد. فما هي خلفيات ذلك التعيين؟ـ نحن لم نُستشَر حول تركيبة الهيأة الوزارية. فالملك محمد الخامس هو الذي
كان يقوم بتشكيلها بمشاورة مع البكاي رئيس الحكومة المعين. وكان ابن زاكين
ضمن الوزراء المستقلين الذين لا ينتمون إلى حزب. وكان معروفا عنه أنه
مواطن يهودي وطني. وكان تعيينه في الحكومة إشارة إلى توجه المغرب نحو
الديمقراطية ووحدة المواطنة بصرف النظر عن الدين. ذلك أن المغرب رغم كونه
بلدا إسلاميا فإنه يعتبر اليهود مواطنين لهم جميع الحقوق التي يتمتع بها
المسلمون، ومن حقهم أن يكون من بينهم وزراء. وقد تمثل هذا أيضا في تأسيس
البرلمان حيث كان به أعضاء يهود. كان عدد المواطنين المغاربة اليهود عند
الاستقلال يتجاوز 300 ألف يهودي. ربما كان المغرب آنذاك من بين البلدان
العربية الوحيد الذي كان يحتضن أكبر عدد من اليهود كمواطنين. وكان ذلك
كسبا للحكومة في عين الغرب يؤشر إلى أن المغرب المستقل لن يسير في اتجاه
العنصرية أو النازية أو معاداة السامية. كان المغرب يريد أن يبرهن على أنه
يتجه الاتجاه الصحيح، أي اتجاه العصر. ولا ننسى أن الملك محمد الخامس كان
له موقف تاريخي عظيم حيال اليهود المغاربة أيام الحرب العالمية عندما طلب
منه الألمان أن يطرد اليهود من المغرب ويصادر أموالهم، وأن لا يحميهم من
القوانين النازية التي كان يراد تطبيقها عليهم. فدافع عنهم بكل إصرار
وشجاعة وحـمَاهم وقال «إنهم رعيتي ومواطنون مغاربة ولا يمكن أن يُمسوا
بسوء ماداموا في المغرب». وهذا موقف يعترف له به جميع يهود المغرب. وحتى
يهود إسرائيل مازالوا يذكرون له ذلك بكامل الامتنان. وتعلمون أنه يوجد في
إسرائيل شارع باسم محمد الخامس. وهناك جالية يهودية مغربية في إسرائيل
يبلغ عددها اليوم أكثر من 700 ألف يهودي. في حين يوجد في المغرب اليوم ما
يقارب 5 آلاف يهودي فقط. وتابع الملك الراحل الحسن الثاني هذا الاتجاه
فأعطى حقيبة وزارية في حكومته ليهودي آخر هو سيرج بيرديغو (السياحة). وكان
له مستشار استمر في منصبه في عهد الملك محمد السادس هو أندري أزولاي. وقد
جاء وفد وزاري يهودي إلى المغرب أخيرا واستقبله الملك محمد السادس وأطلعه
على برنامج احتفال إسرائيل الديني بذكرى وفاة الحسن الثاني. ومن بينها
إطلاق اسمه على بعض الشوارع في إسرائيل.ونحن في حزب الشورى والاستقلال رحبنا عند تشكيل الحكومة باختيار يهودي
لمنصب وزير. ذلك أننا ديمقراطيون وننظر إلى وحدة المغرب في إطار وحدة
المواطنة لجميع الذين يحملون الهوية المغربية.
* أود لو ترسم لي «بورتريهات» عن بعض الشخصيات التي شاركت في الحكومة الأولى. فماذا تقول عن أحمد بلافريج وزير الخارجية؟ـ لم يكن من بين الوزراء الذين تشكلت منهم الحكومة إثر رجوع محمد الخامس
إلى العرش من منفاه، ولكنه التحق بالحكومة بعد 5 أشهر من تكوينها، أي
عندما أصبح مقبولا من لدن فرنسا أن تكون للمغرب وزارة خارجية بعد توقيعها
مع المغرب اتفاقية الاستقلال. وكان بلافريج أول وزير خارجية. وكان حريصا
على ممارسة دبلوماسية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. أي أنه كان
يعتمد أسلوب الدبلوماسية اللبقة المغلَّفة أحيانا للوصول إلى الهدف بدون
شفافية واضحة وصريحة. كان شديد التعلق بالطقوس البروتوكولية وقليل
التصريحات. ولم يكن مثل بعض وزراء الخارجية الذين عرفناهم في بعض الأقطار
العربية يتسارعون إلى محطات الإعلام ويدلون بتصريحات في كل وقت وآن وفي كل
موضوع.لقد كان بلافريج أمينا عاما لحزب الاستقلال وعندما جاء إلى الحكومة لم يخف
تطلعه إلى تغيير الحكومة إلى حكومة منسجمة ينفرد فيها حزب الاستقلال
بالحكم. وأخذ منذ الأسابيع الأولى يلاحق الملك محمد الخامس لتغيير
الحكومة. وكان يبدو في الحكومة غير منسجم مع أعضائها. وعندما وصل قمة
الوزارة وتقلد منصب الممثل الشخصي للملك الحسن الثاني أصبح رجل القصر ولم
يعد رجل الحزب.
* وماذا عن عبد الله إبراهيم؟ـ شغل في الحكومة منصب كاتب الدولة (وزير دولة) في الأنباء (الإعلام). وهو
أحد زعماء الحركة الوطنية منذ تأسيسها. برز اسمه في الثلاثينات كممثل كتلة
العمل الوطني ثم الحزب الوطني فشي مراكش. وعُرف بمواقفه الوطنية إزاء
سلطات الحماية الفرنسية. ابتُلي وعُذب وهو صغير السن. كما تميز بثقافته
العربية الأصيلة وأضاف إليها ثقافة مزدوجة. وكتابته يُشِعُّ منها الأدب
العربي الرصين العالي. وقد تأثر بثقافة حزب البعث في المشرق العربي. عمل
في الحكومة الأولى على رأس كتابة الدولة للأنباء والمفروض فيها أنها تابعة
لرئيس الحكومة. ولكن منذ بداية عمل الحكومة تمتع كاتبا الدولة
باستقلاليتهما السياسية عن رئيس الوزراء البكاي وإن ظلا من حيث المراسم
تابعَيْن له. وهكذا كان لعبد الله إبراهيم مطلق التصرف في الوزارة، وإن
كانت وزارته تابعة حسب الرسم البياني للحكومة لسلطة رئيس الحكومة. ونفس
الأمر كان بالنسبة لأحمد بن سودة الذي كان كاتب الدولة في الشبيبة
والرياضة تابعا لرئيس الحكومة وله مطلق الصلاحية في وزارته. ويتميز عبد
الله إبراهيم بأنه وطني قبل أن يكون منتميا لحزبه. لا يُعرَف عنه تعصب ضد
خصومه أو معاداة لهم فهو لطيف المعشر ذو أخلاق عالية. ويعتبر من الوطنيين
الزُّهَّاد كما كان محمد اليزيدي يعتبر في حزب الاستقلال من الزهاد. وكان
علي العراقي عضو المكتب السياسي لحزب الشورى والاستقلال يعتبر مدرسة للزهد
والتقوى والإيمان.
* والحسن اليوسي؟ـ في عهد الحماية كان من بين أعوان الداخلية ضمن القواد الكبار وعُزل من
منصبه عندما رفض أن يخوض في مؤامرة القواد. وكان في الحكومة وزيرا
للداخلية. هو ذو تعليم محدود لكن كان حكيما حكمة شيوخ القبائل الذين
تَعْرِكُهم التجارب. وكان يتوفر فعلا على تجربة كبيرة. وكان يعرف طبيعة
العالم القروي الذي كان ينتمي إليه، أي البادية، يعرف تضاريسها وحاجاتها
ومطالبها ومطامحها وقبائلها ورجالها. وحين عُين في منصبه وزيرا في الحكومة
لم يكن يهتم بأكثر من الأمن ومراقبة أعمال القواد والعمال. لكن كان يوجد
في الوزارة أطر قادرة على تسيير مرافق الوزارة التي هي دائما كبرى
الوزارات، أو كما أصبحت تسمى في عهد الوزير السابق إدريس البصري «أم
الوزارات».
* وعبد القادر بن جلون؟ـ شغل مقعد وزير المالية في الحكومة. درس في باريس العلوم السياسية
والقانون. وكان ثاني محام في المغرب بعد المحامي الأول أحمد زروق. كان
ثائرا وصاحب مشروع فكري مجتمعي وداعية للديمقراطية والحداثة الغربية في
وقت مبكر. كان يشغل في حزب الشورى والاستقلال منصب نائب الأمين العام، أي
الثاني بعد محمد الحسن الوزاني. وقد طبع حزب الشورى والاستقلال ببصماته
الثورية التقدمية.
* أحمد بن سودة وهو من حزبكم أيضا ؟ـ نشأ في النضال الوطني منذ صغر سنه وكبر على ذلك. كان في حزبنا المناضل
الأول الذي قضى سنوات من عمره متنقلا من سجن لآخر. إنه بالنسبة لي صديق
العمر ورفيق النضال. ارتبطت صلاتنا طول عمرنا لم تعترضها قط قطيعة ولا
جفوة. طبع وزارة الشبيبة والرياضة ببصمات نضاله وعمل فيها من موقع المكافح
المناضل. وكان يتعامل مع الوزارة تعامله مع الخلايا الوطنية يرشد ويوجه
ويربي.
* حينما عينتَ وزيرا للعمل والشؤون الاجتماعية كيف وجدتَ الوضعية في الوزارة؟ـ كما سبق أن قلت إن جميع الوزارات كان يوجد على رأسها مدير عام فرنسي:
مدير الداخلية، مدير الشغل والشؤون الاجتماعية، مدير الصحة، مدير المالية،
ومدير الأشغال العمومية إلى آخر السلسلة. وهم في الحقيقة كانوا وزراء باسم
مديرين. ومنذ أن تم تنصيب أعضاء الحكومة الأولى حاول كل مدير منهم أن
يشترك مع الوزير في اتخاذ القرار بفرض إمضائهم المزدوج مع إمضاء الوزراء.
لكننا رفضنا ذلك. وأخذنا نمارس سيادة المغرب باستقلال عنهم. وهذا ما أذعنت
فرنسا إليه في آخر الأمر. وسأعطيكم مثالا غريبا عن هذه الأزمة عشته على
رأس وزارة العمل والشؤون الاجتماعية التي كانت مختصة في تنظيم الشغل (أو
العمل) بين أرباب العمل والشغالين، وتطبيق التشريعات التي تنظم علاقة
الجانبين ولا سيما علاقات أرباب العمل مع النقابات. ولما كان الاقتصاد
الوطني المغربي محتكَرا من لدن الأجانب، والمغاربة إنما كانوا يشتغلون
كعمال في المعامل والمصانع الأجنبية خدمة لهذا الاقتصاد، كانت الإقامة
العامة ترفض إلحاق المغاربة بهذه الوزارة التي كانت مختصة بالتدخل لحسم كل
نزاع يقع بين العمال المغاربة وأصحاب المعامل من الأوروبيين. وبعد الإعلان
عن تشكيل الحكومة الأولى وقبل توجهي إلى الوزارة لِتسَلُّمي مهامها اتصل
بي هاتفيا مديرها العام «روني تومازيني» (وكان هو الوزير الفعلي في
الوزارة) ليقول لي: «علمت أنكم ستتسلمون مكتبكم سيدي الوزير غدا، وأريد أن
أعرف متى ستشرفون لأكون في استقبالكم بباب الإدارة». ولما وصلت إلى مكتبي
في الوزارة سألني سؤالا بدا لي غريبا: «كيف تريد أن يخاطبك الموظفون، هل
بلقب صاحب المعالي أو صاحب السعادة Excellence أو بالسيد الوزير؟» وبدا لي
السؤال غريبا. فسألته: «لِـمَ تسألني هذا السؤال؟» فألح علي أن أختار
واحدا من الألقاب الثلاثة. فقلت له: «بالنسبة لصاحب المعالي أو صاحب
السعادة لا أعرف أين تبتدئ حدود هذا اللقب وأين تنتهي. وقد كنتم تتوجهون
به في عهد الحماية إلى كل موظف من القائد في القرية عبر الباشا في المدينة
إلى الوزير المخزني في العاصمة. ولكن بالنسبة للوزير أعلم أنه يعني عضوا
مسؤولا في الحكومة. ولذلك أفضله على لقب صاحب المعالي أو صاحب السعادة».
فقال «تومازيني»: «حسنا سنفعل ذلك». ثم سألني: «هل ستتوجهون إلى العاملين
في الوزارة بخطاب بمناسبة تنصيبكم على رأسها؟» فقلت: «نعم أريد أن أفعل
ذلك». فبادرني بسؤال آخر صُعِقت به: «هل ترون من الضروري أن يحضر المغاربة
في حفل التنصيب؟» فقلت له «أظن أنك تريد أن تقول الأجانب». فقال: «لا أقصد
المغاربة». فقلت له «لماذا؟» فأجاب قائلا وقد بدا عليه الخجل والتلعثم:
«يا سيدي الوزير هذه الوزارة حساسة. كنا لحد اليوم نراقب جميع العاملين
فيها ونتحفظ منهم. ولا يوجد عندنا الآن في الوزارة التي يبلغ عدد موظفيها
386 فردا سوى ثلاثة «فراشين» («شواش») مغاربة. لذلك أسأل هل ترون من
الضرورة أن يحضروا؟» فقلت : «من الضرورة أن يحضروا ليتمثل المغرب على
الأقل بهم». ثم سألني: «بأي لغة ستخاطبون الموظفين؟» وتركني أفهم أن لا
أحد من الموظفين يعرف العربية فقلت: «لا يهم. سأتكلم باللغة الفرنسية». ثم
سألني: «هل تريد أن يتقدم العاملون في الوزارة للسلام عليك أم تمر أنت
للسلام عليهم؟» فقلت: «أفضل أن أمر للسلام عليهم بدل أن يمروا للسلام علي
فأنا هو الوافد عليهم». ولما انتهيت من إلقاء خطابي باللغة الفرنسية، أخذت
أسلم على موظفي الوزارة واحدا واحدا وكانوا يتألفون من جنسيات فرنسية
واسبانية وبرتغالية وإيطالية وغيرها وليس بينهم مغربي واحد، إلى أن وصلت
إلى آخر القاعة فظهر أمامي في آخر الصف شخصان أحدهما أسود والآخر أسمر،
وعلى رأس الأول عمامة بيضاء تتدلى عَذَبتُها على كتفيه. وكان طويلا فارع
القامة. فلما وصلت إليه ـ وكان آخر من سلمت عليه ـ انحنى ليقبل يدي
فنزعتها وقلت له: «لا بل يدك في يدي». فكان تعليقه: «يا سيدي. إنني أعمل
هنا منذ 33 عاما، ولم تصل هذه اليد الوسخة قط إلى يد أخرى. نحن الشواش
الثلاثة نحيي الجميع بالتحية العسكرية» فقلت له: «هذا أمر انتهى. لقد كنتَ
عبدا للاستعمار والآن أنتَ حرٌّ في عهد الاستقلال، فمُدَّ يدك لتصافحني
فالوزير أخوك». وعند تشكيل الحكومة الأولى كان عندنا في المغرب كله خمسة
أطباء مغاربة، و3 محامين، وثلاثة مهندسين فلاحيين ومهندسا طرق وقناطر. ولم
يكن عدد التلاميذ المسجلين في التعليم الابتدائي والثانوي يتجاوز 200 ألف
تلميذ. كان التعليم لا يصل إلى مرحلة الباكالوريا (الثانوية العامة).
وجميع مرافق الدولة كانت تحت إدارة الفرنسيين وليس للمغاربة فيها نصيب.
* كيف تعاملتم مع هذا الوضع العجيب؟ـ في البداية خاض الوزراء المغاربة مع المديرين العامين جدالا حول من يوقع
على القرارات؟ وتعصبنا لاستقلال القرار المغربي. ولم نقبل أن يوضع خاتم أو
توقيع مدير أجنبي بجانب توقيعنا. واتخذنا القرارات بمفردنا. وكان المديرون
العامون يشتكون إلى الإقامة العامة الفرنسية التي كانت آنذاك مازالت
موجودة وعلى رأسها المقيم العام «ديبْوا» ـ وهو آخر مقيم عام للحماية ـ
فأبلغهم المقيم العام الأمر الذي ورد عليه من باريس: «ما يقوله لكم
الوزراء المغاربة افعلوه» فنفض المديرون الفرنسيون أيديهم من المغرب
وعرفوا أن أمرهم انتهى ولم يعودوا يطمعون أن يشاركونا في التوقيع على
القرارات. بيد أننا كنا مع ذلك في الحقيقة عددا محدودا من المغاربة في كل
وزارة وسط غالبية من الفرنسيين والأجانب. وكنا في أشد الحاجة إلى مساعدتهم
لنا للإحاطة بالملفات. وكما سبق أن قلتُ لك لقد كان عدد المغاربة في وزارة
العمل والشؤون الاجتماعية عند وصولي إليها لا يتجاوز الأربعة: أنا وثلاثة
فراشين (شواش).
* فكيف أمكنكم أن تمسكوا بمقاليد وزارتكم في هذه الأوضاع؟ـ درت إلى تشكيل ديواني الذي وضعت على رأسه مدير الديوان المعطي بوعبيد
الذي أصبح في ما بعد محاميا ثم انتهى إلى تقلد منصب الوزير الأول في حكومة
الملك الحسن الثاني وزعيما لحزب سياسي. وكان قد أنهى دراسته للتُّـوّ
فكلفته بالإشراف على مكتب الضبط حيث يتسلم بريد الوزارة ليسهر على تسجيله
وتوزيعه. فثارت ثائرة الموظفين الأوروبيين على قراري هذا وهددوا بشن إضراب
عن العمل. وقالوا «إنه غير مقبول أن يطلع مغربي على رسائلنا قبل أن تصل
إلينا». هكذا خضنا كفاحا للصراع على الوجود وفَرْضِ قبول التعامل معنا على
أعواننا الأجانب العاملين تحت إمرتنا. هو كفاح غريب لتثبيت السيادة وتحرير
البلاد من قبضة المستعمر الذي لم يكن مستعدا لأن يتنازل بسهولة أو أن
يستخلص النتائج الحتمية بسرعة. ثم تابعت تشكيل ديواني فأسندت رئاسته إلى
حسن الكتاني الذي أصبح بعد سنوات الكاتب العام (وكيل) لوزارة العدل ثم عضو
المجلس الدستوري وطعَّمت الديوان بعناصر مغربية شابة. ولم أغادر الوزارة
إلا بعد أن تركت فيها ما يناهز 30 موظفا مغربيا.
* كيف كانت علاقة الملك محمد الخامس بأعضاء الحكومة آنذاك؟ وما هي ضوابطها؟ـ الملك محمد الخامس كان يتابع عمل الحكومة عن كثب وبجهد متواصل لا ينقطع.
ولا أعلم أنه في عهده وطيلة وجودنا في الحكومة قد أخر الإمضاء على الظهائر
(المراسيم)، أو طُلب منه أن يعطي رأيه أو يتخذ قراره أو يُصدِر تعليماته
في موضوع ما فتمهل أو تباطأ. كان يصارع الزمن ويعمل بسرعة لِتَدارُك ما
تأخر أو ضاع. وكان يرى أن الحكومة بتنويعها وتعدد انتماءاتها خير ضمان
لحفز التنافسية بين أعضائها.
* متى خرجتم من الحكومة الاولى؟ ولماذا؟ـ كان حزب الاستقلال يطمح إلى الانفراد بالحكم ويطالب بحكومة منسجمة قوية.
وكان الملك محمد الخامس يفضل استمرار الحكومة في تشكيلها الذي صنعه بيده.
لكن حزب الاستقلال ألح في الطلب وخاصة بعد أن أثرت الأحداث المؤلمة التي
أشرت إليها قبل على تعايش أعضاء الحكومة وخلقت بينهم جوا من التوتر وصلنا
معه إلى مرحلة أصبح فيها التعايش داخل الحكومة صعبا.
* وماذا وقع بعد ذلك؟ـ قبل مرور سنة على تشكيل الحكومة الأولى وبالضبط في منتصف أكتوبر 1956،
استدعيت رسميا من طرف الرئيس البكاي ليخبرني أن الملك يرى أن يختصر أعضاء
الحكومة لأن عددهم كثير، وأنه يعرض علي اقتراحا بأن ينسحب من بين ستة
وزراء شوريين أربعة وزراء، ويظل في الحكومة اثنان هما عبد الهادي بوطالب
وأحمد بن سودة. وقال البكاي لي: «إن جلالة الملك يريد أن يقترح حزبُكما
عليه الإبقاءَ عليكما داخل الحكومة لتمثيله. وزاد يقول: «إن حزب الاستقلال
يريد الانفراد بالحكومة وجلالته يرى غير ذلك». فأبلغته ـ دون العودة إلى
المكتب السياسي للحزب ـ أن حزب الشورى يرفض أن تنتقص مقاعده في الحكومة.
فقال لي: «إن حزب الاستقلال لا يعارض في بقائكما». وسألني: «ولماذا لا
تشاركان بصفتكما الشخصية؟» فرفضت هذا الحل أيضا.
* وما هو سبب قبول قادة حزب الاستقلال إبقاءك أنت وبن سودة في الحكومة؟ـ ربما ـ إذا صح ما قاله البكاي ـ لأنهم كانوا يعتبرون أنهم يمكنهم
التعايش معنا نحن الاثنين أكثر من الآخرين خلال مرحلة لم تكن لتطول. أو قد
يكون الملك نفسه هو الذي اختار هذا الحل الوسط.
* ألا تعزو ذلك إلى الانتماء الإقليمي؟ـ لا أعتقد ذلك. فحزب الاستقلال لم يكن يضم في صفوفه الفاسيين أو أهل
المدن فقط. فأمينه العام أحمد بلافريج كان رباطيا، وأبوبكر القادري من
سلا، وعبد الله إبراهيم من مراكش، والمختار السوسي من سوس، واليزيدي من
تادلة أصلا.
* وكيف كان رد فعلك إزاء ما حمله إليك البكاي من عروض؟ـ قلت للبكاي: «إننا نفضل أن نخرج من الحكومة لنقوم بدور المعارضة». وهو
ما تم في النهاية. وهكذا أصبحت صحفنا تعارض الحكومة الثانية التي رأسها
البكاي أيضا، وضمت أعضاء حزب الاستقلال وبعض المستقلين. ولم يرض حزب
الاستقلال عن تشكيل الحكومة الجديدة فقد ظل الخيار المفضل لديه هو الحكومة
المنسجمة.* قبل تشكيل الحكومة الثانية أصبح ولي العهد الأمير مولاي الحسن قائدا
عاما للقوات المسلحة الملكية. أود لو تحدثني عن إسهاماته السياسية في تلك
الفترة. وطبيعة علاقته بالحكومة ومكوِّناتها؟ـ كان ولي العهد الأمير مولاي الحسن مستشارا لوالده وإن لم يحمل قط اسم
المستشار. وبما أن والده كان يميل إلى الحلول الوسطى وإلى الطيبوبة في
التعامل، فإنه كان يستبعد المبادرات التي يقترحها ولي عهده إذا كانت تميل
إلى التشدد والحزم في معالجة شؤون الحكم. وكان يمعن النظر في اقتراحاته
قبل أن يتخذ قراراته.أما الأمير ولي العهد فكان لا يتردد ـ إذا ما رأى أن المصلحة تكمن في جانب
ما يقترح من قرارات أو تدابير ـ أن يدافع عنها أمام والده بحماس واحترام
شديد لوالده. كان يسود علاقة الوالد وابنه نوع من التوازن بين أمير شاب
طموح ومندفع اندفاع الشباب، وأب وقور هادئ رزين يعطي للوقت قيمته ويعتبر
أن الرهان على الزمن ينفع. وكابد محمد الخامس هذا وتعلم طريقة التعامل هذه
في مدرسة مكافحة الاستعمار، إذ مر أمامه أكثر من 10 مقيمين عامين فرنسيين
كلهم كانوا إما يهددونه ويوعدونه، أو يستعملون الوسائل لإرضائه وكسب عطفه
ليمرِّروا قراراتهم ومشاريعهم. فكان يتركهم يصارعونه إلى أن ينصرفوا
خائبين ويبقى هو فوق عرشه ثابتا رابط الجأش. ثم يأتي غيرهم من المقيمين
فيكرر معهم نفس التجربة. ودائما يذهبون ويبقى بعدهم ثابتا صامدا. كان يعيش
مع فرنسا أزمة مستمرة. وكان يتغلب عليها بالمصابرة والنفَس الطويل. هناك
حكمة بديعة كان يرددها بعض الملوك المغاربة، وربما كان الملك محمد الخامس
يعمل بها وتقول: «إن المخزن (الحكومة المغربية القديمة) يريِّب (أي
يكسِّر) الجبال بثَقْب الإِبَر ». بمعنى أن المراهنة على الزمن والعمل
المداوَم عليه والصمود الذي لا يعرف الوَهَن تنتهي كلها دائما إلى كسب
المعارك وتحقيق الرهانات مهما كبرت واستعصت.أما بخصوص علاقة ولي العهد بالحكومة، فإنها لم تكن مسؤولة أمامه، بل أمام
والده وحده. أما هو فلم يكن يقوم إلا بالدور الذي كان يعهد به والده إليه
دون أن يكون له اتصال مباشر مع الحكومة إلا فيما كان يكلفه به وهو قليل.
* وكيف كانت علاقتك معه آنذاك؟ـ علاقتي به كانت دائما متميزة. لأنني ارتبطت به ارتباطا وثيقا طيلة أربع
سنوات عشنا فيها قريبا بعضنا من بعض وأصبحت بيننا علاقة حميمة في المعهد
الملكي. كان يعتبرني أستاذه وفي الوقت نفسه رفيقا لا يتحرج منه. لم يكن
يتهيبني مثلما كان يتهيب الأساتذة كبار السن الذين كان يعطيهم أيضا توقيرا
واحتراما. فقد كان من طبيعته احترام الناس وتوقيرهم. وكان احترام أساتذته
أساس تربيته.
* بماذا كان يتميز ولي العهد عن والده الملك؟ـ قال لنا الملك الحسن الثاني مرة في إحدى جلساته التي كان يخصصها لحاشيته
الخاصة: «أريد أن أضع أصابعكم على الفرق بيني وبين والدي رحمه الله. وروى
لنا قصة تخيَّلَها مفادها أن محمدا الخامس وقد أخذ يتهيأ في قصره للخروج
إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة بالطريقة التقليدية، فوفد عليه من قال له:
«هناك صخب وضوضاء ومظاهرة حول المسجد. وبعض المتظاهرين يقولون ما لا يُقبل
أن يقال في حق جلالتكم، وآخرون يردون عليهم». فحينئذ يقول والدي: «ما دام
هناك من يقول عني ما لا أرضى أن أسمعه فإنني لن أخرج إلى الصلاة». أما أنا
ـ يقول الحسن الثاني- عندما يأتون عندي ويقولون لي نفس الكلام وأن هناك
معارضين لي ومؤيدين، أسأل: كم هي نسبة المعارضين والمؤيدين؟ فإن قالوا لي
أن 85 في المائة يقولون «يحيا الملك»، وأن 15 في المائة يقولون «يسقط
الملك»، فإنني أخرج للصلاة دون تردد».
وأضاف قائلا: «أنا لا يهمني أن يكون حولي الإجماع. فالإجماع لا يقع على أحد. أنا رجل يحكم بالديمقراطية، أي الغالبية».هذه القصة الصغيرة الحكيمة توضح الفرق بين الملك الحسن الثاني والملك محمد
الخامس. كان الملك محمد الخامس يريد أن يحكم بالإجماع ولا يقبل أدنى من
ذلك. وكان الملك الحسن الثاني يقبل أن يحكم بالأغلبية كما يحكم
الديمقراطيون ولا يطمع في أكثر من ذلك. الأول كان رجل المدرسة المثالية،
والثاني رجل المدرسة الواقعية.* حينما تشكلت الحكومة الثانية بدا واضحا أن حزب الاستقلال يريد إقصاء حزب
الشورى والاستقلال. ألم تكن للقصر استراتيجية تكمن في الانسياق مع رغبات
حزب الاستقلال للوصول إلى نتائجَ معاكِسة لتلك التي كان الحزب يتوخاها؟ـ أظن أن الملك محمدا الخامس ـ وهو الرجل الذي يقتعد دائما خط الوسط ـ
ارتأى أن يجتاز هذه المرحلة على تدرج ما دام حزب الاستقلال مصرا على أن
تكون الحكومة منسجمة، وكانت المرحلة الأولى هي إبعاد حزب الشورى
والاستقلال، والثانية إبعاد المستقلين.* الملاحَظ أن وزارة الداخلية في الحكومة الثانية تم إسنادها إلى شخص كان
محسوبا على حزب الاستقلال هو إدريس المحمدي، بعدما كان على رأسها شخص
محايد هو الحسن اليوسي. كيف تلقيتم في حزبكم تعيين المحمدي؟ـ كانت لنا عن إدريس المحمدي نظرة طيبة. أَوَّلا لأننا كنا نعلم أنه لم
يكن منسجما تمام الانسجام مع حزب الاستقلال، وربما لم يكن حزب الاستقلال
راضيا عنه كذلك.إدريس المحمدي راهن بعد الاستقلال على أن يكون رجل القصر الملكي وأن يتقرب
إلى خدمته بالأسلوب الذي كان يتميز به في مخاطبة الملك. يصارحه بكل ما
يخطر له بالبال، وينقل إليه كل ما يصله من معلومات، ويوجهه بلباقة واحترام
إلى الطريق الذي يراه الأصلح، ويقدم نصيحته ورأيه مغلَّفين في أشكال
بروتوكولية توفر للملك حرمته وكان يعتبرها ضرورية لمخاطبة الملوك. كان
يبتدئ بالقول مثلا مخاطبا الملك: «يا مولاي إني لا أفهم كما تفهم جلالتكم
ولا أعرف مثلما تعرفون. ولكن خديمكم المتواضع يرى أنه إذا رأت جلالتكم أن
تسمعني فإن لي رأيا قد أكون فيه مخطئا أو مصيبا». ثم يقدم الرأي بعد هذه
المقدمة أو ما يشبهها. كان المحمدي يعارض أن ينفرد حزب الاستقلال بالحكومة
بدليل أنه لم يشارك في الحكومة المنسجمة عند تشكيلها. إنه كان يؤمن بأن
يحكم الملكُ البلادَ بلا شريك.كان المحمدي مدرسة خاصة، لها أسلوبها وأداؤها المتميز، وخاصة تعامُلُه
باللباقة الكاملة مع الملك لا إلى حد الانبطاح، بل احتفظ دائما بشخصيته
وكرامته. وكان الملك يحترمه لذلك.* لقد سعى حزب الاستقلال في ذلك الوقت إلى بلورة خيار استراتيجي يهدف إلى
إقامة نظام الحزب الوحيد. ومما زاد في تأكيد ذلك هو قيامه بإدماج حزب
الإصلاح الذي كان يعمل في المنطقة الخليفية. وابتُلِي حزبكم أشد الابتلاء
إذ كان المراد تصفيته وإقصاءه؟ـ عندما خرجنا من الحكومة الأولى أصبح حزبنا يشكل المعارضة السياسية
المنظَّمة. وكانت معارضتنا شَرِسة شراسة القمع والملاحقات التي كانت تنزل
بنا. كنا نهاجم الحكومة بعنف وندينها بما حل بنا من نكبات بسقوط ضحايانا
واختطاف مناضلين من صفوفنا واعتقالهم في دار بريشة في تطوان وتصفيتهم
جسديا، وجلدهم وتعذيبهم في دهاليز الأمن الوطني. وكانت المعارضة الشعبية
والصحافة هي سلاحنا الوحيد.لكن لم تلبث صحفنا في هذه الفترة أن مُنعت من الصدور بقرار من الحكومة.
وداهمتنا الشرطة ونحن في إدارة صحيفة «الرأي العام» بالعربية وصحيفة
«الديمقراطية» بالفرنسية بشارع دانطون بالدار البيضاء وكان على رأسنا محمد
بن الحسن الوزاني الرجل الذي كان ثاني اثنين أسَّسا الحركة الوطنية ونُفيا
تسع سنوات. ودخلت قوات الشرطة والقوات المساعدة التابعة لوزارة الداخلية
إلى مكاتب صحافة الحزب فأخرجتنا بالقوة جميعا ومن بيننا الوزاني وأحمد بن
سودة مدير جريدة «الرأي العام» وهيأة تحرير الجريدة وأيادينا مرفوعة.
ووراء ظهورنا رشاشات مصوَّبة من القوات المساعدة إلى ظهورنا. وبعد ذلك
تظاهرت جمعية النساء المنتمية لحزبنا «أخوات الصفا» وكانت بينهن زوجاتنا
فتم اعتقالهن. ولم يكتفوا بذلك بل كتبوا على صفحة كاملة من جرائدهم بعنوان
«المانشيط» الكبير: «أنتم لستم أهلا للحرية». وجاء في المقال أن الحرية لا
تُعطَى إلا لمن يستحقها، وأن الحرية ليست لها قيمة مطلقة، وأن من يستحق
الحرية هو الذي ينضبط بالمسؤولية، ومن لا يستحق الحرية يجب أن ينال عقابه
وجزاءه ويُجرد منها. ولم يقدمونا إلى القضاء وإنما اتخذوا ضدنا إجراءات
إدارية وزجرية لو وقعت اليوم لاعتُبِرت خرقا فادحا وسافرا لجميع مقتضيات
حقوق الإنسان والشرعية القانونية. ولم نكن وحدنا في حزب الشورى والاستقلال
الضحايا وإن كانت إصاباتنا الأشد إيلاما. فمعارضون آخرون سُجنوا كالدكتور
الخطيب والمحجوبي أحرضان وعبد الله الوكوتي من الحركة الشعبية وغيرهم.
بديعة- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 6241
العمر : 39
Localisation : الدارالبيضاء
Emploi : موظفة
تاريخ التسجيل : 03/04/2008
4- ثورة الريف لم تقم للإطاحة بالملكية في المغرب وأبرئ عبد الكريم الخطابي من الضلوع فيها
يواصل عبد الهادي بوطالب السياسي المغربي المخضرم في هذه الحلقة من حوارات
«نصف قرن تحت مجهر السياسة» الحديث عن ذكرياته بشأن احداث ساخنة عاشها
المغرب في نهاية الخمسينات.ويتناول بوطالب تمرد عدي وبيهي محافظ اقليم (محافظة) قصر السوق (الراشيدية
حاليا) الظروف التي قام فيها التمرد، ودور الحسن اليوسي وزير الداخلية
آنذاك.وفي هذه الحلقة ايضا يتحدث بوطالب عن اسباب قيام احداث منطقة الريف ودور
محمد بن عبد الكريم الخطابي فيها، وتأسيس الحركة الشعبية بزعامتي المحجوب
احرضان والدكتور عبد الكريم الخطيب بالاضافة الى الظروف التي شكلت فيها
حكومة عبد الله ابراهيم.
* في 4 مايو (ايار) 1956 شرع حزب الاستقلال في ضرب حزبكم، واختفى آنذاك 17 شخصا من الدعاة الشوريين. فكيف واجهتم هذه المحنة؟ـ ابتدأت هذه المحنة ونحن داخل الحكومة الوطنية الأولى. وأذكر أن عبد
القادر بن جلون استعجلني هاتفيا من بيته ذات ليلة في شهر رمضان للحضور
عنده لأمر هام. ووجدت عنده شخصا بسيطا في هندامه من عامة الشعب وربما كان
أُمِّـيا على ما كان يبدو من حديثه اسمه إدريس الشرقاوي وأطلعنا على ورقة
تعريفه. كان يسكن مدينة سلا وكان يحمل مسدسا قال إنه سلمه إليه أحد خصومنا
السياسيين الذي أمره أن يترصدنا نحن الاثنين لقتلنا (وسماه باسمه ولا أود
أن أعلن عنه) وأخذ يبكي قائلا إنه لا يسمح له ضميره باغتيال الوطنيين،
وأنه فضل أن يعصي الأمر ويخبرنا بالحقيقة، وأنه مهدد بالموت في نفس الليلة
إذا لم ينفذ الأمر بقتلنا. وخرج من بيت بن جلون في ساعة متأخرة من تلك
الليلة. وما أن وصل إلى قنطرة سلا حتى أطلق عليه مجهول الرصاص وأرداه
قتيلا.أما عن جلد أنصارنا بدهاليز الشرطة في عهد المدير العام للأمن الوطني محمد
الغزاوي فقد عرف عدد من أعضاء حزبنا «ضيافات» خاصة في الدائرة السابعة
للأمن بالدار البيضاء. وكان على رأس الأمن الإقليمي بالمدينة إدريس
السلاوي الذي سيصبح فيما بعد وزيرا ومستشارا (زميلا لي) للملك الحسن
الثاني. وأذكر أننا كنا ما نزال في الحكومة عندما كانت تبلغنا أنباء عن
المعاملة القاسية التي كان يعامل بها السلاوي بعض أعضاء حزبنا في الدائرة
السابعة للشرطة، حيث كان يقال إنه كان يشرف على عمليات تعذيب الشرطـة
لأنصارنا بهذه الدائرة، وأننا حضرنا يوم الجمعة إلى مشور القصر الملكي
لمرافقة الملك محمد الخامـس إلى الصلاة. وبينما نحن ننتظر خروج الملك من
القصـر مَـرَّ محمد الغـزاوي وإدريـس السـلاوي عـلى الـوزراء لتـحيتهم ـ
وكنا وقفنا صفا واحدا ـ لكن أحمد بن سودة وزير الشبيبة والرياضة صرخ في
وجه السلاوي الذي مد يده لمصافحته وسمعه الوزراء الحاضرون: «لا تصافحُ يدي
يدَك التي جلدت الوطنيين الابرياء». وكانت تلك طبيعة بن سودة الذي لا
ينافق ولا يداهن ويتصرف بكل شجاعة. وعندما تزاملنا مستشارِين للملك الحسن
الثاني ارتبطنا (أنا وبن سودة) بعلاقة مودة مع زميلنا إدريس السلاوي
ونسينا ما كان بيننا وبينه من جفاء «فلا يحمل الحقدَ من تعلو به الرُّتَب».
* ألم تلتجئوا إلى الملك محمد الخامس ليحميكم من المضايقات التي حلت بكم في عهد حكومة حزب الاستقلال المنسجمة؟ـ في سنة 1957 وبعد أن بلغت الأحداث أشدها وخاصة أثناء حوادث الريف
واعتقال عدّي اوبيهي عامل (محافظ) اقليم (محافظة) قصر السوق (الراشدية
حاليا) وآخرين ذهبا في وفد من حزب الشورى والاستقلال إلى محمد الخامس
لنوضح له حقائق الأحداث وقدمنا له عنها مذكرة تفصيلية.وأتذكر هنا أنه كان يوجد ضمن الوفد أحمد بن سودة الذي ظل في البداية صامتا
لأن محمد بن الحسن الوزاني هو الذي تولى شرح الوضع للملك. ومن عادة بن
سودة أنه إذا تحدث رفع الصوت. وهو خطيب مفوَّه إذا تحدث في الجماهير خطب
وانفعل وأثّر. وتألم الملك محمد الخامس لذلك قائلا له: «اسكت يا سي بن
سودة، ما لك ترفع الصوت في مجلسي؟» ورغم ذلك استمر بن سودة في الكلام
مُفصِّلا ما كانت العصابات تقوم به من تصرفات. فقال له الملك: «اسكت إنهم
يسمعونك» في إشارة منه إلى المرحوم أحمد بناني الذي كان على رأس إدارة
التشريفات والأوسمة الملكية والذي كان قريبا من مجلس الملك بحيث كان يسمع
كلام بن سودة وكان بناني ينتمي إلى حزب الاستقلال. فكان رد بن سودة:
«فليسمعني أي كان منهم فأنا لا أبالي. وأنا أجهر بالحقيقة أمام جلالتكم».
فأخذ الملك سماعة الهاتف وضغط على أزرار ثلاثة أرقام، أو ما يسمى بالخط
الهاتفي الوزاري، وتحدث مع ولي العهد الذي كان موجودا آنذاك في القيادة
العليا للقوات المسلحة الملكية. وقال له: «يوجد عندي الآن السادة الشوريون
وهم قلِقون. وسيأتون إليك فاستقبلهم واستمع إليهم». وذهبنا إليه وتكلمنا
معه بكل صراحة وبتفاصيل عن الأحداث.
* وماذا كانت نتيجة لقائكم بولي العهد؟ـ قال ولي العهد لنا: «أنا على علم بما يجري. وأعلم أسباب ما يجري. ونحن
نتعامل مع هذا الوضع بكل حزم ولكن أيضا بكل حذر، لأننا لا نريد أن تقوم
فتنة في البلاد». وأضاف: «وإذا كنتم قد أُصبتم بما أُصِبتم به فإنني أقول
لكم بكل صراحة لكم خياران لا ثالث لهما. إما أن تصبروا وتقاوموا وقد
تضيعون في هذه المعركة وتجنون منها من الخسائر ما لا يمكنكم أن تتصوروه.
أما إذا عـزّ عليكم أن تصبروا فاخرجوا خارج البلاد واذهبوا إلى حيث
تشاءون، وانتظروا إلى أن تتغير الأوضاع إلى ما هو أحسن». هكذا قال لنا
الأمير مولاي الحسن بكل برودة. ولما خرجنا من عنده حلَّلنا كلامه
وقيّمناه. وأذكر هنا وبكل صراحة أننا في المكتب السياسي للحزب أخذنا كلام
ولي العهد بكل حذر، لأنه كان يقال عنه إن له انتماء إلى حزب الاستقلال.
وخامر الشك بعضنا في أنه قد يكون أراد أن ينحينا عن ميدان المعركة بالداخل
عندما وضع علينا التفكير في خيار مغادرة المغرب. وقررنا ألا نخرج وأن
نصمت. وتبين فيما بعد أنه كان صادقا معنا، لأن القصر الملكي أخذ بزمام
الأمور فيما بعد.ولوضع مبادرتنا إلى التوجه إلى الملك للتشكي في سياقها التاريخي أود أن
أقول إن هذا الاستقبال تم بعد 24 ساعة من اعتقال العامل (المحافظ) عدي
أوبيهي الأمر الذي جعل كلا من المحجوبي أحرضان والدكتور الخطيب والحسن
اليوسي وعددا كبير من الشخصيات الأمازيغية وغيرها يشعرون بأن السيل بلغ
الزُّبَى.
وفي هذه الأثناء أيضا وقعت حوادث الريف، وهي لم تكن ثورة على الملك كما لم يكن كذلك تمرد البوادي، بل ثورة على نمط الحكم القائم.وقد تحدث إلينا مرة الملك الحسن الثاني في الحاشية الخاصة عن حكومة
الانسجام التي ثارت عليها فصائل معارضيها على اختلاف انتماءاتهم فقال: «إن
الحاج أحمد بلافريج رئيس الحكومة ذهب عند الملك شاكيا من أن السلطة في
الأسفل لا تعين الحكومة في مهمتها، وأنها تشجع على الفوضى والتمرد على
الحكومة. وزاد قائلا: «نريد من جلالتكم أن تردوا للحكومة هَيْبتها» وكان
للملك محمد الخامس مقولات حكيمة ينطق بها فقال. «أنا أعطيتكم السلطة
كاملة، أما الهيبة فاطلبوها من الله فهو الذي يعطيها ولا أستطيع أن أعطيها
لكم».
* أخذ حزب الشورى والاستقلال يجتاز أزمة داخلية في القيادة بعد هذه الأحداث فهل كان الأمر يتعلق بفقدان الانسجام بينكم؟ـ المشكلة التي كنا نواجهها هي ما كان يعانيه الحزب من جمود في القيادة،
خاصة الأمين العام الوزاني الذي كان لا يسير مع شباب الحزب على وتيرة
سيرهم. وكان يتردد في اتخاذ قراراته. وكم كانت اجتماعاتنا تمتد وتطول ولا
تنتج بمقدار ما كنا نصرفه من الوقت في النقاش.وأذكر هنا أنه أثناء اجتماع للمكتب السياسي للحزب ببيتي في الدار البيضاء
ـ حيث كنا مطالَبين بالبت في قضايا مستعجلة لم يكن الوزاني متفقا معنا على
مقاربة حلها ـ صارحتُه بأن الحزب محتاج إلى تغيير طرائق عمله، وذهبت إلى
أبعد فدخلت معه في مُشادَّة صاخبة وهددت بانسحابي من الحزب إذا ما استمرت
حركتنا بطيئة حيث أصبحت ألاحظ أن الحزب مصاب بالشلل.
* تتحدثون عن مشادة صاخبة ولا تذكرون أسبابها. هل يمكنكم أن تحددوا أسباب هذه المشادة التي هددتم فيها بالانسحاب من الحزب؟ـ كنا دخلنا فترة أزمة ذاتية توزعنا فيها على شقين: شباب الحزب الطامح إلى
التغيير والقيام بوثبات لتحقيقه. وكان عبد القادر بن جلون من هذا الفريق
رغم فارق السن بينه وبين الشباب، وشق المحافظين الذين كان على رأسهم
الأمين العام للحزب الذي كان لا يساير في خطواته وتيرة سرعتنا. لكن النقطة
التي طفح معها الكأس وفجرت المشادة التي أشرت إليها هي مبادرتي أنا والأخ
بن سودة وعدد من أعضاء الحزب بتحويل جريدة «الرأي العام» لسان الحزب الذي
كان بن سودة مديرها من أسبوعية إلى يومية. وكانت هذه النقطة قد أثيرت من
لدنا في اجتماعات سابقة للمكتب السياسي للحزب. وكان الوزاني يستعظم هذه
الوثبة ويقول إن لإصدار جريدة يومية شروطا لا تتوفر لنا. وهي تتطلب إدارة
حازمة وخبرة بطبيعة الصحافة اليومية، وحضورا يوميا للمسؤولين عن إصدار
الجريدة، وفريق عمل متخصصا في إدارة اليوميات لا يوجد عندنا. وكان الوزاني
يقيم بفاس في بيته الخاص ولا يحضر إلى مركز الحزب بالدار البيضاء إلا عند
الاقتضاء. وكان يعتبر أن لا أحد منا في المكتب السياسي ممن كانوا يسكنون
الدار البيضاء يتوفر على المؤهلات التي يشترطها. ويرى نفسه المؤهَّل
الوحيد لإدارة جريدة يومية بحكم تخرجه من مدرسة العلوم السياسية بباريس
وتخصصه في الصحافة.لقد قررنا ـ بن سودة وأنا ـ أن نكسر طوق الجمود، وأعددنا كل ما يلزم
لإصدار الجريدة يوميا. ولما أعددنا العدد الأول للطبع اتصلنا بالوزاني
بفاس ليبعث لنا بافتتاحية العدد وأخبرناه بأن الجريدة ستصبح يومية فغضب
وامتنع عن المشاركة. لكننا أصدرنا أعدادا من الجريدة توليت كتابة
افتتاحياتها بإمضاء الرأي العام. فشد الوزاني الرحلة إلى الدار البيضاء
وانعقد اجتماع المكتب السياسي فحاكَمَنا الوزاني أمامه وأداننا باتخاذ
قرارنا منفردين، وحمل معه مجموعة أعداد الجريدة الصادرة وتصيَّد ما وقع
فيها من أخطاء مطبعية لا تسْلَم منها جريدة فوضع تحتها خطوطا باللون
الأحمر وأخذ يحاسبنا عليها. وطغى في تأويل توجهات بعض المقالات فثرت على
ما صدر منه وعبت عليه أن يفضل أسلوب الانتقاد لعملنا على تشجيعنا والتنويه
بما فعلناه. وهنا هددت بالانسحاب من الحزب إذا لم تتغير أساليب عمله وكان
الاجتماع في بيتي فلم أملك أن أنسحب منه محتجا.
* أفهم من كلامك أن مشاكل حزب الشورى والاستقلال لم يكن وراءها فقط حزب الاستقلال بل عوامل داخلية أيضا؟ـ هو كذلك. كنا نشكو من مضاعفات القمع الذي كان ينزل بقاعدة الحزب ومن خطر
تهديدنا في أرواحنا كما كنا نشكو من قيادة غير منسجمة. وكنت واحدا من
المجموعة التي كانت تتطلع إلى أن تتوفر للحزب هيكلة جديدة تتلاءم ومقتضيات
المرحلة المؤلمة التي كنا نجتازها.وأذكر أن عبد القادر بن جلون الذي كان يشغل منصب نائب الأمين العام للحزب،
وبعد أن حضر المشادة التي ألححتم عليَّ للكشف عن أسبابها عرض عليَّ أن
نعمل معا لتغيير قيادة الحزب قائلا: «أعلم أنني لا يمكن أن أكون الأمين
العام للحزب لأن القاعدة غير مستعدة لذلك. فما رأيك في تَسَلُّمِك قيادة
الحزب؟ فقد استطلعتُ رأي عدد من أطر الحزب ووجدت عندهم الاستعداد لقبولك
والعمل تحت قيادتك وأنا ألتزم أن أتعاون معك». فقلت له: «هذا ليس من
أخلاقي. ولا أستطيع بكل صراحة أن أفعل ذلك، لأن للوزاني حرمته عندي
ومكانته الوطنية ولا أود المس بهما. وعمَلٌ من هذا النوع هو انقلاب على
الشرعية التي لا نسعى لتقويضها بل فقط لإصلاحها». * بعد تكوين الحكومة الثانية التي لم يشارك فيها حزب الشورى والاستقلال،
بدأ حزب الاستقلال يُلوِّح بعد فترة قصيرة بورقة الاستقالة من الحكومة،
وبعث برسالة إلى الملك محمد الخامس حدد فيها موقفه من مبارك البكاي، اتهم
فيها هذا الأخير بالتعامل مع الحركة الشعبية والعمل على تحطيم وحدة
الحكومة. كيف نظرتم آنذاك إلى هذا الموقف الاستقلالي؟ـ حزب الاستقلال كان يؤمن أن أفضل الحكومات هي الحكومة المنسجمة التي
ينفرد فيها هو بالحكم. ولذلك كان يرغب في تشكيل حكومة منسجمة يريدها -كما
قال عنها- قوية قادرة على مواجهة الأزمات وحل المشاكل التي كانت تعاني
منها البلاد.* بعد رسالة حزب الاستقلال إلى محمد الخامس التي تحَفَّظ فيها على البكاي
قدم هذا الأخير استقالته. فهل كانت استقالة البكاي برغبة منه أم بطلب من
القصر؟ـ لم يكن للبكاي حزب يسنده. وحين أصبح الأمر مسألة معركة بين قوى حزبية
كان يعرف أنه لا يملك أن ينتصر فيها. وأعتقد أن البكاي أدرك أنه لو رأس
حكومة غالبيتها من حزب الاستقلال فسيكون رئيس حكومة لا وزراء له داخلها.
لذلك قد يكون استخلص النتائج لنفسه واستقال واتفق مع الملك على مغادرة
الحكومة.
* في عام 1957 وقع تمرد عدي وبيهي محافظ (عامل) إقليم قصر السوق (الراشدية حاليا). ما هي حقيقة وأسباب هذا التمرد؟ـ عدي وبيهي كان ينتمي إلى النزعة القبلية والعالم القروي قبل كل شيء ولم
تكن له ثقافة. والتمرد الذي قام به على الحكومة أثار غضب حزب الاستقلال
عليه، زيادة على كونه لم يكن يسمح لأعضاء هذا الحزب بالقيام بأنشطة حزبية
في محافظته (عمالته) فعُزِل من منصبه وحُكِم عليه بالسجن ثم بالإعدام.
لكنه طوَّر حركة معارضته للحكومة وقفز منها إلى التورط في حركة تمرد غير
شرعية لم يَحْسُب لعواقبها حسابها مما لم يسع القصر الملكي معه سوى عزله
من منصبه واعتقاله وتقديمه للمحاكمة أمام القضاء.
* ما حقيقة ما قيل من أن عدي وبيهي كانت لديه رغبة في إقامة جمهورية أمازيغية في المغرب؟ـ هذا غير صحيح. إن الملكية في المغرب لم تكن في وقت من الأوقات موضوع
نزاع أو خلاف بين المغاربة . كان المغاربة على اختلاف نزعاتهم يرون في
النظام الملكي رابطة توحيد المغرب ورمز الشرعية التاريخية. وازدادت
الملكية شعبية بعد ثورة الملك والشعب وعودة السلطان إلى عرشه حاملا
الاستقلال والحرية.وكان وبيهي معروفا بولائه للعرش وتعلقه بشخص الملك. وكان الأمر كذلك فيما
يخص البطل المجاهد عبد الكريم الخطابي حينما كان يكافح الاستعمار الفرنسي
والإسباني في منتصف العشرينيات من القرن الماضي. وكانت فرنسا تدُسُّ له
لدى السلطان مولاي يوسف وتقول إنه متمرد على العرش وثائر وطامع في إقامة
جمهورية . وكانت الإقامة العامة تنعته بـ«الروكي» أي المتمرد على شرعية
الملكية. والاتهام بـ«الروكية» والتمرد على السلطان والخروج عن طاعة «ولي
الأمر» معروف في التاريخ المغربي هي تهم تتجدد وتتنوع أشكالها بحسب حقب
التاريخ. فكل من كان يراد المس به كان يُتَّهَم بالروكية أو التمرد على
السلطان وإحداث الفتنة أو الإلحاد أو سب الدين.* بصرف النظر عن الاتفاق مع أفكار عدي وبيهي أو الاختلاف معها هل تعتقد أن
وبيهي كان شاعرا بما يفعله أم أنه كان مجرد صنيعة مدفوعة من جهات معينة؟ـ أنا لم أتعرف عليه قط، وإن كانت له اتصالات مع بعض قادة حزب الشورى
والاستقلال. أعتقد أنه كان يمثل التفكير القبلي المتحجر، ولم يتأقلم مع
عهد تنظيم الحكم وكانت له غريزة التعلق بالسلطة. وهي التي دفعته إلى
الجرأة على التمرد على الحكومة بأساليب مخالفة للقانون وغير مقبولة في
النظام العصري.وعندما كان يقال إن حزب الاستقلال يريد أن يستأثر بالحكم والسلطة ويكون
الولاة والوزراء منه وحده كان ذلك يثير لدى بعض رجال السلطة وخاصة رجال
القبائل حزازات أو مخاوف كانت تدفعهم إلى مناهضة الحكومة. وعدي وبيهي أبعد
في المعارضة إلى حد الخروج على القانون.
* ما هو دور ولي العهد آنذاك في إخماد تمرد عدي وبيهي؟ـ قام ولي العهد بدوره بوصفه المكلف الدفاع الوطني والساهر على أمن البلاد
بانب والده، بمعنى أنه قام بما كانت تلقيه عليه المسؤولية من أعباء ببالغ
الحزم ومنتهى الصرامة. وبالفعل نجح في إخماد الاضطرابات. ولا أظن أنه كان
يؤمن بأنها ثورات ضد والده. بل كان يؤمن بـأنه لا يمكن أن يجتمع في سياق
واحد بين منطق مسؤولية الملك وبين منطق الثورة والإخلال بالاستقرار. وكان
وفيا لهذا المبدأ وواعيا بدوره فيه. كما أنه كان بحكم منصبه عدوا لكل
اضطراب وفوضى، ومؤمنا بأن الأسبقية يجب أن تُولىَ لاستتباب الأمن وتثبيت
الاستقرار. وبطبيعة الحال كان منطقيا أن يناهض من يدخلون في صراع مع
الحكومة التي تستمد شرعيتها من ثقة والده الملك.
* وما مدى تأثير الحسن اليوسي على وبيهي للقيام بتمرده؟ـ اليوسي كان في أول الأمر متضامنا معه ورفَضَ المساسَ به وعزْلَه من
منصبه وإلقاء القبض عليه. وكان يشغل منصب وزير التاج وهما معا كانا
ينتميان إلى ثقافة واحدة. ولم يكن اليوسي ليقبل أن تُمَس الباديةُ في شخص
أحد ولاتها وقادتها. وكان يرى نفسه حليفا موضوعيا لقادة العالم القروي
التاريخيين ومن بينهم وبيهي. لكن اليوسي عندما لاحظ أن وبيهي تجاوز حدود
المعارضة تبرأ منه بعد أن اتصل به هو والشيخ محمد بن العربي العلوي وزير
التاج أيضا في مدينة ميدلت(الاطلس المتوسط).
* في سنة 1959 حُكم بالإعدام على وبيهي. بيد أنه مات مسموما في زنزانته. فمن هي في نظرك الجهة التي كانت وراء قتله؟ـ بكل موضوعية لا أستطيع أن أرد على سؤالك. فأنا أجهل كل شيء عن ظروف
وفاته. على كل حال لقد عقَّدت وفاته الأمور. قد يكون الرجل مات موتا
طبيعيا إذ ربما لم يتحمل الإهانة التي تعرض لها. ومن أجل التعلق بالسلطة
مات الكثيرون من رجال السلطة عندما فقدوها بمجرد تنحيتهم عن السلطة فأحرى
إذا حُكم عليهم بالإعدام وكانوا ينتظرون الموت. وفي المغرب تتردد حكمة
معروفة تقول: «الكَلْمةُ روح». كانت هذه الحكمة تقال عن سلطة المخزن التي
كان يُطلَق عليها اسم الكَلْمة أي الكَلِمة، لأنه لا أحد كان يُعزَل أو
يُعيَّن في منصب بقرار مكتوب. كل شيء كان يتم بالكَلْمة: «اعزلوا هذا،
ضعوا في السجن هذا، صادروا أموال ذاك». فكان صاحب الكلمة هو صاحب السلطة.
فالسلطة والكلمة مترادفتان في لغة المخزن (الحكومة القديمة) وفي عهد سيادة
الأمية. وكان بعض رجال السلطة إذا فقدوا الكلمة فقدوا الحياة لسبب أو آخر.
* تشكلت الحكومة المنسجمة في مايو (ايار) 1957، واستمرت حتى 3 ديسمبر
(كانون الثاني) 1958. وضمت أغلبية الوزراء الاستقلاليين ووزيرين مستقلين
هما عبد المالك فرج وزير الصحة، والبشير بن العباس وزير الشغل. ما هي
خلفية الاكتفاء بوزيرين مستقلين فقط في الحكومة؟ـ عبد المالك فرج كان وزيرا للصحة في الحكومة الأولى التي شاركتُ فيها. ذو
ثقافة فرنسية، وله تصورات ثورية إلى حد ما. لكنه هو والبشير بن العباس
التعارجي كانا قريبين إلى حزب الاستقلال. وكان الحزب يعتبرهما من فصيلته
السياسية. في الحقيقة كانت الحكومة منسجمة بصرف النظر عن كون اثنين من
أعضائها لم يعلنا عن انتمائهما إلى حزب الاستقلال.* بعد تشكيل الحكومة المنسجمة كيف نظرتم في حزبكم إلى استجابة القصر
لمطالب حزب الاستقلال ؟ هل اعتبرتم ذلك «تكتيكا» من القصر أم عملا
استراتيجيا ستبرز نتائجه فيما بعدُ عكس ما كان يتوقعه حزب الاستقلال؟ـ نحن لم نفاجأ بنهاية المسلسل إلى حكومة منسجمة على رأسها الأمين العام
لحزب الاستقلال. كنا نعرف أن المسلسل ابتدأ منذ خروجنا من الحكومة الأولى،
وأن النهاية ستكون الحكومة المنسجمة. وربما عندما استقبلَنا الأمير ولي
العهد مولاي الحسن بوزارة الدفاع الوطني ـ كما ذكرتُ لك من قبل ـ وقال
لنا: «اخرجوا إلى الخارج إن شئتم أو انتظروا ....» كنا نفهم أن الأمور
تتجه إلى إرضاء حزب الاستقلال فيما يطالب به من الاستفراد بالحكم. لذلك لم
يكن إسناد رئاسة الحكومة إلى أحمد بلافريج مفاجأة لنا.بيد أن تشكيل الحكومة المنسجمة ألقى على حزب الاستقلال مسؤولية صعبة لأنه
دخل مرحلة اختبار لقدرته على تحمل الحكم وحده. وربما يكون القصر قد اضطر
إلى الاستجابة لمطلبه ليضعه في هذا الاختبار العسير. وكانت النتيجة أن
الأزمات اشتدت أكثر مما كانت عليه، وأن الحكومة واجهت الكثير من الصعوبات
والأزمات حتى إنه يقال إن محمد الخامس لم يكن راضيا عن أسلوب أدائها، وأنه
أطال المكث خارج البلاد احتجاجا على بعض التصرفات ولم يعد إلى المغرب إلا
بعدما ألحت عليه الحكومة للتعجيل بالعودة وبعثت إليه الوسطاء.* يقال إن القصر ربما ناور حينما عين بلافريج وزيرا أول. وقيل وقتذاك إن
بلافريج كان ولاؤه بالدرجة الأولى للقصر قبل ولائه للحزب. فما تعليقك؟ـ لست مطلعا على أسرار حزب الاستقلال. فهو الوحيد الذي يعلم أسراره وأهل
مكة أدرى بشعابها. بيد أني قرأت ما قلتَه فيما كُتِب عن تلك المرحلة وعن
أوضاع حزب الاستقلال فيها. ومع ذلك فما تزال المعلومات لم تتوفر لمن يريد
أن يقوم بتحليل نقدي وموضوعي للوقائع التي عرفتها المرحلة.وبالنسبة لكلمة «يناور» التي استعملتَها أنا لا أستعملها وبكل إنصاف
وموضوعية في حق الملك محمد الخامس. فهو لم يكن مناورا بما قد تفيده الكلمة
من تحايل ومكر، لكنه كان يحكم ويختار من أساليب الحكم ما يرسِّخ وحدة
المغرب حول العرش . وكل ما هناك أنه حصل فعلا ما كان يمكن أن يحصل. إذ
تبين أن انسجام الحكم ليس هو الحل الوحيد لمشاكل المغرب ولا العصا السحرية
لإخراجه من الأزمات. لذلك كان عمر الحكومة المنسجمة قصيرا، وتم النداء على
علال الفاسي أوَّلا لتشكيل حكومة لم تر النور، ثم على عبد الله إبراهيم
لتشكيل حكومة جديدة.بقي أن أضيف إلى أن تمحص الحاج أحمد بلافريج لخدمة القصر لم يتم في عهد
الملك محمد الخامس بل في عهد الملك الحسن الثاني وخاصة بعد أن تفاقمت
الفجوة بينه وبين علال الفاسي رئيس الحزب، تلك الفجوة التي تجلت في
انسحابه ـ وهو الأمين العام للحزب ـ من المؤتمر العام للحزب احتجاجا بعد
أن ألقى خطابه.* قبل تشكيل حكومة عبد الله إبراهيم اندلعت ثورة الريف. فهل كانت أحداث
الريف بوحي من محمد عبد الكريم الخطابي؟ وهل كانت موجهة ضد الحكم المركزي
الذي كان يجهل خصوصيات المنطقة فارتكب أخطاء إدارية؟ أم كانت الثورة موجهة
ضد حزب الاستقلال؟ وكيف عولجت أزمة الريف؟ـ لم تقم ثورة الريف للإطاحة بالملكية بالمغرب أو التمرد عليها. منطقة
الريف كانت مهمَّشة في عهد حكومات الاستقلال، زيادة على ارتكاب خطأ فَرْضِ
اللغة الفرنسية على منطقة الشمال وتنحية اللغة الإسبانية التي كانت
الثانية في المنطقة الخليفية(الشمالية) بعد العربية. كما لم يلتحق بعد
الاستقلال بالحكومة والسفارات والدوائر الحكومية مواطنون من هذه المنطقة.الحكومات المغربية المتوالية تصرفت كما لو كانت المنطقة الخليفية إنما
أُدمِجت في المنطقة السلطانية (الجنوبية) دون مراعاة لخصوصياتها. ومما لا
شك فيه أن هذه السياسة (أو اللاسياسة) طالت منطقة الريف أيضا وكان لسكانه
رد فعل عنيف إزاءها.حوادث الريف كانت احتجاجية لإسماع صوت الريف المهمَّش المنسِيّ . ولم يكن
الزعيم محمد عبد الكريم الخطابي ضالعا فيها لسبب وحيد هو أنه تولى قبل
أحداث الريف بنفسه تكذيب التهمة الموجهة إليه بأنه ثار على النظام الملكي
وذلك عندما استقبلني في سنة 1950 بمنزله بالقاهرة وأدلى إليَّ بحديث نشرته
في كتابي «ذكريات وشهادات ووجوه». وهو حديث احتفظتُ به لأنه لم تكن لنا
عندما تلقيته منه صحف لنشره. قال فيه: «إن منطقة الريف لم يكن لها مطلقا
أي نزوع للتمرد على سلطة السلطان. وأن الثورة التي قادها في منتصف
العشرينيات من القرن العشرين كانت للتحرر والانعتاق من سلطة الأجنبي.
والدليل على ذلك أنه حارب استعمارين كان من الممكن أن يستفيد من تأييد
أحدهما ضد الآخر. ولكنه حاربهما معا في آن واحد. ولم يكن له حقد على الملك
أو على الملكية بل قال إن الثورة كانت لتحرير المغرب من حمايتي فرنسا
وإسبانيا معا». لذلك فأنا أبرئ الخطابي من أن يكون ضالعا في حركة التمرد
التي وقعت في الريف أو مُحرِّضا عليها. ثم إن الخطابي وأعضاء أسرته زاروا
الملك محمدا الخامس بالقاهرة أثناء زيارته الرسمية لمصر قبل اندلاع أحداث
الريف وجددوا له البيعة ملكا على المغرب وارتبطوا معه بعهد وميثاق وماتوا
على الولاء للعرش والإخلاص للملك.* خلال نفس الفترة تم الإعلان عن تشكيل الحركة الشعبية بزعامتي المحجوبي
أحرضان وعبد الكريم الخطيب وتم منعها بقرار حكومي. وتلا ذلك اعتقال أحرضان
والخطيب في "أَجْدير في أكتوبر1958. كيف نظرتم آنذاك إلى تشكيل هذا الحزب
الجديد؟ـ كنا سعداء لأن التعددية الحزبية التي كنا نؤمن بها أصبحت أكثر من تعددية
ثنائية. لذلك رحبنا بالحركة الشعبية وتعاونا معها ضمن هيأة التنسيق
والتشاور التي جَمعَتْنا. وكانت تضم حزب الشورى والاستقلال والحركة
الشعبية وشخصيات مستقلة كان من بينها البكاي، وحضرها مرة أحمد رضا كديرة
نائبا عن الأحرار المستقلين. وقد عقدت هيأة التنسيق هذه اجتماعا لها مرة
ببيتي بالدار البيضاء في ظروف سياسية صعبة بالنسبة لنا جميعا. وكنا في هذه
الفترة نعاني الاضطهاد ومهدَّدين بمخاطر بما فيها اغتيالنا. وقد حضر إلى
هذا الاجتماع الحسن اليوسي وحمل لي معه صدريةً واقية من الرصاص أهداها لي
وكان يحمل مثلها فكنت أحملها طول فترة تهديدنا بالاغتيال.
* بعد تشكيل الحكومة المنسجمة سرعان ما بدأت التناقضات الداخلية داخل حزب الاستقلال تبرز. هل لك أن تعطي لنا صورة عنها؟ـ سأقول لكم ما قد لا تصدقونه. عندما كنا نسمع عن أزمة التناقضات التي
فجرت حزب الاستقلال شقين كنا نحن في حزب الشورى والاستقلال نمر بأزمة
ذاتية شبيهة حدثتكم عن بعض مظاهرها من قبل . فكما كانت قيادات في حزب
الاستقلال تنتقد الزعامات التاريخية، كان لنا نفس التوجه في حزبنا. كنا لا
نريد أن يكون لزعيم حزبنا سلطة مطلقة على الحزب. وكنا نتقَزَّز من كلمة
«الزعيم» التي كنا نرى فيها مرادفا لكلمة «الفوهرير» الألمانية. وبالفعل
تجاوزنا نحن ـ قبل حزب الاستقلال عندما أسسنا حزب الشورى والاستقلال ـ
مرحلة تنصيب الزعيم على قمة الحزب. وحتى كلمة رئيس تجنبناها فأصبح لحزبنا
أمين عام له نائب. أما في حزب الاستقلال فقد استمرت لفترة غير قصيرة
ازدواجية وجود علال الفاسي كرئيس للحزب وأحمد بلافريج كأمين عام له.وكانت قد جرت بيننا وبين النزعة التي يمثلها عبد الرحيم بوعبيد والمهدي بن
بركة اتصالات ابتدأتها شخصيا بواسطة عبد الحي العراقي الذي كان يمثل حزب
الشورى والاستقلال في المجلس الاستشاري الذي كان يرأسه بن بركة. وكان بن
بركة يُسِرُّ إلى بعض محدثيه بما وصلت إليه الأمور داخل حزب الاستقلال،
ويعيب على قيادته الانفراد بسلطة القرار وتمجيد الزعماء وعدم قبول الأحزاب
الأخرى. آنذاك ابتدأت داخل حزب الاستقلال أزمة التناقضات التي بقيت سرا
ولم تطْفُ على السطح. وعندما كانت تبلغني أصداؤها كنت أقارنها بما كان
يجري داخل حزبنا وأجدها تؤلف قاسما مشتركا بيننا وبين الجماعة الاستقلالية
التي كانت تعمل للتغيير. وفعلا لم يكن أحد يتصور أن أبعث برسائل شفوية إلى
المهدي بن بركة أو يبعث لي رسائل بواسطة عبد الحي العراقي ونحن في جو
القطيعة. لقد كانت بيننا فجوة يصعب ردمها. إلا أننا كنا نحس أن شيئا ما في
طريقه إلى المخاض داخل حزب الاستقلال. وكنا أيضا نتطلع إلى مخاض آخر في
حزبنا قبل أن تلتقي جهودنا مع النزعة الجديدة في حزب الاستقلال على العمل
المشترك. وهذا ما سهل الأمر علينا.وأظن أن الذي زاد الشرخ تفاقما داخل حزب الاستقلال هو تولي فصيلة منه
برئاسة عبد الله إبراهيم مقاليد الحكومة مما أصبح معه الحزب يعارض نفسه.
ولا شك أن الملك محمدا الخامس كان على إطلاع على أزمة حزب الاستقلال، وأنه
أراد أن يحقق التناوب على الحكم بين فصيلتيه.
* كيف وصل عبد الله إبراهيم إلى رئاسة الحكومة؟ وما هي ظروف تشكيلها؟ـ أظن أن عبد الله إبراهيم كان مرشحا من السيد المحجوب بن الصديق الأمين
العام للاتحاد المغربي للشغل (اتحاد عمالي) وكان بينهما تعاطف ما يزال
ممتدا إلى اليوم . وكان بن الصديق من الثائرين على الزعماء التقليديين
لحزب الاستقلال. وكان المطروح هو تشكيل حكومة استقلالية بديلة لكن بوجوه
أخرى غير الزعماء التقليديين أمثال بلافريج وبن عبد الجليل، ومحمد
اليزيدي، مع الاحتفاظ بزعيم آخر كان آنذاك من الشباب التقدميين هو عبد
الرحيم بوعبيد الذي عين نائبا لرئيس الحكومة ووزيرا للاقتصاد الوطني فقدم
الاتحاد المغربي للشغل اسم عبد الله إبراهيم لرئاسة الحكومة. وكان يرى فيه
صورة النقابي الملتـزِم أكثر مما يرى فيه صورة الحزبي التقليدي.
* بالإضافة إلى دعم بن الصديق، كيف كان القصر الملكي ينظر إلى عبد الله إبراهيم وقتذاك؟ـ كان القصر الملكي ينظر إليه نظرة عطف. فالرجل هادئ الطبع يهمس أكثر مما
يرفع الصوت. وهو من السياسيين الذين كانوا يتميزون بسعة الأفق والقدرة على
حسن التعايش. ولم يكن متطرفا ولا يُعلَم عنه أنه تورط في أحداث أثناء
الأزمة التي قامت بين حزب الاستقلال من جهة، وحزب الشورى والاستقلال
والحركة الشعبية من جهة ثانية. لقد كان مسؤولا عن فرع حزب الاستقلال في
مراكش، وعُرِف بتعايشه مع جميع ممثلي الأحزاب الأخرى بأدب ولطف وبنوع من
التفاهم الذي يوحي بالاطمئنان إليه. وبالتالي كان اختياره على رأس الحكومة
اختيارا صائبا. ربما لم يكن له آنذاك معرفة جيدة بشؤون الاقتصاد، لكن
حكومته كانت معزَّزة بالسيد عبد الرحيم بوعبيد الذي ربما كان يرى نفسه
الأحق برئاسة الحكومة، ولكن عُوّض له عن ذلك بتوليه منصب نائب الرئيس،
ووزير المالية والاقتصاد، خاصة وقد أُدمِجت في وزارة الاقتصاد مجموعة
وزارات كانت مستقلة في الحكومات السابقة مما جعله يُمسِك بعصب الحكومة.
* هل تعتقدون أن تعيين عبد الله إبراهيم رئيسا للحكومة كان يدخل ضمن استراتيجية القصر لإبراز تناقضات حزب الاستقلال ؟ـ القصر الملكي كانت له سياسته. وكان يعرف ما يريد. وما كان يصدر عنه لم
يكن اعتباطا، إلا أنني لا أميل إلى اعتبار تعيين عبد الله إبراهيم مناورة
للتفريق أو لتشتيت الصفوف داخل حزب الاستقلال. فصف حزب الاستقلال لم يكن
مرصوصا عندما نودي على عبد الله ابراهيم لرئاسة الحكومة.
* الملاحظ أن حكومة عبد الله إبراهيم تم فيها لأول مرة تعيين عسكري وزيرا للبريد، هو الكومندان محمد المدبوح. فما هي خلفيات تعيينه؟ـ ربما كان تعيينه يتلاءم مع مقتضيات طبيعة المرحلة. إذ ظل المغرب في حالة
هيجان واضطراب لمدة. واختار الملك للتغلب عليها سياسة الحزم. فقد يكون
الملك قد قصد من تعيين عسكري كبير في الحكومة الإشارة إلى أن الحكومة
ستسلك سبيل الحزم للقضاء على الاضطرابات والفوضى. علما أن المدبوح ينتمي
إلى منطقة هيجان آنذاك، ووجوده في الحكومة يعني إنهاء عهد تهميش مناطق
الاضطراب.وينبغي أن نلاحظ أن الملك لم يُسَلِّم إلى نزعة عبد الله إبراهيم وعبد
الرحيم بوعبيد وحدها أمر الحكومة، إذ جاءت تضم عناصر محسوبة على القصر
الملكي كان من بينها زيادة على العسكري المذبوح كل من محمد عواد في وزارة
الدفاع الوطني، وإدريس المحمدي وزير الداخلية، ومحمد باحنيني وزير العدل
والكاتب العام (الامين العام) للحكومة، ووزراء آخرين لم يكن بعضهم منخرطا
في حزب الاستقلال وبعضهم الآخر كان جَمَّد نشاطه فيه.
* هل لكم أن تقولوا لي ما لحكومة عبد الله إبراهيم وما عليها؟ـ لم أشارك في حكومة عبد الله إبراهيم ولا أعرف عنها إلا ما أعلنته هي
نفسها عن نشاطها. وقد كنت في عهدها في صميم العمل السياسي الوطني بطبيعة
الحال. وكان لي اتصال غير مباشر (أو من بعيد) مع النزعة التي أصبحت تُعرَف
بالجناح اليساري لحزب الاستقلال وكانت تريد إدخال التغيير على هيكلة
وتوجهات حزب الاستقلال والتي عُرفت بعد هذا بحركة (أو انتفاضة) 25 يناير
(كانون الثاني) 1959. وكنت أعلم عن الحكومة أنها مطمئنة إلى سند الملك،
وأنه راض عن تصرفاتها وسلوكها. ومع ذلك فهذه الحكومة لم يكن لها سند قوي.
فحزب الاستقلال كان يعارضها، والأحزاب الأخرى كانت تعتبرها مجرد طبعة
مكررة أو منقحة للحكومة المنسجمة. وقد انتهت مهمتها عندما طلب الملك محمد
الخامس من عبد الله إبراهيم أن يستقيل.
* وما هي إيجابيات حكومة عبد الله إبراهيم؟ـ إيجابياتها أنها حاولت أن تتصالح مع الشعب. فهي لم تأخذ الحكم من منطلق
أنها القوة السياسية الوحيدة التي يجب أن تأخذ السلطة وتستأثر بها. وكان
ذلك تحولا كبيرا. وهي قبلت أن تشارك في الحكومة مع عناصر غير منتمية ولم
تعارض في تعيينها على رأس وزارات حيوية وحساسة لم يُطلَق عليها آنذاك اسم
وزارات السيادة ولكنها اعتُبِرت كذلك. وفي الوقت نفسه أخذت الحكومة تتصل
بالقوات السياسية التي كانت تناوئ حزب الاستقلال وتعمل لاكتساب تأييدها.
وأكبر ما ميز حكومة عبد الله إبراهيم الذي كان أيضا وزير الخارجية
انفتاحها على أفريقيا والجامعة العربية وحركة عدم الانحياز، وتدابيرها
الاقتصادية الشجاعة التي كانت ترمي إلى تحرير الاقتصاد من التبعية
الفرنسية والتي كان عبد الرحيم بوعبيد منظِّرها ومطبِّقها.* في عهد حكومة عبد الله إبراهيم تم حظر الحزب الشيوعي. فما هي خلفيات هذا
الحظر؟ هل جاء من الحكومة أم من القصر خاصة أن الملك محمد الخامس كان
دائما يَحْذَر من العَلْمانيين؟
ـ الحظر لا يمكن أن ينسب إلى الملك محمد الخامس وحده. فتدبير سياسي مثل هذا لا يصدر إلا باتفاق الملك ورئيس الحكومة.المعروف عن الحزب الشيوعي أنه حزب عَلْماني ورث بنياته من الحزب الشيوعي
الفرنسي وأطلق على نفسه اسم الحزب الشيوعي المغربي. وأظن أنه صدرت عنه
غداة حله مقالات كانت تحمل طابع المجازفة وتجاوزت الحدود فأدين بسببها
وعجلت بحله.
«نصف قرن تحت مجهر السياسة» الحديث عن ذكرياته بشأن احداث ساخنة عاشها
المغرب في نهاية الخمسينات.ويتناول بوطالب تمرد عدي وبيهي محافظ اقليم (محافظة) قصر السوق (الراشيدية
حاليا) الظروف التي قام فيها التمرد، ودور الحسن اليوسي وزير الداخلية
آنذاك.وفي هذه الحلقة ايضا يتحدث بوطالب عن اسباب قيام احداث منطقة الريف ودور
محمد بن عبد الكريم الخطابي فيها، وتأسيس الحركة الشعبية بزعامتي المحجوب
احرضان والدكتور عبد الكريم الخطيب بالاضافة الى الظروف التي شكلت فيها
حكومة عبد الله ابراهيم.
* في 4 مايو (ايار) 1956 شرع حزب الاستقلال في ضرب حزبكم، واختفى آنذاك 17 شخصا من الدعاة الشوريين. فكيف واجهتم هذه المحنة؟ـ ابتدأت هذه المحنة ونحن داخل الحكومة الوطنية الأولى. وأذكر أن عبد
القادر بن جلون استعجلني هاتفيا من بيته ذات ليلة في شهر رمضان للحضور
عنده لأمر هام. ووجدت عنده شخصا بسيطا في هندامه من عامة الشعب وربما كان
أُمِّـيا على ما كان يبدو من حديثه اسمه إدريس الشرقاوي وأطلعنا على ورقة
تعريفه. كان يسكن مدينة سلا وكان يحمل مسدسا قال إنه سلمه إليه أحد خصومنا
السياسيين الذي أمره أن يترصدنا نحن الاثنين لقتلنا (وسماه باسمه ولا أود
أن أعلن عنه) وأخذ يبكي قائلا إنه لا يسمح له ضميره باغتيال الوطنيين،
وأنه فضل أن يعصي الأمر ويخبرنا بالحقيقة، وأنه مهدد بالموت في نفس الليلة
إذا لم ينفذ الأمر بقتلنا. وخرج من بيت بن جلون في ساعة متأخرة من تلك
الليلة. وما أن وصل إلى قنطرة سلا حتى أطلق عليه مجهول الرصاص وأرداه
قتيلا.أما عن جلد أنصارنا بدهاليز الشرطة في عهد المدير العام للأمن الوطني محمد
الغزاوي فقد عرف عدد من أعضاء حزبنا «ضيافات» خاصة في الدائرة السابعة
للأمن بالدار البيضاء. وكان على رأس الأمن الإقليمي بالمدينة إدريس
السلاوي الذي سيصبح فيما بعد وزيرا ومستشارا (زميلا لي) للملك الحسن
الثاني. وأذكر أننا كنا ما نزال في الحكومة عندما كانت تبلغنا أنباء عن
المعاملة القاسية التي كان يعامل بها السلاوي بعض أعضاء حزبنا في الدائرة
السابعة للشرطة، حيث كان يقال إنه كان يشرف على عمليات تعذيب الشرطـة
لأنصارنا بهذه الدائرة، وأننا حضرنا يوم الجمعة إلى مشور القصر الملكي
لمرافقة الملك محمد الخامـس إلى الصلاة. وبينما نحن ننتظر خروج الملك من
القصـر مَـرَّ محمد الغـزاوي وإدريـس السـلاوي عـلى الـوزراء لتـحيتهم ـ
وكنا وقفنا صفا واحدا ـ لكن أحمد بن سودة وزير الشبيبة والرياضة صرخ في
وجه السلاوي الذي مد يده لمصافحته وسمعه الوزراء الحاضرون: «لا تصافحُ يدي
يدَك التي جلدت الوطنيين الابرياء». وكانت تلك طبيعة بن سودة الذي لا
ينافق ولا يداهن ويتصرف بكل شجاعة. وعندما تزاملنا مستشارِين للملك الحسن
الثاني ارتبطنا (أنا وبن سودة) بعلاقة مودة مع زميلنا إدريس السلاوي
ونسينا ما كان بيننا وبينه من جفاء «فلا يحمل الحقدَ من تعلو به الرُّتَب».
* ألم تلتجئوا إلى الملك محمد الخامس ليحميكم من المضايقات التي حلت بكم في عهد حكومة حزب الاستقلال المنسجمة؟ـ في سنة 1957 وبعد أن بلغت الأحداث أشدها وخاصة أثناء حوادث الريف
واعتقال عدّي اوبيهي عامل (محافظ) اقليم (محافظة) قصر السوق (الراشدية
حاليا) وآخرين ذهبا في وفد من حزب الشورى والاستقلال إلى محمد الخامس
لنوضح له حقائق الأحداث وقدمنا له عنها مذكرة تفصيلية.وأتذكر هنا أنه كان يوجد ضمن الوفد أحمد بن سودة الذي ظل في البداية صامتا
لأن محمد بن الحسن الوزاني هو الذي تولى شرح الوضع للملك. ومن عادة بن
سودة أنه إذا تحدث رفع الصوت. وهو خطيب مفوَّه إذا تحدث في الجماهير خطب
وانفعل وأثّر. وتألم الملك محمد الخامس لذلك قائلا له: «اسكت يا سي بن
سودة، ما لك ترفع الصوت في مجلسي؟» ورغم ذلك استمر بن سودة في الكلام
مُفصِّلا ما كانت العصابات تقوم به من تصرفات. فقال له الملك: «اسكت إنهم
يسمعونك» في إشارة منه إلى المرحوم أحمد بناني الذي كان على رأس إدارة
التشريفات والأوسمة الملكية والذي كان قريبا من مجلس الملك بحيث كان يسمع
كلام بن سودة وكان بناني ينتمي إلى حزب الاستقلال. فكان رد بن سودة:
«فليسمعني أي كان منهم فأنا لا أبالي. وأنا أجهر بالحقيقة أمام جلالتكم».
فأخذ الملك سماعة الهاتف وضغط على أزرار ثلاثة أرقام، أو ما يسمى بالخط
الهاتفي الوزاري، وتحدث مع ولي العهد الذي كان موجودا آنذاك في القيادة
العليا للقوات المسلحة الملكية. وقال له: «يوجد عندي الآن السادة الشوريون
وهم قلِقون. وسيأتون إليك فاستقبلهم واستمع إليهم». وذهبنا إليه وتكلمنا
معه بكل صراحة وبتفاصيل عن الأحداث.
* وماذا كانت نتيجة لقائكم بولي العهد؟ـ قال ولي العهد لنا: «أنا على علم بما يجري. وأعلم أسباب ما يجري. ونحن
نتعامل مع هذا الوضع بكل حزم ولكن أيضا بكل حذر، لأننا لا نريد أن تقوم
فتنة في البلاد». وأضاف: «وإذا كنتم قد أُصبتم بما أُصِبتم به فإنني أقول
لكم بكل صراحة لكم خياران لا ثالث لهما. إما أن تصبروا وتقاوموا وقد
تضيعون في هذه المعركة وتجنون منها من الخسائر ما لا يمكنكم أن تتصوروه.
أما إذا عـزّ عليكم أن تصبروا فاخرجوا خارج البلاد واذهبوا إلى حيث
تشاءون، وانتظروا إلى أن تتغير الأوضاع إلى ما هو أحسن». هكذا قال لنا
الأمير مولاي الحسن بكل برودة. ولما خرجنا من عنده حلَّلنا كلامه
وقيّمناه. وأذكر هنا وبكل صراحة أننا في المكتب السياسي للحزب أخذنا كلام
ولي العهد بكل حذر، لأنه كان يقال عنه إن له انتماء إلى حزب الاستقلال.
وخامر الشك بعضنا في أنه قد يكون أراد أن ينحينا عن ميدان المعركة بالداخل
عندما وضع علينا التفكير في خيار مغادرة المغرب. وقررنا ألا نخرج وأن
نصمت. وتبين فيما بعد أنه كان صادقا معنا، لأن القصر الملكي أخذ بزمام
الأمور فيما بعد.ولوضع مبادرتنا إلى التوجه إلى الملك للتشكي في سياقها التاريخي أود أن
أقول إن هذا الاستقبال تم بعد 24 ساعة من اعتقال العامل (المحافظ) عدي
أوبيهي الأمر الذي جعل كلا من المحجوبي أحرضان والدكتور الخطيب والحسن
اليوسي وعددا كبير من الشخصيات الأمازيغية وغيرها يشعرون بأن السيل بلغ
الزُّبَى.
وفي هذه الأثناء أيضا وقعت حوادث الريف، وهي لم تكن ثورة على الملك كما لم يكن كذلك تمرد البوادي، بل ثورة على نمط الحكم القائم.وقد تحدث إلينا مرة الملك الحسن الثاني في الحاشية الخاصة عن حكومة
الانسجام التي ثارت عليها فصائل معارضيها على اختلاف انتماءاتهم فقال: «إن
الحاج أحمد بلافريج رئيس الحكومة ذهب عند الملك شاكيا من أن السلطة في
الأسفل لا تعين الحكومة في مهمتها، وأنها تشجع على الفوضى والتمرد على
الحكومة. وزاد قائلا: «نريد من جلالتكم أن تردوا للحكومة هَيْبتها» وكان
للملك محمد الخامس مقولات حكيمة ينطق بها فقال. «أنا أعطيتكم السلطة
كاملة، أما الهيبة فاطلبوها من الله فهو الذي يعطيها ولا أستطيع أن أعطيها
لكم».
* أخذ حزب الشورى والاستقلال يجتاز أزمة داخلية في القيادة بعد هذه الأحداث فهل كان الأمر يتعلق بفقدان الانسجام بينكم؟ـ المشكلة التي كنا نواجهها هي ما كان يعانيه الحزب من جمود في القيادة،
خاصة الأمين العام الوزاني الذي كان لا يسير مع شباب الحزب على وتيرة
سيرهم. وكان يتردد في اتخاذ قراراته. وكم كانت اجتماعاتنا تمتد وتطول ولا
تنتج بمقدار ما كنا نصرفه من الوقت في النقاش.وأذكر هنا أنه أثناء اجتماع للمكتب السياسي للحزب ببيتي في الدار البيضاء
ـ حيث كنا مطالَبين بالبت في قضايا مستعجلة لم يكن الوزاني متفقا معنا على
مقاربة حلها ـ صارحتُه بأن الحزب محتاج إلى تغيير طرائق عمله، وذهبت إلى
أبعد فدخلت معه في مُشادَّة صاخبة وهددت بانسحابي من الحزب إذا ما استمرت
حركتنا بطيئة حيث أصبحت ألاحظ أن الحزب مصاب بالشلل.
* تتحدثون عن مشادة صاخبة ولا تذكرون أسبابها. هل يمكنكم أن تحددوا أسباب هذه المشادة التي هددتم فيها بالانسحاب من الحزب؟ـ كنا دخلنا فترة أزمة ذاتية توزعنا فيها على شقين: شباب الحزب الطامح إلى
التغيير والقيام بوثبات لتحقيقه. وكان عبد القادر بن جلون من هذا الفريق
رغم فارق السن بينه وبين الشباب، وشق المحافظين الذين كان على رأسهم
الأمين العام للحزب الذي كان لا يساير في خطواته وتيرة سرعتنا. لكن النقطة
التي طفح معها الكأس وفجرت المشادة التي أشرت إليها هي مبادرتي أنا والأخ
بن سودة وعدد من أعضاء الحزب بتحويل جريدة «الرأي العام» لسان الحزب الذي
كان بن سودة مديرها من أسبوعية إلى يومية. وكانت هذه النقطة قد أثيرت من
لدنا في اجتماعات سابقة للمكتب السياسي للحزب. وكان الوزاني يستعظم هذه
الوثبة ويقول إن لإصدار جريدة يومية شروطا لا تتوفر لنا. وهي تتطلب إدارة
حازمة وخبرة بطبيعة الصحافة اليومية، وحضورا يوميا للمسؤولين عن إصدار
الجريدة، وفريق عمل متخصصا في إدارة اليوميات لا يوجد عندنا. وكان الوزاني
يقيم بفاس في بيته الخاص ولا يحضر إلى مركز الحزب بالدار البيضاء إلا عند
الاقتضاء. وكان يعتبر أن لا أحد منا في المكتب السياسي ممن كانوا يسكنون
الدار البيضاء يتوفر على المؤهلات التي يشترطها. ويرى نفسه المؤهَّل
الوحيد لإدارة جريدة يومية بحكم تخرجه من مدرسة العلوم السياسية بباريس
وتخصصه في الصحافة.لقد قررنا ـ بن سودة وأنا ـ أن نكسر طوق الجمود، وأعددنا كل ما يلزم
لإصدار الجريدة يوميا. ولما أعددنا العدد الأول للطبع اتصلنا بالوزاني
بفاس ليبعث لنا بافتتاحية العدد وأخبرناه بأن الجريدة ستصبح يومية فغضب
وامتنع عن المشاركة. لكننا أصدرنا أعدادا من الجريدة توليت كتابة
افتتاحياتها بإمضاء الرأي العام. فشد الوزاني الرحلة إلى الدار البيضاء
وانعقد اجتماع المكتب السياسي فحاكَمَنا الوزاني أمامه وأداننا باتخاذ
قرارنا منفردين، وحمل معه مجموعة أعداد الجريدة الصادرة وتصيَّد ما وقع
فيها من أخطاء مطبعية لا تسْلَم منها جريدة فوضع تحتها خطوطا باللون
الأحمر وأخذ يحاسبنا عليها. وطغى في تأويل توجهات بعض المقالات فثرت على
ما صدر منه وعبت عليه أن يفضل أسلوب الانتقاد لعملنا على تشجيعنا والتنويه
بما فعلناه. وهنا هددت بالانسحاب من الحزب إذا لم تتغير أساليب عمله وكان
الاجتماع في بيتي فلم أملك أن أنسحب منه محتجا.
* أفهم من كلامك أن مشاكل حزب الشورى والاستقلال لم يكن وراءها فقط حزب الاستقلال بل عوامل داخلية أيضا؟ـ هو كذلك. كنا نشكو من مضاعفات القمع الذي كان ينزل بقاعدة الحزب ومن خطر
تهديدنا في أرواحنا كما كنا نشكو من قيادة غير منسجمة. وكنت واحدا من
المجموعة التي كانت تتطلع إلى أن تتوفر للحزب هيكلة جديدة تتلاءم ومقتضيات
المرحلة المؤلمة التي كنا نجتازها.وأذكر أن عبد القادر بن جلون الذي كان يشغل منصب نائب الأمين العام للحزب،
وبعد أن حضر المشادة التي ألححتم عليَّ للكشف عن أسبابها عرض عليَّ أن
نعمل معا لتغيير قيادة الحزب قائلا: «أعلم أنني لا يمكن أن أكون الأمين
العام للحزب لأن القاعدة غير مستعدة لذلك. فما رأيك في تَسَلُّمِك قيادة
الحزب؟ فقد استطلعتُ رأي عدد من أطر الحزب ووجدت عندهم الاستعداد لقبولك
والعمل تحت قيادتك وأنا ألتزم أن أتعاون معك». فقلت له: «هذا ليس من
أخلاقي. ولا أستطيع بكل صراحة أن أفعل ذلك، لأن للوزاني حرمته عندي
ومكانته الوطنية ولا أود المس بهما. وعمَلٌ من هذا النوع هو انقلاب على
الشرعية التي لا نسعى لتقويضها بل فقط لإصلاحها». * بعد تكوين الحكومة الثانية التي لم يشارك فيها حزب الشورى والاستقلال،
بدأ حزب الاستقلال يُلوِّح بعد فترة قصيرة بورقة الاستقالة من الحكومة،
وبعث برسالة إلى الملك محمد الخامس حدد فيها موقفه من مبارك البكاي، اتهم
فيها هذا الأخير بالتعامل مع الحركة الشعبية والعمل على تحطيم وحدة
الحكومة. كيف نظرتم آنذاك إلى هذا الموقف الاستقلالي؟ـ حزب الاستقلال كان يؤمن أن أفضل الحكومات هي الحكومة المنسجمة التي
ينفرد فيها هو بالحكم. ولذلك كان يرغب في تشكيل حكومة منسجمة يريدها -كما
قال عنها- قوية قادرة على مواجهة الأزمات وحل المشاكل التي كانت تعاني
منها البلاد.* بعد رسالة حزب الاستقلال إلى محمد الخامس التي تحَفَّظ فيها على البكاي
قدم هذا الأخير استقالته. فهل كانت استقالة البكاي برغبة منه أم بطلب من
القصر؟ـ لم يكن للبكاي حزب يسنده. وحين أصبح الأمر مسألة معركة بين قوى حزبية
كان يعرف أنه لا يملك أن ينتصر فيها. وأعتقد أن البكاي أدرك أنه لو رأس
حكومة غالبيتها من حزب الاستقلال فسيكون رئيس حكومة لا وزراء له داخلها.
لذلك قد يكون استخلص النتائج لنفسه واستقال واتفق مع الملك على مغادرة
الحكومة.
* في عام 1957 وقع تمرد عدي وبيهي محافظ (عامل) إقليم قصر السوق (الراشدية حاليا). ما هي حقيقة وأسباب هذا التمرد؟ـ عدي وبيهي كان ينتمي إلى النزعة القبلية والعالم القروي قبل كل شيء ولم
تكن له ثقافة. والتمرد الذي قام به على الحكومة أثار غضب حزب الاستقلال
عليه، زيادة على كونه لم يكن يسمح لأعضاء هذا الحزب بالقيام بأنشطة حزبية
في محافظته (عمالته) فعُزِل من منصبه وحُكِم عليه بالسجن ثم بالإعدام.
لكنه طوَّر حركة معارضته للحكومة وقفز منها إلى التورط في حركة تمرد غير
شرعية لم يَحْسُب لعواقبها حسابها مما لم يسع القصر الملكي معه سوى عزله
من منصبه واعتقاله وتقديمه للمحاكمة أمام القضاء.
* ما حقيقة ما قيل من أن عدي وبيهي كانت لديه رغبة في إقامة جمهورية أمازيغية في المغرب؟ـ هذا غير صحيح. إن الملكية في المغرب لم تكن في وقت من الأوقات موضوع
نزاع أو خلاف بين المغاربة . كان المغاربة على اختلاف نزعاتهم يرون في
النظام الملكي رابطة توحيد المغرب ورمز الشرعية التاريخية. وازدادت
الملكية شعبية بعد ثورة الملك والشعب وعودة السلطان إلى عرشه حاملا
الاستقلال والحرية.وكان وبيهي معروفا بولائه للعرش وتعلقه بشخص الملك. وكان الأمر كذلك فيما
يخص البطل المجاهد عبد الكريم الخطابي حينما كان يكافح الاستعمار الفرنسي
والإسباني في منتصف العشرينيات من القرن الماضي. وكانت فرنسا تدُسُّ له
لدى السلطان مولاي يوسف وتقول إنه متمرد على العرش وثائر وطامع في إقامة
جمهورية . وكانت الإقامة العامة تنعته بـ«الروكي» أي المتمرد على شرعية
الملكية. والاتهام بـ«الروكية» والتمرد على السلطان والخروج عن طاعة «ولي
الأمر» معروف في التاريخ المغربي هي تهم تتجدد وتتنوع أشكالها بحسب حقب
التاريخ. فكل من كان يراد المس به كان يُتَّهَم بالروكية أو التمرد على
السلطان وإحداث الفتنة أو الإلحاد أو سب الدين.* بصرف النظر عن الاتفاق مع أفكار عدي وبيهي أو الاختلاف معها هل تعتقد أن
وبيهي كان شاعرا بما يفعله أم أنه كان مجرد صنيعة مدفوعة من جهات معينة؟ـ أنا لم أتعرف عليه قط، وإن كانت له اتصالات مع بعض قادة حزب الشورى
والاستقلال. أعتقد أنه كان يمثل التفكير القبلي المتحجر، ولم يتأقلم مع
عهد تنظيم الحكم وكانت له غريزة التعلق بالسلطة. وهي التي دفعته إلى
الجرأة على التمرد على الحكومة بأساليب مخالفة للقانون وغير مقبولة في
النظام العصري.وعندما كان يقال إن حزب الاستقلال يريد أن يستأثر بالحكم والسلطة ويكون
الولاة والوزراء منه وحده كان ذلك يثير لدى بعض رجال السلطة وخاصة رجال
القبائل حزازات أو مخاوف كانت تدفعهم إلى مناهضة الحكومة. وعدي وبيهي أبعد
في المعارضة إلى حد الخروج على القانون.
* ما هو دور ولي العهد آنذاك في إخماد تمرد عدي وبيهي؟ـ قام ولي العهد بدوره بوصفه المكلف الدفاع الوطني والساهر على أمن البلاد
بانب والده، بمعنى أنه قام بما كانت تلقيه عليه المسؤولية من أعباء ببالغ
الحزم ومنتهى الصرامة. وبالفعل نجح في إخماد الاضطرابات. ولا أظن أنه كان
يؤمن بأنها ثورات ضد والده. بل كان يؤمن بـأنه لا يمكن أن يجتمع في سياق
واحد بين منطق مسؤولية الملك وبين منطق الثورة والإخلال بالاستقرار. وكان
وفيا لهذا المبدأ وواعيا بدوره فيه. كما أنه كان بحكم منصبه عدوا لكل
اضطراب وفوضى، ومؤمنا بأن الأسبقية يجب أن تُولىَ لاستتباب الأمن وتثبيت
الاستقرار. وبطبيعة الحال كان منطقيا أن يناهض من يدخلون في صراع مع
الحكومة التي تستمد شرعيتها من ثقة والده الملك.
* وما مدى تأثير الحسن اليوسي على وبيهي للقيام بتمرده؟ـ اليوسي كان في أول الأمر متضامنا معه ورفَضَ المساسَ به وعزْلَه من
منصبه وإلقاء القبض عليه. وكان يشغل منصب وزير التاج وهما معا كانا
ينتميان إلى ثقافة واحدة. ولم يكن اليوسي ليقبل أن تُمَس الباديةُ في شخص
أحد ولاتها وقادتها. وكان يرى نفسه حليفا موضوعيا لقادة العالم القروي
التاريخيين ومن بينهم وبيهي. لكن اليوسي عندما لاحظ أن وبيهي تجاوز حدود
المعارضة تبرأ منه بعد أن اتصل به هو والشيخ محمد بن العربي العلوي وزير
التاج أيضا في مدينة ميدلت(الاطلس المتوسط).
* في سنة 1959 حُكم بالإعدام على وبيهي. بيد أنه مات مسموما في زنزانته. فمن هي في نظرك الجهة التي كانت وراء قتله؟ـ بكل موضوعية لا أستطيع أن أرد على سؤالك. فأنا أجهل كل شيء عن ظروف
وفاته. على كل حال لقد عقَّدت وفاته الأمور. قد يكون الرجل مات موتا
طبيعيا إذ ربما لم يتحمل الإهانة التي تعرض لها. ومن أجل التعلق بالسلطة
مات الكثيرون من رجال السلطة عندما فقدوها بمجرد تنحيتهم عن السلطة فأحرى
إذا حُكم عليهم بالإعدام وكانوا ينتظرون الموت. وفي المغرب تتردد حكمة
معروفة تقول: «الكَلْمةُ روح». كانت هذه الحكمة تقال عن سلطة المخزن التي
كان يُطلَق عليها اسم الكَلْمة أي الكَلِمة، لأنه لا أحد كان يُعزَل أو
يُعيَّن في منصب بقرار مكتوب. كل شيء كان يتم بالكَلْمة: «اعزلوا هذا،
ضعوا في السجن هذا، صادروا أموال ذاك». فكان صاحب الكلمة هو صاحب السلطة.
فالسلطة والكلمة مترادفتان في لغة المخزن (الحكومة القديمة) وفي عهد سيادة
الأمية. وكان بعض رجال السلطة إذا فقدوا الكلمة فقدوا الحياة لسبب أو آخر.
* تشكلت الحكومة المنسجمة في مايو (ايار) 1957، واستمرت حتى 3 ديسمبر
(كانون الثاني) 1958. وضمت أغلبية الوزراء الاستقلاليين ووزيرين مستقلين
هما عبد المالك فرج وزير الصحة، والبشير بن العباس وزير الشغل. ما هي
خلفية الاكتفاء بوزيرين مستقلين فقط في الحكومة؟ـ عبد المالك فرج كان وزيرا للصحة في الحكومة الأولى التي شاركتُ فيها. ذو
ثقافة فرنسية، وله تصورات ثورية إلى حد ما. لكنه هو والبشير بن العباس
التعارجي كانا قريبين إلى حزب الاستقلال. وكان الحزب يعتبرهما من فصيلته
السياسية. في الحقيقة كانت الحكومة منسجمة بصرف النظر عن كون اثنين من
أعضائها لم يعلنا عن انتمائهما إلى حزب الاستقلال.* بعد تشكيل الحكومة المنسجمة كيف نظرتم في حزبكم إلى استجابة القصر
لمطالب حزب الاستقلال ؟ هل اعتبرتم ذلك «تكتيكا» من القصر أم عملا
استراتيجيا ستبرز نتائجه فيما بعدُ عكس ما كان يتوقعه حزب الاستقلال؟ـ نحن لم نفاجأ بنهاية المسلسل إلى حكومة منسجمة على رأسها الأمين العام
لحزب الاستقلال. كنا نعرف أن المسلسل ابتدأ منذ خروجنا من الحكومة الأولى،
وأن النهاية ستكون الحكومة المنسجمة. وربما عندما استقبلَنا الأمير ولي
العهد مولاي الحسن بوزارة الدفاع الوطني ـ كما ذكرتُ لك من قبل ـ وقال
لنا: «اخرجوا إلى الخارج إن شئتم أو انتظروا ....» كنا نفهم أن الأمور
تتجه إلى إرضاء حزب الاستقلال فيما يطالب به من الاستفراد بالحكم. لذلك لم
يكن إسناد رئاسة الحكومة إلى أحمد بلافريج مفاجأة لنا.بيد أن تشكيل الحكومة المنسجمة ألقى على حزب الاستقلال مسؤولية صعبة لأنه
دخل مرحلة اختبار لقدرته على تحمل الحكم وحده. وربما يكون القصر قد اضطر
إلى الاستجابة لمطلبه ليضعه في هذا الاختبار العسير. وكانت النتيجة أن
الأزمات اشتدت أكثر مما كانت عليه، وأن الحكومة واجهت الكثير من الصعوبات
والأزمات حتى إنه يقال إن محمد الخامس لم يكن راضيا عن أسلوب أدائها، وأنه
أطال المكث خارج البلاد احتجاجا على بعض التصرفات ولم يعد إلى المغرب إلا
بعدما ألحت عليه الحكومة للتعجيل بالعودة وبعثت إليه الوسطاء.* يقال إن القصر ربما ناور حينما عين بلافريج وزيرا أول. وقيل وقتذاك إن
بلافريج كان ولاؤه بالدرجة الأولى للقصر قبل ولائه للحزب. فما تعليقك؟ـ لست مطلعا على أسرار حزب الاستقلال. فهو الوحيد الذي يعلم أسراره وأهل
مكة أدرى بشعابها. بيد أني قرأت ما قلتَه فيما كُتِب عن تلك المرحلة وعن
أوضاع حزب الاستقلال فيها. ومع ذلك فما تزال المعلومات لم تتوفر لمن يريد
أن يقوم بتحليل نقدي وموضوعي للوقائع التي عرفتها المرحلة.وبالنسبة لكلمة «يناور» التي استعملتَها أنا لا أستعملها وبكل إنصاف
وموضوعية في حق الملك محمد الخامس. فهو لم يكن مناورا بما قد تفيده الكلمة
من تحايل ومكر، لكنه كان يحكم ويختار من أساليب الحكم ما يرسِّخ وحدة
المغرب حول العرش . وكل ما هناك أنه حصل فعلا ما كان يمكن أن يحصل. إذ
تبين أن انسجام الحكم ليس هو الحل الوحيد لمشاكل المغرب ولا العصا السحرية
لإخراجه من الأزمات. لذلك كان عمر الحكومة المنسجمة قصيرا، وتم النداء على
علال الفاسي أوَّلا لتشكيل حكومة لم تر النور، ثم على عبد الله إبراهيم
لتشكيل حكومة جديدة.بقي أن أضيف إلى أن تمحص الحاج أحمد بلافريج لخدمة القصر لم يتم في عهد
الملك محمد الخامس بل في عهد الملك الحسن الثاني وخاصة بعد أن تفاقمت
الفجوة بينه وبين علال الفاسي رئيس الحزب، تلك الفجوة التي تجلت في
انسحابه ـ وهو الأمين العام للحزب ـ من المؤتمر العام للحزب احتجاجا بعد
أن ألقى خطابه.* قبل تشكيل حكومة عبد الله إبراهيم اندلعت ثورة الريف. فهل كانت أحداث
الريف بوحي من محمد عبد الكريم الخطابي؟ وهل كانت موجهة ضد الحكم المركزي
الذي كان يجهل خصوصيات المنطقة فارتكب أخطاء إدارية؟ أم كانت الثورة موجهة
ضد حزب الاستقلال؟ وكيف عولجت أزمة الريف؟ـ لم تقم ثورة الريف للإطاحة بالملكية بالمغرب أو التمرد عليها. منطقة
الريف كانت مهمَّشة في عهد حكومات الاستقلال، زيادة على ارتكاب خطأ فَرْضِ
اللغة الفرنسية على منطقة الشمال وتنحية اللغة الإسبانية التي كانت
الثانية في المنطقة الخليفية(الشمالية) بعد العربية. كما لم يلتحق بعد
الاستقلال بالحكومة والسفارات والدوائر الحكومية مواطنون من هذه المنطقة.الحكومات المغربية المتوالية تصرفت كما لو كانت المنطقة الخليفية إنما
أُدمِجت في المنطقة السلطانية (الجنوبية) دون مراعاة لخصوصياتها. ومما لا
شك فيه أن هذه السياسة (أو اللاسياسة) طالت منطقة الريف أيضا وكان لسكانه
رد فعل عنيف إزاءها.حوادث الريف كانت احتجاجية لإسماع صوت الريف المهمَّش المنسِيّ . ولم يكن
الزعيم محمد عبد الكريم الخطابي ضالعا فيها لسبب وحيد هو أنه تولى قبل
أحداث الريف بنفسه تكذيب التهمة الموجهة إليه بأنه ثار على النظام الملكي
وذلك عندما استقبلني في سنة 1950 بمنزله بالقاهرة وأدلى إليَّ بحديث نشرته
في كتابي «ذكريات وشهادات ووجوه». وهو حديث احتفظتُ به لأنه لم تكن لنا
عندما تلقيته منه صحف لنشره. قال فيه: «إن منطقة الريف لم يكن لها مطلقا
أي نزوع للتمرد على سلطة السلطان. وأن الثورة التي قادها في منتصف
العشرينيات من القرن العشرين كانت للتحرر والانعتاق من سلطة الأجنبي.
والدليل على ذلك أنه حارب استعمارين كان من الممكن أن يستفيد من تأييد
أحدهما ضد الآخر. ولكنه حاربهما معا في آن واحد. ولم يكن له حقد على الملك
أو على الملكية بل قال إن الثورة كانت لتحرير المغرب من حمايتي فرنسا
وإسبانيا معا». لذلك فأنا أبرئ الخطابي من أن يكون ضالعا في حركة التمرد
التي وقعت في الريف أو مُحرِّضا عليها. ثم إن الخطابي وأعضاء أسرته زاروا
الملك محمدا الخامس بالقاهرة أثناء زيارته الرسمية لمصر قبل اندلاع أحداث
الريف وجددوا له البيعة ملكا على المغرب وارتبطوا معه بعهد وميثاق وماتوا
على الولاء للعرش والإخلاص للملك.* خلال نفس الفترة تم الإعلان عن تشكيل الحركة الشعبية بزعامتي المحجوبي
أحرضان وعبد الكريم الخطيب وتم منعها بقرار حكومي. وتلا ذلك اعتقال أحرضان
والخطيب في "أَجْدير في أكتوبر1958. كيف نظرتم آنذاك إلى تشكيل هذا الحزب
الجديد؟ـ كنا سعداء لأن التعددية الحزبية التي كنا نؤمن بها أصبحت أكثر من تعددية
ثنائية. لذلك رحبنا بالحركة الشعبية وتعاونا معها ضمن هيأة التنسيق
والتشاور التي جَمعَتْنا. وكانت تضم حزب الشورى والاستقلال والحركة
الشعبية وشخصيات مستقلة كان من بينها البكاي، وحضرها مرة أحمد رضا كديرة
نائبا عن الأحرار المستقلين. وقد عقدت هيأة التنسيق هذه اجتماعا لها مرة
ببيتي بالدار البيضاء في ظروف سياسية صعبة بالنسبة لنا جميعا. وكنا في هذه
الفترة نعاني الاضطهاد ومهدَّدين بمخاطر بما فيها اغتيالنا. وقد حضر إلى
هذا الاجتماع الحسن اليوسي وحمل لي معه صدريةً واقية من الرصاص أهداها لي
وكان يحمل مثلها فكنت أحملها طول فترة تهديدنا بالاغتيال.
* بعد تشكيل الحكومة المنسجمة سرعان ما بدأت التناقضات الداخلية داخل حزب الاستقلال تبرز. هل لك أن تعطي لنا صورة عنها؟ـ سأقول لكم ما قد لا تصدقونه. عندما كنا نسمع عن أزمة التناقضات التي
فجرت حزب الاستقلال شقين كنا نحن في حزب الشورى والاستقلال نمر بأزمة
ذاتية شبيهة حدثتكم عن بعض مظاهرها من قبل . فكما كانت قيادات في حزب
الاستقلال تنتقد الزعامات التاريخية، كان لنا نفس التوجه في حزبنا. كنا لا
نريد أن يكون لزعيم حزبنا سلطة مطلقة على الحزب. وكنا نتقَزَّز من كلمة
«الزعيم» التي كنا نرى فيها مرادفا لكلمة «الفوهرير» الألمانية. وبالفعل
تجاوزنا نحن ـ قبل حزب الاستقلال عندما أسسنا حزب الشورى والاستقلال ـ
مرحلة تنصيب الزعيم على قمة الحزب. وحتى كلمة رئيس تجنبناها فأصبح لحزبنا
أمين عام له نائب. أما في حزب الاستقلال فقد استمرت لفترة غير قصيرة
ازدواجية وجود علال الفاسي كرئيس للحزب وأحمد بلافريج كأمين عام له.وكانت قد جرت بيننا وبين النزعة التي يمثلها عبد الرحيم بوعبيد والمهدي بن
بركة اتصالات ابتدأتها شخصيا بواسطة عبد الحي العراقي الذي كان يمثل حزب
الشورى والاستقلال في المجلس الاستشاري الذي كان يرأسه بن بركة. وكان بن
بركة يُسِرُّ إلى بعض محدثيه بما وصلت إليه الأمور داخل حزب الاستقلال،
ويعيب على قيادته الانفراد بسلطة القرار وتمجيد الزعماء وعدم قبول الأحزاب
الأخرى. آنذاك ابتدأت داخل حزب الاستقلال أزمة التناقضات التي بقيت سرا
ولم تطْفُ على السطح. وعندما كانت تبلغني أصداؤها كنت أقارنها بما كان
يجري داخل حزبنا وأجدها تؤلف قاسما مشتركا بيننا وبين الجماعة الاستقلالية
التي كانت تعمل للتغيير. وفعلا لم يكن أحد يتصور أن أبعث برسائل شفوية إلى
المهدي بن بركة أو يبعث لي رسائل بواسطة عبد الحي العراقي ونحن في جو
القطيعة. لقد كانت بيننا فجوة يصعب ردمها. إلا أننا كنا نحس أن شيئا ما في
طريقه إلى المخاض داخل حزب الاستقلال. وكنا أيضا نتطلع إلى مخاض آخر في
حزبنا قبل أن تلتقي جهودنا مع النزعة الجديدة في حزب الاستقلال على العمل
المشترك. وهذا ما سهل الأمر علينا.وأظن أن الذي زاد الشرخ تفاقما داخل حزب الاستقلال هو تولي فصيلة منه
برئاسة عبد الله إبراهيم مقاليد الحكومة مما أصبح معه الحزب يعارض نفسه.
ولا شك أن الملك محمدا الخامس كان على إطلاع على أزمة حزب الاستقلال، وأنه
أراد أن يحقق التناوب على الحكم بين فصيلتيه.
* كيف وصل عبد الله إبراهيم إلى رئاسة الحكومة؟ وما هي ظروف تشكيلها؟ـ أظن أن عبد الله إبراهيم كان مرشحا من السيد المحجوب بن الصديق الأمين
العام للاتحاد المغربي للشغل (اتحاد عمالي) وكان بينهما تعاطف ما يزال
ممتدا إلى اليوم . وكان بن الصديق من الثائرين على الزعماء التقليديين
لحزب الاستقلال. وكان المطروح هو تشكيل حكومة استقلالية بديلة لكن بوجوه
أخرى غير الزعماء التقليديين أمثال بلافريج وبن عبد الجليل، ومحمد
اليزيدي، مع الاحتفاظ بزعيم آخر كان آنذاك من الشباب التقدميين هو عبد
الرحيم بوعبيد الذي عين نائبا لرئيس الحكومة ووزيرا للاقتصاد الوطني فقدم
الاتحاد المغربي للشغل اسم عبد الله إبراهيم لرئاسة الحكومة. وكان يرى فيه
صورة النقابي الملتـزِم أكثر مما يرى فيه صورة الحزبي التقليدي.
* بالإضافة إلى دعم بن الصديق، كيف كان القصر الملكي ينظر إلى عبد الله إبراهيم وقتذاك؟ـ كان القصر الملكي ينظر إليه نظرة عطف. فالرجل هادئ الطبع يهمس أكثر مما
يرفع الصوت. وهو من السياسيين الذين كانوا يتميزون بسعة الأفق والقدرة على
حسن التعايش. ولم يكن متطرفا ولا يُعلَم عنه أنه تورط في أحداث أثناء
الأزمة التي قامت بين حزب الاستقلال من جهة، وحزب الشورى والاستقلال
والحركة الشعبية من جهة ثانية. لقد كان مسؤولا عن فرع حزب الاستقلال في
مراكش، وعُرِف بتعايشه مع جميع ممثلي الأحزاب الأخرى بأدب ولطف وبنوع من
التفاهم الذي يوحي بالاطمئنان إليه. وبالتالي كان اختياره على رأس الحكومة
اختيارا صائبا. ربما لم يكن له آنذاك معرفة جيدة بشؤون الاقتصاد، لكن
حكومته كانت معزَّزة بالسيد عبد الرحيم بوعبيد الذي ربما كان يرى نفسه
الأحق برئاسة الحكومة، ولكن عُوّض له عن ذلك بتوليه منصب نائب الرئيس،
ووزير المالية والاقتصاد، خاصة وقد أُدمِجت في وزارة الاقتصاد مجموعة
وزارات كانت مستقلة في الحكومات السابقة مما جعله يُمسِك بعصب الحكومة.
* هل تعتقدون أن تعيين عبد الله إبراهيم رئيسا للحكومة كان يدخل ضمن استراتيجية القصر لإبراز تناقضات حزب الاستقلال ؟ـ القصر الملكي كانت له سياسته. وكان يعرف ما يريد. وما كان يصدر عنه لم
يكن اعتباطا، إلا أنني لا أميل إلى اعتبار تعيين عبد الله إبراهيم مناورة
للتفريق أو لتشتيت الصفوف داخل حزب الاستقلال. فصف حزب الاستقلال لم يكن
مرصوصا عندما نودي على عبد الله ابراهيم لرئاسة الحكومة.
* الملاحظ أن حكومة عبد الله إبراهيم تم فيها لأول مرة تعيين عسكري وزيرا للبريد، هو الكومندان محمد المدبوح. فما هي خلفيات تعيينه؟ـ ربما كان تعيينه يتلاءم مع مقتضيات طبيعة المرحلة. إذ ظل المغرب في حالة
هيجان واضطراب لمدة. واختار الملك للتغلب عليها سياسة الحزم. فقد يكون
الملك قد قصد من تعيين عسكري كبير في الحكومة الإشارة إلى أن الحكومة
ستسلك سبيل الحزم للقضاء على الاضطرابات والفوضى. علما أن المدبوح ينتمي
إلى منطقة هيجان آنذاك، ووجوده في الحكومة يعني إنهاء عهد تهميش مناطق
الاضطراب.وينبغي أن نلاحظ أن الملك لم يُسَلِّم إلى نزعة عبد الله إبراهيم وعبد
الرحيم بوعبيد وحدها أمر الحكومة، إذ جاءت تضم عناصر محسوبة على القصر
الملكي كان من بينها زيادة على العسكري المذبوح كل من محمد عواد في وزارة
الدفاع الوطني، وإدريس المحمدي وزير الداخلية، ومحمد باحنيني وزير العدل
والكاتب العام (الامين العام) للحكومة، ووزراء آخرين لم يكن بعضهم منخرطا
في حزب الاستقلال وبعضهم الآخر كان جَمَّد نشاطه فيه.
* هل لكم أن تقولوا لي ما لحكومة عبد الله إبراهيم وما عليها؟ـ لم أشارك في حكومة عبد الله إبراهيم ولا أعرف عنها إلا ما أعلنته هي
نفسها عن نشاطها. وقد كنت في عهدها في صميم العمل السياسي الوطني بطبيعة
الحال. وكان لي اتصال غير مباشر (أو من بعيد) مع النزعة التي أصبحت تُعرَف
بالجناح اليساري لحزب الاستقلال وكانت تريد إدخال التغيير على هيكلة
وتوجهات حزب الاستقلال والتي عُرفت بعد هذا بحركة (أو انتفاضة) 25 يناير
(كانون الثاني) 1959. وكنت أعلم عن الحكومة أنها مطمئنة إلى سند الملك،
وأنه راض عن تصرفاتها وسلوكها. ومع ذلك فهذه الحكومة لم يكن لها سند قوي.
فحزب الاستقلال كان يعارضها، والأحزاب الأخرى كانت تعتبرها مجرد طبعة
مكررة أو منقحة للحكومة المنسجمة. وقد انتهت مهمتها عندما طلب الملك محمد
الخامس من عبد الله إبراهيم أن يستقيل.
* وما هي إيجابيات حكومة عبد الله إبراهيم؟ـ إيجابياتها أنها حاولت أن تتصالح مع الشعب. فهي لم تأخذ الحكم من منطلق
أنها القوة السياسية الوحيدة التي يجب أن تأخذ السلطة وتستأثر بها. وكان
ذلك تحولا كبيرا. وهي قبلت أن تشارك في الحكومة مع عناصر غير منتمية ولم
تعارض في تعيينها على رأس وزارات حيوية وحساسة لم يُطلَق عليها آنذاك اسم
وزارات السيادة ولكنها اعتُبِرت كذلك. وفي الوقت نفسه أخذت الحكومة تتصل
بالقوات السياسية التي كانت تناوئ حزب الاستقلال وتعمل لاكتساب تأييدها.
وأكبر ما ميز حكومة عبد الله إبراهيم الذي كان أيضا وزير الخارجية
انفتاحها على أفريقيا والجامعة العربية وحركة عدم الانحياز، وتدابيرها
الاقتصادية الشجاعة التي كانت ترمي إلى تحرير الاقتصاد من التبعية
الفرنسية والتي كان عبد الرحيم بوعبيد منظِّرها ومطبِّقها.* في عهد حكومة عبد الله إبراهيم تم حظر الحزب الشيوعي. فما هي خلفيات هذا
الحظر؟ هل جاء من الحكومة أم من القصر خاصة أن الملك محمد الخامس كان
دائما يَحْذَر من العَلْمانيين؟
ـ الحظر لا يمكن أن ينسب إلى الملك محمد الخامس وحده. فتدبير سياسي مثل هذا لا يصدر إلا باتفاق الملك ورئيس الحكومة.المعروف عن الحزب الشيوعي أنه حزب عَلْماني ورث بنياته من الحزب الشيوعي
الفرنسي وأطلق على نفسه اسم الحزب الشيوعي المغربي. وأظن أنه صدرت عنه
غداة حله مقالات كانت تحمل طابع المجازفة وتجاوزت الحدود فأدين بسببها
وعجلت بحله.
بديعة- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 6241
العمر : 39
Localisation : الدارالبيضاء
Emploi : موظفة
تاريخ التسجيل : 03/04/2008
5-التقيت الرئيس عبد الناصر ولم يكن حاقدا على سورية وقال لي «ربما كان في الوحدة المستعجلة شيء من الارتجال»
رفضت دمشق وساطة السفيرالطريس لأنه كان حسب اعتقادها رجل عبد الناصر * عينني الحسن الثاني سفيرا لدى سورية وقال لوزير خارجيته «ستكون العلاقة بيني وبين بوطالب مباشرة، وجميع تقاريره سترد على الديوان الملكي» في هذه الحلقة من حوارات «نصف قرن تحت مجهر السياسة» يحكي عبد الهادي بوطالب ظروف تعيينه سفيرا في سورية. والوساطة التي قام بها بين مصر جمال عبد الناصر وسورية ناظم القدسي، وطبيعة المطالب السورية والمصرية. كما يتناول ايضا معايشته لانقلاب الجنرال عبد الكريم زهر الدين الذي اطاح بنظام القدسي. ويتحدث بوطالب كذلك عن انتهاء مأموريته في سورية وتعيينه وزيرا للاعلام. * انتقلتم أنتم وعدد من أطر حزبكم إلى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وساهمتم في تأسيسه. فهل كان اختياركم واعيا ومسؤولا ومدروسا؟ـ عندما عقدنا المؤتمر التأسيسي للاتحاد الوطني يوم الأحد سادس سبتمبر (ايلول) 1959 في قاعة سينما الكواكب بالدار البيضاء كان اختيارنا واعيا ومدروسا. وقد كنا ثلاثة من حزب الشورى والاستقلال: أحمد بن سودة، والتهامي الوزاني، وعبد الهادي بوطالب أعضاء في الأمانة العامة الجماعية للاتحاد. وقد دخلنا في مرحلة تأسيس الاتحاد بعد أن جرت ـ بيننا وبين المنتفِضين في حزب الاستقلال على زعامتهم ـ مفاوضات امتدت عدة أسابيع تمثلت في اجتماعات بيني وبين بن بركة. وكنا نتبادل الرأي خلالها عن الخطوط الأساسية لبرنامج الاتحاد. والتقينا على اعتماد النهج الديمقراطي وتطوير الملكية إلى ملكية دستورية برلمانية عصرية، وعلى رفع وصايا الزعامات على الحركة الوطنية، وتركيز سلطة الاتحاد في القواعد الشعبية، وعلى متابعة النضال لتحرير المغرب من التبعية الاقتصادية وتحرير ترابه من القواعد العسكرية الأجنبية. كما اتفقنا على أن لا يكون للاتحاد لا رئيس ولا زعيم ولا أمين عام. كنت أنقل إلى المكتب السياسي لحزبنا تفاصيل جلسات العمل التي كنت أعقدها مع بن بركة. وخاصة كنت أُطلِع الأمين العام الوزاني ونائبه عبد القادربن جلون على دقائق ما جرى بيني وبينه. وكان الأمر مفاجأة للجميع. إذ كان التطور الذي طرأ على شركائنا في الاتحاد المقبل يثير الانتباه ويدعو إلى مصافحة اليد التي امتدت إلينا.لكن بعض أعضاء المكتب السياسي تحفظ وتساءل: ألا يكون المهدي إنما أراد أن يستميلنا إليه بإبداء اتفاقه معي على البرنامج الذي كان برنامجنا؟ وتساءل هؤلاء أية ضمانات يقدمها المهدي لوفائه هو ورفاقه لهذا البرنامج؟ ولم يكن سهلا أن يمحو جميع أعضاء المكتب السياسي من الذاكرة خلافنا مع حزب الاستقلال الذي امتد ربع قرن.ورغم ذلك استمرت لقاءاتي بالمهدي وتقدمنا في ضبط هيكلة الاتحاد وإجراءات تنظيماته. فالاتحاد سيتألف من بن بركة ورفاقه الذين انتفضوا على الزعامة التقليدية لحزبهم، ومن حزب الشورى والاستقلال، ومن حركة المقاومة وجيش التحرير، والاتحاد المغربي للشغل. كما اتفقنا على أن تكون قيادة الاتحاد جماعية تتمثل فيها الفصائل الأربع المذكورة وتحمل اسم «هيئة الأمانة العامة للاتحاد». وكانت تضم أحد عشر عضوا أو أمينا عاما وهم المهدي بن بركة، وعبد الرحمن اليوسفي، وعبد الهادي بوطالب، وأحمد بن سودة، والتهامي الوزاني، والفقيه محمد البصري، وحسن صفي الدين، والمحجوب بن الصديق، ونائبه الطيب بوعزة. * وكيف تابعتم حواركم مع أعضاء المكتب السياسي في موضوع مشاركتكم في الاتحاد الوطني؟ـ بعد أن اقترحتُ على المكتب السياسي لحزب الشورى إرجاء البت في اقتراح بن بركة إلى حين تأسيس الاتحاد قاطع محمد بن الحسن الوزاني الاجتماع. واعتبر ـ كما أوحى إليه بذلك أحد الشخصيتين المعتَرض عليهما- أن قبوله اقتراح المهدي ودخوله في الاتحاد الوطني كأحد الأمناء العامين الأحد عشر هزيمة لحزبه وتقويض لمجده كزعيم وطني تاريخي وكمؤسس للحركة الوطنية. وتأثر الوزاني بذلك وجاء في اجتماع آخر ليبلغنا رفض الحزب المشاركة في تأسيس هذا الاتحاد.وطلب مني ومن التهامي الوزاني وأحمد بن سودة أن نكف عن الاتصال بالآخرين وإلا فإنه سيعلن طردنا من الحزب. وكان جوابي بنفس الحدة: «إن المفاوضات تمضي إلى غايتها دون أن يقع بيننا وبين من نفاوضهم خلاف على الأسس والمبادئ والبرامج، فإذا كنتم (السيد الأمين العام) تتشبثون بهذا الموقف بسبب وقوع خلاف على ترشيح شخصين فأنا أخبركم أنني سأتابع هذه المفاوضات باسمنا الخاص وبأننا لن نُقبِر المشروع الذي نؤمن جميعا بصلاحيته.ولما انصرف الوزاني أصدر بيانا أعلن فيه طردنا ـ نحن الثلاثة ـ من حزب الشورى والاستقلال. وعندما عقدنا الجمع التأسيسي للاتحاد الوطني في سينما الكواكب بالدار البيضاء تناولت الكلمة دون أن أشير إلى أننا دخلنا الاتحاد باسم حزب الشورى والاستقلال، أو أننا نمثله في الاتحاد.أذكر أنني خرجت رفقة بن بركة في رحلة استمرت 17 يوما عبر المغرب من أقصاه إلى أدناه على متن سيارة المهدي من نوع «جاغوار» كان يقودها سائقه لضم فروع حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال عبر المغرب، أي القواعد التي كانت ترغب في الالتحاق بالاتحاد الوطني للقوات الشعبية. وأذكر أننا عبرنا المغرب من وجدة والناظور ومنطقة الشمال والريف إلى مراكش وطرفاية والمناطق المحررة كما كنا نتلقى انخراطات فروع حزب الاستقلال الراغبة في الانضمام إلى الاتحاد وانخراطات أعضاء حزب الشورى والاستقلال. وكنا نؤلف بين أعضاء الحزبين ليعملوا في خلية واحدة. وقد وضع أحمد بن سودة جريدة «الرأي العام» (وهو مديرها وكانت تنطق باسم حزب الشورى والاستقلال) في خدمة الاتحاد الوطني وأصبحت ناطقة باسمه بعد أن مُنعت جريدة التحرير. * ومتى انسحبتم منه؟ـ بعد أشهر من تأسيسه وقبل أن تمضي عليه سنة. وبعد سقوط حكومة عبد الله إبراهيم سافر بن بركة في رحلة خارج المغرب وتركَنا نفهم أنها قد تطول وكان الأمر كذلك.وأذكر أنه بعد مرور أسبوع على سقوط الحكومة جاء عبد الرحيم بوعبيد إلى الدار البيضاء وطلبت منه أن أجتمع به مع الفقيه البصري. وتم الاجتماع في منزل الفقيه البصري بصحبة رفيقي أحمد بن سودة وصارحناهما بالقول:«إننا نلاحظ بأسف ومرارة أن أوراق اللعبة بين أيدينا لم تنسجم، وفصائلنا لم تلتحم في صف مرصوص. ونلاحظ أننا نعمل في جو من التكتم مما يوحي بأن العلاقة بيننا لا يطبعها الصفاء والتعاون الصادق. وأن قواعد حزب الشورى والاستقلال تشتكي من فقد الانسجام بينها وبين بقية قواعد الاتحاد. ولذلك قررنا مغادرة الاتحاد». وأضفت قائلا: «أنا قررت هذا بالنسبة لشخصي. وأعدكما أنني سأعتزل النشاط الحزبي ولن أعود إلى حزبي القديم، ولن أؤسس حزبا جديدا، ولن أشرح عبر الإعلام مجريات الأمور والدواعي التي سببت هذه الاستقالة، ولن أطلب من القواعد الشعبية التي جاءت إلى الاتحاد من حزب الشورى أن تنسحب من الاتحاد».فقال لي عبد الرحيم بوعبيد بحضور الفقيه البصري متحدثا باللغة الفرنسية: «أرجوك ألا تتخذ هذا القرار بسرعة. أرجو أن نواصل العمل معا لقطع خطوات جديدة على الطريق. فنحن ما نزال في أمسِّ الحاجة إلى تعاوننا المشترك». وعندما شرحت له خلفيات قراري، أي الأسباب الموضوعية التي أشرت إلى بعضها قبلُ علق قائلا: «لا أستغرب أن يصدر هذا من المهدي». أي أن بوعبيد أنحى باللائمة على المهدي الغائب. وعلق الفقيه البصري متوددا ومتلطفا كعادته قائلا: «إذا كان وقع خطأ غير مقصود فيجب أن نتسامح ونتلافاه. فالطريق ما زال طويلا ويجب أن نعمل معا». فقلت له: «إني اتخذت قراري بعد تفكير طويل. وأنا آسف لما وقع».وبعد إقالة حكومة عبد الله إبراهيم كان عبد الرحيم بوعبيد يقول إنه ذاهب لعطلة استجمام وراحة في أوروبا ينكَبُّ فيها على قراءة بعض الكتب التي لم يتأت له قراءتها في زحمة أشغال الحكومة. وزاد يقول: «مما لاشك فيه أنه سينادَى علينا عما قريب لنعود حيث كنا (أي الحكومة)».وبدأ الملك محمد الخامس مشاورات لتشكيل الحكومة الجديدة برئاسته. ودعاني للحضور إلى القصر الملكي (وكان شاع أنني انسحبت من الاتحاد الوطني) فوجدته يستقبل الشخصيات المرشحة للمشاركة في الحكومة الجديدة، ثم يخرج كل واحد من هذه الشخصيات ويدلي بتصريح للصحافيين قائلا: «استقبلني صاحب الجلالة وأسند إلي وزارة كذا أو كذا». ولما جاء دوري استقبلني الملك وقال لي: «أرغب في مشاركتك في الحكومة إذا وافقت. وسأعلن لك عن الوزارة التي سأسندها إليك» فقلت له: «أرجوك يا جلالة الملك أن تتفهم أوضاعي. أنا كنت في قيادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وتحملت مسؤوليتي فيه ولست نادما على ذلك. وقد انسحبت من الاتحاد، ووعدت بعض قادته بكلمة شرف أني سأعتزل العمل السياسي الحزبي». فرد عليّ في الحين وكأنه يبحث لي عن مخرج: «ما سأكلفك به ليس عملا سياسيا حزبيا». فقلت له: «ومع ذلك يا جلالة الملك لا أريد المشاركة في الحكومة في هذا الوقت حتى لا يقال إنني خرجت من الاتحاد لأمَوِّل انسحابي بمقعد في الحكومة». فعلق جلالته مبديا أسفه قائلا: «لك ما ترى».وخرجت من قاعة العرش وأدليت بالتصريح التالي للصحافيين: «استقبلني جلالة الملك وعرض عليّ منصبا وزاريا في حكومته، فأخبرت جلالته أني رهن إشارة جلالته خارج الحكومة لا داخلها». ونُشر التصريح في الصحف وفجر قنبلة إعلامية إذ لم يسبق أن قال سياسي إن الملك عرض عليه منصبا وزاريا واعتذر بالأسلوب الدبلوماسي اللبق الذي أجبته به. * أين كنتَ حينما أُعلِن يوم 27 فبراير 1960 عن وفاة محمد الخامس ؟ـ كنت في الدار البيضاء حيث أقطن، وبمجرد سماعي النبأ توجهت إلى القصر الملكي لأقوم بواجبي في تقديم العزاء للأمير ولي العهد مولاي الحسن وأخيه الأمير عبد الله والأسرة الملكية. واستقبلني ولي العهد وكان متأثرا لوفاة والده ومدركا لحقيقة المسؤولية العظمى التي سيتقلدها.وعندما دُفن الملك الراحل توجهت للسلام عليه فاحتضنني وقال لي: «لقد فقدنا أنا وأنت والدنا الكبير». فقلت له كلمات لائقة بالحدث ومُفعَمة بالتعزية والحض على الصبر، وأضفت قائلا: «إذا كانت جلالتكم تحتاجني في أي مسعى أو عمل أقوم به فلن أتأخر عن ذلك». وأنا قلت له ذلك من منطلق ما سبق أن قلته لوالده الملك الراحل قبيل وفاته من أنني سأبقى رهن إشارة جلالته خارج الحكومة لا داخلها. ولم يكن يفصل بين ما قلته ووفاة والده إلا فترة قصيرة. كنت فيها مازلت مصمما على اعتزال العمل السياسي بصفة عامة والعمل الحكومي خاصة. ولكن بدا بعدُ أن الملك الحسن الثاني فهم من كلامي استعدادي للمشاركة في الحكومة وهو الذي كان يعرف أنني اعتذرت عن المشاركة في الحكومة التي ترأسها والده ويعرف أسباب اعتذاري.وفي مساء نفس اليوم تلقيت مكالمة هاتفية من أحمد رضا كديرة صديق الملك الحميم الذي كان مرشحا ليكون العضو الأيمن للملك الجديد. وقال لي: «أدعوك لتناول الغداء معي غدا في مطعم الأوداية بالرباط وسأنقل لك رسالة من جلالة الملك». ولما التقينا على الغداء قال لي: «قلتَ لجلالة الملك يوم دَفْن المرحوم إنك على استعداد لأن تقدم خدماتك له إذا أراد. وعليه فإن جلالته يريد أن يعينك وزيرا في حكومته التي سيشرع قريبا في تأليفها». فقلت له: «ربما لم أدقق التعبير أثناء تقديمي التعازي لجلالة الملك وكنا نحن الاثنين في حالة تأثر بالغ. فأنا لم أقصد بالمساعي التي يمكن أن أقدمها لجلالته عملي في الحكومة، لأن الظروف التي من أجلها اعتذرت عن المشاركة في حكومة والده لا تزال قائمة». وذكرت لكديرة أنني خرجت من الاتحاد الوطني ولا أريد أن يُفهَم أو يُنسَب إلي أنني غيرت انتمائي إليه مقابل تعويض بتوزيري في الحكومة. ولذلك «فأنا أرجو من جلالته أن يقبل عذري كما قبل والده عذري من قبل. ولكن إذا رغب في أن أساعده في مجال آخر غير رسمي سأكون سعيدا ويشرفني ذلك. أنا لا أتطلَّع إلى أية وظيفة علما أن جلالته يعلم أنني ما كنت قط موظفا، ولم أنتم إلى سلك الوظيفة العمومية حتى عندما كنت أستاذا في المعهد الملكي».أود أن أفتح هنا قوسين لأقول لك (إنني طيلة خمسين سنة أمضيتها متقلبا في عدة مسؤوليات سواء عندما كنت أستاذا بالمعهد الملكي أو بالجامعة أو وزيرا أو مستشارا إلى غير ذلك لم أكن أنتمي إلى أطر الوظيفة العمومية. وإني الآن وأنا متحرر من كل المسؤوليات لا أتقاضى من الدولة المغربية أي تعويض عن أعمالي السابقة. فليس لي راتب شهري ولا راتب تقاعدي لا كلي ولا جزئي. وإني أعيش اليوم من موردي الخاص الذي وفره لي عملي الطويل في القطاع الخاص). بعد هذا الاستطراد أعود إلى ما قلته لرضا كديرة : «أنا مازلت في حاجة إلى مزيد من الاستراحة والتفكير. وأرجو أن لا تطول هذه الفترة الانتقالية التي أراها ضرورية».وافترقت مع كديرة، إلا أنه اتصل بي هاتفيا في مساء نفس اليوم قائلا: «لقد بلَّغت جلالة الملك تفاصيل ما حدَّثْتَني به ونقلت إليه بأمانة خطابك وقد عرف جلالته ما تريد، وهو يشكرك على صراحتك».وتشكلت حكومة الحسن الثاني الأولى بدون مشاركتي فيها ودخلها معظم أقطاب الحركة الوطنية، إذ شارك فيها علال الفاسي (وزير الدولة المكلف الشؤون الإسلامية)، ومحمد بن الحسن الوزاني ( وزير الدولة بدون حقيبة)، والدكتور عبد الكريم الخطيب ( وزير الدولة المكلف الشؤون الافريقية)، وأحمد رضا كديرة، ومحمد رشيد ملين رئيس حزب الأحرار المستقلين. * كديرة عُيِّن وقتها وزيرا للداخلية والفلاحة؟ـ نعم، إلا أن الذي كان مفترَضا أن يكون وزير الداخلية هو إدريس المحمدي، لكنه لما قَبِل المشاركة في الحكومة بدون أن يسأل عن أسماء الوزراء المشاركين فيها ودخل إلى مجلس الملك الذي كان يضم أعضاء الحكومة سَرَح فيهم بنظره من اليمين إلى اليسار وتوجه إلى الملك الحسن الثاني وقال له: «هذه الوزارة يا مولاي مشكَّلة من تناقضات وستكون حركتها بطيئة ولن يكتب لها الدوام». وطلب المحمدي من الملك أن يعفيه من المشاركة فيها. * حينما تولى الملك الحسن الثاني الحكم، ما هو التغيير الذي طرأ عليه ولفت نظرك؟ـ أعتقد أن التغيير الأول كان تشكيل حكومته التي ضمت تقريبا جميع زعماء الحركة الوطنية. وكانت إشارة منه إلى أن مغرب الحسن الثاني لا يريد أن يُقصي منه أحدا أو فصيلة من فصائله السياسية، وأن على الجميع أن يتعايش مع هذا الوضع.وقد كان الحسن الثاني يدرك أن السلطة الأولى في البلاد هي سلطة الملكية، ومارس دوره كملك إلى أقصى حد. وكان يريد أن يَعرِف شعبُه أنه جاء بالتغيير وأن لا فراغ في سير الحكم، لأنه عندما توفي محمد الخامس تهامس البعض أن المغرب دخل في عهد فراغ، بل قيل إنه وقع في متاهة لا مخرج لها، وأن ثقل الملك الراحل لن يستطيع ولي العهد أن يعوضه. فكان عليه أن يعمل ليفرض هيبته بالحب وبقدر ما يُنجِز من الأعمال لصالح شعبه. أراد أن يبرهن أنه رجل الساعة القادر على تحمل المسؤوليات.لقد كان يريد أن يحكم البلاد ليس فقط لأنه ورث الحكم عن أبيه، بل كان يرغب في أن يقيم الدليل على أنه أهل لهذا الحكم ومؤهَّل للتغلب على التحديات وما كان أكثرها. * بعد مرور سنة على اعتلاء الملك الحسن الثاني الحكم، عينك سفيرا للمغرب لدى سورية. فلماذا قبلت هذا المنصب؟ـ بعد خروجي من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية كنت أجتر هاجسا يؤرقني، هو أن لا يكون خروجي من الاتحاد نهاية لحياتي السياسية من جهة، كما لا يجب من جهة ثانية أن يُفهم أنني خرجت من المعارضة لأتقلد منصبا وزاريا، وأنني أتقلب تقلب الرياح مرة مع الحكم ومرة مع المعارضة.وكنت في حاجة إلى فترة استجمام سياسي. وهي فترة تميزت بالتفكير والتقييم. كنت خلالها أطرح على نفسي أسئلة مثل: هل كل ما فعلته كان يجب أن أفعله؟ ألم أخطئ في بعض ما أقدمتُ عليه؟ هل تسرعتُ في الخروج من حزب الشورى والاستقلال والمساهمة في تأسيس الاتحاد الوطني؟ وهل سيُنْظَر إلى تسرعي وقبولي الدخول في الحكومة على أنه تهافت على الحكم وانبطاح من أجل مقعد وزاري؟ وهل إن فعلتُ ذلك سوف لا أُصنَّف بين الانتهازيين وعَبَدة المناصب؟وأمام هذه التساؤلات وجدت لنفسي حلا مؤقتا ففرضت على نفسي فترة استجمام وراحة دامت ما يقرب من سنة، حيث نادى عليّ الملك الحسن الثاني بعدها ليعهد إليّ بمهمة أكثر من مهمة سفير لكن باسم سفير. وقال لي: «كنتَ تطلب ألا يكون دخولك للعمل السياسي إلا بمقدمات وسميتَها فترة استجمام. والآن أنا في حاجة إليك في مهمة دقيقة. تعلم أن الوحدة انفصمت بين سورية ومصر. وقد ترك هذا الانفصام مخلفات تشكل نزاعا بين البلدين. وقد توجه كلٌّ منهما إليَّ لأكون الوسيط بينهما. ولمّا كنتَ في حاجة إلى مدخل تعود به إلى العمل السياسي هاأنذا أجد لك هذا المدخل: ستذهب إلى سورية لتقوم بالوساطة بينها وبين مصر باسمي بوصفك سفيرا في دمشق». وزاد يقول: «لا أخفيك أنني فكرت في أن أسند هذه المهمة إلى السيد عبد الخالق الطريس (كان آنذاك سفيرا للمغرب لدى مصر) لكنني فوجئت بما لم أكن أتوقعه. فلا سورية قبلته ولا مصر قبلته. مصر قالت إنها لا تريد أن يكون من يقوم بتسوية النزاع هو السفير المعتمد لديها. وسورية قالت إنها لا يمكنها أن تطمئن إلى وساطة الطريس «لأنه رجل عبد الناصر». وحينها فكرتُ فيك، فأنت تعرف المشرق العربي وثقافتك السياسية الأولى هي ثقافة عربية. وكل ما يتعلق بالجامعة العربية وأوضاع المشرق تعرفه حق المعرفة. وأنا أعرض عليك أن تكون بالنيابة عني الوسيط الذي لا يُعلَن عنه، لأن هذه المهمة حساسة وبالغة الخطورة. وعليك أن تقوم بها دون إعلان، ولكن من موقعك كسفير في دمشق ينتقل بين القاهرة ودمشق لحل هذا الخلاف في أسرع وقت».والحقيقة أنني ارتحت لهذه الطريقة التي قدم بها الملك الحسن الثاني عرضه لي. وزاد يقول: «فإذا قبلتَ فإنني سأبلغ وزير الخارجية بحضورك قرار تسميتك سفيرا وأعطيك تعليماتي بحضوره».ونادى الملك الحسن الثاني على الحاج أحمد بلافريج وزير الخارجية في جلسة أخرى كنت حاضرا فيها وحضرها أحمد رضا كديرة مدير الديوان الملكي. وقال له: «لقد سميت الأستاذ عبد الهادي بوطالب سفيرا لي في سورية لكن لا علاقة له بوزارة الخارجية، ستكون العلاقة بينه وبيني مباشرة للقيام بمهمة الوساطة. وجميع تقاريره سَتَرِد رأسا على الديوان الملكي. ولا تنتظروا أن يخبركم بما سيكون في شأنها». وقال بلافريج: «الأمر أمرك يا جلالة الملك». وفعلا تسلمت أوراق الاعتماد من جلالة الملك في 12 فبراير (شباثلاث.196 وسافرت بعد أسبوع إلى دمشق. وعجل الرئيس السوري ناظم القدسي باستقبالي في اليوم الموالي حيث قدمت له أوراق اعتمادي. وبعد أن تبادلنا الخطب كما كانت عليه العادة في سورية انفرد بي في جلسة خاصة ليقول لي: «هذه مطالبنا من مصر» وكانت مطالب بسيطة. وأضاف قائلا: «نحن نعتمد عليك في أن ترجع المياه بيننا وبين مصر إلى مجاريها وسورية حريصة على ذلك. ونأمل أن نجتاز هذه الخطوات البسيطة التي بقيت على الطريق لندخل في عهد جديد. إننا لا نريد أن يطول عهد الجفاء مع مصر، وأن لا يكون الانفصال قطيعة أبدية». وقال لي الرئيس القدسي: «إن الوضع الحقيقي يكمن في أن مصر لا ترغب في أن تقيم علاقة ديبلوماسية من جديد معنا. وأنتم تعلمون كيف وقع الانفصال». وكانت سورية تشكو من الظروف التي سارت فيها الوحدة بينها وبين مصر وتحمِّل مصر مسؤولية تعثرها. والمعروف أن المكلف الشؤون السورية أيام الوحدة مع مصر كان هو المشير عبد الحكيم عامر وكان قليل الحضور في دمشق. وقد حكم سورية كما لو كان هو حاكمها العسكري أو المندوب السامي. ووقع الانقلاب في سورية وانفصلت عن الجمهورية العربية المتحدة وهو غائب. ووجدت مصر نفسها أمام الأمر الواقع. وكان النظام المصري حاقدا على النظام السوري الجديد فرفض الاعتراف به لأنه ـ حسب مصر ـ طعن الشرعية عندما أعلن من جانب واحد فسخ الوحدة القائمة بين البلدين. * ما هي طبيعة المطالب المصرية ـ السورية؟ـ في ظل الوحدة التي قامت بين مصر وسورية في 22 فبراير 1958 وانتهت في 28 سبتمبر (ايلول) 1961 اندمجت شركات اقتصادية سورية في اقتصاد مصر وتم تأميم شركات سورية خاصة. وكانت سورية ترغب في أن تأخذ مصر المبادرة لرفع التدابير التي اتخذها نظام الوحدة وكل ما يتصل بالنظام الاشتراكي لتعود سورية إلى الاقتصاد الحر. وكانت إذ ذاك دولة صناعية. وأشياء أخرى بسيطة تم علاجها في ظرف شهرين، من بينها الإفراج عن الأرصدة السورية التي بقيت في البنوك المصرية. وهذه القضايا انتهت بزيارات قمت بها بين القاهرة ودمشق حيث قابلت في أولاها الرئيس جمال عبد الناصر ثم وزير خارجية مصر آنذاك مرتين، وبعد ذلك تحول الأمر إلى لقاء سفراء في وزارة الخارجية المصرية حضره ديبلوماسيون سوريون. لكن الغريب في الأمر هو أن الذي جعل دوري هذا يفتضح ويُتهامَس به بين العموم في سورية هو أنني قدمت أوراق اعتمادي إلى الرئيس ناظم القدسي في العشرين من فبراير وأقمت احتفال عيد العرش بالسفارة يوم 3 مارس (آذار). ويوم الحفل حضر رئيس الجمهورية بنفسه إلى الحفل وجاء معه الوزراء بدون استثناء. وكنت آخر سفير التحق بمهمته بدمشق وبالتالي فأنا آخر السفراء ترتيبا في المراسم (البروتوكول) مما جعل الجميع يتساءلون عن سبب تميز سفير المغرب بهذه الميزة المتمثلة في حضور رئيس الجمهورية الذي لم يسبق له أن حضر في حفل استقبال سفراء بمناسبة أعياد بلدانهم الوطنية كما حضر معه جميع أعضاء الحكومة، بينما جرت العادة في مثل هذه الاحتفالات ألا يحضر لحفلات السفارة إلا بعض الوزراء.وبدأت الصحافة في البحث عن أسباب حضور الرئيس القدسي، وتسرب إليها أنني أحمل أيضا وصف مفوض أو مبعوث الملك الحسن الثاني للوساطة بين دمشق والقاهرة. طبعا لم يكن أحد يعرف طبيعة الأشياء التي كنت أتوسط فيها. ولم أُدْل قط بأية تصريحات حول مهمتي غير المعلنَة، بل أحيانا سئلت من قبل بعض الصحافيين عما إذا كنت ممثل الملك المغربي ووسيطه في النزاع فنفيت ذلك وقلت: «إنني لست إلا سفير المغرب المعتمد لدى دمشق». وكان لي بسورية صديق حميم هو الأخ أحمد عسة وكان مدير جريدة «الرأي العام» السورية وكنت أحيانا أزوره بمكتبه بالجريدة اليومية في ساعة متأخرة من الليل لأشهد معه صدور الجريدة ولأعرف منها آخر الأنباء. وكان هو أول من أسرَّ إليَّ أن الإعلاميين يتحدثون همسا عن مهمتي المخفية، وأنه هو الذي أقنعهم بألا يعلنوا عنها ليضمنوا لمهمتي النجاح. فكذبت هذه الأنباء حتى بالنسبة إليه. (السيد أحمد عسة أصبح في ما بعد مغربيا ويعمل بالديوان الملكي بالرباط).زيادة على ذلك فإنه في يوم مغادرتي لسورية التي أمضيت فيها ستة أشهر ورجوعي إلى المغرب وزيرا في حكومة الملك الحسن الثاني كان جميع أعضاء الحكومة السورية في المطار لتوديعي بالإضافة إلى ممثل خاص عن الرئيس ناظم القدسي الذي استقبلني يوما قبل سفري وقال لي: «لولا أنني ربما سأقوم بشيء لا يُفهم لذهبت إلى المطار لتوديعك، ولكنني أعطيت التعليمات بأن يكون جميع الوزراء حاضرين بالمطار في وداعك». * مهمتكم في سورية لم تطل كما ذكرتكم. فما هي أبرز الأحداث التي صادفت وجودكم في سورية ؟ـ حينما وصلت إلى دمشق لم تكن لنا بها سفارة. وكنت أول سفير معتمد لديها. فقد كان رئيس بعثتنا الذي سبقني في رتبة قائم بالأعمال. وقمت باستئجار مقر للسفارة في حي المهاجرين القريب من القصر الجمهوري. وأقمت قبل ذلك في فندق سميراميس الذي كان يقطن فيه الوزراء الذين يأتون إلى العاصمة من خارج دمشق، فكنت أسهر معهم وأصبحت بيني وبينهم صداقة ومودة. وألقيت أربع محاضرات في النادي الديبلوماسي في ظرف خمسة أشهر. وكانت الصحافة السورية تتابع نشاطاتي. وكنت أدلي بتصريحات عن القضية العربية وكانت هي همَّ السوريين الأكبر.كنت أقوم في دمشق باتصالات واسعة وأستقبل السوريين بمختلف فصائلهم من عسكريين ومدنيين، فمائدة السفارة المغربية كانت دائما مفتوحة للصحافيين والوزراء وحتى رجال الزوايا ومشايخ الطرق. كانت لي صلة حميمية برئيس جمعية العلماء الشيخ المكي الكتاني المغربي الذي هاجر من المغرب فارا من الحماية الفرنسية وأقام بسورية. وكان يأتي خصيصا عندي لمقر السفارة مع أتباع الزاوية الكتانية وجمهرة العلماء. كما استقبلت مرارا ميشيل عفلق ومعه أنصاره من أعضاء حزب البعث. وكان لكل مقام حديث. ومن خلال تنوع اتصالاتي كنت أعرف دقائق وخبايا ما يجري في سورية. ومن الأخبار التي وصلتني أن انقلابا عسكريا سيقوم في الشهر الموالي ضد نظام الرئيس القدسي. فأرسلت هذا الخبر وتفاصيله في برقية مشفرة (مرقومة) إلى الملك الحسن الثاني. ولم أخبر الحكومة السورية بذلك رغم أنني فكرت في ذلك لكن فضلت أن لا أخوض في الشأن الذي لا يعني السفراء. وبالفعل وقع الانقلاب يوم 28 مارس 1962 بقيادة الجنرال عبد الكريم زهر الدين الذي سبق له أن حضر إلى حفل السفارة المغربية بمناسبة عيد العرش في رفقة رئيس الجمهورية.وعندما دخلت المغرب بدعوة من الملك الحسن الثاني قضيت أسبوعا وعدت إلى دمشق قال لي جلالته بعد حدوث هذا الانقلاب: «كنت أقرأ تقريرك عن الانقلاب وتفاصيله وأنا جالس على مائدة الفطور. وعندما انتهيت من قراءته أذيعت الأخبار عن انقلاب الجنرال عبد الكريم زهر الدين». والغريب في الأمر أنني نمت ليلة الانقلاب بعد أن قضيت طرفا من الليل في صالون الفندق في دردشة مع الوزراء المقيمين في الفندق قبل أن أذهب إلى غرفتي. وإذا بباب الغرفة يُطرَق من مدير الفندق السيد عجمي الذي سلمني جهاز راديو صغير كان يبث موسيقى عسكرية. وقال لي: «ربما وقع شيء لست أدري طبيعته». وانصرف المدير وبعد خمس دقائق هاتفني من مكتبه بالفندق ليخبرني أنه سيصعد إليَّ من جديد ليكلمني. وعندما فتحت له باب غرفتي وأنا مرتد لباس النوم سرحت بعيني في ممر غرف الفندق في الطابق الذي كانت توجد فيه غرفتي فرأيت الوزراء الذين سهرت معهم في صالون الفندق لابسين قمصانا فضفاضة أو «بيجامات» ووراء كل واحد منهم جندي حاملا رشاشته ومصوِّبا إياها إلى ظهر الوزير. وقال لي عجمي: «أردت فقط أن ترى هذا المنظر لتعرف كيف تحدث الانقلابات عندنا». ولم يكن انقلاب الجنرال زهر الدين هو الأول في سورية بل سبقته انقلابات ابتدأت في مارس 1949 بانقلاب حسني الزعيم. هكذا أدركت أن الخبر الذي وصلني عن إعداد الانقلاب وبادرت بإخبار الملك الحسن الثاني به كان صحيحا.لم تنم لي عين بقية تلك الليلة. وفي السابعة صباحا رنَّ الهاتف في غرفتي لأتلقى مكالمة من القيادة العسكرية العليا تخبرني: «أنني مدعو مع بقية السفراء العرب للحضور للقيادة العسكرية لتبليغنا أمرا هاما».ولما وصلت إلى قيادة أركان الجيش السوري وجدت في قاعة الانتظار السفير التونسي محمد بدرة وسفير السعودية السيد الحميدي عميد السلك الديبلوماسي العربي، والتحق بنا سفير العراق، وسفير الأردن. كنا ستة أو سبعة سفراء معتمَدين ولم تستدع القيادة العسكرية القائمين بالأعمال في بعض السفارات العربية. وتحدث الجنرال زهر الدين إلينا عن أسباب الانقلاب، وكان قد أذاع في الراديو في الصباح المبكر مُرافعة قضائية نطق بها بنفسه وأدان فيها عهد الرئيس ناظم القدسي واتهم حكومته بالفساد وخروجها عن مقاصد الثورة العربية السورية. وقال لنا الجنرال: «أريد أن أخبركم أننا قررنا تغيير نظام الحكم القائم واستلَمْنا السلطة، وأن انقلابنا والحمد لله كان انقلابا أبيض ولم تُرَقْ فيه قطرة دم».وأضاف قائلا: «إننا جمعناكم لنقول لكم إن كل شيء مر على ما يرام، وأننا ممسكون بزمام السلطة، وأن الوزراء وعلى رأسهم رئيس الجمهورية يوجدون جميعا رهن الاعتقال بسجن «المزَّة» بضواحي دمشق. ونطلب منكم أن تخبروا حكوماتكم بهذا، وأن تطلبوا منها الاعتراف بالنظام الجديد».لم أتكلم في البداية. وأخذ الكلمة السفير العميد السعودي. وقال كلاما يتفق مع الخطاب الديبلوماسي ويناسب المقام. واعتبر الانقلاب أمرا داخليا لا شأن للدول العربية به. وأضاف مخاطبا الجنرال: «أنتم تعرفون أكثر مما نعرف». ثم أخذ الكلمة السفير التونسي وقال: «في التقاليد الديبلوماسية المرعية أنه عندما يقع انقلاب من هذا النوع فإن القائمين بالانقلاب لا يحتاجون إلى اعتراف من الحكومات بشرعيتهم». وأضاف قائلا: «إن الحكومات التي لا تعترف بكم ستسحب سفراءها. وإبقاء الحكومات على سفرائها يعد اعترافا بكم. وهذا عرف معمول به في الديبلوماسية». وبعد السفير التونسي تناولت الكلمة (وكنت ذلك الشاب الثوري الذي لا يستطيع أن يملك نفسه عندما يرى أن هناك ما يوجب تدخله ولو بقسوة) فقلت للجنرال زهر الدين: «أنا هنا أتجرد من صفتي كسفير للمغرب في دمشق، لأتقمص روح المواطن القومي العربي الذي تقول ديباجة الدستور السوري إن الوطن العربي هو وطن عربي واحد. وسورية لا تعترف إلا بالقومية العربية الواحدة والوطن العربي الواحد الذي لا تفصله الحدود». وأردفت قائلا: «دعوني أتحدث إليكم من أعماق قلبي مواطنا سوريا ولو أنني سفير مغربي لأقول لكم إن هذا الانقلاب غير شرعي. أقول ذلك باسم قوميتي العربية. واسمحوا لي أن اقول إنه أصبح يضيرنا نحن المتحمسين للقضية العربية، إضافة إلى معاناتنا من وجود خطر إسرائيل وضياع الحق العربي، أن نسمع وأن نعيش مسلسل الانقلابات في سورية التي قلتم إن انقلاباتها بيضاء تمتاز سورية بها عن بقية الدول العربية. ويا ليت واحدا من انقلاباتكم كان أحمر حتى لا تبقوا ماضين في مسلسل الانقلابات البيضاء على هذه الوتيرة السريعة المقلقة». وأضفت: «أعتقد أنني لو استأذنت حكومتي في أن أقول هذا الكلام لاعتبرتني جاهلا بقواعد الديبلوماسية ولربما عجلت بعودتي لبلادي، ولكني أخذت على نفسي بعد أن استمعت إليكم باهتمام كبير أن أقول هذا الكلام من دون أن أستشير حكومتي. وهو كلام الحكمة والتعقل. وأرجو أن لا أكون فيه مخطئا. ورجائي إليكم سيادة الجنرال أن تعيدوا الحكومة الشرعية إلى مكانها، وأن يعود رئيس الجمهورية إلى رئاسة الجمهورية، ويعود الجيش إلى ثكناته. فالمدني يجب أن يعمل كمدني، والعسكري يجب أن يقوم بواجبه العسكري. وحين يحل العسكري محل المدني أو العكس، فلا الشؤون المدنية ولا الشؤون العسكرية تأخذ سيرها الطبيعي». وأردفت قائلا: «أرجوكم باسم القومية العربية أن تعيدوا الأمور إلى نصابها. وأن لا تؤاخذوني بالتجرؤ عليكم بما اعتبرته واجبي كعربي أتحمل مسؤوليته بصفة شخصية لا غير». * وماذا قال الجنرال عبد الكريم زهر الدين ؟ـ لقد أُفحِم وبدا عليه الاضطراب. وقال: «أنا أقدر عواطفك. لكن لسورية اعتباراتها. وقد كنا مضطرين للقيام بما قررته القيادة العسكرية بإجماع أعضائها». ووصل خبر ما قلته إلى الوزراء وإلى الرئيس القدسي وهم في سجن المزة. وبعد مرور شهر على وقوع الانقلاب عاد الجيش إلى ثكناته وأخرج ناظم القدسي رئيس الجمهورية من المعتقَل، وعاد الرئيس والوزراء إلى ممارسة مهماتهم. وأصبحت بالنسبة لهم السفير الذي لعب دورا كبيرا في العمل على تغيير الأوضاع وزدت عندهم تقديرا واعتبارا ومحبة.وفي اليوم الموالي لرجوع الرئيس إلى رئاسة الجمهورية، استقبلني وأعطاني رقم هاتفه الخاص في غرفة نومه. وقال: «بإمكانك أن تتصل بي نهارا أو ليلا متى تشاء». هذه بإجمال قصتي مع انقلاب الجنرال عبد الكريم زهر الدين. وخلال الفترة التي أقمت فيها في دمشق لم تصلني من وزارة الخارجية المغربية سوى برقيتين: الأولى طلبت فيها مني أن أوافيها بأخبار السفارة وأنشطتها عن طريق وكالة المغرب العربي للأنباء وليس عن طريق وكالات الأنباء الأجنبية. أما البرقية الثانية فتقول:«عينك جلالة الملك وزيرا في حكومته، فودِّعْ والتحقْ بالمغرب. تهانينا المخلصة».أما جميع التقارير التي كنت أرسلها من دمشق فكانت تذهب إلى رضا كديرة الذي يقدمها لجلالة الملك ولا تطَّلع وزارة الخارجية على محتوياتها. * ماذا كان رد فعل الملك الحسن الثاني حين أخبرتَه بما قلتَه للجنرال عبد الكريم زهر الدين؟ـ كنت أزور المغرب بين الفينة والأخرى لأطلع الملك الحسن الثاني على تطور مهمة الوساطة بين مصر وسورية وعلى عملي بالسفارة. وكان كثيرا ما يبعث لي بالدعوة للمغرب حيث أقضي أياما قريباً منه ثم أعود إلى دمشق أو مصر. ولمست مرارا أثناء لقاءاتي بجلالته أنه راض عن عملي في دمشق وعن سير مسلسل الوساطة. وقال لي عندما جئت إلى المغرب بعد انفراج أزمة الانقلاب: «اطَّلعتُ على ما راج بينك وبين الجنرال عبد الكريم زهر الدين وقد أحسنتَ في ما فعلت»، فهو لم يكن يقبل أن يتم التمرد على الشرعية بانقلاب كيفما كان شكله وهدفه. * قلتم إنه في بداية وساطتكم بين سورية ومصر التقيتم الرئيس جمال عبد الناصر. فكيف وجدتموه بشأن العلاقة مع سورية؟ـ اتصلت به مرة واحدة عند بدء مهمتي ولم أجده حاقدا على سورية. وقال لي إنه ربما كان في الوحدة المستعجَلة شيء من الارتجال، وأن الأمور لم تعالجَ بالحكمة، وأن تجربة الوحدة لم يتقدمها إعداد جيد، وأن السوريين ضغطوا عليه ليقبل الوحدة. هذا ما قاله لي الرئيس عبد الناصر بالضبط. ووجدته أخذ درسا من هذه الوحدة التي اشتبكت فيها الأيدي بينه وبين الرئيس شكري القوتلي في القصر الجمهوري بحي المهاجرين بدمشق، ووقعا عليها باستعجال وباركاها أمام الجماهير الهاتفة بالوحدة حيث أشرفا عليها من شرفة القصر. وعرف عبد الناصر أن الأمر كان يحتاج إلى روية ومزيد من الحيطة والإعداد. * قلتم إن البرقية الثانية أخبرتكم بتعيينكم وزيرا. فما هي الوزارة التي كُلِّفتم بها؟ـ لم تنص البرقية على المنصب الوزاري الذي عُينت فيه. ولم أعلم به حتى وصلت إلى المغرب واستقبلني الملك الحسن الثاني وسماني كاتبا للدولة (وزير دولة) في الإعلام. وشرح لي لماذا عينني كاتبا للدولة في الإعلام وقال: «إني رئيس الحكومة وأنا سأدير الإعلام بواسطتك، وأنت تابع لي مباشرة وزيرا كامل الصلاحية، فليس هناك وزير للإعلام إلا أنت». وبدأت عملي في المنصب الجديد. وبعد حوالي شهرين وقع تعديل وزاري. وأصبحت وزير الإعلام بهذا اللقب. وأضاف إليّ الملك الحسن الثاني حقيبة الشباب والرياضة، ثم عينني وزيرا منتدبا لدى الوزير الأول وناطقا باسم الحكومة في عهد حكومة أحمد باحنيني.وفي 18 نوفمبر (تشرين الثاني) 1962 عرض الملك أول دستور للبلاد وجرى عليه استـفتاء الشــعب المغربي في 7 ديســمبر (كــانون الأول) وكلــفنـي الملك أن أطلع على الدستور وأن أتولى شــرحه طيــلة أيام الحــملة الاستــفتائيــة بندا بندا عبر الإذاعة. واستمر عملي هذا زهاء ثلاثة أسابيع أي طيلة حملة الاستفتاء، حيث كنت أقرأ تعليقي على الدستور كل يوم في مستهل نشرة أخبار الساعة الثامنة والنصف مساء. * في نفس التعديل عين الملك الحسن الثاني الأمير فال ولد عمير وزيرا للدولة مكلفا شؤون موريتانيا والصحراء ثم خلفتَه أنت على رأس الوزارة. وأود هنا لو تحدثني عن ظروف بروز القضية الموريتانية ؟ـ يدخل ذلك في إطار تطلع المغرب إلى استكمال سيادته على كامل تراب مملكته في حدودها التاريخية. وأنتم تعلمون أنه قبل أن يقسّم الاستعمارُ الدولي المغربَ إلى ثلاث مناطق: فرنسية، وإسبانية، ودولية كانت فرنسا المحتلة لأرض موريتانيا تعترف بأنها جزء لا يتجزأ من التراب المغربي، وأن من حق المغرب أن يستردها كما استرد ترابه الوطني في حدودها حدود المغرب الأخرى لكنها تراجعت عن موقفها. وكان جلالة الملك يركز على تبعية موريتانيا للمغرب عندما أحدث وزارة خاصة بموريتانيا ووضع على رأسها الأمير (أمير الطرارزة) فال ولد عمير وهو شخصية مرموقة ومحبوبة في موريتانيا، وربما كان له وزن أكبر من الوزن الذي كان للمختار ولد دادة رئيس الدولة الموريتانية في ذلك الحين.عمل الأمير فال ولد عمير ـ بتكليف من جلالة الملك ـ على ربط الخيوط مع الشعب المغربي ـ الموريتاني لأجل عودة موريتانيا إلى وطنها. وكانت في موريتانيا فصائل وطنية واسعة تعمل لعودة موريتانيا إلى الوطن الأب وتعتبر ملك المغرب ملكها.وحينما قرر الملك الحسن الثاني أن يعفي ولد عمير من وزارة شؤون موريتانيا والصحراء، أراد من ذلك أن يلتحق الأمير بموريتانيا بناء على رغبته ليعمل على عودتها إلى المغرب. وقد حضرتُ لقاء توديعه الذي جاء معه مودعا فيه أيضا المختار ولد باه الذي كان آنذاك مديرا عاما للإذاعة المغربية وهي من مرافق وزارة الإعلام التي كنت على رأسها.وجدد فال ولد عمير البيعة للملك الحسن الثاني قبل سفره، وقال له: «لا يمكن أن نُبقِي على الوضع كما هو. لا بد أن تعود موريتانيا إلى وطنها. وثق جلالة الملك أننا سنظل في خدمة هذه المبادئ التي نؤمن بها».وبعد ذلك ذهب الأمير فال ولد عمير والمختار ولد باه إلى موريتانيا وألقي عليهما القبض. ثم مات الأمير فال في موريتانيا في ظروف غامضة، وبعد مدة عاد رفيقه المختار ولد باه إلى المغرب واستقر فيه وعمل بالديوان الملكي، إذن فتخصيص وزارة لموريتانيا والصحراء يدخل ضمن السياسة التي كان يقوم بها الملك لاسترجاع التراب المغربي كاملا. وبعد ذهاب الأمير فال تسلمت منه الوزارة التي كان على رأسها. وتبادلت معه سلط الوزارة كما تبادلنا الخطب في حفل حضره العاملون بالوزارة. كانت مهمتي في الوزارة هي معالجة الملفات التي وجدتها بمكاتبها. وكانت تقوم على متابعة الدراسات عن وضع موريتانيا في ذلك الوقت، وعن القبائل الموريتانية وفصائلها، وعناوين الشخصيات المؤثرة فيها، وأيضا ربط الاتصال بالفصائل الموريتانية الموالية للمغرب. وأذكر أن الكثيرين من الصحراويين والموريتانيين كانوا يأتون إلى الوزارة مثلما كانوا يفعلون أيام الأمير ولد عمير للاتصال بي وإخباري بأنشطتهم وتطور حركة الانضمام إلى المغرب والالتحاق الطبيعي والشرعي بوطنهم المغرب إلى أن انتهت مهمتي في الوزارة. وبعدي عين جلالة الملك الأمير مولاي الحسن بن إدريس العلوي خلفا لي وتابع نفس الاتصال. وظلت الأمور كذلك إلى أن اعترف المغرب سنة 1969 بموريتانيا خلال مؤتمر القمة الإسلامية الأولى في الرباط. وسأحدثك عن دوري في الموضوع حينما نصل إلى تلك المرحلة.* قبيل الاعتراف المغربي وقع انقسام داخل دول المغرب العربي. وكان هناك اعتراف تونسي بموريتانيا سابق للاعتراف المغربي بسنوات. فما هي خلفيات الموقف التونسي؟ـ تونس تسرعت في الاعتراف بموريتانيا واستقلالها، فقد كانت الدولة الوحيدة في المغرب العربي والجامعة العربية التي فعلت ذلك. وربما كان الرئيس الحبيب بورقيبة قد توقع أن المغرب في النهاية سيعترف بموريتانيا فسبق المغرب إلى الاعتراف وصدقت فراسته.ربما كانت لدى تونس نظرة خاصة هي أن لا يتوسع المغرب أكثر مما هو عليه. وتونس كدولة صغيرة كانت تنظر إلى علاقات دول المغرب العربي بمنظار توازن القوى. وهي نفس النظرة التي ظلت عند الجزائريين حتى يومنا هذا، باعتبار أن المغرب كلما استعاد ترابه أصبح الدولة العظمى في منطقة المغرب العربي.كان الرئيس بورقيبة يتقيد بمبدأ الواقعية. أليس هو الذي ندد برفض العرب لتقسيم فلسطين في خطابه بأريحا عام 1965 ونصح بقبول قرار مجلس الأمن رقم 181 من منطلق الواقعية السياسية؟. لذلك فإن موقف تونس إزاء موضوع موريتانيا يتسع لأكثر من قراءة. ومن بين القراءات التي تحتمل أن تكون واحدةٌ منها صحيحة هي ما ذكرته لكم. ولقد أحدث ذلك الموقف شرخا في العلاقات المغربية التونسية لم يلبث أن اندمل جرحه ولم يكدر العلاقات المغربية التونسية أي جفاء بعد ذلك إلى اليوم.* في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) 1962 عرض الملك أول دستور للبلاد وجرى عليه استفتاء الشعب المغربي في 7 ديسمبر (كانون الأول). وأود هنا لو تحدثني عن الظروف والمرجعيات التي اعتمدها الملك في إصدار دستور ممنوح دون الرجوع إلى مجلس تأسيسي أو ما شابه ذلك؟ـ أنا أتحفظ على نعت الدستور بالممنوح. وسأشرح لك لماذا: كان من بين ما جعل الملك يختارني لمنصب كاتب الدولة في الإعلام هو أن يجعل قطاع الإعلام تحت إمرته بوصفه رئيس الحكومة خلال الحملة الاستفتائية على الدستور. وأنا عندما عدت من دمشق وجدت أن الدستور قد أُعِدّ من قبل جماعة من الفقهاء الدستوريين، وشارك في الإعداد بعض الوزراء منهم علال الفاسي، وأحمد رضا كديرة. كما قدم خبير فرنسي (موريس دي فيرجي) خبرته في وضع الدساتير. وكلفني الملك أن أطلع على الدستور وأن أتولى شرحه طيلة أيام الحملة الاستفتائية بندا بندا عبر الإذاعة. واستمر عملي هذا زهاء ثلاثة أسابيع أي طيلة حملة الاستفتاء، حيث كنت أقرأ تعليقي على الدستور كل يوم في مستهل نشرة أخبار الساعة الثامنة والنصف مساء. لقد اختار الملك الحسن الثاني دستورا وعرضه على الاستفتاء. وقال البعض عنه إنه دستور منحة أو وصفه بالممنوح. وأنا كأستاذ للقانون الدستوري يمكنني أن أقول لك إن نعت الممنوح لا ينطبق على الدستور الذي قدمه الملك للاستفتاء، لأن الدستور الممنوح يضعه رئيس الدولة أو جماعة أو فريق حاكم ويختمه رئيس الدولة بطابعه ويعطيه للشعب منحة، أي أنه لا مناقشة فيه ولا جدال، ولا يعبر الشعب إزاءه عن اختيار أو عن إرادة. وهذا النوع من الدساتير كان يمنحه الأباطرة القدامى شعوبهم وممالكهم كما فعل في القرن الماضي أمبراطور إثيوبيا هيلا سيلاسي والملك فؤاد عاهل مصر، وهو دستور لا يُعرض على استفتاء ولا يناقشه برلمان للموافقة عليه. وإذا كانت القاعدة القانونية تقول إن من يمنح من حقه أن يمنع، فنفس الإرادة التي يتقرر بها ذلك الدستور هي التي تلغيه أو تعطله. لذلك لم يكن الدستور الذي طرحه الحسن الثاني دستورا ممنوحا. الكيفية التي اختار بها الملك وضع الدستور وطَرْحَه على استفتاء شعبي وتعديله وإلغاءه بتعديل شعبي بواسطة الاستفتاء كذلك، كانت حلا وسطا بين خيار المجلس التأسيسي المنتخب الذي تكون له سلطة وضع الدستور وإقراره، وبين خيار منح الملك الدستور بإرادته. وكان الملك الحسن الثاني قد استهل خطابه الذي قدم به الدستور إلى الشعب قائلا: «أعرض عليك شعبي العزيز دستورا وضعتُه واستلهمتُ فيه الروح الوطنية وحبي لك وتطلعي إلى تطور البلاد. وهو مشروع يمكن أن تقول عنه نعم كما يمكنك أن تقول لا. وإذا قلتَ لا فإنني سأسحب المشروع وأعرض عليك دستورا آخر وأطلب منك أن تقول له نعم».(يتبع) هذا الدستور تضمن مقتضيات جديدة من بينها انتقال الحكم من عهد الحكم المشخَّص إلى عهد الحكم المؤسَّس، لكن الحكومة فيه هي حكومة جلالة الملك الذي يعين وزراءها ويعفيهم ومن بينهم الوزير الأول. وهي غير منتخبة ولكن مسؤولة أمام البرلمان المنتخب الذي يمكن أن يُسقِطها بملتمس رقابة.الدستور كان في رأي الملك الحسن الثاني يتناسب مع مرحلة الانتقال من عهد الملكية المطلقة والحكم المشخَّص إلى الملكية الدستورية أو عهد حكم المؤسسات ولا أقول الحكم المؤسساتي (لأن النسبة إلى الجمع بهذه الصيغة لا تعجبني. وكم أتألم لنعت أقطار المغرب العربي بنعت المغاربية بدلا من أقطار المغرب الكبير). الملك في هذا الدستور هو السلطة العليا والحكومة لها أيضا سلطاتها التي حددها الدستور.إذن فالدستور الأول أقرّ مبدأ تجزئة السلط لا تصل إلى حد الكمال الذي هو فصل السلط بعضها عن بعض ولا سلطة عليا تعلو فيه على السلطات الثلاث.إن التنظير الأول للدستور كما نظر له الفكر الدستوري أو الفكر السياسي أيام «جان جاك روسو» و«لوك» و«هوبز» تبين أنه لا يمكن تطبيقه على أرض الواقع. لقد تطورت الديمقراطية وأصبحت نظاما مرِنا يتسع لأكثر من صيغة. والدستور المغربي يعكس هذه المرونة. وقد كنت أدافع عن الدستور في الإذاعة بهذه الحجج. والشعب المغربي صوت عليه بالأغلبية وقَبِل مقتضياته. لا تسألني هل كان الاستفتاء نزيها أم لا. إني أتحدث هنا كفقيه دستوري وليس كسياسي. هناك من يقولون إن طريقة الاستفتاء بالتصويت بنعم أو لا غير ديمقراطية، لأن الشعب لا يستطيع أن يغير بندا من البنود التي لا يرتضيها، لأنه في هذا النظام (كما يقول بعض الفقهاء الدستوريين) عندما تعطي للشعب وثيقة مشتملة على 100 مادة أو 101 كما هو الحال بالنسبة للدستور المغربي الأول، وتقول له أجب بنعم أو لا فإن الشعب ربما يجد في الدستور ثغرات أو قد تكون له على مواده ملاحظات ولكنه لا يملك إلا أن يقول «نعم» أو «لا». وه
6-أمر الحسن الثاني الكولونيل إدريس بن عمر بوقف القتال في «حرب الرمال» مع الجزائر فخلع بدلته العسكرية إشارة إلى استقالته* حمل الحسن الثاني معه في أول زيارة للجزائر 23 سيارة مرسيدس من النوع الكبير لوضعها رهن خدمة الوزراء الجزائريين الـ23* لم يضحك بن بلا قط خلال زيارة الحسن الثاني للجزائر فاقترح عليه الدكتور الخطيب اسناد وزارة المواشي الى بومعزة، ووزارة التموين الى بوخبزة ووزارة الفلاحة الى بومنجل ووزارة الشرطة لبوتفليقة .. فابتسم الرئيس * عزا الوفد المغربي انقباض الرئيس بن بلا الى ما كان يعج به صدره من هموم بناء الجزائر * ذهب الحسن الثاني الى الجزائر يحمل هما واحدا هو مشكلة الحدود المترتبة على إلحاق فرنسا لأجزاء من تراب المغرب بالجزائر يتناول عبد الهادي بوطالب السياسي المغربي المخضرم في هذه الحلقة من حوارات «نصف قرن تحت مجهر السياسة» التي خص بها «الشرق الأوسط» ظروف اندلاع «حرب الرمال» بين المغرب والجزائر. والمحاولات التي قام بها الملك الحسن الثاني مع الرئيس الجزائري احمد بن بلا للحؤول دون اندلاعها. ويتحدث بوطالب هنا عن اول زيارة يقوم بها الملك الحسن الثاني الى الجزائر، وقراءته لشخصية الرئيس بن بلا اثناء الزيارة. * في سنة 1963 اندلعت حرب الرمال بين المغرب والجزائر. فما هي الأسباب والخلفيات التي أدت إلى حرب الأشقاء؟ـ لم تنقطع إمدادات المغرب للثورة الجزائرية منذ اندلاعها سنة 1954 إلى تتويجها بالانتصار والاستقلال سنة .1962 كنا في الحركة الوطنية نؤمن أن كفاح أقطار شمال افريقيا للتخلص من الاستعمار يشكل وحدة لا انفصام لها، وأن المكافحين في كل من المغرب والجزائر وتونس يوجدون على خط معركة التحرير في خندق واحد. واعتبرنا ـ وقد حررنا بلادنا وشكلنا أول حكومة وطنية ـ أن انتصار المغرب بعودة محمد الخامس من منفاه وإعلان الاستقلال لا يعفي المغرب من مساعدة ما بقي من أقطار المغرب الكبير تحت الاستعمار، وخاصة الجزائر التي ألحقتها فرنسا بها وجعلت منها ثلاث مقاطعات فرنسية. ولذلك كان التزام المغرب ـ ملكا وشعبا ـ بمساعدة الثورة الجزائرية غير محدود ولا مشروط، وحتى في أصعب ظروف المغرب.كان المغرب غداة استقلاله ما يزال يكمل تحرير ترابه ويكافح لإجلاء الجيوش الأجنبية الفرنسية والإسبانية عن أراضيه، وعن القواعد العسكرية التي سمح الاستعمار الفرنسي بإقامتها فوق ترابه لفائدة القوات الأميركية. وكان المغرب محط الأنظار والمراقبة من طرف الاستعمار الراحل الذي لم يسلِّم بوضع الاستقلال إلا مُرغَما. وظل مع ذلك يتربص به السوء بعد أن أفلت من قبضته، ويخشى من سريان عدوى التحرر إلى الجزائر المجاورة. وكان اضطلاع الملك محمد الخامس بمسؤولية تبني قضية الجزائر المكافحة ودعمها بالمال والسلاح تحديا لفرنسا كان يمكن أن يكون من بين ردود فعله ضرب فرنسا القواعد العسكرية المغربية التي كانت تحتضن الفرق العسكرية الجزائرية وقد بلغ عددها 9.000 جندي.وكان المغرب يواجه مشكلة بناء الدولة وتطويرها بما يتطلبه البناء والتطوير من نفقات تضيق عنها ميزانيته، لكن هذه الظروف الصعبة لم تثنه عن مضاعفة دعم الجزائر ماديا، وتوفير السلاح لثورتها، وحماية ظهرها على طول الحدود المغربية التي أصبحت مفتوحة في وجه المكافحين الجزائريين، ومَـمَرّا للعتاد والذخيرة إلى أرض المعركة بالجزائر.وإلى قاعدة مكناس العسكرية المغربية كان يرد السلاح الروسي المقتنَى من الثورة الجزائرية، وضِمْنه الطيران العسكري الذي كان يتدرب عليه بالقاعدة المغربية ربابنة جزائريون. وكان المغرب يساهم من ميزانيته في شراء السلاح ونقله إلى الجزائر. كما ساعد الجزائر ماليا على اقتناء الباخرة «سانت بريفال SAINT BRIVAL » التي اشتهرت باسم الأطوس lathos وغصت مدينة وجدة على الحدود الشرقية بالمهاجرين الجزائريين، واستقبلت مستشفياتُها الجرحى لعلاجهم، وآوت القيادةَ الجزائريةَ السياسية التي أصبحت تُعرَف في ما بعدُ بمجموعة وجدة، والتحقت بالجزائر عند استقبالها لتدير دفة الحكم. * لكن المغرب أدى ثمنا غاليا بسبب ذلك خاصة في علاقته بفرنسا؟ـ نعم، أدى المغرب غاليا ثمن هذا الدعم، خاصة خلال تسعة أشهر قطع خلالها علاقته مع فرنسا على إثر اختطافها الطائرة المغربية التي كانت تُقِل الزعماء الجزائريين الخمسة الذين جاءوا إلى المغرب وحلوا ضيوفا على الملك محمد الخامس، وكانوا يُردِفونه على الطائرة المختطَفة ليحضروا بجانبه في زيارته تونس تلبية لدعوة رئيسها الحبيب بورقيبة. وكان من بين هؤلاء الزعماء أحمد بن بلا الذي سيصبح رئيس الحكومة الجزائرية فرئيس الدولة الجزائرية في فجر الاستقلال. * وما هي الخسائر التي نتجت عن قطع العلاقات مع فرنسا؟ـ خلال فترة القطيعة مع فرنسا تحمل المغرب صعوبات وأضرارا مادية تجلت خاصة في فقده المعونة الفنية الفرنسية التي كان في أمس الحاجة إليها لتطوير بنياته الأساسية.وكان طبيعيا ـ والحالة هذه ـ أن يعيش المغرب عرسا كبيرا طافحا بالأفراح يوم استقلت الجزائر، فهذا الاستقلال كان يكمل استقلاله ويوطد له قواعد الأمن والسلامة، ويؤشر لمستقبل أسعد لشعبين كل شيء يؤلف بينهما ويوحدهما في مصير مشترك. وكان يخلق للمغرب ظروف المزيد من الاستقرار والانصراف إلى بناء نفسه بعد أن تحرر من أعباء إسناد الثورة الجزائرية.لكن استقلال الجزائر لم يكن نهاية متاعب المكافحين، بل فجَّر داخل الجزائر ما كانت تجيش به من تناقضات لئن صَهَرها مؤقتا هدف التحرير فإن الاستقلال لم يَقوَ على احتوائها. * وماذا كان موقف المغرب من تلك التناقضات الداخلية؟ـ أريد أن أشير إلى انقسام الصف القيادي لجبهة التحرير الجزائرية، وبروز تكتلات سياسية لجأ بعضها (وعلى رأسها الزعيم آيت أحمد) إلى التمرد العسكري بمنطقة القبائل على الحكومة الشرعية. وقد وقف الملك الحسن الثاني إزاء الأزمة الداخلية الجزائرية موقف المناصر للحكومة الجزائرية. لقد كان مؤمنا بأن هذا الخلاف العارض لا يشكل إلا اجتهادات في الرأي بين أبناء الجزائر الواحدة، وبالتالي فواجب المغرب أن يُعرِض عن الخوض فيه، وأن يقوي عرى التعاون بينه وبين الحكم الشرعي مشخَّصا في حكومة الجزائر التي كان يقودها آنذاك الرئيس أحمد بن بلا.وهذا بعض ما استهدفه الملك الحسن الثاني من مسارعته للقيام بزيارته الرسمية للجزائر، تلبية للدعوة التي وجهها إليه الرئيس بن بلا ونقلها لجلالته وزير خارجية الجزائر آنذاك المرحوم الخميستي. وكان الملك قد وقَّت زيارة إلى الولايات المتحدة تلبية لدعوة الرئيس الأميركي، لكنه أخرها وأعطى الأسبقية لزيارة الجزائر. * كيف كانت هذه الزيارة التي رافقتم فيها الملك الحسن الثاني؟ـ رافقته بوصفي وزير الإعلام والشباب والرياضة. وأتاحت لي هذه المرافقة أن أتعرف على الجزائر لأول مرة ـ ككثير من زملائي في حكومة المغرب ـ وأن أتصل أيضا لأول مرة بالرئيس بن بلا.وكنت قد حاولت مرة في بداية الخمسينيات ـ والمغرب تحت الحماية الفرنسية ـ أن أزور الجزائر قادما إليها من مدينة وجدة، فأرجعتني الشرطة الفرنسية من الحدود، لأن جوازي لم يكن يحمل تأشيرة دخول إلى ما وراء الستار الحديدي. وكنت أعرف بعض وزراء حكومة الرئيس بن بلا وقيادات جبهة التحرير قبل استقلال الجزائر، حيث جمعتنا في باريس ـ التي اخترناها بَلد منفَى ـ ظروف التحرير المشتركة، وخاصة منهم من كانوا ينتمون إلى حزب البيان الجزائري بزعامة عباس فرحات الذي كان يتعاطف معنا في حزب الشورى والاستقلال، بينما لم تُتَحْ لي قبل الزيارة الملكية فرصة للتعرف على رئيس الجزائر.أعدّ الملك الحسن الثاني كل ما يلزم لتعكس زيارته مشاعر المودة والأخوة والتعاطف المتأصلة بين شعبي المغرب والجزائر، وحرص على أن يحس القادة الجزائريون بدفء حرارة العواطف المخلصة التي يكنها لهم ملك المغرب، ففجر منها شحنات دافقة بالعطف، وأطلق للإعراب عنها يده سخية مِعطاءة حيث حمل معه متنوع الهدايا، وكان من بينها 23 سيارة مرسيدس من النوع الكبير جاءت من مصانعها بألمانيا إلى المغرب ليلة الزيارة، فوضعها في خدمة الوزراء الجزائريين الثلاثة والعشرين الذين كانوا يشكلون حكومة بن بلا. كما حمل معه أسلحة مغربية آثر بها جيش الجزائر على جيشه. * وكيف مرت الزيارة بين وفد المغرب والحكومة الجزائرية؟ـ بدا لي طيلة الزيارة أن الملك الحسن الثاني كان ـ وهو يحاور بن بلا ـ كمن يُجهِد نفسَه لفتح قُفْل مغلق ضاع مفتاحه. فالرئيس الجزائري كان يبدو صعب المراس، لم يضحك قط ولا ابتسم، إلا مرة واحدة خلال لقاء لم يحضره الملك الحسن الثاني تحلَّق فيه حوله الوفد المغربي والوفد الجزائري في جلسة استراحة واسترخاء، فإذا بعضو الوفد المغربي وزير الدولة في الشؤون الأفريقية الدكتور عبد الكريم الخطيب يبادر الرئيس بنكتة في شكل سؤال: «ألا تفكرون فخامة الرئيس في إدخال تعديل على حكومتكم أعتبره منطقيا، إذ به تضعون الرجل الصالح في المكان الصالح، فتسندون وزارة تربية المواشي إلى الوزير بومعزة، ووزارة التموين إلى الوزير بوخبزة، وتضعون الوزير بومنجل في وزارة الفلاحة، والوزير بوتفليقة في الشرطة؟». وكانوا جميعهم على رأس وزارات أخرى. فتوزعت مشاعر الرئيس ـ وهو يفاجَأ بهذه النكتة ـ بين كبح سَوْرة الغضب واستطابة بلاغة النكتة، فاحمر وجهه، وتزحزحت شفتاه في مشروع ابتسامة لم تقْوَ على شق طريقها.وقد كانت طبيعة العلاقات الحميمة التي قامت أثناء حرب تحرير الجزائر بين الدكتور الخطيب وبين قادة الجبهة الجزائرية تسمح له هو وحده بأن يداعب الرئيس بهذه النكتة التي لم يَسْتسِغها مع ذلك الرئيس الجزائري، خاصة وقد نطق بها الدكتور الخطيب أمام الوزراء الجزائريين. * ما هي أسباب انقباض الرئيس بن بلا؟ـ عزا الوفد المغربي انقباض الرئيس الجزائري إلى ما كان يَعِجُّ به صدره من هموم بناء الجزائر، وإلى ما كان يتهدد الجزائر من انقسام صف قادتها، وإلى معاناة الرئيس الجزائري من معارضة بعض رفقائه في الكفاح لسياسته، ومناهضتهم لبسط حكمه، وإلى الخلاف الذي أخذ يطبع علاقات الرئيس بالمجلس الوطني الجزائري (البرلمان) الذي كان يريد أن يلعب دور المجلس التشريعي المراقب للحكومة، لكن الرئيس الجزائري كان يرفض مراقبته على المكتب السياسي لجبهة التحرير الوطنية الذي كانت الحكومة تتألف منه. * وما هو الهدف الأساسي لزيارة الملك الحسن الثاني إلى الجزائر يوم 13 مارس (آذار) 1963؟ـ لقد جاء الملك الحسن الثاني على رأس وفد المغرب يحمل هما واحدا : هو مشكلة الحدود المغربية ـ الجزائرية التي ترتبت على إلحاق فرنسا لأجزاء من تراب المغرب بالجزائر في عملية حسابية سياسية استعمارية عندما كانت تراهن على إدامة احتلالها للجزائر كجزء لا يتجزأ من التراب الفرنسي، فتقتطع من المغرب أرض الحماية (المؤقتة) وتضيف إلى (التراب الفرنسي الدائم) مناطق لا جدال في مغربيتها.ومع ما كان يحمله الملك من هم الحدود حمل لمحاورِه بن بلا ملفا جيدا حافلا بالحجج التاريخية التي تثبت مغربية الأراضي التي ألحقتها فرنسا بالجزائر،كان ضمنه وثائق وخرائط ومعاهدات دولية. لكن كان الملف يحمل أكثر من ذلك اعترافَ فرنسا وحكومة الجزائر المؤقتة التي تأسست قبيل استقلال الجزائر بمغربية الأراضي المغتصبة، هذه الحكومة التي أمضى رئيسها عباس فرحات مع الملك الحسن الثاني بتاريخ 6 يوليو (تموز) 1961 اتفاقية تضمنت التنصيص على أن الجزائر تعترف بأن مشكلة الحدود بين المغرب والجزائر موجودة وقائمة، وأن واقع الحدود إنما تم فرضه من لدن فرنسا بتعسف وظلم. وتتعهد بأن تدخل حكومة الجزائر المستقلة في مفاوضات مع المغرب لتسوية المشكلة. كما تضمنت الاتفاقية التنصيص على أن ما قد يُبرَم من أوفاق بين الجزائر وفرنسا لا يمكن أن يكون حجة على المغرب في ما يخص ضبط الحدود الجزائرية ـ المغربية. * لكن لماذا رفض المغرب التفاوض مع فرنسا على تلك الحدود قبل استقلال الجزائر؟ـ كانت حكومة فرنسا عرضت على حكومة المغرب الدخول معها في مفاوضات لتسوية مشكلة اقتطاع الأراضي المغربية لفائدة الجزائر، وذلك أثناء حرب التحرير الجزائرية، لكن المرحوم محمد الخامس المعروف بمثاليته وإخضاع سياسته لأخلاقياته رفض التفاوض المباشر مع فرنسا، وفضل ترك المشكلة إلى حين استقلال الجزائر، معتبرا أن التفاوض مع فرنسا طَعنٌ لظهر الجزائر المكافحة وإخلال بسندها الذي التزم به أمام نفسه وأمام ربه.وفي الاجتماع الذي جرى على انفراد بين الملك الحسن الثاني والرئيس أحمد بن بلا أثناء الزيارة طلب هذا الأخير من الملك أن يؤخر بحث موضوع الحدود إلى حين استكمال الجزائر إقامةَ المؤسسات الدستورية، وتسلُّمَه مقاليد السلطة بوصفه رئيس الدولة الجزائرية المنتخب، مخاطِبا بالأخص الملك بهذه العبارة الحافلة بالدلالات : «ثقوا أن الجزائريين لن يكونوا بطبيعة الحال مجرد وارثين للتركة الاستعمارية في موضوع الحدود المغربية ـ الجزائرية».وقد اطمأن جلالة الملك لهذا التعهد الصريح، خاصة وقد كان الرئيس بن بلا أعلن في خطاب تنصيبه أن حكومته تحترم وتضمن تطبيق جميع ما أبرمته الحكومة المؤقتة الجزائرية من أوفاق.وكنت ضمن الوزراء المغاربة الذين أطلعهم الملك الحسن الثاني إثر اجتماعه بالرئيس الجزائري على ما راج بينهما في موضوع الحدود، فأبدى بعضنا تشككا وارتيابا في حسن نية الرئيس الجزائري الذي اعتبرْنا تسويفه معالجةَ المشكلة تهرُّبا وتملُّصا. لكن الملك قال: «إنه لا يشاطرنا رأينا، وإنه لا يتصور أن يلجأ الرئيس الجزائري إلى الأسلوب الملتوي، وأنه يثق في حسن نيته، إذ لا يُعقَل أن يكافئ المغربَ على سنده الموصول للجزائر بالعمل على إدامة مشكلة الحدود قائمة، وبالأحرى أن يكون همه هو الاحتفاظ بأراض وأقاليم مغربية انتُزِعت من المغرب لدواع استعمارية يعلمها الرئيس الجزائري حق العلم ولا ينازع فيها».وعدنا إلى المغرب لتتلاحق الأنباء الواردة علينا من الجزائر بشن الحكومة الجزائرية حملة تشهير وقذف على المغرب، متهمة إياه بإسناده ثورة القبائل الجزائرية، وبالسعي لزعزعة الاستقرار الجزائري. * وما هي أسباب تلك الحملة ضد المغرب؟ـ كنت أتابع ـ من وزارة الأنباء ـ تطورات هذه الحملة التي لاحظت أنها لا تنحصر في وسائل الإعلام الجزائري، بل تجد لها صدى واسعا إن لم أقل تواطؤا مدروسا من لدن وسائل الإعلام المصري الذي كان يتبنّى الأطروحة الجزائرية ويضيف إليها ما يوحي به الخيال.وكان معروفا تعاطف مصر مع الجزائر، وما كان يجمع الرئيس عبد الناصر والرئيس بن بلا من وشائج، إذ كان الأول يراهن على أن يحمل الثاني في منطقة المغرب العربي لواء القومية العربية الناصرية امتدادا للنظام المصري الذي كان يبحث عن مدخل له لهذه المنطقة. وكان الرئيس بن بلا يؤهل نفسه للعب هذا الدور الريادي، ويهتدي في توجهاته وشعاراته بهدي فلسفة الثورة المصرية. * وكيف تعامل الملك الحسن الثاني معها؟ـ عمل الحسن الثاني على احتواء الأزمة بالحد من تطورها نحو الأسْوأ، وكلف سفيره بالجزائر السيد محمد عواد بالاتصال بالرئيس الجزائري لدحض التهم المفتعَلة، وإعطاء تأكيدات جديدة للرئيس بامتناع المغرب عن كل ما يسيء إلى جارته، وبتطلعه إلى عهد من الوئام والصفاء. وقبِل الملك أن يجتمع وزير خارجية المغرب السيد أحمد رضا جديرة بوزير خارجية الجزائر السيد عبد العزيز بوتفليقة في وجدة ليصدر عنهما بلاغ مشترك أُطلِق عليه «بلاغ الوفاق». ولم يتجاوز الوفاق استبعاد السلبيات بتعهد كل طرف بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للطرف الآخر، وبامتناع كل دولة عن الإضرار بالدولة الأخرى. ولم يثر البلاغ مشكلة الحدود والأراضي المغربية المغتصبة.ولم يطل حلم الوفاق، وإنما استيقظنا على دَويّ أنباء عن مهاجمة الجيش الجزائري غدرا لمركزي «حسي بيضا» و«تينجوب» على الحدود المغربية الجزائرية ولم يكن حولهما نزاع، بل كانا أثناء الهجوم خاضعين للسلطة المغربية وتحت الحراسة المغربية.وقد شرح الملك الحسن الثاني نفسُه في مؤتمر صحافي عقده بمراكش ظروف هذا الهجوم فقال: «لم يترك المهاجمون الجزائريون للمغاربة الموجودين بالمركزين المعتدَى عليهما أي حظ للخروج منهما قبل قصفهما واحتلالهما. وفعلوا ذلك بدون إشعار مسبق، ولا إلفات لنظر السلطة المغربية إلى أن للجزائر مطلبا ما في الأرض، وأن على من فيها أن يغادروها». وأضاف ملك المغرب: «أمام هذا الهجوم الغادر لم يكن لديّ سوى خيارين: أن يتسم رد فعلي بالقلق والانفعال، أو بالتعقل والاتزان. ووضعت رأسي بين يدي متسائلا: من المستفيد من هذه الجريمة؟ هل يُعقل أن يعمد الرئيس بن بلا إلى القيام بمبادرة الهجوم على المغرب ويخلق لنفسه مشاكل خطيرة وهو الذي يعاني من مشاكل داخلية من كل نوع؟ * متى قرر المغرب هجومه المضاد للهجوم الجزائري؟ـ تلاحقت الأحداث بسلوك الجزائر سبيل التصعيد، فلم يمر إلا يوم واحد على لقاء وزيري خارجية المغرب والجزائر بوجدة وصدور بلاغ الوفاق حتى عرف إقليم وجدة المغربي الممتد شرقا إلى التراب الجزائري هجوما مباغتا قام به الجيش الجزائري هذه المرة بكيفية سافرة على مركز «إيش» العسكري الواقع على بعد خمسين كيلومترا من شمال شرق مدينة فيكيك بإقليم وجدة. وكانت تحرسه قوات مغربية لم تكن تتوفر إلا على سلاح خفيف، بينما كان المهاجِمون الجزائريون يشكلون قوات نظامية مجهزة بالأسلحة الثقيلة. والأدهى من ذلك أن الطيران العسكري الجزائري شارك بدوره في الهجوم على منطقة «تيندرارة» (في إقليم وجدة أيضا). وجميع هذه المناطق لم تكن موضوع نزاع بين الدولتين، لأنها تقع في التراب المغربي الذي ظل تحت سلطة المغرب طيلة الحماية الفرنسية وإلى حين إعلان الاستقلال، ولم تقتطعه فرنسا من المغرب أبدا. كما أن هذه المناطق تبعد بألف كيلومتر عن مركزي «حسي بيضا» و«تينجوب» فلا يمكن اعتبار الهجوم عليها مجرد حادث حدود.وبمعنى آخر، إن الجيش الجزائري أصبح يقوم برحلات سياحية يستعرض فيها عضلاته داخل التراب المغربي برا وجوا، مخترقا حرمة السيادة المغربية، وسامحا لنفسه باستعراض عضلاته للإرهاب والتخويف، الشيء الذي دفع بالملك الحسن الثاني إلى إرسال برقية صارخة مؤثرة للرئيس بن بلا احتج فيها على العدوان الجزائري، واسترعى نظر الرئيس الجزائري إلى خطورته وعواقبه وختمها مناديا ضمير الجزائر مخاطِبا السيد بن بلا بقوله: «بوصفكم المسؤول الأول عن مصير الجزائر ومستقبل شعبها، لا يمكنكم أن لا تقدروا حجم العدوان المرتكَب، وأن لا تحسُبوا عواقبه. إن الاتجاه الذي يبدو أن الجزائر تسير في وجهته والذي تجلى في أعمال عدوانية على التراب المغربي لن يساعد بكل تأكيد على خلق جو ملائم للبحث عن حل لمشاكلنا عن طريق التفاوض والحوار المباشر. لذا نناشد مرة أخرى المسؤولين الجزائريين أن يرتفعوا فوق الاعتبارات العاطفية، ويتحكَّموا في انفعالاتهم، وأن يأخذوا بعين الاعتبار أن الأجيال الحاضرة والمقبلة محكوم عليها ليس فقط بالارتباط بعلاقات تطبعها السلم، ولكن أيضا بالارتباط بعلاقات التعاون الأخوي لتشييد مستقبلنا المشترك. ذلك أن قرننا (القرن العشرين) يقوم على علاقات المجاملة، ويلتزم بمقتضيات الأوفاق والمواثيق الدولية التي تفرض على جميع الدول المحترِمة لنفسها أن تستبعد اللجوء إلى العنف. نقول هذا ونضيف أن المغرب على استعداد لمواجهة جميع الاحتمالات وجميع الأوضاع بجميع الوسائل الملائمة». * وماذا كان رد فعل الرئيس بن بلا؟ـ بعد هذه البرقية التي أصَرَّ الرئيس ابن بلا على تجاهلها فلم يَرُدّ عليها ولم يكلف نفسه على إثرها عناء إرسال مبعوث إلى الملك لشرح موقف الجزائر، استمر الحسن الثاني متمسكا بالحوار، ومستنفدا وسائل التفاهم بالحسنى، فبعث إلى الرئيس بن بلا وفدا مركبا من الحاج أحمد بلافريج وعبد الهادي بوطالب لكننا لم نجد من الرئيس استعدادا لحوار بناء. وعدنا لنخبر الملك الحسن الثاني بفشل مسعانا فالرئيس كان يعتبر المغرب المسؤول وحده عن تطور أحداث الحدود. ثم عاد الملك فأرسلني مرة أخرى إلى الرئيس ابن بلا وبرفقتي مدير ديوانه العسكري الكومندان محمد المذبوح في مهمة تستهدف تحسيس الرئيس الجزائري بخطورة الموقف وحَمْله على إيقاف مسلسل الاعتداءات والتحديات. وعن ذلك ، قال الملك الحسن الثاني في مؤتمره الصحافي: «استدعيت وزيري في الإعلام السيد عبد الهادي بوطالب ومدير ديواني العسكري وقلت لهما: «اذهبا للتحدث باسمي لدى الرئيس بن بلا وأطْلِعاه على الخريطة. وقولا له إن «حسي بيضا» و«تينجوب» كانا دائما ترابين مغربيين لا نزاع عليهما».وقسَّم الملك الحسن الثاني الأدوار بيننا، فكان دور المذبوح الحديث لدى الرئيس الجزائري عن ظروف العدوان والسلاح المستعمل فيه، وتجهيزات الفرقة العسكرية الجزائرية المداهِمة. وحدد دوري في ما أعلن عنه في المؤتمر الصحافي وجاء فيه: «كلفت السيد بوطالب أن يشرح للرئيس ما جرى، وأن يقول له بالنيابة عني إنني لا أملك أن أتصور لحظة واحدة أنه قد أعطى الأمر بمهاجمة المغاربة، وأنني أعتقد أن العدوان مدبَّر من لدن عناصر لا تراقبها حكومة الجزائر، وأن الرئيس وُضِع لا محالة أمام الأمر الواقع، وأنني أناشده أن يقتصَّ بالعدل من مرتكبي العدوان».وأقلَّتْنا طائرة (دس3) من مراكش إلى الجزائر في رحلة استمرت ما يقرب من خمس ساعات توقفنا خلالها بوجدة توقفا تقنيا، إذ هذا النوع من الطائرات كان في الستينات في حاجة إلى التزود بالوقود حتى في المسافات المتوسطة.وابتدأ الحديث مع الرئيس بن بلا في جو متشنِّج. وكنت أحاول أن أُلطِّف حدَّته شكلا دون تساهل في العمق. «فالمغرب متشبث بترابه المدمَج من فرنسا في التراب الجزائري وبالمطالبة بإرجاعه طبقا للحجج المؤيدة له، ولكن عن طريق التفاوض والحوار. والمغرب يعتقد أن حوادث العدوان مُفتـعَلة من عناصر جزائرية، ويأمل أن لا يكون العدوان من عمل الحكومة الجزائرية وبإرادتها. والمغرب يعتبر أن ما وقع خطير، ولكن قد توفر خطورتُه الجو الملائم للإسراع بالدخول في المفاوضات، إذ تَرْك الحال على ما هي عليه مؤذن بتفجير أحداث أخرى قد لا يسهل احتواؤها».وانتظرت وأنا أحاول أن أفتح أقفال الرئيس أن يسلك من أحدها إلى تجاوز الأحداث بإعطاء تطمينات عن نوايا الجزائر والوعد باحترام التزاماتها في المستقبل، فلم يُسعِفني الرئيس ببارقة مهدئة لجو التشنج الذي كانت تبدو ملامحه فوق وجهه، واندفع يطلق لسانه بما يفضح طوايا صدره. * لكن ما هي القشة التي قصمت ظهر البعير؟ـ لم يقدم الرئيس اعتذارا عما حصل، ولم يقل كلمة واحدة عن ضحايا العدوان المغاربة، ولم يطلب مني أن أنقل لجلالة الملك أية عبارة للمواساة والعزاء في الضحايا، بل في انفعال مثير قال: «إن مشكلة الحدود مشكلة وهمية ويجب السكوت عنها في الوقت الحاضر لتجاوزها فيما يستقبل». وزاد يقول: «على النظام الملكي المغربي أن يواجه مشاكله الداخلية، وأن يعلم أن النظام الجزائري حصين منيع، ولا يملك النظام الملكي المغربي النيل منه». وكانت هذه الفقرة من الحديث خاتمة الجدل، تعطلت معها لغة الكلام، مما صحَّ معه قول الشاعر العربي القديم :وإن النار بالعُودَيْـــن تُذْكَــــــــــى وإن الحرب أولـهـــــا الكــــــــــلامُ ووجدتُني مضطرا لأن أدخل مع الرئيس في ملاسنة حفظتُ فيها كرامة المغرب ووضعتْ حدا للحوار العقيم. * وما ذا بعد ذلك؟ـ عدت إلى مراكش لإطلاع جلالة الملك على وقائع المهمة التي وكَلَها إليَّ رفقة مدير ديوانه العسكري الذي لم يعلق الرئيس الجزائري على تدخله أثناء استقبالنا عندما كان يفتح أمامه الخرائط ويشرح له مواقع العدوان ومنطلقاته. ولم يعد شرح الكومندان مدبوح في حاجة إلى تعليق بعدما نطق الرئيس بن بلاّ بما أقفل به حديثنا.وفي المؤتمر الصحافي وصف جلالته مهمتي لدى الرئيس بالمهمة السلبية المأسوف عليها وخاطب الصحافيين قائلا: «سأترك بعدي لوزيري في الإعلام السيد بوطالب أن يحدثكم عن أهم ما راج بينه وبين الرئيس الجزائري».وقلت للصحافيين ما كان يمكن قوله مما يبرهن على سلبية المهمة لعدم توفر الاستعداد لتقبلها من الجانب الجزائري دون أن أدخل في التفاصيل، ولا سيما ما جاء في حديث رئيس الجزائر من تقييم مقارَن بين نظامي البلدين.ووجد الملك الحسن الثاني نفسَه مضطرا لسلوك الطريق الذي لم يجد له منفذا سواه، بعد أن استنفد وسائل الحوار الهادئ، فنشِبت حرب الرمال التي استمرت ثلاثة أيام، استرجع فيها المغرب بالقوة بعض ما أخذته الجزائر بالقوة والعدوان، وتوغل الجيش المغربي يقوده الضابط العسكري الكبير العقيد إدريس بن عمر حتى أصبح على بعد 26 كيلومترا فقط من مدينة تيندوف المغربية التي تحتلها الجزائر. كما أعلنتُ عن ذلك في مؤتمر صحافي كنت أعقده مساء كل يوم بمراكش حيث كان يقيم جلالة الملك عن سير العمليات العسكرية. ثم توقفت الحرب وتراجع المغرب إلى حدوده المفروضة تلبية لنداءات، وعملا بوساطات، فدخل المغرب مسلسل العمل على إرجاع ترابه بالإلحاح في المطالبة، بينما تشبثت الجزائر بموقفها.وأود هنا أن أخرج ورقة من مذكراتي عن هذه الفترة لأقول إن الجيش المغربي قَبِل على مضض أن يتوقف القتال طبقا لأمر جلالة الملك. وأنني حضرت مشهدا دراميا عندما جاء إلى مراكش قادما من الجبهة الكولونيل( العقيد) إدريس بن عمر الذي كان على رأس الجيش المغربي واستقبله جلالة الملك بحضور الحاج أحمد بلافريج وأحمد رضا كديرة وعبد الهادي بوطالب فخلع الكولونيل «جاكيتته» التي كانت تحمل أوسمته العسكرية ووضعها جنب الملك الحسن الثاني في إشارة منه إلى الاستقالة وقال : «مولاي لا يُقبل في المنطق الحربي والتقاليد العسكرية أن يعود جيش منتصر إلى منطلقاته الأولى كجيش منهزم». وطالب بأن تبقى وحدات الجيش المغربي حيث كانت إلى حين تسوية مشكلة الحدود. ولكن الملك الحسن الثاني صاح في وجهه أن يرتدي «جاكيتته» وأن يمتثل لأمر القائد الأعلى للجيش فتراجع الضابط العسكري الشهم، ورجع جيش المغرب إلى قواعده الأولى. وكان موقف الملك الحسن الثاني يعبر عن رغبته الصادقة في أن يعاد مدُّ الجسور بينه وبين الجزائر، وأن لا يُقطَع الطريق على إقامة المغرب العربي (الخيارِ الاستراتيجي الدائمِ للمغرب). وبالفعل حضر الملك الحسن الثاني الاجتماع التاريخي في باماكو (مالي) أواخر أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1963 وطُوي الملف المغربي ـ الجزائري إلى حين. * وكيف تُقيِّم سياسة الرئيس بن بلا إزاء المغرب؟ـ الرئيس بن بلا كانت السياسة عنده خاضعة للايديولوجية ومتكيفة بمقتضياتها. فمن الخلاف على الحدود قفز الرئيس إلى خلاف النُّظُم، ومن خلاف النظم سلك سبيله إلى خلاف التحالفات، فعقَّد المشكلة الجزائرية ـ المغربية وقذف به في طريق مسدود، معتقدا أن هذا التعقيد هو الحل الطبيعي، عملا بمبدأ «كم من حاجة قضيناها بتركها». لكن الرئيس الجزائري رجل الخلافات الخارجية لم يصمد أمام ما أثير بينه وبين رفاقه مكافحي جبهة التحرير من خلاف داخلي عصف به بقيام انقلاب العقيد هواري بومدين الذي نـحّـاه عن الرئاسة ووضَعَه تحت الاعتقال.
7-عندما وقع الانقلاب على بن بلا تنفسنا الصعداء لأنه لم تكن بين المغرب وبومدين حسابات خاصةكانت أضحية حفل سبوع الملك محمد السادس أول وآخر كبش ذبحته في حياتي تميزت سنة 1963 في المغرب بأربعة احداث مهمة، الأول يتعلق بولادة الامير سيدي محمد ولي العهد (الملك محمد السادس) والثاني يتعلق بانشاء جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية التي تزعمها آنذاك احمد رضا كديرة وزير الداخلية، والثالث هو تنظيم الانتخابات البرلمانية الاولى في المغرب المستقل. اما الحدث الرابع فهو ما اطلق عليه اسم (المؤامرة). وفي هذه الحلقة يروي عبد الهادي بوطالب السياسي المغربي المخضرم بعض وقائع حفل عقيقة ولي العهد. كما يحكي عن الظروف التي دفعت بكديرة الى تأسيس الجبهة التي اختصرت بالفرنسية باسم «الفديك»، بالاضافة الى المشاكل التي تعرضت لها خاصة هزيمة ستة وزراء في الانتخابات التشريعية.ويتطرق ايضا الى اسباب الجفوة التي كانت بينه وبين الجنرال أوفقير . اجرى الحوارات: حاتم البطيوي * في 21 أغسطس (آب) سنة 1963 ازداد الأمير سيدي محمد (الملك محمد السادس). فكيف استقبل القصر الملكي هذا الحدث السعيد؟ـ ميلاد سيدي محمد لم يكن ميلاد أمير أو ميلاد الابن الأول للملك الحسن الثاني فقط بل كان ميلاد ولي عهد المغرب. وأنتم تعلمون أن الدستور سنة 1962 حسم في موضوع ولاية العهد وتوارث العرش إذ نص في باب الملكية على أن عرش المغرب يعتليه الملك الحسن الثاني ويتوارثه أعقابه، وابنه الأكبر هو خلفه إلا إذا غيره الملك قيد حياته.وكان الملك الحسن الثاني قد رُزق بابنته الأميرة للامريم في أواخر 1962 أولا ثم ظل يتطلع إلى ولد ذكر يكون ولي عهده. لذلك كان ابتهاج القصر الملكي كبيرا بميلاد ولي عهد المغرب.وقد أقام الملك الحسن الثاني حفلة العقيقة للمولود في اليوم السابع من ميلاده وفاجأني عندما قال لي: «إنك أنت الذي ستذبح كبش العقيقة وتعلن اسمه فقد أعطيته اسم جده محمد» وفعلا توليت ذلك في ساحة القصر الكبرى بحضور المدعوين من أعضاء الحكومة وكبار رجال الدولة. وأشرف الملك على حفل العقيقة وساعدني أعوان القصر على تولي ذبح الكبش بإقامة الستار الحاجز بيني وبين الكبش حتى لا يتلطخ لباسي بالدم (كما جرت عليه العادة بالقصر) وكانت أضحية العقيقة هذه أول كبش ذبحته في حياتي ولم يتكرر ذلك قط. وبعد انتهائي من عملية الذبح نفحني جلالته صُرَّة ليف خضراء احتوت على مائة «لويز ذهبي» جريا على العادة التي كان الملوك والخلفاء العرب والمسلمون يقومون بها مع العلماء والفقهاء والشعراء مما حفل به التاريخ واشتهر من «أن فلانا خلَع عليه الملك وأعطاه ألف دينار وقال زِه». والملك الحسن الثاني ظل يحيي هذه التقاليد إلى وفاته رحمه الله.* قبل ولادة ولي العهد وبالضبط في 20 مارس (آذار) 1963 تم تأسيس «جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية» «فديك» من قبل أحمد رضا كديرة الذي كان آنذاك وزيرا للداخلية. فهل تصرف الرجل من وحي ذاته أم دفعته إلى ذلك عقدة الأقلية؟ أم أنه كان يعمل لصالح فرنسا كما قالت بعض الأطراف الحزبية آنذاك. وما حقيقة ما ينُسب إليه من ميكافيلية خطيرة؟ـ أولا أستبعد من هذه الاحتمالات أو التأويلات عمل كديرة لصالح فرنسا. وقد نسب إليه خصومه تهما عديدة حتى قال بعضهم عنه إنه عميل لإسرائيل. وكان الحزب الذي ينتمي إليه كديرة هو حزب الأحرار المستقلين. ولم يكن كديرة هو رئيسه وإنما كان الدينامو المحرك لهذه الحركة ومنظرها وحامل القلم للدعوة إليها.كان لكديرة قلم جيد ولغة فرنسية قوية. وكان الملك الحسن الثاني يقول عني وعنه: «إن كديرة الكاتب الأول المقتدر في اللغة الفرنسية الذي يوجد بجانبي، وعبد الهادي بوطالب الكاتب الأول المقتدر في اللغة العربية الذي يوجد بجانبي وأطمئن إلى تحريرهما وحسهما السياسي». وكان الحسن الثاني يعرف كديرة معرفة دقيقة بحكم التلاحم والعلاقة الحميمة التي كانت بينهما. فعلاقتهما لم تكن مجرد علاقة وزير أو مدير ديوان أو مستشار مع ملك، بل علاقة صداقة وكانت بينهما أسرار خاصة من نوع السر المكنون الذي لم يكن ينفذ إلى خباياه أحد. * أكثر من الأسرار التي كانت بينك وبين الملك الحسن الثاني؟ـ نعم أكثر. فأنا لا أدعي أن الأسرار التي كانت بيني وبين الملك الحسن الثاني هي أكثر من تلك التي كانت بينه وبين كديرة أو في مستواها. فهو كان وزير الحسن الثاني وكاتم سره، ولم نكن جميعنا من نوع كديرة. كنا درجات. وكديرة يتصدر الدرجة الأولى، لكن كانت تحدث مع ذلك بينهما أزمات أحدثت فجوات مؤقتة في علاقتهما. ويمكن معرفة ارتباط كديرة بالملك الحسن الثاني من طبيعة المهام التي تقلدها. فلا يُعقل أن يولي الملك كديرة إدارة الديوان الملكي ووزارة الداخلية ووزارة الفلاحة دفعة واحدة، ثم وزارة الخارجية وهو لا يطمئن إليه ولا يثق في أهليته وتعلقه الشخصي به. وكديرة من نوع الوزراء الذين سبقت الإشارة إليهم وقال في حقهم الملك الحسن الثاني إنه يود أن يتعامل مع من يوادُّه أكثر من التعاون مع من لهم الكفاءة ولا ينسجم معهم. وكان كديرة في آن واحد من نوع المسؤولين الذين يتوفرون على الكفاءة من جهة ويتمتعون بمودة الملك من جهة أخرى. وكان يصارح الملك بآرائه ويتقبل الملك منه نصائحه. ثم أصبح الملك يتضايق منه ويقول: «يخطئ كديرة أحيانا وينسى أنني لم أعد الأمير ولي العهد الذي كان يعرف. وأنني أصبحت ملكا». وكان الملك يؤدبه على ذلك. وعاقبه مرة فنحاه عن الوزارة وظل بعيدا عن القصر الملكي قبل أن يعيده من جديد مجرد وزير لقطاع وزاري في وزارة التربية الوطنية. * أين كان يصنفك الملك الحسن الثاني بين الوزراء والمستشارين؟ـ لا أستطيع أن أحكم على سرائره. الذي أعلمه أنه كان يصنفني بين الوزراء الذين كان يحترمهم أكبر احترام. بل أستطيع أن أقول إنه كان يوليني احتراما خاصا لا يعطيه لغيري. وهذا يكفيني وأعتز به.لم يكن يدعوني باسمي بدون السيد عبد الهادي أو السي بوطالب أو الأستاذ، ولم يكن يخاطبني بالفرنسية بصيغة المفرد وإنما بصيغة جمع الاحترام. وحتى فاجأ الجميع مرة عندما تحدث عني بكلمة «أستاذنا» في حفل ديني بالقصر الملكي أمام الإعلام المسموع والمرئي. فأصبح العديدون في المغرب يقلدونه ويتوجهون إليَّ بنفس ما نطق به: (أستاذنا).وما دمتم سألتم هل كان يحبني فإني سأعرض عليكم ما كتبه بخط يمينه على صورته الرسمية التي أهداها إليَّ ووقع عليها وجاء في الإهداء قوله: «إلى وزيرنا وأستاذنا السيد عبد الهادي بوطالب تقديرا منا لشخصه ومحبتنا له وتكريما لمواهبه. الإمضاء: الحسن بن محمد ملك المغرب». (وأطلعني الأستاذ بوطالب على هذه الصورة وهذا الإهداء. وكانت الصورة بمكتبته حيث كنا نتبادل هذا الحديث).* لقد تم إنشاء جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية قبل أسابيع قليلة من إعلان الانتخابات. كيف تم الجمع بين مركِّباتها (الحركة الشعبية، الأحرار المستقلين، الحزب الدستوري الديمقراطي). وما هي ظروف التحاقك بها؟ ـ الفكرة كانت من وحي كديرة، فهو كان يرى أن الانتخابات هي قضية عدد وأغلبية لا يمكن أن تفوز فيها التكتلات الصغرى، ولا يمكن أن تتغير أوضاع المغرب إذا كان سيسود فيه نظام الحزب الوحيد. ولذلك فكر في أن يجمع فصائل من الفعاليات السياسية تحت اسم «جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية». وفي الواقع عرض عليَّ أن أكون شخصا فاعلا فيها، وأشار إليَّ أن أكون نائبا له (نائب الأمين العام)، أو نائبا لأحمد باحنيني (رئيس الجبهة)، ولكني كنت دائما أجتر هاجس انتقالي من حزب الشورى والاستقلال إلى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وانسحابي من الاتحاد. وكنت قد تحدثت لك عن هذا من قبل.لقد كان كديرة هو قائد الجبهة الحقيقي، حتى إن النداء على أحمد باحنيني كرئيس لها لم يكن يعني أكثر من ألا يظهر كديرة على أنه مبتدأ الجبهة وخبرها، زيادة على كون باحنيني رجلا وطنيا وأحد الموقعين على عريضة المطالبة بالاستقلال سنة 1944، وأحد مؤسسي حزب الاستقلال. لكن الملك الحسن الثاني كان يعرف أن باحنيني ليست له القدرة على أن يقود سفينةَ مؤسسةٍ حزبية فبالاحرى قيادة تحالف حزبي مثل الجبهة. لذا سماني وزيرا منتدبا للوزير الأول في حكومة باحنيني وكلفني بالشؤون السياسية والعلاقات بالبرلمان. وأنا من جهتي عملت في الجبهة كوزير أكثر مني عضوا عاملا، بحكم أن الجبهة كانت تُسنِد الحكومة التي كنت عضوا فيها وناطقا باسمها ومكلفا بشؤون البرلمان ودافعت عنها أمام البرلمان ضد ملتمس الرقابة (سحب الثقة) مدة 3 ساعات على شاشة التلفزيون بدون توقف بعد أن عارضتها أحزاب المعارضة. وكان مفروضا أن يتحدث رئيس الحكومة أحمد باحنيني لكن لا أحد كان يلتمس فيه القدرة على المواجهة. لقد كان قانونيا مقتدرا ولم يكن سياسيا أو خطيبا. وهو نفسه طلب مني أن أتولى مواجهة المعارضة ونصرة الحكومة المهدَّدة بملتمس الرقابة. وواجهت بشجاعة المعارضين للحكومة، فبرأت ساحتها مما كان يُنسَب إليها من تهاون، ويوجه إليها من اتهامات. وعلقت على جميع النقط التي أثارها نواب أحزاب المعارضة إذ قمت طيلة ثلاثة أيام بتسجيل جميع انتقاداتها ولم أترك نقطة أثارتها إلا وترصدت لها بالرد. وكانت المناسبة أول مرة يبث فيها التلفزيون مباشرة وقائع جلسة البرلمان.* تميزت الانتخابات التشريعية لعام 1963 بهزيمة ستة وزراء من بينهم أنت والمحجوبي أحرضان ويوسف بن العباس والدكتور محمد بن هيمة ومولاي أحمد العلوي وإدريس السلاوي. فكيف تقبلتم تلك الهزيمة؟ـ أنا لا أريد أن أطعن في نزاهة تلك الانتخابات بسبب عدم فوزي فيها. فهذا ليس سلوكي. ولو كانت مزورة لصالح الحكومة لنجح الوزراء المرشحون فيها.لقد تضافرت عدة عوامل لسقوطنا من بينها أن المعارضة كانت معروفة على الساحة السياسية بحكم وجودها قبل تأسيس الجبهة وبحكم إعدادها الجيد لخوض الانتخابات. لكن أيضا يجب أن أذكر أننا لما دخلنا الانتخابات وتقدمتُ في مدينة المحمدية لأترك المجال لوزراء آخرين ليترشحوا في الدار البيضاء كنت أعتبر أن المحمدية كانت من المراكز الحساسة عندنا في حزب الشورى والاستقلال. وأذكر بكل شفافية وصدق أنني كنت أذهب للمحمدية لأقوم بحملتي الانتخابية وأنا وزير على متن سيارتي الخاصة وبسائق غير موظف في وزارتي. وكنت أخطب في التجمعات الانتخابية، ولم يسبق لي أن طلبت من رجال السلطة في المدينة أن يناصروني. وخضت المعركة الانتخابية في مواجهة الاستقلالي ابن العَرَبي. وكان من يعارضونني يرجمون بالحجارة من يتجمعون حولي وأنا أخطب. ولم تتدخل الشرطة التي كانت موجودة في المكان لحماية من كانوا يهاجمون حملتي الانتخابية. لقد كانت هناك عصابات تناهض أن تجري الانتخابات في هدوء وسلام.وابن العربي هو الذي فاز بمقعد مدينة المحمدية وهو من مواليد المدينة وربما اعتُبِرت أنا غريبا عنها وإن كنت لا أعتبر نفسي أنتمي إلى فاس أو المحمدية أو الدار البيضاء. فأنا مغربي أنتمي إلى المغرب قبل كل شيء، لكن ما يزال للتفكير القبلي أو الجهوي أثره على بعض العقول.وأرادت السلطة أن تلتزم الحياد فلم تتدخل حتى ضد المجرمين المعَكِّرين للأمن. وأخيرا لم ينجح في الدار البيضاء إلا وزير واحد هو أحمد رضا كديرة وزير الداخلية. ويقال ان العقيد إدريس بن عمر الذي كان آنذاك عاملا (محافظا) للدار البيضاء قال: «إنه إذا لم ينجح كديرة وزيري في الداخلية في المدينة التي أنا على رأسها فسأخلع بذلتي العسكرية وأنسحب». وكان أن نجح كديرة في حي الكاريير سنطرال وهو حي شعبي لا علاقة لكديرة به. * لماذا انسحب أحرضان عام 1964 من الجبهة؟ـ ربما لأنه أحس أن الجبهة توزعت بشكل لم يَرضَ عنه. فالدكتور الخطيب أصبح رئيسا لمجلس النواب، وكديرة أمينا عاما للجبهة، وأحمد باحنيني رئيسا لها. فهو انسحب منها مثلما انسحب منها محمد بن الحسن الوزاني الأمين العام لحزب الدستور الديمقراطي. وربما كانا معا يريدان أن يحصلا داخل الجبهة على مركز يليق بماضيهما كزعيمين، مع العلم أن الجبهة لم يكن منتظرا أن تطول حياتها. فهي أُنشِئت فقط من أجل الانتخابات. كما أن النكسات التي مُنِيت بها ـ خاصة نكسة سقوط الوزاني في الانتخابات ـ جعلت الناس ينظرون إليها على أنها ملتقى لشخصيات بعضهم له وزن كبير، وأن عنوان «الدفاع عن المؤسسات الدستورية» لا يكفي لتجميع تحالف كبير من نوع التحالف الذي تشكلت من أجله جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية. * بعد أشهر قليلة من تعيين كديرة وزيرا للخارجية سرعان ما تم تعيينه من جديد وزيرا للداخلية. فما هي خلفيات هذه العودة السريعة؟ـ كديرة كانت له مؤهلات كبيرة. كان رجل دولة اكتسب خبرة واسعة بتقلبه في وزارات متعددة، إضافة إلى كونه كان رجل ثقة الملك الحسن الثاني. وكانت علاقتهما تمر بمرحلة صفاء تتخلله أحيانا بعض الغيوم. دون أن تصل العلاقات إلى حد القطيعة. فالملك كان يحتاج إليه ولكفاءته. وكان من عادة الملك أنه لا يلبث أن يعود إلى المصالحة إذا ما حصلت بينه وبين أحد أعوانه جفوة.* حينما انسحب أحرضان من الجبهة أسس كديرة عام 1964 الحزب الاشتراكي الديمقراطي. ولم يكن من بين مؤسسيه أي شخص ينتمي للحركة الشعبية أو حزب الدستور الديمقراطي. وضم الحزب الجديد أحمد باحنيني (رئيسا)، وكديرة (أمينا عاما)، وعبد الرحمن الخطيب، وأحمد العلوي، ومحمد الغزاوي، والمفضل الشرقاوي أعضاء. فما هي أسباب عدم التحاقك بهذا الحزب؟ـ أراد كديرة أن يكون الحزب الجديد البديل عن جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية التي كانت كشكولا جاء بعد مخاض عسير لضم شتات الأحزاب التي لم تكن منضوية في جبهة حزب الاستقلال والاتحاد الوطني. وطغى طابع كديرة على الحزب أكثر من طابعه على الجبهة.وكان الحزب في الحقيقة حزب كديرة، وانخرط فيه من لهم علاقة حميمة بالملك مثل محمد الغزاوي الذي كان عضوا مرموقا في حزب الاستقلال ولم يكن له أي تجاوب أو تجانس مع كديرة، لكنه كان مقربا من الملك وتقلب في عدة وظائف سامية مثل منصب المدير العام للأمن الوطني. وتقلد مرة وزارة الصناعة ولم يمكث فيها إلا بضعة أسابيع. كما سبق له أن عُيِّن مديرا عاما للمكتب الشريف للفوسفات. لقد انخرطت في الجبهة لأنها لم تكن مشخَّصة في زعيم، ولم أنخرط في حزب كديرة وإن كان اسمه الحزب الاشتراكي الديمقراطي. الحزب الجديد دام عمر الورود، أي استمر صبيحة يوم. وكان نشاطه يتجلى أكثر في المقالات التي كان يحررها كديرة في صحيفة LES FARS باللغة الفرنسية. وكان صحافيا مقتدرا وذا قلم قوي باللغة الفرنسية. ويمكنني أن أقول إنه كان رجل الصحيفة أكثر منه رجل الحزب. ولم يكن اجتماعيا أو رجل العلاقات العامة بل كان يميل إلى الانطواء على نفسه وخاصته وعددها قليل.* حينما اُعلِن عما سُمي بـ«مؤامرة يوليو» كنتَ مشاركا في الحكومة. ففي نظرك هل كانت أحداث يوليو حقا مؤامرة أم افتعالا لها للقضاء على خصم سياسي عنيد هو الاتحاد الوطني للقوات الشعبية؟ـ سأتكلم معك بكل صدق، مثلما حرصتُ في جميع الأحاديث التي أجريتها معك على أن يكون كلامي من منبع الصدق لا من منبع التأويلات أو التكهنات التي ألاحظ أنكَ تعتمد عليها في صياغة أسئلتك. ودعني أبين لك أن كل ما جرى بخصوص المؤامرة وأسبابها ومراحل التحقيق فيها أمام الشرطة والقضاء لم يكن الملك الحسن الثاني يفضي إليّ به أو يشركني فيه لأنه كان يعتبر أن ميدان الأمن يخص الملك والأجهزة ذات الاختصاص التي كان يشرف على توجيه سياستها وفي طليعتها الدفاع الوطني والأمن الوطني. ولذلك لم يكن يعين في وزارتي الدفاع والداخلية إلا من يطمئن إليه كل الاطمئنان. وحتى إذا كان على وزارة الدفاع وزير بهذه الصفة فإنه يشتغل بالشؤون الإدارية أكثر مما يشتغل بترقية الضباط أو تنقلاتهم أو شؤون الجيش، وبصفة عامة كان الملك نفسه يقوم بذلك بوصفه القائد الأعلى للجيش ورئيس الأركان. ونفس الشيء كان يجري بالنسبة لوزارة الخارجية. أما الأمن فكان ميدانه الأخص. لذلك كنت ككثير من الوزراء لا أعلم شيئا عن المؤامرة. والذين كانوا في الحكومة آنذاك وما زالوا أحياء يمكن أن يؤكدوا ما قلته لك. كما أني لا أعلم أنه انعقد قط مجلس وزاري سواء تحت رئاسة الملك أو تحت رئاسة الوزير الأول وكان موضوع المؤامرة في جدول أعماله.بطبيعة الحال كنا نسمع ما يسمعه الناس حول وجود مؤامرة متهم فيها بعضُ قادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. وكان يخطر في بالي أن تلك المؤامرة يمكن أن تكون مفتعَلة، مثلما كان يخطر في بالي التساؤل ألا يكون أصدقائي القدامى ربما غيروا توجههم السياسي بعد يأس ودخلوا في المتاهة. لكنني لم أكن أعلم أكثر من ذلك، ولم يكن يُسمح لأحد أن ينفذ إلى هذا الملف الحساس. * هناك من يقول إن الكولونيل محمد أوفقير مدير الأمن الوطني آنذاك، وأحمد رضا كديرة أوْهَما الملك بهذه المؤامرة. ما هو استنتاجك؟ـ لا أنفي عن أوفقير أي نوع من هذه المناورات. فملف الأمن كان في يده. هل كان يقول للملك كل الحقيقة؟ هل كان يخترع معلومات كاذبة ويقدمها على أنها حقائق؟ فأوفقير يمكن أن يكون قادرا على كل شيء، لكن ليس لي أي تأكيد على ما أقول ولا أستطيع تأويل ما أجهله. * وماذا عن دور كديرة في ذلك؟ـ ما أعتقد أن كديرة قد يكون نزل إلى مستوى أوفقير: هو رجل قانون ومحام. لكنه قد يكون نظر في الملف كمحام ولا شك أنه كان يعرف ما كان يوجد فيه من خلل. وكان يترك للقضاء واسع النظر.* في الحكومة التاسعة التي عينها الملك في 13 نوفمبر (تشرين الأول) 1963 وامتدت إلى يونيو (حزيران) 1965 برئاسة أحمد باحنيني، سميت في البداية وزيرا منتدبا لدى الوزير الأول. فما هي المهام التي كُلِّفتَ بها؟ـ تم ذلك بعد تأسيس «جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية»، ومارست من خلال ذلك المنصب مهام الناطق باسم الحكومة بالإضافة إلى تنسيق العلاقة بين الحكومة والبرلمان. ولما جاء ملتمس الرقابة إلى مجلس النواب الذي تقدمت به المعارضة كان عليَّ أن أقوم بالدفاع عن الحكومة بدلا من رئيس الحكومة الذي كان ملتمس الرقابة يستهدف شخصه وحكومته. وطيلة الأيام الثلاثة من مناقشة ملتمس الرقابة (حجب الثقة) كان المتحدثون باسم المعارضة ينتقدون الحكومة، إلا أن الملتمس لم يحظ بالأغلبية وسقط بعد أن دافعتُ عن الحكومة في بث تلفزيوني مباشر دام ثلاث ساعات حرصتُ خلالها على الرد على جميع الانتقادات الواحد تلو الآخر.* خلال ملتمس الرقابة (سحب الثقة) الذي تقدمت به المعارضة والذي تحدثتَ عنه عابرا في ما سبق، دافعتَ عن حكومة باحنيني بكل ما تملكه من قوة خطابة وإقناع. ألم تحس آنذاك أن صورتك كمناضل عنيد سواء في صفوف حزب الشورى والاستقلال أو الاتحاد الوطني قد اهتزت في أعين الشارع المغربي؟ـ لا أدري ما إذا كانت الصيغة التي صُغْتَ بها هذا السؤال تعكس واقع الأمر. فأنا لا أظن أن صورتي آنذاك قد اهتزت. والذي سمعته ـ وقيل لي أيضا مباشرة ـ هو أن صورتي تَلمَّعت أكثر. وكان الناس معجبين بالطريقة التي دافعت بها عن الحكومة، وهنأني على ذلك أحد المعارضين في حزب الاستقلال هو عبد الخالق الطريس. وأذكر أن الطريس الذي عاد من مصر بعدما كان سفيرا للمغرب وانتُخب نائبا في مجلس النواب، جاءني في نهاية المرافعة وبعد التصويت بالثقة على الحكومة وعانقني قائلا: «لقد اخترقت أدلَّتنا وحُجَجَنا بمهارة وشجاعة. وأمنيتي على الله سبحانه وتعالى أن يؤلف جهود الجميع وأن تتكوَّن حكومة وحدة وطنية تكون أنت فيها الناطق باسمنا جميعا».وكانت التلفزة المغربية لا تزال في بدايتها فشُدَّ المشاهدون عبر المغرب إلى هذا الحدث الكبير الذي كان مشهدا جديرا في حياة الأمة إذ لأول مرة كان مشاهدو التلفزة يعيشون وقائع مساءلة النواب أعضاء الحكومة، وجواب الحكومة التي كنت الناطق باسمها. ولأول مرة بثت التلفزة وقائع حوار البرلمان بثا مباشرا طيلة ما ينيف على ثلاث ساعات.وبما أنني انتقلت مرة واحدة من حزب لآخر، فإنني أحيانا كنت أطرح السؤال على نفسي: هل تغيرت؟ هل غيرت آرائي ومعتقداتي؟ وكنت أجيب: لا. فأنا كنت دائما في موقع النضال الذي اخترت لنفسي أن أكون فيه. ودافعت عن حكومة أنتمي إليها باقتناع كامل من موقع مسؤوليتي فيها. وكنت أرَى أنها تُتـَّهَم باطلا من طرف المعارضة فقط بغية تمرير ملتمس الرقابة ضدها وإسقاطها. وكنت أرد على كل ما يصدر من لسان المعارضة بحجج قوية كانت تتخللها أحيانا نكهة الدعابة والمرح. وعلى سبيل المثال أذكر أن النائب المعارض آنذاك المعطي بوعبيد الذي كان أول مدير لديواني في وزارة الشغل في الحكومة الأولى إثر الاستقلال قال في تدخله: «إن وزير الشغل يقضي يومه في تصدير اللحوم البشرية إلى الخارج» وكان يقصد تشجيع هجرة العمال المغاربة إلى الخارج، لكنه عبر عن ذلك بقوله: «إنه يظل طول وقته يصدِّر اللحوم البشرية إلى الخارج». فكان جوابي عليه: «أتتذكر سيادة النائب المحترم كم مرةً صدَّرنا اللحوم البشرية (أنا وأنت) عندما كنتَ مديرا لديواني في وزارة الشغل». وتحدث النائب المعارض عبد القادر الصحراوي وقال محركا يده: «إن وزارة المالية إنما تظل تطبع الأوراق النقدية وتدير طاحونة الطبع بدون انقطاع». فداعبته قائلا: «هل رأيتَ مرة في حياتك أوراقا يلقى بها في الطاحونة؟ إذا طُحنَت هذه الأوراق في الطاحونة تلاشت وتبددت». ورددت على ما جاء في تدخل نائب آخر: «إن الوزراء يركبون سيارات المرسيدس، وأن في ذلك تبذيرا لأموال الأمة، والدولة لا يمكنها أن تتحمل ذلك». فكان جوابي: «أتقترحون ـ سيادة النائب ـ أن يركب الوزير حمارا بدلا من المرسيدس؟، أيُسرُّكم ذلك؟ ألا يوجد من بينكم من جاء إلى البرلمان وترك سيارة المرسيدس أو حماره في الباب؟». وكان عدد من النواب يأتون البرلمان ولهم مرسيدسات.أنا لم أغير موقفي. وما كان يهمني أن تهتز صورتي أو لا تهتز. أن تتلمع أو لا. لقد كانت لديَّ الشجاعة في أن أتحمل مسؤوليتي عما أفعل. ولم أكن أهتم بغير ذلك. * في عام 1965 وقع انقلاب هواري بومدين في الجزائر. فكيف كان صدى ذلك في المغرب؟ ـ لم ندرس هذا الموضوع في المغرب من منطلق من الأفضل للمغرب أهو بن بلا الذي وقع عليه الانقلاب أم بومدين الذي أصبح على رأس الحكم؟المعروف أن علاقة المغرب بحكومة بن بلا لم تمر بفصل الربيع ولا حتى بشهر العسل. وإنما عرفت علاقات شاذة وصعبة. والأزمة الداخلية في الجزائر كانت تبدو في المغرب خطيرة لأننا لم نأخذ في عهد بن بلا من الجزائر الأراضي المغربية التي كنا نريد أن نسترجعها.بعد حدوث الانقلاب ربما تنفسنا شيئا ما الصعداء وقلنا لِننتظِر توجهات النظام الجديد، خصوصا انه لم يكن بين المغرب وبومدين حسابات خاصة، لأن بومدين كان في وزارة الدفاع ولم يكن بالرجل البارز في الساحة السياسية في الجزائر. ولم يكن من قادة الجبهة الأولين.وفعلا عندما جاء بومدين إلى الحكم تطلعت الآمال إلى أنه قد يحدث انفراج في العلاقات، وقد نصل معه إلى تحقيق ما عجزنا عن تحقيقه مع الرئيس بن بلا.* ما مدى تأثير اختطاف الطائرة التي كانت تُقِلّ قادة جبهة التحرير الجزائرية عام 1957 من قِبَل الفرنسيين بعد مغادرتها المغرب إلى تونس على آفاق العلاقات المغربية ـ الجزائرية؟ـ بالعكس لم يكن له أي تأثير. فاستضافة الزعماء الجزائريين الخمسة في المغرب، واصطحاب الملك محمد الخامس لهم إلى تونس، واختطاف الطائرة، هذا كله كان يدخل في سياسة المغرب الوفية لمساندة الجزائر، ويدُلُّ على إيمان الملك محمد الخامس بضرورة إقامة اتحاد المغرب العربي، وبضرورة الانتظار لحل المشاكل الثنائية بين الجزائر والمغرب في ظل آفاق أوسع وأرحب.إن حادث الاختطاف كان يُعتبر في المغرب اعتداءً من فرنسا على المغرب لأنه اعتداء على ضيوف جلالة الملك القادمين في حماه وضيافته من المغرب المستقل. وعملية الاختطاف علامة على أنه لا يزال لدى الفرنسيين حنين إلى انتهاك سيادة المغرب وتونس. فالاختطاف له تأثير على العلاقة بين المغرب وتونس من جهة وفرنسا من جهة أخرى.* هناك مزاعم تقول إن الحاكم الفرنسي في الجزائر علم بموعد مغادرة القادة الجزائريين الخمسة من المغرب ومن مكتب الأمير مولاي الحسن. ما تعليقك؟ـ هذا كلام لا يُقبَل في حق الأمير مولاي الحسن. فهو كان وطنيا ولا يمكن أن يكون إلا ذلك. والمغرب هو الملك والملك هو المغرب. أرأيت رجلا يتآمر على نفسه أو أميرا يبيع للشيطان عرشه؟ وربما يكون الفرنسيون قد تجسَّسوا. ففرنسا كانت لها آنذاك أجهزة تنصُّت متقدمة في مجال الجاسوسية. * في 20 أغسطس (آب) 1964 عُـيِّـنتَ وزيرا للعدل. فما هي ظروف تعيينك في هذه الوزارة الحساسة؟ـ عينتُ وزيرا للعدل في ظروف خاصة. وكان وزير العدل الذي خلفته هو السيد عبد القادر بن جلون. وكان زميلا لي في حزب الشورى والاستقلال، وفي حكومة الاستقلال الأولى كان وزيرا للمالية. وكان مطروحا آنذاك موضوع إقامة محكمة العدل الخاصة لمحاربة الفساد والتلاعب بالمال العام. وكان المفروض في إقامة هذه المحكمة أن يعمل فيها القضاء بإجراءات سريعة ولكن تُحترمُ فيها حقوق المحالين اليها، وأن تفرض المحكمة أقصى العقوبات بالنسبة لمن يتطاولون على أموال الدولة من المرتشين الذين تختص المحكمة في النظر في تهمهم. ولم يكن الوزير بن جلون مرتاحا لإنشاء هذه المحكمة كما أن أحمد رضا كديرة كان ضد إنشائها. كانا يعتبران أنها محكمة خاصة استثنائية قضاء المغرب غني عنها.وراهن الملك الحسن الثاني في إنشائها على تدشين عهد جديد يقوم على تنظيف الحكم وتخليق الإدارة. وبينما كان الوزيران يعارضان إنشاء المحكمة المذكورة كان الملك الحسن الثاني مؤمنا بفعاليتها للضرب على أيدي المتلاعبين ومرتكبي الفساد وسارقي المال العمومي، ومن يرتشون ويقومون ـ وهم يعملون داخل الدولة ـ بصفقات سرية مشبوهة. لذلك أعفى بن جلون من منصبه وعرض عليّ أن أكون وزيرا للعدل. بعدما سمع مني أنني أؤيد إنشاء هذه المحكمة التي ما زالت موجودة حتى الآن وأني لا أجد فيها ما يسيء إلى القضاء. وكنت أعتقد أنها توفر الضمانات للمتهمين ليدافعوا عن أنفسهم، وتخفف من تعقيد الإجراءات المسطرية وتشدد العقوبات. وربما كان هذا أحد الأسباب التي جعلت الملك الحسن يختارني للإشراف على وزارة العدل لأنني كنت مقتنعا بفعالية المحكمة وشدة الحاجة إليها. كانت نظرتي إليها سياسية بينما كانت نظرة بن جلون وجديرة إليها قضائية. * بعد تعيينكم وزيرا للعدل أشرفتم أيضا على مشروع مغربة القضاء وتعريبه وتوحيده. ماذا تقولون عن هذه التجربة؟ ـ هذا المشروع هو قانون 26 يناير (كانون الثاني) 1965 المتعلق بتوحيد القضاء ومغربته وتعريبه.وكان يراد من هذا القانون توحيد القضاء أي توحيد المحاكم. ذلك أن المغرب كان يتوافر على مجموعة من المحاكم الموروثة عن نظام الحماية الفرنسية والاسبانية.* في نفس الحكومة التي عُينتَ فيها وزيرا للعدل عُين فيها أحمد الطيبي بنهيمة وزيرا للخارجية. فماذا تقولون عن هذه الشخصية التي تقلبت في عدة وظائف؟ـ لقد كان الملك الحسن الثاني يقيم بمدينة إفران عندما قام بتأليف الحكومة. وأذكر أن الوزراء الذين شملهم التعيين أو طالهم التعديل استُدعوا إلى إفران. وعندما وصلتُ صباح الإعلان عن الحكومة الجديدة إلى القصر الملكي كان في قاعة الانتظار أحمد الطيبي بنهيمة (وكان يشغل آنذاك منصب الممثل الدائم للمغرب في هيأة الأمم المتحدة بنيويورك) واستقبله الملك الحسن الثاني قبلي، تم نادى عليَّ مدير التشريفات الملكية للمثول بين يدي الملك الذي أبلغني قراره بتعييني على رأس وزارة العدل، وأطلعني جلالته على قائمة الوزراء الجدد ومن بينهم أحمد الطيبي بنهيمة وزيرا للخارجية. فلم أتمالك أن أقول رأيي عن هذا التعيين وجاهرت كعادتي بأني كنت أبتهج أكثر لو أبقاه جلالته ممثلا للمغرب بالأمم المتحدة، لأنه كان ممثلا ناجحا في المركز الذي كان فيه. وذكَّرتُ جلالتَه بأنه أثناء زيارته للمنظمة بنيويورك سنةً من قبل ـ وكنت رافقت جلالته في هذه الزيارة ـ قام بنهيمة بتقديم ممثلي الدول بالمنظمة إلى جلالته كلٌّ باسمه واسم دولته دون الرجوع إلى ورقة ولم يخطئ في تقديم واحد منهم. وكان عدد المندوبين الدائمين آنذاك يبلغون 103 مندوبا وكنا لاحظنا ما كان لبنهيمة داخل المنظمة من مكانة مرموقة وحسن صيت. وكان يُنظر إليه على أنه له حظوظ ليرقى إلى رئاسة الجمعية العامة للمنظمة أو يصبح أمينا عاما لها. وذكَّرت جلالته بكل هذا فقال: «لقد سمَّيته الآن وزيرا للخارجية وإن كنتُ أشاطرك ما قلتَه عنه». ولم يلبث الوزير بنهيمة في وزارة الخارجية طويلا وأعاده الملك إلى منصبه بنيويورك. وكان أيضا وزيرا ناجحا للإعلام.* في الحكومة ذاتها عُيِّن أوفقير وزيرا للداخلية. فكيف كانت العلاقة بينكما خاصة أن هناك نقطة التقاء كانت توجد بين وزارة العدل ووزارة الداخلية؟ـ أوفقير كإنسان كان لطيف المعشر ولكن كانت له شخصيتان أو شخصيات في شخصية واحدة. فأوفقير الذي كان يَبَـشُّ في وجه بعض الناس ويعانق ويحتضن ويغالي في تشريف من يعتبرهم علماء أو أساتذة أو رجال دولة مقتدرين أو شرفاء النسب هو أيضا الشخص الذي يستنطق الناس في مخافر الشرطة، ويشرف على تعذيبهم، ويغير وجهه وسحنته وجلده. أي يبدو في وجه آخر. لقد كان يُحسن تغيير الأقنعة وتعديد الصور.كان أوفقير يحترمني كل الاحترام. لكن وقع بيني وبينه أول نزاع عندما أمر الملك الحسن الثاني (وكان المغرب يعيش حالة الاستثناء سنة 1965) أن يجمع وزير العدل ووزير الداخلية في آن واحد الأجهزة المكلفة بالأمن والسلطة التابعة لوزارة الداخلية، مع جهاز وكلاء الدولة أو وكلاء الملك (النيابة العامة) التابعين لوزارة العدل.وقال الملك الحسن الثاني آنذاك إن مصلحة البلاد تقتضي أن يقوم نوع من التنسيق ليس بين القضاة الجالسين (الذين يُصدرون الأحكام فهؤلاء مستقلون) وإنما بين القضاة الواقفين (النيابة العامة) الذين يأخذون التعليمات من وزير العدل، وبين من يُسمَّون في لغة وزارة الداخلية بــ«رجال السلطة» أي العاملين في الأمن والشرطة ومصالح وزارة الداخلية. والتعبير عنهم بهذا اللفظ نزعة تشير إلى احتكار السلطة من لدن وزارة الداخلية. وقد بقيت هذه النزعة قائمة إلى أن تم اختراقها من الملك محمد السادس عندما دعا إلى مفهوم جديد للسلطة.وأذكر أننا لما أردنا أن نعقد الاجتماع أعرب أوفقير عن رغبته في أن يتم في مقر وزارة الداخلية. وكان جوابي: «لن يذهب القضاة إلى وزارة الداخلية، بل وزارة الداخلية تأتي عند القضاة». كان هناك نقاش حاد بيني وبين أوفقير حول هذه المسألة التي كانت تبدو إجرائية فقط، لكني أعطيتها بعدا أعمق تأخر بسببه عقد الاجتماع لأسابيع. ومما قلت له آنذاك إنه حتى بالنسبة للبروتوكول (المراسم) وزير العدل يتقدم على وزير الداخلية. * وكيف تقبل اوفقير الموضوع؟ـ رفع أوفقير الأمر إلى الملك الحسن الثاني الذي استغرب أن يكون بيننا خلاف حول مكان الاجتماع. وقال أوفقير للملك بحضوري: «الأستاذ بوطالب حريص على سلطته. وهو يريد أن يأتي القواد والباشوات وعمال (محافظو) جلالة الملك إلى وزارة العدل. ولا يقبل أن يأتي القضاة إلى وزارة الداخلية». فقلت للملك الحسن الثاني وأنا أبتسم:«إن السيد وزير الداخلية يريد أن يذهب وكلاء جلالة الملك نصره الله إلى وزارة الداخلية لا أن يأتي زملاؤهم عندهم». فضحك الملك الحسن الثاني، وقال لي: «أنت دائما صاحب نُكَت» وفعلا أذعن الجنرال. وكانت الاجتماعات تنعقد بوزارة العدل بحضوره ورئاستي. وبسبب هذا الموضوع ظل الملك الحسن الثاني يعتقد أنه توجد بيني وبين أوفقير جفوة. إنني لم أقم بما قمت به بسبب التعصب للسلطة، وإنما أردت أن أشير إلى أن هيبة سلطة القضاء يجب أن تحترم من أعوان وزارة الداخلية.وإذا كان الملك الحسن الثاني أمر بالتنسيق بين العاملين في الوزارتين فإنه ينبغي استحضار ما للقضاء من استقلال، لكن ظلت هذه الفجوة في ذاكرة الملك، لأنني إثر مؤامرة الصخيرات وفشلها كنت نبهت جلالته إلى أنني أشم رائحة طبيخ كريه يبدو لي أن لأوفقير علاقة به رغم أنه ليست لدي حجة. فقال الملك الحسن الثاني «غريب أمرك إنك تتذكر الجفوة التي كانت بينك وبينه عندما اختلفتما حول أين يجتمع أعوان الملك التابعون للقضاء وأعوان الملك التابعون للداخلية، وبقيت الجفوة بينكما». وسيكون لي معك حديث شامل عن هذا الموضوع عندما نبلغ بهذا الحوار فترة أحداث الصخيرات ومؤامرات أوفقير. * كيف كان يتصرف الجنرال أوفقير الوزير داخل المجلس الحكومي؟ـ أوفقير في هذا الوقت أصبحت له علاقات حميمة بالملك الحسن الثاني، وأصبح مصدر معلوماته عندما عينه على الأمن الوطني. وأذكر أنه إبان الحكومة التي كان يرأسها الدكتور محمد بنهيمة، كان أوفقير وزير الداخلية يأتي للمجلس الوزاري أحيانا متأخرا مثلما أصبح يفعل بعده السيد إدريس البصري في الحكومات الأخيرة. ولكن الدكتور بنهيمة كانت شخصيته قوية، وكان لا ينتظر أوفقير. وكنا نبدأ اجتماعات الحكومة قبل وصوله. وكان أوفقير يتألم لذلك ويقول: «أنا لدي أشياء مهمة جدا كنت أريد أن تعرفوها، وأنا وزير للداخلية ومشرف على الأمن ولا يجوز أن يفوتني شيء». فكان بنهيمة يجامله ويقول له: «لا بأس سأشرح لك ما فاتك». ومرة استعمل بنهيمة كلمة لاذعة وقال بالفرنسية: «دعوني «أبسّط» للجنرال ليفهم ما تناقشنا فيه». بنهيمة كان يستصغر الجنرال لأن ثقافته كانت ثقافة المخابرات فقط.لقد كان الجنرال أوفقير يعمل في الحكومة أو بينها ولكن ليس ضمنها. لم يكن يُطلِع الحكومة على أسرار وزارته وتقاريرها إلا نادرا حينما يحضر لينذر الحكومة بأن الأمن في خطر أو يستصدر تعليمات لأنه محتاج إليها لتنفيذ مخططاته. لقد ظل أوفقير يعمل باستقلال عن الحكومة ولكن كل ذلك كان عنده مغلفا بقوالب المراعاة واللباقة واحترام الناس والتودد إليهم. لم يكن يبدو متسلطا، وكان له نوع من الأخلاق المظهرية التي تجعلك تحس أن أمامك الرجل المتواضع المجامل، والعسكري المنتظِم الذي يعظم رؤساءه الأكبر منه رتبة ومقاما.وكان معروفا عن أوفقير أنه يحسن فن التودد والمجاملة إلى حد كبير حتى مع من كان يدبر لهم وراء الستار مكيدة أو مؤامرة عليهم. وبقي يلعب هذا الدور مع الملك الحسن الثاني، على أساس أنه الوزير المطيع، الممتثل، المنتظِم، بينما كان «يُسرُّ حَسْوا في ارتغاء» كما يقول المثل العربي.
8- زرت ليبيا لتسليم الملك إدريس السنوسي الدعوة لحضور القمة الإسلامية في الرباط فوقعت ثورة القذافي
9-قال عبد الناصر للزعماء العرب في قمة الرباط عام 1970 «أريد ان أعرف كم سيدفع كل واحد منكم فأنا بحاجة إلى بقشيش»
10- قال لي الجنرال أوفقير: لا تضع رأسك بين فكي الذئب لا تنتحر وانتظر فالبلاد في حاجة إليك عما قريب
11-قبل انقلاب الصخيرات أردت أن أفاتح الحسن الثاني بموضوع أوفقير
12-زودت أوفقير بملف حول العلاقات بين الرباط وباريس وقال للملك إنه حصل عليه من عملاء له في المخابرات الفرنسية
13-في قمة الرباط كان الملك حسين يرى أن الضفة الغربية من يده خرجت وإليها يجب أن تعود ليتفق بشأنها مع الفلسطينيين
14-حال العراقيون دون لقائي بالخميني أثناء وجوده في النجف فكلفني الحسن الثاني بوساطة بين شاه إيران وشريعتمداري
15- تركيا رفضت الانخراط في «الايسيسكو» لأن أحد برامج المنظمة ينص على جعل الثقافة الإسلامية محور مناهج التعليم في العالم الإسلامي
16-السادات اقترح في كامب ديفيد رفع العلم المغربي في القدس تشخيصا للسيادة العربية عليها
17-نشرت «الشرق الأوسط» خبر قرب تعييني رئيسا للوزراء فغير الملك الحسن الثاني رأيه
18-أبلغت إدريس البصري أنني لا أضرب خصومي ضربات متسترة وحينما أعزم على مواجهته فسأصوب له ضربة مباشرة في غير تستر
مواضيع مماثلة » العائلة الملكية العلوية بالمغرب » وفاة عبد الهادي بوطالب » صاحب الجلالة يجري مباحثات على انفراد مع الملك عبد الله الثاني » الملك الحسن الثاني ملك المغرب » جلالة الملك يوجه خطابا ساميا إلى الأمة بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب صفحة 1 من اصل 1 صلاحيات هذا المنتدى: لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى |