هناك عند الربوة…ابتلع حلمه/ خالد البقالي القاسمي

وجهه يميل إلى الحمرة المشربة بالبياض، ويبدو شعره مجعدا تحت طاقية لا تستطيع
تمييز لونها الأصلي من كثرة الأتربة الملتصقة بها، أذناه متوجهتان إلى
الأماموكأنهماعلى وشك الانطباق على وجنتيه، عيناه عسليتان متقدتان وإن كان يخامرهما نوع
من البلادة والخمول، وتحتهما أنف معقوف مثل منقار العقاب يقال إنه ورثه عن
أمه التي كانت تبز كلاب الصيد في اقتفاء أثر روائح الولائم، أما لحيته
الشعثة فنادرا ما كان يفكر في تشذيبها أو حلقها، طول جسمه الضامر يبدو
متوسطا وهو منحشر داخل جلباب صوفي أسود، وإن كانت رجلاه تبدوان دقيقتين
ورفيعتين من كثرة العمل فإن يديه توحيان بالقوة وبقية من السطوة التي كانت
أيام فورة الشباب، كان في تلك اللحظة عائدا من الحقول وهو يحمل فأسه حيث
أحس بدبيب رجليه وهو يجرهما جرا فوق الطريق المتربة التي كان يخطو فوقها
متوجها نحو مسكنه، رجلاه كانتا تدهسان الحصى وتصدران صوتا أشبه بصوت
الطاحونة اليدوية وهي تبتلع الحبوب، حبة، حبة، وتهرسها هرسا بطريقة بطيئة
فيها كثير من اليقين الذي تشكل مع الوقت الطويل في احتراف عملية ابتلاع
أنواع الحنطة ولفظها، بنفس الطريقة كان العياشي يلبس حذاءه الخلق من كثرة
الاستعمال، كان يعرف جيدا أنه مرغم على مقاومة تعبه وإعيائه الشديدين من
أجل الوصول إلى مسكنه، وإلا فإنه سوف يصبح نائما وسط الطريق، ولن ينتبه
إلا على أصوات الفلاحين وهم يسوقون دوابهم صباحا متجهين صوب السوق من أجل
بيع الغلال الزراعية الطرية، وهو يعلم جيدا أن أهل قريته سوف يتخذون من
نومه وسط الطريق وسيلة للتندر بخيبته التي لا تنتهي صورها المتناثرة في
أشكال من الفشل المتواصل الذي يعرفه في حياته داخل القرية، وهو يعرف جيدا
سبب خيبته وتندر أهل القرية بفشله ، إنه جاره في الأرض، الحاج العربي،
الشره، الطماع، فهو لم يكفه يسره وغناه، بل تعدى ذلك إلى الاستيلاء على
جزء من قطعته الأرضية المتواضعة التي يمتلكها في الضاحية الغربية للقرية
والتي ورثها عن أمه، وقد استولى عليها الحاج العربي بدون وجه حق مدعيا
أنها داخل حدود أرضه، وقد بذل العياشي جهدا كبيرا في سبيل استعادة أرضه،
كما وسط كثيرا من وجوه الخير من أجل علاج الأمر، ولكن الحاج العربي يرفض
رفضا قاطعا مناقشة الأمر، وقد دخل معه في صراعات كثيرة كانت دائما تنتهي
بالعياشي في سجن المدينة بسبب كثرة معارف الحاج العربي وبسبب الرشاوى التي
كان يمد بها المتنفذين من أجل ردع العياشي، ولكنه الآن لم يعد يفكر
بالطريقة السابقة، بل أصبح يفكر في قتل الحاج العربي لكي يثبت لأهل القرية
رجولته، وقدرته على إنجاح قراراته، وقهر فشله وخيبته، ولذلك استجمع قواه
وحث خطاه، وما هي إلا فترة لا تتعدى العشر دقائق حتى كان أمام عتبه بيته،
فهو في الحقيقة لم يكن بعيدا عنه عندما أحس بتعب شديد، وبوهن خانق يصيب
رجليه، لقد قضى يوما شاقا للغاية في سقي حقل الذرة الواسع الذي يملكه
الحاج الهاشمي، أحد أعيان القرية، فقد تعود على الاشتغال أجيرا عند
الميسورين من السكان، ابتدأ في ري الحقل بعد انبلاج الصبح بقليل، ولم ينته
من عمله إلا بعد غروب الشمس.

ولج
باب البيت، فأحس بنوع من الارتياح والغبطة، كان الباب مواربا فحسب وغير
مغلق، ولماذا سوف يغلقه؟ ليس عنده ما يخاف عليه، وهو ما يعرفه جيدا أهل
القرية، فلا يفكر أحد في اقتحام بيته، ثم ما جدوى اقتحام بيت مركون داخل
كهف صخري؟ فالعياشي الذي كان فقيرا ومادة لتندر أهل قريته بسبب خيبته
وفشله لم يجد له من بيت إلا داخل كهف من الكهوف الصخرية التي تشكل أساسا
متينا لحفظ القرية من الانهيار، لقد كانت القرية مقامة في شكل تجمع سكاني
متلاصق مؤلف من بيوت متعددة ومتقاربة فوق هضبة صخرية صلبة، تطل على نهر
نشيط يتكون من مجموعة من الغدران التي يتدفق فيها الماء غزيرا وتحيط
بجنباته أنواع من أشجار الدفلى الندية، وأغصان شوكية من نبات العليق، يمر
النهر حول القرية من جهة الجنوب محيطا بها في شكل نصف دائرة وكأنه حزام
يسند خصر امرأة حامل، كما تطل على البيوت من جهة الشمال سلسلة جبلية
متينة، تمثل حائطا طبيعيا يحمي الجميع من كثير من الأخطار المتربصة.

بسبب
فقر العياشي وغربته داخل قريته اتخذ لنفسه بيتا تحت البيوت داخل كهف صخري،
كان البيت في صورة مثلث عميق، تتحدد مساحته في ما يقارب ستة أمتار، أربعة
أمتار منها تتحدد بين المدخل والزاوية المعقوفة التي تشبه المنعطف، حيث
يوجد فراش العياشي، والمتران الآخران مغيبان وراء المنعطف الطبيعي داخل
البيت، وهو عبارة عن محزن لكل ما يجده العياشي متلاشيا، ومرميا بين طرقات
القرية، والعياشي يرفض رفضا باتا أن يسمى بيته كهفا، رغم أنه يضطر إلى
الاعتراف بذلك بينه وبين نفسه.

عند
ولوجه إلى البيت أحس بجوع شديد كان قد نسيه بسبب الإعياء، كان الظلام
الشديد يلف المكان، ولكن العياشي كان يتقن المناورة في الظلام الذي تعود
عليه منذ صغره، مد يده بكل دقة إلى حفرة داخل الصخر حيث أخرج قنديلا
غازيا، عمد إلى فتح علبة الثقاب حيث أخذ منها عودا خشبيا فأشعله وقرب
الوهج من القنديل فاشتعلت الفتيلة وعم النور غرفة الكهف، أول ما يرسخ في
ذهن العياشي ويثير اهتمامه عندما يشعل قنديله هو انعكاس ظله فوق الجدار أو
بالأحرى النتوء الصخري للكهف الذي يقطنه، فهو في الحقيقة لم يكن يهتم
بتاتا بهذا الظل، ولكنه بدأ يركز عليه اهتمامه بكل دقة عندما سمع طالبا
جاء إلى كهفه مع صديقه الجيلالي قصد السمر وتدخين حشيشة الكيف يتحدث عن
مفهوم انعكاس الظل، والأصل والصورة، أو الأصل والنسخة، والحقيقة تكمن في
ظل ساكن الكهف... وغير هذا من الكلام الذي لم يفقه منه العياشي شيئا،
وعزاه في بداية الأمر إلى حشيشة الكيف التي ربما كانت أشد تأثيرا على
الطالب، نظرا لعدم تعوده على الكيف الذي يعده صاحب الكهف بنفسه، والذي
يتميز غالبا بقوة تأثيره، ولكنه عاد بعد ذلك وأرجع الأمر إلى جهله
بالأمور، وهكذا تعود على تكرار التعامل مع الصورة والظل كل يوم، تأمل جيدا
وعميقا في ظله المنعكس وتساءل بينه وبين نفسه عن الحقيقة التي يهيم الجميع
في البحث عنها، أصبح العياشي معجبا بظله كثيرا معتقدا أنه سره المستقبلي،
في نفس الوقت الذي بدأ فيه يحتقر ذاته بسبب الخيبات الكثيرة التي مني بها
وبسبب الفشل الذي يلاحقه في كل أموره الكبيرة والصغيرة.

دوى
في الفضاء صوت المؤذن وهو يعلن عن صلاة العشاء، لم يأبه به العياشي، ولم
يعر لإعلانه اهتماما، فهو لا يتذكر في حياته يوما دخل فيه المسجد، أو قام
بأداء شعائر الصلاة، فهو يعتقد بأنه قد أعفي من أدائها، ويكفيه نصيبه
البائس الذي يعيشه، أعرض عن صوت المؤذن ومد يده حيث أمسك بإبريق كان لونه
في السابق أزرقا، وأصبح الآن بكثرة تعريضه للنار أسودا محاطا بالسخام
المتراكم، الذي شكل حوله طبقة سميكة يصعب تخليصه منها، كان الإبريق الوحيد
الذي يملكه العياشي، بالإضافة إلى ثلاثة كؤوس تحيط بها طبقة مختلطة من
الماء والسكر والشاي بسبب عدم غسلها جيدا، وقدر سوداء لطبخ بعض الطعام
البسيط، أما مكان نوم العياشي فهو عبارة عن حشية من القش يلفها ثوب استحال
لونه من الأبيض إلى الأسود الداكن، ثم هناك عند الزاوية قرب المنعطف داخل
الكهف توجد مصطبة حجرية طبيعية توجد فوقها قطعتان مدبوغتان من جلد الغنم
من أجل جلوس الزوار، وفي الأرض تنتشر حصير مقطعة الأوصال من أحد جوانبها
ووسطها، وهذا هو كل ما يملكه العياشي من أثاث داخل كهفه، فيما عدا بعض
الأغراض البسيطة المثبتة فوق جدران الكهف مثل عقد من الفلفل الحار، والفأس
التي يشتغل بها، العياشي لا يحتاج إلى أثاث لأنه في الحقيقة لا يستقبل
زوارا إلا نادرا، ولا يجالسه إلا صديقه الجيلالي الذي يتشارك معه كل ليلة
تدخين حشيشة الكيف، وارتشاف الشاي الذي يعده العياشي قويا وشديد الحلاوة،
وهو يعتبر من طقوس تدخين الكيف المعتقة التي تعد من طرف مستهلكها.

أعد
العياشي الشاي المعهود، وبحث في أحد الأركان حيث وجد كسرا من الخبز، عمد
إلى غمسها في زيت الزيتون، وشرع في التهامها مع ارتشاف الشاي الأسود
الساخن، سمع طرقا على الباب المتهالكة، لم يفاجئه ذلك، كما أن الطارق لم
ينتظر الإذن، بل دخل بكل ثقة إلى وسط الكهف ملقيا التحية على صديقه
العياشي، جلس الجيلالي وأمسك بعود طويل مجوف مصنوع من الخشب يسمى السبسي
حيث شرع في ملإ الشقاف الموجود في طرف السبسي بمسحوق حشيشة الكيف، وأمسك
بعود ثقاب وأشعل به المسحوق الذي توهج بفعل النار المسلطة عليه، عب
الجيلالي نفسا عميقا وارتفع في جو المجلس دخان أبيض رفيع مفعم برائحة
نفاذة وحادة تصل مباشرة إلى المخ، وسلم السبسي للعياشي الذي أكمل عب
الأنفاس الباقية ثم نفخ نفخة قوية داخل تجويف العود أفرغ بها محتويات
الحشيشة المحترقة والمستهلكة، وشرع مرة أخرى في ملإ السبسي من جديد
متبادلا مع نديمه عملية التسليم والتسلم، إنها طقوس تتكرر في كل مرة بنفس
الوتيرة بالنسبة للذين يدخنون حشيشة الكيف التي لا يحلو تدخينها إلا
بواسطة جلسة ليلية مع رشفات متواصلة من الشاي المركز والمحلى.

في
تلك الليلة بدا حديث العياشي لصديقه وكأنه حديث الوداع، فقد أكثر من
الحديث عن ظله المنعكس على النتوءات الصخرية الذي يشعره كلما تأمله بعريه
وتحرره من فشله وخيبته، وتحدث عن رغبته وحلمه في تجاوز عثراته التي تشكل
مادة خصبة لتندر أهل القرية، وأشار إلى أن سخرية الناس منه تؤلمه أشد
الألم، ولذلك تنتابه تجاه الجميع مشاعر مختلطة ومتناقضة، فهو يحب الجميع
ويكرههم في نفس الوقت، يجلهم ويحتقرهم، يقدرهم ويتقزز منهم، فهو يشتغل في
تنمية حقولهم وزراعاتهم ويتمنى لها الحرق والدمار، إنها مشاعر متناقضة
ومتضاربة تطفو أحيانا، وتخبو أحيانا أخرى داخل نفسيته التي تنزع نحو
التخلص من عذابها وازدواجيتها عن طريق القيام بعملية تطهير نفسي، لقد آمن
منذ مدة طويلة بأن راحة باله لن تتحقق إلا بواسطة إراقة الدم، لن ينال رضا
الجميع إلا بواسطة إثارة الانتباه إلى عمل فيه جرأة ملفتة يغسل به عاره،
ويسترد أرضه، ويسترجع احترام الناس له، ولذلك فقد عزم بينه وبين نفسه دون
أن يخبر أحدا على قتل الحاج العربي، إنه سبب خيبته وفشله، سبب تندر أهل
القرية به، سبب تهميشه وإقصائه، وقد عزم على القيام بعمله الذي اعتبره
واجبا صباح الغد، فالحاج العربي يقصد حقله باكرا عند مرتفعات القرية من
الجهة الغربية وهي فرصة سانحة للقيام بما عزم عليه.

ظل
الجيلالي طويلا يستمع إلى حديث صديقه وهما يتبادلان العب من أنفاس حشيشة
الكيف حتى بلغ منهما التعب مبلغا كبيرا، وأحسا بتمكن الخدر من مخيهما، كما
شعرا بثقل حركاتهما، وانخفاض درجة ردود الفعل لديهما، لذلك خرج الجيلالي
إلى بيته يجر قدميه وهو يترنح كثور ذبيح، فقد كان ضخم الجثة، كبير الرأس،
وظل العياشي في مكانه لا يبرحه دون حراك، ثم علا شخيره المزعج إيذانا
بتمكن النوم منه، ولم يستيقظ إلا والنور قد عم القرية، فأحس بصفاء ذهنه،
واتقاد عقله، ونشاطه المفاجئ، فهب واقفا على الفور، واتجه نحو كوة في
النتوءات الصخرية للكهف وحمل سكينا مشحوذة بمهارة، لها رأس مسنن دقيق
ورفيع، تستعمل أساسا في طحن نبات حشيشة الكيف وإعداد مسحوقه، وضع العياشي
السكين تحت ثيابه واتجه مسرعا نحو الهضبة، هناك حيث توجد أرضه التي سلبها
الحاج العربي عنوة منه، لقد صمم على فعله، ولن يثنيه أحد عن بلوغ حلمه
ومرامه.

وصل
إلى الأرض وظل رابضا قرب الساقية حيث ينحدر مجرى الماء منتظرا وصول الحاج
العربي، ظل ينتظر طويلا وهو لا يزداد إلا عزما وتصميما، ثم بدأ يتملكه
الشك والإحباط واليأس، لقد تأخر الحاج العربي طويلا، عادة الفلاحين أن
يلتحقوا بحقولهم باكرا كل يوم، وتلك كانت عادة غريمه دائما، ما الذي أخره
يا ترى؟ وبينما هو سادر في هواجسه وتصوراته انطلق فجأة صوت المؤذن يؤذن
فوق الصومعة، اهتم كثيرا لهذا الأذان، وأصاخ السمع جيدا، وأحس بقشعريرة
تنتاب جسمه، ثم أحس ببرودة تسري في ركبتيه، وزاد صوت المؤذن ارتفاعا وقوة
وحماسا وإصرارا، وكلما أمعن المؤذن في ترديد أدعية الأذان كلما زاد عذاب،
وخوف، ورعب، وترقب العياشي.

ولم
يكد يضع وجهه بين يديه ويسندهما إلى ركبتيه حتى سمع صوت السعدية زوجة
صديقه الجيلالي وهي تناديه، ولم تكد المرأة تصل إليه حتى ألقت إليه بالخبر
المرعب، لقد مات الحاج العربي قبل قليل في بيته بسبب نوبة قلبية، كان من
عادة أهل القرية أن يعلنوا للجميع نهاية موتاهم عن طريق الأذان في أي وقت
كان، سقط في يد العياشي، وأحس بانهيار تام في نفسيته، وبهبوط حاد في حرارة
جسمه، وبإحساس رهيب بالخواء والدونية، وبانكسار أمله وحلمه، استرجع تركيزه
بسرعة وتحسس السكين بين يديه، ثم لمعت عيناه ببريق غريب، وهب واقفا وتلفت
حوله في عجلة، واتجه نحو القرية وهو يخطو خطوات سريعة وواثقة، فيها عزم
وتصميم.
تطوان-المغرب
الوان ثقافية