عبد العزيز بن عبد الجليل: انبعاث الموسيقى بالمغرب في ظل رعاية الملك محمد الخامس
صفحة 1 من اصل 1
عبد العزيز بن عبد الجليل: انبعاث الموسيقى بالمغرب في ظل رعاية الملك محمد الخامس
انبعاث الموسيقى بالمغرب
في ظل رعاية الملك محمد الخامس
عبد العزيز بن عبد الجليل / أستاذ باحث في الموسيقى
إن الحديث عن الحركة الفنية -وضمنها الحركة الموسيقية- وما شهدته من
تطور على امتداد عهد جلالة المغفور له محمد الخامس، إنما هو في واقع الأمر
محاولة أخرى لقراءة تستشرف الوقوف على ما استجد من معطيات في مجال
الموسيقى المغربية باعتبارها وجها من وجوه حضارة الأمة، ولونا من ألوان
ثقافتها، وأداة للتعبير عن هويتها وبلورة كيانها.
وتوشك هذه القراءة أن تفضي إلى ما يعكس هيمنة طبيعة الانبعاث والتجدد
على سائر الأنشطة الموسيقية في عهد الملك المجاهد محمد الخامس، الأمر الذي
حولها إلى ما يشبه مبادرات تعمق التقليد الموروث وتمنحه في ذات الوقت
الحيوية والتدفق؛ وبذلك فهي -من جهة- تتمسك بالتراث الأصيل، وتشد
بتلابيبه، و تهفو -من جهة أخرى- إلى الجديد، فتخلق الحدث وتؤثث أجواءه
وملابساته.
عوامل انبعاث الموسيقى المغربية:
وتتوالى أمام الباحث حلقات متواصلة من الأحداث الفنية التي أفرزتها
التحولات التي نابت الفنون الغنائية بالمغرب، لعل أقواها أثرا على مسيرة
الموسيقى المغربية انبثاق لون موسيقي جديد بمغرب الثلاثينيات من القرن
السابق سيصطلح وشيكا على تسميته ب"الموسيقى العصرية".
رافد الموسيقى الشرقية:
شكلت الأغاني المصرية الرافد الأساس لهذا اللون الجديد بما حملته إلى
الأوساط الفنية عبر الإذاعة من ألحان وإيقاعات لم يتأت للأذن المغربية
سماعها من قبل، وهي مما أبدعه موسيقيو عصر النهضة الحديثة بمصر أمثال أبو
العلا محمد، وعبده الحامولي، ويوسف المنيلاوي، وداود حسني، وكامل الخلعي،
وسلامة حجازي، وسيد درويش، ثم ثلة من تلامذة هؤلاء في مقدمتهم محمد عبد
الوهاب.
وستتوافر عوامل عدة هيأت لشيوع هذا النمط من التأليف الموسيقي ببلادنا؛
على أن العامل الأكبر تمثل في مبادرة المغفور له محمد الخامس إلى تأسيس
جوق موسيقي عصري تابع للقصر الملكي بالرباط، جمع فيه مهرة الفنانين
العازفين والمغنين، وجعل على رأسهم الفنان المصري مرسي بركات، يعلمهم
البشارف والسماعيات والطقاطيق وأدوار الموشحات القديمة، ويلقنهم قواعد
التأليف وأصول الغناء الشرقي، وهو فنان برع في العزف على القانون، كان قد
استقر بالمغرب منذ أن استقدمه السلطان المولى عبد العزيز عام 1906 وهو على
رأس جوق موسيقى كان من بين أعضائه الفنان المصري الشهير حسن بنان.
وفي ظل دأب جلالة محمد الخامس على رعاية الجوق العصري بما يكشف عن سمو
ذوقه الفني، ويبين عن رغبته في خلق وإعداد رعيل في الفنانين قمين بتكوين
جيل جديد من الموسيقيين بالمغرب التأم زهاء ثلاثين شابا جرى انتخابهم من
بين أجود العازفين وأمهر المغنين، كان من بينهم أحمد البيضاوي، ومحمد
اسميرس، وعبد الحميد الطالبي، وعباس الخياطي، والحسين بن المكي، والمكي
افريفرا، ومحمد القزوي، والحاج عبد القادر صالح، والغالي الخياطي.
وقد تحولت أجواء العمل بالجوق الملكي العصري إلى ما يشبه حلقات منتظمة
لتلقين أصول الموسيقى الشرقية، وتذوق مقاماتها وأوزانها إضافة إلى دروس في
قواعد الصولفيج والتوزيع الموسيقي وفق النظرية الحديثة؛ وبذلك شكلت أول
مدرسة موسيقية وطنية، كما شكلت حافزا دفع بكثير من الفنانين الشباب إلى
تكوين أجواق للموسيقى العصرية.
وقد كان لتأسيس جوق للموسيقى العصرية في رحاب القصر الملكي انعكاسات
وآثار إيجابية على الأسرة الملكية لعل من تجلياتها نشوء الأمراء على درجة
رفيعة من التذوق ورهافة الحس الموسيقي. ولاغرو، فلقد نشأ جلالة الملك
الحسن الثاني على مستوى عال من التذوق الفني، كما نشأ على تقدير الفن
الموسيقي والعناية بأهله، يحدوه إيمانه القوي بدور الموسيقى في حياة الأمة
والنهوض بها.
وسيكون من آثار المبادرة الملكية أيضا حث الشباب على تأسيس أجواق
محلية، وهكذا قام بالدار البيضاء "جوق الميتم"، وبالرباط "جوق الاتحاد
الرباطي" برئاسة الفنان عبد النبي الجراري و"جوق التقدم" بقيادة الفنان
الراحل عبد القادر الراشدي، كما ظهر في سلا "جوق "الاتحاد السلاوي".
وما عتم أن تأسس بالرباط جوق عصري تابع للإذاعة، كان الفنان أحمد
البيضاوي قد دعي للعناية به وإمداده بألحانه، وهو –يومئذ- على رأس الجوق
الملكي بعد وفاة مرسي بركات.
ومثلما توجهت العناية الملكية إلى تشجيع الموسيقيين على السير في درب
الإبداع، فكذلك توجهت إلى تشجيع ذوي المواهب على دراسة أصول الموسيقى،
وأخذ قواعدها من أفواه رجالها. وفي هذا الصدد نذكر حظوة الفنان الراحل عبد
الوهاب أكومي في الخمسينيات من القرن الماضي بالحصول على منحة ملكية خاصة
خولت له متابعة الدراسة الموسيقية بالديار المصرية ثم بإسبانيا.
الأغنية العصرية في خدمة القضايا الوطنية
وما ينبغي أن نعتبر الإقبال على تأسيس الأجواق الموسيقية على مدى
العقدين الرابع والخامس من القرن العشرين مجرد نزوة يخلد إليها الفنانون
للمتعة العابرة، ولكنه كان عنوانا لازدهار الموسيقى المغربية في توجهها
الحديث، وفي سياق العمل الوطني الذي تحكمه ظروف الكفاح والمقاومة الوطنية،
وتسوده الرغبة في إثبات الذات من خلال إبداعات جديدة. وفي سياق هذه الظروف
انبثقت أعمال فنية كثيرا ما كان جلالة المغفور له محمد الخامس يرعى
أصحابها بالتشجيع والمكافأة.
وليس من الغلو في شيء القول بأن الأغنية المغربية -حتى وهي في طور
مخاضها- استطاعت أن تواكب الأحداث التي عرفتها البلاد، وأن ترسم غير قليل
من ملامح الكفاح الوطني، وأن تساهم في إذكاء حماس الجماهير، ومن ثم فهي
قمينة بأن تمثل مرجعا للوقوف على تطلعات الأمة وآمالها في فترات الكفاح
الوطني.
وتتوفر الخزانة الموسيقية المغربية على رصيد هائل من الأغاني الوطنية
سواء في مرحلة الكفاح السياسي، أو في فترة المقاومة المسلحة التي انطلقت
شرارتها الأولى بعد إقدام سلطات الاستعمار على نفي ملك البلاد في غشت
1953، أو في الفترات الأولى من معركة البناء التي أعقبت الإعلان عن
الاستقلال.
ونكاد نجزم بأن الأغنية الوطنية شكلت بالنسبة لكثير من المطربين
المغاربة المدخل الأساس لولوج ساحة الإبداع الموسيقي وبداية لانطلاق
شهرتهم بين الجماهير.
ومن هؤلاء الفنان الراحل محمد فويتح، فلقد كانت أغنية "رددوا لحن
التهاني" –وهي من شعر شاعر الحمراء محمد بن إبراهيم- التي غناها لأول مرة
في فاس عام 1946 منطلقا لذيوع اسمه بين الناس داخل فاس وخارجها.
ومن هؤلاء أيضا الأستاذ أحمد البيضاوي الذي طبقت شهرته الفنية الآفاق
برائعته "يا صاحب الصولة والصولجان" من شعر محمد بن الراضي.
العناية المكية بالتراث الموسيقي الأندلسي:
لم تكن عناية الملك محمد الخامس بالموسيقى العصرية وأربابها لتصرفه عن
الاهتمام بالتراث الموسيقي الأندلسي. وهنا نقف عند إنجازات متعددة تشهد
كلها على مدى ما وصلت إليه الموسيقى الأندلسية من تطور وشيوع على عهد
جلالته. ويتصدر هذه الإنجازات "جوق الخمسة والخمسين" التابع للقصر الملكي،
والذي هو في الواقع امتداد لما يعرف بالموسيقى السلطانية التي كان الملوك
السعديون قد اقتبسوها من نظم الدولة العثمانية في القرن الحادي عشر
هـ/السادس عشر م. وقد كانت عمدة هذه الموسيقى "المزامير المعروفة
بالغيطات، يتولى النفخ فيها قوم من العجم... وجعاب صفرية على مقدار النفير
تسمى الطرمبات"([1])
على أن العهد العلوي سجل حدثا فنيا ذا بال تمثل في تحول أصحاب الموسيقى
السلطانية من عزف ألحان العجم التي "لا تكاد أصواتها وتلاحينها –حسب تعبير
الفشتالي- تحرك الطبع أو تبعثه على شيء سوى الحرب" ([2]) إلى عزف وإنشاد
موسيقى "الخمسة والخمسين" التي يراد بها مستعملات ميازين النوبات الإحدى
عشرة.
وقد اكتملت بنية الكوكبة الموسيقية لجوق "الخمسة والخمسين" في عهد
المغفور له محمد الخامس، فأصبحت عروضها الشيقة متعة للسمع والبصر في آن
واحد، وزاد من بهاء استعراضاتها وجلال موسيقاها ووقع مشهدها اقترانها
بمراسيم الصلاة من يوم الجمعة ومصاحبة الموكب السلطاني في تنقلاته.
وما يزال جوق الخمسة والخمسين يشنف الأسماع في الأعياد الدينية
والوطنية بأعذب مستعملات النوبات الأندلسية حتى إنه ليحق القول بأن طريقته
في أداء هذه المستعملات كانت من أنجع الوسائل إلى نشر الموسيقى الأندلسية
بين الناس وتحبيبها إلى قلوبهم.
وإن أنس لا أنسى أيام تلمذتي بالرباط، فقد كنت في أيام الجمع أستمتع
بموسيقى "الخمسة والخمسين" التي تصدح بأنغامها في المشور السعيد، فتملأ
جنبات ثانوية المولى يوسف وتنزل من نفوس طلابها منزل الرضى والاطمئنان.
وإلى جانب جوق "الخمسة والخمسين" فقد أحدث المغفور له محمد الخامس
بقصره العامر جوقا لطرب الآلة كان قوامه نخبة من خيرة حفظة التراث
الأندلسي ومهرة المنشدين والعازفين.
والحق أن هذه الظاهرة تدخل في صميم المراسيم الملكية المتوارثة
بالمغرب، ولعلها أن ترجع إلى العهد الإسماعيلي منذ أن تغنى أصحاب هذا الفن
بموشحة محمد بن قاسم ابن زاكور (ت 1120هـ/1708م) أنشأها في مدح المولى
إسماعيل. ومن أبياتها:
حدث عن مناقـب مولاي الرفيع القدر الأكمل
حاصـر الكتائـب ونار الوغى بالبيض تشعـل
مخجـل السحائـب بالجود الذي مازال ينهل ([3])
ثم لما أفضى الملك إلى حفيده جلالة المغفور له محمد الخامس أصبح هذا
الجوق على درجة فائقة من الكمال، وغدا نشاطه قائما على الانضباط والتفرغ.
وقد كان من بين أعضاء الجوق أعلام برزوا في فن الموسيقى الأندلسية وشهد لهم بالتفوق، ومن هؤلاء:
- الفقيه محمد بن ادريس المطيري (1294/ 1368) عازف على الرباب.
- سيدي عمر بن العباس الجعيدي (1873-1978) كان سباقا إلى الالتحاق
بالقصر الملكي حينما استقدمه السلطان مولاي عبد العزيز لتدريب جوق الخمسة
والخمسين، فلما أفضى الملك إلى محمد الخامس عام 1927 عهد إليه رئاسة جوق
طرب الآلة بقصره، وظل قائما على هذه المهمة إلى أن وافاه أجله.
- محمد بن الجيلالي اشويكة أحد أمهر المنشدين في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين.
- مولاي عبد السلام بن يوسف الشبيهي الإدريسي، وكان بارعا في إنشاد
البيتينات، حتى اعتبر بحق وارث سر الفنان الآنف الذكر محمد اشويكة في هذا
المضمار.
5 - عبد السلام الخياطي المتوفى عام 1942. وهو من أبرز أرباب الموسيقى
الأندلسية. استقدمه الملك محمد الخامس للعمل بجوق البلاط عام 1188.
وكان إلى جانب هؤلاء ثلة من الحفظة والمنشدين والعازفين وكلهم يمارسون
مستعملات التراث الأندلسي وفق ما أقره محمد بن الحسين الحائك على عهد
السلطان محمد الرابع، ثم في ضوء التعديلات التي أدخلتها لجنة محمد بن
العربي الجامعي وزير السلطان الحسن الأول على كناش الحايك والتي أصبحت
تمثل منهاج المدرسة الفاسية الحديثة.
وإلى جانب عناية السلطان محمد الخامس بالموسيقى الأندلسية على مستوى
"جوق الخمسة والخمسين"، وجوق الآلة الأندلسية اللذين كانا تابعين للقصر
الملكي بالرباط، فلقد عرف بتشجيعه للمبادرات الرامية إلى خلق جمعيات لهواة
هذا الفن اقتناعا منه بدورها في حمايته وصيانته ونشره بين الناس.
وفي هذا المجال أذن لولي عهده يومئذ جلالة الملك الحسن الثاني بحضور
حفل تأسيس جمعية هواة الموسيقى الأندلسية بالدار البيضاء يوم 12 نونبر
1958 مباركة منه لعملها وتقديرا لرسالتها الفنية.
وما انفكت الأيادي البيضاء لجلالة المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه مبسوطة، وما انفكت مننه تترى على أرباب الموسيقى هنا وهناك.
وما ينبغي أن نغفل عن ذكر فن المديح والسماع، فلقد كان بدوره محط عناية
الملك الراحل محمد الخامس، وهو الذي شب على حب المصطفى صلى الله عليه
وسلم، فسار على نهج والده المولى يوسف وجده الحسن الأول في إقامة الاحتفال
بليلة المولد النبوي، وليلة القدر المعظمة، وما شابههما من المناسبات
الدينية، وكان يستقدم أرباب السماع والمديح إلى قصره ويستمع إلى القصائد
المولديات ومختارات المديح من كلام القوم. فتمتلئ رحاب القصر بأجواء معطرة
من القدسية، وتسبح الأرواح في ملكوت الله مرددة من درر الأشعار المولدية
ما خلده البوصيرى في بردته وهمزيته، وابن رشيد البغدادي في وترياته، وابن
النحوي في منفرجته، وعمر بن الفارض في قصائده.
مشاركة المغرب في المؤتمرات الموسيقية:
وبعيدا عن هذه الأجواء شهد المغرب على عهد جلالة محمد الخامس وقائع
فنية سوف يكون لها أثر في إعداد السبل للنهوض بالموسيقى على الرغم مما كان
يكتنفها – أحيانا – من محاولات مدسوسة ترمي إلى تلميع صورة المستعمر.
وسأعرض - هنا – لذكر حدثين:
أولهما: مشاركة المغرب في المؤتمر الأول للموسيقى العربية بالقاهرة في
مارس من عام 1932. فقد تلقى المغرب – يومئذ – الدعوة إلى حضور المؤتمر عبر
قناتين:
لأولى بواسطة دعوة كتابية توصل بها المرحوم الحاج عبد السلام بنونة –
وهو يومئذ رئيس المكتب المحلي للآثار التاريخية بتطوان – من سفارة مصر في
مدريد تاريخها 14 ربيع الأول 1349 هـ/9 غشت 1931.
أما الثانية فكانت بواسطة دعوة مماثلة نحسب أنها كانت موجهة إلى القصر الملكي فتحولت وجهتها إلى مصلحة الشؤون الأهلية بالرباط.
وبالفعل فقد بعث المغرب إلى الديار المصرية وفدا من رجال الموسيقى
الأندلسية كان على رأسه السيد قدور بنغبريط الوزير المفوض لجلالة الملك
محمد الخامس؛ وهو يتشكل من السادة عمر الجعيدي، رئيسا فنيا للوفد، والفقيه
محمد المطيري، والمنشد محمد اشويكة، - وهؤلاء الثلاثة من أعضاء جوق الآلة
بالقصر الملكي،- إضافة إلى الحاج عثمان التازي، ومحمد دادي، وعبد السلام
بن يوسف، ومحمد الدكالي المعروف باحبيبي امبيركو، ومحمد بنغبريط.
وقد انحصرت مساهمة الوفد المغربي في تسجيل اثنتين وعشرين صنعة مختارة
من نوبات العشاق، والحجاز المشرقي، وعراق العجم، والرصد، إضافة إلى بعض
البغيات والإنشادات والمواويل. وعلى الرغم من محدودية هذه المساهمة فإن
ثمرتها المتمثلة في إنجاز شريط يتضمن مجموع هذه المختارات لتعد بحق مرجعا
حيا للوقوف على ما كانت عليه تلك الصنعات الأندلسية في أربعينيات القرن
السابق إن على مستوى صيغها اللحنية أو أسلوب أدائها، فضلا عن كونها تقدم
تسجيلا حيا لصوت الفنان المكناسي المبدع المرحوم محمد اشويكة.
ثاني الحدثين هو تنظيم المؤتمر الأول للموسيقى المغربية بفاس تحت
الإشراف العالي للمغفور له جلالة السلطان محمد الخامس، وذلك في الفترة
الواقعة بين 6 و 10 ماي 1939.
ومن خلال استقراء المذكرة التنظيمية لهذا المؤتمر يتبين أنه أريد منه حماية التراث الغنائي المغربي من سائر المؤثرات الخارجية.
وقد شمل برنامج المؤتمر عشرة عروض موسيقية غنائية وراقصة مثلث سائر
أنماط الموسيقى التراثية بالبلاد إضافة إلى عروض للموسيقى الأندلسية من
غرناطي الجزائر ومألوف تونس. وعلى هامش هذه العروض نظمت حلقات دراسية
ومحاضرات علمية تناولت مشاكل الموسيقى المغربية ومختلف مظاهرها وبعضا من
جوانبها التقنية.
وقد أسفر المؤتمر عن جملة من التوصيات لم تكن تخلو من الوجاهة، غير أن
أيا منها لم يكتب له النور نظرا للظروف والملابسات السياسية التي كانت
تهيمن على الأوضاع يومئذ في ظل الوجود الاستعماري بالبلاد.
الأناشيد الوطنية في مواكبة الحركة الوطنية.
عرفت الأناشيد الوطنية على امتداد عهد المغفور له محمد الخامس طفرة
كبيرة في ظل العمل الوطني الذي طبعه التحام العرش بالشعب. وقد شكلت هذه
الأناشيد زاد الحركة الوطنية، مثلما شكلت الرصيد الغنائي الذي اعتمدته
هيئاتها الحزبية ومنظماتها السياسية، فكانت تصدح بها في المحافل العامة
وفي رحاب المدارس الحرة والكتاتيب القرآنية.
"وإذ أدركت الحركة الوطنية ما للنشيد من تأثير نافذ في نفوس الشباب
وأثر بليغ في أوساط الحاكمين فلقد اتخذت منه وسيلة حية لبلورة اهتماماتها
في مجال النضال ضد الهيمنة الاستعمارية وارتضته أسلوبا آخر لمعالجة
القضايا التي كانت تدعو لها، وفي مقدمتها قضية الوحدة الوطنية والدعوة
الإصلاحية التي تنادي بالحث على العلم والتعلم... ومن هنا جاء النشيد
الوطني المغربي ليرتبط منذ أول ظهوره بالكفاح الوطني، يحكى مواقفه
البطولية، ويجسم أهدافه الرامية إلى الانعتاق من الظلم، ويلعب دوره في
إذكاء الحماس الوطني وتأجيج الروح الوطنية، مستمدا نفوذه وسعة انتشاره من
شكله الأدبي وتجدد قوافيه وتنوع أوزانه وروعة ألحانه وخفة إيقاعاته، مما
هيأ له الانتقال على كل لسان، ودخول ساحات المعارك وباحات التكتلات، وأهله
ليكون بمثابة الوثيقة التي تحمل طموحات الحركة الوطنية وتعكس
مطالبها".([4])
والأناشيد الوطنية مهما تنوعت أغراضها ومناسباتها فإنها قلما تغفل عن
بث مشاعر الحب الجياشة نحو ملك البلاد، أو تخلو من التعبير عن التعلق
بجلالته، فهي تجدد العهد على الوفاء والالتحام حوله في مواجهة الاستعمار.
وهذا الزعيم الراحل علال الفاسي يفصح عن هذه المعاني في "نشيد العرش"
فيقول:
كلنـا مـن بـدوي خالص أو حضري
قد تعلقنا بعرش علوي واعتصمنا بلوائـه
كلنا في سره أو جهره هـاتـف يحيـا
إن ملك البلاد لهو محط آمال الأمة ومعقد أمانيها، وفي حياته حياة لها معززة مكرمة. يقول النشيد:
من عطفـه نرجـو رفعـة المغـرب
من أجل ذا ندعـو: أيها السلطان عش
عـش أيهـا الملـك
وليحيا المغرب بكـم وليحيا الإسلام بـه
ولاغرو، فهو منذ أن تقلد زمام قيادة البلاد أشرقت تباشير الحرية على
ربوعها، ورأى الناس فيه حاميا لها من صروف المحن حتى غدا رمزا لوحدتها
الكبرى:
أشـرق المغـرب طـرا يوم أصبحت الملـك
إذ رأى فيك أميرا هاشميا ورأى منك الذي يبغي
فيــك لـه رمــز للوحـدة الكبـرى
يــك لـــه روح أيهــا السلطــان
وهذا الشاعر محمد بن إبراهيم المراكشي يجسد عهد الوفاء للملك المفدى من خلال نشيده "شعب أبي" فيقول:
أيها القـوم الأســود في ثبـات فلتزيـدوا
بنفــوس فلتجـودوا إنما المـرء الجــواد
بإخـلاص الــولاء فلتجيبـوا للنــداء
مـن أميـر الأمــراء ملتجانـا والمعــاد
لك القطـر المؤيــد تاج نصر عنه يعقـد
و مولانــا محمــد هو سلطان البــلاد
قد زكا فينـا شعــور حين نادانا الأميــر
لتسيـروا فلتسيــروا حقــق الله المــراد
وتفيض الأناشيد الوطنية بالدعاء للملك بدوام العز والعلى وسداد الخطى. يقول النشيد التالي:
يا ربنـا المنــان احفظ لنا السلطان
دم عــــلاه سـدد خطــاه
تزهو به الأوطان
ومثلما تصدح أصوات الجماهير مرددة آيات الدعاء لملك البلاد بالصون
والظفر، فكذلك تحفل بخالص الدعاء لولي عهده الأمير الجليل مولاي الحسن،
فهو رائد الشباب، ورمز مستقبل الأمة، وشعار استمرارها:
صن يا رحمان في كل آن مولاي يا ذا الإحسان
واحفــظ بأمـــان نجــل السلطــان
بالعز يعلــو دومــا عــلى إيـــوان
ثم هذا الشاعر ناصر الكتاني يرسم من خلال نشيد "منار الهدى" سبيل
النهوض بالبلاد والخروج بها من ظلمات الجهل ومتاهات الضياع، فيرى في ملك
البلاد منارا شعت أضواؤه فأنارت سبل البناء، وأعادت إلى النفوس الأمل
والرجاء، ونفخت فيها روح الفداء للوطن الحبيب:
يا منارا لهــدى في دياجي الظلم
أنر لنا سبيلنــا لنرفع البنـــا
إذا انهـدم
نا إن أفــل أعد ضيـــاءه
يك خير الأمـل فيا رجـــاءه
قنا الردى من العدا فكلنـا فــدى
عن الحرم
ولطالما سارت الأناشيد الوطنية في ركاب الملك، ولطالما وقفت الجماهير
متراصة الصفوف صداحة الأصوات، تشيد ببطولاته، فهذه جماهير طنجة تردد أن
فخر البلاد معقود على الملك، وأن عزتها منوطة بولي عهده شبل الأكارم
الأشاوش:
أيها الشعب تقدم للعلى خلف الإمام
رنا تاج المعالي عزنا شبل الكـرام
قد كان هذا النشيد مما استقبل به أبناء طنجة جلالة المغفور له محمد
الخامس بمناسبة زيارته التاريخية لها عام 1947 وفي رفقته ولي عهده يومئذ
جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه.
قبل ذلك زار جلالته مدينة فاس يوم 8 ماي 1934، فاستقبلته الجماهير بنشيد من نظم الزعيم الراحل علال الفاسي:
يا مليك المغـرب يا ابن عدنان الأبي
نحن جند للفـدى نحمي هذا الملـك
وسوف تتوالى زيارات السلطان لأقاليم المملكة وتتوالى معها لقاءاته مع
رعاياه الأوفياء، وهو في كل مرة وحيثما حط رحاله يلقى من الحفاوة ما يعجز
عن وصفه الواصفون. ومرة أخرى يصدح النشيد معبرا عن التعلق بأهداب العرش
المجيد. يقول الأديب محمد بن عبد القادر العرائشي في نشيد "استقبال الملك"
كان قد نظمه بمناسبة زيارة السلطان لمكناس يوم 18 ماي 1941 ولحنه الفنان
الحاج محمد بنشقرون:
يا مالكا دم في العـلا مترقيا متهلــلا
وارفع لرايات الـولا علم التقدم للأمام
ويحكي الشاعر وقع هذه الزيارة في نفوس أبناء العاصمة الإسماعيلية فيقول:
ها قطر مكناس البهيج فرح فخور مبتهج
بعلاكم دومـا لهـج بحياة مولانا الإمام
وفي نفس المناسبة نظم الشاعر ذاته نشيد "حيوا المليك"، وأفرغه بنشقرون في لحن ما تزال أصداؤه تتردد في ذاكرة المكناسيين. يقول مطلعه:
حيوا المليك الأوحدا حيوا الهمام الأمجـدا
رمز العـلا محمـدا أروا حنا له فــدا
توجه بالفتح المبيـن والنصر والعز المكين
واحفظه رب العالمين وكن له مؤيــدا
ويعود العرائشي – مرة أخرى – ليجدد الترحيب بالسلطان العظيم، وهو يزور
الكتاتيب القرآنية بمكناس، فيشيد بأياديه البيضاء على الناشئين، وينوه
بحرصه الشديد على تعليمهم، وبكده من أجل النهوض بالعلوم والتمسك بتعاليم
الدين الحنيف:
لك العز يا كوكبا في العلا تألق من عنصر الماجدين
أيا ابن الملوك الذي قد غدا شغوفا بترقية الناشئيـن
تبدى محيـاك في قطرنـا فأضحى بكل فخار قمين
فديتك من مالك مرتضى يجد لنهضة علم وديـن
ولن يفوت الأديب المكناسي محمد بن المعطي ابن عبود أن يرحب بولي العهد
الأمير مولاي الحسن الذي رافق والده في هذه الزيارة، فينظم نشيد "ولي
العهد"، وهو من تلحين السيد محمد الصائغ:
خيم الأنس بقطر زانه زهر الشبـاب
ولي العهد أتانـا في الربيع المستطاب
إيه يامكناس هذا مظهر الفخر أتـاك
فلتتيهي في دلال وجمــال بمنـاك
ويتوجه الشاعر إلى الأمير فيقول:
أنت للشعب ملاذ أمل الكل رضـاك
إنك القدوة فيـه تبع الكـل لـواك
ولقد كانت الجماهير المغربية في مواكبها ومسيراتها تستخف بقرارات
المنع، فتخرج إلى الشوارع تجوب أنحاءها غير هيابة ولا وجلة، وهي تنشد
بأعلى صوت أناشيد الولاء للعرش العلوي، متحدية رجال السلطة ومراقبة
أعوانها، فكنت ترى – فيما ترى – فيالق الكشافة وهم يرددون في سنوات القمع
والظلم أناشيد كان من بينها نشيد نظمته ولحنته أواخر عام 1953. تقول بعض
أبياته:
نحن أشبال البـلاد ولها خير عمـاد
* * *
فإذا نادتنـا: هيـوا قمنا حالا للجهاد
وليدومن فيك عرش قد علاه باعتـداد
ملك شهم عظيـم اسمه الخامس بادي
وتأتي مناسبة عيد العرش لتشكل بحق درة ناصعة في عقد الأناشيد الوطنية.
يقول الزعيم علال الفاسي مؤكدا على ارتباط النشيد الوطني بهذه المناسبة:
ذكرى لعرشكم الشريف، وحسبها منه فخارا ما يزال طويــلا
كم رددت فيـه نشيـد علاكـم عصب ترتل نظمه ترتيــلا
لقد انبثقت فكرة الاحتفال بذكرى "عيد العرش" في مغرب الحماية عن
المؤتمر الثالث لطلبة شمال إفريقيا الذي انعقد سنة 1933 تخليدا لذكرى تربع
الملك محمد الخامس على العرش، وقد أصبحت منذ انطلاقتها الأولى يوم 18
نونبر من هذه السنة من أخصب المناسبات التي أفرزت الأناشيد الوطنية، تبث
في أبياتها وألحانها عواطف المغاربة نحو الملك رمز عظمة الأمة وضامن
وحدتها، وتستنهض همم الشباب للوقوف صفا واحدا في وجه المستعمر الغاشم.
وإلى ارتكاز هذه الأناشيد على تعلق الأمة بقائدها فإنها "لم تكن محض
مدح في سائر الأحيان، ولكنها كانت مجالا للتعبير عن أماني الوطنيين في
تحقيق غايات الوطن بقيادة الملك والتحام جهودها بجهوده ([5]).
وقد كان "نشيد العرش" الذي نظمه الزعيم علال الفاسي أول ما صدحت
بألحانه الجماهير في هذه المناسبة، ثم توالت الأناشيد بتوالي حلول الذكرى
وتجدد إحيائها في كل مدينة وكل قرية، فكانت زنادا يقدح قرائح الشعراء
والملحنين، ويشحذ أصوات الجماهير، فتنطلق مرددة أبياتها في أعذب الألحان
وأشدها وقعا في النفوس.
لقد كانت ذكرى تربع الملك محمد الخامس على العرش من أعظم الذكريات التي
يتوق إليها الشعب ويترقب حلولها بشغف منقطع النظير، حتى إذا حلت ازدانت
الشوارع بالأضواء، وارتفعت الأعلام خفاقة فوق المباني، وانتصب الشعراء
والخطباء يتلون القصائد في مدح ملك البلاد، واحتشدت الجموع مرددة أناشيد
الوفاء والولاء، فلقد أقبل العيد، وأقبلت معه بشائر السعود:
العيد أقبـل بالمنـى والبشر عم
والدهر أوفى بالهنـا ولنا ابتسم
جدد لنـا ياربنـا فيه النعـم
واحفظ مليك بلادنا بين الأمـم
م هذه آيات الوئام والسلام تعم أرجاء الوطن، فتسمو بالعرش إلى مراقي المجد بين الأمم، وترقى بالبلاد إلى أعلى المراتب:
سما عيد عرشك بين الأنام فساد الوفاق وعـم السـلام
ففيه الإباء ومنه الشمـم سمـا بكـم لأرقى القمـم
أيا ملكا دمت للعالميـن مدى الدهر تبقى ويفنى عداك
تسود بلادك بين الأنـام وتسعى إلى أوج أعلى مقـام
وعيد العرش – بعد هذا – مناسبة للتعبير عن فرحة الشعب، فيه تصدح
الحناجر بأعذب الألحان في تجاوب مع شدو الطيور وحفيف الشجر وتمايل البان.
فالعرش مزهو بشعبه، والشعب في نشوة كبرى من رحيق حب ملكه:
طابت لنا الأفـراح بمقـدم العيـد
فاسم الملك يا صاح هـو نشيـدي
غنت بـه الأطيـار بأعذب اللحـن
وماست الأشجـار من غصنها اللدن
وفي بحبوحة الفرحة العظمى بحلول العيد السعيد تنجلي الأكدار وتنقشع
غيوم الأحزان، فهذه طلائع اليمن تلوح في الأفق فتنشر في الربوع الإحساس
بتجدد الأمل وانبعاث الرجاء في المستقبل السعيد:
بهجة الأيام أسعدها يوم عيد ينجلي فيه الكدر
يوم أفراح تنسي همنا وتزيل الهم عنا والضجـر
فازدهوا يا قومنــا واقطفوا زهـر الــولا
فرحين طربين
هذا عيد العرش يبدو في سمــو وجــلال
مجــدوه أبــدا عظمــوه دائــما
إنــه رمزكــم وملاذكــــــم
صنه يـارب دومـا وقه شــر العــدا
وفي عيد العرش تتفجر ينابيع الشعر الراقص والألحان العذاب، ويحلو
التغني بأناشيد الخلود، وتهفو النفوس إلى العيش الكريم حيث تباشير الصباح
مشرقة، ورايات الفوز خفاقة:
يا بنات الشعر راقصن الخيـال هازجات بأناشيـد الخلــود
واقتبسن السحر من هذا الجمال وهو يسري بين أحضان الوجود
يومنا يا شعر عنوان العلا أشرقت فيه تباشير الصباح
قم نغن ونردد للمــلا إنه يقضي على عهد النواح
وما كان عيد العرش – أبدا – مجرد احتفال يقام ثم تنطفئ جذوته وتطوي
الأيام ذكره، ولكنه كان شعلة تذكي عزيمة الأمة وعيدا يتوج ذكريات الماضي
المجيدة، وأعياد المكرمات السابغات النعم، منذ أن وضع المولى إسماعيل
لبنات بنيانه الأول وإلى أن قدم الملك الشهم محمد الخامس يجدد البناء
ويرسي قواعده على هدي سنة الرسول العربي، ودعائم العلم والعرفان. يقول
الشاعر محمد بن الراضي:
للمعالي والأماني عيد عرشنـا جاء يحدونا ويذكي عزمنــا
كلنا نهفـو لإدراك المنــى كلنا نسعى ليحيـا شعبنــا
هكذا سلطاننا علمنا
هذا عيد الذكريات الماضيات عيد أمجاد لنـا ومكرمــات
عيد عرش أسسته العزمـات وأقامت حوله أسـد حمــاة
كي تقيه شر صولات الطغاة
عيد إسماعيل أو عهد علـي جدد البنيان يا سبـط النبـي
أحي سنـة النبـي العربـي وانشر العرفان في الصقع القصي
إننا جند لعرشك الأبــي إننا جند لعرشـك العلــي
وعيد العرش –أيضا- مناسبة لاستلهام الذكرى، وتجديد العهد بأن الشعب
متماد في السير إلى الأمام يحدوه العزم الشديد، وتوجيه قائده الرشيد، لا
يفل من عضده فتك الرصاص. وهو في سبيل النصر يستهين أن يصرع شهيد بعد شهيد.
تقول مطالع نشيد "عيد الجهاد"
عيد الجهاد أظلنــا وسما فأعلـن فضلنــا
يا عيد هل شاهدت فــــي الدنيا كراما مثلنــا
أقبل علينا بالأمـــا ني أيها العيد السعيـد
واذكر لنا كيف استطعـــنا فيك تحطيـم القيــود
ثرنا للاستقــلال في عزم وتوجيـه رشيــد
م يثننا عن عزمنــا فتك الرصاص ولا الحديد
كم من شهيد في سبيــــل النصر تابعـه شهيــد
حتى بلغنا فيك بــالــــشمل الموحـد سؤلنــا
ولابد من الإشارة إلى أنه في سياق التفاعل بين المغرب وبلدان المشرق
العربي بسبب الواقع المشترك الذي كان يهيمن على القطبين في مطالع القرن
العشرين، فقد تبنى رجال الحركة الوطنية جملة من الأناشيد الوطنية
المشرقية، وذلك بهدف توظيفها في القضايا المحلية. وكان مما شجع على ذلك
أنها تنسجم مع الواقع الذي كانت عليه الأوضاع السياسية في المغرب، وأن
موضوعاتها كثيرا ما تلتقي مع طبيعة المواقف الوطنية التي تعكس في مجملها
مناهضة الاستعمار واستنهاض العزائم لمقاومته.
وكثيرة هي الأناشيد المشرقية التي رددها الوطنيون – أيامئذ – في
الإشادة بملك البلاد وامتداح ولي عهده بعدما عمدوا إلى استبدال بعض
أبياتها بأخرى "حتى يكون التأثير على الشعور الوطني الداخلي أبلغ" حسب
تعبير الدكتور إبراهيم السولامي([6]).
ومن أنجح الأناشيد المشرقية التي نابتها المغربة على هذا النحو نشيد
"حمدا لرب العالمين" الذي كان قد أنشأه الشاعر المهجري ميخائيل نعيمة في
مدح السلطان العثماني عبد الحميد ولحنه الشيخ سلامة حجازي.
وقد تلقى المغاربة هذا النشيد في إطار الجولات الفنية التي كانت تقوم
بها فرق التمثيل المصرية إلى بلادنا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن
السابق. وهكذا فباستثناء لحن النشيد الذي تم الاحتفاظ به كاملا، ثم
باستثناء مطلعه، خضعت سائر المقاطع للتغيير. وهذه بعضها ([7]):
حمدا لرب العالميــن قد قرب الفضل المبيـن
فانهض وقل للخاشعين:
قوموا وصيحوا عاليـا يا ربنا كـن واقيــا
مولى البلاد الساميـا
بتمام هذا العرش الزاهي ودوام هذا الملك الباهي
نصيح جميعا بفــؤاد: فليحيى ولي الأمــر
ومثلما كان رجال الحركة الوطنية منفتحين على الأناشيد المشرقية،
يقتبسون من ألحانها وكلماتها ما يقيمون به أود أناشيدهم، فكذلك كانوا
يتصيدون ما لذ من ألحان الأناشيد الغربية وكان أنسب لترجمة المواقف
الحماسية، ثم يفرغونها في كلمات عربية موضوعة.
ومن نماذج هذه الأناشيد نشيد "شمسي أشرقي" الذي انكبت ثلة من الشباب
على نظم كلماته، فجاءت مقاطعه محملة بالمعاني السامية، على نحوما نستشفه
من المقطعين التاليين:
هذا المغرب موطن طيـب عرشه درة التيجـان
مجده خالد عـزه تالــد ملكه قائد الأوطـان
إيه شعب العلا حقق الأملا حي مستقبل الشبـان
إن تكن بطلا منشئا عملا فلتعد صولة الشجعان
وعندما امتدت يد الاستعمار الغاشم إلى سيد البلاد ورمز فخارها فأبعدته
عن عرشه في العشرين من شهر غشت 1953 انطلقت شرارة المقاومة المسلحة في
المدن والبوادي، وأصبح هذا اليوم المشؤوم عنوانا للثورة الشعبية.
وقد تهيأ لبعض رجال الموسيقى العصرية أن يسجلوا هذا الحدث المؤلم، ومن
هؤلاء الفنان محمد فويتح. فقد وضع أغنية "أومالولو"، وبث فيها آهات الحزن
والأسى، وهي أغنية تم تسجيلها بباريس – وكان يقيم بها أيامئذ – برعاية
شركة "باتي ماركوني" وتهيأ لها من الذيوع والانتشار ما لم يتهيأ لكثير من
الأغاني، فكانت تردد في مدن المغرب وقراه على كل لسان، يرجعها الصغار
والكبار في غفلة عن رقابة المستعمر، لأن صاحبها أدرك بحسه الوطني كيف
يغلفها بالرمزية التي كانت يومئذ أبلغ أثرا من الإفصاح والبيان.
حتى إذا عاد الملك من منفاه حاملا لواء الحرية والانعتاق من نير
الاستعمار هبت جموع المواطنين تهلل بالنصر الذي حققته معركة التحرير،
وتردد أناشيد الترحيب بعودة الملك المظفرة، وترجع صدى خطابه إلى الأمة وهو
يقول: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر"، جهاد بناء وحدة الوطن.
وقد توالى ترجيع أناشيد العود المحمود في كل مكان، فمنها نشيد "عودة السلطان" وأوله:
ردد الأطلس صوتا فيه نصر للبــلاد
هو عود لأميــر غائب بعد جهـاد
عاد للعرش بعـز وبأعلام تصــول
وحد الناس جميعا وهو للشعب يقول:
إنني لن أتخلــى عن حقوق تتجلى
فاتحد ياشعب إني لدفاع أتولــى
ومن هذه الأناشيد أيضا نشيد "استقبال الملك" ومنه:
قد أضاء الوجود عودك المحمـود
ونشرت الأمـان في ربوع البلاد
* * *
مرحبا مرحبـا بالمليك الهمـام
بعدك المشـؤوم قد سبانا الرقاد
وأثار الشبـاب للفداء المجيــد
مرحبا مرحبـا بالمليك الهمـام
* * *
حلت الأفـراح برجوع المليـك
فاهتفوا ياشباب بحياة الملــك
مرحبا مرحبـا بالمليك الهمـام
ومن هذه الأناشيد أيضا نشيد "عودة القائد الأعظم" ومطلعه:
بلادي اسعدي بالمليك الهمام وفخر الملوك سليل العظام
لقد عاد عهد الهنا والسـلام بعودة قائدنا الأعظــم
فبشرى لنا ثم بشرى لنــا وحق السرور، وعم الهنا
وجاء البشــير لينبئنــا بعودة قائدنا الأعظــم
وقد سارت الأغنية المغربية على نهج النشيد الوطني في الترحيب بعودة
الملك وأسرته من المنفى، فانطلق صناعها يؤلفون روائع القصائد والموشحات
مما استمر ترداده قائما لفترات طويلة على كل لسان. وكان من نماذجها
المبكرة "تحية رجوع الملك"، وهي أغنية وطنية نظم كلماتها ووضع ألحانها
الفنان محمد المزكلدي في الديار السورية، وغناها رفيقه في الغربة الفنان
الراحل إسماعيل أحمد، وقد تم بثها عبر إذاعة دمشق فتلقتها أسماع أبناء
العروبة مشرقا ومغربا.
ومن نماذج أغاني الترحيب الناجحة "عدت يا خير إمام" للفنان المرحوم عبد القادر الراشدي وشعر محمد بلحسين.
وستطول اللائحة لو حاولنا تقصي ما أفرزته المناسبات من أناشيد وأغاني
وطنية وخاصة بعد بزوغ فجر الاستقلال، على أني أود الإشارة إلى المسابقات
الفنية التي كانت تشرف على تنظيمها قطاعات التربية والشباب بين الفينة
والأخرى، والتي كان من أوائلها المسابقة التي نظمتها إدارة الشبيبة
والرياضة بمناسبة عيد العرش من سنة 1956، وكان لي – وأنا يومئذ طالب
بالمعهد البلدي للموسيقى بمكناس – شرف الفوز بجائزتها الأولى عن أغنية
"نشوة العيد" وهي من نظمي وتلحيني. ومطلعها:
حل فينا عيد عرشك وازدهى الكون بملكك
واستمال القطر نشوا ن بذكرى عيد عرشك
أنت مذ صرت إماما وتقلـدت الزمامــا
أيقن الكون بأنــا بك قد نلنـا المرامــا
[1] عبد العزيز الفشتالي. مناهل الصفا في أخبار الملوك الشرفا. تحقيق د. كريم ص 204.
[2] نفس المرجع. انظر اليفراني – نزهة الحادي. ص 98-99.
[3] - الروض الأريض ص 185 – في حوزة المرحوم عبد الله كنون.
[4] عبد العزيز بن عبد الجليل. الأناشيد الوطنية المغربية ودورها في
حركة التحرير مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية. سلسلة التراث. 2005. ص
53-54.
[5] د. إبراهيم السولامي. الشعر الوطني في عهد الحماية 1912 – 1956 نشر دار الثقافة 1974. ص 156.
[6] المرجع السابق. ص 159.
[7] عبد العزيز بن عبد الجليل. الأناشيد الوطنية المغربية ودورها في
حركة التحرير، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية - سلسلة التراث. 2005 ص
208
وزارة الثقافة
بديعة- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 6241
العمر : 39
Localisation : الدارالبيضاء
Emploi : موظفة
تاريخ التسجيل : 03/04/2008
مواضيع مماثلة
» مولاي إسماعيل العلوي... أوراق من ذاكرة السياسة
» لحسن اليوسي، شيخ الإسلام بلعربي العلوي، المختار السوسي.. أول التجريب لمعنى «المستشار» في عهد الملك الوطني محمد الخامس
» الذاكرة الغنائية المغربية : (نجوم أثروا فن اللحن والموسيقى و الأغنية)
» العائلة الملكية العلوية بالمغرب
» ذكرى رحيل الجابري: مواجهة مستمرة مع العروي
» لحسن اليوسي، شيخ الإسلام بلعربي العلوي، المختار السوسي.. أول التجريب لمعنى «المستشار» في عهد الملك الوطني محمد الخامس
» الذاكرة الغنائية المغربية : (نجوم أثروا فن اللحن والموسيقى و الأغنية)
» العائلة الملكية العلوية بالمغرب
» ذكرى رحيل الجابري: مواجهة مستمرة مع العروي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى