عودة إلى فضيحة " الماضي البسيط لـ إدريس الشرايبي
صفحة 1 من اصل 1
عودة إلى فضيحة " الماضي البسيط لـ إدريس الشرايبي
بمناسبة
الذكرى الثالثة لوفاة الروائي المغربي الكبير إدريس الشرايبي « 1926 ?
2007 » ، يطلعنا في هذه الورقة الناقد و المترجم رشيد بنحدو ? الذي يُعتبر
الأدبُ المغربي و المغاربي المكتوبُ بالفرنسية أحدَ محاور اهتمامه ? على
خفايا الضجة العنيفة التي أعقبت صدور رائعة الشرايبي الروائية : Le Passé
simple « الماضي البسيط» ، خاصة و أنّ هذه الضجة تحف بها أشكال كثيرة من
سوء الفهم، و أنّ هذه الرواية الفذة نفسها لا تزال إلى اليوم تستأثر
باهتمام النقاد، داخل المغرب و خارجه
الذكرى الثالثة لوفاة الروائي المغربي الكبير إدريس الشرايبي « 1926 ?
2007 » ، يطلعنا في هذه الورقة الناقد و المترجم رشيد بنحدو ? الذي يُعتبر
الأدبُ المغربي و المغاربي المكتوبُ بالفرنسية أحدَ محاور اهتمامه ? على
خفايا الضجة العنيفة التي أعقبت صدور رائعة الشرايبي الروائية : Le Passé
simple « الماضي البسيط» ، خاصة و أنّ هذه الضجة تحف بها أشكال كثيرة من
سوء الفهم، و أنّ هذه الرواية الفذة نفسها لا تزال إلى اليوم تستأثر
باهتمام النقاد، داخل المغرب و خارجه
إدريس الشرايبي |
بين فينة وأخرى، تتخلل تواريخَ الآداب في العالم وقائعُ يكون أبطالَها
أو
ضحاياها أدباءٌ استثنائيون. ولأنها وقائع مثيرة بل وصاخبة، فقد أصبحت لفرط
تداولها تعرف ب "قضية" فلان (L'affaire de …) أو ب " ظاهرة " فلان (Le cas
de…) أو ب " فضيحة " فلان (Le scandale de…).
أشير مثلاً إلى ظاهرة
جورج صاند (George Sand) في تاريخ الأدب الفرنسي، التي اتسمت حياتها، مثل
رواياتها، بالجرأة والشطط واللامألوفية، كنزوعها الغريب إلى الترجل
وفضائحها الغرامية وإباحيتها في معالجة الجنس. كما أشير إلى قضيتي جوسطاف
فلوبير (Gustave Flaubert) الذي صودرت روايته " مدام بوفاري " (Madame
Bovary) وشارل بودلير (Charles Baudelaire) الذي منع ديوانه " أزهار الشر
" (Les Fleurs du mal) بدعوى انتهاكهما للأخلاق، وإلى فضيحة جون جوني
(Jean Genêt) الذي أدمن في حياته السرقة والشذوذ الجنسي والذي لم يعترف
للإبداع في نصوصه بأية حدود فنية أو روادع أخلاقية، الأمر الذي أدى إلى
سجنه مرّات عديدة.
وهناك في الأدب الإنجليزي حالة ديفيد هيربرت لورنس
(David Herbert Laurence) الذي استفزت روايته " عشيق الليدي شاترلي" الرأي
العام المحافظ بسبب امتداحها للإيروسية. وكذا قضية سلمان رشدي (Salman
Rushdie) الذي أثارت روايته " آيات شيطانية " حفيظة شيعة إيران بزعم
إهانتها للإسلام، فاستباحوا دمه في فتوى سخيفة مشهورة.
وثمة في الأدب
السوفياتي سابقا حالة بوريس باسطيرناك (Boris Pasternak) الذي كان ضحية
حملة شرسة شنها عليه الحزب الشيوعي بدعوى تنصّل روايته " الدكتور زيفا?و "
من السياسة وحصوله على جائزة نوبل. وبعده حالة ألكسندر سولجينيتسين
(Alexandre Soljenitsyne) الذي اضطرته الرقابة الزدانوفية على رواياته إلى
الهجرة والإقامة الدائمة في أمريكا.
وفي الأدب الأمريكي، تبرز ظاهرة
إدغار ألان بو (Edgar Allan Poe) الذي شنّعه الوعي النقدي المحافظ بدعوى
غرائبية محكياته وبسبب إدمانه السكر والقمار والمخدرات.
وتعتبر قضية
طه حسين، المتصلة بموقف السلطة الدوكسولوجية الأزهرية من كتابه الرائد عن
الشعر الجاهلي، نموذجاً للصراع بين التقليد والتجديد في تاريخ الأدب
المصري والعربي، بين مناهج في التذوق والنقد غابرة مفلسة وأنساق في
التحليل والتأويل حديثة خصيبة. وتماثلها قضية السوري حيدر حيدر التي
فجرتها نفس السلطة حول روايته " وليمة لأعشاب البحر " والتي تتمثل في فتوى
مصادرتها بدعوى جائرة باطلة هي المس بالإسلام.
ولا يشكل تاريخ الأدب
المغربي استثناء لهذه القاعدة المطّردة عالمياُ. فهناك قضية شاعر الحمراء
محمد بنبراهيم الذي نذر حياته وشعره لمدح أشهر أذناب الاستعمار الفرنسي
بالمغرب، وهو الباشا التهامي ال?لاوي، فتصدت له السلطة العلمية بالقرويين
والحركة الوطنية بالفضح والتشهير. كما أن فضيحة " الخبز الحافي " لمحمد
شكري، التي لفّقتها رابطة العلماء بالمغرب وكذا الإكليروس الديني في مصر،
والتي أدت إلى منع الكتاب من التداول العلني، لا السري، مازالت طرية في
الأذهان. وتشبهها قضية محمد خير الدين الذي ظلت رواياته ودواوينه ممنوعة
في المغرب طيلة أعوام بسبب تشهيره فيها بالحسن الثاني وبَطانته من
جينرالات وجلاوزة وأئمة ومدّاحين. أما حالة أحمد الصفريوي، فقد أدى
انصرافه في رواياته عن التنديد بالسياسة الاستعمارية وهيامه الرومانسي
بمظاهر التقليد والأصلانية في المجتمع المغربي إلى اتهامه بالخيانة ووصف
تلك الروايات بالاستقالة من الواقع.
<><
لكن، ما
صلة هذا الاستطراد بادريس الشرايبي ؟ إن ما يتحصل منه هو أن جميع هؤلاء لم
يتنكروا لكتبهم التي عرّضتهم لتلك المصائر. فسواء كانت أحكام وفتاوى
الإدانة والمنع والتحريم صادرة عن محافل دينية أو أخلاقية أو سياسية أو
نقدية، فإن أيا منها لم يلجئ أي واحد من أولائك الأدباء إلى أن يتبرأ مما
كتبه بدافع ندامة أو تبكيت ضمير. أما ادريس الشرايبي، فسيكون له موقف غريب
من إحدى أروع رواياته، كما سيأتي بيان ذلك، موقف سيتمخض عما سيعرف ب "
فضيحة " (Le passé simple). فما هو كنه هذه الفضيحة الفريدة من نوعها في
الأدب المغربي والمغاربي المكتوب بالفرنسية؟ إن الإجابة عن هذا السؤال
ستعود بي حتما إلى العام 1970 وأنا عاكف على إنجاز بحث طويل لنيل الليسانس
أشرف عليه محمد برادة، وكان عنوانه هو " دفاعا عن إدريس الشرايبي ".
ولأنني أملك الملف الكامل الذي يتضمن عناصر القضية، إبان نشوبها في منتصف
الخمسينات من القرن الفائت، وكذا عددا من الرسائل التي تبادلناها، هو
وزوجته Catherine وأنا، في تلك السنة، فسأهتم بعرض تفاصيلها وبواعث
المتدخلين فيها بإيجاز، خاصة وأن الجيل الجديد من الكتاب والنقاد والقراء
لا يعرفون شيئا عنها.
<><
في 1945، غادر إدريس
الشرايبي (وعمره 19 عاما) المغرب باتجاه فرنسا لدراسة الطب، تنفيذا لأمر
والده. لكنه سيختار، بعد فترة من دراسة الطب النفسي العقلي، التخصص في
الكيمياء، حيث نال ديبلوم مهندس كيميائي. وبعد تقلبه طيلة ثمانية أعوام في
عدة مهن، حيث عمل صحافيّاً ومصوّراً متجولاً وحارساً ليليّاً وحمّالاً
بالميناء وعاملاً يدويّاُ ووكيل شركة تأمين وأستاذاً للعربية ومنتجاً في
الإذاعة والتلفزيون الفرنسيين،اكتشـف موهـبـته الأدبية، حيث أنهى كـتابـة
روايته الأولـى Le Passé simple (أي " الماضي البسيط ") (1) في 1953. لكن
نشرها سيتأخر إلى 1954. ولهذا التأخير دلالة سأكشف عنها بعد حين.
لم
تكن هذه الرواية الفذة فقط صرخة إدانة قويةً لأحوال التخلف والجهل والجمود
التي كان المغرب يتخبط فيها آنذاك، بل كانت أيضاً صرخة ثورة حقيقية شنها
الكاتب بلسان بطله إدريس فردي على جبروت الأب المدعوّ في الرواية ب "Le
Seigneur " (أي السيد أو المولى). كان طاغياً في المنزل يقسو على زوجته
الذليلة، التي ستنتحر بسببه، و على أولاده المقهورين الذين سيقتل أحدهم،
ومستبدّاً في عزبته يستغل المستخدمين. وهي الثورة التي ستبلغ ذروتها في
النص ببصق إدريس في وجه والده ورغبته في ذبحه بالسكين، ثم صفقه الأبواب
فالرحيل، مودعا وطنه بالبول عليه وهو محلق في السماء.
وستبدأ خيوط
القضية في التكون والتشبك حين تلقف اليمين الفرنسي، ذو المصلحة في دوام
استعمار المغرب، رواية الشرايبي من حيث هي وثيقة إثبات غير منتظرة تبرر
الوجود الفرنسي في المغرب بزعم تحديث بنياته وتمدين أهاليه. بالفعل،
تهافتت على الرواية بعيد صدورها جرائد عديدة مثل La parisienne و Hommes
et monde و Le journal du Parlement و Rivarol و سواها. فقد جاء في هذه
الأخيرة مثلاً أن " شابا مغربيا، هو السيد الشرايبي، ألف كتابا بعنوان Le
Passé Simple، يكشف فيه لمواطنيه ولنا نحن أيضا هذه الحقيقة العسيرة على
القول والتي يخفيها عنا أعداء الاستعمار..." (2)، ويقصد بها طبعا أن
الاستعمار هو وحده الكفيل بإنقاذ المغرب! وفي مقال بعنوان دال هو " Le
Maroc mis à nu" (أي " المغرب عاريا ") كتبت جريدة Le bulletin de Paris
تقول، في معرض تفنيدها لآراء المتشككين في نِعَمِ الاستعمار ومزاياه، إن "
الصراع الحقيقي، كما توضح ذلك رواية ادريس الشرايبي، ليس بين المغرب
وفرنسا، بل بين جيلين من المغاربة، أو بالأحرى بين أقلية متحضرة
مُتَأَوربَةٍ وأغلبية خاملة خانعة ترزح مع أولياء أمورها تحت وطأة العادات
والتقاليد الإسلامية".(3)
فماذا كان موقف الحركة الوطنية، ممثلة خاصة
في أحد فصائلها، وهو الحزب الديمقراطي من أجل الاستقلال الذي يرأسه محمد
بلحسن الوزاني؟ استنكرت هذا التشويه للحقيقة وللتاريخ، وانهالت على مؤلف
الرواية بالقذف والقدح، بل وبتهديده بالقتل. فكان رد فعل ادريس الشرايبي
عنيفا، حيث نشر في جريدة Le Figaro اليمينية رسالة من بين ما جاء فيها: "
إنني أرثي لحال هؤلاء الديمقراطيين المستقلين، الذين كانوا تقدميين سابقا،
وتنكروا اليوم لأفكارهم بعد أن أبرموا تحالفات مشبوهة مع باريس حيث يعيشون
الآن، مستعملين أقلامهم بكل طمأنينة، لأن استعمال المسدسات سينسف أحشاءهم
" (4). وهو الفصيل الذي سيعاقبه على " وقاحته " هذه بعد عامين في الجريدة
الناطقة بلسانه، كما سأوضح ذلك بعد قليل.
بل إن الشرايبي، وإمعانا منه
في استفزاز الوطنيين، مدعيا أن الاستعمار يساهم في إيقاظِ البلدان
المتخلفة من سباتها العميق، لم يتورع عن التصريح بقوله المخاتل لأسبوعية
Demain الفرنسية: " لست مؤيدا للاستعمار. بل إنني لست حتى ضد الاستعمار.
لكنني مقتنع بأن الاستعمار الأوربي ضروري من أجل خلاص العالم الإسلامي. إن
تجاوزات هذا الاستعمار نفسها، منضافة إلى قيم الغرب الحقيقية، تمثل
الخميرة الفعالة الكفيلة بإطلاق النهضة الإجتماعية " (5).
شهرين بعد
ذلك ، سيؤسس الحزب الديمقراطي من أجل الاستقلال جريدة Démocratie لسانا
لحاله. وفي عددها الثاني، ستنشر مقالة هي أقرب إلى المرافعة اللاذعة منها
إلى الدراسة النقدية، فجّر فيها صاحبها عامين من الحقد المتراكم، عنونها ب
: "Driss Chraïbi : Assassin de l'espérance " (أي " إدريس الشرايبي: قاتل
الأمل "). وهي المقالة التي سيترتب عنها رد فعل غريب كل الغرابة من
الشرايبي، كما ألمحت إلى ذلك في البداية. وقد استهلها كاتبها (مجهول
الهوية، لأنه وقعها بحرفي ! A.H.) بقوله الساخر: " نعرف، بفضل نظام
الاستعمار، أن بإمكان المرء أن يكون مثقفا ويخون قضية وطنه، أن يكون شابا
ويتواطأ مع الكهول المخرّفين أن يكون موهوبا و يتصرف تصرف البلداء. هذه
ظواهر نعرفها، نحن الذين ابتلينا دون مرارة بأذيّات صنف من المثقفين
المتحررين زعماً وذوي الطمع في مناصب شرفية (غير مشرفة). فلقد رُزقَ
المغرب كذلك خونةً مارقين غادرين أمثال Pierre Laval و Paraz و Ferdonnet
! "(6). بعد ذلك، شرع في بسط أدلة محاكمته للشرايبي، وهي:
-إقامته الآمنة في باريس، بعيدا عن وطنه الذي يكافح من أجل الاستقلال، " وهذا حقه ! ".
- سخطه على بلده واحتقاره لمواطنيه وسبه لوالده الذي تجاسر على البصق في وجهه وتمرده على كل القيم والتقاليد.
- اهتمامه المفاجئ بالقضية المغربية " باسم الإسلام الذي سخر منه ".
- تجرؤه على الاعتراف : " إنني لست (...) ضد الاستعمار"
- ادّعاؤه بأن " القضية المغربية ليست سياسية "، هذا في الوقت الذي كان فيه الناس البسطاء الطيبون يسترخصون أنفسهم في سبيل الحرية،
و " يعانون من عنصرية البوليس الدنيئة ".
ويختم
الكاتب مقالته بسيل من الشتائم والإهانات : " إن للناس الشرفاء، سواء
كانوا مثقفين أم أمّيّين، نفساً أبية. أما هو، ادريس الشرايبي، فقد باع
نفسه لِِلَسْتُ أدري أي شيطان نصفه قرد ونصفه الآخر نعامة ! إن السيد
الشرايبي ليس مثقفا أصيلا. إنه لقيط الثقافة ! لقد ردّ عليه مسبقاً علال
بنعبد الله، وهو صباغ بنايات. إن المرء حين يعجز عن تحدي الموت من أجل أن
يقتل ابن عرفة، كما فعل علال بنعبد الله، وحين لا يستطيع أن ينحني إجلالاً
لصلاح الراشدي، الذي كان إيمانه بالحرية أقوى من خوفه من دبّابات فرنسا،
فإن أقل ما يستطيعه هو أن يستحيي ويصمت. لكن هذا الحياء يفتقده ادريس
الشرايبي، هذا (...) القاتل للأمل ! " (7)
ماذا كان رد فعل ادريس
الشرايبي؟ تأثر كثيرا لهذا الهجوم القاسي على شخصه، فبعث إلى جريدة
Démocratie في عددها الخامس رسالة اعتذار وتضرّع طويلة قام فيها بنقد ذاتي
تحت عنوان " Je renie le passé Simple") " أنا أتنكر للماضي البسيط " )،
هذه بعض المقاطع منها: " سيدي المدير. لقد اطلعت على المقالة التي خصتني
بها جريدتكم، فبكيت لما ورد فيها. إن ثمة سوء فهم فظيع (...). إن المتمعّن
في رواياتي سيتضح له أنها ثلاثية قائمة على موضوع الإيمان وأنني خضعت فيها
لتحول لا لبس فيه ولا غموض. ففي روايتي الأولى "Le passé simple "، يتعلق
الأمر بشابّ مغربي، متكوّن في أحد ليسيات الحماية الفرنسية، يحاكم دون
رأفة المجتمع الإسلامي الذي نشأ فيه، ويهاجر إلى فرنسا إيماناً منه بقيم
الغرب. وفي روايتي الثانية "Les Boucs " يكتشف أن (...) هذه الحضارة
الأوروبية التي كان يؤمن بها لا وجود لها إلا في الكتب أو في مخيلته في
أبعد تقدير. وفي "L'âne "، روايتي الثالثة، يشاهد استقلال بلده ويحذره من
مخاطر الإغترار بالحضارة الأوروبية، القائمة على المادية والحروب والحقد
والصراع بين الطبقات، مناشداً إياه أن يعرف كيف يبحث عن قدره بنفسه (...).
في بداية هذه الرسالة، قلت لكم إن هذه المقالة، التي أدانتني بلا هوادة،
قد أبكتني. كنت سأبتهج كثيرا لو أنها نشرت في جريدة أخرى غير مغربية. أنا
أتفهم الآن أن مواطنيّ إذا كانوا في معمعان الواقع وفي خضم الحدث وفي
بوتقة الحياة، فقد كنت أنا خارج كل هذا، الأمر الذي جعلني أسيء إلى وطني.
أنا أتفهم هذا جيدا الآن. لذلك أقسم بالله العلي القدير (...) أن أنصرف من
الآن عن كل ما من شأنه أن يفرق بيني وبين وطني (...) لقد تعرف الناس في
المغرب على رواية " الماضي البسيط " من خلال ما فعلته بها الصحافة الرجعية
بفرنسا، حيث شوهت كل شيء فيها. كان ذلك أمرا لا مفر منه، فلم يكن ممكنا لي
أن أتنبأ به. بل إنني أعترف بأن صدورها غير مناسب في وقت غير مناسب (...).
لقد أعلنتُ صراحةً هذه الأسابيع الأخيرة، في المحطات الإذاعية والتلفزية
وفي كل حوار معي، أنني الآن بعيد جدّاً عن " الماضي البسيط ". إنني أتبرأ
من هذا الكتاب! سيدي المدير. أريد أن أقدم لمواطنيّ ذراعا أو رجلا عربون
محبة لهم. (...) فحين تصفني الصحافة الفرنسية بمعاداة الغرب وتصفني صحافة
بلادي بأنني بعت نفسي، فأين يكون موقعي إذن؟ ومن أكون؟ إنها لمفارقة حقا
ألا أكون شيوعيا، ومع ذلك تترجم كتبي في روسيا وفي باقي البلدان
الشيوعية!" (8).
على أثر هذه التوبة المثيرة للشفقة، اضطر صاحب المقالة
إلى إصدار عفوه وغفرانه في حق الشرايبي، لكن من غير ألا يوبخه على خطئه
وتهوره: » إن ما لمتك عليه هو سلبيتك السياسية. أقول لك بموضوعية إنك قدمت
خدمة لأعدائنا، أولئك الذين سعوا ومازالوا يسعون إلى قتل الأمل فينا.
وبموضوعية أيضا أقول لك إنك تماديت في هذا الموقف حين نشرت آراءك في جرائد
معادية لقضيتنا«. (9)
وعشر سنوات بعد فضيحة " الماضي البسيط " هذه،
سيعترف ادريس الشرايبي في حوار أجراه معه عبد اللطيف اللعبي قائلا: » أقر
بأنني كنت في حالة ضعف حين تنكّرت لـ " الماضي البسيط ". لم يكن ممكنا لي
أن أتحمل ادعاء أن أكون متعاونا مع المستعمر. لقد كان عليّ أن أقاوم، أن
أتحلى بشجاعة أكثر (...). لقد قلت بشراسة ووحشية عن ماضينا ما كان ينبغي
قوله. لست نادما على ذلك. لكن، ربما كان عليّ أن أهاجم الآخرين فقط، وأن
أعوي مع الذئاب، أليس كذلك؟ «(10).
<><
لقد كانت
فضيحة حقا هذه الضجة التي أثيرت حول رواية " الماضي البسيط "! كانت فضيحة
بمعنى مزدوج. فتفجير الجريدة للضجة فضيحة! وإقرار المؤلف بالذنب ونفيه
نسبة الرواية إليه فضيحة كذلك!
و الآن، وبعد مرور أكثر من خمسين عاما
عليها، أتساءل: ما الذي وقع بالضبط؟ وكيف وقع؟ ولماذا؟ إن زيارة جديدة لـ
" الماضي البسيط " تكشف أن هذه الضجة مفتعلة تماما، لأنها قائمة على سوء
فهم شنيع متعدد الأبعاد.
فلا يعقل أولا أن يدّعي سياسيّ لنفسه في جريدة
سياسية هي لسان حال حزب سياسي حقّ التدخل في شأن خاص هو من اختصاص النقد
الأدبي. والأكثر من هذا، لا يعقل أن ينصّب نفسه خصماً باسم غيرة وطنية
مفاجئة أو حماس سياسي زائد، وحَكَماً كذلك يوقّع صكّ اللعنة في حق كاتب
ويصدر فتوى التحريم في حق روايته. فالضجة إذن لا تعدو كونها للأسف محاكمة
نوايا مغرضة!
كما لا يعقل ثانيا تحميل هذا الكاتب تبعات نشر روايته في
وقت حدده طرف آخر بسبق تعمد مبيت. فلقد أشرت سابقاً إلى أن الشرايبي أتمّ
كتابة روايته " الماضي البسيط " في 1953. ففي آخر صفحة من روايته ? وهي
الصفحة 260 من الطبعة الأولى - نقرأ أنه بدأ كتابتها في دجنبر 1953
وأنهاها في غشت نفس السنة. لكن دار النشر Denoël أرجأت نشرها إلى 1954
لأغراض دعائية وتجارية لم يفطن إليها المؤلف وقتئذ، كما أخبرني بذلك في
إحدى رسائله إليّ، المؤرخة ب 18 فبراير 1970. لقد ظهرت الرواية في وقت كان
فيه الشعب المغربي كافة منهمكاً في الكفاح من أجل الاستقلال وعودة الملك
الشرعي محمد الخامس من المنفى الذي اضطرته إليه السلطة الفرنسية
الاستعمارية، وفي وقت كان فيه الجميع، وخاصة المثقفين، مدعوّين للدفاع عن
قضية المغرب الوطنية، في الداخل والخارج، لا » لكيل الشتائم له وتبرير
استعماره «. فلو أن نشرها تم مباشرة بعد الفراغ من تأليفها، فمن المحتمل
ألاّ ينتبه إليها أحد، فأحرى أن يثير حولها تلك الضجة العنيفة . ولذلك ،
فلا مسؤولية للشرايبي إذن في " صدورها غير المناسب في وقت غير مناسب " كما
قال بنفسه .
وفوق كل هذا ، فـ " الماضي البسيط " ليس روبور تاجاً
صحفيّا أنجزه كاتب هاو ، بتكليف من جهة استعمارية ما أو محسوبة على
الاستعمار الفرنسي، بغاية تصوير أحوال البؤس والتخلف والتعلق المطلق
بالتقاليد الاجتماعية البالية وبالتعاليم الدينية المتوارثة التي يتخبط
فيها المغرب، تبريرا لاحتلاله . كما أنه ليس بخاصة سيرة ذاتية تؤرخ لطفولة
المؤلف ومراهقته إلى غاية بلوغه سن التاسعة عشرة ولفترة من تاريخ المغرب
المعاصر. إنه، خلافا لهذا وذاك، رواية ! ولأنه رواية، فكل ما فيها هو ثمرة
التخريف والتخييل . بل إن بعض الأحداث فيها ? وخاصة مشهد قتل " السيد "
لأصغر أبنائه ( تسع سنوات ! ) الذي لا يخلو من همجية، ومشهد قيام الأبناء
الواحد تلو الآخر بالبصق في وجه الأب المستبد، الذي لا يخلو من سادية،
وكذا مشهد تحفز البطل السارد، إدريس فردي ، إلى ذبح والده بأمر منه، الذي
لا يخلو من مازوخية ? لا يمكن تصور وقوعه إلا في رواية تقوم على الغلو
والشطط لا في كيفية تدبير موضوعها فحسب، وهو التمرد على سلطة الأب، بل
كذلك في لغة كتابتها المتسمة بالعنف والحنق والتوتر. فعلى رغم إيحاء
المؤلف بوجود تطابق بين ادريس فردي وإدريس الشرايبي، وذلك في قوله في
مقدمة روايته الثالثة " L'?ne" : " لقد سمعت وقرأت أن " الماضي البسيط "
كتاب حقد (...) إن بطله يدعى ارديس فردي . لعله أنا . وفي كل حال، فإن
يأسه هو يأسي. يأس إيمان. فلقد لاحظ، وهو مراهق متحمس تلقى تكوينه في
المدارس الفرنسية ، أن ذلك الإسلام الذي كان يؤمن به، والذي يتحدث (...)
عن التسامح والحرية والمحبة، قد تحول إلى نفاق ومراءاة، إلى نظام اجتماعي
وسلاح دعاية لأفكار مشبوهة . فماذا فعل ؟ نفى نفسه إلى فرنسا شعورا منه
بالحاجة إلى الإيمان بشيء ما وإلى محبة واحترام أحد ما (...) . لقد
اخترتُ. وكم أتمنى ألا يرغمني شيء أو أحد على الاختيار مرة أخرى ، لأنني
إذا كنت قد اخترت أن أعيش في فرنسا ? وربما أن أموت فيها، لكن هذا يتعدى
إرادتي ? فإنني أظل متعلقا بعالم طفولتي وبهذا الإسلام الذي يزداد إيماني
به يوما بعد آخر " وعلى رغم أنهما معاً قدّر عليهما أن يكون أبواهما
متشابهين في الاستبداد والطغيان ? فلا يجوز لأحد، حتى ولو كان حسير النظر
لا يرى أبعد من أنفه ، أن يبرم ميثاقاً أوطوبيوغرافيّا مع الرواية يفضي
إلى اعتبار ادريس فردي هو إدريس الشرايبي ، و والد هذا هو والد ذاك . فلا
شك في أن لواقع الرواية خصوصيته التي تميزه عن واقع الواقع !
أما من
جهة إدريس الشرايبي نفسه ، فلعله في نظري قد اقترف إثما غير هيّن حين أعلن
براءته من روايته . لنتصور أن كل أولئك الأدباء ? الذين افتتحتُ هذا
المقال بالتعرض لمحنتهم مع الرقابة السياسية والأخلاقية والدينية والنقدية
في بلدانهم ? قد تملصوا من أعمالهم : سيكون ذلك مهزلة كبرى ! لماذا لم
يتنكر سلمان رشدي مثلا لروايته " آيات شيطانية " التي فرضت عليه أن يختبئ
طيلة أعوام مثل فأر في جحر ، تحت حراسة الشرطة البريطانية السرية ،وقاية
لنفسه من مرتزق متأسلم يطمع في المكافأة المالية المغرية التي رصدها
الإمام الخميني مقابلا لقتله ؟ لقد كان بإمكانه أن يفعل ذلك ، فتلغى فتوى
قتله. ولكنه لم يفعل ، نظرا للامعقولية ذلك أولا ، وحفاظا على مصداقيته
أديبا ذا مقروئية عالية في العالم ثانيا.
لقد كان بإمكان الشرايبي أن
يكتفي بنشر بيان يوضح فيه للرأي العام المغربي حقيقة الأمور ، وهي أنه لم
يكتب " الماضي البسيط " لتأييد نظام الاستعمار ، بل للكشف عن الدواعي
الذاتية العميقة التي أدت إلى فرض السيطرة الاستعمارية على المغرب، وأنه
لم يهاجم الإسلام، بل فضح استغلاله المغرض من لدن البعض، حفاظاً على مصالح
وامتيازات، وأن تمرده ليس طارئاً عرضياً أو نزوة طيش وتهور، بل موقفاً
عقلانياً أملته الغيرة الصادقة على وطنه، وأنه غير مسؤول لا عن توقيت نشر
الرواية ولا عن تأويلها غير البريء من طرف الصحافة الفرنسية الرجعية.
وفضلا
عن ذلك، فإن بإمكان القارئ أن يخمّن أن الشرايبي كتب هذا النص بكل حواسّه
وجوارحه، كما تدل على ذلك لغته التلقائية وأسلوبه الارتجاجي وتداعياته
النيئة. بالفعل، فهذه الرواية، يقول عبد اللطيف اللعبي، هي » تشريح
اكلينيكي للمغرب (...)، تعبير عضويّ عن قلق (...)، صَرْخَةٌ فيزيقية من
أعماق قارة مدفونة « (11). فهو إذن قطعة لا تنفصل عن ذات المؤلف. لذلك،
فإذا كان من الممكن، في حدود ما، تفهّم موقف الشرايبي، فإن من المتعذر
دعمه أو الدفاع عنه. إن تنكّر الشرايبي لروايته يعتبر في نظري فضيحة أقوى
وأخطر من الفضيحة التي لفقتها جريدة Démocratie، إذ لا مبرر إطلاقاً يجيز
لكاتب ما أن يكف عن الاعتراف بنصه ، خاصة وأن هذا متدفق حارّا حارقا من
صلب أوردته وأمعائه . ويشاطرني هذا الرأيَ أحمد الصفريوي الذي قال : » أظن
أن رواية " الماضي البسيط" قد تم استغلالها ضد مؤلفها (...) . ولذلك ، فمن
الجناية أن نعتقد بأنه " باع نفسه " كما قيل. فلا شيء أسهل، في بعض الظروف
السياسية، من وصف جارك بكونه مبيعا (...). أما الرسالة التي تبرأ فيها من
روايته، فهي مثيرة للشفقة حقا. أنا أعتقد بأن السيد الشرايبي انبطح أكثر
من اللازم. لقد بالغ في إهانة نفسه. أنا لا أفهم كيف سوغ لنفسه التنكر
بجرة قلم لـ " الماضي البسيط ". فلا يمكن للكاتب أن يتبرأ من رواية هي من
إبداعه. إنها جزء منه« (12).
الـــهـــوامـــش
1- PARIS, ED. DENO?L, 1954, 264 P
2- RIVAROL, PARIS, 17 FEVRIER 1955
3- LE BULLETIN DE PARIS, 7 JANVIER, 1955
4- LE FIGARO, PARIS, 6 SEPTEMBRE 1955
5-DEMAIN, PARIS, 29 NOVEMBRE ? 5 DECEMBRE,1956.
6- DÉMOCRATIE, 14 JANVIER 1957.
7- IBIDEM
8- DÉMOCRATIE, 4 FEVRIER 1957
9- DÉMOCRATIE, 23 FEVRIER 1957
10- SOUFFLES, REVUE, RABAT, N? 5, 1967,P.-P.5-6
11- IBIDEM. " DEFENSE DU PASSE SIMPLE ", P.20
12- DÉMOCRATIE, 25 FEVRIER 1957
العلم الثقافي16/5/2010أو
ضحاياها أدباءٌ استثنائيون. ولأنها وقائع مثيرة بل وصاخبة، فقد أصبحت لفرط
تداولها تعرف ب "قضية" فلان (L'affaire de …) أو ب " ظاهرة " فلان (Le cas
de…) أو ب " فضيحة " فلان (Le scandale de…).
أشير مثلاً إلى ظاهرة
جورج صاند (George Sand) في تاريخ الأدب الفرنسي، التي اتسمت حياتها، مثل
رواياتها، بالجرأة والشطط واللامألوفية، كنزوعها الغريب إلى الترجل
وفضائحها الغرامية وإباحيتها في معالجة الجنس. كما أشير إلى قضيتي جوسطاف
فلوبير (Gustave Flaubert) الذي صودرت روايته " مدام بوفاري " (Madame
Bovary) وشارل بودلير (Charles Baudelaire) الذي منع ديوانه " أزهار الشر
" (Les Fleurs du mal) بدعوى انتهاكهما للأخلاق، وإلى فضيحة جون جوني
(Jean Genêt) الذي أدمن في حياته السرقة والشذوذ الجنسي والذي لم يعترف
للإبداع في نصوصه بأية حدود فنية أو روادع أخلاقية، الأمر الذي أدى إلى
سجنه مرّات عديدة.
وهناك في الأدب الإنجليزي حالة ديفيد هيربرت لورنس
(David Herbert Laurence) الذي استفزت روايته " عشيق الليدي شاترلي" الرأي
العام المحافظ بسبب امتداحها للإيروسية. وكذا قضية سلمان رشدي (Salman
Rushdie) الذي أثارت روايته " آيات شيطانية " حفيظة شيعة إيران بزعم
إهانتها للإسلام، فاستباحوا دمه في فتوى سخيفة مشهورة.
وثمة في الأدب
السوفياتي سابقا حالة بوريس باسطيرناك (Boris Pasternak) الذي كان ضحية
حملة شرسة شنها عليه الحزب الشيوعي بدعوى تنصّل روايته " الدكتور زيفا?و "
من السياسة وحصوله على جائزة نوبل. وبعده حالة ألكسندر سولجينيتسين
(Alexandre Soljenitsyne) الذي اضطرته الرقابة الزدانوفية على رواياته إلى
الهجرة والإقامة الدائمة في أمريكا.
وفي الأدب الأمريكي، تبرز ظاهرة
إدغار ألان بو (Edgar Allan Poe) الذي شنّعه الوعي النقدي المحافظ بدعوى
غرائبية محكياته وبسبب إدمانه السكر والقمار والمخدرات.
وتعتبر قضية
طه حسين، المتصلة بموقف السلطة الدوكسولوجية الأزهرية من كتابه الرائد عن
الشعر الجاهلي، نموذجاً للصراع بين التقليد والتجديد في تاريخ الأدب
المصري والعربي، بين مناهج في التذوق والنقد غابرة مفلسة وأنساق في
التحليل والتأويل حديثة خصيبة. وتماثلها قضية السوري حيدر حيدر التي
فجرتها نفس السلطة حول روايته " وليمة لأعشاب البحر " والتي تتمثل في فتوى
مصادرتها بدعوى جائرة باطلة هي المس بالإسلام.
ولا يشكل تاريخ الأدب
المغربي استثناء لهذه القاعدة المطّردة عالمياُ. فهناك قضية شاعر الحمراء
محمد بنبراهيم الذي نذر حياته وشعره لمدح أشهر أذناب الاستعمار الفرنسي
بالمغرب، وهو الباشا التهامي ال?لاوي، فتصدت له السلطة العلمية بالقرويين
والحركة الوطنية بالفضح والتشهير. كما أن فضيحة " الخبز الحافي " لمحمد
شكري، التي لفّقتها رابطة العلماء بالمغرب وكذا الإكليروس الديني في مصر،
والتي أدت إلى منع الكتاب من التداول العلني، لا السري، مازالت طرية في
الأذهان. وتشبهها قضية محمد خير الدين الذي ظلت رواياته ودواوينه ممنوعة
في المغرب طيلة أعوام بسبب تشهيره فيها بالحسن الثاني وبَطانته من
جينرالات وجلاوزة وأئمة ومدّاحين. أما حالة أحمد الصفريوي، فقد أدى
انصرافه في رواياته عن التنديد بالسياسة الاستعمارية وهيامه الرومانسي
بمظاهر التقليد والأصلانية في المجتمع المغربي إلى اتهامه بالخيانة ووصف
تلك الروايات بالاستقالة من الواقع.
<><
لكن، ما
صلة هذا الاستطراد بادريس الشرايبي ؟ إن ما يتحصل منه هو أن جميع هؤلاء لم
يتنكروا لكتبهم التي عرّضتهم لتلك المصائر. فسواء كانت أحكام وفتاوى
الإدانة والمنع والتحريم صادرة عن محافل دينية أو أخلاقية أو سياسية أو
نقدية، فإن أيا منها لم يلجئ أي واحد من أولائك الأدباء إلى أن يتبرأ مما
كتبه بدافع ندامة أو تبكيت ضمير. أما ادريس الشرايبي، فسيكون له موقف غريب
من إحدى أروع رواياته، كما سيأتي بيان ذلك، موقف سيتمخض عما سيعرف ب "
فضيحة " (Le passé simple). فما هو كنه هذه الفضيحة الفريدة من نوعها في
الأدب المغربي والمغاربي المكتوب بالفرنسية؟ إن الإجابة عن هذا السؤال
ستعود بي حتما إلى العام 1970 وأنا عاكف على إنجاز بحث طويل لنيل الليسانس
أشرف عليه محمد برادة، وكان عنوانه هو " دفاعا عن إدريس الشرايبي ".
ولأنني أملك الملف الكامل الذي يتضمن عناصر القضية، إبان نشوبها في منتصف
الخمسينات من القرن الفائت، وكذا عددا من الرسائل التي تبادلناها، هو
وزوجته Catherine وأنا، في تلك السنة، فسأهتم بعرض تفاصيلها وبواعث
المتدخلين فيها بإيجاز، خاصة وأن الجيل الجديد من الكتاب والنقاد والقراء
لا يعرفون شيئا عنها.
<><
في 1945، غادر إدريس
الشرايبي (وعمره 19 عاما) المغرب باتجاه فرنسا لدراسة الطب، تنفيذا لأمر
والده. لكنه سيختار، بعد فترة من دراسة الطب النفسي العقلي، التخصص في
الكيمياء، حيث نال ديبلوم مهندس كيميائي. وبعد تقلبه طيلة ثمانية أعوام في
عدة مهن، حيث عمل صحافيّاً ومصوّراً متجولاً وحارساً ليليّاً وحمّالاً
بالميناء وعاملاً يدويّاُ ووكيل شركة تأمين وأستاذاً للعربية ومنتجاً في
الإذاعة والتلفزيون الفرنسيين،اكتشـف موهـبـته الأدبية، حيث أنهى كـتابـة
روايته الأولـى Le Passé simple (أي " الماضي البسيط ") (1) في 1953. لكن
نشرها سيتأخر إلى 1954. ولهذا التأخير دلالة سأكشف عنها بعد حين.
لم
تكن هذه الرواية الفذة فقط صرخة إدانة قويةً لأحوال التخلف والجهل والجمود
التي كان المغرب يتخبط فيها آنذاك، بل كانت أيضاً صرخة ثورة حقيقية شنها
الكاتب بلسان بطله إدريس فردي على جبروت الأب المدعوّ في الرواية ب "Le
Seigneur " (أي السيد أو المولى). كان طاغياً في المنزل يقسو على زوجته
الذليلة، التي ستنتحر بسببه، و على أولاده المقهورين الذين سيقتل أحدهم،
ومستبدّاً في عزبته يستغل المستخدمين. وهي الثورة التي ستبلغ ذروتها في
النص ببصق إدريس في وجه والده ورغبته في ذبحه بالسكين، ثم صفقه الأبواب
فالرحيل، مودعا وطنه بالبول عليه وهو محلق في السماء.
وستبدأ خيوط
القضية في التكون والتشبك حين تلقف اليمين الفرنسي، ذو المصلحة في دوام
استعمار المغرب، رواية الشرايبي من حيث هي وثيقة إثبات غير منتظرة تبرر
الوجود الفرنسي في المغرب بزعم تحديث بنياته وتمدين أهاليه. بالفعل،
تهافتت على الرواية بعيد صدورها جرائد عديدة مثل La parisienne و Hommes
et monde و Le journal du Parlement و Rivarol و سواها. فقد جاء في هذه
الأخيرة مثلاً أن " شابا مغربيا، هو السيد الشرايبي، ألف كتابا بعنوان Le
Passé Simple، يكشف فيه لمواطنيه ولنا نحن أيضا هذه الحقيقة العسيرة على
القول والتي يخفيها عنا أعداء الاستعمار..." (2)، ويقصد بها طبعا أن
الاستعمار هو وحده الكفيل بإنقاذ المغرب! وفي مقال بعنوان دال هو " Le
Maroc mis à nu" (أي " المغرب عاريا ") كتبت جريدة Le bulletin de Paris
تقول، في معرض تفنيدها لآراء المتشككين في نِعَمِ الاستعمار ومزاياه، إن "
الصراع الحقيقي، كما توضح ذلك رواية ادريس الشرايبي، ليس بين المغرب
وفرنسا، بل بين جيلين من المغاربة، أو بالأحرى بين أقلية متحضرة
مُتَأَوربَةٍ وأغلبية خاملة خانعة ترزح مع أولياء أمورها تحت وطأة العادات
والتقاليد الإسلامية".(3)
فماذا كان موقف الحركة الوطنية، ممثلة خاصة
في أحد فصائلها، وهو الحزب الديمقراطي من أجل الاستقلال الذي يرأسه محمد
بلحسن الوزاني؟ استنكرت هذا التشويه للحقيقة وللتاريخ، وانهالت على مؤلف
الرواية بالقذف والقدح، بل وبتهديده بالقتل. فكان رد فعل ادريس الشرايبي
عنيفا، حيث نشر في جريدة Le Figaro اليمينية رسالة من بين ما جاء فيها: "
إنني أرثي لحال هؤلاء الديمقراطيين المستقلين، الذين كانوا تقدميين سابقا،
وتنكروا اليوم لأفكارهم بعد أن أبرموا تحالفات مشبوهة مع باريس حيث يعيشون
الآن، مستعملين أقلامهم بكل طمأنينة، لأن استعمال المسدسات سينسف أحشاءهم
" (4). وهو الفصيل الذي سيعاقبه على " وقاحته " هذه بعد عامين في الجريدة
الناطقة بلسانه، كما سأوضح ذلك بعد قليل.
بل إن الشرايبي، وإمعانا منه
في استفزاز الوطنيين، مدعيا أن الاستعمار يساهم في إيقاظِ البلدان
المتخلفة من سباتها العميق، لم يتورع عن التصريح بقوله المخاتل لأسبوعية
Demain الفرنسية: " لست مؤيدا للاستعمار. بل إنني لست حتى ضد الاستعمار.
لكنني مقتنع بأن الاستعمار الأوربي ضروري من أجل خلاص العالم الإسلامي. إن
تجاوزات هذا الاستعمار نفسها، منضافة إلى قيم الغرب الحقيقية، تمثل
الخميرة الفعالة الكفيلة بإطلاق النهضة الإجتماعية " (5).
شهرين بعد
ذلك ، سيؤسس الحزب الديمقراطي من أجل الاستقلال جريدة Démocratie لسانا
لحاله. وفي عددها الثاني، ستنشر مقالة هي أقرب إلى المرافعة اللاذعة منها
إلى الدراسة النقدية، فجّر فيها صاحبها عامين من الحقد المتراكم، عنونها ب
: "Driss Chraïbi : Assassin de l'espérance " (أي " إدريس الشرايبي: قاتل
الأمل "). وهي المقالة التي سيترتب عنها رد فعل غريب كل الغرابة من
الشرايبي، كما ألمحت إلى ذلك في البداية. وقد استهلها كاتبها (مجهول
الهوية، لأنه وقعها بحرفي ! A.H.) بقوله الساخر: " نعرف، بفضل نظام
الاستعمار، أن بإمكان المرء أن يكون مثقفا ويخون قضية وطنه، أن يكون شابا
ويتواطأ مع الكهول المخرّفين أن يكون موهوبا و يتصرف تصرف البلداء. هذه
ظواهر نعرفها، نحن الذين ابتلينا دون مرارة بأذيّات صنف من المثقفين
المتحررين زعماً وذوي الطمع في مناصب شرفية (غير مشرفة). فلقد رُزقَ
المغرب كذلك خونةً مارقين غادرين أمثال Pierre Laval و Paraz و Ferdonnet
! "(6). بعد ذلك، شرع في بسط أدلة محاكمته للشرايبي، وهي:
-إقامته الآمنة في باريس، بعيدا عن وطنه الذي يكافح من أجل الاستقلال، " وهذا حقه ! ".
- سخطه على بلده واحتقاره لمواطنيه وسبه لوالده الذي تجاسر على البصق في وجهه وتمرده على كل القيم والتقاليد.
- اهتمامه المفاجئ بالقضية المغربية " باسم الإسلام الذي سخر منه ".
- تجرؤه على الاعتراف : " إنني لست (...) ضد الاستعمار"
- ادّعاؤه بأن " القضية المغربية ليست سياسية "، هذا في الوقت الذي كان فيه الناس البسطاء الطيبون يسترخصون أنفسهم في سبيل الحرية،
و " يعانون من عنصرية البوليس الدنيئة ".
ويختم
الكاتب مقالته بسيل من الشتائم والإهانات : " إن للناس الشرفاء، سواء
كانوا مثقفين أم أمّيّين، نفساً أبية. أما هو، ادريس الشرايبي، فقد باع
نفسه لِِلَسْتُ أدري أي شيطان نصفه قرد ونصفه الآخر نعامة ! إن السيد
الشرايبي ليس مثقفا أصيلا. إنه لقيط الثقافة ! لقد ردّ عليه مسبقاً علال
بنعبد الله، وهو صباغ بنايات. إن المرء حين يعجز عن تحدي الموت من أجل أن
يقتل ابن عرفة، كما فعل علال بنعبد الله، وحين لا يستطيع أن ينحني إجلالاً
لصلاح الراشدي، الذي كان إيمانه بالحرية أقوى من خوفه من دبّابات فرنسا،
فإن أقل ما يستطيعه هو أن يستحيي ويصمت. لكن هذا الحياء يفتقده ادريس
الشرايبي، هذا (...) القاتل للأمل ! " (7)
ماذا كان رد فعل ادريس
الشرايبي؟ تأثر كثيرا لهذا الهجوم القاسي على شخصه، فبعث إلى جريدة
Démocratie في عددها الخامس رسالة اعتذار وتضرّع طويلة قام فيها بنقد ذاتي
تحت عنوان " Je renie le passé Simple") " أنا أتنكر للماضي البسيط " )،
هذه بعض المقاطع منها: " سيدي المدير. لقد اطلعت على المقالة التي خصتني
بها جريدتكم، فبكيت لما ورد فيها. إن ثمة سوء فهم فظيع (...). إن المتمعّن
في رواياتي سيتضح له أنها ثلاثية قائمة على موضوع الإيمان وأنني خضعت فيها
لتحول لا لبس فيه ولا غموض. ففي روايتي الأولى "Le passé simple "، يتعلق
الأمر بشابّ مغربي، متكوّن في أحد ليسيات الحماية الفرنسية، يحاكم دون
رأفة المجتمع الإسلامي الذي نشأ فيه، ويهاجر إلى فرنسا إيماناً منه بقيم
الغرب. وفي روايتي الثانية "Les Boucs " يكتشف أن (...) هذه الحضارة
الأوروبية التي كان يؤمن بها لا وجود لها إلا في الكتب أو في مخيلته في
أبعد تقدير. وفي "L'âne "، روايتي الثالثة، يشاهد استقلال بلده ويحذره من
مخاطر الإغترار بالحضارة الأوروبية، القائمة على المادية والحروب والحقد
والصراع بين الطبقات، مناشداً إياه أن يعرف كيف يبحث عن قدره بنفسه (...).
في بداية هذه الرسالة، قلت لكم إن هذه المقالة، التي أدانتني بلا هوادة،
قد أبكتني. كنت سأبتهج كثيرا لو أنها نشرت في جريدة أخرى غير مغربية. أنا
أتفهم الآن أن مواطنيّ إذا كانوا في معمعان الواقع وفي خضم الحدث وفي
بوتقة الحياة، فقد كنت أنا خارج كل هذا، الأمر الذي جعلني أسيء إلى وطني.
أنا أتفهم هذا جيدا الآن. لذلك أقسم بالله العلي القدير (...) أن أنصرف من
الآن عن كل ما من شأنه أن يفرق بيني وبين وطني (...) لقد تعرف الناس في
المغرب على رواية " الماضي البسيط " من خلال ما فعلته بها الصحافة الرجعية
بفرنسا، حيث شوهت كل شيء فيها. كان ذلك أمرا لا مفر منه، فلم يكن ممكنا لي
أن أتنبأ به. بل إنني أعترف بأن صدورها غير مناسب في وقت غير مناسب (...).
لقد أعلنتُ صراحةً هذه الأسابيع الأخيرة، في المحطات الإذاعية والتلفزية
وفي كل حوار معي، أنني الآن بعيد جدّاً عن " الماضي البسيط ". إنني أتبرأ
من هذا الكتاب! سيدي المدير. أريد أن أقدم لمواطنيّ ذراعا أو رجلا عربون
محبة لهم. (...) فحين تصفني الصحافة الفرنسية بمعاداة الغرب وتصفني صحافة
بلادي بأنني بعت نفسي، فأين يكون موقعي إذن؟ ومن أكون؟ إنها لمفارقة حقا
ألا أكون شيوعيا، ومع ذلك تترجم كتبي في روسيا وفي باقي البلدان
الشيوعية!" (8).
على أثر هذه التوبة المثيرة للشفقة، اضطر صاحب المقالة
إلى إصدار عفوه وغفرانه في حق الشرايبي، لكن من غير ألا يوبخه على خطئه
وتهوره: » إن ما لمتك عليه هو سلبيتك السياسية. أقول لك بموضوعية إنك قدمت
خدمة لأعدائنا، أولئك الذين سعوا ومازالوا يسعون إلى قتل الأمل فينا.
وبموضوعية أيضا أقول لك إنك تماديت في هذا الموقف حين نشرت آراءك في جرائد
معادية لقضيتنا«. (9)
وعشر سنوات بعد فضيحة " الماضي البسيط " هذه،
سيعترف ادريس الشرايبي في حوار أجراه معه عبد اللطيف اللعبي قائلا: » أقر
بأنني كنت في حالة ضعف حين تنكّرت لـ " الماضي البسيط ". لم يكن ممكنا لي
أن أتحمل ادعاء أن أكون متعاونا مع المستعمر. لقد كان عليّ أن أقاوم، أن
أتحلى بشجاعة أكثر (...). لقد قلت بشراسة ووحشية عن ماضينا ما كان ينبغي
قوله. لست نادما على ذلك. لكن، ربما كان عليّ أن أهاجم الآخرين فقط، وأن
أعوي مع الذئاب، أليس كذلك؟ «(10).
<><
لقد كانت
فضيحة حقا هذه الضجة التي أثيرت حول رواية " الماضي البسيط "! كانت فضيحة
بمعنى مزدوج. فتفجير الجريدة للضجة فضيحة! وإقرار المؤلف بالذنب ونفيه
نسبة الرواية إليه فضيحة كذلك!
و الآن، وبعد مرور أكثر من خمسين عاما
عليها، أتساءل: ما الذي وقع بالضبط؟ وكيف وقع؟ ولماذا؟ إن زيارة جديدة لـ
" الماضي البسيط " تكشف أن هذه الضجة مفتعلة تماما، لأنها قائمة على سوء
فهم شنيع متعدد الأبعاد.
فلا يعقل أولا أن يدّعي سياسيّ لنفسه في جريدة
سياسية هي لسان حال حزب سياسي حقّ التدخل في شأن خاص هو من اختصاص النقد
الأدبي. والأكثر من هذا، لا يعقل أن ينصّب نفسه خصماً باسم غيرة وطنية
مفاجئة أو حماس سياسي زائد، وحَكَماً كذلك يوقّع صكّ اللعنة في حق كاتب
ويصدر فتوى التحريم في حق روايته. فالضجة إذن لا تعدو كونها للأسف محاكمة
نوايا مغرضة!
كما لا يعقل ثانيا تحميل هذا الكاتب تبعات نشر روايته في
وقت حدده طرف آخر بسبق تعمد مبيت. فلقد أشرت سابقاً إلى أن الشرايبي أتمّ
كتابة روايته " الماضي البسيط " في 1953. ففي آخر صفحة من روايته ? وهي
الصفحة 260 من الطبعة الأولى - نقرأ أنه بدأ كتابتها في دجنبر 1953
وأنهاها في غشت نفس السنة. لكن دار النشر Denoël أرجأت نشرها إلى 1954
لأغراض دعائية وتجارية لم يفطن إليها المؤلف وقتئذ، كما أخبرني بذلك في
إحدى رسائله إليّ، المؤرخة ب 18 فبراير 1970. لقد ظهرت الرواية في وقت كان
فيه الشعب المغربي كافة منهمكاً في الكفاح من أجل الاستقلال وعودة الملك
الشرعي محمد الخامس من المنفى الذي اضطرته إليه السلطة الفرنسية
الاستعمارية، وفي وقت كان فيه الجميع، وخاصة المثقفين، مدعوّين للدفاع عن
قضية المغرب الوطنية، في الداخل والخارج، لا » لكيل الشتائم له وتبرير
استعماره «. فلو أن نشرها تم مباشرة بعد الفراغ من تأليفها، فمن المحتمل
ألاّ ينتبه إليها أحد، فأحرى أن يثير حولها تلك الضجة العنيفة . ولذلك ،
فلا مسؤولية للشرايبي إذن في " صدورها غير المناسب في وقت غير مناسب " كما
قال بنفسه .
وفوق كل هذا ، فـ " الماضي البسيط " ليس روبور تاجاً
صحفيّا أنجزه كاتب هاو ، بتكليف من جهة استعمارية ما أو محسوبة على
الاستعمار الفرنسي، بغاية تصوير أحوال البؤس والتخلف والتعلق المطلق
بالتقاليد الاجتماعية البالية وبالتعاليم الدينية المتوارثة التي يتخبط
فيها المغرب، تبريرا لاحتلاله . كما أنه ليس بخاصة سيرة ذاتية تؤرخ لطفولة
المؤلف ومراهقته إلى غاية بلوغه سن التاسعة عشرة ولفترة من تاريخ المغرب
المعاصر. إنه، خلافا لهذا وذاك، رواية ! ولأنه رواية، فكل ما فيها هو ثمرة
التخريف والتخييل . بل إن بعض الأحداث فيها ? وخاصة مشهد قتل " السيد "
لأصغر أبنائه ( تسع سنوات ! ) الذي لا يخلو من همجية، ومشهد قيام الأبناء
الواحد تلو الآخر بالبصق في وجه الأب المستبد، الذي لا يخلو من سادية،
وكذا مشهد تحفز البطل السارد، إدريس فردي ، إلى ذبح والده بأمر منه، الذي
لا يخلو من مازوخية ? لا يمكن تصور وقوعه إلا في رواية تقوم على الغلو
والشطط لا في كيفية تدبير موضوعها فحسب، وهو التمرد على سلطة الأب، بل
كذلك في لغة كتابتها المتسمة بالعنف والحنق والتوتر. فعلى رغم إيحاء
المؤلف بوجود تطابق بين ادريس فردي وإدريس الشرايبي، وذلك في قوله في
مقدمة روايته الثالثة " L'?ne" : " لقد سمعت وقرأت أن " الماضي البسيط "
كتاب حقد (...) إن بطله يدعى ارديس فردي . لعله أنا . وفي كل حال، فإن
يأسه هو يأسي. يأس إيمان. فلقد لاحظ، وهو مراهق متحمس تلقى تكوينه في
المدارس الفرنسية ، أن ذلك الإسلام الذي كان يؤمن به، والذي يتحدث (...)
عن التسامح والحرية والمحبة، قد تحول إلى نفاق ومراءاة، إلى نظام اجتماعي
وسلاح دعاية لأفكار مشبوهة . فماذا فعل ؟ نفى نفسه إلى فرنسا شعورا منه
بالحاجة إلى الإيمان بشيء ما وإلى محبة واحترام أحد ما (...) . لقد
اخترتُ. وكم أتمنى ألا يرغمني شيء أو أحد على الاختيار مرة أخرى ، لأنني
إذا كنت قد اخترت أن أعيش في فرنسا ? وربما أن أموت فيها، لكن هذا يتعدى
إرادتي ? فإنني أظل متعلقا بعالم طفولتي وبهذا الإسلام الذي يزداد إيماني
به يوما بعد آخر " وعلى رغم أنهما معاً قدّر عليهما أن يكون أبواهما
متشابهين في الاستبداد والطغيان ? فلا يجوز لأحد، حتى ولو كان حسير النظر
لا يرى أبعد من أنفه ، أن يبرم ميثاقاً أوطوبيوغرافيّا مع الرواية يفضي
إلى اعتبار ادريس فردي هو إدريس الشرايبي ، و والد هذا هو والد ذاك . فلا
شك في أن لواقع الرواية خصوصيته التي تميزه عن واقع الواقع !
أما من
جهة إدريس الشرايبي نفسه ، فلعله في نظري قد اقترف إثما غير هيّن حين أعلن
براءته من روايته . لنتصور أن كل أولئك الأدباء ? الذين افتتحتُ هذا
المقال بالتعرض لمحنتهم مع الرقابة السياسية والأخلاقية والدينية والنقدية
في بلدانهم ? قد تملصوا من أعمالهم : سيكون ذلك مهزلة كبرى ! لماذا لم
يتنكر سلمان رشدي مثلا لروايته " آيات شيطانية " التي فرضت عليه أن يختبئ
طيلة أعوام مثل فأر في جحر ، تحت حراسة الشرطة البريطانية السرية ،وقاية
لنفسه من مرتزق متأسلم يطمع في المكافأة المالية المغرية التي رصدها
الإمام الخميني مقابلا لقتله ؟ لقد كان بإمكانه أن يفعل ذلك ، فتلغى فتوى
قتله. ولكنه لم يفعل ، نظرا للامعقولية ذلك أولا ، وحفاظا على مصداقيته
أديبا ذا مقروئية عالية في العالم ثانيا.
لقد كان بإمكان الشرايبي أن
يكتفي بنشر بيان يوضح فيه للرأي العام المغربي حقيقة الأمور ، وهي أنه لم
يكتب " الماضي البسيط " لتأييد نظام الاستعمار ، بل للكشف عن الدواعي
الذاتية العميقة التي أدت إلى فرض السيطرة الاستعمارية على المغرب، وأنه
لم يهاجم الإسلام، بل فضح استغلاله المغرض من لدن البعض، حفاظاً على مصالح
وامتيازات، وأن تمرده ليس طارئاً عرضياً أو نزوة طيش وتهور، بل موقفاً
عقلانياً أملته الغيرة الصادقة على وطنه، وأنه غير مسؤول لا عن توقيت نشر
الرواية ولا عن تأويلها غير البريء من طرف الصحافة الفرنسية الرجعية.
وفضلا
عن ذلك، فإن بإمكان القارئ أن يخمّن أن الشرايبي كتب هذا النص بكل حواسّه
وجوارحه، كما تدل على ذلك لغته التلقائية وأسلوبه الارتجاجي وتداعياته
النيئة. بالفعل، فهذه الرواية، يقول عبد اللطيف اللعبي، هي » تشريح
اكلينيكي للمغرب (...)، تعبير عضويّ عن قلق (...)، صَرْخَةٌ فيزيقية من
أعماق قارة مدفونة « (11). فهو إذن قطعة لا تنفصل عن ذات المؤلف. لذلك،
فإذا كان من الممكن، في حدود ما، تفهّم موقف الشرايبي، فإن من المتعذر
دعمه أو الدفاع عنه. إن تنكّر الشرايبي لروايته يعتبر في نظري فضيحة أقوى
وأخطر من الفضيحة التي لفقتها جريدة Démocratie، إذ لا مبرر إطلاقاً يجيز
لكاتب ما أن يكف عن الاعتراف بنصه ، خاصة وأن هذا متدفق حارّا حارقا من
صلب أوردته وأمعائه . ويشاطرني هذا الرأيَ أحمد الصفريوي الذي قال : » أظن
أن رواية " الماضي البسيط" قد تم استغلالها ضد مؤلفها (...) . ولذلك ، فمن
الجناية أن نعتقد بأنه " باع نفسه " كما قيل. فلا شيء أسهل، في بعض الظروف
السياسية، من وصف جارك بكونه مبيعا (...). أما الرسالة التي تبرأ فيها من
روايته، فهي مثيرة للشفقة حقا. أنا أعتقد بأن السيد الشرايبي انبطح أكثر
من اللازم. لقد بالغ في إهانة نفسه. أنا لا أفهم كيف سوغ لنفسه التنكر
بجرة قلم لـ " الماضي البسيط ". فلا يمكن للكاتب أن يتبرأ من رواية هي من
إبداعه. إنها جزء منه« (12).
الـــهـــوامـــش
1- PARIS, ED. DENO?L, 1954, 264 P
2- RIVAROL, PARIS, 17 FEVRIER 1955
3- LE BULLETIN DE PARIS, 7 JANVIER, 1955
4- LE FIGARO, PARIS, 6 SEPTEMBRE 1955
5-DEMAIN, PARIS, 29 NOVEMBRE ? 5 DECEMBRE,1956.
6- DÉMOCRATIE, 14 JANVIER 1957.
7- IBIDEM
8- DÉMOCRATIE, 4 FEVRIER 1957
9- DÉMOCRATIE, 23 FEVRIER 1957
10- SOUFFLES, REVUE, RABAT, N? 5, 1967,P.-P.5-6
11- IBIDEM. " DEFENSE DU PASSE SIMPLE ", P.20
12- DÉMOCRATIE, 25 FEVRIER 1957
رشيد بنحدّو |
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
مواضيع مماثلة
» في الحاجة إلى الماضي البسيط الوعي بقضية المرأة في رواية " الماضي البسيط" لإدريس الشرايبي
» حرف " واو" أثار زوبعة في فنجان (الديوان الأخير) للشاعر الكبير محمود درويش /إدريس الملياني
» " الـتَّـبْراعْ " شعر نسائي في الثقافة الحسانية/فاطمة عاشور من العيون
» فوائد زيت الزيتون Les bienfaits de l'huile d'olive
» وفاة الموسيقار المغربي سعيد الشرايبي
» حرف " واو" أثار زوبعة في فنجان (الديوان الأخير) للشاعر الكبير محمود درويش /إدريس الملياني
» " الـتَّـبْراعْ " شعر نسائي في الثقافة الحسانية/فاطمة عاشور من العيون
» فوائد زيت الزيتون Les bienfaits de l'huile d'olive
» وفاة الموسيقار المغربي سعيد الشرايبي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى