التَّأني والتثبُّت في الأمور يجلب الخُيُور ويمنع الشُّرور
صفحة 1 من اصل 1
التَّأني والتثبُّت في الأمور يجلب الخُيُور ويمنع الشُّرور
بسم الله الرحمن الرحيم؛
الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم النبيين المبعوث رحمة للعالمين.
أما بعد،
الثرثرة
والكلام دون تثبت أصبح واقع الناس اليوم في البيت والعمل والمقاهي وجل
أماكن التجمعات، وحتى المساجد التي يعبد فيها الله عز وجل ويذكر فيها اسمه
لم تسلم من اللغط والقيل والقال ونهش لحوم الناس وأكلها نيئة بالقول
الباطل والكلام السافل.
والإنسان قبل أن يتحدث يجب أن يسأل نفسه بما
يحدث الآخرين، هل هناك ما يستدعي الكلام؟ فإن وجد داعيا إليه تكلم، وإلا
فالصمت أولى به، وإعراضه عن الكلام حيث لا ضرورة له عبادة يتقرب بها إلى
الله.
ومن عجيب الكلام أن الأنام في دين الإسلام مؤاخذون بحصائد
اللسان.. ولا أدل على ما نقول من قول الله جل علا: {وَلاَ تقفُ مَا ليسَ
لكَ بهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ والْبَصَرَ والْفُؤادَ كلُّ أولئِكَ كَانَ
عنْهُ مَسْؤُولاً} [سورة الإسراء (آية: 36)].
فلا تطلق أيها الإنسان الكلام على عواهنه بغير علم ولا تقل رأيت ولم تر ولا سمعت وأنت لم تسمع وتشهد الزور وأنت لا تدري.
وهل
يفهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: »أولا يكب الناس على
وجوههم إلا حصائد ألسنتهم«، أن الناس يكبون في جهنم بنظرة شامت أم وشاية
حاقد أم ضحكة خبيث أم نية سيئة دنيئة؟.
لكننا في هذا الزمان الذي كثر
فيه ضجيج اللغو وابتلينا فيه باللمز والهمز تجد بعضهم يقوده لسانه إلى
مصرعه قبل أن يقوده عقله. ومنهج القرآن في التثبت أحكم منهج وأسلم طريق؛
قال المولى عز وجل: {قدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة
البقرة (آية: 118)]. فالله سبحانه وتعالى خص بذلك القوم الذين يوقنون
لأنهم أهل التثبت والتحري لا يأخذون بالأقاويل والشكوك فهم طالبون لمعرفة
حقائق الأمور على يقين وبينة.
ومما أنصحك به أيها المسلم ـ وهو من جملة
التقوى ـ عند تعاملك مع من يتصدرون المجالس وينطلق منهم الكلام متتابعا
مسترسلا لا خطم له ولا أزمة، التثبت فيه والتريث في الحكم، ولا يكون ذلك
إلا بدراسته من جميع جوانبه وتقليبه من كل نواحيه، وبعد التحقق من معناه
ومعرفة فحواه معرفة تامة تعرضه على ميزان الشرع، وهو كتاب الله عز وجل وما
صح من السنة النبوية الشريفة، فما وافق ذلك الميزان المعصوم قبلته وما
خالفه تركته، ويجب عليك يا أخي أن تكون في دراستك للأشياء وعرضك لها على
الميزان المذكور بعيدا كل البعد عن الإفراط والتفريط، متجرداً من ثوبي
التعصب والهوى والانتصار للذات أو الجاه أو المنصب، فمتى سلمت من هذه
الأمور ونظرت فيها بإخلاص وقصد حسن وُفقت للحقيقة وفزت بالصواب وحمدت
العاقبة.
فالعجلة تجر على صاحبها الندم والويلات، وتذهب الأيام
والليالي وآثارها وتبعاتها باقية ، وكم سبب التعصب والهوى من فساد ودمار
وعواقب لا تحمد ـ نسأل الله السلامة من ذلك ـ وقد ورد في الأثر عند الإمام
الترمذي وغيره بسند لا بأس به ((الأناة من الله والعجلة من الشيطان)).
ومن
تتبع واستوعب واقع الناس اليومي يلاحظ تساهلا مفرطا في نقل ما يسمعون من
أحكام وأخبار وأحداث، سواء تعلقت بالعلماء أو المشاهير أو الناجحين أو
عامة الناس، وكلما كثر جهل المتحدث وقل الورع والدين عنده كان أجرأ فلا
يحجزه شيء ولا يبالي أن يتعرض للآخرين بما يكرهون، فإذا وجد مجالا يطلق
فيه طبعه النزق انطلق على وجهه لا ينتهي صياحه ولا تحبس له شرة، ومجتمعنا
قد ابتلي كثيرا بهذا الصنف من الناس، وأنصحك أخي العزيز إن صادفت واحدا من
هؤلاء وابتليت به ـ وما أكثرهم في زماننا ـ فداره واتق شره وكفاك ما قاله
فيه خير الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم: »إن من شر الناس عند الله
تعالى منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره«. فأول الاستقامة أن
ينفض المرء يديه وينزه لسانه فلا يقحمه في ما لا يُسأل عنه لأن: »من حسن
إسلام المرء تركه ما لا يعنيه«. والبعد عن اللغو من أسباب الفوز والفلاح
فقد قال عز من قائل في سورة المؤمنون: »قد أفلح المُؤمِنونَ الذين هُمْ في
صَلاَتِهِم خاشِعونَ والذين هُمْ عن اللغو مُعْرِضون« (سورة المؤمنون آية:
3).
فإذا أردت الفلاح والنجاح فالإعراض عن الأعداء بلطيف الكلام وحسنه
يطفئ خصومتهم وينقص حدتهم أو يخفف شرهم وهذا أخف الضرر، ولذلك بين الله
سبحانه في كتابه العزيز الصفات التي يتحلى بها عباد الرحمان وهي المداراة
التي تعصم الإنسان من سوء العداوة فقال سبحانه: »وَعِبادُ الرَّحمَن
الذِين يِمْشُونَ على الأَرْض هَوْناً وإِذا خَاطبهُمْ الجَاهِلُون قالوا
سَلاما« (سورة الفرقان آية 63).
لقد أخبر الله - جل ثناؤه - عن صفة أهل
اليقين من المؤمنين بأنهم طالبون لحقائق الأشياء على يقين وصحة، وحثهم
سبحانه على التخلق بصفة التثبت وتتبع عدالة الناقل وصدقه وورعه في ما ينقل
من الأخبار فقال في محكم التنزيل: »يا أيُّهَا الذينَ آمَنُوا إنْ جاءكُمْ
فَاسِقٌ بنَبَأٍ فَتَبَيَّنوا أنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَة
فَتُصْبِحوا علَى ما فَعَلْتُمْ نَادِمِين« (سورة الحجرات آية 6)؛ فالناظر
في القراءتين ظاهريا يتبادر إليه الاختلاف، لكنه اختلاف لفظ لا اختلاف
معنى ومقصد، فالتبين هو التعرف والتفحص وبينت الشيء أوضحته وأظهرته
والتثبت هو التبصر بالأمر الواقع والتحري من الخبر الوارد إليك.
والآية
أصل من أصول الشهادة والرواية ومراعاة حال الناقل؛ بل هي قاعدة من قواعد
فقه الإنكار لكي لا ينصاع المستمع وراء كل مشاء بنميم معتد أثيم ولا يميل
كل الميل لتصديق كل ناقل متسرع.
وإننا نسمع عن أناس كثيرين يرتكبون
المعاصي والآثام أو مخالفات شرعية فتجد - المبلغ للكلام - من يوصف
بالالتزام والصلاح في مظهره، وقد يكون في بعض الأحيان ممن يؤم الناس في
الصلاة ويعتلي المنابر فنسارع في تصديق ما يقول واتخاذ موقف من زيد أو
عمرو من دون تثبت وتبين لذا جاءت هذه الآية المثبتة والمبينة للمنهج
القويم والمسلك المرضي تحذيرا وتنبيها قبل اتخاذ الحكم أو الموقف لعلة هي:
»أن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحوا على مَا فَعَلْتُمْ
نَادِمِينَ«.
أي: فتصيبوا الأبرياء عن جهل فتصبحون بعد ظهور الحقيقة
وثبوت براءتهم نادمين على ما نشرتم في حقهم من كلام في المجالس والمحافل
وغيرها من الأماكن فتُنزع بين الناس الثقة وحسن الظن الذي يسري بينهم،
فينزغ الشيطان بينهم وينشر العداوة والبغضاء والأحقاد فيما بينهم ليعيشوا
في حزن وأذى وهذه بغيته - لعنة الله وأعاذنا وإياكم من نفثه ووسوسته-.
الاستخبار قبل الإنكار:
لقد
تناول القرآن من التوجيهات الربانية وبين لنا من الآيات الكونية والعلامات
في الأمم التي مضت لغاية هامة وحكمة بالغة وهي استخراج العبر وعدم الوقوع
فيما وقعوا فيه من عذاب الله وغضبه، وفي قصة الخضر عليه السلام مع نبي
الله موسى عليه السلام وأيضا حادثة سليمان عليه السلام مع الهدهد من
التوجيهات ما يجعل العلماء الربانيين يستنبطون أحكاما في الإنكار والتي
منها ما نحن بصدد تناوله من التثبت والتروي وعدم العجلة. ومادام أن
الأنبياء والرسل هم صفوة الخلق وأفضلهم على الإطلاق فلابد أن تتوفر فيهم
شروط الكمال والعصمة من النقائص والنقائض، ومن بين هذه الصفات صفة التثبت
كصفة أساسية حتى تنتفي عنهم صفة الظلم والطيش لأنها ليست من صفات
الكاملين، وعلى هذا الأساس ربى الله عز وجل أنبياءه ورسله على هذه الصفات
ليكونوا قدوة للخلق يحتذي بهم ورثتهم من الدعاة والعلماء العاملين، فموسى
عليه السلام في قصته مع الخضر الذي اشترط عليه عهدا إن أراد صحبته ليتعلم
منه ما لم يكن يعلمه ألا يسأله عن شيء فعله ولا يتسرع بالإنكار عليه فيما
يقوم به من الأفعال التي يبدو في ظاهرها أنها منكرة حتى يخبره عن حقيقتها
وعلتها والقصة معلومة وقد وردت في سورة الكهف.
والغاية من ذكر القصة أن
موسى عليه السلام استغرب وأصابته الدهشة من تصرفات الخضر، مما حمله على
الإنكار والسؤال مرة بعد مرة وعدم التريث حتى يوضح له المعلم أسباب وحقائق
ما قام به فيحصل على العلم الذي جاء من أجله الأمر الذي جعل (الخضر) يذكره
بعدم التسرع بعد كل إنكار كان يقوم به موسى عليه السلام مذكرا إياه بالشرط
الذي اشترطه عليه بداية، مما أدى إلى الفراق وعدم الاتفاق فحرم موسى عليه
السلام بسبب تسرعه علما كثيرا.
ونتعلم من هذه القصة دروسا وعبرا في
التأني والتثبت قبل الإنكار ولنتبين أن من حاز هذه الصفة فكأنما حاز جزءا
من النبوة وهذا يتأكد - فيما أخرجه الترمذي في سننه والحديث صحيح - بقوله
صلى الله عليه وسلم : (التؤدة والاقتصاد والسمت الحسن جزء من أربعة وعشرين
جزءا من النبوة«، فأين نحن من خلق التثبت..؟ وأين الهمم التي تتنافس من
أجل امتلاك هذه الصفة النبوية..؟
وأما في واقعة النبي سليمان عليه
السلام مع الهدهد فتظهر واضحة جلية إذ يقول عز وجل : (وتفقَّد الطيرَ فقال
ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين) (سورة النمل آية 20) فنبينا
سليمان (الملك الحازم ) تفقد الطير واستفسر عن غياب الهدهد فما اهتدى لذلك
سبيلا لكنه لم يحكم عليه لمجرد غيابه ولم يقض بشأنه حكما نهائيا قبل أن
يسمع منه ويتبين أمره، »أو لياتيني بسلطان مبين..« أي: حجة مقنعة توضح
عذره، ومن هنا تبرز الصفة الواضحة في نبي الله سليمان عليه السلام وهي صفة
(العدل).
فالتثبت والأناة - أيها الأخ الفاضل - صفة جميلة يحبها الله
عز وجل وتكون أجمل إذا جاءت من قادر على العقاب وصاحب الحكم والقرار. لهذا
أعجبني قول الشاعر ابن هانئ:
وكل أناة في المواطن سؤدد (***) ولا كأناة من قدير محكم
ومن يتبين أن للصفح موضعا(***) من السيف يصفح عن كثير ويحلم
وما الرأي إلا بعد طول تثبت (***) ولا الحزم إلا بعد طول تلوم.
فمن الضروري التحري فيما ينقل إليك والأصل براءة ذمة الناس وعدم التساهل
في قبول الكلام ونسبته إليهم حتى تتثبت منه. وأن الكلام لاينبغي نقله إلا
لحاجة أو ضرورة ملحة، لكن الفراغ وضعف التربية مفسدة وأي مفسدة، فقيام
الإنسان بنقل الكلام والقيل والقال تبرعا من غير سؤال ولا مصلحة راجحة
يوقعه في صفات قبيحة منها ما جاء في الصحيحين قول النبي صلى اللّه عليه
وسلم: »لايدخل الجنة قتات«. وفي رواية: »لايدخل الجنة نمام«
كما
أنصحك بالوقوف على ما نقل إليك بنفسك والتحري فيه لكن فيما يهمك وفيه
مصلحتك، أما إذا لم يكن لك فيه حاجة فلا؛ ثم الاعتماد على الرواة الثقات
فيما تعذر عليك الوقوف عليه بنفسك ولا نقصد بالثقة هنا من يدل ظاهره على
أنه من الصالحين بل تعتمد في ذلك على أمور أخرى من فطنة وتعقل وتجربة وتأن
والسلامة من الهوى وفساد المزاج أو غرض شخصي يفهم منه استهداف شخص أو
جماعة بعينها.
ولاتكن ممن يتصف بالغفلة يصدق كل ما قيل فيكون كل من
حدثك بحديث هو الثقة المصدق خاصة إذا كان مظهره يوحي بذلك ومثل من يوصف
بهذه الأوصاف سهل خداعه.
كما أنصحك بعدم التعجل في الحكم على أمر يكون على غير ما هو عليه ولعل أهم ما يجعل الإنسان ينقل كل ما سمع ورأى أمور منها:
الفراغ الذي يعيشه بعض الناس خاصة فئة الشباب منهم وكبار السن فيتناولون الموضوعات دون ضوابط شرعية ودون التأكد من حقائق الأشياء.
قلة التربية وعدم التوجيه السليم من طرف المربين والناصحين مما ساهم في اعتماد الكثيرين على أنفسهم في التربية دون توجيه من أحد.
أجهزة الإعلام التي أشاعت بين الناس أدوات التسرع وآليات عدم التثبت في نشر الحقيقة والخبر الموثوق من مصدره.
فمن
أجاز لنفسه الانسياق وراء الظنون والشكوك وتساهل في النقل والرواية دون
تثبت فليس من أهل الإيمان ولا تحاجج ـ أخي ـ بقولك: إنما أنا ناقل أو هذا
ما حُكي لي فإنك تكون المروج والناشر من حيث تدري أو لاتدري..!.
فما من
شيء أحق من سجن اللسان وإذا غلبت على المرء شهوة إطلاق اللسان فليقل خيرا
أو ليصمت فذلك الخير كله أو على الأقل أن يقول كلاما لا يحاسب عليه في
الآخرة ولا يذم به في الدنيا ورحم اللّه القائل:
مت بداء الصمت خير ++ لك عن داء الكلام
إنما السالم من ألـ ++ جم فاه بلجام.
وصلى اللّه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا.
الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم النبيين المبعوث رحمة للعالمين.
أما بعد،
الثرثرة
والكلام دون تثبت أصبح واقع الناس اليوم في البيت والعمل والمقاهي وجل
أماكن التجمعات، وحتى المساجد التي يعبد فيها الله عز وجل ويذكر فيها اسمه
لم تسلم من اللغط والقيل والقال ونهش لحوم الناس وأكلها نيئة بالقول
الباطل والكلام السافل.
والإنسان قبل أن يتحدث يجب أن يسأل نفسه بما
يحدث الآخرين، هل هناك ما يستدعي الكلام؟ فإن وجد داعيا إليه تكلم، وإلا
فالصمت أولى به، وإعراضه عن الكلام حيث لا ضرورة له عبادة يتقرب بها إلى
الله.
ومن عجيب الكلام أن الأنام في دين الإسلام مؤاخذون بحصائد
اللسان.. ولا أدل على ما نقول من قول الله جل علا: {وَلاَ تقفُ مَا ليسَ
لكَ بهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ والْبَصَرَ والْفُؤادَ كلُّ أولئِكَ كَانَ
عنْهُ مَسْؤُولاً} [سورة الإسراء (آية: 36)].
فلا تطلق أيها الإنسان الكلام على عواهنه بغير علم ولا تقل رأيت ولم تر ولا سمعت وأنت لم تسمع وتشهد الزور وأنت لا تدري.
وهل
يفهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: »أولا يكب الناس على
وجوههم إلا حصائد ألسنتهم«، أن الناس يكبون في جهنم بنظرة شامت أم وشاية
حاقد أم ضحكة خبيث أم نية سيئة دنيئة؟.
لكننا في هذا الزمان الذي كثر
فيه ضجيج اللغو وابتلينا فيه باللمز والهمز تجد بعضهم يقوده لسانه إلى
مصرعه قبل أن يقوده عقله. ومنهج القرآن في التثبت أحكم منهج وأسلم طريق؛
قال المولى عز وجل: {قدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة
البقرة (آية: 118)]. فالله سبحانه وتعالى خص بذلك القوم الذين يوقنون
لأنهم أهل التثبت والتحري لا يأخذون بالأقاويل والشكوك فهم طالبون لمعرفة
حقائق الأمور على يقين وبينة.
ومما أنصحك به أيها المسلم ـ وهو من جملة
التقوى ـ عند تعاملك مع من يتصدرون المجالس وينطلق منهم الكلام متتابعا
مسترسلا لا خطم له ولا أزمة، التثبت فيه والتريث في الحكم، ولا يكون ذلك
إلا بدراسته من جميع جوانبه وتقليبه من كل نواحيه، وبعد التحقق من معناه
ومعرفة فحواه معرفة تامة تعرضه على ميزان الشرع، وهو كتاب الله عز وجل وما
صح من السنة النبوية الشريفة، فما وافق ذلك الميزان المعصوم قبلته وما
خالفه تركته، ويجب عليك يا أخي أن تكون في دراستك للأشياء وعرضك لها على
الميزان المذكور بعيدا كل البعد عن الإفراط والتفريط، متجرداً من ثوبي
التعصب والهوى والانتصار للذات أو الجاه أو المنصب، فمتى سلمت من هذه
الأمور ونظرت فيها بإخلاص وقصد حسن وُفقت للحقيقة وفزت بالصواب وحمدت
العاقبة.
فالعجلة تجر على صاحبها الندم والويلات، وتذهب الأيام
والليالي وآثارها وتبعاتها باقية ، وكم سبب التعصب والهوى من فساد ودمار
وعواقب لا تحمد ـ نسأل الله السلامة من ذلك ـ وقد ورد في الأثر عند الإمام
الترمذي وغيره بسند لا بأس به ((الأناة من الله والعجلة من الشيطان)).
ومن
تتبع واستوعب واقع الناس اليومي يلاحظ تساهلا مفرطا في نقل ما يسمعون من
أحكام وأخبار وأحداث، سواء تعلقت بالعلماء أو المشاهير أو الناجحين أو
عامة الناس، وكلما كثر جهل المتحدث وقل الورع والدين عنده كان أجرأ فلا
يحجزه شيء ولا يبالي أن يتعرض للآخرين بما يكرهون، فإذا وجد مجالا يطلق
فيه طبعه النزق انطلق على وجهه لا ينتهي صياحه ولا تحبس له شرة، ومجتمعنا
قد ابتلي كثيرا بهذا الصنف من الناس، وأنصحك أخي العزيز إن صادفت واحدا من
هؤلاء وابتليت به ـ وما أكثرهم في زماننا ـ فداره واتق شره وكفاك ما قاله
فيه خير الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم: »إن من شر الناس عند الله
تعالى منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره«. فأول الاستقامة أن
ينفض المرء يديه وينزه لسانه فلا يقحمه في ما لا يُسأل عنه لأن: »من حسن
إسلام المرء تركه ما لا يعنيه«. والبعد عن اللغو من أسباب الفوز والفلاح
فقد قال عز من قائل في سورة المؤمنون: »قد أفلح المُؤمِنونَ الذين هُمْ في
صَلاَتِهِم خاشِعونَ والذين هُمْ عن اللغو مُعْرِضون« (سورة المؤمنون آية:
3).
فإذا أردت الفلاح والنجاح فالإعراض عن الأعداء بلطيف الكلام وحسنه
يطفئ خصومتهم وينقص حدتهم أو يخفف شرهم وهذا أخف الضرر، ولذلك بين الله
سبحانه في كتابه العزيز الصفات التي يتحلى بها عباد الرحمان وهي المداراة
التي تعصم الإنسان من سوء العداوة فقال سبحانه: »وَعِبادُ الرَّحمَن
الذِين يِمْشُونَ على الأَرْض هَوْناً وإِذا خَاطبهُمْ الجَاهِلُون قالوا
سَلاما« (سورة الفرقان آية 63).
لقد أخبر الله - جل ثناؤه - عن صفة أهل
اليقين من المؤمنين بأنهم طالبون لحقائق الأشياء على يقين وصحة، وحثهم
سبحانه على التخلق بصفة التثبت وتتبع عدالة الناقل وصدقه وورعه في ما ينقل
من الأخبار فقال في محكم التنزيل: »يا أيُّهَا الذينَ آمَنُوا إنْ جاءكُمْ
فَاسِقٌ بنَبَأٍ فَتَبَيَّنوا أنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَة
فَتُصْبِحوا علَى ما فَعَلْتُمْ نَادِمِين« (سورة الحجرات آية 6)؛ فالناظر
في القراءتين ظاهريا يتبادر إليه الاختلاف، لكنه اختلاف لفظ لا اختلاف
معنى ومقصد، فالتبين هو التعرف والتفحص وبينت الشيء أوضحته وأظهرته
والتثبت هو التبصر بالأمر الواقع والتحري من الخبر الوارد إليك.
والآية
أصل من أصول الشهادة والرواية ومراعاة حال الناقل؛ بل هي قاعدة من قواعد
فقه الإنكار لكي لا ينصاع المستمع وراء كل مشاء بنميم معتد أثيم ولا يميل
كل الميل لتصديق كل ناقل متسرع.
وإننا نسمع عن أناس كثيرين يرتكبون
المعاصي والآثام أو مخالفات شرعية فتجد - المبلغ للكلام - من يوصف
بالالتزام والصلاح في مظهره، وقد يكون في بعض الأحيان ممن يؤم الناس في
الصلاة ويعتلي المنابر فنسارع في تصديق ما يقول واتخاذ موقف من زيد أو
عمرو من دون تثبت وتبين لذا جاءت هذه الآية المثبتة والمبينة للمنهج
القويم والمسلك المرضي تحذيرا وتنبيها قبل اتخاذ الحكم أو الموقف لعلة هي:
»أن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحوا على مَا فَعَلْتُمْ
نَادِمِينَ«.
أي: فتصيبوا الأبرياء عن جهل فتصبحون بعد ظهور الحقيقة
وثبوت براءتهم نادمين على ما نشرتم في حقهم من كلام في المجالس والمحافل
وغيرها من الأماكن فتُنزع بين الناس الثقة وحسن الظن الذي يسري بينهم،
فينزغ الشيطان بينهم وينشر العداوة والبغضاء والأحقاد فيما بينهم ليعيشوا
في حزن وأذى وهذه بغيته - لعنة الله وأعاذنا وإياكم من نفثه ووسوسته-.
الاستخبار قبل الإنكار:
لقد
تناول القرآن من التوجيهات الربانية وبين لنا من الآيات الكونية والعلامات
في الأمم التي مضت لغاية هامة وحكمة بالغة وهي استخراج العبر وعدم الوقوع
فيما وقعوا فيه من عذاب الله وغضبه، وفي قصة الخضر عليه السلام مع نبي
الله موسى عليه السلام وأيضا حادثة سليمان عليه السلام مع الهدهد من
التوجيهات ما يجعل العلماء الربانيين يستنبطون أحكاما في الإنكار والتي
منها ما نحن بصدد تناوله من التثبت والتروي وعدم العجلة. ومادام أن
الأنبياء والرسل هم صفوة الخلق وأفضلهم على الإطلاق فلابد أن تتوفر فيهم
شروط الكمال والعصمة من النقائص والنقائض، ومن بين هذه الصفات صفة التثبت
كصفة أساسية حتى تنتفي عنهم صفة الظلم والطيش لأنها ليست من صفات
الكاملين، وعلى هذا الأساس ربى الله عز وجل أنبياءه ورسله على هذه الصفات
ليكونوا قدوة للخلق يحتذي بهم ورثتهم من الدعاة والعلماء العاملين، فموسى
عليه السلام في قصته مع الخضر الذي اشترط عليه عهدا إن أراد صحبته ليتعلم
منه ما لم يكن يعلمه ألا يسأله عن شيء فعله ولا يتسرع بالإنكار عليه فيما
يقوم به من الأفعال التي يبدو في ظاهرها أنها منكرة حتى يخبره عن حقيقتها
وعلتها والقصة معلومة وقد وردت في سورة الكهف.
والغاية من ذكر القصة أن
موسى عليه السلام استغرب وأصابته الدهشة من تصرفات الخضر، مما حمله على
الإنكار والسؤال مرة بعد مرة وعدم التريث حتى يوضح له المعلم أسباب وحقائق
ما قام به فيحصل على العلم الذي جاء من أجله الأمر الذي جعل (الخضر) يذكره
بعدم التسرع بعد كل إنكار كان يقوم به موسى عليه السلام مذكرا إياه بالشرط
الذي اشترطه عليه بداية، مما أدى إلى الفراق وعدم الاتفاق فحرم موسى عليه
السلام بسبب تسرعه علما كثيرا.
ونتعلم من هذه القصة دروسا وعبرا في
التأني والتثبت قبل الإنكار ولنتبين أن من حاز هذه الصفة فكأنما حاز جزءا
من النبوة وهذا يتأكد - فيما أخرجه الترمذي في سننه والحديث صحيح - بقوله
صلى الله عليه وسلم : (التؤدة والاقتصاد والسمت الحسن جزء من أربعة وعشرين
جزءا من النبوة«، فأين نحن من خلق التثبت..؟ وأين الهمم التي تتنافس من
أجل امتلاك هذه الصفة النبوية..؟
وأما في واقعة النبي سليمان عليه
السلام مع الهدهد فتظهر واضحة جلية إذ يقول عز وجل : (وتفقَّد الطيرَ فقال
ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين) (سورة النمل آية 20) فنبينا
سليمان (الملك الحازم ) تفقد الطير واستفسر عن غياب الهدهد فما اهتدى لذلك
سبيلا لكنه لم يحكم عليه لمجرد غيابه ولم يقض بشأنه حكما نهائيا قبل أن
يسمع منه ويتبين أمره، »أو لياتيني بسلطان مبين..« أي: حجة مقنعة توضح
عذره، ومن هنا تبرز الصفة الواضحة في نبي الله سليمان عليه السلام وهي صفة
(العدل).
فالتثبت والأناة - أيها الأخ الفاضل - صفة جميلة يحبها الله
عز وجل وتكون أجمل إذا جاءت من قادر على العقاب وصاحب الحكم والقرار. لهذا
أعجبني قول الشاعر ابن هانئ:
وكل أناة في المواطن سؤدد (***) ولا كأناة من قدير محكم
ومن يتبين أن للصفح موضعا(***) من السيف يصفح عن كثير ويحلم
وما الرأي إلا بعد طول تثبت (***) ولا الحزم إلا بعد طول تلوم.
فمن الضروري التحري فيما ينقل إليك والأصل براءة ذمة الناس وعدم التساهل
في قبول الكلام ونسبته إليهم حتى تتثبت منه. وأن الكلام لاينبغي نقله إلا
لحاجة أو ضرورة ملحة، لكن الفراغ وضعف التربية مفسدة وأي مفسدة، فقيام
الإنسان بنقل الكلام والقيل والقال تبرعا من غير سؤال ولا مصلحة راجحة
يوقعه في صفات قبيحة منها ما جاء في الصحيحين قول النبي صلى اللّه عليه
وسلم: »لايدخل الجنة قتات«. وفي رواية: »لايدخل الجنة نمام«
كما
أنصحك بالوقوف على ما نقل إليك بنفسك والتحري فيه لكن فيما يهمك وفيه
مصلحتك، أما إذا لم يكن لك فيه حاجة فلا؛ ثم الاعتماد على الرواة الثقات
فيما تعذر عليك الوقوف عليه بنفسك ولا نقصد بالثقة هنا من يدل ظاهره على
أنه من الصالحين بل تعتمد في ذلك على أمور أخرى من فطنة وتعقل وتجربة وتأن
والسلامة من الهوى وفساد المزاج أو غرض شخصي يفهم منه استهداف شخص أو
جماعة بعينها.
ولاتكن ممن يتصف بالغفلة يصدق كل ما قيل فيكون كل من
حدثك بحديث هو الثقة المصدق خاصة إذا كان مظهره يوحي بذلك ومثل من يوصف
بهذه الأوصاف سهل خداعه.
كما أنصحك بعدم التعجل في الحكم على أمر يكون على غير ما هو عليه ولعل أهم ما يجعل الإنسان ينقل كل ما سمع ورأى أمور منها:
الفراغ الذي يعيشه بعض الناس خاصة فئة الشباب منهم وكبار السن فيتناولون الموضوعات دون ضوابط شرعية ودون التأكد من حقائق الأشياء.
قلة التربية وعدم التوجيه السليم من طرف المربين والناصحين مما ساهم في اعتماد الكثيرين على أنفسهم في التربية دون توجيه من أحد.
أجهزة الإعلام التي أشاعت بين الناس أدوات التسرع وآليات عدم التثبت في نشر الحقيقة والخبر الموثوق من مصدره.
فمن
أجاز لنفسه الانسياق وراء الظنون والشكوك وتساهل في النقل والرواية دون
تثبت فليس من أهل الإيمان ولا تحاجج ـ أخي ـ بقولك: إنما أنا ناقل أو هذا
ما حُكي لي فإنك تكون المروج والناشر من حيث تدري أو لاتدري..!.
فما من
شيء أحق من سجن اللسان وإذا غلبت على المرء شهوة إطلاق اللسان فليقل خيرا
أو ليصمت فذلك الخير كله أو على الأقل أن يقول كلاما لا يحاسب عليه في
الآخرة ولا يذم به في الدنيا ورحم اللّه القائل:
مت بداء الصمت خير ++ لك عن داء الكلام
إنما السالم من ألـ ++ جم فاه بلجام.
وصلى اللّه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا.
بقلم: خادم العلم الشرعي زكرياء الريسوني العلمي التطاوني
العلم
25/6/2010-
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى