كيف كان المغرب قبل الإستعمار ب 50 سنة؟!..
صفحة 1 من اصل 1
كيف كان المغرب قبل الإستعمار ب 50 سنة؟!..
نحن على أبواب ذكرى مرور قرن على «صدمة الإستعمار» بالمغرب.. ففي سنة 2012، ستكون قد مرت 100 سنة على دخول المغاربة، دولة، مجتمعا وأفرادا، في لحظة للتحول التاريخي هائلة، لا تزال تبعاتها متلاحقة إلى اليوم ببلادنا.. إن النهوض التاريخي الجديد للمغاربة، كثيرا ما يربط بمرحلة الإستعمار، الذي كان السبب في تسريع وتيرة «نظام المدينة» بيننا كأمة وشعب. بينما الحقيقة أن محاولات النهوض المغربية، كانت لها ذاكرة سابقة على وثيقة 30 مارس 1912، الموقعة بفاس والتي تؤرخ لبداية الإستعمار الفرنسي ثم الإسباني للمغرب. يكفي البحث علميا وتأريخيا، في تفاصيل ما حدث خلال القرن التاسع عشر، منذ احتلال الجزائر سنة 1830 من قبل الفرنسيين، ثم المؤتمرات الدولية التي كان موضوعها « القضية المغربية » (مؤتمر طنجة الدولي لسنتي 1877 و 1878، ثم مؤتمر مدريد لسنة 1880، ثم مؤتمر الجزيرة الخضراء لسنة 1906)، لإدراك أن إرهاصات ومحاولات التحول والإصلاح بالمغرب، أقدم بكثير من تاريخ 30 مارس 1912.
شجرة أنساب ذلك الإصلاح، تؤكد أنه كان هَمَّ نخبة أكثر منه هَمَّ مجتمع، وأن تفاصيل ذلك، ثاوية في التقارير الديبلوماسية الخارجية (الإنجليزية، الألمانية، الإسبانية، الهولندية، الأمريكية وأخيرا الفرنسية)، أكثر منه في أرشيف الذاكرة المغربية. من ضمن ذلك الأرشيف المكتوب، الذي لا نغفل أنه كتب من موقع مصلحة كاتبه ومحرره والدولة التي ينتمي إليها، نطل في هذه السلسلة من الحلقات، على تفاصيل ما دونه الباحث الأركيولوجي الفرنسي الشهير «هنري دولامارتينيير»، في كتابه الشهير عن المغرب، في الفترة بين 1882 و 1902. هو الذي قضى في بلادنا (أساسا في طنجة)، سنوات طويلة امتدت من سنة 1882 إلى سنة 1918، وتحمل مسؤوليات ديبلوماسية رفيعة لباريس في المغرب. فهو لم يكن له فقط فضل اكتشاف موقعي مدينتي «وليلي» و «الليكسوس» الرومانيتين، بل إنه كان من أشد مهندسي التغلغل الفرنسي في المغرب، من خلال تقاريره السرية الدقيقة التي كان يرفعها للخارجية الفرنسية انطلاقا من طنجة.
في هذه الحلقات، سنرافق معه، تفاصيل ما دونه حول عهد المولى الحسن الأول، حول المسيحيين الذين أسلموا بالبلاط السلطاني، حول ذاكرة تحديث الجيش المغربي منذ عهد سيدي محمد بن عبد الله، ثم زيارته إلى مراكش في نهاية القرن 19، حول مغامراته في الأطلس الكبير مرورا إلى تارودانت، ثم زيارته الشهيرة إلى وزان، فاس وتلمسان سنة 1891.
شجرة أنساب ذلك الإصلاح، تؤكد أنه كان هَمَّ نخبة أكثر منه هَمَّ مجتمع، وأن تفاصيل ذلك، ثاوية في التقارير الديبلوماسية الخارجية (الإنجليزية، الألمانية، الإسبانية، الهولندية، الأمريكية وأخيرا الفرنسية)، أكثر منه في أرشيف الذاكرة المغربية. من ضمن ذلك الأرشيف المكتوب، الذي لا نغفل أنه كتب من موقع مصلحة كاتبه ومحرره والدولة التي ينتمي إليها، نطل في هذه السلسلة من الحلقات، على تفاصيل ما دونه الباحث الأركيولوجي الفرنسي الشهير «هنري دولامارتينيير»، في كتابه الشهير عن المغرب، في الفترة بين 1882 و 1902. هو الذي قضى في بلادنا (أساسا في طنجة)، سنوات طويلة امتدت من سنة 1882 إلى سنة 1918، وتحمل مسؤوليات ديبلوماسية رفيعة لباريس في المغرب. فهو لم يكن له فقط فضل اكتشاف موقعي مدينتي «وليلي» و «الليكسوس» الرومانيتين، بل إنه كان من أشد مهندسي التغلغل الفرنسي في المغرب، من خلال تقاريره السرية الدقيقة التي كان يرفعها للخارجية الفرنسية انطلاقا من طنجة.
في هذه الحلقات، سنرافق معه، تفاصيل ما دونه حول عهد المولى الحسن الأول، حول المسيحيين الذين أسلموا بالبلاط السلطاني، حول ذاكرة تحديث الجيش المغربي منذ عهد سيدي محمد بن عبد الله، ثم زيارته إلى مراكش في نهاية القرن 19، حول مغامراته في الأطلس الكبير مرورا إلى تارودانت، ثم زيارته الشهيرة إلى وزان، فاس وتلمسان سنة 1891.
لحسن العسبي
الاتحاد الاشتراكي
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
قصة النفور بين فاس و إسطنبول!!
بين إسطنبول والمغرب ( في اللغة العربية، تعني كلمة المغرب، مكان غروب الشمس. ولقد استعملها المؤرخون والجغرافيون العرب لتحديد البلدان الإسلامية الواقعة غرب مصر، أي إفريقيا الشمالية وإسبانيا. فيما بعد، سيتحم وضح تحديدات أخرى، من قبيل المغرب الأقصى التي تعني المغرب الحالي، ثم المغرب الأوسط التي تعني الجزائر)، لم تكن تمة أبدا حميمية بين هذين البلدين الإسلاميين. فبعد اندحار الإمبراطوريات المغربية الكبرى، لكل من المرابطين والموحدين وحتى المرينيين والسعديين، فإن الإمبراطورية المغربية قد انكفأت على نفسها. العلويون الذين وصلوا إلى الحكم في القرن السابع عشر الميلادي، عززوا من ذلك الإنكفاء.
الحقيقة، أن وثائق التاريخ، تخبرنا أن السلطان المريني يعقوب بن عبد الحق، كان قد أرسل قواته إلى تونس لمواجهة حملة «سان لوي» [هذه الحملة الشهيرة في التاريخ الفرنسي، وقعت على تونس انطلاقا من كاگلياري، ابتداء من يوم 15 يوليوز 1275 ، كما تورد تفاصيلها كتابات المؤرخ الفرنسي جون فوكي. لقد وصل إلى شاطئ تونس الملك الفرنسي سان لوي، أو لويس التاسع، يوم 18 يوليوز. وحاصر ميناءها، ثم احتل قرطاج بسرعة، فيما تمنعت عليه تونس، التي طلب حاكمها النجدة من مماليك مصر، ومن السلطان المريني بالمغرب، فهبا معا لنجدته. وبعد حصار المدينة وشح الماء بالنسبة للأروبيين، سيتفشى بينهم مرض الحمى والطاعون. وكانت نتيجته موت إبن الملك لويس التاسع، جون تريستان يوم 2 غشت، ثم موت الملك الفرنسي نفسه بذات الحمى يوم 25 غشت. ورغم مجهودات الملك الشاب الجديد فلليب الثالث، القليل الخبرة العسكرية والسياسية، فإن الغلبة كانت للمغاربة والتونسيين والمصريين - م - ]. ثم في مابعد خلال القرن السادس عشر، هب الأتراك لحماية المسلمين من الحملات الإسبانية في وهران. لكن، لم يحدث قط أن كان هناك تحالف طويل الأمد بين المخزن المغربي والباب العالي في إسطنبول ( لقد عملت السياسة الإسبانية للملك فيلليب الثاني على منع أن تحالف بين الأتراك وسلاطين المغرب، لأن ذلك سيصعب كثيرا من إمكانية مواصلة إسبانيا احتلالها لعدد من الثغور الإستراتيجية في المغرب). [ الملك فيلليب الثاني، ولد يوم 21 ماي 1527 بمدينة بلاد الوليد الأندلسية العربية، وتوفي يوم 13 شتنبر 1598 بقصر الإسكوريال بمدريد. ولقد حكم إسبانيا منذ سنة 1556 حتى وفاته. ولقد عرف ملكا لإسبانيا والبرتغال، كما عرف بدفاعه الشديد عن المسيحية الكاثوليكية. وفي عهده مورست فظاعات رهيبة ضد المسلمين واليهود.- م -].
في المقابل، ستقود حملات الترك نحو الغرب الإسلامي قواتهم إلى الهجوم مرتين على فاس، فيما كانت الحملات المغربية المضادة تصل حتى تلمسان. إنه علينا الإنتباه، أن صرامة الشرفاء بالمغرب، قد ظلت تمنحهم إحساسا متعاليا أرستقراطيا نوعا ما، كونهم ينحدرون من سلالة النبي، فكانوا يرون أن حاكم إسطنبول بالباب العالي، أقل درجة منهم. ولا يمكننا هنا التغاضي عن ذكر ما وقع مع السلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الله، الذي جاءته سفارة عثمانية سنة 1787، تطلب منه سلفة مالية تقدر ب 20 مليون بسيطة، لمساعدة الباب العالي في حربه ضد الروس. لكن السلطان المغربي بدا مترددا، ولم يبعث سوى نصف المبلغ المطلوب، بعد مدة من الزمن، عبر القنصل العام الفرنسي الذي اختير وسيطا في العملية. لقد كان للجانب النفسي دور في ذلك مرة أخرى. لقد كانت طريقة منح تلك السلفة مثيرة من الجانب الشريفي. بينما الباب العالي، اعتبر السلطان المغربي مجرد حاكم لفاس، وأن السلفة هي نوع من الإعانة المالية [مما يعني ضمنا أن إسطنبول ليست ملزمة بإعادتها إلى المغرب - م - ]. كان ذلك كافيا لإشعال تنافسية رمزية قديمة.
الحقيقة، أن وثائق التاريخ، تخبرنا أن السلطان المريني يعقوب بن عبد الحق، كان قد أرسل قواته إلى تونس لمواجهة حملة «سان لوي» [هذه الحملة الشهيرة في التاريخ الفرنسي، وقعت على تونس انطلاقا من كاگلياري، ابتداء من يوم 15 يوليوز 1275 ، كما تورد تفاصيلها كتابات المؤرخ الفرنسي جون فوكي. لقد وصل إلى شاطئ تونس الملك الفرنسي سان لوي، أو لويس التاسع، يوم 18 يوليوز. وحاصر ميناءها، ثم احتل قرطاج بسرعة، فيما تمنعت عليه تونس، التي طلب حاكمها النجدة من مماليك مصر، ومن السلطان المريني بالمغرب، فهبا معا لنجدته. وبعد حصار المدينة وشح الماء بالنسبة للأروبيين، سيتفشى بينهم مرض الحمى والطاعون. وكانت نتيجته موت إبن الملك لويس التاسع، جون تريستان يوم 2 غشت، ثم موت الملك الفرنسي نفسه بذات الحمى يوم 25 غشت. ورغم مجهودات الملك الشاب الجديد فلليب الثالث، القليل الخبرة العسكرية والسياسية، فإن الغلبة كانت للمغاربة والتونسيين والمصريين - م - ]. ثم في مابعد خلال القرن السادس عشر، هب الأتراك لحماية المسلمين من الحملات الإسبانية في وهران. لكن، لم يحدث قط أن كان هناك تحالف طويل الأمد بين المخزن المغربي والباب العالي في إسطنبول ( لقد عملت السياسة الإسبانية للملك فيلليب الثاني على منع أن تحالف بين الأتراك وسلاطين المغرب، لأن ذلك سيصعب كثيرا من إمكانية مواصلة إسبانيا احتلالها لعدد من الثغور الإستراتيجية في المغرب). [ الملك فيلليب الثاني، ولد يوم 21 ماي 1527 بمدينة بلاد الوليد الأندلسية العربية، وتوفي يوم 13 شتنبر 1598 بقصر الإسكوريال بمدريد. ولقد حكم إسبانيا منذ سنة 1556 حتى وفاته. ولقد عرف ملكا لإسبانيا والبرتغال، كما عرف بدفاعه الشديد عن المسيحية الكاثوليكية. وفي عهده مورست فظاعات رهيبة ضد المسلمين واليهود.- م -].
في المقابل، ستقود حملات الترك نحو الغرب الإسلامي قواتهم إلى الهجوم مرتين على فاس، فيما كانت الحملات المغربية المضادة تصل حتى تلمسان. إنه علينا الإنتباه، أن صرامة الشرفاء بالمغرب، قد ظلت تمنحهم إحساسا متعاليا أرستقراطيا نوعا ما، كونهم ينحدرون من سلالة النبي، فكانوا يرون أن حاكم إسطنبول بالباب العالي، أقل درجة منهم. ولا يمكننا هنا التغاضي عن ذكر ما وقع مع السلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الله، الذي جاءته سفارة عثمانية سنة 1787، تطلب منه سلفة مالية تقدر ب 20 مليون بسيطة، لمساعدة الباب العالي في حربه ضد الروس. لكن السلطان المغربي بدا مترددا، ولم يبعث سوى نصف المبلغ المطلوب، بعد مدة من الزمن، عبر القنصل العام الفرنسي الذي اختير وسيطا في العملية. لقد كان للجانب النفسي دور في ذلك مرة أخرى. لقد كانت طريقة منح تلك السلفة مثيرة من الجانب الشريفي. بينما الباب العالي، اعتبر السلطان المغربي مجرد حاكم لفاس، وأن السلفة هي نوع من الإعانة المالية [مما يعني ضمنا أن إسطنبول ليست ملزمة بإعادتها إلى المغرب - م - ]. كان ذلك كافيا لإشعال تنافسية رمزية قديمة.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
لماذا كانت ألمانيا وسيطا متحمسا بين المغرب وتركيا؟!
من حين لآخر، خلال السنوات التي قضيتها بالمغرب [ هي الفترة الأولى الممتدة بين 1882 و 1902، سنة صدور هذا الكتاب - م - ]، كانت تمة أخبار عن التفكير في إقامة سفارة تركية، أو ممثلية تركية، وكان أثر الديبلوماسية الألمانية ثاويا في ذلك. [ الكاتب والباحث الأنثربولجي الفرنسي دولامارتينيير، له حساسية مثيرة من موقعه كمواطن فرنسي، مع كل ما هو ألماني، في سياق التنافس على النفوذ بين البلدين على المغرب، طيلة القرن 19 وبداية القرن 20 - م - ]. حين اجتماعاتنا كديبلوماسيين أجانب بطنجة، خاصة في اللقاءات التنسيقية العامة، كان ممثل ألمانيا المكلف بالدفاع عن المصالح التركية. بل إنه تم ادعاء سنة 1900، أن ممثل السلطان في طنجة، يتوفر في مقر إقامته، على نسخة من العلم العثماني.
كل هذه التفاصيل، مندرجة في باب مناهضة الوجود المسيحي وضمنها مناهضة الوجود الفرنسي. بينما كان في تطوان حزب عثماني له نفذ قوي. بينما يعتقد جازما، صديقي، العالم الفرنسي إدوارد ميشو - بللير، رئيس البعثة العلمية الفرنسية بطنجة، أن التنافس المغربي العثماني، هذا، قائم منذ زمن بعيد. ففي عهد السعديين، كان تمة نفوذ روحي وسياسي لإسطنبول في الريف، حين كان العثمانيون يحتلون جزيرة باديس، خلال بدايات القرن السادس عشر. سيتعاظم ذلك النفوذ، طبيعيا، بمهاجرين جزائريين، حين بدأنا إنزالنا في الشواذ الجزائرية [ يقصد الكاتب هنا احتلال باريس للجزائر ابتداء من سنة 1830 - م - ]. لقد عاد بعض من أفراد عائلة عبد القادر [ الأمير الجزائري المقاوم والبطل - م - ]، بعد حصولهم على الجنسية التركية إلي المغرب، بعد فترة قضوها بآسيا الصغرى، مثل الحاج علي بوطالب، دليل ومرشد الرحالة والعميل الألماني هانز. وأيضا عبدالمالك، الذي لا يزال إلى اليوم مقيما بالشمال المغربي، والذي يحارب قواتنا.
في النصف الثاني من حكمه، كان السلطان المولى الحسن الأول، قد جهز بشكل سري بعثة ديبلوماسية كلف بها رجل ثقة لديه هو الثري التطواني الحاج العربي بريشة. لقد بعثه ظاهريا، لشراء إماء بيض من تركيا، وأن يكن جميلات. وقد طال المقام بالحاج بريشة في مدينة إسطنبول، هو الذي معروفة عنه ميولاته التركية، بالشكل الذي يسمح لنا باستنتاج أن الأمر يتعلق بمهمة سياسية. مثلما تم تكليف شقيق الحاج بريشة بمهمة سفارة إلى برلين، مما سيعزز من تلك العلاقات، رغم التاريخ الطويل للجفاء.
قبل وفاة السلطان مولاي الحسن [ هذا السلطان المغربي، يعتبر واحدا من أهم السلاطين العلويين الذين حاربوا سياسيا بذكاء كبير، على واجهات عدة في المغرب. فقد حاول القيام بعدد من الإصلاحات الإستراتيجية الكبرى للدولة المغربية، بشكل غير مسبوق في كل العالم العربي الإسلامي. لكنه ووجه بضعف النخبة المحيطة به، التي كان مفروضا منها أن تكن رافعة لطموحه السياسي الكبير، بل الطموح التاريخي لرجل الدولة الذي ميزه، كما كتب عنه شارل أندري جوليان في كتابه الشهير عن المغرب « المغرب في مواجهة الإمبرياليات». لقد حاول، أحب أبناء السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان، المولى الحسن الأل، أن يعيد تنظيم الجيش والمالية والديبلوماسية المغربية، مثلما بعث ثماني بعثات علمية طلابية مغربية إلى الخارج في الفترة ما بين 1874 و 1888، إلى عدد من الدول الأروبية وإلى مصر وفلسطين. وكان عدد أولئك الطلاب في المجموع يصل إلى 350 طالبا، لكن المحيط الثقافي والسلوكي العام، الغارق في التخلف والدروشة والإتكالية والخرافة، باسم الدين، سيحارب ذلك المشروع وأولئك الطلاب، مما أضاع على المغاربة فرصة تاريخية لامتلاك ناصية التقدم والتنمية والحداثة منذ ذلك الزمن البعيد - م - ].. قبل وفاة السلطان مولاي الحسن، كنا نسمع المغاربة لا يتردودن في القول، بسبب من مناهضتهم للتواجد الأروبي، أنهم إذا ما فشلوا في مواجهة النفوذ المسيحي الغربي، ببلادهم، فإنهم لن يترددوا في طلب العون العثماني. ولقد استغلت السفارة الألمانية بطنجة ذلك بذكاء، من خلال اقتراحها خدماتها كوسيط مع الباب العالي [بإسطنبول]. وإذا كانت سياسة العثمانيين تقوم على مبدأ ضرب البعض بالبعض، وتعميق التنافس والتنازع بين مصالح الداخل في كل بلد تخافه إسطنبول في العالم الإسلامي وتخشاه، فإن الألمان قد عرفوا كيف يلعبون على تلك الورقة بذكاء في الجانبين معا، سواء عند العثمانيين أو في ضفة المخزن المغربي.
كل هذه التفاصيل، مندرجة في باب مناهضة الوجود المسيحي وضمنها مناهضة الوجود الفرنسي. بينما كان في تطوان حزب عثماني له نفذ قوي. بينما يعتقد جازما، صديقي، العالم الفرنسي إدوارد ميشو - بللير، رئيس البعثة العلمية الفرنسية بطنجة، أن التنافس المغربي العثماني، هذا، قائم منذ زمن بعيد. ففي عهد السعديين، كان تمة نفوذ روحي وسياسي لإسطنبول في الريف، حين كان العثمانيون يحتلون جزيرة باديس، خلال بدايات القرن السادس عشر. سيتعاظم ذلك النفوذ، طبيعيا، بمهاجرين جزائريين، حين بدأنا إنزالنا في الشواذ الجزائرية [ يقصد الكاتب هنا احتلال باريس للجزائر ابتداء من سنة 1830 - م - ]. لقد عاد بعض من أفراد عائلة عبد القادر [ الأمير الجزائري المقاوم والبطل - م - ]، بعد حصولهم على الجنسية التركية إلي المغرب، بعد فترة قضوها بآسيا الصغرى، مثل الحاج علي بوطالب، دليل ومرشد الرحالة والعميل الألماني هانز. وأيضا عبدالمالك، الذي لا يزال إلى اليوم مقيما بالشمال المغربي، والذي يحارب قواتنا.
في النصف الثاني من حكمه، كان السلطان المولى الحسن الأول، قد جهز بشكل سري بعثة ديبلوماسية كلف بها رجل ثقة لديه هو الثري التطواني الحاج العربي بريشة. لقد بعثه ظاهريا، لشراء إماء بيض من تركيا، وأن يكن جميلات. وقد طال المقام بالحاج بريشة في مدينة إسطنبول، هو الذي معروفة عنه ميولاته التركية، بالشكل الذي يسمح لنا باستنتاج أن الأمر يتعلق بمهمة سياسية. مثلما تم تكليف شقيق الحاج بريشة بمهمة سفارة إلى برلين، مما سيعزز من تلك العلاقات، رغم التاريخ الطويل للجفاء.
قبل وفاة السلطان مولاي الحسن [ هذا السلطان المغربي، يعتبر واحدا من أهم السلاطين العلويين الذين حاربوا سياسيا بذكاء كبير، على واجهات عدة في المغرب. فقد حاول القيام بعدد من الإصلاحات الإستراتيجية الكبرى للدولة المغربية، بشكل غير مسبوق في كل العالم العربي الإسلامي. لكنه ووجه بضعف النخبة المحيطة به، التي كان مفروضا منها أن تكن رافعة لطموحه السياسي الكبير، بل الطموح التاريخي لرجل الدولة الذي ميزه، كما كتب عنه شارل أندري جوليان في كتابه الشهير عن المغرب « المغرب في مواجهة الإمبرياليات». لقد حاول، أحب أبناء السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان، المولى الحسن الأل، أن يعيد تنظيم الجيش والمالية والديبلوماسية المغربية، مثلما بعث ثماني بعثات علمية طلابية مغربية إلى الخارج في الفترة ما بين 1874 و 1888، إلى عدد من الدول الأروبية وإلى مصر وفلسطين. وكان عدد أولئك الطلاب في المجموع يصل إلى 350 طالبا، لكن المحيط الثقافي والسلوكي العام، الغارق في التخلف والدروشة والإتكالية والخرافة، باسم الدين، سيحارب ذلك المشروع وأولئك الطلاب، مما أضاع على المغاربة فرصة تاريخية لامتلاك ناصية التقدم والتنمية والحداثة منذ ذلك الزمن البعيد - م - ].. قبل وفاة السلطان مولاي الحسن، كنا نسمع المغاربة لا يتردودن في القول، بسبب من مناهضتهم للتواجد الأروبي، أنهم إذا ما فشلوا في مواجهة النفوذ المسيحي الغربي، ببلادهم، فإنهم لن يترددوا في طلب العون العثماني. ولقد استغلت السفارة الألمانية بطنجة ذلك بذكاء، من خلال اقتراحها خدماتها كوسيط مع الباب العالي [بإسطنبول]. وإذا كانت سياسة العثمانيين تقوم على مبدأ ضرب البعض بالبعض، وتعميق التنافس والتنازع بين مصالح الداخل في كل بلد تخافه إسطنبول في العالم الإسلامي وتخشاه، فإن الألمان قد عرفوا كيف يلعبون على تلك الورقة بذكاء في الجانبين معا، سواء عند العثمانيين أو في ضفة المخزن المغربي.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
دار المخزن من الداخل سنة 1884.. واللقاء مع الصدر الأعظم الجامعي
تواجد السلطان في مدينة ما، يغير من وجه تلك المدينة. يحمل معه، البلاط السلطاني، في ركابه حيوية لافتة تصيب الجميع بأثرها، سواء الوزراء، أو الحاشية أو باقي الشخصيات التي تأتي على بغالها المزركشة متبوعة بالخدم الذين يهرولون وراءها، أو باقي قياد القبائل والولاة، محاطين بفرسانهم، ثم باقي أمة المخزن من خدم وعبيد.. كل هذا الجيش من الأتباع، يملأ الشوارع والحارات والأزقة، بجلبتهم التي تثير حركة كبيرة. مثلما تكون الجلبة كبيرة أثناء الأعياد الثلاث الكبرى: عيد المولد النبوي، عاشوراء [ الذي ربطه بأول صفر الخير أي دخول السنة الهجرية الجديدة. وهذا خطأ من الكاتب. لأن عاشوراء احتفال مغربي شيعي قديم، استمر المغاربة السنة المالكيون في الإحتفال به، تيمنا منهم بآل البيت الذين يمجدونهم من خلال تمجيد سلالة الرسول الكريم - م - ]، ثم عيد الأضحى، العيد الإحتفائي بإنقاذ إسماعيل من النحر. إن البعثات التي تحل بالمدينة حاملة معها الخراج والضرائب، تحدث جلبة هائلة، بحيث يكتري الزوار الغرف والبيوت، وتقل المواد الغدائية من الأسواق.
في فاس، المدينة الإمبراطورية المكتضة والمحافظة، لا تستشعر التغيير كثيرا، بينما في مكناس، فإننا نعايش إعادة إحياء كاملة لقصر مولاي اسماعيل القديم، الذي هو «قصر فيرساي المغاربة»، ونفس الأمر ينسحب على مراكش، عاصمة الجنوب، ذات المساحات الشاسعة المحاطة بأطلال ممتدة. [يقصد الكاتب ب «فيرساي المغرب» التشبه بقصر فيرساي الفرنسي بباريس، الذي بني في عهد الملك الفرنسي المثير للجدل، صاحب المقولة الشهيرة « الدولة أنا»، لويس 14. وهو القصر الذي سكنه أيضا الملكان لويس 15 و لويس 16. علما آن هذا القصر الفرنسي الشهير قد بني في نفس فترة حكم السلطان العلوي مولاي اسماعيل، الذي جعل من مكناس عاصمة ملكه. بالتالي فإن جمالية قصر مكناس بالنسبة للكاتب، توازي مغربيا، جمالية قصر فيرساي الباريسي. مع الإشارة أن السلطان مولاي اسماعيل كان قد سعى إلى المصاهرة مع الملك الفرنسي لويس 14 ، حين طلب الزواج من ابنته. - م - ].
بعد صلاة العصر، فإن الزقاقين المفضيين إلى «دار المخزن» بمراكش، كانا مزدحمين. زقاق «باب أگناو» الذي يخترق حي القصبة، والآخر الآتي من «بريمة» الذي يفضي مباشرة إلى ساحة المشور الواسعة. [لا يزال القصر الملكي بمراكش هو هو إلى اليوم، في نفس المنطقة بين حي القصبة وحي بريمة - م - ]. عند تلك الساحة تتوقف الجياد والبغال وكل مركوب، تماما مثل السيارات التي نشاهدها أمام الإقامات الهامة بالعواصم الأروبية. تتشكل فجأة فرق بألوان مزركشة، ثم تصطف البغال بسروجها المزينة بالأحمر القاني، فيما الجياد المطهمة تزين بألوان مفتوحة متعددة، وبعضها موشى في الأطراف بالذهب. كل ذلك الزخم من الألوان، ما كانت لتخطئه عين رسام مفعم بسحر الشرق. في ما بين ذلك الصف الطويل من المراكيب، يتختل العبيد والخدم، وعدد هائل من الأمازيغ الشلوح، النازلين من أعالي جبال الأطلس الكبير، الحاملين هداياهم التي يسعون لتقديمها لسادتهم في مراكش. وفي ما بين هذه الجموع تتوالى الأخبار الجديدة من هنا وهناك.
للولوج إلى القصر السلطاني [على عهد السلطان المولى الحسن الأول، سنة 1884، وهي السنة التي زار فيها دولامارتينيير مراكش لأول مرة. وهي الفترة التي يحكي عنها هنا. - م - ]، نتجاوز مشيا على الأقدام بابا أولى تأخدنا إلى ساحة جديدة، قبل الولوج إلى ساحة أخرى بها «البنيقات»، أو ما يشبه مكاتب مسؤولي الدولة الكبار. يجلس هؤلاء، في غرف صغيرة مفتوحة تماما على الساحة، وهم يجلسون القرفصاء على أرائك صغيرة موضوعة على بلاط الأرضية مباشرة، وجوارهم مساعدوهم أو ما يشبه سكرتيريهم، الجالسون جوار صناديق تحتوي على أرشيفهم من الوثائق والمراسلات. وتمة جلبة حول تلك المكاتب. من بينها «بنيقة» الصدر الأعظم، التي تجاورها «بنيقة» سكرتيره، الذي يطلق عليه أحيانا «وزير الشكايات» الذي يجمع وينظم كل التشكيات الواردة على القصر.
في سنة 1884، كان الصدر الأعظم (الوزير الأول) هو العربي بن المختار الجامعي، وقد عوض ادريس بن دريس، الذي كان يحظى بثقة السلطانين سيدي محمد [بن عبد الرحمان] ومولاي الحسن [الأول]. كان إدريس هذا شاعرا، ولقد بعث سنة 1868 في سفارة إلى باريس. لقد ترك حينها الإنطباع أنه قادم من عوالم ألف ليلة وليلة. كان يُشَبِّهُ، في خطبه، الإمبراطور نابليون الثالث بالشمس، والإمبراطورة بالقمر، وولي عهدهما بالشبل. لقد أبهر بالإمبراطورة وأخد بها، حيث أضاف يقول: « حين تتكلم فإن الجميع يصغي بإعجاب. وحين تصمت، فإن كل واحد يسرح بخياله في خيالات دافئة». كان والد إدريس هذا، هو الصدر الأعظم للمولى عبد الرحمان، عدونا الكبير، سنة 1845. [يقصد الكاتب هنا، السلطان العلوي المولى عبد الرحمان، وقد دام حكمه بين 1822 و 1859 الذي حارب التواجد الفرنسي بالجزائر، من خلال معركة إيسلي الشهيرة سنة 1844، التي قادها ابنه سيدي محمد بن عبد الرحمان، وانتهت بهزيمة الجيش المغربي بسبب عدم تكافؤ الإمكانيات وتقنيات المعركة. مثلما أنه في عهده، ستهاجر قبائل وجماعات جزائرية عدة هربا من بطش الفرنسيين واستقروا بمدن وجدة، فاس وتطوان بالمغرب. مثلما أن علاقة هذا السلطان العلوي، بالأمير عبد القادر الجزائري، كانت قوية، ما جعل هذا المقاوم البطل، يبايع رسميا السلطان العلوي، سلطانا على تلمسان والغرب الجزائري. ووثيقة البيعة لا تزال موجودة. - م- ].
العربي بن المختار [الجامعي]، الذي كان رجلا بدينا، فقد فاوضته سنة 1884، بمكناس حول تفاصيل واحدة من سفرياتي بالمغرب. فقد كان صعبا أن أقوم برحلة إلى ما بعد مدينة صفرو، بمنطقة آيت يوسي، على طريق تافيلالت. لقد كان يستقبلني دوما في براح إقامته، حيث كان يحب الجلوس بجتثه الضخمة، متهاويا على أريكة كبيرة. كان يجلس القرفصاء، محبا أن يلاعب أصابع رجليه بيديه الضخمتين، وهو ينصت لمخاطبيه، أو وهو يوجه إليهم بعضا من كلماته. كان رجلا منفتحا، بشوشا، ومعروف عنه ميوله للتاج البريطاني الذي كان يمنحه حماية خاصة. لقد تزوج السلطان إحدى شقيقاته، مما سمح له باكتساب ثروة طائلة، تفوق بكثير ما يستحقه الرجل. لقد ابتدأ وزيرا للحربية، دون أن يكون ملما بشؤون الحرب، بل إنه كان يكتفي بالتجوال على بغلته أمام صفوف الجند، ثم فجأة وبدون مقدمات، عين في منصب الصدر الأعظم.
في فاس، المدينة الإمبراطورية المكتضة والمحافظة، لا تستشعر التغيير كثيرا، بينما في مكناس، فإننا نعايش إعادة إحياء كاملة لقصر مولاي اسماعيل القديم، الذي هو «قصر فيرساي المغاربة»، ونفس الأمر ينسحب على مراكش، عاصمة الجنوب، ذات المساحات الشاسعة المحاطة بأطلال ممتدة. [يقصد الكاتب ب «فيرساي المغرب» التشبه بقصر فيرساي الفرنسي بباريس، الذي بني في عهد الملك الفرنسي المثير للجدل، صاحب المقولة الشهيرة « الدولة أنا»، لويس 14. وهو القصر الذي سكنه أيضا الملكان لويس 15 و لويس 16. علما آن هذا القصر الفرنسي الشهير قد بني في نفس فترة حكم السلطان العلوي مولاي اسماعيل، الذي جعل من مكناس عاصمة ملكه. بالتالي فإن جمالية قصر مكناس بالنسبة للكاتب، توازي مغربيا، جمالية قصر فيرساي الباريسي. مع الإشارة أن السلطان مولاي اسماعيل كان قد سعى إلى المصاهرة مع الملك الفرنسي لويس 14 ، حين طلب الزواج من ابنته. - م - ].
بعد صلاة العصر، فإن الزقاقين المفضيين إلى «دار المخزن» بمراكش، كانا مزدحمين. زقاق «باب أگناو» الذي يخترق حي القصبة، والآخر الآتي من «بريمة» الذي يفضي مباشرة إلى ساحة المشور الواسعة. [لا يزال القصر الملكي بمراكش هو هو إلى اليوم، في نفس المنطقة بين حي القصبة وحي بريمة - م - ]. عند تلك الساحة تتوقف الجياد والبغال وكل مركوب، تماما مثل السيارات التي نشاهدها أمام الإقامات الهامة بالعواصم الأروبية. تتشكل فجأة فرق بألوان مزركشة، ثم تصطف البغال بسروجها المزينة بالأحمر القاني، فيما الجياد المطهمة تزين بألوان مفتوحة متعددة، وبعضها موشى في الأطراف بالذهب. كل ذلك الزخم من الألوان، ما كانت لتخطئه عين رسام مفعم بسحر الشرق. في ما بين ذلك الصف الطويل من المراكيب، يتختل العبيد والخدم، وعدد هائل من الأمازيغ الشلوح، النازلين من أعالي جبال الأطلس الكبير، الحاملين هداياهم التي يسعون لتقديمها لسادتهم في مراكش. وفي ما بين هذه الجموع تتوالى الأخبار الجديدة من هنا وهناك.
للولوج إلى القصر السلطاني [على عهد السلطان المولى الحسن الأول، سنة 1884، وهي السنة التي زار فيها دولامارتينيير مراكش لأول مرة. وهي الفترة التي يحكي عنها هنا. - م - ]، نتجاوز مشيا على الأقدام بابا أولى تأخدنا إلى ساحة جديدة، قبل الولوج إلى ساحة أخرى بها «البنيقات»، أو ما يشبه مكاتب مسؤولي الدولة الكبار. يجلس هؤلاء، في غرف صغيرة مفتوحة تماما على الساحة، وهم يجلسون القرفصاء على أرائك صغيرة موضوعة على بلاط الأرضية مباشرة، وجوارهم مساعدوهم أو ما يشبه سكرتيريهم، الجالسون جوار صناديق تحتوي على أرشيفهم من الوثائق والمراسلات. وتمة جلبة حول تلك المكاتب. من بينها «بنيقة» الصدر الأعظم، التي تجاورها «بنيقة» سكرتيره، الذي يطلق عليه أحيانا «وزير الشكايات» الذي يجمع وينظم كل التشكيات الواردة على القصر.
في سنة 1884، كان الصدر الأعظم (الوزير الأول) هو العربي بن المختار الجامعي، وقد عوض ادريس بن دريس، الذي كان يحظى بثقة السلطانين سيدي محمد [بن عبد الرحمان] ومولاي الحسن [الأول]. كان إدريس هذا شاعرا، ولقد بعث سنة 1868 في سفارة إلى باريس. لقد ترك حينها الإنطباع أنه قادم من عوالم ألف ليلة وليلة. كان يُشَبِّهُ، في خطبه، الإمبراطور نابليون الثالث بالشمس، والإمبراطورة بالقمر، وولي عهدهما بالشبل. لقد أبهر بالإمبراطورة وأخد بها، حيث أضاف يقول: « حين تتكلم فإن الجميع يصغي بإعجاب. وحين تصمت، فإن كل واحد يسرح بخياله في خيالات دافئة». كان والد إدريس هذا، هو الصدر الأعظم للمولى عبد الرحمان، عدونا الكبير، سنة 1845. [يقصد الكاتب هنا، السلطان العلوي المولى عبد الرحمان، وقد دام حكمه بين 1822 و 1859 الذي حارب التواجد الفرنسي بالجزائر، من خلال معركة إيسلي الشهيرة سنة 1844، التي قادها ابنه سيدي محمد بن عبد الرحمان، وانتهت بهزيمة الجيش المغربي بسبب عدم تكافؤ الإمكانيات وتقنيات المعركة. مثلما أنه في عهده، ستهاجر قبائل وجماعات جزائرية عدة هربا من بطش الفرنسيين واستقروا بمدن وجدة، فاس وتطوان بالمغرب. مثلما أن علاقة هذا السلطان العلوي، بالأمير عبد القادر الجزائري، كانت قوية، ما جعل هذا المقاوم البطل، يبايع رسميا السلطان العلوي، سلطانا على تلمسان والغرب الجزائري. ووثيقة البيعة لا تزال موجودة. - م- ].
العربي بن المختار [الجامعي]، الذي كان رجلا بدينا، فقد فاوضته سنة 1884، بمكناس حول تفاصيل واحدة من سفرياتي بالمغرب. فقد كان صعبا أن أقوم برحلة إلى ما بعد مدينة صفرو، بمنطقة آيت يوسي، على طريق تافيلالت. لقد كان يستقبلني دوما في براح إقامته، حيث كان يحب الجلوس بجتثه الضخمة، متهاويا على أريكة كبيرة. كان يجلس القرفصاء، محبا أن يلاعب أصابع رجليه بيديه الضخمتين، وهو ينصت لمخاطبيه، أو وهو يوجه إليهم بعضا من كلماته. كان رجلا منفتحا، بشوشا، ومعروف عنه ميوله للتاج البريطاني الذي كان يمنحه حماية خاصة. لقد تزوج السلطان إحدى شقيقاته، مما سمح له باكتساب ثروة طائلة، تفوق بكثير ما يستحقه الرجل. لقد ابتدأ وزيرا للحربية، دون أن يكون ملما بشؤون الحرب، بل إنه كان يكتفي بالتجوال على بغلته أمام صفوف الجند، ثم فجأة وبدون مقدمات، عين في منصب الصدر الأعظم.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
قصة «وزير البحر» الذكي، فضول غرنيط.. «مول الذهب» الفطن، محمد التازي، و«مول المشور» المتدين، دريس بن عالم!!
كان سي فضول غرنيط مختلفا [عن الصدر الأعظم الجامعي]. كان وزيرا للخارجية، وكان رجلا من القلائل الذين تحب لقاءهم، كونه شفيفا، صاحب شخصية مؤثرة. كان المغرب القديم يختار تسميته ب «وزير البحر»، بسبب أن العلاقات الخارجية من قبل، كانت تتحدد في التفاوض بغاية تدبير أمور التجارة والقرصنة، لشراء العبيد أو تحرير الأسرى، والذي كان يشكل حجر الزاوية في العلاقات الدولية للإمبراطورية الشريفية حينذاك.
سي فضول، من أصول أندلسية، له عينان تلمعان بوجهه المغربي الآسر، بلحيته المشذبة بعناية، التي غزاها الشيب حين التقيته، ويترك لديك انطباعا أنه وزير من زمن وزراء الخلافة العباسية ببغداد. بينما تحيلنا ملابسه الناصعة البياض، المرتبة بعناية، على قصر الحمراء بغرناطة، في ركاب الأمير أبي عبد الله [هو آخر ملوك الأندلس العرب المسلمين، الذي سقطت غرناطة في عهده في يد الإسبان سنة 1492، فبكى ملكه الضائع بعد أن سمح له بالمغادرة إلى المغرب، واستقر بفاس. ولقد اشتهر في التاريخ، ليس فقط بكونه آخر ملوك الأندلس، بل بمقولة أمه التي قالت له: «إبك كالنساء، ملكا أضعته، لم تعرف كيف تدافع عنه كالرجال»..- م - ]. الإسم الحقيقي للسي فضول هو « لمفضل غريط»، الذي تعود الجميع هنا تحريفه في المراسلات الديبلوماسية. لقد أكد لي أن عائلته جاءت من بلدة «غريط» المجاورة لمدينة طليطلة الأندلسية، وأن تلك البلدة اندثرت الآن ودرست وبادت. أن أجداده الذين استقروا بالمغرب، قد ظلوا يخدمون سلاطين البلاد في بلاطاتهم. كان والده سكرتيرا للسلطان مولاي عبد الرحمان، الذي عايشه هو نفسه زمن معركة إسلي، وكان سكرتيرا لمولاي الحسن، قبل أن يتقلد الملك، حين كان لا يزال مسؤولا عن حكم مراكش، نائبا عن والده السلطان.
ذاكرة الرجل قوية وغنية. وكان يمتلك حسا ديبلوماسيا رفيعا، يجعله يتواصل بسلاسة مع كل البعثات الديبلوماسية والسفارات الأجنبية بالمغرب. وكانت له رحابة صدر مثيرة، وهو ينصت بروية وصبر لحماسة البعثات الأجنبية الحديثة العهد بالمغرب، التي تكون متسرعة في الدفاع عن إيجاد حل لمشكلة ديبلوماسية ما. لكن فقر حججه التفاوضية التي تضعف عادة مهمته، إنما يخفيها بحيويته اللافتة. لقد كان الرجل من المؤثرين في سياسة السلطان مولاي الحسن الأول، ونستطيع الإدعاء أن أهم توجهات سياسة هذا السلطان الخارجية، كان وراءها سي فضول. وفي عهد السلطان المولى عبد العزيز، سيعهد إليه بمنصب الوزير الأول [الصدر الأعظم]، لكنه للأسف كان الوقت متأخرا لتصحيح اختلالات العهد السلطاني الجديد.
كان للسي فضول العديد من المساعدين، ضمنهم محمد الكباص، الذي سيكلف بعد ذلك بمهام ديبلوماسية سامية في باريس والجزائر، وقد أدى مهمته بنجاح. عائلة الكباص، التي تنحدر من جبل زرهون، هي عائلة فقيرة، فقد كان والده يعمل في الجبص [عائلة الكباص التي اكتسبت لقبها من مهنة الجد، ستصبح واحدة من أهم العائلات التي ارتبطت بدار المخزن في المغرب، منذ عهد السلطان مولاى الحسن الأول. ومحمد الكباص الذي يتحدث عنه الكاتب هنا، سيرتقي في سلم المسؤولية بالدولة المغربية، باجتهاد شخصي منه وذكاء واضح، عند نهاية القرن 19 وبداية القرن 20، ليصل إلى منصب وزاري رفيع. ومحمد الكباص، هذا، هو جد كل من الدكتور عبد الكريم الخطيب والجنرال حسني بنسليمان من جهة أمه وكذا الأستاذ إسماعيل العلوي، الأمين العام السابق لحزب التقدم والإشتراكية. - م - ]. كان هناك أيضا، مساعد آخر للسي فضول غرنيط، هو بنسليمان، المنحدر من فاس، وربما أن أصوله أندلسية، ومعروف عنه، أن والده قد فصل رأسه عن جسده بأمر من السلطان مولاي عبد الرحمان، بسبب تورطه في مؤامرة سياسية. ثم، هناك مولاي الطاهر، أحد الشرفاء البلغيثيين العلويين من فاس، وقد كان ذا ذكاء باهر، ومتحمس جدا لمشروعنا الحضاري، لكنه توفي فجأة. ثم هناك أخيرا، سي الكردودي، الذي كان رجل خبرة، ومعروف عنه جديته العالية، بل صرامته في العمل، وبدون أدنى تهاون. وهو ينحدر من بلاد كرديدة بسهل الغرب.
حين تعاظمت مطالب الممثليات الأجنبية بالمغرب مؤخرا [نحن هنا في سنة 1884 - م - ]، أحدث السلطان منصب مفتش عام، مهمته المراقبة، وكلف بها السيد بن بوزيد. كان هذا الأخير يتوجه إلى القبائل، ويلتقي بممثلي السلطان، ويجتهد في البحث - وسط بحر من التشابكات - عن حقيقة ما يصل من تقارير وأموال إلى المركز.
غير بعيد من «بنيقة» سي فضول، نجد مكتب السيد محمد التازي، إبن مدينة الرباط، والذي هو من أصول يهودية. [هناك العديد من العائلات الأندلسية اليهودية، التي هربت من بطش الكنيسة الكاثوليكية في أكثر تجاربها عنصرية ودموية ضد المسلمين واليهود بالأندلس، حيث مورست عليهم حرب إبادة، تعتبر جريمة ضد الإنسانية،، وقد هاجرت تلك العائلات اليهودية إلى المغرب، واستقرت بفاس وتطوان والرباط وسلا، وبعضها أسلم في ما بعد وضمنها فرع من عائلات التازي - م - ]. كان محمد التازي، كبير مسؤولي الذهب عند السلطان، الذي كان يثق فيه ثقة مطلقة، مما منح للرجل قوة ونفوذا واضحين بدار المخزن. كان الجميع يحكي عن شطارته وحنكته وانخراطه بشجاعة في مهام دقيقة وغاية في الأهمية. كان نوعا من وزير المالية، وكان يطلق عليه لقب «أمين الأمناء»، وكان مسؤلا عن مراقبة وتدبير كل خزائن الإمبراطورية الشريفية، وكذا الضرائب والجمارك ومداخيل الموانئ وكل مال يوجه إلى العرش.
أكثر «البنيقات» ضيقا وامتلاء بالوثائق والموظفين، هي «بنيقة» وزير الحرب، وبالتحديد ضمنها، الجزء الخاص بالموظف المكلف بأداء أجور الجند ومراقبتهم، الذي يسمى «الحلاف». لقد تعرفنا فيها على السي محمد بن العربي، من عائلة الجامعي. ويطلقون عليه «لفقيه الصغير»، دون أن أتمكن قط من معرفة السبب في هذه التسمية التصغيرية التي تعني «السكرتير الصغير»، رغم أن دور الرجل كبير وهام جدا. لقد انتهى نهاية مأساوية، هو وشقيقه، في سجن تطوان، بعد وفاة السلطان مولاي الحسن، بأمر من الصدر الأعظم الجديد حينها. [المقصود به، تبعا لما ذهب إليه الكاتب، هو الصدر الأعظم باحماد - م - ].
يعرف مكان الوزارات [داخل القصر] حركية لافتة، حيث حركة الجند الذين يعبرونها لافتة، والمثير أن الأمر كله يتم بدون ضجيج، حاملين وثائق، أو أوامر مكتوبة، أو مرافقين للزوار. وفي عمق الساحة تلك، على اليمين، هناك باب تفضي إلى الجناح السلطاني. أمامه يقف عبيد شداد غلاظ، لا يتهاونون في حراسة ذلك الباب بصرامة مجربة. حين يكون السلطان بداخل جناحه يمارس مهامه اليومية، أو يستقبل ضيوفه، فإننا نلتقي فيه «مول المشور» أو «قايد المشور»، التي تعني أن للرجل نفس مهام الصدر الأعظم أهمية، لكنه يلعب دور «وزير دار السلطان». [هو المنصب الذي يوازي، ربما، اليوم منصب وزير التشريفات والأوسمة - م - ]. هذه المهمة يقوم بها، الان، [أي في سنة 1884] دريس بن عالم، الذي هو عبد أسود فارع الطول، بلحيته التي غزاها الشيب، والمشذبة بعناية فائقة. هو رجل غني جدا، لكنه معروف بالورع والتدين، ولهذا السبب فقد كان حينها يقوم بترميم مسجد سيدي ميمون بمراكش، من ماله الخاص. [لا يزال هذا المسجد العتيق قائما بمراكش، في الطريق المؤدي إلى حي القصبة، وهو قريب من مستشفى ابن زهر، المعروف ب «المامونية». وكذا من الإقامة الملكية الجديدة التي شيدها الملك محمد السادس مؤخرا بعد توليه الحكم سنة 1999. علما أن حي سيدي ميمون هو من بين أقدم أحياء مراكش العتيقة. - م -]. أما خليفة بن عالم، فهو دريس بنيعيش، الذي هو أيضا من قدماء جيش عبيد البخاري [الذي كان قد أسسه السلطان العلوي مولاي اسماعيل - م -]، وكان جنديا جميل المحيا، يلبس لباسا أنيقا جدا، متناسقة ألوانه بعناية فائقة، لكنه عنيف الطباع، وجد محافظ. ولقد عين في ما بعد باشا على مدينة وجدة.
كانت ل «قايد المشور» أيضا، مهمة ترجمان السلطان أمام السفراء الأجانب، مثلما أنه يمتلك صوتا جهوريا، يسمح له الإعلان بأعلى صوته، عن أسماء الضيوف المسيحيين، المتقدمين للقاء سلطانه.
سي فضول، من أصول أندلسية، له عينان تلمعان بوجهه المغربي الآسر، بلحيته المشذبة بعناية، التي غزاها الشيب حين التقيته، ويترك لديك انطباعا أنه وزير من زمن وزراء الخلافة العباسية ببغداد. بينما تحيلنا ملابسه الناصعة البياض، المرتبة بعناية، على قصر الحمراء بغرناطة، في ركاب الأمير أبي عبد الله [هو آخر ملوك الأندلس العرب المسلمين، الذي سقطت غرناطة في عهده في يد الإسبان سنة 1492، فبكى ملكه الضائع بعد أن سمح له بالمغادرة إلى المغرب، واستقر بفاس. ولقد اشتهر في التاريخ، ليس فقط بكونه آخر ملوك الأندلس، بل بمقولة أمه التي قالت له: «إبك كالنساء، ملكا أضعته، لم تعرف كيف تدافع عنه كالرجال»..- م - ]. الإسم الحقيقي للسي فضول هو « لمفضل غريط»، الذي تعود الجميع هنا تحريفه في المراسلات الديبلوماسية. لقد أكد لي أن عائلته جاءت من بلدة «غريط» المجاورة لمدينة طليطلة الأندلسية، وأن تلك البلدة اندثرت الآن ودرست وبادت. أن أجداده الذين استقروا بالمغرب، قد ظلوا يخدمون سلاطين البلاد في بلاطاتهم. كان والده سكرتيرا للسلطان مولاي عبد الرحمان، الذي عايشه هو نفسه زمن معركة إسلي، وكان سكرتيرا لمولاي الحسن، قبل أن يتقلد الملك، حين كان لا يزال مسؤولا عن حكم مراكش، نائبا عن والده السلطان.
ذاكرة الرجل قوية وغنية. وكان يمتلك حسا ديبلوماسيا رفيعا، يجعله يتواصل بسلاسة مع كل البعثات الديبلوماسية والسفارات الأجنبية بالمغرب. وكانت له رحابة صدر مثيرة، وهو ينصت بروية وصبر لحماسة البعثات الأجنبية الحديثة العهد بالمغرب، التي تكون متسرعة في الدفاع عن إيجاد حل لمشكلة ديبلوماسية ما. لكن فقر حججه التفاوضية التي تضعف عادة مهمته، إنما يخفيها بحيويته اللافتة. لقد كان الرجل من المؤثرين في سياسة السلطان مولاي الحسن الأول، ونستطيع الإدعاء أن أهم توجهات سياسة هذا السلطان الخارجية، كان وراءها سي فضول. وفي عهد السلطان المولى عبد العزيز، سيعهد إليه بمنصب الوزير الأول [الصدر الأعظم]، لكنه للأسف كان الوقت متأخرا لتصحيح اختلالات العهد السلطاني الجديد.
كان للسي فضول العديد من المساعدين، ضمنهم محمد الكباص، الذي سيكلف بعد ذلك بمهام ديبلوماسية سامية في باريس والجزائر، وقد أدى مهمته بنجاح. عائلة الكباص، التي تنحدر من جبل زرهون، هي عائلة فقيرة، فقد كان والده يعمل في الجبص [عائلة الكباص التي اكتسبت لقبها من مهنة الجد، ستصبح واحدة من أهم العائلات التي ارتبطت بدار المخزن في المغرب، منذ عهد السلطان مولاى الحسن الأول. ومحمد الكباص الذي يتحدث عنه الكاتب هنا، سيرتقي في سلم المسؤولية بالدولة المغربية، باجتهاد شخصي منه وذكاء واضح، عند نهاية القرن 19 وبداية القرن 20، ليصل إلى منصب وزاري رفيع. ومحمد الكباص، هذا، هو جد كل من الدكتور عبد الكريم الخطيب والجنرال حسني بنسليمان من جهة أمه وكذا الأستاذ إسماعيل العلوي، الأمين العام السابق لحزب التقدم والإشتراكية. - م - ]. كان هناك أيضا، مساعد آخر للسي فضول غرنيط، هو بنسليمان، المنحدر من فاس، وربما أن أصوله أندلسية، ومعروف عنه، أن والده قد فصل رأسه عن جسده بأمر من السلطان مولاي عبد الرحمان، بسبب تورطه في مؤامرة سياسية. ثم، هناك مولاي الطاهر، أحد الشرفاء البلغيثيين العلويين من فاس، وقد كان ذا ذكاء باهر، ومتحمس جدا لمشروعنا الحضاري، لكنه توفي فجأة. ثم هناك أخيرا، سي الكردودي، الذي كان رجل خبرة، ومعروف عنه جديته العالية، بل صرامته في العمل، وبدون أدنى تهاون. وهو ينحدر من بلاد كرديدة بسهل الغرب.
حين تعاظمت مطالب الممثليات الأجنبية بالمغرب مؤخرا [نحن هنا في سنة 1884 - م - ]، أحدث السلطان منصب مفتش عام، مهمته المراقبة، وكلف بها السيد بن بوزيد. كان هذا الأخير يتوجه إلى القبائل، ويلتقي بممثلي السلطان، ويجتهد في البحث - وسط بحر من التشابكات - عن حقيقة ما يصل من تقارير وأموال إلى المركز.
غير بعيد من «بنيقة» سي فضول، نجد مكتب السيد محمد التازي، إبن مدينة الرباط، والذي هو من أصول يهودية. [هناك العديد من العائلات الأندلسية اليهودية، التي هربت من بطش الكنيسة الكاثوليكية في أكثر تجاربها عنصرية ودموية ضد المسلمين واليهود بالأندلس، حيث مورست عليهم حرب إبادة، تعتبر جريمة ضد الإنسانية،، وقد هاجرت تلك العائلات اليهودية إلى المغرب، واستقرت بفاس وتطوان والرباط وسلا، وبعضها أسلم في ما بعد وضمنها فرع من عائلات التازي - م - ]. كان محمد التازي، كبير مسؤولي الذهب عند السلطان، الذي كان يثق فيه ثقة مطلقة، مما منح للرجل قوة ونفوذا واضحين بدار المخزن. كان الجميع يحكي عن شطارته وحنكته وانخراطه بشجاعة في مهام دقيقة وغاية في الأهمية. كان نوعا من وزير المالية، وكان يطلق عليه لقب «أمين الأمناء»، وكان مسؤلا عن مراقبة وتدبير كل خزائن الإمبراطورية الشريفية، وكذا الضرائب والجمارك ومداخيل الموانئ وكل مال يوجه إلى العرش.
أكثر «البنيقات» ضيقا وامتلاء بالوثائق والموظفين، هي «بنيقة» وزير الحرب، وبالتحديد ضمنها، الجزء الخاص بالموظف المكلف بأداء أجور الجند ومراقبتهم، الذي يسمى «الحلاف». لقد تعرفنا فيها على السي محمد بن العربي، من عائلة الجامعي. ويطلقون عليه «لفقيه الصغير»، دون أن أتمكن قط من معرفة السبب في هذه التسمية التصغيرية التي تعني «السكرتير الصغير»، رغم أن دور الرجل كبير وهام جدا. لقد انتهى نهاية مأساوية، هو وشقيقه، في سجن تطوان، بعد وفاة السلطان مولاي الحسن، بأمر من الصدر الأعظم الجديد حينها. [المقصود به، تبعا لما ذهب إليه الكاتب، هو الصدر الأعظم باحماد - م - ].
يعرف مكان الوزارات [داخل القصر] حركية لافتة، حيث حركة الجند الذين يعبرونها لافتة، والمثير أن الأمر كله يتم بدون ضجيج، حاملين وثائق، أو أوامر مكتوبة، أو مرافقين للزوار. وفي عمق الساحة تلك، على اليمين، هناك باب تفضي إلى الجناح السلطاني. أمامه يقف عبيد شداد غلاظ، لا يتهاونون في حراسة ذلك الباب بصرامة مجربة. حين يكون السلطان بداخل جناحه يمارس مهامه اليومية، أو يستقبل ضيوفه، فإننا نلتقي فيه «مول المشور» أو «قايد المشور»، التي تعني أن للرجل نفس مهام الصدر الأعظم أهمية، لكنه يلعب دور «وزير دار السلطان». [هو المنصب الذي يوازي، ربما، اليوم منصب وزير التشريفات والأوسمة - م - ]. هذه المهمة يقوم بها، الان، [أي في سنة 1884] دريس بن عالم، الذي هو عبد أسود فارع الطول، بلحيته التي غزاها الشيب، والمشذبة بعناية فائقة. هو رجل غني جدا، لكنه معروف بالورع والتدين، ولهذا السبب فقد كان حينها يقوم بترميم مسجد سيدي ميمون بمراكش، من ماله الخاص. [لا يزال هذا المسجد العتيق قائما بمراكش، في الطريق المؤدي إلى حي القصبة، وهو قريب من مستشفى ابن زهر، المعروف ب «المامونية». وكذا من الإقامة الملكية الجديدة التي شيدها الملك محمد السادس مؤخرا بعد توليه الحكم سنة 1999. علما أن حي سيدي ميمون هو من بين أقدم أحياء مراكش العتيقة. - م -]. أما خليفة بن عالم، فهو دريس بنيعيش، الذي هو أيضا من قدماء جيش عبيد البخاري [الذي كان قد أسسه السلطان العلوي مولاي اسماعيل - م -]، وكان جنديا جميل المحيا، يلبس لباسا أنيقا جدا، متناسقة ألوانه بعناية فائقة، لكنه عنيف الطباع، وجد محافظ. ولقد عين في ما بعد باشا على مدينة وجدة.
كانت ل «قايد المشور» أيضا، مهمة ترجمان السلطان أمام السفراء الأجانب، مثلما أنه يمتلك صوتا جهوريا، يسمح له الإعلان بأعلى صوته، عن أسماء الضيوف المسيحيين، المتقدمين للقاء سلطانه.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
فهود الحسن الأول المدجنة.. و «عرصة النيل» ب «قصر الخضراء» بمراكش
الجناح الذي يمارس فيه السلطان [المولى الحسن الأول] مهامه، عبارة عن بناية صغيرة مغطاة، في لحظة زيارتنا هذه [سنة 1884 م. بمراكش ] بقرميد أخضر مزخرف. مدخل الباب منحدر بعض الشئ، مما يلزمك بالإنحناء قليلا لعبوره. داخل البناية، تمة أثاث باذخ جميل، بذوق مغربي صرف. على أرضية البناية فرشت زرابي، ووضع حصير جميل منسوج من القصب. مثلما تمة كنبة خشبية مذهبة، مغطاة بالساتان الأخضر. كان جلالة السلطان جالسا وقد عقد رجليه قليلا، بقدمين حافيتين وأمامه موضوعة بلغتاه. كان الوزارء ومساعدوهم والقواد، ينحنون احتراما ويعرضون قضاياهم في أدب جم. وحين يكون الضيف أجنبيا، فإن الجو لا يختلف عن مثل هذه الطقوس. الفرق الوحيد، هو أنه يؤتى لرئيس الوفد الأجنبي بكرسي ليجلس عليه، بينما الترجمان واقف مثل الآخرين، فيما يكون وزير الخارجية، الذي يحضر دوما تلك اللقاءات، جالسا على بلاط الأرض مباشرة، فوق الزرابي. وصبر الترجمان لا يضاهى هنا، هو الذي يظل واقفا لساعة أو ساعتين، يمارس مهامه بحنكة دون أن يصاب بدوار العياء.
في ذلك الجناح السلطاني الصغير، وتحت نظر السلطان مباشرة، توجد بناية الخزينة المالية، مما يترجم صورة التدبير المغربي العتيق والقديم. كان السلطان يقرأ بتمعن وعناية خاصة، كل الرسائل، قبل السماح ببعثها إلى الجهة المعنية بها. ليس تمة شئ يفلت من بين يديه. وكان يضع توقيعه الخاص، بقلم رصاص أو بمداد محبرة، الذي هو عبارة عن ما يشبه فاصلة صغيرة، الأمر الذي يسمح لحاجبه أن يضع الخاتم السلطاني بعد ذلك على الرسالة من فوق.
في فترة من الفترات، كنت تصادف في قصر مكناس فهودا مدجنة تتجول بحرية في الباحات الداخلية، مما كان يبعث قشعريرة خوف في الخدم والزوار. لقد كان سلاطين المغرب يعشقون دوما امتلاك الضواري. كان السلطان سيدي محمد [بن عبدالرحمان]، والد السلطان مولاي الحسن [الأول]، المعروف بطبيعته الخجولة، مغرما بذلك كثيرا، بل إنه كان من هواة امتلاك تلك الضواري. كان يتوفر على سباع وأسود تتجول معه بدعة وحرية في القصر. [تجدر الإشارة، هنا، إلى أن أعالي جبال الأطلس بالمغرب، المرتفعة بأكثر من 3 و4 آلاف متر، المكسوة بغابات كثيفة، كانت بها أعداد كبيرة من الأسود، التي تعرف علميا وتاريخيا ب «فصيلة أسد الأطلس». الذي كان قصيرا بعض الشئ، ولكن بفروة كثيفة الشعر. ولقد بقيت هذه الأسود بجبال الأطلس حتى ثلاثينات القرن العشرين، قبل أن تنقرض بسبب الإبادة التي مورست عليها، وبسبب تراجع الغابة ونظام الإستعمار الذي أخد العديد منها إلى حدائق الحيوانات بأروبا، خاصة بفرنسا وإسبانيا وإنجلترا وألمانيا. وكذلك بالولايات المتحدة الأمريكية - م -]. ومما يحكى في هذا الباب، أن أحد تلك الأسود قد أدخل فمه أكثر من اللازم في كتف السلطان [سيدي محمد]، فالتفت إليه هذا الأخير بهدوء، ونجح في أن يستل كتفه منه بدون مشاكل، وأمر الحاشية أن يزيدوه حصته من اللحم.
كان السلطان مولاى الحسن [الأول]، حين ينتهي من مهامه السلطانية اليومية، ومن مهام الدولة، يلتحق بداخل القصر عبر ممر ضيق صغير، الذي تحميه أبواب ضخمة بأقفال ثقيلة غليظة. وكنت تسمع صرير المفاتيح وهي تدور في الأقفال، بينما العبيد يرددون لازمة : «الله يبارك في عمر سيدي»، حين عبور السلطان جوارهم. وكان صدى تلك اللازمة يتلاشى مع ابتعاد السلطان داخل قصره العجيب والمثير هذا. وهو قصر لا يلجه أحد [من الأجانب]، والشعور الذي يتملكك، شعور رهبة غريب وعميق.
في وسط البناية التي يقيم بها السلطان مولاي الحسن [الأول]، توجد «عرصة النيل» (أو «حديقة النيل»)، لأنه يحكى أن كل نباتاتها، قد استقدمت من مصر، من قبل السلطان سيدي محمد بن عبدالله، الذي أنشأها في نهاية القرن 18. [يعتبر هذا السلطان العلوي، واحدا من أهم السلاطين الذين حاولوا إعادة تنظيم الدولة المغربية، في النصف الأخير من القرن 18 الميلادي، من خلال الإنفتاح بذكاء على البحر. فهو لم يعطي ظهره للبحر، الذي يعتبر قوة المغرب تاريخيا كما فعل من جاء بعده، خاصة السلطان مولاي سليمان. لكنه ركز على تحرير وإعادة بناء موانئ المدن الأطلسية، أكثر من محاولة تحرير الموانئ الإستراتيجية الكبرى في البحر الأبيض المتوسط، مثل مينائي مليلية وسبتة وصخرة باديس. هكذا فقد حرر الجديدة وأعاد بناءها بالكامل، وهو الذي أسماها بالجديدة. وحرر الصويرة وأعاد بناءها بالكامل من خلال هندسة جديدة كلف بها مهندسا فرنسيا متخصصا في هندسة المدن. مثلما أحيى مدينة أنفا (الدارالبيضاء حاليا)، وبنى بها رصيفا تجاريا وأعاد بناءها كاملة، خاصة ممر التجار والقنصليات الأجنبية وبناية «السقالة» الشهيرة بمدفعيتها المتطورة آنذاك ومسجدها العتيق. ولقد حكم ما بين سنتي 1757 و 1790. - م - ].
«عرصة النيل»، تعتبر حقيقة، حديقة غناء، تمنح للناظر في زمن زيارتنا لها، مناظر اخضرار فاتنة. حيث إنها تضم أشجار زيتون وبرتقال وليمون ورمان، وجميعها محاطة بصف من شجر السرو (فصيلة من الصنوبر)، التي كانت تظهر شامخة من وراء السور العالي. في زاوية من زوايا تلك العرصة / الحديقة، تمة جناح مسقوف برسومات، ويضم مزلاجا برونزيا فاتنا. وفي الجهة المقابلة للعرصة / الحديقة تمة جناح أصغر، يضم إفريزا لخلايا النحل، تطن فيه أصوات حركتها الدائبة. تمة حوض ماء من رخام، محاط بعريش من الخضرة، والتي تنط منها نافورة ماء أسيانة، والتي تهب للمكان إحساس راحة ناعمة. كان السلطان سيدي محمد بن عبد الله، قد استقبل في الممرات المبلطة لتلك العرصة / الحديقة، سنة 1789، الدكتور لومبريير، الذي ترك لنا نصا تفصيليا عن ذلك اللقاء (كتابه المعنون ب « رحلة في الإمبراطورية المغربية» الذي ترجم عن الإنجليزية من قبل «دوسانت سوزان» بباريس سنة 1801.). كان السلطان جالسا في عربة مجرورة بحصان، محاطا بعبيد مسلحين. كان السلطان عليلا بعض الشئ، وكان ينصت بروية ويبعث في المكان لحظة مرح، رغم الآلام الحادة التي كانت تطوح به.
في عمق هذه العرصة / الحديقة، ينفتح ممر معتم ومثير، يفضي إلى «قصر الخضراء»، الذي هو سكنى نساء القصر. لا أحد يلج إليه، عدا خدم القصر المرتبطين مباشرة بالحريم. كل ما عرفناه، من مصادرنا الخاصة، أن القصر ذاك من رخام. وفي جناح منه تمة سكنى النساء، وفي مقابلها غرف الخادمات، أو «العريفيات». كان تمة رجال عبيد مخصيون، وإماء سود. فيما غير بعيد، تمة جناح بادخ جميل، مخصص للسلطان.
في ذلك الجناح السلطاني الصغير، وتحت نظر السلطان مباشرة، توجد بناية الخزينة المالية، مما يترجم صورة التدبير المغربي العتيق والقديم. كان السلطان يقرأ بتمعن وعناية خاصة، كل الرسائل، قبل السماح ببعثها إلى الجهة المعنية بها. ليس تمة شئ يفلت من بين يديه. وكان يضع توقيعه الخاص، بقلم رصاص أو بمداد محبرة، الذي هو عبارة عن ما يشبه فاصلة صغيرة، الأمر الذي يسمح لحاجبه أن يضع الخاتم السلطاني بعد ذلك على الرسالة من فوق.
في فترة من الفترات، كنت تصادف في قصر مكناس فهودا مدجنة تتجول بحرية في الباحات الداخلية، مما كان يبعث قشعريرة خوف في الخدم والزوار. لقد كان سلاطين المغرب يعشقون دوما امتلاك الضواري. كان السلطان سيدي محمد [بن عبدالرحمان]، والد السلطان مولاي الحسن [الأول]، المعروف بطبيعته الخجولة، مغرما بذلك كثيرا، بل إنه كان من هواة امتلاك تلك الضواري. كان يتوفر على سباع وأسود تتجول معه بدعة وحرية في القصر. [تجدر الإشارة، هنا، إلى أن أعالي جبال الأطلس بالمغرب، المرتفعة بأكثر من 3 و4 آلاف متر، المكسوة بغابات كثيفة، كانت بها أعداد كبيرة من الأسود، التي تعرف علميا وتاريخيا ب «فصيلة أسد الأطلس». الذي كان قصيرا بعض الشئ، ولكن بفروة كثيفة الشعر. ولقد بقيت هذه الأسود بجبال الأطلس حتى ثلاثينات القرن العشرين، قبل أن تنقرض بسبب الإبادة التي مورست عليها، وبسبب تراجع الغابة ونظام الإستعمار الذي أخد العديد منها إلى حدائق الحيوانات بأروبا، خاصة بفرنسا وإسبانيا وإنجلترا وألمانيا. وكذلك بالولايات المتحدة الأمريكية - م -]. ومما يحكى في هذا الباب، أن أحد تلك الأسود قد أدخل فمه أكثر من اللازم في كتف السلطان [سيدي محمد]، فالتفت إليه هذا الأخير بهدوء، ونجح في أن يستل كتفه منه بدون مشاكل، وأمر الحاشية أن يزيدوه حصته من اللحم.
كان السلطان مولاى الحسن [الأول]، حين ينتهي من مهامه السلطانية اليومية، ومن مهام الدولة، يلتحق بداخل القصر عبر ممر ضيق صغير، الذي تحميه أبواب ضخمة بأقفال ثقيلة غليظة. وكنت تسمع صرير المفاتيح وهي تدور في الأقفال، بينما العبيد يرددون لازمة : «الله يبارك في عمر سيدي»، حين عبور السلطان جوارهم. وكان صدى تلك اللازمة يتلاشى مع ابتعاد السلطان داخل قصره العجيب والمثير هذا. وهو قصر لا يلجه أحد [من الأجانب]، والشعور الذي يتملكك، شعور رهبة غريب وعميق.
في وسط البناية التي يقيم بها السلطان مولاي الحسن [الأول]، توجد «عرصة النيل» (أو «حديقة النيل»)، لأنه يحكى أن كل نباتاتها، قد استقدمت من مصر، من قبل السلطان سيدي محمد بن عبدالله، الذي أنشأها في نهاية القرن 18. [يعتبر هذا السلطان العلوي، واحدا من أهم السلاطين الذين حاولوا إعادة تنظيم الدولة المغربية، في النصف الأخير من القرن 18 الميلادي، من خلال الإنفتاح بذكاء على البحر. فهو لم يعطي ظهره للبحر، الذي يعتبر قوة المغرب تاريخيا كما فعل من جاء بعده، خاصة السلطان مولاي سليمان. لكنه ركز على تحرير وإعادة بناء موانئ المدن الأطلسية، أكثر من محاولة تحرير الموانئ الإستراتيجية الكبرى في البحر الأبيض المتوسط، مثل مينائي مليلية وسبتة وصخرة باديس. هكذا فقد حرر الجديدة وأعاد بناءها بالكامل، وهو الذي أسماها بالجديدة. وحرر الصويرة وأعاد بناءها بالكامل من خلال هندسة جديدة كلف بها مهندسا فرنسيا متخصصا في هندسة المدن. مثلما أحيى مدينة أنفا (الدارالبيضاء حاليا)، وبنى بها رصيفا تجاريا وأعاد بناءها كاملة، خاصة ممر التجار والقنصليات الأجنبية وبناية «السقالة» الشهيرة بمدفعيتها المتطورة آنذاك ومسجدها العتيق. ولقد حكم ما بين سنتي 1757 و 1790. - م - ].
«عرصة النيل»، تعتبر حقيقة، حديقة غناء، تمنح للناظر في زمن زيارتنا لها، مناظر اخضرار فاتنة. حيث إنها تضم أشجار زيتون وبرتقال وليمون ورمان، وجميعها محاطة بصف من شجر السرو (فصيلة من الصنوبر)، التي كانت تظهر شامخة من وراء السور العالي. في زاوية من زوايا تلك العرصة / الحديقة، تمة جناح مسقوف برسومات، ويضم مزلاجا برونزيا فاتنا. وفي الجهة المقابلة للعرصة / الحديقة تمة جناح أصغر، يضم إفريزا لخلايا النحل، تطن فيه أصوات حركتها الدائبة. تمة حوض ماء من رخام، محاط بعريش من الخضرة، والتي تنط منها نافورة ماء أسيانة، والتي تهب للمكان إحساس راحة ناعمة. كان السلطان سيدي محمد بن عبد الله، قد استقبل في الممرات المبلطة لتلك العرصة / الحديقة، سنة 1789، الدكتور لومبريير، الذي ترك لنا نصا تفصيليا عن ذلك اللقاء (كتابه المعنون ب « رحلة في الإمبراطورية المغربية» الذي ترجم عن الإنجليزية من قبل «دوسانت سوزان» بباريس سنة 1801.). كان السلطان جالسا في عربة مجرورة بحصان، محاطا بعبيد مسلحين. كان السلطان عليلا بعض الشئ، وكان ينصت بروية ويبعث في المكان لحظة مرح، رغم الآلام الحادة التي كانت تطوح به.
في عمق هذه العرصة / الحديقة، ينفتح ممر معتم ومثير، يفضي إلى «قصر الخضراء»، الذي هو سكنى نساء القصر. لا أحد يلج إليه، عدا خدم القصر المرتبطين مباشرة بالحريم. كل ما عرفناه، من مصادرنا الخاصة، أن القصر ذاك من رخام. وفي جناح منه تمة سكنى النساء، وفي مقابلها غرف الخادمات، أو «العريفيات». كان تمة رجال عبيد مخصيون، وإماء سود. فيما غير بعيد، تمة جناح بادخ جميل، مخصص للسلطان.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
الإيرلنديات والإنجليزيات والإيطاليات والتركيات في حريم السلاطين المغاربة..
يشكل الحريم الشريفي، مدينة صغيرة، بشخوصه الخاصة، المقطوعين بصرامة عن العالم الخارجي. كل شئ منظم هناك بعناية فائقة، تبعا للتقاليد المرعية من زمان، والتي لا تتبدل قط، بشكل إداري صارم وبدون أوهام أو ما قد نتخيله من جو رومانسي. إن الحريم، مجال خاص بالسلاطين. وتمة نفوذ طاغ، للمحضيات، اللواتي هن في الغالب فتيات صغيرات استقدمن من القبائل، ويتميزن بطبيعتهن البكر، وأحيانا بسذاجتهن وعنفهن البدوي الأصيل. تمة أخبار عن دسائس فظيعة، سببها حروب النساء تلك. وربما ذلك، مما يروح عن السلاطين المتعبين بشؤون الدولة. تمة صرامة تنظيم، بعقوبات زجرية فظيعة داخل ذلك العالم المغلق. ففي عهد المولى الحسن الأول، كانت الشرطة الخاصة موكولة لرئيس المخصيين، الذي يسمى « بَّا مرجان »، ويحكى أنه عنيف جدا.
أهمية تلك المؤسسة، كجزء من مؤسسة الدولة، تبرز من خلال مزاج السلطان. ففي عهد السلطان مولاي اسماعيل، الذي أنجب 800 ولدا ذكر، وعدد الإناث غير معروف، (وهو رقم رسمي، أخد من سجل الضرائب التي كانت تسجلها وتؤديها الجالية اليهودية بالمغرب، كلما ولد ابن ذكر للسلطان)، تمة حكايات مثيرة عن الحريم الشريفي.
في كل رحلة [سلطانية] يسافر مع السلطان جزء من النساء. ولقد حكى لي شيخ مغربي عن سلطان لا أعرف من هو بالتحديد، كانت له مكرمة النزول من على حصانه، للتحدث مطولا مع محضياته المفضلات، والتغزل فيهن. كانت تمة خيمة مخصصة للعبيد السود، فيما كل الجند ظلوا واقفين ويدهم على الزناد، في انتظار أن يعاود السلطان ركوب جواده.
لكل امرأة [من الحريم] رجل معتدل القامة في خدمتها [يكون إلزاما من المخصيين]. بعضهن يحصلن على أكل خاص ومميز وبوفرة، فيما أخريات لا يحصلن سوى على القليل. مما يتسبب في خصومات، يستغلها المخصيون لما هو في مصلحتهم الشخصية.
في زمننا هذا [يقصد سنوات 1882- 1902]، لا يزال عدد نساء القصر كبيرا. أغلبهن مستقرات في فاس، مكناس ومراكش. المسنات منهن، اللواتي بقين من عهد السلطان سيدي محمد [بن عبد الرحمان]، أو اللواتي فقدن أسباب فتنتهن وجمالهن، يبعثن إلى القصور القديمة أو حتى إلى الواحات البعيدة بتافيلالت. كان السلطان مولاي الحسن الأول، لا يأخد معه، سوى عدد قليل من النساء أثناء تنقلاته، وكان يطلب إحضار أخريات من هنا أو هناك، مما يجعل حركية التنقل متواصلة. وكثيرا ما كنا نلتقي قافلة من البغال، تركبها بغنج، نساء لابسات برنسا أزرق، وبوجوه محجبة، مراقبات من قبيل مخصيين، ويحرسهن بصرامة فرسان من المشور. فيما المغاربة الذين يصادفون تلك القافلة، يغضون أبصارهم في حياء. وفي العادة، فإن السلاطين يقضون أوقاتهم المتبقية بعد انتهاء مهام الدولة، داخل الحريم. وكانت سعادتهم، في التمتع بسذاجة بعض من نسائهم، حين يقدمن لهن بعضا من اكتشافاتنا الصناعية. [ يلمح الكاتب، هنا، لما عرف عن السلطان مولاي عبد العزيز، أصغر أبناء السلطان المولى الحسن الأول، من إشراك لحريمه في اكتشاف آلات التصوير الفوتوغرافية، وعدد آخر من آليات الموسيقى الفونوغرافية، والتلفون. علما، أن العديد من كتابات الرحالة الفرنسيين الذين عاصروا هذا السلطان قد كتبوا عنه تفاصيل متحاملة، كونه لم يكن منساقا تماما لرغبات فرنسا حينذاك اقتصاديا وسياسيا، فيما كان يميل جلالته أكثر للتاج البريطاني. مما يلزم قارئ تلك النصوص الفرنسية، بقراءتها قراءة نقدية، وليس قراءة عمياء، اعتبارا أن ما يحرك كتابها هو تهيئ الجو للتغلغل في المغرب واحتلاله وتقسيمه. - م - ].
كانت للسلطان سيدي محمد [بن عبد الرحمان]، فكرة فريدة، غير مسبوقة، سنة 1863، حين ركَّب بمساعدة من المهندس الإنجليزي « م. فيرلي » آلة بخارية [داخل القصر]. وبعد أن تعلم كيفية تشغيلها، عاد ذات ليلة مرفوقا بمحظياته من نساء القصر، وشغل الآلة أمامهن، مما بث الرعب فيهن، خاصة حين شاهدن البخار الخارج منها، والصفير المرافق لذلك. في الصباح الموالي، حين وجد المكان لا يزال مليئا بالزرابي وأواني الشاي، علم المهندس الإنجليزي، بقصة ما وقع في تلك الليلة الشريفية، وما فعلته الآلة البخارية.
كان للسلاطين المغاربة دوما، ميل للأجنبيات، من أجل إحداث تغيير في متعهم. وفي الزمن الغابر للعبودية، شكلت الأروبيات جزء من سبايا القصور. أما في أيامنا هذه، هناك بعض الأروبيات اللواتي حملهن فضولهن وسوء تصرفهن، لولوج عالم الحريم، فلم يخرجن منه قط. هكذا، فإن والدة مولاي اليزيد، في القرن 18، إيرلندية [عرف عن مولاي اليزيد منافحته للسلطان سيدي محمد بن عبد الله على الحكم، وأنه التجأ إلى الإحتماء بزاوية آيت إسحاق سنة 1771 ، حين بايعه أهل كروان سلطانا للمغرب. قبل أن يلجأ إلى الإحتماء بزاوية مولاي عبد السلام بن مشيش بمناطق جبالة في الشمال. - م - ]. فيما تؤكد أخبار أخرى أن السلطان سيدي محمد بن عبد الله، هو حفيد امرأة إنجليزية، وقد كانت من بين نسائه المحظيات امرأة من كورسيكا، إسمها «فرانسيتشيني» ( الدكتور لومبريير، الذي سمح له بالولوج إلى الحريم السلطاني في القرن 18، أشرف على معالجة امرأة إيطالية ذات جمال رباني، تركت فيه أثرا بليغا. فقد أُسِرَتْ بعد غرق السفينة التي تقلها وهي بعد صغيرة، فتم استقدامها للسلطان وربيت ضمن حريمه. فيما بعد ستصبح زوجة من زوجات السلطان سيدي محمد بن عبد الله بعد اعتناقها الإسلام. كانت مقتنعة بمصيرها يقول ذلك الدكتور، وكانت تعيش في دعة ولها نفوذ واضح لدى السلطان. فيما واحدة من زوجات ذات السلطان كانت إسبانية، فيما الرابعة التي يجيز الإسلام الزواج بها، كانت ابنة تاجر إيرلندي. بينما كان بين الجواري اللواتي يملكهن الأمراء، العديد من الأروبيات ). فيما بعد، سيقترح السلطان مولاي سليمان، شقيق الكورسيكية « فرانسيتشيني »، على قنصلنا الفرنسي العام بطنجة. [السلطان مولاي سليمان، الذي حكم بين سنتي 1792 و 1822، يعتبر من أكثر السلاطين محافظة، بل هناك بعض المصادر التي تذهب إلى أنه اقتنع بالمذهب الوهابي، دون أن يكون هنالك ما يؤكد ذلك فعليا. لكن، الأساسي، من الناحية التاريخية، أن الرجل عاصر فترة سياسية صعبة على المستوى الدولي بحوض البحر الأبيض المتوسط، وهي الفترة التي شهدت الثورة السياسية بفرنسا، وصعود أفكار التحرر ضد الملكيات بأروبا، ثم صعود نجم الإمبراطور نابليون بونابارت، الذي احتل مصر سنة 1798 وحاول احتلال عكا بفلسطين سنة 1801 وهزم هناك فانسحب من المشرق العربي، وشرعت باريس في التفكير لاحتلال الجنوب المتوسطي الأوسط والغربي، أي الجزائر والمغرب. المشروع الجزائري تحقق سنة 1830، فيما تمنع المغرب حتى سنة 1907 و 1912. - م - ].
كما توصل السلطان مولاي عبد الرحمان، من الأمير الجزائري عبد القادر، [ الذي سبق وقلنا إنه بايع السلطان المغربي سلطانا على تلمسان والغرب الجزائري، لدعمه له عسكريا وماديا في حربه ضد الفرنسيين سنة 1884 - م - ]، بفتاة فرنسية، جميلة جدا، رأت النور في منطقة «متيدجا» بضواحي الجزائر العاصمة. ولقد أنجبت للسلطان ابنين ذكرين، ربيا مثل باقي الأمراء، لكنهما قتلا مسمومين وكذا أمهما، في واحدة من حروب نساء الحريم. أخيرا، فقد استقدم السلطان مولاي الحسن [الأول]، بثمن مرتفع أربع قوقازيات من تركيا، ذوات جمال وتربية رفيعة، حيث كن يتقن العزف على الآلات الموسيقية ويتقن الغناء والرقص. كان قد مل من الأجسام المثخنة بالشحم للمغربيات [لاحظوا نوع التعبير المتعالي، الذي يصدر عنه هنا الكاتب، من موقع تعاليه الغربي الفرنسي. - م - ]. لقد أدى ، كما علمنا، ما يناهز 100 ألف فرنك. سيتزوج واحدة منهن، التي منحت إسم « للا رقية »، هي التي وهبته ابنه مولاي عبد العزيز الذي سيتولى الحكم بعده.
في الساحة الكبيرة للمشور السلطاني بمراكش، حيث تنظم عادة حفلات تقديم «الهدية» (الهدايا) للسلطان، وحيث اعتاد أيضا استقبال السفراء الأجانب، تنفتح باب على «جنان الرضوان» (تمة عبد معتوق، اشتهر بهذا الإسم، هو الذي يعود له الفضل في إنشاء تلك الحديقة الغناء الجميلة جدا. وقد كان صاحب نفوذ في البلاط السعدي، خاصة في عهد السلطان السعدي أحمد المنصور). لقد تم تجديد ذلك الفضاء الجميل، من قبل السلطان مولاى عبد الرحمان، بينما الممر الرئيسي، الذي يضم أشجار زيتون معمرة، فإنه يعود إلى عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله، وقد كان السلاطين يقضون أوقاتا طيبة فيها مع محظياتهم من نساء الحريم. كانت بها دار صغيرة، تسمى «دار لعيالات»، بها حمامات، وجناح بسقيفة، حيث يستريح السلاطين. خاصة أن المكان مريح جدا، يسري فيه صمت رباني، وظلال ونسائم عليلة. إن ذلك الجو يريح فعليا من أعباء الدولة. وبما أنه ممنوع أن يلج إليها أحد، فقد سرت أخبار متعددة حول ذلك الفضاء الجميل، الذي يقال إنه أشبه بجنة عدن على الأرض، التي وعد بها النبي محمد المسلمين.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
كان الثلاثاء يوم العطلة الأسبوعي بالمغرب في عهد المولى الحسن الأول
رأيت [السلطان] مولاي الحسن [الأول]، أول مرة، سنة 1884 بمكناس. كانت صفوف الجند تشكل حاجزا في الساحة الكبيرة [للقصر] التي نلج إليها عبر البوابة الجميلة «منصور لعلج». كانت حركة الحضور الكثيف تعج تحت شمس صيف المغرب الحارقة، لأن السلطان كان على أهبة الخروج لتأدية صلاة الجمعة. كنت المسيحي الوحيد بينهم، ولقد نصحوني، من أجل سلامتي، أن أبقى راكبا فوق حصاني.
قرأت كثيرا عن مثل هذه الإحتفالية الكبرى، العجيبة والمثيرة. كل المخزن هنا، أي الحكومة والوزراء، وكبار الدولة، كلهم ركوب، بعضهم على الجياد وبعضهم على البغال. كنا ننتظر جلالة السلطان، وكان صف الجند المسلحين، مصطفا تبعا للتقنية المغربية المعتمدة. ثم خرج علينا جواد يجر عربة غريبة، من نوع ذوات النوابض الثمانية. [هنا سيبدأ الكاتب أسلوب كتابة، غريب، وغير مألوف فيه، هو الذي يصدر مبدئيا عن معرفة علمية رصينة. ففي هذا الأسلوب هنا للأسف الكثير من التعالي، الذي يترجم بعضا من المرجعية التي تحكم رؤيته للمغرب والمغاربة. بل إنه أسلوب متحامل واحتقاري، من خلال الصورة الكاريكاتورية التي ينقلها إلى القارئ الفرنسي، الذي يهمه بالدرجة الأولى، متناسيا أنه يكتب شهادة للتاريخ. - م - ] كان هناك عبدان أسودان، بطربوشيهما الهرميين الحمر، وهما يقودان الحصان من لجامه، دون اعتبار لشروط الإتيكيت، من وراء السلطان الجالس على كرسي العربة. كانت الأرضية غير المبلطة، تجعل جسم العربة يتمايل بقوة، مما جعل السلطان في وضع غير مريح، بل إنه كان في صورة غير لائقة. وفي خضم هذا المشهد الأشبه بسيرك، كان السلطان منزعجا. [الحقيقة أن العربة السلطانية هذه، هي عربة جميلة جدا، ولا تزال متواجدة في أعراف دار المخزن، إلى اليوم، حين يخرج الملك لأول صلاة جمعة بعد توليه الحكم، كما حدث مع جلالة الملك محمد السادس. وهي عربة ظلت دوما مزينة بطريقة ملكية مغربية صرفة. بحضور طاغ للونين الأحمر والأخضر، وستائرها من الساتان الحريري الأصفر المذهب، هو نفس لون كراسيها الداخلية. وتكون ذات بابين صغيرين على الجنبين بهما تخاريم ونقش سلطاني خاص على الخشب. تقودها أحصنة مطهمة. وهي تقليد سلطاني مغربي، يميز تاريخ الملكيات بالمغرب. علما أنها ذات مرجعيات متوسطية، حيث نجد نماذج مماثلة لها في تاريخ الإغريق والرومان والعثمانيين. ومهما كان، فهي ليست بكل هذا الوصف المتحامل لدولامارتينيير - م - ]. بعد الوصول إلى مسجد «لالة عودة»، المخصص للصلاة الشريفية، نزل السلطان من العربة، فتوقفت الفرقة الموسيقية، التي كانت تعزف لحنا أشبه بنوطة [أندلسية] إسبانية، عن العزف فجأة دون أن تكمل الجملة الموسيقية. بعد الإنتهاء من الصلاة، ظهر السلطان على حصانه، محاطا برجاله، ومحروسا من قبل عدد من الفرسان الخيالة، وفوق رأسه حملت مظلة كبيرة، وكذا عدد من العلامات السلطانية، متبوعا بالحرس [الشريفي]، فكان أن نسخ ذلك المشهد، الإنطباع السلبي الأول الذي انطبع عندي [قبل الصلاة]. كان هناك تناغم هذه المرة، في المشهد العام، المتصالح مع التاريخ والإطار العام للصورة. [كما لو أن العربات غير لائقة للمغاربة بالنسبة للكاتب، وأن ما يليق بهم هو الأحصنة والجياد!!. - م - ].
لم يكن السلطان مولاي الحسن [ الأول ]، يتجاوز 42 سنة من عمره حينها. له ملامح نبلاء وبنظرة حانية، بل تمة شئ غرائبي في نظرته، أشبه بوجل ما، مما يهبه ملامح آسرة. أما في ما يرتبط، بالطيبة والرجولة، فقد كان لا يعلى عليه، كما يؤكد كل الذين احتكوا به، مثل مواطننا، الملازم إيكرمان، الذي كان حينها المسؤول الأول عن بعثتنا العسكرية الفرنسية [بالمغرب]. ولو كانت بعض الرؤوس الملكية التي تحكم في أروبا، بوجوهها التي تبعث على القرف، واقفة جوار هذا السلطان لأحست بالخجل والإمتقاع. لقد كان مولاي الحسن يرتدي لباسا سلطانيا جميلا يليق بالنبلاء، مثل أسلافه، وكانت كل ملابسه بيضا، وعلى درجة عالية من التناسق والبساطة. وأكد لي الكثيرون، أنها أثواب تعدل ويعاد ترتيبها بعناية كل يوم. كان يلبس بلغة صفراء، وكانت تفوح منه رائحة عطر خفيفة وشفيفة، من شجر الصندل ومن ورد البرتقال الممزوج. مثلما أنه كان يضع خاتما واحدا فقط، به ماسة موضوعة على قطعة فضة، كان ذلك كل ما يضعه من جواهر. لقد ربي على الصرامة من قبل والده [ السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان - م - ]، الذي كان قد بعثه إلى زاوية «دار الشماعية» في طريق مراكش إلى آسفي. [ يقصد الكاتب هنا، مدرسة الأمراء الشهيرة تاريخيا بمنطقة الشماعية، ببلاد قبائل حمر، غير بعيد عن مدينة آسفي، التي لا تبعد عنها سوى ب 55 كلمترا. في تلك المدرسة كانت تتم تربيتهم على الفروسية وركوب الخيل وفنون الحرب، مثلما يربون على شظف العيش - م - ]. لقد تتلمذ على فقهاء مبرزين في علوم الدين، في تلك المنطقة النائية القاحلة، التي مياهها قليلة، ولا أثر فيها لشجر، وفلاحتها فقيرة جدا. هذا الأسلوب في التربية، كان يعني كل الأمراء، ولم يستثنى منه سوى مولاي عبد العزيز، فكانت النتيجة غير طيبة في ما يخصه. كان يرافق كل أمير عبد من سنه، لأن التقاليد الدينية [لاحظوا معي هذا التعبير غير الدقيق - م -] تقتضى أن يكون لكل مسلم صديق وفي.
عادة ما يبادر السلطان إلى التكفل بتزويج عدد من شباب عائلته الملكية. يقدم لهم هدايا عبارة عن أسلحة وألبسة عسكرية [أي أنه ينظر إليهم كمحاربين]. بينما العرائس تزين أرجلهن بالحناء، وخوفا من أن تفسد الحناء تلك بالمشي، فإنهن يحملن على ظهور الرجال. تكون كل ساكنة القصر حاضرة، ويطول الحفل بليل تحت أنوار المشاعل الموقدة. تكون الإحتفالية كبيرة والمدافع تطلق قدائفها فرحا واغتباطا. إن الطبيعة العائلية والديمقراطية للبلاط السلطاني تعلن عن نفسها مرارا. هكذا، فإن العديد من كبار رجال الدولة تكون أصولهم متواضعة. لقد تعرفنا، مثلا، على باشا فاس الجديد، الذي يضم القصور الملكية الشريفية، الحاج سعيد فرج، وهو ابن حلاق السلطان مولاي عبد الرحمان [جد الحسن الأول]. لقد كانت مهمته [الإدارية] من أكثر المهام أهمية في فاس، وذلك بفضل حيويته ووفائه الكبيرين. كان للسلطان مولاي الحسن، في سنوات حكمه الأولى، مرافق دائم ووفي. كان رجلا مسنا، نحيفا، لكنه بحيوية لافتة، وكان من أصول عادية جدا. كان الرجل نوعا من «جحا»، يضحك السلطان ويروح عنه. إسمه البقالي، وقد كانت الكثير من حكمه وأقواله وقفشاته تثير الضحك وتترك أثرا في سامعها.
كانت الحياة اليومية لمولاي الحسن منظمة ومضبوطة بشكل يومي، تبعا للتقاليد المرعية. يوم الجمعة، هو يوم الخروج للصلاة بالمسجد السلطاني، الذي يعتبر جزء من الإقامة الملكية [المشور]، سواء في فاس أو مكناس أو الرباط أو مراكش. يوم السبت، قبل أيام القيض الحارة، يخصص للتجوال مع الوزراء، ويكون الموكب مرافقا بفيلق من الخيالة. عادة ما يظل ناس المشور واقفين بالساعات يتأملون ذلك الموكب دون أن يتناولوا أي شئ، لأن التقاليد تلزم السلطان عدم تناول أي طعام أو أكل أمام العامة. بالتالي، على الباقين مسايرة ذلك التقليد السلطاني والإمتناع عن الأكل لساعات. يوم الأحد، مخصص للإجتماع مع الوزراء. يوم الإثنين، يخصص للتداريب العسكرية، التي يشرف السلطان، على حصص التصويب فيها بالبنادق والمدافع، بنفسه. يوم الثلاثاء، هو يوم نحس عند المغاربة، بالتالي فإنهم يبقون في منازلهم، مما يعتبر لحظة فرح للعاملين في البلاط السلطاني، لأنه يوم راحتهم. يوم الأربعاء يخصصه السلطان لمراقبة دخائر السلاح، ومالية الجند، مما كان يثير الرعب في المسؤولين عن تلك المهام. فيما يوم الخميس يخصص للحريم، الذي تؤخد نساؤه إلى الإستجمام بحدائق الأكدال، التي يضم مسبحها الكبير جدا قاربا بخاريا، بالمنارة في مراكش، حين يكون السلطان بها، أو في حدائق الرضوان بذات المدينة..
قرأت كثيرا عن مثل هذه الإحتفالية الكبرى، العجيبة والمثيرة. كل المخزن هنا، أي الحكومة والوزراء، وكبار الدولة، كلهم ركوب، بعضهم على الجياد وبعضهم على البغال. كنا ننتظر جلالة السلطان، وكان صف الجند المسلحين، مصطفا تبعا للتقنية المغربية المعتمدة. ثم خرج علينا جواد يجر عربة غريبة، من نوع ذوات النوابض الثمانية. [هنا سيبدأ الكاتب أسلوب كتابة، غريب، وغير مألوف فيه، هو الذي يصدر مبدئيا عن معرفة علمية رصينة. ففي هذا الأسلوب هنا للأسف الكثير من التعالي، الذي يترجم بعضا من المرجعية التي تحكم رؤيته للمغرب والمغاربة. بل إنه أسلوب متحامل واحتقاري، من خلال الصورة الكاريكاتورية التي ينقلها إلى القارئ الفرنسي، الذي يهمه بالدرجة الأولى، متناسيا أنه يكتب شهادة للتاريخ. - م - ] كان هناك عبدان أسودان، بطربوشيهما الهرميين الحمر، وهما يقودان الحصان من لجامه، دون اعتبار لشروط الإتيكيت، من وراء السلطان الجالس على كرسي العربة. كانت الأرضية غير المبلطة، تجعل جسم العربة يتمايل بقوة، مما جعل السلطان في وضع غير مريح، بل إنه كان في صورة غير لائقة. وفي خضم هذا المشهد الأشبه بسيرك، كان السلطان منزعجا. [الحقيقة أن العربة السلطانية هذه، هي عربة جميلة جدا، ولا تزال متواجدة في أعراف دار المخزن، إلى اليوم، حين يخرج الملك لأول صلاة جمعة بعد توليه الحكم، كما حدث مع جلالة الملك محمد السادس. وهي عربة ظلت دوما مزينة بطريقة ملكية مغربية صرفة. بحضور طاغ للونين الأحمر والأخضر، وستائرها من الساتان الحريري الأصفر المذهب، هو نفس لون كراسيها الداخلية. وتكون ذات بابين صغيرين على الجنبين بهما تخاريم ونقش سلطاني خاص على الخشب. تقودها أحصنة مطهمة. وهي تقليد سلطاني مغربي، يميز تاريخ الملكيات بالمغرب. علما أنها ذات مرجعيات متوسطية، حيث نجد نماذج مماثلة لها في تاريخ الإغريق والرومان والعثمانيين. ومهما كان، فهي ليست بكل هذا الوصف المتحامل لدولامارتينيير - م - ]. بعد الوصول إلى مسجد «لالة عودة»، المخصص للصلاة الشريفية، نزل السلطان من العربة، فتوقفت الفرقة الموسيقية، التي كانت تعزف لحنا أشبه بنوطة [أندلسية] إسبانية، عن العزف فجأة دون أن تكمل الجملة الموسيقية. بعد الإنتهاء من الصلاة، ظهر السلطان على حصانه، محاطا برجاله، ومحروسا من قبل عدد من الفرسان الخيالة، وفوق رأسه حملت مظلة كبيرة، وكذا عدد من العلامات السلطانية، متبوعا بالحرس [الشريفي]، فكان أن نسخ ذلك المشهد، الإنطباع السلبي الأول الذي انطبع عندي [قبل الصلاة]. كان هناك تناغم هذه المرة، في المشهد العام، المتصالح مع التاريخ والإطار العام للصورة. [كما لو أن العربات غير لائقة للمغاربة بالنسبة للكاتب، وأن ما يليق بهم هو الأحصنة والجياد!!. - م - ].
لم يكن السلطان مولاي الحسن [ الأول ]، يتجاوز 42 سنة من عمره حينها. له ملامح نبلاء وبنظرة حانية، بل تمة شئ غرائبي في نظرته، أشبه بوجل ما، مما يهبه ملامح آسرة. أما في ما يرتبط، بالطيبة والرجولة، فقد كان لا يعلى عليه، كما يؤكد كل الذين احتكوا به، مثل مواطننا، الملازم إيكرمان، الذي كان حينها المسؤول الأول عن بعثتنا العسكرية الفرنسية [بالمغرب]. ولو كانت بعض الرؤوس الملكية التي تحكم في أروبا، بوجوهها التي تبعث على القرف، واقفة جوار هذا السلطان لأحست بالخجل والإمتقاع. لقد كان مولاي الحسن يرتدي لباسا سلطانيا جميلا يليق بالنبلاء، مثل أسلافه، وكانت كل ملابسه بيضا، وعلى درجة عالية من التناسق والبساطة. وأكد لي الكثيرون، أنها أثواب تعدل ويعاد ترتيبها بعناية كل يوم. كان يلبس بلغة صفراء، وكانت تفوح منه رائحة عطر خفيفة وشفيفة، من شجر الصندل ومن ورد البرتقال الممزوج. مثلما أنه كان يضع خاتما واحدا فقط، به ماسة موضوعة على قطعة فضة، كان ذلك كل ما يضعه من جواهر. لقد ربي على الصرامة من قبل والده [ السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان - م - ]، الذي كان قد بعثه إلى زاوية «دار الشماعية» في طريق مراكش إلى آسفي. [ يقصد الكاتب هنا، مدرسة الأمراء الشهيرة تاريخيا بمنطقة الشماعية، ببلاد قبائل حمر، غير بعيد عن مدينة آسفي، التي لا تبعد عنها سوى ب 55 كلمترا. في تلك المدرسة كانت تتم تربيتهم على الفروسية وركوب الخيل وفنون الحرب، مثلما يربون على شظف العيش - م - ]. لقد تتلمذ على فقهاء مبرزين في علوم الدين، في تلك المنطقة النائية القاحلة، التي مياهها قليلة، ولا أثر فيها لشجر، وفلاحتها فقيرة جدا. هذا الأسلوب في التربية، كان يعني كل الأمراء، ولم يستثنى منه سوى مولاي عبد العزيز، فكانت النتيجة غير طيبة في ما يخصه. كان يرافق كل أمير عبد من سنه، لأن التقاليد الدينية [لاحظوا معي هذا التعبير غير الدقيق - م -] تقتضى أن يكون لكل مسلم صديق وفي.
عادة ما يبادر السلطان إلى التكفل بتزويج عدد من شباب عائلته الملكية. يقدم لهم هدايا عبارة عن أسلحة وألبسة عسكرية [أي أنه ينظر إليهم كمحاربين]. بينما العرائس تزين أرجلهن بالحناء، وخوفا من أن تفسد الحناء تلك بالمشي، فإنهن يحملن على ظهور الرجال. تكون كل ساكنة القصر حاضرة، ويطول الحفل بليل تحت أنوار المشاعل الموقدة. تكون الإحتفالية كبيرة والمدافع تطلق قدائفها فرحا واغتباطا. إن الطبيعة العائلية والديمقراطية للبلاط السلطاني تعلن عن نفسها مرارا. هكذا، فإن العديد من كبار رجال الدولة تكون أصولهم متواضعة. لقد تعرفنا، مثلا، على باشا فاس الجديد، الذي يضم القصور الملكية الشريفية، الحاج سعيد فرج، وهو ابن حلاق السلطان مولاي عبد الرحمان [جد الحسن الأول]. لقد كانت مهمته [الإدارية] من أكثر المهام أهمية في فاس، وذلك بفضل حيويته ووفائه الكبيرين. كان للسلطان مولاي الحسن، في سنوات حكمه الأولى، مرافق دائم ووفي. كان رجلا مسنا، نحيفا، لكنه بحيوية لافتة، وكان من أصول عادية جدا. كان الرجل نوعا من «جحا»، يضحك السلطان ويروح عنه. إسمه البقالي، وقد كانت الكثير من حكمه وأقواله وقفشاته تثير الضحك وتترك أثرا في سامعها.
كانت الحياة اليومية لمولاي الحسن منظمة ومضبوطة بشكل يومي، تبعا للتقاليد المرعية. يوم الجمعة، هو يوم الخروج للصلاة بالمسجد السلطاني، الذي يعتبر جزء من الإقامة الملكية [المشور]، سواء في فاس أو مكناس أو الرباط أو مراكش. يوم السبت، قبل أيام القيض الحارة، يخصص للتجوال مع الوزراء، ويكون الموكب مرافقا بفيلق من الخيالة. عادة ما يظل ناس المشور واقفين بالساعات يتأملون ذلك الموكب دون أن يتناولوا أي شئ، لأن التقاليد تلزم السلطان عدم تناول أي طعام أو أكل أمام العامة. بالتالي، على الباقين مسايرة ذلك التقليد السلطاني والإمتناع عن الأكل لساعات. يوم الأحد، مخصص للإجتماع مع الوزراء. يوم الإثنين، يخصص للتداريب العسكرية، التي يشرف السلطان، على حصص التصويب فيها بالبنادق والمدافع، بنفسه. يوم الثلاثاء، هو يوم نحس عند المغاربة، بالتالي فإنهم يبقون في منازلهم، مما يعتبر لحظة فرح للعاملين في البلاط السلطاني، لأنه يوم راحتهم. يوم الأربعاء يخصصه السلطان لمراقبة دخائر السلاح، ومالية الجند، مما كان يثير الرعب في المسؤولين عن تلك المهام. فيما يوم الخميس يخصص للحريم، الذي تؤخد نساؤه إلى الإستجمام بحدائق الأكدال، التي يضم مسبحها الكبير جدا قاربا بخاريا، بالمنارة في مراكش، حين يكون السلطان بها، أو في حدائق الرضوان بذات المدينة..
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
الديبلوماسية المغربية وغضبات الحسن الأول..
يكون السلطان [الحسن الأول] في العادة، رجلا هادئا، لطيفا جدا. وهذا ما ميز أغلب فترات حكمه [دام حكمه بين سنتي 1873 و 1894. - م - ]، لكنه يكون عنيفا جدا حين يتعلق الأمر بمحاولات المساس بسلطانه وحكمه. أحد إخوته، مولاي علي، وهو رجل ورع وبشخصية عادية، الذي كان يقيم في مراكش بالقصر المجاور للكتبية، والذي لا يزال يحمل اسمه، توفي فجأة مسموما حسب ما يشاع، بأمر من السلطة المركزية، لأن أحد المنجمين الفقهاء، قد بدأ يصيح فجأة، أثناء الصلاة بالمسجد، قائلا: «الله ينصر سيدنا مولاي علي»!!. [الموت مسموما، واقعة غير واردة في أي مصدر مغربي، في حدود علمي وبحثي الخاص. لكن القصر ذاك، ظل يحمل إلى اليوم إسم الرجل، ويعرف ب «دار مولاي علي». وهو القصر الذي حولته الإدارة الإستعمارية الفرنسية إلى مقر ممثل الإقامة العامة الفرنسية بالمغرب، الذي كان في بداية الخمسينات هو الجنرال دوتفيل، الذي قتلته المقاومة الوطنية بإشراف وتنفيذ من الشهيد حمان الفطواكي، كما أكد لي الراحل محمد الفقيه البصري في شهادة مسجلة. وظلت تلك الإقامة الكبيرة جدا، لسنوات تعرف عن العامة في مراكش باسم «دار الجنرال». بعد الإستقلال، سيتحول ذلك القصر إلى مقر القنصلية العامة الفرنسية بمراكش، وبعد مفاوضات عسيرة وشاقة، امتدت لسنوات، بين الدولة المغربية والحكومة الفرنسية، تمت استعادة البناية منذ سنتين فقط، أثناء زيارة الرئيس الفرنسي الحالي نيكولا ساركوزي إلى المغرب، حيث تقرر نقل القنصلية العامة الفرنسية إلى شارع محمد السادس بمراكش. وهناك حديث عن قرار بتحويل ذلك القصر إلى متحف كبير بالمدينة الحمراء لكبره وموقعه الإستراتيجي بوسط المدينة، قريبا من مسجد الكتبية. - م - ].
هناك أيضا، أمثلة أخرى، عن ردود السلطان العنيفة. والظاهر أن مزاجه قد تغير في سنوات حكمه الأخيرة، وأنه أصبح مزاجا متعكرا وعصبيا. لقد كانت مشاكل السياسة الخارجية للدولة ومنافحات عدد من القوى الدولية لمشاريعه السياسية، قد جعلته قلقا ومتوترا، علما أنه كان يعاني حينها من مشاكل في الكبد. كان حينها حذرا جدا، ولا يتنازل قط عن كرامته. لقد كان من الخطأ الإلحاح عليه كثيرا أو محاولة تهديده. وإذا ما نجحت في إكراهه على موقف لا يريده، فإنه يضمر لك غضبا، بل إنك تفقد ثقته واحترامه إلى الأبد، ولن تصل معه قط لحل أي مشكل بعد ذلك. كان هناك عدد من الديبلوماسيين الأجانب، قليلي الخبرة أو من الذين قدمت لهم نصائح وتوجيهات مغلوطة، قد حاولوا مساومته، فاكتشفوا بعد ذلك أن الرجل لا ينسى الإساءة قط، وأنه يردها مضاعفة. هكذا، سيكون من الخطل محاولة استغلال استعراض العضلات العسكرية البحرية أثناء التفاوض معه، فالنتيجة تكون عكسية عن المتوقع والمرغوب. هناك حكاية عن محاولة قوة أجنبية حل مشكل عالق باستعراض للقوة، حيث إن ممثليها حين توجهوا للتفاوض مع السلطان، كانت واحدة من أحدث سفنهم الحربية الضخمة ترسو قبالة طنجة، في محاولة للتأثير على نفسيته ومزاجه وموقفه. من سوء حظ تلك الدولة أن بعضا من الممثليات الأجنبية قد قدموا معلومات ونصائح دقيقة للسلطان، مما جعله يصدر أمرا بانتظار جوابه إلى طنجة، وهو الإنتظار الذي طال، مما أطال أمد رسو تلك السفينة، الأمر الذي جعل قائدها في حالة غضب وحيرة. ولأن الأمر أصبح بلا معنى، فإن السلطان جدد قراره بالتفكير جديا في حل، وأنه سيبلغ به الجهة المعنية، مما دفع قائد تلك السفينة إلى أن يغادر المياه المغربية ويحرر سفينته من العطالة بفرح.
من الأخطاء التي كان يروج لها، أيضا، أن مولاي الحسن لا يتجاوب مع مبادئ العدل والحق. بل بالعكس، إن طلبا مصاغا بدقة واحترافية، متأسسا على دراسة وواضحا في العرض، يجعله يتجاوب ويستجيب بسرعة لذلك الطلب. لكن، المشكل كان في أن أغلب الملفات تحل بالمراسلة. فتبعا لتقليد قديم، كان يثير حنق وغضب ويأس الممثليات الأجنبية بطنجة، فإنه يحدث أن يقرر وزراء البلاط تقديم الرسائل الواردة من تلك الممثليات، بشكل تفضيلي، مما كان يثير الحزازات بينها. في بداية عهده، كان مولاى الحسن يتفادى إثارة المشاكل مع الخارج، فطبعه المتسامح والطيب، كان يجعله لا يتردد في قبول أغلب الطلبات الأجنبية المقدمة إليه، حتى تلك التي تكون غير عادلة. وحين يتم البحث بعد ذلك والتأكد من أن تلاعبا ما كان في الأمر، فإن التفاوض يصبح أكثر رسمية، ولإنهاء المعاملة، يكون إلزاميا الإتيان بالواجب من وثائق ولغة تحرير للعقود. حين تكون في البلاط، الأفضل لك أن لا تعلن عن كل فكرتك ومقصدك، وأنه عليك إلزاما تهيئ الجو من خلال محيط السلطان، من بين مستشاريه. وللنجاح في ذلك، لابد من امتلاك تجربة محلية تتماشى والأعراف الديبلوماسية المغربية الخاصة، حيث يتم تمرير المعلومة قطرة قطرة، وأن لا تخطئ مفاتيح التأثير في القرار. وهو الأمر الذي لا تحوزه أغلب الممثليات والسفارات الأجنبية بالمغرب. في ما قبل، كان يقال إن كل طلب في هذا البلد يأخد شكل ملتمس نهائي ( الجزء الخاص من أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية الصادر من طنجة سنة 1858 المرسل من قبل القنصل العام دوكاستين دو سانت فيكتور - رسالة سرية - ). لكننا نسجل أن الأمر لم يعد كذلك، في عهد مولاي الحسن. لقد تطور أسلوب التعامل الشريفي في المغرب، وهذا لا يلغي وجود بعض النيات السيئة في الآلية المخزنية. وذلك إنما يترجم نوعا من محاولة إخفاء الضعف أكثر منه محاولة نفاق أو قصور ذاتي. إن الحكومة المغربية تعرف ثمن ذلك، فهي تفضل عدم الإعتراف بالضعف، خوفا من النتائج المترتبة على ذلك عند الآخرين، حتى وإن كانت تعترف إلى حد ما بالنتائج السلبية لذلك. لقد كنت شاهدا أكثر من مرة، على منطق المغاربة هذا، لكن ذلك كله كان محتكما إلى منطق ميزان القوى.
هناك أيضا، أمثلة أخرى، عن ردود السلطان العنيفة. والظاهر أن مزاجه قد تغير في سنوات حكمه الأخيرة، وأنه أصبح مزاجا متعكرا وعصبيا. لقد كانت مشاكل السياسة الخارجية للدولة ومنافحات عدد من القوى الدولية لمشاريعه السياسية، قد جعلته قلقا ومتوترا، علما أنه كان يعاني حينها من مشاكل في الكبد. كان حينها حذرا جدا، ولا يتنازل قط عن كرامته. لقد كان من الخطأ الإلحاح عليه كثيرا أو محاولة تهديده. وإذا ما نجحت في إكراهه على موقف لا يريده، فإنه يضمر لك غضبا، بل إنك تفقد ثقته واحترامه إلى الأبد، ولن تصل معه قط لحل أي مشكل بعد ذلك. كان هناك عدد من الديبلوماسيين الأجانب، قليلي الخبرة أو من الذين قدمت لهم نصائح وتوجيهات مغلوطة، قد حاولوا مساومته، فاكتشفوا بعد ذلك أن الرجل لا ينسى الإساءة قط، وأنه يردها مضاعفة. هكذا، سيكون من الخطل محاولة استغلال استعراض العضلات العسكرية البحرية أثناء التفاوض معه، فالنتيجة تكون عكسية عن المتوقع والمرغوب. هناك حكاية عن محاولة قوة أجنبية حل مشكل عالق باستعراض للقوة، حيث إن ممثليها حين توجهوا للتفاوض مع السلطان، كانت واحدة من أحدث سفنهم الحربية الضخمة ترسو قبالة طنجة، في محاولة للتأثير على نفسيته ومزاجه وموقفه. من سوء حظ تلك الدولة أن بعضا من الممثليات الأجنبية قد قدموا معلومات ونصائح دقيقة للسلطان، مما جعله يصدر أمرا بانتظار جوابه إلى طنجة، وهو الإنتظار الذي طال، مما أطال أمد رسو تلك السفينة، الأمر الذي جعل قائدها في حالة غضب وحيرة. ولأن الأمر أصبح بلا معنى، فإن السلطان جدد قراره بالتفكير جديا في حل، وأنه سيبلغ به الجهة المعنية، مما دفع قائد تلك السفينة إلى أن يغادر المياه المغربية ويحرر سفينته من العطالة بفرح.
من الأخطاء التي كان يروج لها، أيضا، أن مولاي الحسن لا يتجاوب مع مبادئ العدل والحق. بل بالعكس، إن طلبا مصاغا بدقة واحترافية، متأسسا على دراسة وواضحا في العرض، يجعله يتجاوب ويستجيب بسرعة لذلك الطلب. لكن، المشكل كان في أن أغلب الملفات تحل بالمراسلة. فتبعا لتقليد قديم، كان يثير حنق وغضب ويأس الممثليات الأجنبية بطنجة، فإنه يحدث أن يقرر وزراء البلاط تقديم الرسائل الواردة من تلك الممثليات، بشكل تفضيلي، مما كان يثير الحزازات بينها. في بداية عهده، كان مولاى الحسن يتفادى إثارة المشاكل مع الخارج، فطبعه المتسامح والطيب، كان يجعله لا يتردد في قبول أغلب الطلبات الأجنبية المقدمة إليه، حتى تلك التي تكون غير عادلة. وحين يتم البحث بعد ذلك والتأكد من أن تلاعبا ما كان في الأمر، فإن التفاوض يصبح أكثر رسمية، ولإنهاء المعاملة، يكون إلزاميا الإتيان بالواجب من وثائق ولغة تحرير للعقود. حين تكون في البلاط، الأفضل لك أن لا تعلن عن كل فكرتك ومقصدك، وأنه عليك إلزاما تهيئ الجو من خلال محيط السلطان، من بين مستشاريه. وللنجاح في ذلك، لابد من امتلاك تجربة محلية تتماشى والأعراف الديبلوماسية المغربية الخاصة، حيث يتم تمرير المعلومة قطرة قطرة، وأن لا تخطئ مفاتيح التأثير في القرار. وهو الأمر الذي لا تحوزه أغلب الممثليات والسفارات الأجنبية بالمغرب. في ما قبل، كان يقال إن كل طلب في هذا البلد يأخد شكل ملتمس نهائي ( الجزء الخاص من أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية الصادر من طنجة سنة 1858 المرسل من قبل القنصل العام دوكاستين دو سانت فيكتور - رسالة سرية - ). لكننا نسجل أن الأمر لم يعد كذلك، في عهد مولاي الحسن. لقد تطور أسلوب التعامل الشريفي في المغرب، وهذا لا يلغي وجود بعض النيات السيئة في الآلية المخزنية. وذلك إنما يترجم نوعا من محاولة إخفاء الضعف أكثر منه محاولة نفاق أو قصور ذاتي. إن الحكومة المغربية تعرف ثمن ذلك، فهي تفضل عدم الإعتراف بالضعف، خوفا من النتائج المترتبة على ذلك عند الآخرين، حتى وإن كانت تعترف إلى حد ما بالنتائج السلبية لذلك. لقد كنت شاهدا أكثر من مرة، على منطق المغاربة هذا، لكن ذلك كله كان محتكما إلى منطق ميزان القوى.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
الضغط على السلطان الحسن الأول لتغيير سياسته الخارجية!!
نقدم هنا، بعضا من الأمثلة التقريبية، عن الشكل الذي يتم به تقديم الطلبات وعقد الإتفاقيات، وحل المشاكل الطارئة مع المخزن. كان هناك تاجر أروبي أرسل بعضا من بضاعته إلى داخل المغرب، فأخبر أنه قد تم التعرض لها في الطريق وأنها سرقت. فما كان منه إلا أن اتصل بقنصل بلده، الذي توجه للقاء الباشا، فوعده هذا الأخير خيرا، وأنه سيحل المشكلة. فعلا، قام الباشا ببعث فارس من فرسانه لتقصي الحقيقة في البلاد التي وقعت بها السرقة. تأخر الفارس في بحثه الذي طال. هل لأن أهل تلك البلاد قد نفحوه الكثير من الهدايا حتى لا يقدم تقريرا يجرمهم؟!.. علما أنه قد حرص على لقاء التاجر الأروبي قبل قيامه بمهمته الرسمية وطلب منه نقودا تساعده على القيام بها كما يجب. لم يكن صعبا أن يجد السارق والمسروق، لكن العادة كانت أن يتم التفاوض معه من قبلهم، وأن يشتروا صمته. بعد عودته، يقدم تقريره لمن بعثه ويقتسم معه الأعطيات. هذا الأخير، يظل يماطل التاجر، ويواصل القسم أمامه بتواتر، أنهم يبحثون ولم يجدوا شيئا بعد.
حين يصل الخبر إلى القنصل، فإنه يغضب كثيرا، ولأنه لا يملك دليلا على أن السلطة لم تقم بشئ، فإنه لا يجد من رد غير أن يتصل بالممثلية العامة لبلده بطنجة [أي السفارة، لأن كل السفارات الأجنبية بالمغرب كان مقرها الرئيسي بطنجة، بسبب موقعها الجغرافي الحاسم، القريب من أروبا. وأيضا لسهولة حماية تلك السفارات بسرعة بتلك المدينة الإستراتيجية عند مضيق جبل طارق. - م - ]. النتيجة، هي أنهم، إنما يقومون بإحصاء عدد المرات التي ذهبوا فيها لزيارة الباشا بدون فائدة، وقد يبادر التاجر إلى المغامرة بمحاولة الإتصال بالبلاط، لكنه يعود دوما خاوي الوفاض، لأن شروط العمل هناك خاصة. إنه يظل ينفح المال هنا وهناك، ويقيم في حي الذهب، ويسلمه وسيط لوسيط، ليجد نفسه في مواجهة حكومة يتحكم فيها بعض الوجهاء، الذين لا مجال للتوصل معه إلى نتيجة مفيدة. بل إنه حين يتمكن من ولوج المشور، فإنه ينبهر بالوزراء، خاصة بعد أن يتم استقباله بشكل لائق تبعا لمكانته التجارية، وبفضل الهدايا التي يحمل معه. ومع توالي الزيارات، يكتشف أنه في دوامة. وأسبوعا بعد آخر، فإنه ينتهي بالتخلي عن حاجته ومطلبه، ليغادر نهائيا إلى بلده. وقبل المغادرة، فإنه عادة ما يبعث رسالة احتجاج يائسة إلى سفارة بلده، التي إذا ما كانت تدار من قبل وزير متمكن من فهم واستيعاب دواليب القرار بالمغرب، فإنه يشرع في فتح تحقيق في القضية من بدايتها، ويحرر رسالة إلى الحكومة الشريفية لطلب لقاء رسمي.
تضاف رسالة التاجر الإحتجاجية، إلى قضايا أخرى سابقة، فيقرر السفير، السفر إلى البلاط، بعد تحديد الموعد من الحكومة، لحل كل المشاكل والقضايا دفعة واحدة. عادة، تكون تلك القضايا والملفات ترواح مكانها لسنوات. وكثيرا ما يجد سفير جديد بطنجة، ملفات متراكمة من هذا النوع لم يفلح زميله الذي كان قبله في حلها. الأمر الذي يجعله يبدل مجهودا مضنيا، من أجل حل مشاكل أحيانا تافهة. كان الجميع يحاول عدم التشكيك أو الإتهام في ذمة الإدارة، إلا بعض من الديبلوماسيين الذين يمتلكون الجرأة لذلك، هم الذين لا يستوعبون طبيعة المناخ العام للعلاقات في البلد، والذي يتطلب منهم وقتا وصبرا.
كان السلطان مولاي الحسن [الأول]، قد واجه ضغوطا كبيرة من المؤسسات التجارية الأجنبية، لم يفلح دوما في صدها. كانت الممثليات الديبلوماسية قد نسقت واتفقت بينها، في ما يخص حرية استيراد القمح والبهائم، التي كانت محددة من قبل، ولا يسمح باستيراد إلا الكمية التي يسمح بها السلطان. قبل تقديمه جوابا، يستدعي مولاي الحسن مستشاريه وفقهاءه القانونيين والدينيين. ويجمعون كلهم أن المطالب التي تقدم بها المسيحيون ستكون مضرة، لأنها لن تفيد الناس، بل ستساهم في الغلاء وتفقير الشعب. لكن، الجسم الديبلوماسي الأجنبي، الذي لا تقنعه ملاحظات أولئك الخبراء الإقتصاديين التبسيطية، يعود إلى ممارسة ضغطه من جديد، مما يحمل السلطان الذي اقتنع بحججهم على السماح بذلك فقط لثلاث سنوات، دون أن يغفل واجب إصدار بلاغ توضيحي يشرح فيه حيثيات قراره لرعاياه كبيرهم وصغيرهم. لقد دام رفضه قبل الموافقة سنوات عدة، بسبب أنه كان ملتزما بالنص الديني الذي يلزمه بحماية الجماعة. مرة أخرى، كانت الديبلوماسية الشريفية قد ركزت مرجعيتها على الموروث التقليداني. إذا ما تأملنا الأمر من هذه الزاوية الفكرية الفلسفية، فإن تلك السياسة كانت مثيرة ومغرية، لأنها لم تكن في تعارض مع الوصايا الدينية. إن تحجيم حاجيات الناس، يقودنا إلى مصالحتهم مع الحياة البسيطة ومع الرضى عنها، بما يتوافق والنصيحة الدينية لعدم التبذير والبدخ. لكن، المثير، هو أن الفقهاء الذين يقدمون هذا التبرير، هم آخر من يلتزم به [في حياتهم اليومية].
الخلاصة، هي أن رفض ومواجهة توجهاتنا الحضارية الغربية، هي في المغرب الأقوى من أي مكان آخر [بالعالم العربي الإسلامي]. لكن، الملاحظ، أن حيوية المغاربة، وأساسا الشعب، لحسن استغلال ثروات بلادهم بشكل أفضل، يبرز أن ذلك التوجه الفكرى [المحافظ] لا يتساوق وحقيقة طموحات العامة. [ نحن، هنا، إزاء خلاصة مركزية هامة من قبل الكاتب، تبرز أن تمة أزمة بين النخبة وأفراد المجتمع المغربي آنذاك في نهاية القرن 19. وهي خلاصة تغري كثيرا بالتأمل وتدعونا إلى ممارسة تحليل مؤسساتي علمي رصين ينير حقيقة التحولات التي نعيشها كمغاربة منذ أكثر من قرن ونصف القرن، للمصالحة من أسباب التنمية الحديثة. أليس ذلك نفسه ما حدث في اليابان، مع فارق تاريخي حاسم، هو أن أغلبية النخبة هناك كانت في تصالح مع الطموح العام للمجتمع بشرائحه المتعددة، فأعطى ما أعطى من نتائج باهرة تبز العالم كله اليوم. للأسف «ميجي» الإمبراطور العظيم، لم تمنح الظروف مثله للمغرب - م - ].
مهما كان، فإن مولاي الحسن [الأول] كان سلطانا عظيما. بل إنه الأهم مع السلطان مولاي اسماعيل ضمن العائلة العلوية، الذي عايش الملك لويس 14، ثم السلطان سيدي محمد بن عبد الله الذي حكم في نهاية القرن 18. ثم إن والده [يقصد مولاي الحسن ]، السلطان سيدي محمد [بن عبد الرحمان]، الذي عايش معركة إيسلي [يوم 14 غشت من سنة 1844]، ثم بعدها نتائج حرب تطوان [سنة 1860]، لم يترك له غير القليل من المجد. وعلى العكس من ذلك، فإن مولاي الحسن كان محاربا مجربا وشجاعته لا يعلى عليها. وكان من ميزاته الحلم ساعة الغضب، والتروي في أكثر لحظات الأزمات اشتدادا. [الحقيقة، أنه حتى السلطانان سيدي عبد الرحمان وسيدي محمد بن عبد الرحمان، أي جد ووالد السلطان مولاي الحسن الأول، قد كانا سلطانين كبيرين وهامين. فقد عملا على محاولة تتمة المشروع الإصلاحي للدولة المغربية، بما توفر لهم من نخبة وإمكانيات مناورة، الذي دشن مع السلطان سيدي محمد بن عبد الله في القرن 18. والكاتب هنا، حين يحاول تبخيسهما حقهما في الحقيقة التاريخية، فلأن السبب، كونهما واجها عسكريا وماديا الوجود الفرنسي بشمال إفريقيا، من خلال الدخول في معركة إيسلي التي أمر بها السلطان سيدي عبد الرحمان وقاد جيشها المغربي ابنه السلطان سيدي محمد، ثم الدعم الرسمي المغربي في عهدهما، المتواصل، للأمير عبد القادر الجزائري، وفتح الباب لاستقرار الآلاف من الجزائريين بالمغرب هربا من البطش الفرنسي. بل إن قبائل جزائرية بكاملها رحلت إلى المغرب واستقرت في الشمال المغربي، مثل قبيلة المليانيين بين فاس وتازة. وهناك عائلات عديدة أخرى استقرت بوجدة وتطوان وفاس. بالتالي فإن تحامل الكاتب عليهما يحركه هذا الموروث من الماقف من قبلهما تجاه باريس ومخططاتها التوسعية الإستعمارية بشمال إفريقيا - م - ].
دون أن يكون ذلك السلطان الذي حلم به مستشار جده محمد الشريف، والذي يقول ب « ضرورة ربط قوته بوضع أوتاد قصره على الهيبة» ، فإن السلطان مولاي الحسن قد عزز من سلطة المخزن في داخل بلده. والرحلات التي قام بها كل سنة إلى مختلف المناطق تبرز ذلك، والتي لا علاقة لها بشحوب دور عبد العزيز أو عنف عبد الحفيظ. [ هكذا كتب الكاتب أسماءهما، بدون كلمات الإحترام الواجبة لمكانتهما الشريفية، التي بالعادة تكون: «مولاي عبد العزيز، ومولاي عبد الحفيظ». والسلطانان معا كانا ضد نفوذ مصالح فرنسا في المغرب، وحاولا إقامة التوازن عبر تعزيز العلاقة مع الإنجليز والألمان، لكن ميزان القوى الدولية في أروبا كان قد حدد الخرائط بعد مؤتمر الجزيرة الخضراء حول القضية المغربية سنة 1906 . بالتالي، علينا عدم إغفال أن الكاتب كتب ما كتبه من موقع المنتصر، فقد كانت فرنسا قد احتلت المغرب حين أصدر كتابه هذا كاملا سنة 1918. - م - ]. وفي أمور العلاقات الدولية، كان لمولاي الحسن [الأول] الكثير من المواقف الحاسمة، مثل ما حدث خلال سفارة الوزير البريطاني لفاس «السير إيان سميث»، فقد أبان السلطان عن حصافة وهدوء وشجاعة كانت جد مفيدة. لكنه، كان أقل هدوءا في ما حاوله بالصحراء، لكنه توفي قبل أن يجد حلا لذلك. ( ترك السلطان مولاي الحسن أخا شقيقا له، يشبهه تماما في الملامح، إسمه مولاي جعفر. وهو رجل متدين، وورع ومتواضع، يقيم بمراكش، حيث يتقاضى راتبا من دار المخزن في عهد السلطان الحالي مولاي يوسف ). [ هذا الهامش كتبه الكاتب، دون أن يعرف سبب نزوله وإضافته!!. - م - ].
حين يصل الخبر إلى القنصل، فإنه يغضب كثيرا، ولأنه لا يملك دليلا على أن السلطة لم تقم بشئ، فإنه لا يجد من رد غير أن يتصل بالممثلية العامة لبلده بطنجة [أي السفارة، لأن كل السفارات الأجنبية بالمغرب كان مقرها الرئيسي بطنجة، بسبب موقعها الجغرافي الحاسم، القريب من أروبا. وأيضا لسهولة حماية تلك السفارات بسرعة بتلك المدينة الإستراتيجية عند مضيق جبل طارق. - م - ]. النتيجة، هي أنهم، إنما يقومون بإحصاء عدد المرات التي ذهبوا فيها لزيارة الباشا بدون فائدة، وقد يبادر التاجر إلى المغامرة بمحاولة الإتصال بالبلاط، لكنه يعود دوما خاوي الوفاض، لأن شروط العمل هناك خاصة. إنه يظل ينفح المال هنا وهناك، ويقيم في حي الذهب، ويسلمه وسيط لوسيط، ليجد نفسه في مواجهة حكومة يتحكم فيها بعض الوجهاء، الذين لا مجال للتوصل معه إلى نتيجة مفيدة. بل إنه حين يتمكن من ولوج المشور، فإنه ينبهر بالوزراء، خاصة بعد أن يتم استقباله بشكل لائق تبعا لمكانته التجارية، وبفضل الهدايا التي يحمل معه. ومع توالي الزيارات، يكتشف أنه في دوامة. وأسبوعا بعد آخر، فإنه ينتهي بالتخلي عن حاجته ومطلبه، ليغادر نهائيا إلى بلده. وقبل المغادرة، فإنه عادة ما يبعث رسالة احتجاج يائسة إلى سفارة بلده، التي إذا ما كانت تدار من قبل وزير متمكن من فهم واستيعاب دواليب القرار بالمغرب، فإنه يشرع في فتح تحقيق في القضية من بدايتها، ويحرر رسالة إلى الحكومة الشريفية لطلب لقاء رسمي.
تضاف رسالة التاجر الإحتجاجية، إلى قضايا أخرى سابقة، فيقرر السفير، السفر إلى البلاط، بعد تحديد الموعد من الحكومة، لحل كل المشاكل والقضايا دفعة واحدة. عادة، تكون تلك القضايا والملفات ترواح مكانها لسنوات. وكثيرا ما يجد سفير جديد بطنجة، ملفات متراكمة من هذا النوع لم يفلح زميله الذي كان قبله في حلها. الأمر الذي يجعله يبدل مجهودا مضنيا، من أجل حل مشاكل أحيانا تافهة. كان الجميع يحاول عدم التشكيك أو الإتهام في ذمة الإدارة، إلا بعض من الديبلوماسيين الذين يمتلكون الجرأة لذلك، هم الذين لا يستوعبون طبيعة المناخ العام للعلاقات في البلد، والذي يتطلب منهم وقتا وصبرا.
كان السلطان مولاي الحسن [الأول]، قد واجه ضغوطا كبيرة من المؤسسات التجارية الأجنبية، لم يفلح دوما في صدها. كانت الممثليات الديبلوماسية قد نسقت واتفقت بينها، في ما يخص حرية استيراد القمح والبهائم، التي كانت محددة من قبل، ولا يسمح باستيراد إلا الكمية التي يسمح بها السلطان. قبل تقديمه جوابا، يستدعي مولاي الحسن مستشاريه وفقهاءه القانونيين والدينيين. ويجمعون كلهم أن المطالب التي تقدم بها المسيحيون ستكون مضرة، لأنها لن تفيد الناس، بل ستساهم في الغلاء وتفقير الشعب. لكن، الجسم الديبلوماسي الأجنبي، الذي لا تقنعه ملاحظات أولئك الخبراء الإقتصاديين التبسيطية، يعود إلى ممارسة ضغطه من جديد، مما يحمل السلطان الذي اقتنع بحججهم على السماح بذلك فقط لثلاث سنوات، دون أن يغفل واجب إصدار بلاغ توضيحي يشرح فيه حيثيات قراره لرعاياه كبيرهم وصغيرهم. لقد دام رفضه قبل الموافقة سنوات عدة، بسبب أنه كان ملتزما بالنص الديني الذي يلزمه بحماية الجماعة. مرة أخرى، كانت الديبلوماسية الشريفية قد ركزت مرجعيتها على الموروث التقليداني. إذا ما تأملنا الأمر من هذه الزاوية الفكرية الفلسفية، فإن تلك السياسة كانت مثيرة ومغرية، لأنها لم تكن في تعارض مع الوصايا الدينية. إن تحجيم حاجيات الناس، يقودنا إلى مصالحتهم مع الحياة البسيطة ومع الرضى عنها، بما يتوافق والنصيحة الدينية لعدم التبذير والبدخ. لكن، المثير، هو أن الفقهاء الذين يقدمون هذا التبرير، هم آخر من يلتزم به [في حياتهم اليومية].
الخلاصة، هي أن رفض ومواجهة توجهاتنا الحضارية الغربية، هي في المغرب الأقوى من أي مكان آخر [بالعالم العربي الإسلامي]. لكن، الملاحظ، أن حيوية المغاربة، وأساسا الشعب، لحسن استغلال ثروات بلادهم بشكل أفضل، يبرز أن ذلك التوجه الفكرى [المحافظ] لا يتساوق وحقيقة طموحات العامة. [ نحن، هنا، إزاء خلاصة مركزية هامة من قبل الكاتب، تبرز أن تمة أزمة بين النخبة وأفراد المجتمع المغربي آنذاك في نهاية القرن 19. وهي خلاصة تغري كثيرا بالتأمل وتدعونا إلى ممارسة تحليل مؤسساتي علمي رصين ينير حقيقة التحولات التي نعيشها كمغاربة منذ أكثر من قرن ونصف القرن، للمصالحة من أسباب التنمية الحديثة. أليس ذلك نفسه ما حدث في اليابان، مع فارق تاريخي حاسم، هو أن أغلبية النخبة هناك كانت في تصالح مع الطموح العام للمجتمع بشرائحه المتعددة، فأعطى ما أعطى من نتائج باهرة تبز العالم كله اليوم. للأسف «ميجي» الإمبراطور العظيم، لم تمنح الظروف مثله للمغرب - م - ].
مهما كان، فإن مولاي الحسن [الأول] كان سلطانا عظيما. بل إنه الأهم مع السلطان مولاي اسماعيل ضمن العائلة العلوية، الذي عايش الملك لويس 14، ثم السلطان سيدي محمد بن عبد الله الذي حكم في نهاية القرن 18. ثم إن والده [يقصد مولاي الحسن ]، السلطان سيدي محمد [بن عبد الرحمان]، الذي عايش معركة إيسلي [يوم 14 غشت من سنة 1844]، ثم بعدها نتائج حرب تطوان [سنة 1860]، لم يترك له غير القليل من المجد. وعلى العكس من ذلك، فإن مولاي الحسن كان محاربا مجربا وشجاعته لا يعلى عليها. وكان من ميزاته الحلم ساعة الغضب، والتروي في أكثر لحظات الأزمات اشتدادا. [الحقيقة، أنه حتى السلطانان سيدي عبد الرحمان وسيدي محمد بن عبد الرحمان، أي جد ووالد السلطان مولاي الحسن الأول، قد كانا سلطانين كبيرين وهامين. فقد عملا على محاولة تتمة المشروع الإصلاحي للدولة المغربية، بما توفر لهم من نخبة وإمكانيات مناورة، الذي دشن مع السلطان سيدي محمد بن عبد الله في القرن 18. والكاتب هنا، حين يحاول تبخيسهما حقهما في الحقيقة التاريخية، فلأن السبب، كونهما واجها عسكريا وماديا الوجود الفرنسي بشمال إفريقيا، من خلال الدخول في معركة إيسلي التي أمر بها السلطان سيدي عبد الرحمان وقاد جيشها المغربي ابنه السلطان سيدي محمد، ثم الدعم الرسمي المغربي في عهدهما، المتواصل، للأمير عبد القادر الجزائري، وفتح الباب لاستقرار الآلاف من الجزائريين بالمغرب هربا من البطش الفرنسي. بل إن قبائل جزائرية بكاملها رحلت إلى المغرب واستقرت في الشمال المغربي، مثل قبيلة المليانيين بين فاس وتازة. وهناك عائلات عديدة أخرى استقرت بوجدة وتطوان وفاس. بالتالي فإن تحامل الكاتب عليهما يحركه هذا الموروث من الماقف من قبلهما تجاه باريس ومخططاتها التوسعية الإستعمارية بشمال إفريقيا - م - ].
دون أن يكون ذلك السلطان الذي حلم به مستشار جده محمد الشريف، والذي يقول ب « ضرورة ربط قوته بوضع أوتاد قصره على الهيبة» ، فإن السلطان مولاي الحسن قد عزز من سلطة المخزن في داخل بلده. والرحلات التي قام بها كل سنة إلى مختلف المناطق تبرز ذلك، والتي لا علاقة لها بشحوب دور عبد العزيز أو عنف عبد الحفيظ. [ هكذا كتب الكاتب أسماءهما، بدون كلمات الإحترام الواجبة لمكانتهما الشريفية، التي بالعادة تكون: «مولاي عبد العزيز، ومولاي عبد الحفيظ». والسلطانان معا كانا ضد نفوذ مصالح فرنسا في المغرب، وحاولا إقامة التوازن عبر تعزيز العلاقة مع الإنجليز والألمان، لكن ميزان القوى الدولية في أروبا كان قد حدد الخرائط بعد مؤتمر الجزيرة الخضراء حول القضية المغربية سنة 1906 . بالتالي، علينا عدم إغفال أن الكاتب كتب ما كتبه من موقع المنتصر، فقد كانت فرنسا قد احتلت المغرب حين أصدر كتابه هذا كاملا سنة 1918. - م - ]. وفي أمور العلاقات الدولية، كان لمولاي الحسن [الأول] الكثير من المواقف الحاسمة، مثل ما حدث خلال سفارة الوزير البريطاني لفاس «السير إيان سميث»، فقد أبان السلطان عن حصافة وهدوء وشجاعة كانت جد مفيدة. لكنه، كان أقل هدوءا في ما حاوله بالصحراء، لكنه توفي قبل أن يجد حلا لذلك. ( ترك السلطان مولاي الحسن أخا شقيقا له، يشبهه تماما في الملامح، إسمه مولاي جعفر. وهو رجل متدين، وورع ومتواضع، يقيم بمراكش، حيث يتقاضى راتبا من دار المخزن في عهد السلطان الحالي مولاي يوسف ). [ هذا الهامش كتبه الكاتب، دون أن يعرف سبب نزوله وإضافته!!. - م - ].
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
لماذا تحامل المؤرخون الفرنسيون على مولاي عبد العزيز؟!
في شهر يونيو من
سنة 1894، توفي السلطان مولاي الحسن [الأول]، وهو يقوم بجولة من جولاته
المعتادة بمختلف مناطق المغرب، كل عام. سيتم إعلان إبنه عبد العزيز، البالغ
14 عاما سلطانا من قبل البلاط. وحتى إن كان معروفا أنه المفضل لدى والده،
فإن في اختياره تبرز حسابات القصور، وأن هناك جهة خارجية كانت تسعى للتحكم
فيه كما شاءت. [عجيب هذا الإتهام من دولامارتينيير. فلو كان الأمر يتعلق
بفرنسا، وبكون باريس هي التي تخطط لذلك لما كان قد نبس ببنت شفة. ولأن
الأمير مولاي عبد العزيز، كان ميالا للإنجليز والألمان، بتأثير من والدته
التركية «لالة رقية»، فإن موقف باريس منه قد ظل دوما سلبيا، بل إنها لعبت
دورا حاسما في الإساءة لصورته في كل كتاباتها التاريخية، وألبت عليه مختلف
القوى الداخلية التقليدية بالمغرب، ونجحت في الإطاحة به وفي إضعافه ثم
مواجهة شقيقه مولاي حفيظ لإخضاعه لتوقيع وثيقة الحماية. وتفاصيل التاريخ
يكتبها المنتصرون في نهاية الأمر. وكاتبنا هنا لا يشد عن هذه القاعدة . - م
- ].
كانت بعتثنا الديبلوماسية، قد عبرت عن تحفظها، لأننا لم نكن نثق كثيرا في
قدرات ذلك السلطان الشاب، ولا في مواقف الحاجب سي أحمد [باحماد]، الذي كان
يدير الأمور فعليا. لقد تطورت الأمور سلبيا بشكل سريع. وكنا نستشعر ملامح
الأزمة باكرا. فأمامنا سلطان غر ومعتوه [بهذا التعبير وصف الكاتب وريث
الحسن الأول، مما يترجم درجة التحامل الوقحة - م - ]، ثم هناك الحركية
المهتاجة للوصوليين والمرتزقة، المدعومين من قبل ممثلياتهم القنصلية، الذين
ينهبون ويفرغون خزينة الدولة، مما أساء للسلطة التي تركها مولاي الحسن
[الأول].
غادر «الكونت دوبينيي» طنجة في شهر غشت من سنة 1894، بعد تعيينه ممثلا
[لفرنسا] في بوخاريست برومانيا. ولقد خلف رحيله أسفا عند كل البعثات
الديبلوماسية وعند أهل بلده هنا، وأيضا عند الحكومة الشريفية. لقد عوضه
السيد دومونبيل، القادم من روما، بعد أن قضى هناك سنوات طويلة، ممثلا ناجحا
لبلدنا عند الفاتيكان. ولقد التحق بطنجة في شهر شتنبر 1894، قادما على متن
سفينة «التاغ». وبعد قضائه شهورا يدرس فيها الملفات، وينتظر فراغ البلاط
من زحف السفراء الأجانب عليه، فإن السيد دومونبيل قد توجه إلى فاس سنة
1895. حين وصوله لأول مرة إلى بلد إسلامي، وجد أمامه تغييرا هائلا يطال
البلاد بعد مجئ السلطان الجديد. لكن، بفضل طبيعته المحتاطة ورويته، وبتعاون
كامل مع الحكومة الجزائرية [الفرنسية]، سينجح ممثلنا من تجاوز الكثير من
المواقف الصعبة، هو الذي بقي في المغرب حتى سنة 1899.
كانت أول قضية صعبة واجهها، هي قبول البلاط الشريفي لقنصلنا الذي بعث إلى
فاس، ليعوض جزائريا متعاونا معنا، كان يمثل مصالحنا [بالعاصمة]. والظاهر أن
ذلك القرار كان متسرعا بعض الشئ، بسبب أنه تم في بداية حكم سلطان جديد،
وأنه كان يتطلب مقدمات تهييئية ضرورية. والحقيقة، أنه كانت بفاس جالية
جزائرية وازنة ومهمة، وأن ذلك المواطن الجزائري الذي كان يمثلنا، كان يقوم
بدوره كما يجب وكفاية. لقد تمكن من ربط العلاقة مع كل المجتمع الفاسي، وكان
يبعث تقاريره الخاصة من الأخبار إلى ممثليتنا [بطنجة]، مثلما كان ينجح
دوما في حل كل مشكل طارئ، فقد كان الرجل لبقا وخدوما جدا. بالتالي، فقد
كانت تلك الوضعية مريحة جدا للجميع. إنه أمام الطبيعة المشكاكة لأهل فاس،
المتدينين جدا، كانت لفرنسا حظوة بفضل ذلك الرجل، كونه مسلما، والذي كان
يتواصل بسلاسة مع المغاربة، حتى وإن لم يكن منهم. كنا قد طلبنا، من قبل، من
السلطان مولاي الحسن إمكانية تغيير تمثيليتنا في فاس، ولم يعبر قط أمامنا
عن أي عوائق محلية قد تحول دون ذلك، لكن حين جاء ممثلنا القنصلي إلى
المدينة لتسلم مهامه، ظل منبوذا. وحين جاء وزير ديبلوماسي جديد [ممثل
لفرنسا]، فإن كرامتنا هي التي كانت في الميزان، ولم يكن مستساغا ولا منطقيا
سحب قنصلنا ذاك. وما نجح فيه بتفوق السيد دمونبيل، بمساعدة شخصية وازنة
للدكتور ليناريس، هو الحصول على الإذن بممثل قنصلي لنا بالعاصمة. وما أن
تحقق لنا ذلك النصر، حتى سارعت باقي الممثليات [بطنجة]، إلى تهييئ بعث
قناصلة لها إلى فاس. لقد رسمنا لهم الطريق إذن. كانت البداية مع القنصل
الإنجليزي، ثم تبعه الألماني وأخيرا الإسباني. بل كان تمة تفكير جدي لمنح
الحكومة البريطانية امتياز نقل سفارتها كاملة إلى فاس كمدينة في عمق المغرب
[بعيدا عن طنجة]، وأن إسبانيا كانت تسعى لنفس الحظوة. [ هذا يترجم فعليا
قوة النفوذ الإنجليزي في المغرب آنذاك والثقة بين التاج البريطاني
والسلاطين المغاربة، وكان ضمنهم الشاب مولاي عبد العزيز حينها، أو فريقه
الذي يشكل نوعا من مجلس الوصاية عليه، الممثل أساسا في والدته والحاجب با
حماد. وهي الأمور التي لم تكن باريس تنظر إليها بعين الرضى والقبول - م -
].
كانت تطورات الوضع في الجزائر [استعمار فرنسا للبلد الجار للمغرب، منذ 1830
- م - ]، لم تكن لتيسر لنا وضعيتنا الديبلوماسية [بالمغرب]، لأن الحكومة
الجديدة للسلطان الجديد، بقلة خبرتها [لاحظوا التعبير - م - ]، لم تكن تخفي
معارضتها لسياستنا [بالجزائر]. ولم يحدث أن كانت الدسائس الأجنبية ضدنا،
قد بلغت درجة مثل التي بلغتها في هذا العهد الجديد. لقد وجدنا أنفسنا في
مواجهة مشاكل في الجنوب الوهراني وفي الجنوب المغربي [الجنوب الشرقي]. من
قبل، كان المخزن الشريفي يدبر الأزمات بمسؤولية، وكان يبحث عن الحلول ذات
الفائدة المشتركة. لكن، اليوم، تمة توجه جديد، مؤسف في اختياراته. لقد تجرأ
المخزن الجديد [لاحظوا عبارة «تجرأ» - م - ] بإخبار أحد مكلفينا بالأعمال،
أنه لإنهاء الأزمات في المفاوضات بين الحكومتين، خاصة في مناطق الحدود
[الشرقية للمغرب]، فقد صدرت أوامر لعامل وجدة وعامل فكيك، أن يصدروا بلاغات
موازية لتلك التي يسلمها لهم الفرنسيون بالجزائر، (أي تطبيق مبدأ المعاملة
بالمثل ديبلوماسيا). [ هذا الحق المغربي في السيادة لم تقبله فرنسا من
مولاي عبد العزيز ولا استساغه دولامارتينيير - م - ]. بالتالي، لم يعد
مستساغا ببساطة، تقبل كل تلك المطالب المغربية. وفي محاولتنا للوصول إلى
حلول، بعتث حكومة الجزائر [الفرنسية] سنة 1894، إلى طنجة، القائد «كالي سان
- بول»، مرفوقا بقائد من حميان، ليقدما مساعدتهما التقنية لبعثتنا
الديبلوماسية، في مفاوضاتها مع ممثل السلطان، للتوصل إلى حلول للمطالب
المطروحة.
سنة 1894، توفي السلطان مولاي الحسن [الأول]، وهو يقوم بجولة من جولاته
المعتادة بمختلف مناطق المغرب، كل عام. سيتم إعلان إبنه عبد العزيز، البالغ
14 عاما سلطانا من قبل البلاط. وحتى إن كان معروفا أنه المفضل لدى والده،
فإن في اختياره تبرز حسابات القصور، وأن هناك جهة خارجية كانت تسعى للتحكم
فيه كما شاءت. [عجيب هذا الإتهام من دولامارتينيير. فلو كان الأمر يتعلق
بفرنسا، وبكون باريس هي التي تخطط لذلك لما كان قد نبس ببنت شفة. ولأن
الأمير مولاي عبد العزيز، كان ميالا للإنجليز والألمان، بتأثير من والدته
التركية «لالة رقية»، فإن موقف باريس منه قد ظل دوما سلبيا، بل إنها لعبت
دورا حاسما في الإساءة لصورته في كل كتاباتها التاريخية، وألبت عليه مختلف
القوى الداخلية التقليدية بالمغرب، ونجحت في الإطاحة به وفي إضعافه ثم
مواجهة شقيقه مولاي حفيظ لإخضاعه لتوقيع وثيقة الحماية. وتفاصيل التاريخ
يكتبها المنتصرون في نهاية الأمر. وكاتبنا هنا لا يشد عن هذه القاعدة . - م
- ].
كانت بعتثنا الديبلوماسية، قد عبرت عن تحفظها، لأننا لم نكن نثق كثيرا في
قدرات ذلك السلطان الشاب، ولا في مواقف الحاجب سي أحمد [باحماد]، الذي كان
يدير الأمور فعليا. لقد تطورت الأمور سلبيا بشكل سريع. وكنا نستشعر ملامح
الأزمة باكرا. فأمامنا سلطان غر ومعتوه [بهذا التعبير وصف الكاتب وريث
الحسن الأول، مما يترجم درجة التحامل الوقحة - م - ]، ثم هناك الحركية
المهتاجة للوصوليين والمرتزقة، المدعومين من قبل ممثلياتهم القنصلية، الذين
ينهبون ويفرغون خزينة الدولة، مما أساء للسلطة التي تركها مولاي الحسن
[الأول].
غادر «الكونت دوبينيي» طنجة في شهر غشت من سنة 1894، بعد تعيينه ممثلا
[لفرنسا] في بوخاريست برومانيا. ولقد خلف رحيله أسفا عند كل البعثات
الديبلوماسية وعند أهل بلده هنا، وأيضا عند الحكومة الشريفية. لقد عوضه
السيد دومونبيل، القادم من روما، بعد أن قضى هناك سنوات طويلة، ممثلا ناجحا
لبلدنا عند الفاتيكان. ولقد التحق بطنجة في شهر شتنبر 1894، قادما على متن
سفينة «التاغ». وبعد قضائه شهورا يدرس فيها الملفات، وينتظر فراغ البلاط
من زحف السفراء الأجانب عليه، فإن السيد دومونبيل قد توجه إلى فاس سنة
1895. حين وصوله لأول مرة إلى بلد إسلامي، وجد أمامه تغييرا هائلا يطال
البلاد بعد مجئ السلطان الجديد. لكن، بفضل طبيعته المحتاطة ورويته، وبتعاون
كامل مع الحكومة الجزائرية [الفرنسية]، سينجح ممثلنا من تجاوز الكثير من
المواقف الصعبة، هو الذي بقي في المغرب حتى سنة 1899.
كانت أول قضية صعبة واجهها، هي قبول البلاط الشريفي لقنصلنا الذي بعث إلى
فاس، ليعوض جزائريا متعاونا معنا، كان يمثل مصالحنا [بالعاصمة]. والظاهر أن
ذلك القرار كان متسرعا بعض الشئ، بسبب أنه تم في بداية حكم سلطان جديد،
وأنه كان يتطلب مقدمات تهييئية ضرورية. والحقيقة، أنه كانت بفاس جالية
جزائرية وازنة ومهمة، وأن ذلك المواطن الجزائري الذي كان يمثلنا، كان يقوم
بدوره كما يجب وكفاية. لقد تمكن من ربط العلاقة مع كل المجتمع الفاسي، وكان
يبعث تقاريره الخاصة من الأخبار إلى ممثليتنا [بطنجة]، مثلما كان ينجح
دوما في حل كل مشكل طارئ، فقد كان الرجل لبقا وخدوما جدا. بالتالي، فقد
كانت تلك الوضعية مريحة جدا للجميع. إنه أمام الطبيعة المشكاكة لأهل فاس،
المتدينين جدا، كانت لفرنسا حظوة بفضل ذلك الرجل، كونه مسلما، والذي كان
يتواصل بسلاسة مع المغاربة، حتى وإن لم يكن منهم. كنا قد طلبنا، من قبل، من
السلطان مولاي الحسن إمكانية تغيير تمثيليتنا في فاس، ولم يعبر قط أمامنا
عن أي عوائق محلية قد تحول دون ذلك، لكن حين جاء ممثلنا القنصلي إلى
المدينة لتسلم مهامه، ظل منبوذا. وحين جاء وزير ديبلوماسي جديد [ممثل
لفرنسا]، فإن كرامتنا هي التي كانت في الميزان، ولم يكن مستساغا ولا منطقيا
سحب قنصلنا ذاك. وما نجح فيه بتفوق السيد دمونبيل، بمساعدة شخصية وازنة
للدكتور ليناريس، هو الحصول على الإذن بممثل قنصلي لنا بالعاصمة. وما أن
تحقق لنا ذلك النصر، حتى سارعت باقي الممثليات [بطنجة]، إلى تهييئ بعث
قناصلة لها إلى فاس. لقد رسمنا لهم الطريق إذن. كانت البداية مع القنصل
الإنجليزي، ثم تبعه الألماني وأخيرا الإسباني. بل كان تمة تفكير جدي لمنح
الحكومة البريطانية امتياز نقل سفارتها كاملة إلى فاس كمدينة في عمق المغرب
[بعيدا عن طنجة]، وأن إسبانيا كانت تسعى لنفس الحظوة. [ هذا يترجم فعليا
قوة النفوذ الإنجليزي في المغرب آنذاك والثقة بين التاج البريطاني
والسلاطين المغاربة، وكان ضمنهم الشاب مولاي عبد العزيز حينها، أو فريقه
الذي يشكل نوعا من مجلس الوصاية عليه، الممثل أساسا في والدته والحاجب با
حماد. وهي الأمور التي لم تكن باريس تنظر إليها بعين الرضى والقبول - م -
].
كانت تطورات الوضع في الجزائر [استعمار فرنسا للبلد الجار للمغرب، منذ 1830
- م - ]، لم تكن لتيسر لنا وضعيتنا الديبلوماسية [بالمغرب]، لأن الحكومة
الجديدة للسلطان الجديد، بقلة خبرتها [لاحظوا التعبير - م - ]، لم تكن تخفي
معارضتها لسياستنا [بالجزائر]. ولم يحدث أن كانت الدسائس الأجنبية ضدنا،
قد بلغت درجة مثل التي بلغتها في هذا العهد الجديد. لقد وجدنا أنفسنا في
مواجهة مشاكل في الجنوب الوهراني وفي الجنوب المغربي [الجنوب الشرقي]. من
قبل، كان المخزن الشريفي يدبر الأزمات بمسؤولية، وكان يبحث عن الحلول ذات
الفائدة المشتركة. لكن، اليوم، تمة توجه جديد، مؤسف في اختياراته. لقد تجرأ
المخزن الجديد [لاحظوا عبارة «تجرأ» - م - ] بإخبار أحد مكلفينا بالأعمال،
أنه لإنهاء الأزمات في المفاوضات بين الحكومتين، خاصة في مناطق الحدود
[الشرقية للمغرب]، فقد صدرت أوامر لعامل وجدة وعامل فكيك، أن يصدروا بلاغات
موازية لتلك التي يسلمها لهم الفرنسيون بالجزائر، (أي تطبيق مبدأ المعاملة
بالمثل ديبلوماسيا). [ هذا الحق المغربي في السيادة لم تقبله فرنسا من
مولاي عبد العزيز ولا استساغه دولامارتينيير - م - ]. بالتالي، لم يعد
مستساغا ببساطة، تقبل كل تلك المطالب المغربية. وفي محاولتنا للوصول إلى
حلول، بعتث حكومة الجزائر [الفرنسية] سنة 1894، إلى طنجة، القائد «كالي سان
- بول»، مرفوقا بقائد من حميان، ليقدما مساعدتهما التقنية لبعثتنا
الديبلوماسية، في مفاوضاتها مع ممثل السلطان، للتوصل إلى حلول للمطالب
المطروحة.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
يوم أضاع المغرب ببشاعة فرصة التقرب من ملكة إنجلترا سنة 1897!!
في سنة 1897،
بمناسبة يوبيل الملكة، حرصت الحكومة البريطانية على استدعاء بعثة
ديبلوماسية مغربية رفيعة إلى لندن [ الأمر يتعلق بالذكرى الستين لاعتلاء
الملكة فيكتوريا للعرش البريطاني، هي التي دام حكمها من سنة 1837 إلى سنة
1901، أي 64 سنة بالتمام والكمال. واعتبر العهد الفيكتوري واحدا من أصعب
وأغرب العهود الملكية البريطانية، الذي وصف ب «عهد النفاق الإجتماعي». لكن
الأساسي أنه في عهدها عاشت بريطانيا أزهى عصورها الصناعية، من خلال ثورة
البخار والكهرباء والإتصالات والسكك الحديدية. مثلما بلغت قوتها
الإستعمارية مرحلة لم تصلها أي إمبراطورية في التاريخ، وكانت فعليا وعمليا،
الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. وهي ملكة ترملت باكرا، بعد قصة حب
عاصفة مع أمير أروبي. - م - ]. كانت تلك الدعوة الديبلوماسية الرفيعة، ذات
مرامي سياسية، لأنه لم يكن هناك أفضل من الجو العام في لندن، لبصم ذهنية
المغاربة [والتأثير فيهم بعمق]، في تلك المناسبة الرفيعة. ولقد قبلت
حكومتنا، طلبا للبلاط الشريفي، يقضي بزيارة ذلك الوفد المغربي لباريس أيضا،
ليكونوا بذلك قد ضربوا عصفورين بحجر واحد. كان الوفد المغربي برئاسة شقيق
الصدر الأعظم، لكنه شخص معتوه، أصيب بلحظة جنون بعد عودته من حضور استعراض
عسكري لقواتنا في جادة « الشان إليزي »، وأصبحنا مضطرين لإعادته بسرعة إلى
مراكش، عبر سفينة « الجزائر»، التي أبحرت به إلى ميناء مدينة الجديدة
[المغربية]. علما أن البريطانيين قد قبلوا قبل ذلك بقرارنا إرجاع ذلك
المبعوث الشريفي المعتوه. [هل كان الأمر صدفة؟!.. ذلك متروك لمكر صدف
التاريخ. فالأكيد أن باريس لم تكن لتترك أي تقارب مغربي بريطاني رفيع أبدا،
على حدود الجزائر التي تحتلها منذ سنة 1830. مثلما أن أخطاء المغرب
التدبيرية في الكثير من الأحيان، على مستوى النخبة، كانت تسهل من تلك
المهمة - م - ].
هذه الرحلة، التي ظلت موضوع تنذر من قبل الممثليات الديبلوماسية لمدة من
الزمن، إنما تبرز ضحالة الرؤية الديبلوماسية في العلاقات الخارجية للصدر
الأعظم، الذي اختار شقيقه، المعروف بعتهه، لمهمة ديبلوماسية دقيقة مثل هذه.
بل، إن الفريق المرافق للرجل، كان بدوره ضعيفا، وهذا من حسن حظنا. [
لننتبه جيدا للخلاصة - م - ]. رغم الفشل الذي آلت إليه تلك المهمة، فإن
حكومتنا قررت بعث وزيرنا إلى البلاط السلطاني. فقد كانت الشائعات تسري،
أيضا، أننا بصدد التهيئ لتغيير الحدود الشرقية للمغرب، وهو الأمر الذي كان
مستعجلا تكذيبه. لقد توجه السيد « دومونبيل » [سفير فرنسا الذي هو في مرتبة
وزير - م - ]، في ربيع سنة 1898، إلى مراكش، حيث تصادف وجوده هناك، مع
وجود السفير الألماني أيضا. كان [الحاجب] سي أحمد قوي الحضور، كان الحاكم
الفعلي بالبلد، وكان على سفيرنا أن لا يجد الحلول سوى معه. وبدون العودة
إلى التقليد البالي، للهدايا الديبلوماسية المخصصة للسلطان، فإن قرار
حكومتنا، كان، أن تحمل هدايا خاصة ومميزة للحاجب السلطاني. لقد قدمنا إليه
هدايا عبارة عن مرايا كبيرة، تطلب منا نقلها جهدا كبيرا، وانتهت إلى تزيين
قصر الباهية، الذي انتهت الأشغال منه حديثا، وتبرز شساعته وجماليته مدى قوة
ونفوذ المستشار الخاص السابق لمولاي الحسن.
مباشرة بعد عودة وزيرنا إلى طنجة [قادما من مراكش]، تم تعييني سكرتيرا أول
لبعثتنا الديبلوماسية. بعودتي إلى هذه المدينة الجميلة والصغيرة [ طنجة ]،
التي لم تتغير كثيرا، جددت محبة اللقاء مع مجتمع طنجي خاص، مشكل من أصدقاء
قدامى. نزلت بالمنزل الأبيض الصغير، بمسحته المغربية، الذي بناه صديقي
مونتفري، السكرتير الأول الأسبق سنة 1882، تبعا لهندسة ورسومات بنجامين
كنسطون. كان البيت ذاك، متواجدا فوق السوق الكبير، وكان المنظر آسرا باتجاه
المضيق، رغم ارتفاع عدد من الدور الجديدة، التي لم تحجب الرؤية تلك بعد.
كان البيت ذاك على مقربة من « فيلا هولندا »، التي كانت ضيافتها الراقية في
الكثير من المناسبات، سندا لي في مهامي الجديدة. [ كانت بطنجة العديد من
الفيلات التي تحمل اسم الدول الأروبية، التي اقتنتها كملكية خاصة وجعلتها
مقرا لسفاراتها. ولا تزال الكثير منها متواجدة بطنجة إلى اليوم ولا تزال في
ملكية تلك الدول، خاصة الأمريكية والإنجليزية والسويدية والهولندية
والإسبانية والإيطالية.. إلخ. - م - ]. لقد وقفت عند الكثير من التحديات
التي تواجه مهمتي، لأن إقامتي لمدة في الجزائر، قد سمحت لي بالوقوف عند
اختلافات سياستنا بالمنطقة.
لم تتأخر مشكلة عويصة، في أن تواجهني. لقد تسبب ضابط جزائري، تابع لمصالحنا
بالرباط، وكان عضوا بوحدتنا العسكرية من الرماة، في مشكل عويص. لقد اعتقله
قاضي المدينة لساعات، بسبب أنه مسلم يجب أن يسري عليه سلوكيا ما يسري على
المسلم. لقد دعمت القاضي سلطات بلاده المركزية، لأن سلطتها الدينية تجيز
لها تطبيق القانون الشرعي على كل مسلم. الحقيقة أنه كان من الخطأ أن يستجيب
ضابطنا العسكري لاستدعاء القاضي، وبفضل تدخلاتنا الديبلوماسية، تمكنا من
حل المشكلة، وكانت نتيجتها الآنية الكبرى تنقيل ذلك القاضي، وهو ما
اعتبرناه نجاحا مهما لنا.
بمناسبة يوبيل الملكة، حرصت الحكومة البريطانية على استدعاء بعثة
ديبلوماسية مغربية رفيعة إلى لندن [ الأمر يتعلق بالذكرى الستين لاعتلاء
الملكة فيكتوريا للعرش البريطاني، هي التي دام حكمها من سنة 1837 إلى سنة
1901، أي 64 سنة بالتمام والكمال. واعتبر العهد الفيكتوري واحدا من أصعب
وأغرب العهود الملكية البريطانية، الذي وصف ب «عهد النفاق الإجتماعي». لكن
الأساسي أنه في عهدها عاشت بريطانيا أزهى عصورها الصناعية، من خلال ثورة
البخار والكهرباء والإتصالات والسكك الحديدية. مثلما بلغت قوتها
الإستعمارية مرحلة لم تصلها أي إمبراطورية في التاريخ، وكانت فعليا وعمليا،
الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. وهي ملكة ترملت باكرا، بعد قصة حب
عاصفة مع أمير أروبي. - م - ]. كانت تلك الدعوة الديبلوماسية الرفيعة، ذات
مرامي سياسية، لأنه لم يكن هناك أفضل من الجو العام في لندن، لبصم ذهنية
المغاربة [والتأثير فيهم بعمق]، في تلك المناسبة الرفيعة. ولقد قبلت
حكومتنا، طلبا للبلاط الشريفي، يقضي بزيارة ذلك الوفد المغربي لباريس أيضا،
ليكونوا بذلك قد ضربوا عصفورين بحجر واحد. كان الوفد المغربي برئاسة شقيق
الصدر الأعظم، لكنه شخص معتوه، أصيب بلحظة جنون بعد عودته من حضور استعراض
عسكري لقواتنا في جادة « الشان إليزي »، وأصبحنا مضطرين لإعادته بسرعة إلى
مراكش، عبر سفينة « الجزائر»، التي أبحرت به إلى ميناء مدينة الجديدة
[المغربية]. علما أن البريطانيين قد قبلوا قبل ذلك بقرارنا إرجاع ذلك
المبعوث الشريفي المعتوه. [هل كان الأمر صدفة؟!.. ذلك متروك لمكر صدف
التاريخ. فالأكيد أن باريس لم تكن لتترك أي تقارب مغربي بريطاني رفيع أبدا،
على حدود الجزائر التي تحتلها منذ سنة 1830. مثلما أن أخطاء المغرب
التدبيرية في الكثير من الأحيان، على مستوى النخبة، كانت تسهل من تلك
المهمة - م - ].
هذه الرحلة، التي ظلت موضوع تنذر من قبل الممثليات الديبلوماسية لمدة من
الزمن، إنما تبرز ضحالة الرؤية الديبلوماسية في العلاقات الخارجية للصدر
الأعظم، الذي اختار شقيقه، المعروف بعتهه، لمهمة ديبلوماسية دقيقة مثل هذه.
بل، إن الفريق المرافق للرجل، كان بدوره ضعيفا، وهذا من حسن حظنا. [
لننتبه جيدا للخلاصة - م - ]. رغم الفشل الذي آلت إليه تلك المهمة، فإن
حكومتنا قررت بعث وزيرنا إلى البلاط السلطاني. فقد كانت الشائعات تسري،
أيضا، أننا بصدد التهيئ لتغيير الحدود الشرقية للمغرب، وهو الأمر الذي كان
مستعجلا تكذيبه. لقد توجه السيد « دومونبيل » [سفير فرنسا الذي هو في مرتبة
وزير - م - ]، في ربيع سنة 1898، إلى مراكش، حيث تصادف وجوده هناك، مع
وجود السفير الألماني أيضا. كان [الحاجب] سي أحمد قوي الحضور، كان الحاكم
الفعلي بالبلد، وكان على سفيرنا أن لا يجد الحلول سوى معه. وبدون العودة
إلى التقليد البالي، للهدايا الديبلوماسية المخصصة للسلطان، فإن قرار
حكومتنا، كان، أن تحمل هدايا خاصة ومميزة للحاجب السلطاني. لقد قدمنا إليه
هدايا عبارة عن مرايا كبيرة، تطلب منا نقلها جهدا كبيرا، وانتهت إلى تزيين
قصر الباهية، الذي انتهت الأشغال منه حديثا، وتبرز شساعته وجماليته مدى قوة
ونفوذ المستشار الخاص السابق لمولاي الحسن.
مباشرة بعد عودة وزيرنا إلى طنجة [قادما من مراكش]، تم تعييني سكرتيرا أول
لبعثتنا الديبلوماسية. بعودتي إلى هذه المدينة الجميلة والصغيرة [ طنجة ]،
التي لم تتغير كثيرا، جددت محبة اللقاء مع مجتمع طنجي خاص، مشكل من أصدقاء
قدامى. نزلت بالمنزل الأبيض الصغير، بمسحته المغربية، الذي بناه صديقي
مونتفري، السكرتير الأول الأسبق سنة 1882، تبعا لهندسة ورسومات بنجامين
كنسطون. كان البيت ذاك، متواجدا فوق السوق الكبير، وكان المنظر آسرا باتجاه
المضيق، رغم ارتفاع عدد من الدور الجديدة، التي لم تحجب الرؤية تلك بعد.
كان البيت ذاك على مقربة من « فيلا هولندا »، التي كانت ضيافتها الراقية في
الكثير من المناسبات، سندا لي في مهامي الجديدة. [ كانت بطنجة العديد من
الفيلات التي تحمل اسم الدول الأروبية، التي اقتنتها كملكية خاصة وجعلتها
مقرا لسفاراتها. ولا تزال الكثير منها متواجدة بطنجة إلى اليوم ولا تزال في
ملكية تلك الدول، خاصة الأمريكية والإنجليزية والسويدية والهولندية
والإسبانية والإيطالية.. إلخ. - م - ]. لقد وقفت عند الكثير من التحديات
التي تواجه مهمتي، لأن إقامتي لمدة في الجزائر، قد سمحت لي بالوقوف عند
اختلافات سياستنا بالمنطقة.
لم تتأخر مشكلة عويصة، في أن تواجهني. لقد تسبب ضابط جزائري، تابع لمصالحنا
بالرباط، وكان عضوا بوحدتنا العسكرية من الرماة، في مشكل عويص. لقد اعتقله
قاضي المدينة لساعات، بسبب أنه مسلم يجب أن يسري عليه سلوكيا ما يسري على
المسلم. لقد دعمت القاضي سلطات بلاده المركزية، لأن سلطتها الدينية تجيز
لها تطبيق القانون الشرعي على كل مسلم. الحقيقة أنه كان من الخطأ أن يستجيب
ضابطنا العسكري لاستدعاء القاضي، وبفضل تدخلاتنا الديبلوماسية، تمكنا من
حل المشكلة، وكانت نتيجتها الآنية الكبرى تنقيل ذلك القاضي، وهو ما
اعتبرناه نجاحا مهما لنا.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
محميو فرنسا من المغاربة سنة 1900!!
كلفت سنة 1899،
من قبل الوزارة [وزارة الخارجية الفرنسية ]، بمراقبة مكاتبنا بالمدن
الشاطئية [ بالمغرب ]، من أجل وضع حد للخروقات التي تتسبب فيها الحمائية
القنصلية لعدد من المغاربة. لقد بلغت تشكيات عدد من تجارنا إلى برلمانيين
فرنسيين، الذين لم يترددوا في طرح القضية [ على الوزارة ]. فقد كان بعض من
مواطنينا المقيمين، لا يترددون في منح حق الحماية لعدد من المغاربة من
الأهالي، بينما اتفاقية مؤتمر 1880 [مؤتمر مدريد حول القضية المغربية ]،
كانت واضحة في هذا الباب، ولا تهب ذلك الحق لغير التجار، والعاملين معهم،
الذين يقدمون الدليل الملموس على مهمتهم التجارية. شرف فرنسا، لم يكن
ليربح شيئا من تلك الحمائية التي تقدم للأهالي المغاربة، بل بالعكس، لقد
تسبب ذلك في تراكم الطلبات المحرجة على ممثليتنا الديبلوماسية. ورغم ردود
الفعل السلبية المنتظرة من البعض، فقد كنت متحمسا لتلك المهمة، لأنها
ستسمح لي بمعاينة الأمور على أرض الواقع مباشرة. كان مهما، أن يقتنع
الجميع أن مصلحة الدولة، ليست بالضرورة هي توسيع وحماية المصالح الشخصية،
المغلفة بشعار الصالح العام.
اخترت أن يرافقني في تلك المهمة، كسكرتير مترجم، السي قدور بن غبريط، وهو
شاب جزائري التحق منذ سنوات قليلة ببعثنا [ بطنجة ]، مكلفا بمهمة مترجم
مساعد، وهي المهمة التي كان يقوم بها بتفوق كامل. مثلما أنه كان مسؤولا
بالمحاكم الإسلامية بالجزائر، من قبل الحاكم العام الفرنسي للجزائر، مما
منحه مرجعية هامة في الشؤون الأهلية. حين وصلت الرباط، التقيت السيد
غيلار، الذي كان حينها مترجما ودليلا سياحيا وتجاريا، مكلفا بالتسيير
المؤقت لقنصليتنا بالدارالبيضاء. كان اللقاء بهذا الشاب مثمرا، لأنه قدم
لي مساعدات هامة، مما عزز من مكانته الديبلوماسية، وعين بعد ذلك قنصلا لنا
في فاس، في لحظة من أصعب لحظات تواجدنا بالمغرب.
ركبت باخرة صغيرة من بواخر شركة « باكي »، من ميناء طنجة، ونزلت بميناء
العرائش. بعدها، كان لزاما علينا قطع المسافة راكبين [ على الجياد ]، على
امتداد الأراضي المحاذية للمحيط الأطلسي، وهي الأراضي التي أعرفها جيدا،
كوني قطعتها مرارا، قبل ذلك، أثناء قيامي بأبحاثي الإركيولوجية. كانت
الأحصنة والخيام التي نقيم فيها، قد هيئت لنا من قبل. وأذكر، أنه على طول
مسافة الرحلة البحرية على الباخرة الصغيرة، كان رجل عربي بملامح تركية،
أكيد أنه جاء إلى المغرب للعب دور ديني متطرف، يلعن وجودنا وكان عنيفا ضد
فرساننا الجزائريين وشواش بعثتنا الديبلوماسية. كان لابد من اعتقاله، بعد
ذلك، وتسليمه للسلطات المغربية [ بالعرائش ]. بعد رحلة طويلة، قادتني إلى
البقاء مدة من الزمن، في كل من مدن الرباط، الدارالبيضاء، الجديدة، آسفي
والصويرة، عدت إلى طنجة، حاملا معي تصورا متكاملا للإصلاح وللعقوبات
الواجب اتخادها، من أجل وضع حد للتسيب الديبلوماسي، الذي كلفت للبحث في
أسبابه.
سيغادر السيد دومنبيل [ سفير فرنسا بالمغرب ] مهامه الديبلوماسية بطنجة،
في شهر نونبر [ 1899 ]، ليلتحق بمهامه الجديدة في لاهاي، وكلفت بالتالي
بمهام السفارة لأكثر من شهر، في انتظار وصول السفير الجديد، السيد ريفوا،
الذي وصل مع مطلع سنة 1900، هو الذي كان مقيما عاما لنا في تونس حينها. [
هذه معلومة في غاية الأهمية. لأنها تترجم درجة الإهتمام الإستراتيجي الذي
توليه باريس للمغرب. ففي مطلع القرن العشرين، و12 سنة قبل احتلال النصف
الأوسط من المغرب، الغني بالثروات الطبيعية والفلاحية، بعد التنازل عن
الشمال والصحراء الغربية بإقليميها وادي الذهب والساقية الحمراء، لإسبانيا
إثر اتفاقية الجزيرة الخضراء لسنة 1906. واحتلال باريس لصحراء المغرب
الشرقية ( مناطق تيندوف وكولمب بشار وتوات، الغنية بالمعادن، خاصة الحديد،
وإلحاقها بالجزائر المستعمرة حينها )، مثلما كانت قد احتلت قبل ذلك إقليم
شنقيط الجنوبي ( موريتانيا الحالية ). إذن 12 سنة قبل إعلان الحماية
والإحتلال، قررت باريس بعث سفير فوق العادة إلى المغرب، لم يكن سوى المقيم
العام لديها في تونس، البلد المغاربي الذي احتل قبل المغرب بسنوات، وبعد
الجزائر بأربعة عقود. أي في نهاية القرن 19. وهذا يترجم درجة الأهمية التي
أصبح يمثلها المغرب في الأجندة الفرنسية في كل الشمال الإفريقي. وكانت
نتيجته تخلي لندن عن المغرب لباريس ابتداء من سنة 1903، حتى قبل ترسيم ذلك
نهائيا ضمن الإتفاق السري لوزيري خارجيتيهما المعروف ب « اتفاقية سايكس
بيكو » سنة 1906. - م - ].
كان همي، حينها، هو مراجعة كل قوائم محميينا بالمغرب، اعتمادا على اللوائح
والمعلومات التي تمكنت من جمعها طيلة رحلتي الطويلة عبر مدن الشاطئ
الأطلنتي. كان ذلك عملا جبارا، لكنه ضروري وحاسم، لمواجهة كل التسيب الذي
طال عملنا الديبلوماسي بتلك المناطق، الذي كان يسئ لسمعتنا كبلد، مثلما
أنه يعطل مشاريعنا الإقتصادية المبرمجة. كما توقفنا، عند حجم الضرر الذي
تتسبب فيه تلك الأخطاء الديبلوماسية على تجارنا المحميين، مما كان يسهل من
مهام باقي البعثات الديبلوماسية المنافسة لنا. [ يقصد نجاح بريطانيا
وألمانيا، أساسا، في منح الحمائية لعدد من التجار المغاربة في كل تلك
المدن وأيضا في مراكش فاس ومكناس - م - ]. لقد حرصت على استصدار بطاقة «
ممثل تجاري » وبطاقة « محمي »، وكذا منع منح أي شهادة للتعاون الفلاحي،
دون دراسة للملف في كافة جوانبه. لقد كان ضروريا القيام بكل تلك
الإجراءات، رغم صرامتها التي لا يمكن أن تكون بدون ثمن، لأن السماح بمنح
حمائية لعدد من الأهالي، كان يمنحهم نفس حقوقنا القانونية في المعاملة،
مما كان يلزمنا بالدخول في متاهات دفاع عن بعض مواقفهم نحن في غنى عنها،
بل إنها تعطل عملنا الأساسي في الحقيقة، وتستثمر منا وقتا طويلا دون فائدة
كبرى. لقد بعثنا أوامر محددة وواضحة لممثلينا القنصليين على طول مدن
الشاطئ الأطلنتي. كان التوجيه العام، هو عدم منح « حق الحمائية »
للمغاربة، إلا في ظل شروط محددة، وبما لا يعود بالسلب على فعالية علمنا
الديبلوماسي. النتيجة، هي أن عملنا ذاك، قد ساهم في توضيح علاقتنا أكثر مع
الحكومة الشريفية. بل، إن ذلك، قد عزز من احترامنا عمليا للسلطان الجديد،
دون أن يكون ذلك على حساب مصالحنا الحيوية الإقتصادية بالبلد. [ يقصد
السلطان مولاي عبد العزيز، الذي لم تكن علاقة حكومته على ما يرام مع
باريس، وكانت له نزوع سياسية لتعزيز العلاقات المغربية أكثر مع بريطانيا
وألمانيا. - م - ].
كان من الوهم، من قبلنا، الإعتقاد أن المخزن سيعترف لنا بذلك الجهد
ويقدره، لكن ذلك لن يمنع شرفنا الفرنسي، من أن يربح بعض النقط الإيجابية.
مثلما، أن الإسراع في حل عدد آخر من القضايا العالقة، قد أصبح ممكنا أكثر.
لقد بعث إلي الدكتور ليناريس من فاس يقول، إن تلك الإجراءات قدد عززت من
الإمكانية لتبديد الكثير من أسباب سوء الفهم في العلاقة مع المركز. وبعد
أن داع خبر مهمتنا ونتائجها الواضحة، فإن العديد من زملاءنا الديبلوماسيين
قد بادروا إلى القيام بعمل مماثل. بل إنه خلال اجتماعاتنا المشتركة
العامة، بدأت تتبلور فكرة مساعدة السلطات الشريفية، في تحديث العلاقة
السياسية والإقتصادية معنا جميعا، وكذا دعم كل مشاريع المخزن في إصلاح
دواليبه الإدارية. [ هنا اعتراف على أن حركية الإصلاح كانت قائمة في
المغرب قبل الحماية بعقود - م - ]. لقد كان ذلك مبعث سعادة لنا في السفارة
الفرنسية، لأن مشروعنا قد أنضج حركية في كل الجسم الديبلوماسي وفي العلاقة
مع السلطات المغربية.
من قبل الوزارة [وزارة الخارجية الفرنسية ]، بمراقبة مكاتبنا بالمدن
الشاطئية [ بالمغرب ]، من أجل وضع حد للخروقات التي تتسبب فيها الحمائية
القنصلية لعدد من المغاربة. لقد بلغت تشكيات عدد من تجارنا إلى برلمانيين
فرنسيين، الذين لم يترددوا في طرح القضية [ على الوزارة ]. فقد كان بعض من
مواطنينا المقيمين، لا يترددون في منح حق الحماية لعدد من المغاربة من
الأهالي، بينما اتفاقية مؤتمر 1880 [مؤتمر مدريد حول القضية المغربية ]،
كانت واضحة في هذا الباب، ولا تهب ذلك الحق لغير التجار، والعاملين معهم،
الذين يقدمون الدليل الملموس على مهمتهم التجارية. شرف فرنسا، لم يكن
ليربح شيئا من تلك الحمائية التي تقدم للأهالي المغاربة، بل بالعكس، لقد
تسبب ذلك في تراكم الطلبات المحرجة على ممثليتنا الديبلوماسية. ورغم ردود
الفعل السلبية المنتظرة من البعض، فقد كنت متحمسا لتلك المهمة، لأنها
ستسمح لي بمعاينة الأمور على أرض الواقع مباشرة. كان مهما، أن يقتنع
الجميع أن مصلحة الدولة، ليست بالضرورة هي توسيع وحماية المصالح الشخصية،
المغلفة بشعار الصالح العام.
اخترت أن يرافقني في تلك المهمة، كسكرتير مترجم، السي قدور بن غبريط، وهو
شاب جزائري التحق منذ سنوات قليلة ببعثنا [ بطنجة ]، مكلفا بمهمة مترجم
مساعد، وهي المهمة التي كان يقوم بها بتفوق كامل. مثلما أنه كان مسؤولا
بالمحاكم الإسلامية بالجزائر، من قبل الحاكم العام الفرنسي للجزائر، مما
منحه مرجعية هامة في الشؤون الأهلية. حين وصلت الرباط، التقيت السيد
غيلار، الذي كان حينها مترجما ودليلا سياحيا وتجاريا، مكلفا بالتسيير
المؤقت لقنصليتنا بالدارالبيضاء. كان اللقاء بهذا الشاب مثمرا، لأنه قدم
لي مساعدات هامة، مما عزز من مكانته الديبلوماسية، وعين بعد ذلك قنصلا لنا
في فاس، في لحظة من أصعب لحظات تواجدنا بالمغرب.
ركبت باخرة صغيرة من بواخر شركة « باكي »، من ميناء طنجة، ونزلت بميناء
العرائش. بعدها، كان لزاما علينا قطع المسافة راكبين [ على الجياد ]، على
امتداد الأراضي المحاذية للمحيط الأطلسي، وهي الأراضي التي أعرفها جيدا،
كوني قطعتها مرارا، قبل ذلك، أثناء قيامي بأبحاثي الإركيولوجية. كانت
الأحصنة والخيام التي نقيم فيها، قد هيئت لنا من قبل. وأذكر، أنه على طول
مسافة الرحلة البحرية على الباخرة الصغيرة، كان رجل عربي بملامح تركية،
أكيد أنه جاء إلى المغرب للعب دور ديني متطرف، يلعن وجودنا وكان عنيفا ضد
فرساننا الجزائريين وشواش بعثتنا الديبلوماسية. كان لابد من اعتقاله، بعد
ذلك، وتسليمه للسلطات المغربية [ بالعرائش ]. بعد رحلة طويلة، قادتني إلى
البقاء مدة من الزمن، في كل من مدن الرباط، الدارالبيضاء، الجديدة، آسفي
والصويرة، عدت إلى طنجة، حاملا معي تصورا متكاملا للإصلاح وللعقوبات
الواجب اتخادها، من أجل وضع حد للتسيب الديبلوماسي، الذي كلفت للبحث في
أسبابه.
سيغادر السيد دومنبيل [ سفير فرنسا بالمغرب ] مهامه الديبلوماسية بطنجة،
في شهر نونبر [ 1899 ]، ليلتحق بمهامه الجديدة في لاهاي، وكلفت بالتالي
بمهام السفارة لأكثر من شهر، في انتظار وصول السفير الجديد، السيد ريفوا،
الذي وصل مع مطلع سنة 1900، هو الذي كان مقيما عاما لنا في تونس حينها. [
هذه معلومة في غاية الأهمية. لأنها تترجم درجة الإهتمام الإستراتيجي الذي
توليه باريس للمغرب. ففي مطلع القرن العشرين، و12 سنة قبل احتلال النصف
الأوسط من المغرب، الغني بالثروات الطبيعية والفلاحية، بعد التنازل عن
الشمال والصحراء الغربية بإقليميها وادي الذهب والساقية الحمراء، لإسبانيا
إثر اتفاقية الجزيرة الخضراء لسنة 1906. واحتلال باريس لصحراء المغرب
الشرقية ( مناطق تيندوف وكولمب بشار وتوات، الغنية بالمعادن، خاصة الحديد،
وإلحاقها بالجزائر المستعمرة حينها )، مثلما كانت قد احتلت قبل ذلك إقليم
شنقيط الجنوبي ( موريتانيا الحالية ). إذن 12 سنة قبل إعلان الحماية
والإحتلال، قررت باريس بعث سفير فوق العادة إلى المغرب، لم يكن سوى المقيم
العام لديها في تونس، البلد المغاربي الذي احتل قبل المغرب بسنوات، وبعد
الجزائر بأربعة عقود. أي في نهاية القرن 19. وهذا يترجم درجة الأهمية التي
أصبح يمثلها المغرب في الأجندة الفرنسية في كل الشمال الإفريقي. وكانت
نتيجته تخلي لندن عن المغرب لباريس ابتداء من سنة 1903، حتى قبل ترسيم ذلك
نهائيا ضمن الإتفاق السري لوزيري خارجيتيهما المعروف ب « اتفاقية سايكس
بيكو » سنة 1906. - م - ].
كان همي، حينها، هو مراجعة كل قوائم محميينا بالمغرب، اعتمادا على اللوائح
والمعلومات التي تمكنت من جمعها طيلة رحلتي الطويلة عبر مدن الشاطئ
الأطلنتي. كان ذلك عملا جبارا، لكنه ضروري وحاسم، لمواجهة كل التسيب الذي
طال عملنا الديبلوماسي بتلك المناطق، الذي كان يسئ لسمعتنا كبلد، مثلما
أنه يعطل مشاريعنا الإقتصادية المبرمجة. كما توقفنا، عند حجم الضرر الذي
تتسبب فيه تلك الأخطاء الديبلوماسية على تجارنا المحميين، مما كان يسهل من
مهام باقي البعثات الديبلوماسية المنافسة لنا. [ يقصد نجاح بريطانيا
وألمانيا، أساسا، في منح الحمائية لعدد من التجار المغاربة في كل تلك
المدن وأيضا في مراكش فاس ومكناس - م - ]. لقد حرصت على استصدار بطاقة «
ممثل تجاري » وبطاقة « محمي »، وكذا منع منح أي شهادة للتعاون الفلاحي،
دون دراسة للملف في كافة جوانبه. لقد كان ضروريا القيام بكل تلك
الإجراءات، رغم صرامتها التي لا يمكن أن تكون بدون ثمن، لأن السماح بمنح
حمائية لعدد من الأهالي، كان يمنحهم نفس حقوقنا القانونية في المعاملة،
مما كان يلزمنا بالدخول في متاهات دفاع عن بعض مواقفهم نحن في غنى عنها،
بل إنها تعطل عملنا الأساسي في الحقيقة، وتستثمر منا وقتا طويلا دون فائدة
كبرى. لقد بعثنا أوامر محددة وواضحة لممثلينا القنصليين على طول مدن
الشاطئ الأطلنتي. كان التوجيه العام، هو عدم منح « حق الحمائية »
للمغاربة، إلا في ظل شروط محددة، وبما لا يعود بالسلب على فعالية علمنا
الديبلوماسي. النتيجة، هي أن عملنا ذاك، قد ساهم في توضيح علاقتنا أكثر مع
الحكومة الشريفية. بل، إن ذلك، قد عزز من احترامنا عمليا للسلطان الجديد،
دون أن يكون ذلك على حساب مصالحنا الحيوية الإقتصادية بالبلد. [ يقصد
السلطان مولاي عبد العزيز، الذي لم تكن علاقة حكومته على ما يرام مع
باريس، وكانت له نزوع سياسية لتعزيز العلاقات المغربية أكثر مع بريطانيا
وألمانيا. - م - ].
كان من الوهم، من قبلنا، الإعتقاد أن المخزن سيعترف لنا بذلك الجهد
ويقدره، لكن ذلك لن يمنع شرفنا الفرنسي، من أن يربح بعض النقط الإيجابية.
مثلما، أن الإسراع في حل عدد آخر من القضايا العالقة، قد أصبح ممكنا أكثر.
لقد بعث إلي الدكتور ليناريس من فاس يقول، إن تلك الإجراءات قدد عززت من
الإمكانية لتبديد الكثير من أسباب سوء الفهم في العلاقة مع المركز. وبعد
أن داع خبر مهمتنا ونتائجها الواضحة، فإن العديد من زملاءنا الديبلوماسيين
قد بادروا إلى القيام بعمل مماثل. بل إنه خلال اجتماعاتنا المشتركة
العامة، بدأت تتبلور فكرة مساعدة السلطات الشريفية، في تحديث العلاقة
السياسية والإقتصادية معنا جميعا، وكذا دعم كل مشاريع المخزن في إصلاح
دواليبه الإدارية. [ هنا اعتراف على أن حركية الإصلاح كانت قائمة في
المغرب قبل الحماية بعقود - م - ]. لقد كان ذلك مبعث سعادة لنا في السفارة
الفرنسية، لأن مشروعنا قد أنضج حركية في كل الجسم الديبلوماسي وفي العلاقة
مع السلطات المغربية.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
الإنجليز والألمان والإسبان ضد احتلال فرنسا لصحراء المغرب الشرقية سنة 1899..
كانت السياسة
البريطانية [ في المغرب ] جد نشيطة. لقد أصر السير أرثور نيكلسون على إلزام
المحميين وغير المحميين المغاربة، بأداء ضريبة «الترتيب» التي تم إقرارها
في المؤتمر الدولي لسنة 1880، التي لم تطبق كما يجب. [ المقصود هنا، مؤتمر
مدريد لسنة 1880 الخاص بالقضية المغربية، والذي شاركت فيه حوالي سبع دول
أروبية إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، من أجل تحديد الدول التي لها
«الأفضلية والأحقية» في تقسيم الحلوى المغربية. بينما ضريبة «الترتيب»، هي
ضريبة موحدة تنسبها الكثير من المصادر المغربية ( خاصة كتاب «الإستقصا»
للفقيه الناصري السلاوي) إلى السلطان المولى الحسن الأول. والحقيقة أن هذا
السلطان المغربي قد حاول إعادة تنظيم الدولة المغربية، من خلال جملة
إصلاحات، لعل أهمها إصلاح الجيش وتحديث أسلحته، تنظيم البريد، توحيد العملة
( الريال الحسني الشهير )، توحيد الضرائب ( ضريبة الترتيب )، وأخيرا بعث
350 طالبا مغربيا لتلقي العلوم الحديثة بجامعات أروبا . - م - ]. كانت
ملتقيات الجسم الديبلوماسي الأجنبي بطنجة تتوالى، ولم تكن العين المجردة
لتخطئ الجهد المبدول من أجل تحقيق الإصلاح [بالدولة المغربية]. وفي كل تلك
اللقاءات، كان كل طرف يحاول تبرير مبادراته، حتى التافه منها، وكنت
للحقيقة، أتتبع ذلك بحياد علمي، لكن الأساسي، أن ذلك كله كان يسمح لنا
بتتبع خيط السياسة البريطانية بالمغرب. السياسة التي كانت تسعى أن تكون
متساوقة مع سياسة السلطان الجديد [مولاي عبد العزيز، الذي لم تكن الكتابات
التاريخية الفرنسية منصفة في حقه - م - ]، دون أن تسقط من حساباتها
احتمالات التحول بسبب من حساباتها في مصر. [ هنا يكشف الكاتب أن التفاوض
السري، كان مفتوحا بين باريس ولندن حول القضية المغربية، والذي تجلى واضحا
سنة 1906 من خلال اتفاقية وزيري خارجية البلدين سايكس بيكو، حيث تنازلت
فرنسا لإنجلترا عن أي مزاحمة في مصر والسودان، فيما رفعت إنجلترا يدها عن
المغرب. - م - ]. لابد من الإشارة، أن السير نيكلسون كان متعاونا جدا معنا
في ما يرتبط بالأمور الصحية [بالمغرب]. لقد نجحت في أن أنصب طبيبا فرنسيا
في منصب الطبيب الرئيسي بطنجة، بعدما كان ذلك المنصب دوما من نصيب الإسبان.
في هذه الظروف جاء الدكتور رينو، الطبيب المجرب والمبرز بالجزائر، الذي
كانت له تجربة في مواجهة الأوبئة وإقامة المعازل الطبية.
كان شتاء 1899 - 1900، من أشد فترات التوتر والعمل المتلاحق عندنا. ففي
أواسط شهر دجنبر، كان فريق الباحث الجيولوجي م. فلامون، العامل بالمناطق
الصحراوية الشرقية [للمغرب]، بطلب من حكومة الجزائر [الفرنسية]، بمنطقة «
إنصلاح » بواحة تيدكلت، قد تعرض لهجوم من أهالي ذلك القصر [الصحراوي].
فولدت « قضية توات »، التي كنا مضطرين لحلها بطرق عسكرية عنيفة [من خلال
احتلال المنطقة]. للأسف، كان الطقس قد بدأ يتبدل، وبدأ موسم الحرارة يزحف،
فاضطررنا لتأجيل إتمام العملية إلى العام الموالي. لقد كانت نتيجة ذلك، هي
المساس عميقا بتواجدنا في المغرب. لقد تم اتخاد إجراءات متسرعة بباريس.
الحقيقة، أن عدم التخطيط الجيد في أمور مماثلة، تكون نتيجته دوما كارثية،
فقد كان الأمر مجرد رد فعل منا على حادث معزول، ولم يكن الأمر مندرجا في
عمل استراتيجي منظم. وكانت النتيجة مواقف تتطلب الكثير من النقد والمواجهة.
منذ وفاة السلطان مولاي الحسن [ الأول ]، الذي كانت له مواقف معروفة حول
قضية الصحراء [الشرقية ]، والتي تعاظمت بعد زيارته لتافيلالت سنة 1893، فإن
المغرب كان تحت قيادة [الحاجب] سي أحمد، الذي كان رجلا صعب المزاج، لا
يقبل الحلول الوسط، والذي كان يصر على مواصلة اتباع سياسة سيده الراحل.
علما أن خبر سيطرتنا على « إنصلاح »، قد ولد ردود فعل عنيفة بكل المملكة
الشريفة. [ لابد من التوقف هنا عند هذا الحادث الذي لا تزال تبعاته متواصلة
إلى اليوم بتفاصيل جديدة. الأمر هنا يتعلق بمشروع فرنسا في احتلال مناطق
الصحراء الشرقية للمغرب، جنوب فكيك وتوات، وصولا حتى تيندوف وكولمب بشار
ونزولا إلى الحدود الشمالية الشرقية لموريتانيا الحالية. وهي أراضي شاسعة،
اكتشف فيها الجيولوجي الفرنسي المذكور أعلاه م. فلامون، مناجم غنية للحديد
والكوبالت وغيرها من المعادن الهامة. فقررت باريس إلحاقها بالجزائر
الفرنسية في العقدين الأخيرين من القرن 19. بل إن الرئيس الموريتاني
الراحل، المختار ولد داداه، في مذكراته الجريئة التي نشرت مؤخرا، الذي كان
أول رئيس لموريتانيا التي تأسست بدعم كامل من باريس سنة 1962، باعتراف من
الرجل نفسه، قد ذكر تفصيلا هاما جدا، هو اتصال الجنرال دوغول بالملك الوطني
الراحل محمد الخامس سنة 1958، واقترح عليه إعادة المناطق التي احتلتها
فرنسا من صحراء المغرب الشرقية، في مقابل وقف المغاربة الدعم الرسمي
والشعبي للثورة الجزائرية البطلة. لكن ملك المغرب، الوطني الأصيل، رفض تلك
الصفقة، قائلا إنه لا يمكن أن يطعن الأخوة الجزائرية في الظهر، وأنه اتفق
مع السيد بن خدة رئيس حكومة المنفى الجزائرية، على حل مشكل الحدود وضمنها
تلك المناطق الصحراوية، بعد استقلال الجزائر. لكن الفريق الشاب الذي تسلم
السلطة سنة 1962، بالجزائر العاصمة، لم يرى من داع للإلتزام بذلك الإتفاق.
فتصاعد الموقف، في بدايات عهد الملك الراحل الحسن الثاني وبدايات عهد
الدولة الجزائرية الحديثة، برئاسة الرئيس المقاوم أحمد بن بلة، مما أدى إلى
حرب 1963، التي عرفت بحرب الرمال، وبعض المصادر تسميها أيضا « حرب توات »،
التي لها إحالة على ذكرى القضية التي يتحدث عنها الكاتب هنا، وهي «قضية
توات» سنة 1900. ومن مكر الصدف أن ذات المنطقة المغربية التي انتزعتها
فرنسا بالقوة والغصب من بلادنا، وألحقتها بالجزائر، أي مناطق تيندوف، هي
ذاتها التي تنطلق منها استراتيجية القوة العسكرية النافذة في السلطة
الجزائرية منذ 1975، لتقويض حق المغرب في استكمال وحدته الترابية. إنه مكر
التاريخ، وفي كثير من الأحيان قلة مرؤوته أو بالأحرى بعض من صناعه. - م -
].
لقد بادرت الحكومة الشريفية للإتصال بالممثليات الأجنبية [بالمغرب]، وضمنها
طبعا الممثلية الألمانية، لكن الظاهر أنها لم تتلق منها جميعها غير
الكلمات المعسولة. كنت حينها المسؤول عن سفارة فرنسا، في انتظار وصول
السفير المعين، من تونس، السيد م. ريفوال، وكنت أتلقى كثيرا زيارات زملائي
الديبلوماسيين الألمان والإسبان، الذين كانوا يعرضون أمامي قضية واحات
[توات]. كنت في كل مرة يطرحون علي الملف، أجتهد في أن أقدم أمامهم ملف
الصحراء تلك في شموليته، وأحاول إقناعهم بالحجج الدامغة لسبب تحركنا ذاك،
من أجل ضمان أمننا في أقصى الجنوب الجزائري. كان زملائي، لا يجدون ما
يدافعون به عن الموقف المغربي، ولا ما يدافعون به عن موقف حاجب المملكة [سي
أحمد ]. هذا، لم يحجب عنا أن الكل كان ضد موقفنا في السفارات الأجنبية،
عدا السفير الروسي، السيد دوباشراش، الذي بقي وفيا لنا على طول الخط.
[جميلة عبارة «وفيا لنا» هذه. كما لو أنه وفاء في قضية عادلة!! - م - ].
الحقيقة أن الجو الديبلوماسي العام [في طنجة] كان مشحونا جدا حينها، وأذكر
أنه تصادف أن رست سفينتان حربيتان فرنسيتان بعرض بحر المدينة، وهما سفينتا
« كارنو» و « ماسينا »، لمدة 48 ساعة فقط، في رحلة لهما من ميناء تولون
إلى ميناء بريست الفرنسيين، مما اعتبر من قبل الديبلوماسيين الأجانب
استفزازا لم يقبلوه قط.
البريطانية [ في المغرب ] جد نشيطة. لقد أصر السير أرثور نيكلسون على إلزام
المحميين وغير المحميين المغاربة، بأداء ضريبة «الترتيب» التي تم إقرارها
في المؤتمر الدولي لسنة 1880، التي لم تطبق كما يجب. [ المقصود هنا، مؤتمر
مدريد لسنة 1880 الخاص بالقضية المغربية، والذي شاركت فيه حوالي سبع دول
أروبية إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، من أجل تحديد الدول التي لها
«الأفضلية والأحقية» في تقسيم الحلوى المغربية. بينما ضريبة «الترتيب»، هي
ضريبة موحدة تنسبها الكثير من المصادر المغربية ( خاصة كتاب «الإستقصا»
للفقيه الناصري السلاوي) إلى السلطان المولى الحسن الأول. والحقيقة أن هذا
السلطان المغربي قد حاول إعادة تنظيم الدولة المغربية، من خلال جملة
إصلاحات، لعل أهمها إصلاح الجيش وتحديث أسلحته، تنظيم البريد، توحيد العملة
( الريال الحسني الشهير )، توحيد الضرائب ( ضريبة الترتيب )، وأخيرا بعث
350 طالبا مغربيا لتلقي العلوم الحديثة بجامعات أروبا . - م - ]. كانت
ملتقيات الجسم الديبلوماسي الأجنبي بطنجة تتوالى، ولم تكن العين المجردة
لتخطئ الجهد المبدول من أجل تحقيق الإصلاح [بالدولة المغربية]. وفي كل تلك
اللقاءات، كان كل طرف يحاول تبرير مبادراته، حتى التافه منها، وكنت
للحقيقة، أتتبع ذلك بحياد علمي، لكن الأساسي، أن ذلك كله كان يسمح لنا
بتتبع خيط السياسة البريطانية بالمغرب. السياسة التي كانت تسعى أن تكون
متساوقة مع سياسة السلطان الجديد [مولاي عبد العزيز، الذي لم تكن الكتابات
التاريخية الفرنسية منصفة في حقه - م - ]، دون أن تسقط من حساباتها
احتمالات التحول بسبب من حساباتها في مصر. [ هنا يكشف الكاتب أن التفاوض
السري، كان مفتوحا بين باريس ولندن حول القضية المغربية، والذي تجلى واضحا
سنة 1906 من خلال اتفاقية وزيري خارجية البلدين سايكس بيكو، حيث تنازلت
فرنسا لإنجلترا عن أي مزاحمة في مصر والسودان، فيما رفعت إنجلترا يدها عن
المغرب. - م - ]. لابد من الإشارة، أن السير نيكلسون كان متعاونا جدا معنا
في ما يرتبط بالأمور الصحية [بالمغرب]. لقد نجحت في أن أنصب طبيبا فرنسيا
في منصب الطبيب الرئيسي بطنجة، بعدما كان ذلك المنصب دوما من نصيب الإسبان.
في هذه الظروف جاء الدكتور رينو، الطبيب المجرب والمبرز بالجزائر، الذي
كانت له تجربة في مواجهة الأوبئة وإقامة المعازل الطبية.
كان شتاء 1899 - 1900، من أشد فترات التوتر والعمل المتلاحق عندنا. ففي
أواسط شهر دجنبر، كان فريق الباحث الجيولوجي م. فلامون، العامل بالمناطق
الصحراوية الشرقية [للمغرب]، بطلب من حكومة الجزائر [الفرنسية]، بمنطقة «
إنصلاح » بواحة تيدكلت، قد تعرض لهجوم من أهالي ذلك القصر [الصحراوي].
فولدت « قضية توات »، التي كنا مضطرين لحلها بطرق عسكرية عنيفة [من خلال
احتلال المنطقة]. للأسف، كان الطقس قد بدأ يتبدل، وبدأ موسم الحرارة يزحف،
فاضطررنا لتأجيل إتمام العملية إلى العام الموالي. لقد كانت نتيجة ذلك، هي
المساس عميقا بتواجدنا في المغرب. لقد تم اتخاد إجراءات متسرعة بباريس.
الحقيقة، أن عدم التخطيط الجيد في أمور مماثلة، تكون نتيجته دوما كارثية،
فقد كان الأمر مجرد رد فعل منا على حادث معزول، ولم يكن الأمر مندرجا في
عمل استراتيجي منظم. وكانت النتيجة مواقف تتطلب الكثير من النقد والمواجهة.
منذ وفاة السلطان مولاي الحسن [ الأول ]، الذي كانت له مواقف معروفة حول
قضية الصحراء [الشرقية ]، والتي تعاظمت بعد زيارته لتافيلالت سنة 1893، فإن
المغرب كان تحت قيادة [الحاجب] سي أحمد، الذي كان رجلا صعب المزاج، لا
يقبل الحلول الوسط، والذي كان يصر على مواصلة اتباع سياسة سيده الراحل.
علما أن خبر سيطرتنا على « إنصلاح »، قد ولد ردود فعل عنيفة بكل المملكة
الشريفة. [ لابد من التوقف هنا عند هذا الحادث الذي لا تزال تبعاته متواصلة
إلى اليوم بتفاصيل جديدة. الأمر هنا يتعلق بمشروع فرنسا في احتلال مناطق
الصحراء الشرقية للمغرب، جنوب فكيك وتوات، وصولا حتى تيندوف وكولمب بشار
ونزولا إلى الحدود الشمالية الشرقية لموريتانيا الحالية. وهي أراضي شاسعة،
اكتشف فيها الجيولوجي الفرنسي المذكور أعلاه م. فلامون، مناجم غنية للحديد
والكوبالت وغيرها من المعادن الهامة. فقررت باريس إلحاقها بالجزائر
الفرنسية في العقدين الأخيرين من القرن 19. بل إن الرئيس الموريتاني
الراحل، المختار ولد داداه، في مذكراته الجريئة التي نشرت مؤخرا، الذي كان
أول رئيس لموريتانيا التي تأسست بدعم كامل من باريس سنة 1962، باعتراف من
الرجل نفسه، قد ذكر تفصيلا هاما جدا، هو اتصال الجنرال دوغول بالملك الوطني
الراحل محمد الخامس سنة 1958، واقترح عليه إعادة المناطق التي احتلتها
فرنسا من صحراء المغرب الشرقية، في مقابل وقف المغاربة الدعم الرسمي
والشعبي للثورة الجزائرية البطلة. لكن ملك المغرب، الوطني الأصيل، رفض تلك
الصفقة، قائلا إنه لا يمكن أن يطعن الأخوة الجزائرية في الظهر، وأنه اتفق
مع السيد بن خدة رئيس حكومة المنفى الجزائرية، على حل مشكل الحدود وضمنها
تلك المناطق الصحراوية، بعد استقلال الجزائر. لكن الفريق الشاب الذي تسلم
السلطة سنة 1962، بالجزائر العاصمة، لم يرى من داع للإلتزام بذلك الإتفاق.
فتصاعد الموقف، في بدايات عهد الملك الراحل الحسن الثاني وبدايات عهد
الدولة الجزائرية الحديثة، برئاسة الرئيس المقاوم أحمد بن بلة، مما أدى إلى
حرب 1963، التي عرفت بحرب الرمال، وبعض المصادر تسميها أيضا « حرب توات »،
التي لها إحالة على ذكرى القضية التي يتحدث عنها الكاتب هنا، وهي «قضية
توات» سنة 1900. ومن مكر الصدف أن ذات المنطقة المغربية التي انتزعتها
فرنسا بالقوة والغصب من بلادنا، وألحقتها بالجزائر، أي مناطق تيندوف، هي
ذاتها التي تنطلق منها استراتيجية القوة العسكرية النافذة في السلطة
الجزائرية منذ 1975، لتقويض حق المغرب في استكمال وحدته الترابية. إنه مكر
التاريخ، وفي كثير من الأحيان قلة مرؤوته أو بالأحرى بعض من صناعه. - م -
].
لقد بادرت الحكومة الشريفية للإتصال بالممثليات الأجنبية [بالمغرب]، وضمنها
طبعا الممثلية الألمانية، لكن الظاهر أنها لم تتلق منها جميعها غير
الكلمات المعسولة. كنت حينها المسؤول عن سفارة فرنسا، في انتظار وصول
السفير المعين، من تونس، السيد م. ريفوال، وكنت أتلقى كثيرا زيارات زملائي
الديبلوماسيين الألمان والإسبان، الذين كانوا يعرضون أمامي قضية واحات
[توات]. كنت في كل مرة يطرحون علي الملف، أجتهد في أن أقدم أمامهم ملف
الصحراء تلك في شموليته، وأحاول إقناعهم بالحجج الدامغة لسبب تحركنا ذاك،
من أجل ضمان أمننا في أقصى الجنوب الجزائري. كان زملائي، لا يجدون ما
يدافعون به عن الموقف المغربي، ولا ما يدافعون به عن موقف حاجب المملكة [سي
أحمد ]. هذا، لم يحجب عنا أن الكل كان ضد موقفنا في السفارات الأجنبية،
عدا السفير الروسي، السيد دوباشراش، الذي بقي وفيا لنا على طول الخط.
[جميلة عبارة «وفيا لنا» هذه. كما لو أنه وفاء في قضية عادلة!! - م - ].
الحقيقة أن الجو الديبلوماسي العام [في طنجة] كان مشحونا جدا حينها، وأذكر
أنه تصادف أن رست سفينتان حربيتان فرنسيتان بعرض بحر المدينة، وهما سفينتا
« كارنو» و « ماسينا »، لمدة 48 ساعة فقط، في رحلة لهما من ميناء تولون
إلى ميناء بريست الفرنسيين، مما اعتبر من قبل الديبلوماسيين الأجانب
استفزازا لم يقبلوه قط.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
قضية توات.. أو كيف سرقت فرنسا للمغرب صحراءه الشرقية وألحقتها بالجزائر سنة 1900!
قامت حكومة
الجزائر [الفرنسية]، في الشهور الأولى من سنة 1900، بالعودة إلى التحرك
عسكريا لتنفيذ الجزء الثاني من مخططها لاحتلال الواحات [واحات الصحراء
الشرقية للمغرب] وكل الجزء الشمالي منها [الذي يضم تيندوف وكولمب بشار
وتوات ]. لقد توقفنا عند حمادة «وادي الساورة»، الذي يعتبر المدخل الطبيعي
باتجاه توات. لكن، ستواجهنا مشاكل جدية بالمنطقة. لقد قيل حينها إننا بصدد
الزحف نحو تافيلالت، معقل العائلة العلوية الحاكمة بالمغرب. بالتالي، فقد
كانت الهجومات متواصلة ضدنا، وكانت قبيلة «الدوي مينيا» الأشد في
هجوماتها. كانت الوضعية صعبة علينا، مع إمكانية أن تتطور الأمور نحو
الأسوأ. كنت في اتصال دائم مع ممثل السلطان بطنجة، سي محمد الطريس، ولقد
اضطررت في إحدى اللقاءات إلى تهديده جديا، هو الذي كان متنطعا، وأكدت له
أن بلاده سوف تتسبب لنفسها في مشاكل جدية معنا، بسبب الهجومات المتواصلة
لتلك القبيلة بالتحديد. ولقد نجحت بعد جهد جهيد في أن أستصدر تنازلا من
السيد محمد الطريس ذاك ومن الحكومة الشريفية عن تلك القبيلة لصالح الجزائر
[الفرنسية]، وحسب التعبير الحرفي للسي الطريس، فإنه متروك الحل لفرنسا
مباشرة مع تلك القبيلة (!!). [هذه المعلومات، لا شئ يؤكدها ماديا، لأنه
ليست هناك ولا وثيقة رسمية سلطانية مغربية واحدة تتنازل عن تلك الأراضي
وساكنتها لصالح الحكومة الفرنسية بالجزائر. بما فيها نص الإتفاقية التي
وقعت حول القضية المغربية بباريس، والتي تحدد شكل العلاقة بين الجزائر
الفرنسية والدولة المغربية بعد ذلك. ولعل المعلومات الواردة، إنما تؤكد
على العكس من ذلك مغربية تلك الأراضي، وأن الإستعمار الفرنسي اقتطعها
بالقوة من المغاربة وألحقها بالجزائر، ضمن مخططه الإستعماري الشامل لكل
الشمال الإفريقي الغربي. ـ م -].
كانت باريس جد مرتاحة لتلك النتيجة،
وهو ذات الإرتياح الذي سجل في الجزائر العاصمة، فقد سمح ذلك كله لقواتنا
بمواصلة زحفها نحو «إغلي»، لأن عناصر المقاومة قد تراجعت. وسيتم استغلال
ذلك جيدا في مرحلة توقيع اتفاقية «النظام الخاص بين الجزائر والمغرب»،
الموقعة بباريس. وهي الإتفاقية التي قدمت لنا خدمات جليلة، بفضل حنكة
السيد م. ريفوال [السفير الفرنسي الجديد بالمغرب، الذي كان حاكما عاما
لفرنسا بتونس. والذي جيئ به إلى طنجة لخبرته ودهائه السياسي، وأيضا
لمكانته النافذة في صناعة القرار بباريس وبالدولة الفرنسية، خاصة مؤسستها
العسكرية ذات النزوع الإستعمارية - م - ]. لقد عززت تلك الإتفاقية، من
موقعنا التفاوضي أثناء مؤتمر الجزيرة الخضراء، وعززت من مكانتنا التفضيلية
في القضية المغربية. [هذه معلومات في غاية الأهمية، حول السيناريو الذي
حبكته فرنسا لتعزيز موقعها التفاوضي ميدانيا، مع باقي القوى الأروبية
الإستعمارية، خاصة لندن وبرلين ومدريد، من أجل احتلال المغرب والتحكم فيه.
وهو المشروع الذي سينفذ ابتداء من سنة 1907 بقصف الدارالبيضاء واحتلالها،
وسنة 1908 باحتلال وجدة، ثم سنة 1912 بتوقيع اتفاقية الحماية واحتلال كل
المغرب الأوسط الغني فلاحيا والغني بثرواته المعدنية وثرواته المائية
وموانئه المتعددة على ضفة الأطلسي. وهو الإحتلال الذي لن يكتمل بقوة النار
والبارود إلا في سنة 1936 بعد معارك قبائل آيت عطا بجبال صاغرو وقبائل آيت
باعمران بإقليم تزنيت. والمقصود بمؤتمر الجزيرة الخضراء، مؤتمر سنة 1906
الخاص بالقضية المغربية الذي تم فيه توزيع المغرب كدولة بين فرنسا
وإسبانيا وتنازل بريطانيا عن مطامحها في المغرب في مقابل ترك اليد لها في
مصر والسودان، مع الإبقاء على طنجة منطقة دولية لموقعها الإستراتيجي
الحاسم في مضيق جبل طارق. علما أن قرار باريس احتلال تلك المناطق
الصحرواية الشرقية للمغرب بالقوة، قد تم بعد رحلة باحثها الجيولوجي «م.
فلامون»، الذي اكتشف مناجم غنية للحديد بالمنطقة - م - ].
بخصوص قبيلة « دوي مينيا»، فإنها كانت تشكل تجمعا بشريا هاما وكبيرا، وهم
محاربون أشداء وذوو بأس شديد، في تلك المناطق الصحراوية القاحلة والشاسعة
التي تمتد من جنوب وهران حتى تافيلالت. وكنا ندرك أهميتها منذ اتفاقية سنة
1845 [بعد هزيمة المغرب في معركة إيسلي الشهيرة - م - ]، حيث يظهر أنها
تركت عزلاء بدون انتماء [سبحان الله !! ولكن لنتأمل ما سيلي من كلام
الكاتب فهو يناقض نفسه بنفسه - م - ]. في سنة 1870، يظهر [ ليلاحظ معي
القارئ التعبير هنا ] أن حكومة الجزائر (الفرنسية) كانت تعتبرها رسميا
مغربية. فقد كان ذلك واضحا في القرارات العسكرية الموجهة للجنرال «دو
ويمبفن»، أثناء الحملة باتجاه «وادي غير». وهي التعلميات التي عززتها
قرارات الماريشال « لوبوف »، وزير الحربية آنذاك، يوم 13 مارس من نفس
السنة. لقد اعتبر الجنرال « دو ويمبفن» بعد عودته من حملته العسكرية، أن
قبيلة « دوي مينيا » تتشكل من 130 ألف نسمة. وكان السلطان الحسن الأول قد
فرض عليهم الضرائب سنة 1891، بصفتهم مغاربة، مثلما سجل أنهم زاروا هذا
السلطان وقدموا له البيعة التقليدية. وكانت دار المخزن لا تتعب من ترديد
أن لهذه القبيلة امتدادات ومصالح كبرى في تافيلالت، وأنها كانت سندا كبيرا
للسلطان مولاي سليمان، حين حملته العسكرية خلال القرن 18 لاستعادة واحة
فكيك [ في خضم صراع مع أحد أقاربه ].
كانت النتيجة التي نجحت شخصيا في الوصول إليها، في ما يرتبط بقضية توات،
دليلا واضحا على مدى الضعف الذي بلغته الحكومة الشريفية. لقد اكتشفت تلك
الحكومة، أنها لم تجن أي شئ من وراء الكلمات الرنانة لخصومنا
الديبلوماسيين ولا من وراء مبادرات الوسطاء البئيسين الذين حاولوا التدخل
في القضية. لقد نجحنا في دفع المخزن لإعادة التفكير جديا في العلاقة معنا،
بفضل موقفنا العسكري الحاسم على الأرض. كانت المناسبة مواتية لنا، لتحديد
شكل علاقة جديدة مع المغرب، لكن حكم عبد العزيز [ لا يلقبه الكاتب قط بصفة
مولاي عبد العزيز !! - م - ] كان يتفتت. والأساسي بالنسبة لنا، أن عدم
خبرة ذلك النظام، كان يصب في مصلحتنا وكان مفيدا لنا. وبهذه الطريقة وضعنا
نهاية سعيدة لقضية توات، رغم بعض المنغصات التي واجهتنا في الطريق. فقط،
لأذكر هنا، بمفارقة أسر لي بها زميل ديبلوماسي أجنبي، حيث قال لي ذات مرة:
« كم نأسف أن قضية توات هذه انتهت بسرعة، فقد كانت مناسبة لنحصل على ما
نريد بزيادة من السلاطين » (!!). بينما لم تتردد البعثة الألمانية، في أن
تهمس لكل الديبلوماسيات الأجنبية [بطنجة] أننا كفرنسيين بصدد «تونسة
المغرب» [ أي القيام بذات ما قامت به فرنسا في تونس بالمغرب. أي التمهيد
لاحتلاله. ـ م -].
الجزائر [الفرنسية]، في الشهور الأولى من سنة 1900، بالعودة إلى التحرك
عسكريا لتنفيذ الجزء الثاني من مخططها لاحتلال الواحات [واحات الصحراء
الشرقية للمغرب] وكل الجزء الشمالي منها [الذي يضم تيندوف وكولمب بشار
وتوات ]. لقد توقفنا عند حمادة «وادي الساورة»، الذي يعتبر المدخل الطبيعي
باتجاه توات. لكن، ستواجهنا مشاكل جدية بالمنطقة. لقد قيل حينها إننا بصدد
الزحف نحو تافيلالت، معقل العائلة العلوية الحاكمة بالمغرب. بالتالي، فقد
كانت الهجومات متواصلة ضدنا، وكانت قبيلة «الدوي مينيا» الأشد في
هجوماتها. كانت الوضعية صعبة علينا، مع إمكانية أن تتطور الأمور نحو
الأسوأ. كنت في اتصال دائم مع ممثل السلطان بطنجة، سي محمد الطريس، ولقد
اضطررت في إحدى اللقاءات إلى تهديده جديا، هو الذي كان متنطعا، وأكدت له
أن بلاده سوف تتسبب لنفسها في مشاكل جدية معنا، بسبب الهجومات المتواصلة
لتلك القبيلة بالتحديد. ولقد نجحت بعد جهد جهيد في أن أستصدر تنازلا من
السيد محمد الطريس ذاك ومن الحكومة الشريفية عن تلك القبيلة لصالح الجزائر
[الفرنسية]، وحسب التعبير الحرفي للسي الطريس، فإنه متروك الحل لفرنسا
مباشرة مع تلك القبيلة (!!). [هذه المعلومات، لا شئ يؤكدها ماديا، لأنه
ليست هناك ولا وثيقة رسمية سلطانية مغربية واحدة تتنازل عن تلك الأراضي
وساكنتها لصالح الحكومة الفرنسية بالجزائر. بما فيها نص الإتفاقية التي
وقعت حول القضية المغربية بباريس، والتي تحدد شكل العلاقة بين الجزائر
الفرنسية والدولة المغربية بعد ذلك. ولعل المعلومات الواردة، إنما تؤكد
على العكس من ذلك مغربية تلك الأراضي، وأن الإستعمار الفرنسي اقتطعها
بالقوة من المغاربة وألحقها بالجزائر، ضمن مخططه الإستعماري الشامل لكل
الشمال الإفريقي الغربي. ـ م -].
كانت باريس جد مرتاحة لتلك النتيجة،
وهو ذات الإرتياح الذي سجل في الجزائر العاصمة، فقد سمح ذلك كله لقواتنا
بمواصلة زحفها نحو «إغلي»، لأن عناصر المقاومة قد تراجعت. وسيتم استغلال
ذلك جيدا في مرحلة توقيع اتفاقية «النظام الخاص بين الجزائر والمغرب»،
الموقعة بباريس. وهي الإتفاقية التي قدمت لنا خدمات جليلة، بفضل حنكة
السيد م. ريفوال [السفير الفرنسي الجديد بالمغرب، الذي كان حاكما عاما
لفرنسا بتونس. والذي جيئ به إلى طنجة لخبرته ودهائه السياسي، وأيضا
لمكانته النافذة في صناعة القرار بباريس وبالدولة الفرنسية، خاصة مؤسستها
العسكرية ذات النزوع الإستعمارية - م - ]. لقد عززت تلك الإتفاقية، من
موقعنا التفاوضي أثناء مؤتمر الجزيرة الخضراء، وعززت من مكانتنا التفضيلية
في القضية المغربية. [هذه معلومات في غاية الأهمية، حول السيناريو الذي
حبكته فرنسا لتعزيز موقعها التفاوضي ميدانيا، مع باقي القوى الأروبية
الإستعمارية، خاصة لندن وبرلين ومدريد، من أجل احتلال المغرب والتحكم فيه.
وهو المشروع الذي سينفذ ابتداء من سنة 1907 بقصف الدارالبيضاء واحتلالها،
وسنة 1908 باحتلال وجدة، ثم سنة 1912 بتوقيع اتفاقية الحماية واحتلال كل
المغرب الأوسط الغني فلاحيا والغني بثرواته المعدنية وثرواته المائية
وموانئه المتعددة على ضفة الأطلسي. وهو الإحتلال الذي لن يكتمل بقوة النار
والبارود إلا في سنة 1936 بعد معارك قبائل آيت عطا بجبال صاغرو وقبائل آيت
باعمران بإقليم تزنيت. والمقصود بمؤتمر الجزيرة الخضراء، مؤتمر سنة 1906
الخاص بالقضية المغربية الذي تم فيه توزيع المغرب كدولة بين فرنسا
وإسبانيا وتنازل بريطانيا عن مطامحها في المغرب في مقابل ترك اليد لها في
مصر والسودان، مع الإبقاء على طنجة منطقة دولية لموقعها الإستراتيجي
الحاسم في مضيق جبل طارق. علما أن قرار باريس احتلال تلك المناطق
الصحرواية الشرقية للمغرب بالقوة، قد تم بعد رحلة باحثها الجيولوجي «م.
فلامون»، الذي اكتشف مناجم غنية للحديد بالمنطقة - م - ].
بخصوص قبيلة « دوي مينيا»، فإنها كانت تشكل تجمعا بشريا هاما وكبيرا، وهم
محاربون أشداء وذوو بأس شديد، في تلك المناطق الصحراوية القاحلة والشاسعة
التي تمتد من جنوب وهران حتى تافيلالت. وكنا ندرك أهميتها منذ اتفاقية سنة
1845 [بعد هزيمة المغرب في معركة إيسلي الشهيرة - م - ]، حيث يظهر أنها
تركت عزلاء بدون انتماء [سبحان الله !! ولكن لنتأمل ما سيلي من كلام
الكاتب فهو يناقض نفسه بنفسه - م - ]. في سنة 1870، يظهر [ ليلاحظ معي
القارئ التعبير هنا ] أن حكومة الجزائر (الفرنسية) كانت تعتبرها رسميا
مغربية. فقد كان ذلك واضحا في القرارات العسكرية الموجهة للجنرال «دو
ويمبفن»، أثناء الحملة باتجاه «وادي غير». وهي التعلميات التي عززتها
قرارات الماريشال « لوبوف »، وزير الحربية آنذاك، يوم 13 مارس من نفس
السنة. لقد اعتبر الجنرال « دو ويمبفن» بعد عودته من حملته العسكرية، أن
قبيلة « دوي مينيا » تتشكل من 130 ألف نسمة. وكان السلطان الحسن الأول قد
فرض عليهم الضرائب سنة 1891، بصفتهم مغاربة، مثلما سجل أنهم زاروا هذا
السلطان وقدموا له البيعة التقليدية. وكانت دار المخزن لا تتعب من ترديد
أن لهذه القبيلة امتدادات ومصالح كبرى في تافيلالت، وأنها كانت سندا كبيرا
للسلطان مولاي سليمان، حين حملته العسكرية خلال القرن 18 لاستعادة واحة
فكيك [ في خضم صراع مع أحد أقاربه ].
كانت النتيجة التي نجحت شخصيا في الوصول إليها، في ما يرتبط بقضية توات،
دليلا واضحا على مدى الضعف الذي بلغته الحكومة الشريفية. لقد اكتشفت تلك
الحكومة، أنها لم تجن أي شئ من وراء الكلمات الرنانة لخصومنا
الديبلوماسيين ولا من وراء مبادرات الوسطاء البئيسين الذين حاولوا التدخل
في القضية. لقد نجحنا في دفع المخزن لإعادة التفكير جديا في العلاقة معنا،
بفضل موقفنا العسكري الحاسم على الأرض. كانت المناسبة مواتية لنا، لتحديد
شكل علاقة جديدة مع المغرب، لكن حكم عبد العزيز [ لا يلقبه الكاتب قط بصفة
مولاي عبد العزيز !! - م - ] كان يتفتت. والأساسي بالنسبة لنا، أن عدم
خبرة ذلك النظام، كان يصب في مصلحتنا وكان مفيدا لنا. وبهذه الطريقة وضعنا
نهاية سعيدة لقضية توات، رغم بعض المنغصات التي واجهتنا في الطريق. فقط،
لأذكر هنا، بمفارقة أسر لي بها زميل ديبلوماسي أجنبي، حيث قال لي ذات مرة:
« كم نأسف أن قضية توات هذه انتهت بسرعة، فقد كانت مناسبة لنحصل على ما
نريد بزيادة من السلاطين » (!!). بينما لم تتردد البعثة الألمانية، في أن
تهمس لكل الديبلوماسيات الأجنبية [بطنجة] أننا كفرنسيين بصدد «تونسة
المغرب» [ أي القيام بذات ما قامت به فرنسا في تونس بالمغرب. أي التمهيد
لاحتلاله. ـ م -].
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
الدولة المغربية تنتصر للقانون أكثر في سنة 1900!!
قبل وصول
سفيرنا الجديد [من تونس سنة 1900]، توصلت برسالة تهنئة وتنويه من وزارة
الخارجية الفرنسية، تم فيها التعبير عن تقدير الدولة الفرنسية للجهود التي
بدلتها في المشكل الذي واجهنا [قضية تطورات احتلال فرنسا لصحراء المغرب
الشرقية سنتي 1899 و 1900 - م - ]. ومع مطلع سنة 1900، وصل السيد ريفوال
إلى طنجة، قادما إليها مباشرة من تونس، بعد أن توقف لمدة بالجزائر، قبل أن
يستقل منها باخرة « توش تريفيل» من المرسى الكبير.
كانت الحكومة الفرنسية قد اقتنت لبعتثها الديبلوماسية، حينها، مقرا جديدا،
خارج المدينة [طنجة ]، كان في ملكية السفير النمساوي الهنغاري [كانت حينها
ملكية في أروبا، قبل الحرب العالمية الأولى، أي مملكة النمسا - هنغاريا -
م - ]. لقد أدخلت عليها إصلاحات كثيرة، حيث تم توسيع الحديقة، مما منح
لممثل الجمهورية [الفرنسية] أن ينزل في إقامة فاخرة. بينما قمنا ببيع مقر
إقامتنا القديم إلى تاجر إسرائيلي غني، الذي قام بهدمها وهدم معها
ذكرياتنا بها، ليحل محلها حي مبان للكراء.
بعد وصول سفيرنا بمدة قليلة، وصلنا خبر وفاة حاجب المملكة الوصي على العرش
الشريفي الإمبراطوري. فكان أن تُرك السلطان الشاب [مولاي عبد العزيز] بين
أيدي مساعدين ضعاف، لم يكونوا قط في مستوى الحاجب سي أحمد. لقد دخلنا
مرحلة صعبة وملتبسة، بل إنه أصبح بمقدورنا الجزم، أن المغرب القديم قد
انتهى منذ تلك اللحظة، وأن بداية أفوله قد دقت. وبسبب غياب جديد لسفيرنا،
وهو الغياب الذي ضاعف منه الوفاة المأساوية لأحد أقرابه، فقد وجدتني،
مجددا المسؤول الأول عن السفارة لشهور عدة. لقد دبرت ملفات عدة، من بينها
واحد يعكس صورة المغرب القديم. الأمر يتعلق بتاجر يهودي، كان يعمل في
مؤسسة تجارية فرنسية بفاس، تم قتله في الشارع العام، بل إن الجمهور
المهتاج، سوف يقوم بحرق جتثه. بادرت إلى تكليف ممثلنا في فاس لطلب فتح
تحقيق من السلطات المغربية، لنكتشف أن القتيل كان قد حصل من قبل على
الجنسية الأمريكية، بعد إقامته مدة من الزمن بالولايات المتحدة الأمريكية.
ربطت الإتصال بالسفير الأمريكي المحترم بطنجة، الذي لم يكن متحمسا للذهاب
بعيدا في القضية، مؤكدا أن الأمر يحتاج لمعاجة عادية بسيطة، لأن الأمر
يتعلق بتاجر بسيط في مؤسسة تجارية، بينما كان رأيي، غير ذلك. كانت
النتيجة، أن تم عزل مساعد عامل فاس، لأنني ألححت في نقاشاتي مع المبعوث
الشريفي، على اتهام ذلك الموظف بالتقصير. مثلما تم قبول التعويض المادي
الذي طلبته كتعويض عن فقدان عامل من عمال مؤسستنا التجارية الفرنسية. بل
إن ذلك التعويض قد أخد شكل منحنا فندقا للتجار بطنجة. أما بخصوص عدم تحمس
السفير الأمريكي، فإنني أخبرت بعد ذلك أنه كان على علم من السلطات
المغربية، أن ذلك المواطن اليهودي هو مغربي الجنسية، لأنه أقام بالمغرب
أكثر بكثير مما أقام بأمريكا، وأن ذلك الدفع القوي، كان يتأسس على المادة
16 من اتفاقية مؤتمر مدريد لسنة 1880. [نتمنى أن يكون القارئ الكريم قد
بدأ يتلمس أهمية وخطورة مؤتمر دولي مثل مؤتمر مدريد لسنة 1880، الخاص
بالقضية المغربية. فهذا المؤتمر حدد بدقة شروطا وأصدر نصوصا قاننية لفرض
نوع من التدبير المالي والقانوني على بلادنا في علاقتها بالقوى الدولية
آنذاك. وموقف السفير اأمريكي هنا، يرتكز على نص ذلك القانون الذي يجعل ذلك
القتيل مواطنا مغربيا وليس أمريكيا. بينما حماسة الكاتب والديبلوماسي
الفرنسي هنا آتية من أن الرجل كان عاملا بمؤسسة فرنسية - م -].
لقد قدمت لنا تلك القضية الدليل مجددا، أن أمر الحمائية التي تمنح لعدد من
المغاربة، هي السبب في الكثير من المشاكل، التي تثار مع الحكومة الشريفية.
علما، أن هذه الحكمة قد كانت تحسن جيدا استغلال ما تمنحها النصوص
القانونية من إمكانية للمناورة والمفاوضة. بل إنها تكون جد دقيقة في
دفوعاتها وصلبة في مواقفها. بل إن العديد من البعثات الديبلوماسية
الأجنبية، كانت تجد نفسها في ورطة أمام ذلك الأسلوب التدبيري الجديد،
وتطور المقاربة الديبلوماسية [للمغرب]. لقد أصبح إلزاميا الإتيان بحجج
دامغة، لا يرقى إليها الشك، للوصول إلى النتيجة المرجوة مع السلطات
الشريفية، وإلا فإن الحكومة المغربية لن تتنازل قيد أنملة عن مواقفها
الصارمة. [ هذه شهادة مهمة في صالح مرحلة السلطان المغربي مولاي عبد
العزيز، من قبل الكاتب. لأنها تبرز أنه فعليا تغير أسلوب التدبير الرسمي،
الذي أصبح يحسن استغلال الإمكانيات السياسية والقانونية المتاحة للدفاع عن
مصلحة الدولة. هذا في العمق ما لك تكن قة استعمارية حينها مثل باريس لها
مشروعها السياسي التوسعي الرستعماري بكل الشمال الإفريقي لتقبله أو تتركه
يتقوى. بهذا المعنى يفهم كل ذلك الهجوم على ذلك السلطان الشاب، وخلق أسباب
القلاقل والإضعاف له ولمشروعه السياسي، الذي كان يسعى لإقامة توازن في
العلاقة، مع القوى الكبرى آنذاك: بريطانيا، إسبانيا، ألمانيا وفرنسا.
مثلما كان له هم تسريع وتيرة التحديث التكنولوجي والعسكري للمغرب، هذا ما
لم تكن لتقبله فرنسا المحتلة للجزائر وتونس. - م - ].
بعودته إلى طنجة سنة 1901، دشن سفيرنا السيد ريفوال مقرنا الجديد. لكن
حادثا خطيرا سيقع. حيث تم قتل مواطن فرنسي هو السيد بوزي، الذي تمت تصفيته
بالريف، بعد حمله بضاعة تجارية إلى تاجر من وهران. لقد تأكد لنا تورط قايد
المنطقة، وبالتالي فإ مسؤولية الحكومة الشريفية قائمة. لقد كانت مطالبنا
المصاغة بدقة وبلغة حازمة، من القة، ما لم يترك للسلطات المخزنية أي هامش
للرد أو المناورة. وكانت النتيجة سريعة وباهرة. لقد قرر المخزن تعويضنا
بما قدره 100 ألف فرنك [فرنسي قديم]، وأمر جماركه بطنجة أن تسلمها إلي
مباشرة، وأنه علي تسليمها لعائلة الضحية. بل إنه تقرر في بادرة غير
مسبوقة، تسليمنا منفدي الجريمة، من أجل نقلهم إلى سجن طنجة، بعد أن صدر
الحكم القضائي الشريفي في حقهم، وأنهم سيظلون تحت مراقبتنا وحراستنا في
ذلك السجن. [ هذا واحد من علامات التحول الأخرى، في التدبير الإداري
للدولة المغربية على عهد السلطان مولاي عبد العزيز، وهو الإحتكام إلى
القانون ونصوصه. ومن أجرم عليه تأدية الثمن للمجتمع والدولة، حتى وإن كان
قائدا من القواد. وما يحكم المبادرة هنا، هو نص اتفاقية مؤتمر مدريد، الذي
كان يجيز للبعثات الأجنبية حق مراقبة تنفيذ الأحكام السجنية فوق التراب
المغربي حينها، بدعوى مساعدة الدولة المغربية على تحديث إعادة تنظيم
بنائها الإداري التدبيري. وضمانا لحقوق الأجانب السياسية والتجارية أساسا.
- م- ].
سفيرنا الجديد [من تونس سنة 1900]، توصلت برسالة تهنئة وتنويه من وزارة
الخارجية الفرنسية، تم فيها التعبير عن تقدير الدولة الفرنسية للجهود التي
بدلتها في المشكل الذي واجهنا [قضية تطورات احتلال فرنسا لصحراء المغرب
الشرقية سنتي 1899 و 1900 - م - ]. ومع مطلع سنة 1900، وصل السيد ريفوال
إلى طنجة، قادما إليها مباشرة من تونس، بعد أن توقف لمدة بالجزائر، قبل أن
يستقل منها باخرة « توش تريفيل» من المرسى الكبير.
كانت الحكومة الفرنسية قد اقتنت لبعتثها الديبلوماسية، حينها، مقرا جديدا،
خارج المدينة [طنجة ]، كان في ملكية السفير النمساوي الهنغاري [كانت حينها
ملكية في أروبا، قبل الحرب العالمية الأولى، أي مملكة النمسا - هنغاريا -
م - ]. لقد أدخلت عليها إصلاحات كثيرة، حيث تم توسيع الحديقة، مما منح
لممثل الجمهورية [الفرنسية] أن ينزل في إقامة فاخرة. بينما قمنا ببيع مقر
إقامتنا القديم إلى تاجر إسرائيلي غني، الذي قام بهدمها وهدم معها
ذكرياتنا بها، ليحل محلها حي مبان للكراء.
بعد وصول سفيرنا بمدة قليلة، وصلنا خبر وفاة حاجب المملكة الوصي على العرش
الشريفي الإمبراطوري. فكان أن تُرك السلطان الشاب [مولاي عبد العزيز] بين
أيدي مساعدين ضعاف، لم يكونوا قط في مستوى الحاجب سي أحمد. لقد دخلنا
مرحلة صعبة وملتبسة، بل إنه أصبح بمقدورنا الجزم، أن المغرب القديم قد
انتهى منذ تلك اللحظة، وأن بداية أفوله قد دقت. وبسبب غياب جديد لسفيرنا،
وهو الغياب الذي ضاعف منه الوفاة المأساوية لأحد أقرابه، فقد وجدتني،
مجددا المسؤول الأول عن السفارة لشهور عدة. لقد دبرت ملفات عدة، من بينها
واحد يعكس صورة المغرب القديم. الأمر يتعلق بتاجر يهودي، كان يعمل في
مؤسسة تجارية فرنسية بفاس، تم قتله في الشارع العام، بل إن الجمهور
المهتاج، سوف يقوم بحرق جتثه. بادرت إلى تكليف ممثلنا في فاس لطلب فتح
تحقيق من السلطات المغربية، لنكتشف أن القتيل كان قد حصل من قبل على
الجنسية الأمريكية، بعد إقامته مدة من الزمن بالولايات المتحدة الأمريكية.
ربطت الإتصال بالسفير الأمريكي المحترم بطنجة، الذي لم يكن متحمسا للذهاب
بعيدا في القضية، مؤكدا أن الأمر يحتاج لمعاجة عادية بسيطة، لأن الأمر
يتعلق بتاجر بسيط في مؤسسة تجارية، بينما كان رأيي، غير ذلك. كانت
النتيجة، أن تم عزل مساعد عامل فاس، لأنني ألححت في نقاشاتي مع المبعوث
الشريفي، على اتهام ذلك الموظف بالتقصير. مثلما تم قبول التعويض المادي
الذي طلبته كتعويض عن فقدان عامل من عمال مؤسستنا التجارية الفرنسية. بل
إن ذلك التعويض قد أخد شكل منحنا فندقا للتجار بطنجة. أما بخصوص عدم تحمس
السفير الأمريكي، فإنني أخبرت بعد ذلك أنه كان على علم من السلطات
المغربية، أن ذلك المواطن اليهودي هو مغربي الجنسية، لأنه أقام بالمغرب
أكثر بكثير مما أقام بأمريكا، وأن ذلك الدفع القوي، كان يتأسس على المادة
16 من اتفاقية مؤتمر مدريد لسنة 1880. [نتمنى أن يكون القارئ الكريم قد
بدأ يتلمس أهمية وخطورة مؤتمر دولي مثل مؤتمر مدريد لسنة 1880، الخاص
بالقضية المغربية. فهذا المؤتمر حدد بدقة شروطا وأصدر نصوصا قاننية لفرض
نوع من التدبير المالي والقانوني على بلادنا في علاقتها بالقوى الدولية
آنذاك. وموقف السفير اأمريكي هنا، يرتكز على نص ذلك القانون الذي يجعل ذلك
القتيل مواطنا مغربيا وليس أمريكيا. بينما حماسة الكاتب والديبلوماسي
الفرنسي هنا آتية من أن الرجل كان عاملا بمؤسسة فرنسية - م -].
لقد قدمت لنا تلك القضية الدليل مجددا، أن أمر الحمائية التي تمنح لعدد من
المغاربة، هي السبب في الكثير من المشاكل، التي تثار مع الحكومة الشريفية.
علما، أن هذه الحكمة قد كانت تحسن جيدا استغلال ما تمنحها النصوص
القانونية من إمكانية للمناورة والمفاوضة. بل إنها تكون جد دقيقة في
دفوعاتها وصلبة في مواقفها. بل إن العديد من البعثات الديبلوماسية
الأجنبية، كانت تجد نفسها في ورطة أمام ذلك الأسلوب التدبيري الجديد،
وتطور المقاربة الديبلوماسية [للمغرب]. لقد أصبح إلزاميا الإتيان بحجج
دامغة، لا يرقى إليها الشك، للوصول إلى النتيجة المرجوة مع السلطات
الشريفية، وإلا فإن الحكومة المغربية لن تتنازل قيد أنملة عن مواقفها
الصارمة. [ هذه شهادة مهمة في صالح مرحلة السلطان المغربي مولاي عبد
العزيز، من قبل الكاتب. لأنها تبرز أنه فعليا تغير أسلوب التدبير الرسمي،
الذي أصبح يحسن استغلال الإمكانيات السياسية والقانونية المتاحة للدفاع عن
مصلحة الدولة. هذا في العمق ما لك تكن قة استعمارية حينها مثل باريس لها
مشروعها السياسي التوسعي الرستعماري بكل الشمال الإفريقي لتقبله أو تتركه
يتقوى. بهذا المعنى يفهم كل ذلك الهجوم على ذلك السلطان الشاب، وخلق أسباب
القلاقل والإضعاف له ولمشروعه السياسي، الذي كان يسعى لإقامة توازن في
العلاقة، مع القوى الكبرى آنذاك: بريطانيا، إسبانيا، ألمانيا وفرنسا.
مثلما كان له هم تسريع وتيرة التحديث التكنولوجي والعسكري للمغرب، هذا ما
لم تكن لتقبله فرنسا المحتلة للجزائر وتونس. - م - ].
بعودته إلى طنجة سنة 1901، دشن سفيرنا السيد ريفوال مقرنا الجديد. لكن
حادثا خطيرا سيقع. حيث تم قتل مواطن فرنسي هو السيد بوزي، الذي تمت تصفيته
بالريف، بعد حمله بضاعة تجارية إلى تاجر من وهران. لقد تأكد لنا تورط قايد
المنطقة، وبالتالي فإ مسؤولية الحكومة الشريفية قائمة. لقد كانت مطالبنا
المصاغة بدقة وبلغة حازمة، من القة، ما لم يترك للسلطات المخزنية أي هامش
للرد أو المناورة. وكانت النتيجة سريعة وباهرة. لقد قرر المخزن تعويضنا
بما قدره 100 ألف فرنك [فرنسي قديم]، وأمر جماركه بطنجة أن تسلمها إلي
مباشرة، وأنه علي تسليمها لعائلة الضحية. بل إنه تقرر في بادرة غير
مسبوقة، تسليمنا منفدي الجريمة، من أجل نقلهم إلى سجن طنجة، بعد أن صدر
الحكم القضائي الشريفي في حقهم، وأنهم سيظلون تحت مراقبتنا وحراستنا في
ذلك السجن. [ هذا واحد من علامات التحول الأخرى، في التدبير الإداري
للدولة المغربية على عهد السلطان مولاي عبد العزيز، وهو الإحتكام إلى
القانون ونصوصه. ومن أجرم عليه تأدية الثمن للمجتمع والدولة، حتى وإن كان
قائدا من القواد. وما يحكم المبادرة هنا، هو نص اتفاقية مؤتمر مدريد، الذي
كان يجيز للبعثات الأجنبية حق مراقبة تنفيذ الأحكام السجنية فوق التراب
المغربي حينها، بدعوى مساعدة الدولة المغربية على تحديث إعادة تنظيم
بنائها الإداري التدبيري. وضمانا لحقوق الأجانب السياسية والتجارية أساسا.
- م- ].
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
كتابة تاريخ المغرب الحديث لا يجب أن تكون بعيون فرنسية!
أرسلت الحكومة
[الفرنسية] قطعا بحرية عسكرية صغيرة، متكونة من الباخرتين «بوتيو» و
«دوشايلا»، كانت تحت إمرة الأميرال «غييار»، فيما قائدها هو الملازم
العسكري «لاكاز»، التي أبحرت كي تدعم رمزيا مواقفنا إزاء الحكومة المغربية
[في قضية احتلال القوات البرية الفرنسية لمنطقة توات المغربية وإلحاقها
بالجزائر سنة 1900 - م - ].
حين وصلت رسالة السلطان [مولاي عبد العزيز، المتعلقة بالسماح باعتقال
المتسببين في مقتل تاجر فرنسي بالريف، وضمنهم قائد من قواد المخزن، وهذا
لأول مرة في تاريخ علاقات المغرب مع الأروبيين - م - ]، تقرر بعثي على متن
الباخرة « دوشايلا »، لتسلم القائد المتهم والقتلة من المغاربة. بينما كان
متفقا أن تقوم السلطات المغربية بنقلهم حتى شط المتوسط وتسليمهم لي، كي
أحملهم إلى سجن طنجة. لقد أمضيت أياما جميلة على متن تلك السفينة، رفقة
قائدها الملازم أول «سيربيت». كنا قد غادرنا مياه طنجة وقضينا يوما كاملا
في مياه المتوسط، حيث عبرنا بمنطقة الجزيرات الثلاث، ثم على توقفنا مشارف
مليلية التي تحتلها لإسبانيا. رمينا مرساة باخرتنا عند نقطة الشاطئ الذي
حدد لنا مسبقا التوقف قبالته، ولقد بقينا طيلة يوم كامل ونحن نراقب الشط
والمناطق المحيطة بواسطة مناظيرنا العسكرية، دون أن يظهر أثر لأي شئ. لقد
عادت بنا الذكريات في تلك المنطقة، إلى حادث تسليم الأسرى الفرنسيين،
الذين أسرتهم قوات الأمير عبد القادر الجزائري، لقوات بحرية فرنسية قادمة
من الجزائر في شهر نونبر من سنة 1846 [ سنتين بعد معركة إيسلي الشهيرة
التي انهزم فيها الجيش المغربي أمام الفرنسيين - م - ].
بدأنا، نفقد صبرنا على ظهر تلك الباخرة العسكرية، فقد كنا نمني النفس
بالعودة في الغد إلى طنجة. فجأة، ومع مغيب الشمس بدأت تظهر لنا بضع تحركات
على الشط. لقد لمحنا خيطا من الفرسان إلى جوارهم عدد من الرجال الماشين
على أقدامهم، يوجهون صوبنا بضع إشارات. فكان أن قررنا تحريك الباخرة كي
تقترب أكثر من الشط. أنزلنا قاربا صغيرا، وضعنا عليه مدفعا عسكريا، وبضع
جند شداد، وحرصت أن أرافقهم من أجل تسلم المساجين. كان الليل قد أرخى
بسدوله، فأضأنا أنوار الباخرة باتجاه الشط، مما سمح لي جيدا بتمييز وجوه
الأسرى، الذين شرعت في استجوابهم بمساعدة من ترجمان متخصص أحضرته معي.
طالت العملية نوعا ما، وحين عدنا جميعا إلى الباخرة، عبر لي قائدها عن
سعادته بنجاحي في مهمتي، فأدار دفة باخرته صوب طنجة التي بلغناها في اليوم
الموالي، مساء، وكان ذلك نجاحا باهرا لمهمتنا [غير المسبوقة].
توجهت، بعد ذلك بعثة مغربية برئاسة السي عبد الكريم بنسليمان، إلى باريس،
بينما غادر سفيرنا السيد ريفوال طنجة لتسلم مهامه الجديدة، كحاكم عام جديد
للجزائر. كان مقررا أن يلتقي المبعوث المغربي في باريس لإيجاد حل لعدد من
المشاكل العالقة، لما فيه مصلحة القوتين الوازنتين [الفرنسية والمغربية]،
تأسيسا على الإتفاقية الموقعة بيننا سنة 1845. لقد كان ذلك التاريخ هو
التدشين الفعلي لسياسة الإتفاقيات المشتركة بيننا. [ علينا أن لانفغل هنا
قيمة عبارة « القوتين الوازنتين» من قبل الكاتب، فهو يترجم فعليا قدم
حقيقة فكرة الدولة بالمغرب، وأنها كانت قوة إقليمية لها اعتبارها في
حسابات الدول المتوسطية وتدبير صراع المصالح بينها - م - ].
قبل مغادرته المغرب، توصل سفيرنا الوزير، من الحكومة الفرنسية بخيط
تلغرافي تم تثبيته في مقر السفارة من أجل تسريع وثيرة التواصل مع المركز.
ولقد منحت شرف تدشينه وكذا توجيه رسالة تحية وشكر إلى سفيرنا السابق، حاكم
فرنسا الجديد بالجزائر، باسم كل المواطنين الفرنسيين المقيمين في طنجة.
كان شاطئ طنجة، خلال ذلك الصيف [سنة 1900]، مسرحا لتحركات بحرية ضخمة. لقد
التقت بواخرنا التي كانت في المحيط الأطلسي، وتلك التي كانت في المتوسط،
عند مضيق جبل طارق، قبالة طنجة، من أجل القيام بمناورات عسكرية بحرية،
بقيادة الأميرال «ميزنار». كان حجم تلك القوات كبيرا، حيث تجاوز عدد
البواخر العسكرية المشاركة، 40 باخرة. كان ذلك سببا لحركية لافتة في كل
مدينة طنجة، ولقد نظمت العديد من حفلات الإستقبال لجنودنا من البحرية
الفرنسية، بمقر سفارتنا الجديدة. حين وصل وزيرنا، السفير الجديد، السيد
سانت - روني تايلونديي، عبر باخرة « دوبي دولوم »، قادما من باريس، سمح لي
بعطلة، من خلال العودة في تلك الباخرة، حيث كان التعب قد أخد مني مأخده.
لكن رعاية قائدها السيد بيلو، ورعاية الدكتور ليو، قد ساعداني كثيرا في
تلك الرحلة البحرية المتوجهة من طنجة إلى ميناء مدينة بريست الفرنسية.
حين عودتي من العطلة، ومع بداية ممارسة مهامي الديبلوماسية في طنجة، التي
ستكون آخر مقامي بهذا البلد، وجدتني في مواجهة عدد من مطالب الحكومة
الشريفية، التي تتعاظم ملامح ضعفها. لقد كلفت بتتبع، وفضح، مشروع قرض مالي
أجنبي، كان في مراحل تنفيذه النهائية، والذي كان سيتم تسليمه وتوقيع
الإتفاق بشأنه أثناء مقام للسلطان بالرباط، بحضور سفير ذلك البلد الأجنبي
بالمغرب. لقد كنت سعيدا جدا، أنني نحجت في أن أفشل ذلك الإتفاق وتوقيف
إجراءات ذلك القرض المالي، الذي من وجهة نظرنا، كان سيعقد أكثر القضية
المغربية بالنسبة لنا. [هنا تفصيل دقيق وهام، حول السبل التي كانت باريس
تطوق بها المغرب وسلطانه وحكومته لمنع أي فرصة للدعة المالية والإقتصادية،
حتى يبقى الجميع تحت رحمة مخطط باريس لاحتلال المغرب الذي سيتم في سنة
1912 وتقسيمه بين القوى الإستعمارية الأروبية الكبرى. - م - ]. بعد أن عاد
سفيرنا، من لقاء له مع السلطان، حرص على تهنئتي لنجاحي في مهمتي. لقد
اعتبرت تقديره ذاك، منعشا لي حقا، هو الذي كانت ثقته بي كبيرة، بسبب من
إطلاعه المسبق على تقاريري المنجزة بباريس، فكان أن ترك لي أمر تدبير
السفارة بطنجة بالكامل.
أثناء مقام سفيرنا بالرباط [لملاقاة السلطان]، كان الدكتور ليناريس،
ممثلنا الدائم بالبلاط، قد أنهى سنته الثلاثين وهو في خدمة فرنسا بالقصر
السلطاني. كان يستعد للمغادرة نهائيا إلى باريس. لقد كان من الأوائل الذين
شكلوا بعتثنا العسكرية الأولى [إلى المغرب]، لكنه اختير ليبقى في خدمة
السفارة. كان السلطان الحسن الأول يعزه كثيرا وكذا الحاجب سي أحمد.
بالتالي، فقد كانت له حظوة نافذة في ذلك الوسط المخزني الصعب. كان خدوما،
جديا، نزيها، وقوته في تواضعه. لقد كان العسكري الأجنبي الوحيد الذي سمح
السلطان مولاى الحسن له بمرافقته في رحلته إلى تافيلالت. بالتالي، فقد كان
صمام أماننا في كل لحظات الأزمة التي نعيشها مع البلاط السلطاني. كانت
ميزته الكبرى حصافته ووعيه المتقد وأحكامه التي لا يطلقها بمزاجية، بل إنه
كان يشتغل بدم بارد وبروية وهدوء نادر. كان الرجل لا يسمح لنفسه بالسقوط
في تلك الأحكام الإطلاقية والخيالات التي تحكم كثيرا من العقول في علاقتها
الملتبسة والمثيرة مع القضايا المغربية.
كان الرجل، متشربا لسياستنا بالمنطقة، مثلما كان ملما بأسرار صناعة القرار
بالمخزن المغربي، ويعرف جيدا كل رجاله، ودرجة تأثيرهم في تلك القرارات.
لقد كانت تجربته حاسمة بالنسبة لنا في عهد عبد العزيز، الذي كان نهبا لكل
المصالح الأجنبية، مما كان علامة على ضعفه. [الكاتب، مرة أخرى، لا يصف
السلطان المغربي بصفته المخزنية، أي «السلطان مولاي عبد العزيز»، وذلك
لكرهه الشديد له، بسبب معرفته الدقيقة بتفضيل الرجل، بتوجيه من معاونيه
ومستشاريه، للتعاون مع الإنجليز والألمان، واحتياطه الكبير من فرنسا.
وللأسف فإن الكثير من «الكتابات المغربية» اليوم، تنساق فقط وراء الأرشيف
الفرنسي، في الحكم على هذه المرحلة من تاريخ المغرب، كما لو أن ذات المخطط
التأريخي القديم الذي كان يسعى لأن يصنع لنا ذاكرتنا المغربية الجماعية
بما يتوافق ومصالح باريس، لا يزال متواصلا إلى اليوم، خاصة من خلال بعض
الصحافة الفرنكوفونية الصادرة بالمغرب. - م - ].
كان الأمل كبيرا لو واصل الرجل مهامه في المغرب، خاصة أمام تعاظم المشاكل
الداخلية بالبلد وأننا كنا بإزاء تحول مرتقب، وأن لا أحد بمستطاعه تعويضه
في الدور الذي كان يلعبه بنجاح باهر. في نفس تلك الفترة، بدأت صحتي تعتل،
بسبب تبعات رحلاتي المتعددة داخل المغرب، وأصبحت لا أستطيع تحمل السفر،
فكان أن وافقت الوزارة [وزارة الخارجية الفرنسية] على تنقيلي وتعييني
ممثلا لها في فارصوفيا [عاصمة بولونيا]..
انتهى
[الفرنسية] قطعا بحرية عسكرية صغيرة، متكونة من الباخرتين «بوتيو» و
«دوشايلا»، كانت تحت إمرة الأميرال «غييار»، فيما قائدها هو الملازم
العسكري «لاكاز»، التي أبحرت كي تدعم رمزيا مواقفنا إزاء الحكومة المغربية
[في قضية احتلال القوات البرية الفرنسية لمنطقة توات المغربية وإلحاقها
بالجزائر سنة 1900 - م - ].
حين وصلت رسالة السلطان [مولاي عبد العزيز، المتعلقة بالسماح باعتقال
المتسببين في مقتل تاجر فرنسي بالريف، وضمنهم قائد من قواد المخزن، وهذا
لأول مرة في تاريخ علاقات المغرب مع الأروبيين - م - ]، تقرر بعثي على متن
الباخرة « دوشايلا »، لتسلم القائد المتهم والقتلة من المغاربة. بينما كان
متفقا أن تقوم السلطات المغربية بنقلهم حتى شط المتوسط وتسليمهم لي، كي
أحملهم إلى سجن طنجة. لقد أمضيت أياما جميلة على متن تلك السفينة، رفقة
قائدها الملازم أول «سيربيت». كنا قد غادرنا مياه طنجة وقضينا يوما كاملا
في مياه المتوسط، حيث عبرنا بمنطقة الجزيرات الثلاث، ثم على توقفنا مشارف
مليلية التي تحتلها لإسبانيا. رمينا مرساة باخرتنا عند نقطة الشاطئ الذي
حدد لنا مسبقا التوقف قبالته، ولقد بقينا طيلة يوم كامل ونحن نراقب الشط
والمناطق المحيطة بواسطة مناظيرنا العسكرية، دون أن يظهر أثر لأي شئ. لقد
عادت بنا الذكريات في تلك المنطقة، إلى حادث تسليم الأسرى الفرنسيين،
الذين أسرتهم قوات الأمير عبد القادر الجزائري، لقوات بحرية فرنسية قادمة
من الجزائر في شهر نونبر من سنة 1846 [ سنتين بعد معركة إيسلي الشهيرة
التي انهزم فيها الجيش المغربي أمام الفرنسيين - م - ].
بدأنا، نفقد صبرنا على ظهر تلك الباخرة العسكرية، فقد كنا نمني النفس
بالعودة في الغد إلى طنجة. فجأة، ومع مغيب الشمس بدأت تظهر لنا بضع تحركات
على الشط. لقد لمحنا خيطا من الفرسان إلى جوارهم عدد من الرجال الماشين
على أقدامهم، يوجهون صوبنا بضع إشارات. فكان أن قررنا تحريك الباخرة كي
تقترب أكثر من الشط. أنزلنا قاربا صغيرا، وضعنا عليه مدفعا عسكريا، وبضع
جند شداد، وحرصت أن أرافقهم من أجل تسلم المساجين. كان الليل قد أرخى
بسدوله، فأضأنا أنوار الباخرة باتجاه الشط، مما سمح لي جيدا بتمييز وجوه
الأسرى، الذين شرعت في استجوابهم بمساعدة من ترجمان متخصص أحضرته معي.
طالت العملية نوعا ما، وحين عدنا جميعا إلى الباخرة، عبر لي قائدها عن
سعادته بنجاحي في مهمتي، فأدار دفة باخرته صوب طنجة التي بلغناها في اليوم
الموالي، مساء، وكان ذلك نجاحا باهرا لمهمتنا [غير المسبوقة].
توجهت، بعد ذلك بعثة مغربية برئاسة السي عبد الكريم بنسليمان، إلى باريس،
بينما غادر سفيرنا السيد ريفوال طنجة لتسلم مهامه الجديدة، كحاكم عام جديد
للجزائر. كان مقررا أن يلتقي المبعوث المغربي في باريس لإيجاد حل لعدد من
المشاكل العالقة، لما فيه مصلحة القوتين الوازنتين [الفرنسية والمغربية]،
تأسيسا على الإتفاقية الموقعة بيننا سنة 1845. لقد كان ذلك التاريخ هو
التدشين الفعلي لسياسة الإتفاقيات المشتركة بيننا. [ علينا أن لانفغل هنا
قيمة عبارة « القوتين الوازنتين» من قبل الكاتب، فهو يترجم فعليا قدم
حقيقة فكرة الدولة بالمغرب، وأنها كانت قوة إقليمية لها اعتبارها في
حسابات الدول المتوسطية وتدبير صراع المصالح بينها - م - ].
قبل مغادرته المغرب، توصل سفيرنا الوزير، من الحكومة الفرنسية بخيط
تلغرافي تم تثبيته في مقر السفارة من أجل تسريع وثيرة التواصل مع المركز.
ولقد منحت شرف تدشينه وكذا توجيه رسالة تحية وشكر إلى سفيرنا السابق، حاكم
فرنسا الجديد بالجزائر، باسم كل المواطنين الفرنسيين المقيمين في طنجة.
كان شاطئ طنجة، خلال ذلك الصيف [سنة 1900]، مسرحا لتحركات بحرية ضخمة. لقد
التقت بواخرنا التي كانت في المحيط الأطلسي، وتلك التي كانت في المتوسط،
عند مضيق جبل طارق، قبالة طنجة، من أجل القيام بمناورات عسكرية بحرية،
بقيادة الأميرال «ميزنار». كان حجم تلك القوات كبيرا، حيث تجاوز عدد
البواخر العسكرية المشاركة، 40 باخرة. كان ذلك سببا لحركية لافتة في كل
مدينة طنجة، ولقد نظمت العديد من حفلات الإستقبال لجنودنا من البحرية
الفرنسية، بمقر سفارتنا الجديدة. حين وصل وزيرنا، السفير الجديد، السيد
سانت - روني تايلونديي، عبر باخرة « دوبي دولوم »، قادما من باريس، سمح لي
بعطلة، من خلال العودة في تلك الباخرة، حيث كان التعب قد أخد مني مأخده.
لكن رعاية قائدها السيد بيلو، ورعاية الدكتور ليو، قد ساعداني كثيرا في
تلك الرحلة البحرية المتوجهة من طنجة إلى ميناء مدينة بريست الفرنسية.
حين عودتي من العطلة، ومع بداية ممارسة مهامي الديبلوماسية في طنجة، التي
ستكون آخر مقامي بهذا البلد، وجدتني في مواجهة عدد من مطالب الحكومة
الشريفية، التي تتعاظم ملامح ضعفها. لقد كلفت بتتبع، وفضح، مشروع قرض مالي
أجنبي، كان في مراحل تنفيذه النهائية، والذي كان سيتم تسليمه وتوقيع
الإتفاق بشأنه أثناء مقام للسلطان بالرباط، بحضور سفير ذلك البلد الأجنبي
بالمغرب. لقد كنت سعيدا جدا، أنني نحجت في أن أفشل ذلك الإتفاق وتوقيف
إجراءات ذلك القرض المالي، الذي من وجهة نظرنا، كان سيعقد أكثر القضية
المغربية بالنسبة لنا. [هنا تفصيل دقيق وهام، حول السبل التي كانت باريس
تطوق بها المغرب وسلطانه وحكومته لمنع أي فرصة للدعة المالية والإقتصادية،
حتى يبقى الجميع تحت رحمة مخطط باريس لاحتلال المغرب الذي سيتم في سنة
1912 وتقسيمه بين القوى الإستعمارية الأروبية الكبرى. - م - ]. بعد أن عاد
سفيرنا، من لقاء له مع السلطان، حرص على تهنئتي لنجاحي في مهمتي. لقد
اعتبرت تقديره ذاك، منعشا لي حقا، هو الذي كانت ثقته بي كبيرة، بسبب من
إطلاعه المسبق على تقاريري المنجزة بباريس، فكان أن ترك لي أمر تدبير
السفارة بطنجة بالكامل.
أثناء مقام سفيرنا بالرباط [لملاقاة السلطان]، كان الدكتور ليناريس،
ممثلنا الدائم بالبلاط، قد أنهى سنته الثلاثين وهو في خدمة فرنسا بالقصر
السلطاني. كان يستعد للمغادرة نهائيا إلى باريس. لقد كان من الأوائل الذين
شكلوا بعتثنا العسكرية الأولى [إلى المغرب]، لكنه اختير ليبقى في خدمة
السفارة. كان السلطان الحسن الأول يعزه كثيرا وكذا الحاجب سي أحمد.
بالتالي، فقد كانت له حظوة نافذة في ذلك الوسط المخزني الصعب. كان خدوما،
جديا، نزيها، وقوته في تواضعه. لقد كان العسكري الأجنبي الوحيد الذي سمح
السلطان مولاى الحسن له بمرافقته في رحلته إلى تافيلالت. بالتالي، فقد كان
صمام أماننا في كل لحظات الأزمة التي نعيشها مع البلاط السلطاني. كانت
ميزته الكبرى حصافته ووعيه المتقد وأحكامه التي لا يطلقها بمزاجية، بل إنه
كان يشتغل بدم بارد وبروية وهدوء نادر. كان الرجل لا يسمح لنفسه بالسقوط
في تلك الأحكام الإطلاقية والخيالات التي تحكم كثيرا من العقول في علاقتها
الملتبسة والمثيرة مع القضايا المغربية.
كان الرجل، متشربا لسياستنا بالمنطقة، مثلما كان ملما بأسرار صناعة القرار
بالمخزن المغربي، ويعرف جيدا كل رجاله، ودرجة تأثيرهم في تلك القرارات.
لقد كانت تجربته حاسمة بالنسبة لنا في عهد عبد العزيز، الذي كان نهبا لكل
المصالح الأجنبية، مما كان علامة على ضعفه. [الكاتب، مرة أخرى، لا يصف
السلطان المغربي بصفته المخزنية، أي «السلطان مولاي عبد العزيز»، وذلك
لكرهه الشديد له، بسبب معرفته الدقيقة بتفضيل الرجل، بتوجيه من معاونيه
ومستشاريه، للتعاون مع الإنجليز والألمان، واحتياطه الكبير من فرنسا.
وللأسف فإن الكثير من «الكتابات المغربية» اليوم، تنساق فقط وراء الأرشيف
الفرنسي، في الحكم على هذه المرحلة من تاريخ المغرب، كما لو أن ذات المخطط
التأريخي القديم الذي كان يسعى لأن يصنع لنا ذاكرتنا المغربية الجماعية
بما يتوافق ومصالح باريس، لا يزال متواصلا إلى اليوم، خاصة من خلال بعض
الصحافة الفرنكوفونية الصادرة بالمغرب. - م - ].
كان الأمل كبيرا لو واصل الرجل مهامه في المغرب، خاصة أمام تعاظم المشاكل
الداخلية بالبلد وأننا كنا بإزاء تحول مرتقب، وأن لا أحد بمستطاعه تعويضه
في الدور الذي كان يلعبه بنجاح باهر. في نفس تلك الفترة، بدأت صحتي تعتل،
بسبب تبعات رحلاتي المتعددة داخل المغرب، وأصبحت لا أستطيع تحمل السفر،
فكان أن وافقت الوزارة [وزارة الخارجية الفرنسية] على تنقيلي وتعييني
ممثلا لها في فارصوفيا [عاصمة بولونيا]..
انتهى
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
مواضيع مماثلة
» المغرب: صور من الماضي
» مذكرات الماريشال ليوطي عن المغرب 1926-1912
» كتاب : من المغرب التقليدي الى المغرب الحديث
» المغرب بلا جزائر ، المغرب بلا عدو
» فن المغرب
» مذكرات الماريشال ليوطي عن المغرب 1926-1912
» كتاب : من المغرب التقليدي الى المغرب الحديث
» المغرب بلا جزائر ، المغرب بلا عدو
» فن المغرب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى