الجاحظ ساخرا وسورياليا
صفحة 1 من اصل 1
الجاحظ ساخرا وسورياليا
غلاف الكتاب
تتخذ رسالة «التربيع والتدوير» للجاحظ، التي يدرس الباحث عرفة حلمي عباس
السخرية من خلالها، أهميتها من أمرين: الأول أن كاتبها، أبو عثمان عمرو بن
بحر الجاحظ، هو أول كاتب عربي يُخْر.جُ الكتابةَ العربية السائدة آنذاك من
دائرة النقل والرواية الى دائرة الاستنباط والابداع، ووصف الواقع بجرأة
كبيرة لم تشهدها الكتابات العربية قبله، كما وقف موقف الناقد والساخر من
وضعية الكُتّاب. فقد اعتبرهم خدماً للسلطة أو للسلطان، مما دفعه الى القول
بانها «لا يتقلدها الا تابع ولا يتولاها إلا من هو في معنى الخادم».
جاءت
رسالته «التربيع والتدوير» ـــ وهي رسالة هزلية في هجاء أحد الكتاب ـــ في
نسق موقفه من الكُتّاب. والجاحظ بذلك يعلي من شأن الحرية، حرية الفكر
وحرية المفكر، وأي قيد يحدّ من هذه الحرية ـــ وان كان قيد المهنة والوظيفة
ـــ فإنه يستحق الهجوم بل والسخرية.
الأمر الثاني أن نص «التربيع
والتدوير» نص ابداعي يثير دهشة القارئ المعاصر، وهي دهشة تدفع الى المتعة،
وترجع هذه المتعة الى جملة أسباب:
الأول أن النص يمثل قمة في موضوع
السخرية في الأدب العربي، وان تناول الكثيرون السخرية في أدبهم شعرا أو
نثراً، فقد ظل الجاحظ أباً لهذا الفن بما أسسه من تقنيات عالية أجاد
استعمالها في سخرياته، وفتح بها الباب واسعاً لمن بعده، فاقتفى أثره
القدماء والمحدثون، حاكاه أبوحيان التوحيدي والخوارزمي وابن زيدون، كما
حاكاه المازني وعبدالعزيز البشري ويوسف ادريس.
الأمر الثاني هو هذه
البلاغة الشعرية في السرد والتصوير وادارة الحوار وتداخل الخطابات
والانتقال بينها بعفوية وسلاسة، مما يؤكد مهارة وتقنية عالية لدى الكاتب،
فضلاً عن امتلاك الكاتب ثروة لغوية وخزيناً ثقافياً ثراً، وقدرة متميزة في
اختيار الألفاظ وانتقائها ووضعها في مكانها الملائم وسياقها المناسب.
أعماق الأشياء
إن
للجاحظ قدرة هائلة في الوصف والغوص الى أعماق الأشياء ودقائقها، وقد مزج
بين الوصف والغوص فأحال الكلمات الى رسوم ونقوش أسست لفن الكاريكاتور
وفانتازيا الواقع في النثر العربي.
«التربيع والتدوير» جزء من آثار
الجاحظ التي كانت جميعها صورة لبيئته. فقد شبّ في زمن الرشيد، ونبغ في عهد
المأمون، وامتاز عصره بحرية الفكر، فصوّر بالفعل تلك الحرية بواقعيتها خير
تصوير ظهر في علمه وأدبه وتمثل في تحقيقه العلمي ونقده وجدله.
و«التربيع
والتدوير»، أشهر آثار الجاحظ في الفكاهة والتندر، أبان فيها عن شجرة في
تراث الشعوب، وما يشيع من الأساطير في معتقداتها، وما يرى من النوادر في
كتب الفلسفة والتاريخ والموسيقى والهندسة والطب ومختلف العلوم والفنون.
وتجمع
هذه الرسالة بين التندر والنادرة، التندر على معاصرة أحمد بن عبدالوهاب
بوصف خلقته العجيبة، والنادرة حيث ألقى عليه مائة مسألة من طريف المسائل في
سائر العلوم. وبما أنه لن يحسن الإجابة عنها، فإن، الجاحظ يدل على ما
ألفه، طالباً منه مراجعته ذلك في كتبه ورسائله.
أخرجت سوريالية الجاحظ
في هذه الرسالة القبح في صورة الحسن، فموهه علينا وزوره لنا ودلل بمنطقه
الجدلي عليه، استخدم التبادل بين الأشياء، فأرانا الأصل والظل متعكاسي
الوضع، ورسم التهكم والسخرية مجمعاً للتناقضات، معرضاً للأضداد، قلب لنا
باطنه وظاهره، وخياله وحقيقته، وجوهره وعرضه، ثم أبدل بالواقع الخيال، ثم
أضاف إليه أجمل ما في الوجهين، وأحسن ما في النقيضين، وهو في كل ذلك يقدم
أدلة، فإذا ما اقتنعنا بوجه شدنا ليقنعنا بغيره، إنه الهزء العلمي والتهكم
الجدلي.
لم تكن فكرة السخرية عند الجاحظ الفكاهة والضحك انما النقد
الهادف الذي عمل له، فشكل بذلك منظورا من النقد، كشف عن جوانب من القصور
رأى من واجبه كمفكر التصدي له، فكانت مكافأته تطهيرا وسخرياته نقدا
وتقويما.
السخرية سلاحا
يتحدث الباحث الدكتور عرفة حلمي عباس في
كتابه عن السخرية كسلاح فعال لمواجهة الغلط بكل اشكاله وتلاوينه واستخدام
هذا السلاح - اي السخرية - يكتسب اهمية في تعامله مع وقائع اشبعت تحليلا
الى حد التخمة، ولم يعد بالامكان التعامل معها الا عبر السخرية والسخرية
بمرارة. فلا غرو ان يتجاوز الجاحظ المجاملة الى المواجهة، ورصد الواقع الى
تشريحه وهو بذلك يؤسس لفكر نقدي حر.
في «التربيع والتدوير» وظف الجاحظ
كل الوان السخرية، فكما استخدم السخرية الغرية بابن عبدالوهاب، استخدم
السخرية الذاتية التي هي بمنزلة النقد الذاتي للجاحظ، كما استخدم السخرية
البديهية وهو النوع الذي اذ قرأه المرء لا يخطر بباله انه منسوج بل انه من
سرعة البديهة، التي يمتلكها الجاحظ، استطاع ان يحسن نسجه وان يحكم غزله
وحبكه.
سيد المفاجآت
وقد ولد هذا التعدد في الوان السخرية
«المفاجأة». والجاحظ سيد المفاجآت بلا منازع. خصمه لا يدري من اين تأتيه
سهامه، أفي جسمه أم في عقله، في طباعه أم في ادعاءاته، ونجد المفاجأة ايضا
في تلوين سخرياته، نجد منها المضحك والمبكي والاثنين معا.
ويقول الباحث
انه اذا كان الجاحظ امام الساخرين، فإنه ايضا وكما يرى الدكتور شوقي ضيف
امام الهجائين ايضا في العصر العباسي اذ استطاع ان يلعب بما كان من قصر
مهجوه وضيق عقله. والطريف انه اخرج ذلك كله مخرج الجدل والحوار ومسح عليه
بالسفسطة والمغالطة.
اطلق الجاحظ لخياله العنان في تصوير نموذجه، فبدت
لوحاته سريالية مع عدم تخليه عن الواقعية. وقد تجاوز بسخرياته عصره الى ما
بعد عصره، فكان رائدا لفن السخرية، تبعه فيها كثيرون. وتتفاوت مساحة تأثير
سخرياته في من بعده، وان بدت واضحة في مثالب الوزيرين لابي حيان التوحيدي،
و«الرسالة الهزلية» لابن زيدون و«في المرآة» لعبد العزيز البشري، وعند
الموازنة يظل للجاحظ فضل الاستاذية والريادة.
جهاد فاضل
صفحة من مخطوط مصور لكتاب {الحيوان} للجاحظ
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 65
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى