من ذاكرة الرواية الْجَزائرية «ريح الْجنوب» نَموذَجا
صفحة 1 من اصل 1
من ذاكرة الرواية الْجَزائرية «ريح الْجنوب» نَموذَجا
يرى الكثيرُ من النقاد أن الأديب عبد الْحَميد بن هَدّوقة أول من كتب الرواية (الفنية الناضجة) باللغة العربية في الْجَزائر، ضِدّا على تغريب الذات الْجزائرية، وتَخْريب هويتها العربية. ويَصِفه الكاتب الطَّيَّبْ وَلْدْ لَعْروسي بـ»الْمَحظوظ الذي استطاع أن يكتب بلغته الأم«!..وهذا لا يعني أن أرض الرواية الْجَزائرية كانت خلاءً، فقبل ظهور روايته »ريح الْجَنوب« سنة1971..شَهِدتْ مُحاولاتٍ تأسيسيةً لكلٍّ من مُحَمّد بن إبراهيم (الأمير مُصطفى) بروايته »حكاية العُشاق في الْحُب والاشتياق« 1847 وأحْمَد رضا حوحو بـ»غادة أُمِّ الْقُرى« 1947 وعبد الْمَجيد الشافعي بـ »الطّالب الْمَنكوب«1951 ونور الدين بوجَدْرة بـ»الْحَريق« 1957 ومُحَمد مَنيع بـ»صوت الغرام« 1967!
بالنظر
إلى تاريخ الرواية الأولى لِمُحَمّد بن إبراهيم، نُدْرِك أن بداية التأسيس
الروائي بالعالَمِ العربي، كان بالْجَزائر، وأن »زينب: مناظر وأخلاق
ريفية« لِمُحمّد حسين هيكل، الذي وقّعها بـ(مصري فلاح) تأتِي بعدها في
1914..وأمّا »تَخْليص الإبريز في تلْخيص باريز« أو»الديوان النفيس في إيوان
باريس« لرفاعة رافع الطَّهْطاوي، فلا تنتمي إلى جنس الرواية، وإنّما إلى
أدب الرحلة والسيرة، بل رسالة جامعية، تقدّم بِها (طالبا) إلى لَجْنة
الامتحان بباريز في 19 أكتوبر1830..فلو قَبِلنا بالأطاريح والرسائل والبحوث
الْجامعية في مَجال الأدب، برغم دورها الكبير في التنظير والتحليل
والدراسة، لكانتْ لدينا آلاف النصوص الروائية والرِّحلية والسيرية
والنقدية!..والظنُّ أنَّ »زينب..« أو»تَخْليص الإبريز..« أول خطوة في
عالَمِ هذا الفن، يدل على أن مؤرخي الأدب تعوَّدوا أن يَحْصروا بُحوثَهم في
قطر واحد، غافلين عن الأقطار العربية الأخرى، كأن الثقافة والأدب والفن
واللغة العربية (حِكْر) أو(وقْف) على ذلك القطر فقط!
وكأيِّ خطوات
أولى، تتلمَّس طريقَها نَحْو فن جديد، كانتْ تلك الرواياتُ من الناحية
الشكلية، تفتقر إلى الْحبكة الْفنية، واللغة الْمُحكمة، والتركيز على
موضوعة معينة لاغير. ومن الناحية الفكرية، تُعالِجُ قضايا اجتماعية، تَخُص
مُعاناةَ الْمرأة في ظل مُجْتمع مُحْتل، مسلوب الفكر والإرادة، وقضايا
وطنية، كالنضال والتضحية لتحرير البلاد من نَيْر الاستعمار، فلاتَحَرّر
للمرأة، بدون استقلال الوطن..!
وفيما بعد، سيتأصّل هذا الفن في
الْجَزائر على يد الطاهر وَطّار، وواسيني الأعرج، وعبد الْمالك مُرْتاض،
وأحلام مُسْتغانْمي، والأمين الزّاوي، وخلاص جيلالي، ومَرْزاقْ بيكْطاشْ،
ومُحَمّد عَرْعارْ، ومُحَمد ساري، وبشير مفتي، والقائمة طويلة. كما سينفتح
على أشكال متنوعة، ورؤى فنية، كاستغلال التراث والتّجريب، والتعددية في
أصوات السارد، والرواية داخل الرواية، وعلى قضايا اجْتماعية وسياسية،
مُستلهَمة من الواقع الْمَعيش، الذي أفرزته الثورة التّحريرية، كالتأميم،
والثورة الزراعية، وتَحَرّير الْمَرأة، والرؤية الْحِزْبية الأحادية،
والأصولية، والعنف، والْجنس، وإن ظلَّتْ تيمةُ النضالات الشعبية في
الْحِقْبة الاستعمارية، التي دامتْ 132 سنةً، وذهب ضحيتَها مليون ونصف من
الشهداء، في طليعة القضايا التي بلْوَرَتْها الرواية الْجَزائرية!
فظهور »ريح الْجَنوب« في الْحِقبة السبعينية، كان بداية حقيقية للرواية
الْجزائرية، التي ترتكز على أسس فنية وجَمالية، وشَراراً ألْهَب الأقلامَ
التاليةَ لَها لتُحَقق تراكما كبيرا من النصوص الروائية، ولبروز عدد من
الروائيين الذين ساروا على دربه، وإنِ تَمَيَّز (عَمِّي الطاهر) عنه
باتِّجاه الواقعية الْمَقرونة بالصوفية، والْمُضَمّخة بالسوريالية، كما
لاحظتُ على كتاباته، ولَمْ يعترض، عندما زرته في (الْجاحظية) سنة
1990..وربّما يشاطرنِي هذا الرأيَ، العديدُ من النقاد والباحثين الذين
درسوا أعْمالَه، وأكدّوا عليه في قراءاتِهم، وكتاباتِهم النقدية..!
وكان لابد، تبعا لذلك، أن تنشط القراءات والدراسات والأبْحاث، الْمُتعلقة
بِهَذا الْوليد الْجَديد، ليس في الْجَزائر فقط، ولكن في دول الْمَغرب
العربي كلها، مِمّا ساهَم في إنعاش الْحَركة الأدبية بِها، وأخرجَها من
دائرة الشعر العمودي، الذي بسط هيمنته على باقي الأجناس قرونا طويلة، إلى
دائرة القصة والسيرة الذاتية والْمَسرحية والرواية، أي انفتحتْ على ألوان
أدبية، لَمْ تكن تطرُقُها من قبلُ، بلْ تعتبرها تَهْديدا لفنونِها
التقليدية، كالشعر والْخطابة والْمَقالة الوعظية. وقصة العلامة عبد الله
كَنُّون مع الأديب الراحل أحْمَد عبد السَّلام البقالي لاتُخْفى؛ فحينما
كتب البقالي أولَ قصة له، لَمْ يستسغْ كنون أن يُطلِّق فن الشعر الذي عاش
معه طويلا، ويرتبط بفن القصة لحداثته!
لكن هذه الْحَركة الأدبية،
تَجتاز حاليا أزمة، يُحَدِّدُها الروائي واسيني الأعرج في الْحاجة إلى
التكوين الثقافي والْمعرفي والفني والفكري في الكتابة، وعُبورها من خِلالِ
الذات، أي ذلك التفاعل بين الْمَوضوعي والذاتي. وبذلك، فإن الكتابة عُموما،
والروائية خصوصا، لاتأتي، هكذا، بدون خلفية ثقافية ثقيلة، ولابدون معاناة
الذات الكاتبة.
وأعتقد أن الكتابة في العالَمِ العربي كله، وليس في
الْجَزائر فقط، تَجْتاز هذه الأزمة، أزمة السرعة في تَحْضير النصوص، مِمّا
يَجْعلها تظهر إلى الوجود قبل النُّضْج. وهي لَعَمْري سِمَةُ العصر الراهن
في كل مظاهر الْحَياة، سواء الأدبية منها أوالفنية أوالصناعية
أوالاجتماعية..!
والأديب عبد الْحَميد بن هَدّوقة، الذي نُباشر في
هذه الْمُقاربة نَموذجا من أعْماله الروائية، من مواليد 09 ـ 01 ـ
1925بـ(بُرْج بوعْريريجْ) في الْمَنصورة، وتابع دراسته بالْمعهد الكتاني
بقُسنطينة، ثُمَّ بِجامع الزيتونة، ولَمَّا عاد من تونس، عَمِل في الكتاني.
غير أن كفاحه ضد الْمُحتل الفرنسي، دفعه إلى اللُّجوء إلى فرنسا 1949 فدرس
الإخراج الإذاعي. ومنها إلى تونس، فنال شهادتين في التمثيل العربي من معهد
الدراما، والعالِمِيّة في الآداب من جامعة الزيتونة، مِمّا أهّله لإعداد
برامج بالإذاعة التونسية. وفي 1952 ألقي عليه القبض، بتُهمة تغطيته لأنشطة
نسائية مُعارضة، لكنه مالَبِث أن فرّ من السجن، وعاد إلى الْجَزائر
ليساهِمَ في تَحْريرها. وفي فجر الاستقلال 1962عَمِل مديرَ الْمؤسسة
الوطنية للكتاب، فرئيسَ الْمجلس الأعلى للثقافة.
وتوزعت إنتاجاته
الأدبية والثقافية والسياسية بين الشعر والْمَسرحية والرواية والنقد
والدراسة، منها في البحث: »الْجزائر بين الأمس واليوم« 1958، وفي القصة:
»ظلال جزائرية« 1960، »الأشعة السبعة« 1962، وفي الشعر: »حامل
الأزهار«1952، »الأرواح الشاغرة«1967، »الكاتب وقصص أخرى« 1972، كما أصدر
الروايات التالية: »نِهاية الأمس« 1974، »بان الصُّبح«1981، »الْجازية
والدراويش« 1983، »غدا يوم جديد«1991، وفي التراث الشعبي: »أمثال جزائرية«
1990، و»من روائع الأدب العالَمِي« وهي مَجْموعة قصصية 1983، وفي الترجَمة:
مسرحية روسية مَوْسومة بـ »قصة في إيركوتسك« ودراسة للمحامي الشهير
فيرجيس: »دفاع عن الفدائيين«، وفي أدب الطفل: »النَّسر والعُقاب«..هذا عدا
مِئَتَيْ دراسة وقصة وقصيدة، مازالتْ مَخْطوطة، تنتظر الذي يأتي ليخرجها من
الظلمات إلى النور، منذ رحيله في 21 ـ 10 ـ 1996..!
ولعل البعض
مِمَّن لَمْ يقرأ لعبد الْحَميد أويَسمعْ عنه، سيسأل عن الرؤية الفكرية
والفنية العامة، التي يتبناها في كتاباته الْمُتنوعة، سواء النثرية منها
أوالشعرية. ولن نَجِد خيرا مِمَّا قاله عنها في هذه الشهادة: »حاولتُ في ما
كتبته على تواضعه، أن أعالِج نقاطَ التأزم الرئيسية في الوضع الْجزائري
بصفة تُدْخِل أكبرَ قدر من الْمستقبل في الْحاضر، وتبتعد عن الْمضامين
الْجاهزة والأشكال النابعة من مراكز خارجية، اعتقاداً مني بأن الانطلاق من
الْمعطيات التاريـخية الْمحلية لكل قطر عربي، لو روعِيَتْ في أعمالنا
الأدبية لأرْجَعتْ لنا شيئاً من الكرامة، وجَنَّبَتْنا كثيرا من مزالق
الاستلاب. فالثقافة العربية التي عاش العالَمُ على كرمها الروحي مايقرُب من
الألف سنة، لاتستحق هذا الواقعَ الذي وضعها فيه تَخلُّفنا الْمادي
والسياسي.
إن هذه الاهتمامات هي التي جعلتني في كل أعمالي الأدبية
أعمل على معالَجة الواقع الْمتأزم، والْجوانب الْمظلمة في حياتنا
الاجتماعية، مبتعداً بقدر الإمكان عن الاغْتباط بِما حققناه من
إيـجابيات«..فكيف عكستْ رواية »ريح الْجَنوب« هذه الرؤية؟
يظهر
الفجر، فتهْمُد »ريحُ الْجَنوب« في قرية أمضتْ ليلتها بين الغبار واللَّهب.
لكن، إذا كانت ستشهد صبيحة الْجُمعة، ميلادا جديدا مع الفجر (رمز الانبعاث
والتطهير) فإن (نُفيسة) نَجْلةُ (عابدٍ بْنِ القاضي) ستنطلق فـي رحلة
نفسية غامضة، وتُحَلّق في عالَم غيرِ مَحْدودٍ من الْمَتاهات
والسَّرابات..!
نرى من هذا الْمدخل العامِّ، الذي تلتحم فيه الْحقيقة
الْخارجية بالْحقيقة الداخلية ـ كما يقول استروفسكي ـ يعبُر بنا عبد
الْحميد بن هَدّوقة، سبعةَ فصول، لينْسُج فضاءً فسيحا من مِحْورين مركزيين:
(الأرض - الْمَرأة) العنصرين اللذين يُمثِّلان، منذ الأزل، العلاقةَ
الْحميمية، والرمزَ الْحيَّ للوجود، والْهوية، والكينونة؛ فكلاهُما
يُجَسِّدان الْخصوبة والدّيْمومة، كلاهُما يرفُدان الكونَ بالْحياة،
وبالصيرورة؛ فلولا الأرض والْمَرأة، لَما كانتْ هناك حياة في هذا الكون!
إذن، في بداية هذا النص الروائي، نعي أن الكاتب يبسُط موضوعة (الأرض -
الْمرأة) بل مايَخلقه هذان الْمِحوران من صراعات مُحْتدَمة بين شرائح
اجتماعية مُختلفة، في عملية سردية، تسلسلية زمنية، تُلحِم الْموضوعة
الروائية بالواقع الْجزائري في سنواته الأولى، من سنة 1962 إلى 5 نوفمبر
1970 التي يَحصُر فيها عبد الْحميد الكتابةَ!
غير أن هذا التحديد
الزمني، أوالْحَصْر التاريـخي، لايعني بتاتا أن الرواية بنسيجها الفكري
مقطوعةُ الْجذور عن الْمرحلة القبلية. إنَّ هناك خلفيات كامنة في نفسيات
وسلوكيات الشخوص الرئيسية والثانوية على السواء، نستشِفُّها من ثنايا النص،
تؤثر في الْحاضر وتُحرِّكه. وبالتالي، تُسَير أحداثه نَحْوَ نِهاية
ما!..فعابد يُحاول، عبثا، أن يستميل إليه (مالِكا) شيخَ البلدية ((هذا
الرجل العدو الصديق، الصامت الساخط، اللين العنيف)) كان كلاهُما داهيةً،
عسيرَ الْمِراس، قوِيَّ الْعَريكة. بيد أن عابد بن القاضي، بعد الاستقلال،
لَمْ يَجِد بُداّ من أن يصيرَ ليِّنا مراوغا، ذا أُسلوب ملتوٍ في معاملاته،
متخلِّيا عن الْمِزاج والسلوك الْحادّين، وأكثر تودُّدا إلى مالكٍ،
وتقرُّبا منه، لأنه مسؤول عن تأميم الأراضي، وعابد يَمْلك قِطَعا منها،
وقُطعانا من الغنم. وأن عداوة مالك لابن القاضي لَمْ تكن (ذاتية شخصية)
بقدر ما كانت (مذهبية). فهو بِحُكم حياته الثورية الطويلة، لايطمئن لذوي
النعمة والرفاهية والْجاهِ، مهما بلغتِ الأحاسيس التي تغمر وجدانَهم. بينما
عداوة ابن القاضي لِمالِك، كانت شخصية، حافزها الْخوف ((الْخوف من الْماضي
والْمستقبل، بالنسبة للماضي هناك نقطة سوداء في حياته، لايعرفها إلاّ
مالك...)) فتعبير (بعد الاستقلال) و(الْخوف من الْماضي...) يوحي بأن هناك
شيئا ما قبل هذه الْمرحلة، ولفظة (الْخوف) ترمز إلى (نقطة سوداء) تُحرِّك
الْحاضر، وتؤثِّر في أحداثه الْمُتعاقبة!
يتجسد هذا الْماضي، في أن
ابنته الأولى (زوليخة) كانت مَخْطوبة لِمالك ـ في حِقْبة الاستعمارـ لكنها
تستشهد في قطار نسفه الفدائيون ـ خطأً ـ بزعامة مالك نفسه، إذ كان يَظن أن
جنودا فرنسيين يَستقلّونه. وفي عهد الاستقلال، يُحاول ابن القاضي أن
يُجدِّد العلاقة مع مالك شيخ البلدية، بتزويـجه أختَها الصغرى
(نفيسة)!..وأن يُظْهر حُبَّه لوطنه وغيرته عليه، فيستقبل في بيته أهلَ
القرية، وينظم لَهُمْ حفلا، بِمُناسبة تدشين مقبرةٍ لأبنائهم الشهداء!
والسؤال الذي يُمكننا أن نطرحه من خلال قراءتنا:
- ما هي القسمات العامة للشخصيات الروائية؟...بِمَعنى آخر: هل هي
توفيقية أم متعارضة، أم مشخصة لنزعة فردية، جَماعية، أم لنزعة ثنائية؟
يأتِـي ابن القاضي ـ في هذا الأفُق ـ نَموذجا لفئة مستغِلة، لاتفكر
إلاّ في مصالِحها الفردية، وتطلعاتِها الشخصية الأنانية، فتسعى إلى
تَحقيقها بكافة الوسائل والقنوات الْمَشروعة وغير الْمَشروعة. وهذه الفئة
التي ظهرتْ كالْفِطَر والطَّحالب، عَقِبَ الاستقلال، تستغل الظروف
الطّارئة، لِتُعَوِّض الْمُستَعْمِرين، وبالتالي، تستحوذ على كل الثروات،
حتى البشريةَ. فهي بِمثابة مستعمِر جديد في صورة الْمُواطن، ورُبّما تُبرِم
مع الْمُستعمِر السابق اتِّفاقياتٍ للتعاون فيما بينهما، ولِحِماية
مصالِحِهِ؛ أي أنّ الْمُحتل طُرِد من الباب، وعاد من النافذة، ليفرض ثقافته
ولغته واقتصاده...!
فنفيسة ـ كمثال ـ لاتُجسِّد ذلك الْهَمَّ
الإنسانِيَّ في حياته، بصفتها بنتَه، بل يعتبرها سِلعة، بِضاعةً يَمْتلكها
كسائر سِلَعه وبضائعه، وكباقي أراضيه الفسيحة وبقراته الْحَلوب. لايُمَيز
بين الإنسان كذاتٍ، تثْوي أحاسيس وأفكار ورغباتٍ، وبين الشيءِ
الْجامد!..لكن العقبة الكَأداء التي تَحول دون طموحه، ليست نفيسة، فهذه
لاتَهمه ولايُعَبِّرها، ولاتشكل عائقا في تنفيذ خطته، لأن الْمرأة، في نظر
هذه الفئة، هي هي، سواء كانت جاهلة أومثقفة!..والزوجة ـ أيضا ـ ليست إلا
أثاثا بيتيا، يَملأ جَنباتِ الْمنزل، لايعي من القضايا شيئا، ويُمْكنه
الاستغناء عنه، متى شاء!..إذن، العقبة هي (مالك) إذا ما أدرك هذه الرغبة:
((إن شيخ البلدية يُمَثِّل أكبرَ خطر بالنسبة إلى مصالِحنا، هل تستطيع أن
تفهم امرأة لاتعرف من الْحياة الْمنزلية، ما تعجز عن فهمه أشد العقول
دهاءً؟!))..غير أن نفيسة، تبعا للتطور الْمُجْتمعي، والصيرورة التاريـخية،
تأتي صوتا لوعي جديد، يتخطى الواقع الردئ، يبدِّد حَلَكة الْماضي، صوتا
لِعَهْدِ الاستقلال، يُمَثِّل صراعا بين الأجيال، ليضع حدا فاصلا بين
نَموذجين للمرأة: ((الذل الذي عشتِ فيه أنت لن أعيشه!..كوني أمًّا لغيري إن
شئتِ. وليكن أبا لِمَنْ أراد، أما أنا فلن أدَعَ هذه اللعبةَ تبلغ مني ما
بلغت من غيري، لست امرأة، أفهمت؟.. لست امرأة !))..إنّها تدَّمِّر الرؤية
الأبوية القديـمة للمرأة: ((إذا كنت لاأستطيع التصرف حتى في ابنتي فلماذا
أحيا بين الناس إذن؟!))..ولاتَجِد نفيسة بديلا لِمُشكلتها غير الفرار إلى
العاصمة، فهي مَلاذُها الآمن من استغلال الأب!..وهنا، سيشعر الأبوان بأن
الأيام، لَمْ تعدْ كما كانتْ من قبلُ، وأن الزمان دار دورته، لأن استغلال
الإنسان، ولو كان فِلْذَةً من كبدك، لابد أن ينتهي يوماً ما، وأن وعيه ينضج
مع تطور الْمُجتمع، الذي يشهد رياح التغيير بفعل عملية التعليم، وحركة
الثقافة، والأفكار التي تنتقل عبر وسائل الإعلام..!
أما العجوز
(رحْمة) فتعكس، من خلال النص، الذاكرةَ الشعبية الْجزائرية، التي تَخْتزن
العاداتِ، التقاليدَ، تَحشُد التاريخَ النضالي للجزائر، تُحْرق الْمَراحل
بين الأجيال الثلاثة، الْماضية، الآنية، الآتية. ووسيلتُها لتسجيل هذا
التاريخ (إبداعاتُها الطينية) الْمؤثثة لعقول الصغار والكبار، تَنقش في
ذاكرتِهم تاريـخَهم الْحافل بالبطولات والنضالات الْمُستميتة. كأنّها تقول
لَهُمْ: هكذا كان أجدادكم وآباؤكم، فأكملوا أنتم الرسالة!
رحْمة
العجوز، بذلك، تاريخ مُستعاد، يُجسِّد الوعي الشعبي، فيما يُجسِّد الراعي
(رابح) الوعي الوليدَ عن الواقع الاجتماعي الْجَديد، برغم أنه لَمْ يلتحق
بالْمَدرسة، ولاعلاقة له بالْحركة السياسية والثقافية التي ينغل بِها
الْمُجتمع الْحالي، إذ لَمْ يشعر بِهذا الواقع الْمَرير، الذي عانَى منه
سنواتٍ طويلةً، إلاحينما دخل الغرفة خُلسة، فأبصر نفيسة عارية على السرير،
فذهَلَه جسدُها النابض: »اِذهب أيها الراعي القذر«!. منذ تلك اللحظة، قرر
أن يغير الواقع البئيس!..لقد كانت هذه الْجملة اللاذعة، اللاسعة، عاملا
قويا في خلخلة الوعي لديه، فانعزل عن الآخرين، ليدرك منزلته بين أفراد
مُجْتمعه!
نَخلُص من هذه القسمات العامة إلى أن الرواية تتنازعها ذاتان متعارضتان:
- الذات الفردية، الْمُنكفئة على نفسها، ذات الرؤية الْماضوية الأحادية: عابد بن القاضي.
- الذات الْجَمْعية الْمنفتحة على الواقع الْجَديد، الْمُتطلعة إلى الغد: مالك شيخ القبيلة ـ نفيسة ـ رابح.
وهي تتشكل، كما ذكرنا آنِفا، من شخوص رئيسية وثانوية، تبدو كأن غايتها هي تَحْليل نَماذجَ بشرية، أكثر من تسجيل صراعات،
تُذكي
البنية الْحكائية للعمل الروائي. فتأتي هذه الشخصيات مستقلة بذاتِها، إذ
نَجد حديثا مُسهَبا عن الراعي، العجوز رحْمة، الْمُعلم، وغيرها من الشخوص..
كما نلحظ تفاصيل وجزئيات لِمَوضوعات اجتماعية، فلسفية، دينية، نضالية...!
إن هذا الْحَشوَ من الشخوص والْموضوعات، لايُسهم في النمو الطبيعي للنص
الروائي، أي يفَكِّك ذلك التماسكَ الداخلي بين الأحداث والأجواء من جهة،
ويعَطِّل ـ في نظر الناقد برناردي فوتو ـ عمليةَ التخيل.
وما يبرر
هذا الزخم في البناء الروائي، يعود إلى سيولة الْحكي، أو بتعبير آخر إلى
لَمْلَمة جُملة من الأحداث والْمواقف الْمُتشعبة، والأحاسيس الوطنية
الْمُتضاربة، الناتِجة عن تَحَولات الْمُجتمع الْجَزائري، وهو يُصارع ليبني
ذاته، ويقطع مع الْماضي الْحَزين، وإن كان، فيمابعد، خلق له واقعا أمَرَّ.
وربّما إلى أن الروائي كان يُحِس بالرغبة في أن يقول كلَّ شيء، كسائر
الروائيين الرواد، ليس في الْجزائر فقط، وإنَّما في كل دول العالَمْ. لأن
هؤلاء الروائيين يدّخرون كثيرا من القضايا والأحداث والْمَواقف، التي
عاشوها في حقبة الاستعمار، والفرصة، الآن، يرونَها مواتيةً للجَهْر بِها
جُمْلةً وتفصيلا، ليفرغوها فيتخلّصوا مِنْها، وينتقلوا إلى حقبة أخرى.
فالعملية، هي بِمثابة، تطهير الذات من الْماضي الْمؤلِمِ، وقطْع العلاقة
به.
كما أن هذه الرواية تعتبر من أوائل الأعمال الْمُؤسِّسة للفن
الروائي بالْجزائر، وككل بداية تأسيسية تشهد تَلَكُّؤات وتعثراتٍ في
الْمِعمار الفني. وبالنسبة لـ»ريح الجنوب« تطمح إلى تسجيل ما كانتْ تنغَل
به الساحة الْجزائرية في 1962 غير أن الْحَشدَ أتى على فنية النص الروائي!
9/9/2011- العلم الثقافيإلى تاريخ الرواية الأولى لِمُحَمّد بن إبراهيم، نُدْرِك أن بداية التأسيس
الروائي بالعالَمِ العربي، كان بالْجَزائر، وأن »زينب: مناظر وأخلاق
ريفية« لِمُحمّد حسين هيكل، الذي وقّعها بـ(مصري فلاح) تأتِي بعدها في
1914..وأمّا »تَخْليص الإبريز في تلْخيص باريز« أو»الديوان النفيس في إيوان
باريس« لرفاعة رافع الطَّهْطاوي، فلا تنتمي إلى جنس الرواية، وإنّما إلى
أدب الرحلة والسيرة، بل رسالة جامعية، تقدّم بِها (طالبا) إلى لَجْنة
الامتحان بباريز في 19 أكتوبر1830..فلو قَبِلنا بالأطاريح والرسائل والبحوث
الْجامعية في مَجال الأدب، برغم دورها الكبير في التنظير والتحليل
والدراسة، لكانتْ لدينا آلاف النصوص الروائية والرِّحلية والسيرية
والنقدية!..والظنُّ أنَّ »زينب..« أو»تَخْليص الإبريز..« أول خطوة في
عالَمِ هذا الفن، يدل على أن مؤرخي الأدب تعوَّدوا أن يَحْصروا بُحوثَهم في
قطر واحد، غافلين عن الأقطار العربية الأخرى، كأن الثقافة والأدب والفن
واللغة العربية (حِكْر) أو(وقْف) على ذلك القطر فقط!
وكأيِّ خطوات
أولى، تتلمَّس طريقَها نَحْو فن جديد، كانتْ تلك الرواياتُ من الناحية
الشكلية، تفتقر إلى الْحبكة الْفنية، واللغة الْمُحكمة، والتركيز على
موضوعة معينة لاغير. ومن الناحية الفكرية، تُعالِجُ قضايا اجتماعية، تَخُص
مُعاناةَ الْمرأة في ظل مُجْتمع مُحْتل، مسلوب الفكر والإرادة، وقضايا
وطنية، كالنضال والتضحية لتحرير البلاد من نَيْر الاستعمار، فلاتَحَرّر
للمرأة، بدون استقلال الوطن..!
وفيما بعد، سيتأصّل هذا الفن في
الْجَزائر على يد الطاهر وَطّار، وواسيني الأعرج، وعبد الْمالك مُرْتاض،
وأحلام مُسْتغانْمي، والأمين الزّاوي، وخلاص جيلالي، ومَرْزاقْ بيكْطاشْ،
ومُحَمّد عَرْعارْ، ومُحَمد ساري، وبشير مفتي، والقائمة طويلة. كما سينفتح
على أشكال متنوعة، ورؤى فنية، كاستغلال التراث والتّجريب، والتعددية في
أصوات السارد، والرواية داخل الرواية، وعلى قضايا اجْتماعية وسياسية،
مُستلهَمة من الواقع الْمَعيش، الذي أفرزته الثورة التّحريرية، كالتأميم،
والثورة الزراعية، وتَحَرّير الْمَرأة، والرؤية الْحِزْبية الأحادية،
والأصولية، والعنف، والْجنس، وإن ظلَّتْ تيمةُ النضالات الشعبية في
الْحِقْبة الاستعمارية، التي دامتْ 132 سنةً، وذهب ضحيتَها مليون ونصف من
الشهداء، في طليعة القضايا التي بلْوَرَتْها الرواية الْجَزائرية!
فظهور »ريح الْجَنوب« في الْحِقبة السبعينية، كان بداية حقيقية للرواية
الْجزائرية، التي ترتكز على أسس فنية وجَمالية، وشَراراً ألْهَب الأقلامَ
التاليةَ لَها لتُحَقق تراكما كبيرا من النصوص الروائية، ولبروز عدد من
الروائيين الذين ساروا على دربه، وإنِ تَمَيَّز (عَمِّي الطاهر) عنه
باتِّجاه الواقعية الْمَقرونة بالصوفية، والْمُضَمّخة بالسوريالية، كما
لاحظتُ على كتاباته، ولَمْ يعترض، عندما زرته في (الْجاحظية) سنة
1990..وربّما يشاطرنِي هذا الرأيَ، العديدُ من النقاد والباحثين الذين
درسوا أعْمالَه، وأكدّوا عليه في قراءاتِهم، وكتاباتِهم النقدية..!
وكان لابد، تبعا لذلك، أن تنشط القراءات والدراسات والأبْحاث، الْمُتعلقة
بِهَذا الْوليد الْجَديد، ليس في الْجَزائر فقط، ولكن في دول الْمَغرب
العربي كلها، مِمّا ساهَم في إنعاش الْحَركة الأدبية بِها، وأخرجَها من
دائرة الشعر العمودي، الذي بسط هيمنته على باقي الأجناس قرونا طويلة، إلى
دائرة القصة والسيرة الذاتية والْمَسرحية والرواية، أي انفتحتْ على ألوان
أدبية، لَمْ تكن تطرُقُها من قبلُ، بلْ تعتبرها تَهْديدا لفنونِها
التقليدية، كالشعر والْخطابة والْمَقالة الوعظية. وقصة العلامة عبد الله
كَنُّون مع الأديب الراحل أحْمَد عبد السَّلام البقالي لاتُخْفى؛ فحينما
كتب البقالي أولَ قصة له، لَمْ يستسغْ كنون أن يُطلِّق فن الشعر الذي عاش
معه طويلا، ويرتبط بفن القصة لحداثته!
لكن هذه الْحَركة الأدبية،
تَجتاز حاليا أزمة، يُحَدِّدُها الروائي واسيني الأعرج في الْحاجة إلى
التكوين الثقافي والْمعرفي والفني والفكري في الكتابة، وعُبورها من خِلالِ
الذات، أي ذلك التفاعل بين الْمَوضوعي والذاتي. وبذلك، فإن الكتابة عُموما،
والروائية خصوصا، لاتأتي، هكذا، بدون خلفية ثقافية ثقيلة، ولابدون معاناة
الذات الكاتبة.
وأعتقد أن الكتابة في العالَمِ العربي كله، وليس في
الْجَزائر فقط، تَجْتاز هذه الأزمة، أزمة السرعة في تَحْضير النصوص، مِمّا
يَجْعلها تظهر إلى الوجود قبل النُّضْج. وهي لَعَمْري سِمَةُ العصر الراهن
في كل مظاهر الْحَياة، سواء الأدبية منها أوالفنية أوالصناعية
أوالاجتماعية..!
والأديب عبد الْحَميد بن هَدّوقة، الذي نُباشر في
هذه الْمُقاربة نَموذجا من أعْماله الروائية، من مواليد 09 ـ 01 ـ
1925بـ(بُرْج بوعْريريجْ) في الْمَنصورة، وتابع دراسته بالْمعهد الكتاني
بقُسنطينة، ثُمَّ بِجامع الزيتونة، ولَمَّا عاد من تونس، عَمِل في الكتاني.
غير أن كفاحه ضد الْمُحتل الفرنسي، دفعه إلى اللُّجوء إلى فرنسا 1949 فدرس
الإخراج الإذاعي. ومنها إلى تونس، فنال شهادتين في التمثيل العربي من معهد
الدراما، والعالِمِيّة في الآداب من جامعة الزيتونة، مِمّا أهّله لإعداد
برامج بالإذاعة التونسية. وفي 1952 ألقي عليه القبض، بتُهمة تغطيته لأنشطة
نسائية مُعارضة، لكنه مالَبِث أن فرّ من السجن، وعاد إلى الْجَزائر
ليساهِمَ في تَحْريرها. وفي فجر الاستقلال 1962عَمِل مديرَ الْمؤسسة
الوطنية للكتاب، فرئيسَ الْمجلس الأعلى للثقافة.
وتوزعت إنتاجاته
الأدبية والثقافية والسياسية بين الشعر والْمَسرحية والرواية والنقد
والدراسة، منها في البحث: »الْجزائر بين الأمس واليوم« 1958، وفي القصة:
»ظلال جزائرية« 1960، »الأشعة السبعة« 1962، وفي الشعر: »حامل
الأزهار«1952، »الأرواح الشاغرة«1967، »الكاتب وقصص أخرى« 1972، كما أصدر
الروايات التالية: »نِهاية الأمس« 1974، »بان الصُّبح«1981، »الْجازية
والدراويش« 1983، »غدا يوم جديد«1991، وفي التراث الشعبي: »أمثال جزائرية«
1990، و»من روائع الأدب العالَمِي« وهي مَجْموعة قصصية 1983، وفي الترجَمة:
مسرحية روسية مَوْسومة بـ »قصة في إيركوتسك« ودراسة للمحامي الشهير
فيرجيس: »دفاع عن الفدائيين«، وفي أدب الطفل: »النَّسر والعُقاب«..هذا عدا
مِئَتَيْ دراسة وقصة وقصيدة، مازالتْ مَخْطوطة، تنتظر الذي يأتي ليخرجها من
الظلمات إلى النور، منذ رحيله في 21 ـ 10 ـ 1996..!
ولعل البعض
مِمَّن لَمْ يقرأ لعبد الْحَميد أويَسمعْ عنه، سيسأل عن الرؤية الفكرية
والفنية العامة، التي يتبناها في كتاباته الْمُتنوعة، سواء النثرية منها
أوالشعرية. ولن نَجِد خيرا مِمَّا قاله عنها في هذه الشهادة: »حاولتُ في ما
كتبته على تواضعه، أن أعالِج نقاطَ التأزم الرئيسية في الوضع الْجزائري
بصفة تُدْخِل أكبرَ قدر من الْمستقبل في الْحاضر، وتبتعد عن الْمضامين
الْجاهزة والأشكال النابعة من مراكز خارجية، اعتقاداً مني بأن الانطلاق من
الْمعطيات التاريـخية الْمحلية لكل قطر عربي، لو روعِيَتْ في أعمالنا
الأدبية لأرْجَعتْ لنا شيئاً من الكرامة، وجَنَّبَتْنا كثيرا من مزالق
الاستلاب. فالثقافة العربية التي عاش العالَمُ على كرمها الروحي مايقرُب من
الألف سنة، لاتستحق هذا الواقعَ الذي وضعها فيه تَخلُّفنا الْمادي
والسياسي.
إن هذه الاهتمامات هي التي جعلتني في كل أعمالي الأدبية
أعمل على معالَجة الواقع الْمتأزم، والْجوانب الْمظلمة في حياتنا
الاجتماعية، مبتعداً بقدر الإمكان عن الاغْتباط بِما حققناه من
إيـجابيات«..فكيف عكستْ رواية »ريح الْجَنوب« هذه الرؤية؟
يظهر
الفجر، فتهْمُد »ريحُ الْجَنوب« في قرية أمضتْ ليلتها بين الغبار واللَّهب.
لكن، إذا كانت ستشهد صبيحة الْجُمعة، ميلادا جديدا مع الفجر (رمز الانبعاث
والتطهير) فإن (نُفيسة) نَجْلةُ (عابدٍ بْنِ القاضي) ستنطلق فـي رحلة
نفسية غامضة، وتُحَلّق في عالَم غيرِ مَحْدودٍ من الْمَتاهات
والسَّرابات..!
نرى من هذا الْمدخل العامِّ، الذي تلتحم فيه الْحقيقة
الْخارجية بالْحقيقة الداخلية ـ كما يقول استروفسكي ـ يعبُر بنا عبد
الْحميد بن هَدّوقة، سبعةَ فصول، لينْسُج فضاءً فسيحا من مِحْورين مركزيين:
(الأرض - الْمَرأة) العنصرين اللذين يُمثِّلان، منذ الأزل، العلاقةَ
الْحميمية، والرمزَ الْحيَّ للوجود، والْهوية، والكينونة؛ فكلاهُما
يُجَسِّدان الْخصوبة والدّيْمومة، كلاهُما يرفُدان الكونَ بالْحياة،
وبالصيرورة؛ فلولا الأرض والْمَرأة، لَما كانتْ هناك حياة في هذا الكون!
إذن، في بداية هذا النص الروائي، نعي أن الكاتب يبسُط موضوعة (الأرض -
الْمرأة) بل مايَخلقه هذان الْمِحوران من صراعات مُحْتدَمة بين شرائح
اجتماعية مُختلفة، في عملية سردية، تسلسلية زمنية، تُلحِم الْموضوعة
الروائية بالواقع الْجزائري في سنواته الأولى، من سنة 1962 إلى 5 نوفمبر
1970 التي يَحصُر فيها عبد الْحميد الكتابةَ!
غير أن هذا التحديد
الزمني، أوالْحَصْر التاريـخي، لايعني بتاتا أن الرواية بنسيجها الفكري
مقطوعةُ الْجذور عن الْمرحلة القبلية. إنَّ هناك خلفيات كامنة في نفسيات
وسلوكيات الشخوص الرئيسية والثانوية على السواء، نستشِفُّها من ثنايا النص،
تؤثر في الْحاضر وتُحرِّكه. وبالتالي، تُسَير أحداثه نَحْوَ نِهاية
ما!..فعابد يُحاول، عبثا، أن يستميل إليه (مالِكا) شيخَ البلدية ((هذا
الرجل العدو الصديق، الصامت الساخط، اللين العنيف)) كان كلاهُما داهيةً،
عسيرَ الْمِراس، قوِيَّ الْعَريكة. بيد أن عابد بن القاضي، بعد الاستقلال،
لَمْ يَجِد بُداّ من أن يصيرَ ليِّنا مراوغا، ذا أُسلوب ملتوٍ في معاملاته،
متخلِّيا عن الْمِزاج والسلوك الْحادّين، وأكثر تودُّدا إلى مالكٍ،
وتقرُّبا منه، لأنه مسؤول عن تأميم الأراضي، وعابد يَمْلك قِطَعا منها،
وقُطعانا من الغنم. وأن عداوة مالك لابن القاضي لَمْ تكن (ذاتية شخصية)
بقدر ما كانت (مذهبية). فهو بِحُكم حياته الثورية الطويلة، لايطمئن لذوي
النعمة والرفاهية والْجاهِ، مهما بلغتِ الأحاسيس التي تغمر وجدانَهم. بينما
عداوة ابن القاضي لِمالِك، كانت شخصية، حافزها الْخوف ((الْخوف من الْماضي
والْمستقبل، بالنسبة للماضي هناك نقطة سوداء في حياته، لايعرفها إلاّ
مالك...)) فتعبير (بعد الاستقلال) و(الْخوف من الْماضي...) يوحي بأن هناك
شيئا ما قبل هذه الْمرحلة، ولفظة (الْخوف) ترمز إلى (نقطة سوداء) تُحرِّك
الْحاضر، وتؤثِّر في أحداثه الْمُتعاقبة!
يتجسد هذا الْماضي، في أن
ابنته الأولى (زوليخة) كانت مَخْطوبة لِمالك ـ في حِقْبة الاستعمارـ لكنها
تستشهد في قطار نسفه الفدائيون ـ خطأً ـ بزعامة مالك نفسه، إذ كان يَظن أن
جنودا فرنسيين يَستقلّونه. وفي عهد الاستقلال، يُحاول ابن القاضي أن
يُجدِّد العلاقة مع مالك شيخ البلدية، بتزويـجه أختَها الصغرى
(نفيسة)!..وأن يُظْهر حُبَّه لوطنه وغيرته عليه، فيستقبل في بيته أهلَ
القرية، وينظم لَهُمْ حفلا، بِمُناسبة تدشين مقبرةٍ لأبنائهم الشهداء!
والسؤال الذي يُمكننا أن نطرحه من خلال قراءتنا:
- ما هي القسمات العامة للشخصيات الروائية؟...بِمَعنى آخر: هل هي
توفيقية أم متعارضة، أم مشخصة لنزعة فردية، جَماعية، أم لنزعة ثنائية؟
يأتِـي ابن القاضي ـ في هذا الأفُق ـ نَموذجا لفئة مستغِلة، لاتفكر
إلاّ في مصالِحها الفردية، وتطلعاتِها الشخصية الأنانية، فتسعى إلى
تَحقيقها بكافة الوسائل والقنوات الْمَشروعة وغير الْمَشروعة. وهذه الفئة
التي ظهرتْ كالْفِطَر والطَّحالب، عَقِبَ الاستقلال، تستغل الظروف
الطّارئة، لِتُعَوِّض الْمُستَعْمِرين، وبالتالي، تستحوذ على كل الثروات،
حتى البشريةَ. فهي بِمثابة مستعمِر جديد في صورة الْمُواطن، ورُبّما تُبرِم
مع الْمُستعمِر السابق اتِّفاقياتٍ للتعاون فيما بينهما، ولِحِماية
مصالِحِهِ؛ أي أنّ الْمُحتل طُرِد من الباب، وعاد من النافذة، ليفرض ثقافته
ولغته واقتصاده...!
فنفيسة ـ كمثال ـ لاتُجسِّد ذلك الْهَمَّ
الإنسانِيَّ في حياته، بصفتها بنتَه، بل يعتبرها سِلعة، بِضاعةً يَمْتلكها
كسائر سِلَعه وبضائعه، وكباقي أراضيه الفسيحة وبقراته الْحَلوب. لايُمَيز
بين الإنسان كذاتٍ، تثْوي أحاسيس وأفكار ورغباتٍ، وبين الشيءِ
الْجامد!..لكن العقبة الكَأداء التي تَحول دون طموحه، ليست نفيسة، فهذه
لاتَهمه ولايُعَبِّرها، ولاتشكل عائقا في تنفيذ خطته، لأن الْمرأة، في نظر
هذه الفئة، هي هي، سواء كانت جاهلة أومثقفة!..والزوجة ـ أيضا ـ ليست إلا
أثاثا بيتيا، يَملأ جَنباتِ الْمنزل، لايعي من القضايا شيئا، ويُمْكنه
الاستغناء عنه، متى شاء!..إذن، العقبة هي (مالك) إذا ما أدرك هذه الرغبة:
((إن شيخ البلدية يُمَثِّل أكبرَ خطر بالنسبة إلى مصالِحنا، هل تستطيع أن
تفهم امرأة لاتعرف من الْحياة الْمنزلية، ما تعجز عن فهمه أشد العقول
دهاءً؟!))..غير أن نفيسة، تبعا للتطور الْمُجْتمعي، والصيرورة التاريـخية،
تأتي صوتا لوعي جديد، يتخطى الواقع الردئ، يبدِّد حَلَكة الْماضي، صوتا
لِعَهْدِ الاستقلال، يُمَثِّل صراعا بين الأجيال، ليضع حدا فاصلا بين
نَموذجين للمرأة: ((الذل الذي عشتِ فيه أنت لن أعيشه!..كوني أمًّا لغيري إن
شئتِ. وليكن أبا لِمَنْ أراد، أما أنا فلن أدَعَ هذه اللعبةَ تبلغ مني ما
بلغت من غيري، لست امرأة، أفهمت؟.. لست امرأة !))..إنّها تدَّمِّر الرؤية
الأبوية القديـمة للمرأة: ((إذا كنت لاأستطيع التصرف حتى في ابنتي فلماذا
أحيا بين الناس إذن؟!))..ولاتَجِد نفيسة بديلا لِمُشكلتها غير الفرار إلى
العاصمة، فهي مَلاذُها الآمن من استغلال الأب!..وهنا، سيشعر الأبوان بأن
الأيام، لَمْ تعدْ كما كانتْ من قبلُ، وأن الزمان دار دورته، لأن استغلال
الإنسان، ولو كان فِلْذَةً من كبدك، لابد أن ينتهي يوماً ما، وأن وعيه ينضج
مع تطور الْمُجتمع، الذي يشهد رياح التغيير بفعل عملية التعليم، وحركة
الثقافة، والأفكار التي تنتقل عبر وسائل الإعلام..!
أما العجوز
(رحْمة) فتعكس، من خلال النص، الذاكرةَ الشعبية الْجزائرية، التي تَخْتزن
العاداتِ، التقاليدَ، تَحشُد التاريخَ النضالي للجزائر، تُحْرق الْمَراحل
بين الأجيال الثلاثة، الْماضية، الآنية، الآتية. ووسيلتُها لتسجيل هذا
التاريخ (إبداعاتُها الطينية) الْمؤثثة لعقول الصغار والكبار، تَنقش في
ذاكرتِهم تاريـخَهم الْحافل بالبطولات والنضالات الْمُستميتة. كأنّها تقول
لَهُمْ: هكذا كان أجدادكم وآباؤكم، فأكملوا أنتم الرسالة!
رحْمة
العجوز، بذلك، تاريخ مُستعاد، يُجسِّد الوعي الشعبي، فيما يُجسِّد الراعي
(رابح) الوعي الوليدَ عن الواقع الاجتماعي الْجَديد، برغم أنه لَمْ يلتحق
بالْمَدرسة، ولاعلاقة له بالْحركة السياسية والثقافية التي ينغل بِها
الْمُجتمع الْحالي، إذ لَمْ يشعر بِهذا الواقع الْمَرير، الذي عانَى منه
سنواتٍ طويلةً، إلاحينما دخل الغرفة خُلسة، فأبصر نفيسة عارية على السرير،
فذهَلَه جسدُها النابض: »اِذهب أيها الراعي القذر«!. منذ تلك اللحظة، قرر
أن يغير الواقع البئيس!..لقد كانت هذه الْجملة اللاذعة، اللاسعة، عاملا
قويا في خلخلة الوعي لديه، فانعزل عن الآخرين، ليدرك منزلته بين أفراد
مُجْتمعه!
نَخلُص من هذه القسمات العامة إلى أن الرواية تتنازعها ذاتان متعارضتان:
- الذات الفردية، الْمُنكفئة على نفسها، ذات الرؤية الْماضوية الأحادية: عابد بن القاضي.
- الذات الْجَمْعية الْمنفتحة على الواقع الْجَديد، الْمُتطلعة إلى الغد: مالك شيخ القبيلة ـ نفيسة ـ رابح.
وهي تتشكل، كما ذكرنا آنِفا، من شخوص رئيسية وثانوية، تبدو كأن غايتها هي تَحْليل نَماذجَ بشرية، أكثر من تسجيل صراعات،
تُذكي
البنية الْحكائية للعمل الروائي. فتأتي هذه الشخصيات مستقلة بذاتِها، إذ
نَجد حديثا مُسهَبا عن الراعي، العجوز رحْمة، الْمُعلم، وغيرها من الشخوص..
كما نلحظ تفاصيل وجزئيات لِمَوضوعات اجتماعية، فلسفية، دينية، نضالية...!
إن هذا الْحَشوَ من الشخوص والْموضوعات، لايُسهم في النمو الطبيعي للنص
الروائي، أي يفَكِّك ذلك التماسكَ الداخلي بين الأحداث والأجواء من جهة،
ويعَطِّل ـ في نظر الناقد برناردي فوتو ـ عمليةَ التخيل.
وما يبرر
هذا الزخم في البناء الروائي، يعود إلى سيولة الْحكي، أو بتعبير آخر إلى
لَمْلَمة جُملة من الأحداث والْمواقف الْمُتشعبة، والأحاسيس الوطنية
الْمُتضاربة، الناتِجة عن تَحَولات الْمُجتمع الْجَزائري، وهو يُصارع ليبني
ذاته، ويقطع مع الْماضي الْحَزين، وإن كان، فيمابعد، خلق له واقعا أمَرَّ.
وربّما إلى أن الروائي كان يُحِس بالرغبة في أن يقول كلَّ شيء، كسائر
الروائيين الرواد، ليس في الْجزائر فقط، وإنَّما في كل دول العالَمْ. لأن
هؤلاء الروائيين يدّخرون كثيرا من القضايا والأحداث والْمَواقف، التي
عاشوها في حقبة الاستعمار، والفرصة، الآن، يرونَها مواتيةً للجَهْر بِها
جُمْلةً وتفصيلا، ليفرغوها فيتخلّصوا مِنْها، وينتقلوا إلى حقبة أخرى.
فالعملية، هي بِمثابة، تطهير الذات من الْماضي الْمؤلِمِ، وقطْع العلاقة
به.
كما أن هذه الرواية تعتبر من أوائل الأعمال الْمُؤسِّسة للفن
الروائي بالْجزائر، وككل بداية تأسيسية تشهد تَلَكُّؤات وتعثراتٍ في
الْمِعمار الفني. وبالنسبة لـ»ريح الجنوب« تطمح إلى تسجيل ما كانتْ تنغَل
به الساحة الْجزائرية في 1962 غير أن الْحَشدَ أتى على فنية النص الروائي!
العربي بنجلون |
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
مواضيع مماثلة
» التخييل ذاكرة مفتوحــــــــــــــــــــة
» كيف نقوي ذاكرة أبنائنا؟
» عبد الرفيع الجواهري يعود الى فاس.. ذاكرة وقصيدة
» عن الرواية والسينما/بنسالم حمّيش
» ببليوغرافيا الرواية المغربية
» كيف نقوي ذاكرة أبنائنا؟
» عبد الرفيع الجواهري يعود الى فاس.. ذاكرة وقصيدة
» عن الرواية والسينما/بنسالم حمّيش
» ببليوغرافيا الرواية المغربية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى