إيليا أبو ماضي وشاعرية التــأمل والتساؤل
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
إيليا أبو ماضي وشاعرية التــأمل والتساؤل
إيليا أبو ماضي
شهدت السنوات الأخيرة اهتماما متزايدا بالشاعر المهجري الكبير إيليا أبو
ماضي، الذي أعادت مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري طبع
أعماله الشعرية الكاملة مؤخرا. فقد صدرت عدة دراسات نقدية موسعة حول شعره
في عدة عواصم عربية، أحدثها دراسة الدكتور عبدالباسط محمود عن لغة الشعر
عنده. وإذا كان أبو ماضي يُنعت عادة بأنه «شاعر التفاؤل والتساؤل» فقد خصّص
عبدالباسط محمود فصلا لقصيدة أبو ماضي الشهيرة «الطلاسم»
التي تُعتبر قمة في شعر ابي ماضي وفي الشعر العربي المعاصر على السواء، وكذلك قمة في الفكر ايضا.
مزج
ايليا أبو ماضي في هذه القصيدة بين الشعر والفكر، محاولا البحث في سرّ
الخلق وفي سرّ الوجود وفي المصير البشري من دون أن يصل الى إجابة قاطعة،
مكتفيا بالتأمل وطرح الأسئلة، ومنتهيا الى الوقوع في فخّ «اللاأدرية»، وهي
فلسفيا منزلة وسطى بين منزلتَي الإيمان والإلحاد. إنه ليس مؤمنا بالمعنى
الذي يُعطى للايمان عادة، ولكنه ليس ملحدا ايضا، بل هو مجرد متسائل باحث عن
كنه الوجود والإنسان، من دون أن يوفق في الوصول الى ساحل الحقيقة. باحث
يتخبط في بحر أو بحور اسئلته وشكوكه، تماما كما تخبط كثيرون قبله، وكما
يتخبط كثيرون بعده، وكأنما الحاجة في مثل هذا التيه الروحي هي الى نور
يقذفه الله في الصدر على حد تعبير حجة الاسلام الإمام ابو حامد الغزالي
(الذي عرف مثل هذا التيه) في كتابه «المنقذ من الضلال».
تجربة نفس
«الطلاسم»
كما يصفها عبدالباسط محمود تجربة نفس مرتابة، تشك في كل شيء، ولا تصل الى
شيء، تتخطى مرحلة شك لتصل لأخرى، لتبدأ مع نهايتها مرحلة شك جديدة. وهكذا
تستمر الحلقات ليجسّد لنا الشاعر في النهاية حالة الارتيابية واللاأدرية
والجهل بحقائق الأمور والأشياء.
ولاشك أن أسلوب الاستفهام مثير للفكر،
باعث للحيرة بما يرسله من اسئلة واستفسارات تبحث عن مجيب قد تجده وقد لا
تجده. وإذا وجدته قد تكون إجابته مقنعة وقد لا تكون. وقد تكون لها بدائل
تثير التردد والحيرة وقد لا تكون. وهكذا فتركيبة الاستفهام الخاصة تمنحه
كثيراً من التميز الادائي.
وقد استطاع ابو ماضي ان يوظف الاستفهام
بمطولته «الطلاسم»: (الهمزة 32 مرة، هل 20، لماذا: 14، كيف: 11، ما:8، اين:
5، متى: 4، كم: 3، من: 2، لم:2) ليصبح انعكاسا واضحا لقلقه وتوتره وحيرته
وتردده الدائم وخوفه من المجهول الذي يسأل عنه، ولا يقنع او يقتنع بأي
اجابة، ليمسي امامه كل شيء طلسماً ولا سبيل لمعرفته.
يسأل ابو ماضي نفسه ويبحث بين طياتها فلا يجد شيئاً:
ـــــــ كيف جئت؟ كيف ابصرت طريقي؟ لست ادري!
ـــــــ أجديد أم قديم أنا في هذا الوجود؟
هل انا حر طليق ام اسيرٌ في قيود؟
هل انا قائد نفسي في حياتي ام مقود؟
ـــــــ وطريقي ما طريقي؟ اطويل ام قصير؟
هل أنا أصعد أم أهبط فيه وأغور؟
أأنا السائر في الدرب ام الدرب يسير؟
ام كلانا واقف والدهر يجري؟
لست ادري!
ويسأل البحر والسحب والموج، ولا يجد اجابة سوى اللاأدرية المسيطرة على الجميع:
قد سألت البحر يوما هل انا يا بحر منكا؟
هل صحيح ما رواه بعضهم عني وعنكا؟
ام ترى ما زعموا زوراً وبهتانا وإفكا؟
ضحكت امواجه مني وقالت:
لست ادري!
ويذهب للدير فلا يجد غير عقول آسنات، وقلوب بالية، فيولي وجهه شطر الصوامع، فلا يقتنع بعزلتهم، بل يسخر منها:
ان تكْ العزلةُ نسكاً فالذئب راهب
وعرين الليث حبّه فرض وواجب
ليت شعري ايميت النسك ام يحيي المواهب؟
كيف يمحو النسك إثماً وهو آثم؟
لست ادري!
فيذهب الى المقابر ويجادل نفسه عن حقيقة الموت، فتزداد حيرته، ويخرج بخفي حنين:
ان يك الموت قصاصاً، أي ذنب للطهارة؟
واذا كان ثوابا، اي فضل للدعارة؟
واذا كان دما فيه جزاء او خسارة
فلم الاسماء إثم او صلاح؟
لست أدري!
ويرى
القصر شاهقاً عالي القباب، فيدرك ان مصيره كمصير من شيده، كلاهما سيفنى،
ولن يعلم ايهما مصير الآخر، ومن ثم يغدو القصر كالكوخ ان اقام الشاعر
بأيهما فهو سجين لا يجديه غنى، كما لا يرهقه فقر، لانه لا يجد من يجيب عن
تساؤله بغير: لست ادري!.
ليس في الكوخ ولا في القصر من نفسي مهرب
انني ارجو واخشى، انني ارضى وأغضب
كان ثوبي من حرير مذهّب او كان قنّب
فلماذا يتمنى الثوب عاريا؟
لست ادري!
وهكذا
يمسي كل شيء سواء، امام الشاعر، وتمسي نفسه متعثرة ابداً في طريق معرفة
حقيقتها، وتضل الطريق تشك في كل شيء، وتعلم وتجهل كل شيء، ولا تصل إلا لشيء
واحد، ختم به كل مقطع من مقاطع القصيدة، الواحدة والسبعين، لست ادري!
اين ضحكي وبكائي وانا طفل صغير؟
اين جهلي ومراحي وانا غض غرير؟
اين احلامي وكانت كيفما سرت تسير؟
كلها ضاعت ولكن كيف ضاعت؟
لست ادري!
وتستمر
الاستفهامات موحية بالانكار، الدائم مؤكدة على اللا ادرية حتى نصل للنهاية
التي لا مفر منها لشاعرنا الحائر، انها مرحلة الثبات على الجهل الدائم،
وانكار المعرفة بصفة عامة، والاستسلام طوعاً لـ «لست ادري».
انني جئت وامضي وانا لا اعلم
انا لغز، وذهابي كمجيئي طلسم
والذي اوجد هذا اللغز لغز بهم
لا تجادل ذا الحجى من قال اني:
لست ادري!
تكريس الاستفهام
وهكذا
فتكريس اسلوب الاستفهام بذلك الكيف والكم اوضح الدلالة بصورة مؤثرة موحية،
مع ما يمكن ان يقال عن تقريريتها لذلك الشك والتردد بنفس الشاعر، خصوصا مع
توالي اسلوب الاستفهام معطوفا على بعضه بعضا، على صورة تبرز للقارئ غير
المتمرس توتر الشاعر وحيرة نفسه والتباس الامور عليه، حتى يصبح التساؤل
ابرز ما يعبر عنها.
وقد ساعد الاستفهام من ناحية اخرى على اداء دوره
بالقصيدة مع ملاحظة ان دلالة الزمن النحوي للماضي تطغى على القصيدة (242
فعلا) بمعنى ان افكارها ذات وجود قوي مسبق لدى الشاعر، وتتخطى بتقريرها
حدود الماضي المتعمقة فيه لتصل للحاضر فالمستقبل لتعلمنا أن مضامين ها قضية
مفروغ منها، لكن اساسها، وهو الشك ما زال قائما يمتد ليغلف افعال المضارعة
(150 فعلاً) بمستقبل قائم تسيطر عليه روح الخوف والتردد والريبة، تجعل من
دلالة الامر (14 فعلا) احدى دعامات الاستفهام غير المباشر: قل! تكلم!
اخبرني! اسأل!.
جهاد فاضل - القبس
غلاف الكتاب
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
nezha- عدد الرسائل : 6218
العمر : 61
Localisation : s/a/g
تاريخ التسجيل : 16/04/2008
مواضيع مماثلة
» حكاية قصيدة...
» شقة الفيلسوف ميشيل فوكو وشاعرية النزعة الإنسانية "إن السلطة تحول الإنسان إلى دمية سياسية"
» الإسبان حاولوا دائما محو الماضي العربي لكنهم لم يستطيعوا
» شقة الفيلسوف ميشيل فوكو وشاعرية النزعة الإنسانية "إن السلطة تحول الإنسان إلى دمية سياسية"
» الإسبان حاولوا دائما محو الماضي العربي لكنهم لم يستطيعوا
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى