«الدزاين» و كينونة الآخر عند الشاعر محمد الميموني من خلال قصيدتي «قصائد» و «أين أنت من النهر»
صفحة 1 من اصل 1
«الدزاين» و كينونة الآخر عند الشاعر محمد الميموني من خلال قصيدتي «قصائد» و «أين أنت من النهر»
" القصيدة ما يفهم منها يضيئها، و لا يستنفد منها ما تنطوي عليه"1 ، لهذا سوف نقوم بقراءة قصيدتي " قصائد" و" أين أنت من النهر" للشاعر محمد الميموني ، دون ادعاء لصرامة منهجية، أو تبني لنسق معرفي، يهدف إلى تناول القصيدتين كمستندين، يوثقان لظاهرة شعرية معينة، بقدر ما سنقرأهما كنتاج شعري، له أدواته الشعرية، ويمتلك رؤيته الخاصة للعالم . و هذا انطلاقا من كينونة الشاعر الفاهمة للآخر، المنشغلة بالهم الوجودي، كما تعلن عن ذلك القصيدتان .
نحت
الشاعر محمد الميموني لكينونته في القصيدتين إطار " الدزاين"،كمفهوم
فلسلفي يؤطرها في علاقتها الجدلية مع كينونة الآخر الذي يشاركها عالمها.
إن من طبيعة " الدزاين" كما عرفها هايدغر أن يكون الكائن قادرا بكينونته
أن يختار ذاته، و أن يجد نفسه .و إن مفهوم " الكينونة ـ في ـ العالم"، تعني
أن هذا الكائن قد ارتبط قدره مع كينونة الكائن الآخر، الذي يلتقي به داخل
العالم الذي هو عالمه2.
أمام هذا التعريف المختصر لمصطلح " الدزاين"،
نستطيع أن ندرك عن ماذا نبحث في المقطوعات الشعرية الست الموزعة على قصيدتي
الشاعر محمد الميموني.و بما أن " الدزاين " ككينونة تحمل في طياتها
مفاهيم مثل :الانشغال و الهم ، و الاهتمام، فإنها تستجيب بذلك لمفهوم "
معرفة العالم" ، تحت مسمى " وجود الكينونة ـ في ـ العالم.
جاءت مقطوعة "
برج الثور"، التي تتصدر المقطوعات الثلاث لقصيدة " قصائد" ، محملة على
هودج، موشى بخلفية ميثولوجية، و شعرية أنطولوجية، يحذوها صوت كينونة عارفة
بعالمها، التي توجد فيه، و تمارس فيه فعلها المعرفي بالوجود.
أوغلت في اللاشيء
حتى لاحت لي عيون الثور الشرس
الذي أضناه حمل الأرض
فوق قرن واحد
بدا لي الثور غاضبا
أو هكذا خمنت
حين لم أبد رثاء لشقائه
حدسته ينوء و يهم بالخلاص
" أوغلت" ، " بدا لي" ، " خمنت" ، و " حدست "، مفردات تعني معرفة
ذاتية، تنبع من داخل الذات، ولا تحيل على أية مرجعية خارج الذات، لذا
نستطيع أن نقول إن الأبيات ترشح بغنائية ذاتية تمجد وجود كينونة لها
معرفتها الخاصة عن الآخر ، و تمتلك شرعية تفاعلها معه لحظة لقائها به:
رست من بعدها الأرض على قرنه الثاني
مستمتعا بحقه المشروع في استراحة
إن فهم الشاعر المسبق للعالم ، أي ما يمثل رصيده المعرفي ، لا ينفصل
عن كينونته المنحوتة كـ "دزاين "، كما أن موقعية الفهم التاريخية لديه
تمنحه الأساس الأنطولوجي لكينونته. فحتى بعد النقلة النوعية في وضعية
الثور، يستمر الشاعر في فهم ما يحدث ، بل الأكثر من ذلك يعترف للثور بـ
"حقه المشروع في استراحة"، وهي تمفصل شعري يغني دلالة ما نستقرئه في
الأبيات، أي ما يعني أن معرفة كينونة الشاعر بعالم "التيمة" التي اشتغلت
بها المقطوعة الشعرية، هي عملية فهم الوجود في بعده الأنطولوجي.
و في
نفس سياق قراءتنا للمقطوعات الشعرية ، و نحن نستأنس بالومضات الفلسفية لدى
هيدغر ، الذي جعل من الشعر فكرا أصيلا للوجود. ننتقل إلى المقطوعة الثانية
التي هي بعنوان " مزايا الطائر" .
إن أحد أهم مكونات الكينونة ـ كما
أسلفت الإشارة ـ هو " الفهم" ، الذي عرفه هايدغر أنه فعل منفصل بالضرورة
عن أي تأثير دخيل . نبحث عن هذا المكون ، في هذه المقطوعة فنقرأ:
حدقت في أشياء الليل
كانت الظلال
بمتن حيواني منقوع في الظلام
ألقيت بشباك الرمز
لم يعلق بها سوى أشباح
حوريات و زعانف
وشبه ضوء عار
وقصيدة موؤودة
وكان الجناحان لازمين لتصديق و يقين
أيقنت أن قيمة التحليق
في التقاء الكلمات
بمقامها الشعري
ومضمونها الحميم
عند نشأة السماء و الطيور
يقول أدونيس :" إن النص لغة لا تحمل أسرار المتخيل وحده، و إنما تحمل كذلك أسرار الذات" 3
الشاعر
في هذه الأبيات ،مارس أفعاله الذاتية عبر ثلاثة أفعال وقع بها كينونته
الخاصة ، "حدقت" أي استعمل نظره بإمعان ، و "ألقيت" أي خاض مغامرة التجريب
،و تجلت كينونته في الفعل ، الذي سيتبدى أكثر عندما ينحت أيقونة يقينه ،
حين يعلن عن حصول اليقين لديه : " أيقنت " .
كينونة الشاعر في هذه
القصيدة، قائمة على الفهم و القدرة على الوجود داخل عالم تربطه فيه علاقة
بالآخر، وهو وجود يمتلك مشروعية اختياره. فالشاعر عندما أيقن، كان يقينه
مبنيا على فهم. و بفهمه أعاد تنظيم العلاقة بين خياله و عقله، فأمسك بخيوط
التوازن في عالمه، ووضع شروطه الخاصة لوجوده فيه،داخل فضاء يتقاسمه مع آخر ،
يبدو أنه سلبي الوجود، توءد فيه القصائد، لهذا فهو يسعى للتحليق نحو فضاء
الكلمات،كما قد يبدو في ثنايا المقطوعات الست المكونة للقصائد.وهو فضاء
أنطولوجي بامتياز،أراد له الشاعر أن يكون مهوى لتساقط ثمار " التقاء
الكلمات" بمقامها الشعري". حيث الشاعر يسعى لوجود شعري يمارس حقه في"
التفرد" دون " انعزال" .
مزايا الطائر الوحيد
السابح البعيد
المتوغل العنيد
علو
لا عتو
و انفراد لا انعزال
و غناء دون حاجة
سوى إلى هواء و فضاء
الشاعر في هذه الأبيات يقيم وجوده الخاص.يعلن عن استقلالية ذاتية، "
المتوغل العنيد"، كما نجدها كمفهوم حاسم ، عند " الإناسة الكانطية".وهو
وجود يقوم على تخليص الحرية من عقالها : " غناء دون حاجة سوى إلى هواء و
فضاء".
إن الطبيعة موجود يصادف في وسط العالم، ويمكن أن يكتشف و يدرك
بطرق مختلفة ، و على مستويات مختلفة. و إن ما يمكن إدراكه و تحديده، و بعد
ذلك معرفته و فهمه، يمكن شرحه بعبارات، وبعد صياغة العبارات لما صار عليه
الإدراك، يعتبر ذلك بحد ذاته، نوعا من الكينونة ـ في ـ العالم. في هذا
السياق نجد " دزاين " الشاعر محمد الميموني ، يتجسد خلال المقطوعة الشعرية
" محفوظ شائع" ، كذات عارفة، تنبني عليها كينونة موجودة في قلب عالم .
يصيغها الشاعر في بناء شعري، يعتمد نظام التضاد، كتقنية شعرية للغة، تعكس
رؤية فكرية . و تشيد صرح حرية تتيح للشاعر أن يكتشف بعدا خامسا للوجود:
من عهد الكهف
إلى زمن الإخفاق
هل غير وجهته النهر
و ارتد إلى رحم النبع
هل مل البحر تزاحم أمواجه
و توالي أسراب النورس
من مطلعها في الفجر
إلى الشفق الغابر
من علم دلفينا
كيف يشق الخط الفاصل
ما بين البحر و أمواجه
من علم ما لم يعلمه ربابنة
الطوفان
هل يوجد محفوظ شائع
محجوب في بعد خامس
لا يبصره الربان
و يحدسه النورس
يتماهى بالزبد الطائر
و يوشوش في أذن الأمواج
بالسر الغائب في حدس النورس
في مقطوعة " وقفة حساب"، يصور لنا الشاعر مشهدا أعاد فيه إبداع خصوصيته
في وجوده ـ في ـ العالم ، و كأني بالشاعر يقدم " دزاين" كينونته الخاصة،
عبر مقطوعة شعرية ترشح بجدل عقدي يجري في شرايين كينونة توجد ـ في ـ
العالم ، تسبح ضد تيار كينونة أخرى تملك تنظيرات ضخمت سلطة الوصاية:
في وقفة حساب
يأتي من مطلق الأبعاد
هاتف رخيم و رحيم
يسأل ميتا حيا
مشدوها
لا يكاد يستفيق
من دوار الميتين
" الكينونة " عند هايدغر ، هي لقاء التاريخ مع الإنسان. و كما يشرح هذا
مطاع صفدي، في مقالة له عن هايدغر ، و مفهوم " الدزاين": ان ما تعنيه
وجودية " الكائن" الوجودي حقا، هو توقيته الخاص، إذ كلما دقت ساعته، حدث
انزياح الزمكان عن حياديته ، فيبدو كأن الكائن ـ في ـ العالم " الذي هو
الدزاين" هو بانتظار هذه الساعة"3.
الأبيات تصور مشهدا مسرحيا، التجريد
بطله المطلق ، تفصح عن موضوعه، لغة أنطولوجية، ترج رجا خفيفا هدوء المتلقي
المستسلم للجاهز. ترسل في أسلاك العقل الحرارة، كي تشتعل الأسئلة. تلك
الأسئلة التي وحدها من تمنح صك الحق في الوجود، و عبرها تبنى الكينونة.
المشهد يطبق عليه هدوء منمنم بالدهشة ، و الدوار، و الغيبوبة القريبة من
الموت، حتى الصوت الآتي من الأبعاد يأتي هامسا.و هنا يعمد الشاعر مرة أخرى
إلى استعمال تقنية التضاد ، منتقلا بها إلى الجانب الدلالي للأبيات .
فالصوت الرحيم الرخيم يحمل أسئلة محملة بالإدانة المسبقة:
لماذا كنت جامح السؤال
متمرد الجواب
مذبذب اليقين
و عسير الاقناع
الأسئلة
الصريحة في الأبيات، موجهة إلى كائن يجمع بين الموت و الحياة، و اجتماع
الأضداد يولد الايجاب، فالخطاب موجه إلى ميت الإقصاء من قبل الآخر، يتحول
إلى حي قابض على جمرة الوعي الذاتي، و التمسك بحقه في السؤال، و بهوية
كينونته المختلفة عند الجواب.
و تتوالى الأبيات محمولة عبر لغة
أنطولوجية،ناطقة باسم كينونة تتجسد ما بين اعتراف و شك ، ناحتة حقها في
الوجود بكل متناقضاتها إن أمكن الحال.و بشكل عام يبدو لنا "دزاين" كينونة
الشاعر، عبر مقطوعة " وقفة حساب" يشي بمكنون روحي لا يسقط العقل من
انفعالاته، في حين يتمرد عن سلطة أية وصاية دينية:
إلهي ،حقا،
لم أكن متين الدين
لكن خيالي
كان دائما مسكونا بوجودك
أرضى ولو بلمحة جواب منك
لكن أشك في دعاوى المفترين
و تغابي التابعين
و تواطؤ المتفرين و الرعاة الوالعين
إذن من أهل الجنة تكون
و لكن
لن تطمئن إلى وجودك بها عيانا
و لن تشفى من شكك الأرضي
حتى تختبر اليقين
الأبيات
تنوء بأعباء وجودية، تشتعل بفسفور الوعي، ترفض الانتماء إلى قطيع
الأغبياء التابعين، و الاستسلام للمفترين و الرعاة ، أي أن الأبيات تتمرد
على كينونة أخرى تشاركها وجودها في "عالم الدين" ،والعلاقة بالآله ، كما
جاء على لسان الشاعر في:
إلهي، حقا،
يمتد تمظهر " دزاين" كينونة
الشاعر في المقطوعات التالية، عبر ثلاثية حكي، ينسجها تبئير خفي لذات
محاصرة بفعل "آخر" ككينونة تشاركه عالمه. مجموعة المقطوعات الثلاث،المكونة
لقصيدة " أين أنت من النهر" ، تبدأ بمقطوعة " حكاية" ،التي تبعث في النفس،
إحساسا يذكرني بالشاعرة نازك الملائكة و هي تقول :
و أغضب حين يداس الشعور ويسخر من فوران الشعور
إن
فعل الحكي في هذه الأبيات، يصور وضعا مؤزما بين كائنين،أحدهما يمثله الصوت
الناطق فيه ، صوت بطل درامي ، يمشي وهو يعاني في متاهة" الاحجام" و
"الندوب" و"الذنوب". كائن يحمل حكاية في حجم الحلم و الخيال، تقابلها
كينونة الآخر، الشارد، المستهزئ، الذي ينقل للبطل عدوى الشرود و الإحجام،
فيضيع عليه حلمه و خياله.
مثل حلم طفل خارق
يحكيه متلعثما كما رآه
قبل أن يستهزئ الكبار
من غريب محكياته
فكيف لا تضيع من خياله الحكاية
و يفرغ الفراغ للشرود و الإحجام
و خفوت صوت الروح
و تراكم الضباب
و جفاف نهر الحلم و الخيال
الأبيات تعلن عن استشعار كينونة الشاعر لكائن آخر يشاركه عالمه و يؤثر
فيه، و هي تصب في نفس فكرة باقي المقطوعات المكونة للقصيدتين، حيث الآخر
يمثل الفكر المضاد له.
في مقطوعة " نشاز الهويات ، يعلن الشاعر انتصاره،
يكشف عن وجهة نظر ذاته الشاعرة للعالم. يثبت هويته ككائن بالعلم " le
savoir"، و ماهية كينونته المتمثلة في سيادته على ذلك. و بإرادة اقتداره
على التمرد على الآخر، ككينونة إقصائية، تفرض وصايتها بالإقصاء، و تملي
إيمانياتها بالترهيب:
العالم ، الحياة
أو معجزة الوجود
حدود هي أم منطلقات؟
و ما تكون الذات غير آلة التوفيق
بين حتمي الحياة
و جموح الرغبات
إعلان عن امتلاك حق السؤال، و القدرة على فهم الجواب، تماما كما يشترط هايدغر في " الدزاين"
ككينونة تفهم ثم تصنع حقها في الوجود في عالم تشاركها فيه كينونة الآخر.
و ما الهوية إلا افتراض
و اختيار و اقتناع و إرادة
هباء نحن ما لم نتعرف
و نعرف بذواتنا
و نكتشف جذورنا الممتدة عميقا
في شعاب الهويات
الأبيات
تمجيد للذات ، إذ الشاعر مبدع يمتلك الإكسير المحرض على الحياة، المستخلص
من روح تجربته الشعرية الطويلة،صقلت كينونته إرادة اقتدار و معرفة بأدوات
الإبداع الشعري، حررت ذاته من شرانق كينونة مواجهة، تملي، و تقصي، و تفرض، و
في أهون المواقف تشوش :
نشاز العزف قد يأتي من سامع أصم
بينما أوتار العود في تناغم حميم
نشاز الهويات
من تشوش الخطاب
و خفوت صوت الماء في المنابع
تفور و تسيل في شعاب و جداول بعيدة
لكنها تصون بلوراتها
و أصل هوياتها
تمايز مرئي
و تناغم خفي
تكررت
لعبة التضاد عبر المقطوعات الست، المكونة للقصيدتين، و هي تقنية تعمل على
التقاط الحبل الشعري بين المقطوعات،كي ينضد فيه الشاعر أفكاره الفلسفية.
يقول الناقد المغربي محمد مفتاح " إن أهم ضابط للنص هو الانسجام" ، و
إذا كان هناك من محفز أثار قراءتنا لهاتين القصيدتين، فإنه الانسجام الفكري
الذي أفسح المجال لخط فلسفي معين كي يتبدى بجلاء، وهو يؤسس لـ " دزاين "
يجلي كينونة الشاعر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
1)- قصيدة " قصائد" للشاعر محمد الميموني، نشرت بالملحق الثقافي لجريدة العلم بـ : مارس 2010
2)- قصيدة " أين أنت من النهر" لنفس الشاعر، نشرت بالملحق الثقافي لجريدة العلم بـ: دجنبر 2010
3)- أدونيس، كتاب الصوفية و السورياليةـ طبع دار الساقي بيروت ـ ط 1 سنة 1992
5)- نفس المصدر أعلاه
6)-
مقال " الكينونة و الزمن" لمارتن هايدغر نشرته مجلة" العرب و الفكر
العالمي"العدد الرابع،ترجمة د.جورج كتورة ، مراجعة د.جورج زيناتي.
3/2/2012 - العلم -الملحق الثقافيالشاعر محمد الميموني لكينونته في القصيدتين إطار " الدزاين"،كمفهوم
فلسلفي يؤطرها في علاقتها الجدلية مع كينونة الآخر الذي يشاركها عالمها.
إن من طبيعة " الدزاين" كما عرفها هايدغر أن يكون الكائن قادرا بكينونته
أن يختار ذاته، و أن يجد نفسه .و إن مفهوم " الكينونة ـ في ـ العالم"، تعني
أن هذا الكائن قد ارتبط قدره مع كينونة الكائن الآخر، الذي يلتقي به داخل
العالم الذي هو عالمه2.
أمام هذا التعريف المختصر لمصطلح " الدزاين"،
نستطيع أن ندرك عن ماذا نبحث في المقطوعات الشعرية الست الموزعة على قصيدتي
الشاعر محمد الميموني.و بما أن " الدزاين " ككينونة تحمل في طياتها
مفاهيم مثل :الانشغال و الهم ، و الاهتمام، فإنها تستجيب بذلك لمفهوم "
معرفة العالم" ، تحت مسمى " وجود الكينونة ـ في ـ العالم.
جاءت مقطوعة "
برج الثور"، التي تتصدر المقطوعات الثلاث لقصيدة " قصائد" ، محملة على
هودج، موشى بخلفية ميثولوجية، و شعرية أنطولوجية، يحذوها صوت كينونة عارفة
بعالمها، التي توجد فيه، و تمارس فيه فعلها المعرفي بالوجود.
أوغلت في اللاشيء
حتى لاحت لي عيون الثور الشرس
الذي أضناه حمل الأرض
فوق قرن واحد
بدا لي الثور غاضبا
أو هكذا خمنت
حين لم أبد رثاء لشقائه
حدسته ينوء و يهم بالخلاص
" أوغلت" ، " بدا لي" ، " خمنت" ، و " حدست "، مفردات تعني معرفة
ذاتية، تنبع من داخل الذات، ولا تحيل على أية مرجعية خارج الذات، لذا
نستطيع أن نقول إن الأبيات ترشح بغنائية ذاتية تمجد وجود كينونة لها
معرفتها الخاصة عن الآخر ، و تمتلك شرعية تفاعلها معه لحظة لقائها به:
رست من بعدها الأرض على قرنه الثاني
مستمتعا بحقه المشروع في استراحة
إن فهم الشاعر المسبق للعالم ، أي ما يمثل رصيده المعرفي ، لا ينفصل
عن كينونته المنحوتة كـ "دزاين "، كما أن موقعية الفهم التاريخية لديه
تمنحه الأساس الأنطولوجي لكينونته. فحتى بعد النقلة النوعية في وضعية
الثور، يستمر الشاعر في فهم ما يحدث ، بل الأكثر من ذلك يعترف للثور بـ
"حقه المشروع في استراحة"، وهي تمفصل شعري يغني دلالة ما نستقرئه في
الأبيات، أي ما يعني أن معرفة كينونة الشاعر بعالم "التيمة" التي اشتغلت
بها المقطوعة الشعرية، هي عملية فهم الوجود في بعده الأنطولوجي.
و في
نفس سياق قراءتنا للمقطوعات الشعرية ، و نحن نستأنس بالومضات الفلسفية لدى
هيدغر ، الذي جعل من الشعر فكرا أصيلا للوجود. ننتقل إلى المقطوعة الثانية
التي هي بعنوان " مزايا الطائر" .
إن أحد أهم مكونات الكينونة ـ كما
أسلفت الإشارة ـ هو " الفهم" ، الذي عرفه هايدغر أنه فعل منفصل بالضرورة
عن أي تأثير دخيل . نبحث عن هذا المكون ، في هذه المقطوعة فنقرأ:
حدقت في أشياء الليل
كانت الظلال
بمتن حيواني منقوع في الظلام
ألقيت بشباك الرمز
لم يعلق بها سوى أشباح
حوريات و زعانف
وشبه ضوء عار
وقصيدة موؤودة
وكان الجناحان لازمين لتصديق و يقين
أيقنت أن قيمة التحليق
في التقاء الكلمات
بمقامها الشعري
ومضمونها الحميم
عند نشأة السماء و الطيور
يقول أدونيس :" إن النص لغة لا تحمل أسرار المتخيل وحده، و إنما تحمل كذلك أسرار الذات" 3
الشاعر
في هذه الأبيات ،مارس أفعاله الذاتية عبر ثلاثة أفعال وقع بها كينونته
الخاصة ، "حدقت" أي استعمل نظره بإمعان ، و "ألقيت" أي خاض مغامرة التجريب
،و تجلت كينونته في الفعل ، الذي سيتبدى أكثر عندما ينحت أيقونة يقينه ،
حين يعلن عن حصول اليقين لديه : " أيقنت " .
كينونة الشاعر في هذه
القصيدة، قائمة على الفهم و القدرة على الوجود داخل عالم تربطه فيه علاقة
بالآخر، وهو وجود يمتلك مشروعية اختياره. فالشاعر عندما أيقن، كان يقينه
مبنيا على فهم. و بفهمه أعاد تنظيم العلاقة بين خياله و عقله، فأمسك بخيوط
التوازن في عالمه، ووضع شروطه الخاصة لوجوده فيه،داخل فضاء يتقاسمه مع آخر ،
يبدو أنه سلبي الوجود، توءد فيه القصائد، لهذا فهو يسعى للتحليق نحو فضاء
الكلمات،كما قد يبدو في ثنايا المقطوعات الست المكونة للقصائد.وهو فضاء
أنطولوجي بامتياز،أراد له الشاعر أن يكون مهوى لتساقط ثمار " التقاء
الكلمات" بمقامها الشعري". حيث الشاعر يسعى لوجود شعري يمارس حقه في"
التفرد" دون " انعزال" .
مزايا الطائر الوحيد
السابح البعيد
المتوغل العنيد
علو
لا عتو
و انفراد لا انعزال
و غناء دون حاجة
سوى إلى هواء و فضاء
الشاعر في هذه الأبيات يقيم وجوده الخاص.يعلن عن استقلالية ذاتية، "
المتوغل العنيد"، كما نجدها كمفهوم حاسم ، عند " الإناسة الكانطية".وهو
وجود يقوم على تخليص الحرية من عقالها : " غناء دون حاجة سوى إلى هواء و
فضاء".
إن الطبيعة موجود يصادف في وسط العالم، ويمكن أن يكتشف و يدرك
بطرق مختلفة ، و على مستويات مختلفة. و إن ما يمكن إدراكه و تحديده، و بعد
ذلك معرفته و فهمه، يمكن شرحه بعبارات، وبعد صياغة العبارات لما صار عليه
الإدراك، يعتبر ذلك بحد ذاته، نوعا من الكينونة ـ في ـ العالم. في هذا
السياق نجد " دزاين " الشاعر محمد الميموني ، يتجسد خلال المقطوعة الشعرية
" محفوظ شائع" ، كذات عارفة، تنبني عليها كينونة موجودة في قلب عالم .
يصيغها الشاعر في بناء شعري، يعتمد نظام التضاد، كتقنية شعرية للغة، تعكس
رؤية فكرية . و تشيد صرح حرية تتيح للشاعر أن يكتشف بعدا خامسا للوجود:
من عهد الكهف
إلى زمن الإخفاق
هل غير وجهته النهر
و ارتد إلى رحم النبع
هل مل البحر تزاحم أمواجه
و توالي أسراب النورس
من مطلعها في الفجر
إلى الشفق الغابر
من علم دلفينا
كيف يشق الخط الفاصل
ما بين البحر و أمواجه
من علم ما لم يعلمه ربابنة
الطوفان
هل يوجد محفوظ شائع
محجوب في بعد خامس
لا يبصره الربان
و يحدسه النورس
يتماهى بالزبد الطائر
و يوشوش في أذن الأمواج
بالسر الغائب في حدس النورس
في مقطوعة " وقفة حساب"، يصور لنا الشاعر مشهدا أعاد فيه إبداع خصوصيته
في وجوده ـ في ـ العالم ، و كأني بالشاعر يقدم " دزاين" كينونته الخاصة،
عبر مقطوعة شعرية ترشح بجدل عقدي يجري في شرايين كينونة توجد ـ في ـ
العالم ، تسبح ضد تيار كينونة أخرى تملك تنظيرات ضخمت سلطة الوصاية:
في وقفة حساب
يأتي من مطلق الأبعاد
هاتف رخيم و رحيم
يسأل ميتا حيا
مشدوها
لا يكاد يستفيق
من دوار الميتين
" الكينونة " عند هايدغر ، هي لقاء التاريخ مع الإنسان. و كما يشرح هذا
مطاع صفدي، في مقالة له عن هايدغر ، و مفهوم " الدزاين": ان ما تعنيه
وجودية " الكائن" الوجودي حقا، هو توقيته الخاص، إذ كلما دقت ساعته، حدث
انزياح الزمكان عن حياديته ، فيبدو كأن الكائن ـ في ـ العالم " الذي هو
الدزاين" هو بانتظار هذه الساعة"3.
الأبيات تصور مشهدا مسرحيا، التجريد
بطله المطلق ، تفصح عن موضوعه، لغة أنطولوجية، ترج رجا خفيفا هدوء المتلقي
المستسلم للجاهز. ترسل في أسلاك العقل الحرارة، كي تشتعل الأسئلة. تلك
الأسئلة التي وحدها من تمنح صك الحق في الوجود، و عبرها تبنى الكينونة.
المشهد يطبق عليه هدوء منمنم بالدهشة ، و الدوار، و الغيبوبة القريبة من
الموت، حتى الصوت الآتي من الأبعاد يأتي هامسا.و هنا يعمد الشاعر مرة أخرى
إلى استعمال تقنية التضاد ، منتقلا بها إلى الجانب الدلالي للأبيات .
فالصوت الرحيم الرخيم يحمل أسئلة محملة بالإدانة المسبقة:
لماذا كنت جامح السؤال
متمرد الجواب
مذبذب اليقين
و عسير الاقناع
الأسئلة
الصريحة في الأبيات، موجهة إلى كائن يجمع بين الموت و الحياة، و اجتماع
الأضداد يولد الايجاب، فالخطاب موجه إلى ميت الإقصاء من قبل الآخر، يتحول
إلى حي قابض على جمرة الوعي الذاتي، و التمسك بحقه في السؤال، و بهوية
كينونته المختلفة عند الجواب.
و تتوالى الأبيات محمولة عبر لغة
أنطولوجية،ناطقة باسم كينونة تتجسد ما بين اعتراف و شك ، ناحتة حقها في
الوجود بكل متناقضاتها إن أمكن الحال.و بشكل عام يبدو لنا "دزاين" كينونة
الشاعر، عبر مقطوعة " وقفة حساب" يشي بمكنون روحي لا يسقط العقل من
انفعالاته، في حين يتمرد عن سلطة أية وصاية دينية:
إلهي ،حقا،
لم أكن متين الدين
لكن خيالي
كان دائما مسكونا بوجودك
أرضى ولو بلمحة جواب منك
لكن أشك في دعاوى المفترين
و تغابي التابعين
و تواطؤ المتفرين و الرعاة الوالعين
إذن من أهل الجنة تكون
و لكن
لن تطمئن إلى وجودك بها عيانا
و لن تشفى من شكك الأرضي
حتى تختبر اليقين
الأبيات
تنوء بأعباء وجودية، تشتعل بفسفور الوعي، ترفض الانتماء إلى قطيع
الأغبياء التابعين، و الاستسلام للمفترين و الرعاة ، أي أن الأبيات تتمرد
على كينونة أخرى تشاركها وجودها في "عالم الدين" ،والعلاقة بالآله ، كما
جاء على لسان الشاعر في:
إلهي، حقا،
يمتد تمظهر " دزاين" كينونة
الشاعر في المقطوعات التالية، عبر ثلاثية حكي، ينسجها تبئير خفي لذات
محاصرة بفعل "آخر" ككينونة تشاركه عالمه. مجموعة المقطوعات الثلاث،المكونة
لقصيدة " أين أنت من النهر" ، تبدأ بمقطوعة " حكاية" ،التي تبعث في النفس،
إحساسا يذكرني بالشاعرة نازك الملائكة و هي تقول :
و أغضب حين يداس الشعور ويسخر من فوران الشعور
إن
فعل الحكي في هذه الأبيات، يصور وضعا مؤزما بين كائنين،أحدهما يمثله الصوت
الناطق فيه ، صوت بطل درامي ، يمشي وهو يعاني في متاهة" الاحجام" و
"الندوب" و"الذنوب". كائن يحمل حكاية في حجم الحلم و الخيال، تقابلها
كينونة الآخر، الشارد، المستهزئ، الذي ينقل للبطل عدوى الشرود و الإحجام،
فيضيع عليه حلمه و خياله.
مثل حلم طفل خارق
يحكيه متلعثما كما رآه
قبل أن يستهزئ الكبار
من غريب محكياته
فكيف لا تضيع من خياله الحكاية
و يفرغ الفراغ للشرود و الإحجام
و خفوت صوت الروح
و تراكم الضباب
و جفاف نهر الحلم و الخيال
الأبيات تعلن عن استشعار كينونة الشاعر لكائن آخر يشاركه عالمه و يؤثر
فيه، و هي تصب في نفس فكرة باقي المقطوعات المكونة للقصيدتين، حيث الآخر
يمثل الفكر المضاد له.
في مقطوعة " نشاز الهويات ، يعلن الشاعر انتصاره،
يكشف عن وجهة نظر ذاته الشاعرة للعالم. يثبت هويته ككائن بالعلم " le
savoir"، و ماهية كينونته المتمثلة في سيادته على ذلك. و بإرادة اقتداره
على التمرد على الآخر، ككينونة إقصائية، تفرض وصايتها بالإقصاء، و تملي
إيمانياتها بالترهيب:
العالم ، الحياة
أو معجزة الوجود
حدود هي أم منطلقات؟
و ما تكون الذات غير آلة التوفيق
بين حتمي الحياة
و جموح الرغبات
إعلان عن امتلاك حق السؤال، و القدرة على فهم الجواب، تماما كما يشترط هايدغر في " الدزاين"
ككينونة تفهم ثم تصنع حقها في الوجود في عالم تشاركها فيه كينونة الآخر.
و ما الهوية إلا افتراض
و اختيار و اقتناع و إرادة
هباء نحن ما لم نتعرف
و نعرف بذواتنا
و نكتشف جذورنا الممتدة عميقا
في شعاب الهويات
الأبيات
تمجيد للذات ، إذ الشاعر مبدع يمتلك الإكسير المحرض على الحياة، المستخلص
من روح تجربته الشعرية الطويلة،صقلت كينونته إرادة اقتدار و معرفة بأدوات
الإبداع الشعري، حررت ذاته من شرانق كينونة مواجهة، تملي، و تقصي، و تفرض، و
في أهون المواقف تشوش :
نشاز العزف قد يأتي من سامع أصم
بينما أوتار العود في تناغم حميم
نشاز الهويات
من تشوش الخطاب
و خفوت صوت الماء في المنابع
تفور و تسيل في شعاب و جداول بعيدة
لكنها تصون بلوراتها
و أصل هوياتها
تمايز مرئي
و تناغم خفي
تكررت
لعبة التضاد عبر المقطوعات الست، المكونة للقصيدتين، و هي تقنية تعمل على
التقاط الحبل الشعري بين المقطوعات،كي ينضد فيه الشاعر أفكاره الفلسفية.
يقول الناقد المغربي محمد مفتاح " إن أهم ضابط للنص هو الانسجام" ، و
إذا كان هناك من محفز أثار قراءتنا لهاتين القصيدتين، فإنه الانسجام الفكري
الذي أفسح المجال لخط فلسفي معين كي يتبدى بجلاء، وهو يؤسس لـ " دزاين "
يجلي كينونة الشاعر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
1)- قصيدة " قصائد" للشاعر محمد الميموني، نشرت بالملحق الثقافي لجريدة العلم بـ : مارس 2010
2)- قصيدة " أين أنت من النهر" لنفس الشاعر، نشرت بالملحق الثقافي لجريدة العلم بـ: دجنبر 2010
3)- أدونيس، كتاب الصوفية و السورياليةـ طبع دار الساقي بيروت ـ ط 1 سنة 1992
5)- نفس المصدر أعلاه
6)-
مقال " الكينونة و الزمن" لمارتن هايدغر نشرته مجلة" العرب و الفكر
العالمي"العدد الرابع،ترجمة د.جورج كتورة ، مراجعة د.جورج زيناتي.
الزهرة حمودان |
عبدالله- عدد الرسائل : 1759
العمر : 54
تاريخ التسجيل : 26/06/2008
مواضيع مماثلة
» الشعر المغربي
» الشاعر محمد الطنجاوي في ذمة الله
» 'امرأة لا تحصى' جديد الشاعر محمد بودويك
» ملف عن الشاعر محمد بنطلحة (الاتحاد الاشتراكي الثقافي)
» بَريدُ الجُثَثْ : الشاعر المغربي محمد بلمو
» الشاعر محمد الطنجاوي في ذمة الله
» 'امرأة لا تحصى' جديد الشاعر محمد بودويك
» ملف عن الشاعر محمد بنطلحة (الاتحاد الاشتراكي الثقافي)
» بَريدُ الجُثَثْ : الشاعر المغربي محمد بلمو
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى