الفساد والزنا وشرب الخمر كنموذجين : لا وصاية للإنسان على الإنسان في الدين
صفحة 1 من اصل 1
الفساد والزنا وشرب الخمر كنموذجين : لا وصاية للإنسان على الإنسان في الدين
وأنا أتابع الزوبعة
التي أحدثها رد الداعية عبد الله نهاري على تصريح المختار لغزيوي رئيس
تحرير جريدة الأحداث المغربية ووصفه ب»الديوت» ودعا إلى هدر دمه، تبادر إلى
ذهننا مقالا سبق أن نشرناه على صفحات جريدة الاتحاد الاشتراكي وفي مجموعة
من المنابر الالكترونية في شهر أكتوبر 2010. كما أثارني، وللأسف الشديد، أن
رد نهاري لم يستند على تحليل فكري أو شرعي، ولم يطرح للنقاش العمومي، بقدر
ما كان حكما مباشرا وشخصيا بالقتل لا مبرر له لا ديني ولا قانوني. كنت أود
أن يطرح هذا المشكل، المعقد بطبيعته نظرا لعدم تجانس المعتقدات الرائجة
بالواقع الملموس والمعاش في المجتمع، على الرأي العام للنقاش الفكري
والفلسفي والديني ليستفيد المجتمع منه، ويتخذ المواقف النسبية بشأنه في
حياته الخاصة.
مشروع
المشروع المجتمعي لا يحتمل التغاضي عن الأفكار غير المبررة عقليا
وعليه، واستحضارا لما أثير في الصحافة الوطنية مؤخرا من تنديدات وبيانات
حول هذا الحدث، أود أن أذكر القارئ أن نقاشا مماثلا عرفته البلاد في 2010
بشأن الإصلاح القضائي بالمغرب حيث قدمت عدة اقتراحات جديدة بخصوص القوانين
المرتبطة بالفساد والزنا والخمر. كما واكب هذا النقاش عدة مواقف جريئة عبرت
عليها بعض المؤسسات والمنظمات المدنية. ونحن نستحضر بالإيجاب الإقبال
المجتمعي لتتبع هذه النقاشات المهمة، تبادر إلى ذهننا مرة أخرى الكتابات
التفسيرية للمرحوم محمد عابد الجابري، وقوة مدلولها الشرعي، وحاجة البلاد
لاستحضارها باستمرار في الورش الكبير الرامي إلى تقوية العقلانية في
التشريع المغربي وفي الحياة العامة والخاصة للمجتمع المغربي ليواكب باقي
الإصلاحات والأوراش الكبرى التي ابتدأت منذ 1998 (منذ تعيين حكومة السيد
عبد الرحمان اليوسفي). إنه رصيد فكري ثمين لمفكر كبير يحمل أجوبة جديدة على
مجموعة من الإشكاليات لتصحيح كل ما من شأنه أن يعيق مسلسل الإصلاحات
التحديثية، وعلى رأسها إصلاح القضاء. بالطبع، أهمية هذا الموضوع تتجلى أولا
في قيمة المرحلة السياسية التي يعيشها المغرب والمعنونة بشعار كبير وطموح :
«بناء المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي»، وثانيا، كون هذا المشروع لا
يحتمل التغاضي أو التمادي عن المصالح الفئوية الضيقة الطامحة في استمرار
تكريس الأفكار غير المبررة عقليا كآليات للتدجين والتطويع، والتي لا تتردد
وباستمرار في خلق المعيقات لتمكين النزعة التقليدية من الحفاظ على قوتها
السياسية وعلى مصالح روادها. مصالح ليست اجتماعية فحسب، بل سياسية كذلك
(مرتبطة بالحكم والتحكم) تعاكس التوجه التنويري العام من خلال ابتداع
الخطابات والتمظهرات الدينية واستغلالها كآلية لخدمة تجارة سياسية من نوع
خاص يستفيد منها الفاشلون والمتربصون بمصالح الوطن والمواطنين، وفي نفس
الوقت تعرقل مسار التحديث كأفق لتسهيل اندماج الهوية المغربية الإسلامية في
سياقها الحضاري الإقليمي والجهوي والدولي. وهنا لا يمكن أن تفوتنا العبارة
الجميلة التي تجسد فكر المرحوم الجابري: «لا تأصيل من غير تحديث ولا تحديث
من غير تأصيل». إن قرار تناول هذا الموضوع، بالرغم من حساسيته، راجع
لإيماننا الراسخ، كون المغرب يخطو خطوات ايجابية في اتجاه تحويله إلى بلد
نموذجي في مجال التعايش الإنساني من خلال التقدم في خلق الشروط الموضوعية
لتحقيق مصالحة تاريخية بين الإسلام والحداثة. في نظري، الجدال، الذي بدأ
يشتد بين المحافظين التقليديين (أخرها تصريح نهاري) والمدافعين عن حرية
الأشخاص وتملكهم لذواتهم وأفكارهم، يحتاج إلى مرجعيات فكرية تمكن من توطيد
التصالح بين ما هو كوني (حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها كونيا)، وما هو
شرعي تنويري في الدين الإسلامي كأحد المرتكزات السياسية في الهوية
المغربية. وفي هذا السياق، لن نجد أحسن من مشروع المرحوم الجابري الذي
يحتاج إلى التأمل، ومن تم الاستناد عليه والإسهام في تطويره.
وكمساهمة في هذا الجدال الذي خرج على الأدبيات المعروفة التي يجب أن تميز
النقاش العمومي (الحجة بالحجة، والفكرة بالدليل، والحقيقة نسبية على
الدوام)، نقول منذ البداية أن أبعاد كتابات الجابري والمفكرين التنويريين
في شأن المرأة، والزنا، والفساد، والخمر، تفيد عدم وجود الحد أو استحالة
تطبيقه دنيويا. لذا، ولتنوير القارئ سنتناول هذا الموضوع على شكل عرض
وقراءة لبعض مقالات الجابري في هذا المجال. ولكون الزنا والفساد الجنسي
وشرب الخمر يشكلون موضوعا للنقاش الآني بشأن إصلاح القضاء وتحديث المجتمع،
ارتأينا تقسيم هذه المحاولة المتواضعة إلى محورين نخصص الأول لموضوع شرب
الخمر والثاني للزنا والفساد، ليتأتى لنا في الأخير الإسهام في النقاش
الدائر بشأن دعم تقدمية الإرادات الإصلاحية في المجالات الحيوية التي تهم
المجتمع من خلال استحضار الأحكام الشرعية ومدى تماشيها مع تطورات الحياة
البشرية، وبالتالي، الاجتهاد لتحديث منظومة العقوبات القضائية الوضعية. كما
أن الحسم الشرعي فيها، وما قد يتيحه من تحديث للقوانين، سيقلص من حدة
التأثير السياسي للمرجعيات التقليدية المعرقلة لبناء المشروع المجتمعي
الديمقراطي الحداثي ببلادنا.
قبل الدخول في صلب الموضوع، نود في البداية تذكير القارئ بالقيمة الفكرية
الكبرى والتاريخية للعمل العلمي الأخير للمرحوم الجابري الذي يتعلق بتفسير
النص القرآني باستحضار أسباب النزول. لقد أعاد الفقيد قراءة التراث
الإسلامي تاريخيا بنصوصه الشرعية وأسباب نزولها، وما ترتب عن ذلك من تفاسير
عديدة متناقضة تارة ومكملة تارة أخرى، ليعطي للمسلم منتوجا علميا شرعيا
قيما يخص الزمن الذي نعيش فيه، ويفرض عليه، من باب الأمانة العلمية وطبيعة
الكينونة البشرية، التساؤل المستمر حول تطور الأحداث التاريخية للحضارة
البشرية وما تفرضه من تساؤلات مستمرة حول تطور الأسباب والأحداث، وما
تستوجبه من اجتهادات تأويلية حاضنة
لكل جديد. إن السبيل الوحيد لتجاوز معاناة الشعب المغربي من محاولات
التدجين والتطويع الثقافية لعشرات السنين، يتجلى في تحصين الإرادة السياسية
للسير إلى الأمام في توطيد العقلانية في سلوك المواطن المغربي وتمكينه من
الأدوات الضرورية لتفنيد أسس ديماغوجية رواد الفكر الجامد. ومن هنا، فأسباب
تحريم الخمر، وشروط تطبيق الحد في الزنا والفساد، كنموذجين، وارتباط
إدراجهما في النصوص الدينية الأصلية لأسباب ظرفية معينة، تحتاجا باستمرار
إلى تحليل جديد ومتطور، يقابل باستمرار تطور الممارسة المجتمعية والظواهر
المنبثقة عنها كتراكمات جديدة للتراث الإنساني، ومدى استمرار أسباب نزول
النص القرآني، واستمرار توفر شروط تطبيقه، والغاية من نسخ الآيات ارتباطا
بأسباب نزولها.
المحور الأول: العقوبات الشرعية وشرب الخمر في كتابات الجابري
لقد استحضر الجابري في تحليله الشرعي لظاهرة شرب الخمر كل الآيات المتعلقة
به مرتبة على أساس أسباب النزول وكذا الروايات المرتبطة بها ( بتحريمه).
المرة الأولى: لقد وردت كلمة خمر في القرآن المكي (في جملته قرآن دعوة وليس
قرآن تشريع). وقد ورد ذكر الخمر فيه بالاسم في سورة يوسف، حكاية عن رؤية
في المنام لفتى كان مع يوسف عليه السلام في السجن، رأى فيها نفسه يعصر
«خمرا»، ففسر له يوسف ذلك الحلم بكونه سيسقى سيده «خمرا»، أي سيخرج من
السجن (يوسف 36).
المرة الثانية : في القرآن المكي دائما، وردت فيها الإشارة إليها، ولكن دون
ذكر اسمها، في سياق تعداد نعم الله على الناس في قوله تعالى:» وَمِنْ
ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ [ما] تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا
وَرِزْقًا حَسَنًا، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ «
(النحل 67). والمعنى هنا أن الله أنعم على عباده بثمرات النخيل والعنب
ليأكلوا منهما، ويشربون ما يستخرج منها من سوائل مسكرة بفعل التخمير. وورد
في مقال الجابري، بناء على بعض الروايات، أن شرب الخمر كان مباحا، وأن
الرسول (ص) والصحابة شربوها آنذاك (عندما كان حكمها ما يزال على الإباحة،
إضافة إلى أن الله قد خص نبيه (ص) بوضع خاص في هذا الشأن فبشره بأنه قد غفر
له ما تقدم من ذنبه وما تأخر).
وورد في نفس المقال السالف الذكر أنه ذكرت الخمر في القرآن المدني في عدة
آيات، وتم التطرق لها باستحضار أسباب نزولها والروايات والقصص المرتبطة
بها:
المرة الثالثة: ويتعلق الأمر بالتحدث عن الخمر في الجنة (وهي غير مسكرة) في إطار تعداد نِعم الجنة، بوصفها «لذة للشاربين» (محمد 15).
المرة الرابعة: سبب النزول هذه المرة مرتبط بهجرة الرسول (ص) إلى المدينة
وبسؤال أهلها عن الخمر، وهل هي حلال أم حرام. وقد سألوه من قبل ومن بعد عن
أشياء كثيرة- فنزل قوله تعالى: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ (القمار)، قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ
لِلنَّاسِ، وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا» (البقرة 219)*. وفي
رواية وردت في نفس المقال أنهم قالوا : «يا رسول الله دعنا ننتفع بها كما
قال الله، فسكت عنهم»، بمعنى: دعنا نستفيد من جانب المنفعة فيها، فتركهم
ولكنهم لم يتجنوا جانب الإثم فيها، فنزلت آيات أخرى.
المرة الخامسة: في رواية ذكرها أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم عن علي
بن أبي طالب قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر،
فأخذَتِ الخمرُ منا، وحضرتْ الصلاةُ فقدموني (ليَؤُمَّ بهم) فقرأت : «قل
يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون»، فانزل الله:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ
سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُون.».(النساء 43). فقالوا : يا رسول
الله لا نشربها عند اقتراب وقت الصلاة، فسكت عنهم (العبرة في عدم السكر
هنا هي أن يعرف الناس ما يقولون أثناء الصلاة).
المرة السادسة: تذكر الروايات عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: أن رجلا من
الأنصار صنع طعاما، فدعانا فأتاه ناس، فأكلوا وشربوا حتى انتشوا من الخمر،
فتفاخروا : فقالت الأنصار: الأنصار خيرٌ، وقالت قريش: قريش خير. فأهوى رجل
بلحي جزور (فك الذبيحة) فضرب على أنفي ففزره (شقه)»، قال: « فأتيت النبي
صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فنزلت هذه الآية : « يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ
وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ
بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، فَهَلْ أَنْتُمْ
مُنْتَهُونَ» (المائدة 90-91) . وهناك روايات أخرى عن سبب تحريم الخمر في
الآية السابقة، منها أن عليا بن أبي طالب وجد ذات يوم ناقة له قد أُبْقِرت
وقُطع سنَمُها وأُخِذ من أكبادها. فلما سأل عمَّن فعل بها ذلك قالوا له:
حمزة (عمه). فذهب وأخبر الرسول عليه السلام بالحادث وبوجود حمزة في بيت
شراب يشرب مع رفاق له. فانطلق الرسول عليه السلام حتى جاء البيت الذي فيه
حمزة «فإذا هو ثمل محمرة عيناه، فقال (حمزة): « وهل أنتم إلا عبيد لأبي،
فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثمل فنكص على عقبيه القهقرى».
المرة السابعة: تقول الرواية أن رجلا قال: يا رسول الله، فما منزلة من مات
منا وهو يشربها؟ فأنزل الله تعالـى: «لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا
وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا، ثُمَّ
اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (المائدة 93).
واعتبارا لتفسير الآيات السالفة الذكر والروايات المرتبطة بها، وتأملا في
تطور التراث الثقافي بأحكامه وبدعه وممارساته، وما تمخض عن الشرع الإسلامي
من جدل وإشكاليات ونزاعات مرتبطة بالحلال والحرام، ما نستنتجه من نموذج
الخمر، أن الله عز وجل لم يأمر بالحد أو العقوبة على شارب الخمر في الدنيا.
وهذا إن دل على شيء إنما يدل أن مسألة الخمر مرتبطة بنضج علاقة الإنسان
بربه. وعليه، وطالما أن شربها لا يثير الضرر في المجتمع في زمننا (كالسكر
في السياقة وما يسببه من حوادث تمس صحة وسلامة المواطنين، العنف في الشارع
العام والمس بحرية الآخر وسلامته، العنف التربوي،...) فإن مسؤولية الإنسان
في شربه من عدمه مسؤولية شخصية لا يجب أن يعاقب عليها القانون الوضعي من
باب احترام الشريعة، ولا يجب أن يكون إنسان بالغ الرشد وصيا على آخر في هذا
المجال.
وفي هذا السياق، واعتبارا للمكانة التي يليها الله للعقل والاجتهاد في
مجموعة من الآيات، نطرح، من باب فتح الباب للتأمل والنقاش، مجموعة من
الأسئلة: لولا حدوث الأسباب أعلاه بشكل متتالي، هل كان سيكتب للوحي أن
يستمر في شأن الخمر؟، وهل يمكن افتراض تحويل الإباحة خارج وقت الصلاة قاعدة
في حالة عدم وقوع الأسباب ما بعد حدث اضطراب الإمام في الصلاة، أم كان
حدوث الأسباب إرادة ربانية لاستكمال نزول الآيات؟. وارتباطا بهذه الأسئلة،
هل يمكن افتراض، في حالة تجنب الإثم فيها، تثبيت أحكام شرعية أخرى من قبيل
التخفيف من الخمر وعلى ألا يأتي المسلم أو المسلمة المسجد وهو سكران أو
جنب، وأن الخمر بمثابة الجنابة التي توجب فقط الاغتسال قبل الصلاة وقبل
دخول المساجد (مع استحضار المعنى الاصطلاحي لكلمة «سكارى» في مقال الجابري،
وهي جمع سكران والسكران في القاموس هو من غاب عقله من شدّة السّكر)؟،
وبعبارة أخرى، هل يمكن افتراض جعل الاغتسال والصحوة قبل الصلاة شرطين
لإلغاء الجناح؟. وبارتباط الحرام بتغييب العقل بسبب السكر، فما حكم الشرع
على الذي لا يسكر أو يشرب كميات قليلة منه لا تسبب له غياب العقل ولا تدفعه
لارتكاب الإثم؟.
وكيف ما كانت الأجوبة عن الأسئلة المطروحة أعلاه، يبقى الحد في مسألة الخمر
غير وارد في الدين الإسلامي. وهنا أعتقد من الواجب تصحيح كل الممارسات
المعتادة التي تمس بهذا المبدأ، خصوصا عندما يتم إدراجها كممارسات تهم
الشأن العام (اعتمادها كمبررات لممارسة المضايقات والإبتزازات،...)، والحد
من الخطابات والتصريحات السياسية المثيرة للانفعالات العشوائية والتي تستغل
في الشرعنة السياسية من طرف أقليات على حساب الشعب (التصريح بقرارات غلق
أبواب الحانات، زرع الأحقاد، ذم وشتم والدعوة إلى مقت شارب الخمر والمشتغل
في محلات ترويجها وتجارتها،...). فالحياة في الدنيا امتحان رباني للبشر
مبني على الحرية، ويناهض الوصاية، ويقاس من خلاله درجة اجتهاداته، وقيمة
أعماله بمختلف طبائعها المسخرة لخدمة المجتمع،...إلخ.
المحور الثاني: الزنا والفساد وحكم الشريعة
في هذا المحور سنتطرق لأهم ما جاء في أحد مقالات الجابري بشأن تطبيق
الشريعة في مسألة الزنا والفساد والقذف وهما أمور مرتبطة فيما بينها. وورد
في هذا الشأن ثلاث آيات في حد الزنا، اثنتان منها في سورة النساء. وبصفة
عامة، لقد ورد في هذا المقال ثلاث عقوبات: رجم، وجلد، وتغريب، لكن اختلف
الفقهاء والعلماء في تفسير تدقيق الحالات وضبطها. وقبل الدخول في مناقشة
استمرارية إمكانية توفير شروط تطبيق العقوبات الشرعية السالفة الذكر في عصر
التكنولوجيا والعمارة، سنضع أولا رهن إشارة القارئ فقرات كاملة من مقال
الجابري تحت عنوان : «الزنا والقذف...والحجاب».
يقول الجابري باستحضار الآيتين التاليتن «وَاللَّاتِي يَأْتِينَ
الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً
مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ (امنعوهن من
الخروج) حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ
سَبِيلًا. وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا بالكلام:
(عيٍّروهما ووبخوهما) فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا
إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا» (النساء 15-16):» اضطرب المفسرون
والفقهاء في فهمها لكون الأولى منهما جاءت بصيغة الجمع :»من نِسَائِكُمْ»،
بينما جاءت الثانية بصيغة التثنية : «وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا
مِنْكُمْ». قال بعضهم: الآية الأُولى في النساء عامّة، والآية الثانية في
الرجال خاصة فعقوبة النساء الحبسُ، وعقوبة الرجال الأذَى (بالكلام). وواضح
أن هذا التفسير لا يحل مشكلة ذكر النساء بالجمع والرجل بالتثنية! وقال
آخرون: الأُولى في النساء المحصنات (غير الأبكار)، ودخل معهنّ من أحصِن من
الرجال بالمعنى، والثانية في الرجل والمرأة البِكرين. وواضح أن هذا تأويل
لا سند له من النص. وارتأى بعضهم أن الآية الأولى نزلت في تساحق النساء
والثانية في لواط الرجال. ومع أن «الفاحشة» تعني السحاق واللواط، كما تعنى
الزنا، فإن هذا التأويل يبقى بعيدا عن منطوق النص.
هذا بينما ارتأى آخرون أنه حصل تقديم وتأخير في الآيتين عند جمع القرآن،
وأن الأصل هو تقديم الآية الأولى الخاصة بالرجال على الأولى الخاصة
بالنساء، وحينئذ ستكون عقوبة التوبيخ والإيذاء (بمجرد الكلام) قد نُسِخت
بعقوبة الحبس المؤبد في البيت. ولكن هذا النوع من الإخراج غير مقبول في نظر
الفقهاء وكافة علماء الدين، لأن المبدأ الأساسي الذي يتم التعامل به مع
القرآن هو أن ترتيب الآيات داخل كل سورة ترتيب وقفي، أي أنه أخذ من النبي
(ص) ويجب أن يبقى كما هو. لأنه لو فتح الباب للاجتهاد في تقديم وتأخير
الآيات داخل السور لأصبحنا ليس أمام قرآن واحد، بل إزاء كتب مختلفة المضمون
اختلافا لا يمكن حصره. أما ترتيب السور، كما هو الآن في المصحف، فليس
وقفيا، بل هو موضوع اجتهاد اللجنة المكلفة بجمع القرآن زمن عثمان رضي الله
عنه.
ذلك عن بعض جوانب الاجتهاد، وبالتالي الاختلاف في عقوبة الزنا كما وردت في
الآيتين السابقتين. أما الآية الثالثة والواردة في مستهل سورة النور فنصها:
« الزَّانِيَةُ والزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ
جَلْدَةٍ»، قد اختلف المفسرون في تحديد موقعها من الآية الأولى : هل هذه
الآية ناسخة للأولى أم أنها مكملة لها. قال فريق منهم إن آية الحبس نزلت في
أول الإسلام ثم نسخت بآية الأذى ثم نسخت الآيتان معا بآية الجلد. بينما
ذهب فريق آخر إلى أن الآيات الثلاث محكمات كلها، لأنه لا تعارض بينها،
وبالتالي يمكن -إن يكن لم يجب- الجمع بينها فتكون عقوبة الزنا هي الحبس
والجلد، هذا إلى جانب الرجم والتغريب اللذين استندوا في شأنهما على أحاديث
نبوية. منها حديث ورد فيه أن جماعة من اليهود جاؤوا النبي (ص) ومعهم رجل
وامرأة زنيا وطلبوا منه أن يحكم لهم فيهما، فقال النبي (ص) «ائتوني بأعلم
رجلين منكم» فأتَوهُ بابنَيْ صُورِيا أحد كبار أحبارهم، فنشدهما: «كيف
تجدان أمر هذين في التوراة» ؟ قالا: نجد في التوراة إذا شهد أربعةٌ أنهم
رأَوْا ذكره في فرجها مثلَ المِيل في المُكْحُلة رُجِما ... فدعا (ص)
بالشهود، فجاؤوا فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميلِ في المكحلة؛
فأمر رسول الله (ص) برجمهما».
وهكذا تكون الحدود الإسلامية في الزنا ثلاثة: رجم، وجلد، وتغريب.
فالمتزوجون زواجا شرعيا من الرجال والنساء (المحصنون والمحصنات) فعقوبتهم
الرجم، هذا رأي الأغلبية. غير أن طائفة أخرى وهم أقلية قالوا إن حد كل زان
الجلد، لا غير، واختلفوا في التغريب (النفي) مع الجلد، «فقال بعضهم لا
تغريب أصلاً. وقال آخرون: لا بد من التغريب مع الجلد لكل زان ذكراً كان أو
أنثى، حراً كان أو عبداً، بينما ذهب غيرهم إلى القول: يغرب الرجل ولا تغرب
المرأة، ولا تغريب على العبيد».
وأمام هذا الاختلاف والاضطراب في التفسير، يقول الجابري، يبقى المهم في
مسألة الزنا ليس تحديد الحد حسب الحالات، سواء كان رجما أو جلدا أو تغريبا،
بل المهم هو مناقشة استمرارية توفر شروط تطبيقه. ويقول أن هذه الشروط يصعب
استيفاؤها في جميع العصور. وهذه الفقرة الواردة كاملة في مقال الجابري
السالف الذكر تبين صعوبة ضبط حالة التلبس في نازلة الزنا: «القرآن قد اشترط
في إثبات الزنا شهادة أربعة شهود كما رأينا. ويقول المفسرون إن اشتراط
أربعة في الزنا حكم ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن. وأجمعوا على أن من
شرط هذه الشهادة أن تكون بمعاينة ذكره في فرجها، وبالتعبير الصريح لا
بالكناية، وأن تكون شهادة كل من الأربعة واحدة لا تختلف لا في تحديد الزمان
ولا في تعيين المكان. واختلفوا في حال ما إذا شهد الشهود الأربعة بوجود
الرجل مع المرأة في ثوب واحد؛ فقال بعضهم بالحد، وقال آخرون: يؤدّبان بوجه
الأدب السائدة (تخويف، توبيخ، نصح ...). وهذا رأي الأكثرية».
ويضيف الجابري لتوضيح تحليله: «ولا شك أن من ينظر، من منطلق معهود عصرنا،
إلى شرط الشهادة، بمعاينة ذكر الزاني داخلا في فرج الزانية «مثلَ المِيل في
المُكْحُلة»، سيميل إلى القول إن «هذا غير متيسر». ذلك لأنه يصدر عن طبيعة
العمران القائم الآن: دور محصنة بالأبواب والأقفال، عمارات وطوابق الخ.
غير أن النظر إلى المسألة من منطلق معهود العرب في ذلك الوقت سيخفف كثيرا
من صعوبة المعاينة. لقد كان العرب في ذلك الوقت يأوون إلى بيوت لا أبواب
فيها وإنما نوع من «السترة» بالثياب فإذا هبت الريح أو رفع باليد زالت
السترة. ويذكر المفسرون أن بيوت النبي (ص) والصحابة (رضي الله عنهم) في
المدينة كانت من هذا النوع. أضف إلى ذلك أن قضاء «الحاجة» (حاجة إفراغ
البطن) كانت تتم في الهواء الطلق خارج هذه البيوت، ومن غير المستبعد أن
يلجأ الزاني والزانية إلى قضاء «الحاجة» الخاصة بالفرج، بهذه الطريقة».
واعتبارا لما سبق بشأن الاختلاف في الأحكام الجائزة من باب المكانة التي
يوليها الشرع للاجتهاد، واستحضارا لصعوبة توفير شروط الإدانة الشرعية
السالفة الذكر، نطرح سؤالا أساسيا يحتاج إلى إجابة نسبية تهم عصر العمران
والعمارة والقصور المحصنة: هل من واجب المفكرين والفقهاء التفكير في إيجاد
اجتهادات جديدة بشأن الحد في نازلة الزنا، أم يتحتم على المجتمع الإسلامي
من باب صعوبة إثبات الوقائع، وتجنبا للتعسف واحتمال السقوط في القذف،
اعتبار اللجوء إلى الزنا والفساد من عدمه، كما هو الشأن بالنسبة للخمر،
مسؤولية فردية يتحمل فيها الفرد توابعها يوم القيامة؟
وبما أن الإسلام يشجع الاجتهاد (من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد ولم
يصب فله أجر واحد)، تبقى مجموعة من الأمور الدينية في حاجة إلى اجتهاد
مستمر. وهنا يكتسي السؤال التالي الذي طرح في فسحة رمضان حول المعارك
الضارية حول القرآن على صفحات هذه جريدة الاتحاد الاشتراكي أهمية قصوى (من
إعداد سعيد منتسب): إذا كان نزول بعض الآيات نتيجة لشرط زمانيّ- مكانيّ
معيّن، أفلا يعني ذلك أنّ حكمها مشروط بذلك الزمان وذلك المكان؟، وكيف يمكن
التوفيق بين سبب النزول وتخليد الحكم في بعض الآيات؟. ويبدو في هذا الصدد،
من خلال غالبية آراء الفقهاء، أنّ الأخذ بأسباب النزول هو مدخل لازم لفهم
بعض آيات القرآن. وكما جاء في أحد الحلقات من الفسحة السالفة الذكر،
فالواحدي يقول مثلا: «لا يمكن تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان
نزولها.: ويزيد عليه ابن تيمية بأن«معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية،
فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب»
وبما أنه لا يمكن التكلم عن العقلانية في الإسلام بدون اعتماد أسباب النزول
في التفسير، والتفكير في الارتباطات الممكنة لتطور حياة البشرية عبر
الأزمنة بالنص (التأويل والتكييف العقلاني)، فإنه لا يمكن الجزم بقطعية
التفاسير السابقة من باب اعتبارها محاولات عقلانية نسبية نظرا لتطور
الحضارات البشرية أو لاندثار الأسباب المرتبطة بها في المكان والزمان.
وعليه، فالدعوة إلى تطبيق الشريعة ستبقى مجرد شعار ما لم تكن في الوقت نفسه
دعوة إلى الاجتهاد (الاجتهاد مصدر من مصادر التشريع). ويقول الجابري في
هذا الصدد، وخصوصا في مسألة ترتيب الاجتهاد في آخر المصادر المعروفة
(القرآن، السنة، الإجماع، الاجتهاد)، أن ذلك راجع لكونه منهج يجب أن يطبق
في المصادر الأخرى في فهم القرآن والسنة وإثبات شرعية الإجماع وشروطه الخ.
ويضيف الجابري أن الاجتهاد جهد يبذله المكلف من أجل فهم وتطبيق شرع الله
المنصوص عليه في القرآن والسنة، ويضاف إليهما ما أجمع عليه الصحابة.
أما الشيء المهم الذي ورد في أحد مقالات الجابري هو كون الاجتهاد لا يترك
مجالا للتقليد والوصاية على الأشخاص في المجتمع الإسلامي. ويقول بالعبارة
الواضحة: «إنه من غير المقبول أن ينوب شخص عن شخص في أداء الفرائض ولا في
فهم الشرع ولا في تطبيقه ولا في تحمل المسؤولية فيه، فقد ارتأى بعض العلماء
أن الاجتهاد واجب على كل مسلم، بمعنى أن عليه أن يجتهد هو شخصيا في فهم
الشريعة وأحكامها، حتى يكون على بينة مما يفعل. وهذا يعنى ضرورة ترك
التقليد لأن الاجتهاد يتنافى مع تقليد أي كان. وفي هذا يقول الإمام ابن حزم
الأندلسي : «لا يحل لأحد أن يقلد أحدا، حيا ولا ميتا، وكل أحد له من
الاجتهاد حسب طاقته»، ويضيف: إن «من ادعى تقليد العامي للمفتي فقد ادعى
الباطل وقال قولا لم يأت به نص قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قياس، وما كان
هكذا فهو باطل لأنه قول بلا دليل». وأيضا: «وليعلم كل من قلد صاحبا (من
الصحابة) أو تابعا (من التابعين) أو مالكا أو أبا حنيفة أو الشافعي أو
سفيان أو الأوزاعي أو أحمد (= ابن حنبل ) أو داوود (الأصبهاني ) رضي الله
عنهم، أنهم يتبرؤون منه في الدنيا والآخرة». أما كيف يجتهد العامي حسب
طاقته، فذلك بأن يطلب الدليل الشرعي (آية قرآنية، حديث)، ويطلب ما قيل فيه
من اجتهادات إن أمكن، ثم يتحمل مسؤوليته، ويتصرف حسب ما يهديه إليه ضميره
وحظه من الفهم».
وفي الختام نقول أن الطبيعة الإنسانية، كما شرفها الله على باقي المخلوقات،
طبيعة تنبني على الحرية والعقل. وأن الدين الإسلامي بطبيعته السمحة
والمنفتحة، لا يمكن ترسيخ قيمه إلا بالاجتهاد والعلم. وهنا تتجسم دينيا
مسؤولية المدجن والمغرر بعقول الناس لتحقيق مآرب ذاتية رخيصة. وهنا كذلك
مسؤولية العالم والفقيه والفاعل السياسي في الدولة والمجتمع في توفير شروط
الاجتهاد، وترسيخ قيم المعرفة، وتعميم حب القراءة، ومناهج التحليل والبحث
لتقوية قدرة المواطنين على تحمل مسؤوليتهم بشكل مستقل وبدون تقليد أمام
ربهم . إن احترام الشريعة، وترسيخ الثقافة الإسلامية تتوقف على التربية،
والإرادة السياسية لغزو أغوار المعرفة والاختراعات العلمية والتكنولوجية،
وليس الخطابات المدجنة والمسخرة لتطويع الناس للسيطرة عليهم. نحتاج إلى
مسلم يعترف بالداء ويؤمن بوجود الدواء، وأن محاربة الأمراض الجديدة
والمعافاة منها تحتاج إلى التوكل على الله وليس الاتكال عليه بالبحث في
الطبيعة والمختبرات وليس اللجوء إلى الفقهاء والمشعوذين، وأن راحة النفس
ومحاربة الفقر (كاد الفقر أن يكون كفرا)، تتطلب البحث العلمي في المختبرات
والجامعات، والإخلاص في العمل، وليس المبالغة في الاعتكاف في المساجد على
حساب الفكر والعلم.
وعليه، فكلما اجتهد العالم والمفكر (الجابري كنموذج)، ووجد آذانا صاغية
وواعية في المجتمع، كلما تكسرت القيود المفتعلة على العقول البائسة
والفقيرة، وكلما أصبح الإنسان فاعلا وليس موضوعا أو مقلدا. وهنا لا يمكن
إنكار كون النموذج المغربي يتقدم في الاتجاه الإيجابي، لكن ما يؤسف له، هو
بروز بعض المعيقات المفتعلة وتحولها إلى عراقيل فعلية، ثم إلى مقاومات
حقيقية تحن إلى الماضي. فالرقابة الإسلامية:»أشهد أن لا إله إلا الله وأن
محمدا رسول الله»، لا يمكن أن تكون فاعلة في المجتمع، وتساعد على تقريب
الإنسان من الحقائق المطلقة التي يريدها الله عز وجل، إلا بالعلم،
والتربية، والحوار، والحرية، والمسؤولية.
فمن باب الإيمان بحق الإنسان في الاجتهاد لنيل مرضاة ربه، ومن باب احترام
القدرة العقلانية الربانية التي لا توصف ولا حدود لها، ومن باب اليقين بحب
الله للعلم والعلماء، ومن باب واجب تربية الأجيال على طرح الأسئلة،... تبقى
مسؤولية تأطير المجتمع وتربية أجياله مسؤولية سياسية ومقوماتها تربوية
وليست خطابية وتصريحية تغريرية أو مصلحية. وهنا، أثارت انتباهي عبارات لعبد
الإله حبيبي في مقال تحت عنوان «مدارس الضجر لا تقبل الشرود : عندما يحتجز
الخيال يفسد العقل ويختفي الوجدان، مدرستنا رهان ملتبس» على صفحات جريدة
الاتحاد الاشتراكي ليوم 30 شتنبر 2010 : «الجرأة على استعمال العقل هي
التربية التي تؤسس أخلاقيا لمواطن محصن ضد الخوف والتردد. لا مكان في
الخيار لأية وصاية على عقول الناس، ليس هناك إكليروس أو عقول متصلة
بالسماء، أو كهنوت عالم بعوالم الغموض، أو موهوبين يتوهمون أنهم أقرب الناس
إلى الحق لكي يسمحوا لأنفسهم المعتلة بأن تضع على العقول ضوابط المنع
والحجز حتى يخلوا لهم المجال ليمارسوا التضليل والتعتيم باسم التخويف من
غيب يحسبون، خطأ، أنهم يمتلكون وحدهم مفاتيحه السرية... الجرأة على استعمال
العقل هي حرب مفتوحة ضد الأقلية التي تريد أن تحكم العباد باسم المقدس
طمعا في نيل متاع المدنس. لن يمكنها أن تنجح في مشروعها «ألتأثيمي» عندما
نبادر، وبقناعة بيداغوجية، لكي نصنع بسلطة الخيال المبدع مدرسة الطفل التي
ستعلمه فنون التحليق في العوالم المنفلتة، والأسرار المنزوية في عتمات
العقل المحاصر بحدود شائكة... المدرسة الناجحة هي التي توفر لمريديها فرص
الاختلاف عن الأولين دون لغتهم، أو التبرؤ من انتاجاتهم. بهذا فهي ستسمح
للمتعلم بأن يستشعر ضرورة الابتكار دون خوف من مخالفة السلف...».
الحسين بوخرطة
الاتحاد الاشتراكي
07 يوليوز 2012
التي أحدثها رد الداعية عبد الله نهاري على تصريح المختار لغزيوي رئيس
تحرير جريدة الأحداث المغربية ووصفه ب»الديوت» ودعا إلى هدر دمه، تبادر إلى
ذهننا مقالا سبق أن نشرناه على صفحات جريدة الاتحاد الاشتراكي وفي مجموعة
من المنابر الالكترونية في شهر أكتوبر 2010. كما أثارني، وللأسف الشديد، أن
رد نهاري لم يستند على تحليل فكري أو شرعي، ولم يطرح للنقاش العمومي، بقدر
ما كان حكما مباشرا وشخصيا بالقتل لا مبرر له لا ديني ولا قانوني. كنت أود
أن يطرح هذا المشكل، المعقد بطبيعته نظرا لعدم تجانس المعتقدات الرائجة
بالواقع الملموس والمعاش في المجتمع، على الرأي العام للنقاش الفكري
والفلسفي والديني ليستفيد المجتمع منه، ويتخذ المواقف النسبية بشأنه في
حياته الخاصة.
مشروع
المشروع المجتمعي لا يحتمل التغاضي عن الأفكار غير المبررة عقليا
وعليه، واستحضارا لما أثير في الصحافة الوطنية مؤخرا من تنديدات وبيانات
حول هذا الحدث، أود أن أذكر القارئ أن نقاشا مماثلا عرفته البلاد في 2010
بشأن الإصلاح القضائي بالمغرب حيث قدمت عدة اقتراحات جديدة بخصوص القوانين
المرتبطة بالفساد والزنا والخمر. كما واكب هذا النقاش عدة مواقف جريئة عبرت
عليها بعض المؤسسات والمنظمات المدنية. ونحن نستحضر بالإيجاب الإقبال
المجتمعي لتتبع هذه النقاشات المهمة، تبادر إلى ذهننا مرة أخرى الكتابات
التفسيرية للمرحوم محمد عابد الجابري، وقوة مدلولها الشرعي، وحاجة البلاد
لاستحضارها باستمرار في الورش الكبير الرامي إلى تقوية العقلانية في
التشريع المغربي وفي الحياة العامة والخاصة للمجتمع المغربي ليواكب باقي
الإصلاحات والأوراش الكبرى التي ابتدأت منذ 1998 (منذ تعيين حكومة السيد
عبد الرحمان اليوسفي). إنه رصيد فكري ثمين لمفكر كبير يحمل أجوبة جديدة على
مجموعة من الإشكاليات لتصحيح كل ما من شأنه أن يعيق مسلسل الإصلاحات
التحديثية، وعلى رأسها إصلاح القضاء. بالطبع، أهمية هذا الموضوع تتجلى أولا
في قيمة المرحلة السياسية التي يعيشها المغرب والمعنونة بشعار كبير وطموح :
«بناء المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي»، وثانيا، كون هذا المشروع لا
يحتمل التغاضي أو التمادي عن المصالح الفئوية الضيقة الطامحة في استمرار
تكريس الأفكار غير المبررة عقليا كآليات للتدجين والتطويع، والتي لا تتردد
وباستمرار في خلق المعيقات لتمكين النزعة التقليدية من الحفاظ على قوتها
السياسية وعلى مصالح روادها. مصالح ليست اجتماعية فحسب، بل سياسية كذلك
(مرتبطة بالحكم والتحكم) تعاكس التوجه التنويري العام من خلال ابتداع
الخطابات والتمظهرات الدينية واستغلالها كآلية لخدمة تجارة سياسية من نوع
خاص يستفيد منها الفاشلون والمتربصون بمصالح الوطن والمواطنين، وفي نفس
الوقت تعرقل مسار التحديث كأفق لتسهيل اندماج الهوية المغربية الإسلامية في
سياقها الحضاري الإقليمي والجهوي والدولي. وهنا لا يمكن أن تفوتنا العبارة
الجميلة التي تجسد فكر المرحوم الجابري: «لا تأصيل من غير تحديث ولا تحديث
من غير تأصيل». إن قرار تناول هذا الموضوع، بالرغم من حساسيته، راجع
لإيماننا الراسخ، كون المغرب يخطو خطوات ايجابية في اتجاه تحويله إلى بلد
نموذجي في مجال التعايش الإنساني من خلال التقدم في خلق الشروط الموضوعية
لتحقيق مصالحة تاريخية بين الإسلام والحداثة. في نظري، الجدال، الذي بدأ
يشتد بين المحافظين التقليديين (أخرها تصريح نهاري) والمدافعين عن حرية
الأشخاص وتملكهم لذواتهم وأفكارهم، يحتاج إلى مرجعيات فكرية تمكن من توطيد
التصالح بين ما هو كوني (حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها كونيا)، وما هو
شرعي تنويري في الدين الإسلامي كأحد المرتكزات السياسية في الهوية
المغربية. وفي هذا السياق، لن نجد أحسن من مشروع المرحوم الجابري الذي
يحتاج إلى التأمل، ومن تم الاستناد عليه والإسهام في تطويره.
وكمساهمة في هذا الجدال الذي خرج على الأدبيات المعروفة التي يجب أن تميز
النقاش العمومي (الحجة بالحجة، والفكرة بالدليل، والحقيقة نسبية على
الدوام)، نقول منذ البداية أن أبعاد كتابات الجابري والمفكرين التنويريين
في شأن المرأة، والزنا، والفساد، والخمر، تفيد عدم وجود الحد أو استحالة
تطبيقه دنيويا. لذا، ولتنوير القارئ سنتناول هذا الموضوع على شكل عرض
وقراءة لبعض مقالات الجابري في هذا المجال. ولكون الزنا والفساد الجنسي
وشرب الخمر يشكلون موضوعا للنقاش الآني بشأن إصلاح القضاء وتحديث المجتمع،
ارتأينا تقسيم هذه المحاولة المتواضعة إلى محورين نخصص الأول لموضوع شرب
الخمر والثاني للزنا والفساد، ليتأتى لنا في الأخير الإسهام في النقاش
الدائر بشأن دعم تقدمية الإرادات الإصلاحية في المجالات الحيوية التي تهم
المجتمع من خلال استحضار الأحكام الشرعية ومدى تماشيها مع تطورات الحياة
البشرية، وبالتالي، الاجتهاد لتحديث منظومة العقوبات القضائية الوضعية. كما
أن الحسم الشرعي فيها، وما قد يتيحه من تحديث للقوانين، سيقلص من حدة
التأثير السياسي للمرجعيات التقليدية المعرقلة لبناء المشروع المجتمعي
الديمقراطي الحداثي ببلادنا.
قبل الدخول في صلب الموضوع، نود في البداية تذكير القارئ بالقيمة الفكرية
الكبرى والتاريخية للعمل العلمي الأخير للمرحوم الجابري الذي يتعلق بتفسير
النص القرآني باستحضار أسباب النزول. لقد أعاد الفقيد قراءة التراث
الإسلامي تاريخيا بنصوصه الشرعية وأسباب نزولها، وما ترتب عن ذلك من تفاسير
عديدة متناقضة تارة ومكملة تارة أخرى، ليعطي للمسلم منتوجا علميا شرعيا
قيما يخص الزمن الذي نعيش فيه، ويفرض عليه، من باب الأمانة العلمية وطبيعة
الكينونة البشرية، التساؤل المستمر حول تطور الأحداث التاريخية للحضارة
البشرية وما تفرضه من تساؤلات مستمرة حول تطور الأسباب والأحداث، وما
تستوجبه من اجتهادات تأويلية حاضنة
لكل جديد. إن السبيل الوحيد لتجاوز معاناة الشعب المغربي من محاولات
التدجين والتطويع الثقافية لعشرات السنين، يتجلى في تحصين الإرادة السياسية
للسير إلى الأمام في توطيد العقلانية في سلوك المواطن المغربي وتمكينه من
الأدوات الضرورية لتفنيد أسس ديماغوجية رواد الفكر الجامد. ومن هنا، فأسباب
تحريم الخمر، وشروط تطبيق الحد في الزنا والفساد، كنموذجين، وارتباط
إدراجهما في النصوص الدينية الأصلية لأسباب ظرفية معينة، تحتاجا باستمرار
إلى تحليل جديد ومتطور، يقابل باستمرار تطور الممارسة المجتمعية والظواهر
المنبثقة عنها كتراكمات جديدة للتراث الإنساني، ومدى استمرار أسباب نزول
النص القرآني، واستمرار توفر شروط تطبيقه، والغاية من نسخ الآيات ارتباطا
بأسباب نزولها.
المحور الأول: العقوبات الشرعية وشرب الخمر في كتابات الجابري
لقد استحضر الجابري في تحليله الشرعي لظاهرة شرب الخمر كل الآيات المتعلقة
به مرتبة على أساس أسباب النزول وكذا الروايات المرتبطة بها ( بتحريمه).
المرة الأولى: لقد وردت كلمة خمر في القرآن المكي (في جملته قرآن دعوة وليس
قرآن تشريع). وقد ورد ذكر الخمر فيه بالاسم في سورة يوسف، حكاية عن رؤية
في المنام لفتى كان مع يوسف عليه السلام في السجن، رأى فيها نفسه يعصر
«خمرا»، ففسر له يوسف ذلك الحلم بكونه سيسقى سيده «خمرا»، أي سيخرج من
السجن (يوسف 36).
المرة الثانية : في القرآن المكي دائما، وردت فيها الإشارة إليها، ولكن دون
ذكر اسمها، في سياق تعداد نعم الله على الناس في قوله تعالى:» وَمِنْ
ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ [ما] تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا
وَرِزْقًا حَسَنًا، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ «
(النحل 67). والمعنى هنا أن الله أنعم على عباده بثمرات النخيل والعنب
ليأكلوا منهما، ويشربون ما يستخرج منها من سوائل مسكرة بفعل التخمير. وورد
في مقال الجابري، بناء على بعض الروايات، أن شرب الخمر كان مباحا، وأن
الرسول (ص) والصحابة شربوها آنذاك (عندما كان حكمها ما يزال على الإباحة،
إضافة إلى أن الله قد خص نبيه (ص) بوضع خاص في هذا الشأن فبشره بأنه قد غفر
له ما تقدم من ذنبه وما تأخر).
وورد في نفس المقال السالف الذكر أنه ذكرت الخمر في القرآن المدني في عدة
آيات، وتم التطرق لها باستحضار أسباب نزولها والروايات والقصص المرتبطة
بها:
المرة الثالثة: ويتعلق الأمر بالتحدث عن الخمر في الجنة (وهي غير مسكرة) في إطار تعداد نِعم الجنة، بوصفها «لذة للشاربين» (محمد 15).
المرة الرابعة: سبب النزول هذه المرة مرتبط بهجرة الرسول (ص) إلى المدينة
وبسؤال أهلها عن الخمر، وهل هي حلال أم حرام. وقد سألوه من قبل ومن بعد عن
أشياء كثيرة- فنزل قوله تعالى: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ (القمار)، قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ
لِلنَّاسِ، وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا» (البقرة 219)*. وفي
رواية وردت في نفس المقال أنهم قالوا : «يا رسول الله دعنا ننتفع بها كما
قال الله، فسكت عنهم»، بمعنى: دعنا نستفيد من جانب المنفعة فيها، فتركهم
ولكنهم لم يتجنوا جانب الإثم فيها، فنزلت آيات أخرى.
المرة الخامسة: في رواية ذكرها أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم عن علي
بن أبي طالب قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر،
فأخذَتِ الخمرُ منا، وحضرتْ الصلاةُ فقدموني (ليَؤُمَّ بهم) فقرأت : «قل
يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون»، فانزل الله:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ
سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُون.».(النساء 43). فقالوا : يا رسول
الله لا نشربها عند اقتراب وقت الصلاة، فسكت عنهم (العبرة في عدم السكر
هنا هي أن يعرف الناس ما يقولون أثناء الصلاة).
المرة السادسة: تذكر الروايات عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: أن رجلا من
الأنصار صنع طعاما، فدعانا فأتاه ناس، فأكلوا وشربوا حتى انتشوا من الخمر،
فتفاخروا : فقالت الأنصار: الأنصار خيرٌ، وقالت قريش: قريش خير. فأهوى رجل
بلحي جزور (فك الذبيحة) فضرب على أنفي ففزره (شقه)»، قال: « فأتيت النبي
صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فنزلت هذه الآية : « يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ
وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ
بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، فَهَلْ أَنْتُمْ
مُنْتَهُونَ» (المائدة 90-91) . وهناك روايات أخرى عن سبب تحريم الخمر في
الآية السابقة، منها أن عليا بن أبي طالب وجد ذات يوم ناقة له قد أُبْقِرت
وقُطع سنَمُها وأُخِذ من أكبادها. فلما سأل عمَّن فعل بها ذلك قالوا له:
حمزة (عمه). فذهب وأخبر الرسول عليه السلام بالحادث وبوجود حمزة في بيت
شراب يشرب مع رفاق له. فانطلق الرسول عليه السلام حتى جاء البيت الذي فيه
حمزة «فإذا هو ثمل محمرة عيناه، فقال (حمزة): « وهل أنتم إلا عبيد لأبي،
فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثمل فنكص على عقبيه القهقرى».
المرة السابعة: تقول الرواية أن رجلا قال: يا رسول الله، فما منزلة من مات
منا وهو يشربها؟ فأنزل الله تعالـى: «لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا
وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا، ثُمَّ
اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (المائدة 93).
واعتبارا لتفسير الآيات السالفة الذكر والروايات المرتبطة بها، وتأملا في
تطور التراث الثقافي بأحكامه وبدعه وممارساته، وما تمخض عن الشرع الإسلامي
من جدل وإشكاليات ونزاعات مرتبطة بالحلال والحرام، ما نستنتجه من نموذج
الخمر، أن الله عز وجل لم يأمر بالحد أو العقوبة على شارب الخمر في الدنيا.
وهذا إن دل على شيء إنما يدل أن مسألة الخمر مرتبطة بنضج علاقة الإنسان
بربه. وعليه، وطالما أن شربها لا يثير الضرر في المجتمع في زمننا (كالسكر
في السياقة وما يسببه من حوادث تمس صحة وسلامة المواطنين، العنف في الشارع
العام والمس بحرية الآخر وسلامته، العنف التربوي،...) فإن مسؤولية الإنسان
في شربه من عدمه مسؤولية شخصية لا يجب أن يعاقب عليها القانون الوضعي من
باب احترام الشريعة، ولا يجب أن يكون إنسان بالغ الرشد وصيا على آخر في هذا
المجال.
وفي هذا السياق، واعتبارا للمكانة التي يليها الله للعقل والاجتهاد في
مجموعة من الآيات، نطرح، من باب فتح الباب للتأمل والنقاش، مجموعة من
الأسئلة: لولا حدوث الأسباب أعلاه بشكل متتالي، هل كان سيكتب للوحي أن
يستمر في شأن الخمر؟، وهل يمكن افتراض تحويل الإباحة خارج وقت الصلاة قاعدة
في حالة عدم وقوع الأسباب ما بعد حدث اضطراب الإمام في الصلاة، أم كان
حدوث الأسباب إرادة ربانية لاستكمال نزول الآيات؟. وارتباطا بهذه الأسئلة،
هل يمكن افتراض، في حالة تجنب الإثم فيها، تثبيت أحكام شرعية أخرى من قبيل
التخفيف من الخمر وعلى ألا يأتي المسلم أو المسلمة المسجد وهو سكران أو
جنب، وأن الخمر بمثابة الجنابة التي توجب فقط الاغتسال قبل الصلاة وقبل
دخول المساجد (مع استحضار المعنى الاصطلاحي لكلمة «سكارى» في مقال الجابري،
وهي جمع سكران والسكران في القاموس هو من غاب عقله من شدّة السّكر)؟،
وبعبارة أخرى، هل يمكن افتراض جعل الاغتسال والصحوة قبل الصلاة شرطين
لإلغاء الجناح؟. وبارتباط الحرام بتغييب العقل بسبب السكر، فما حكم الشرع
على الذي لا يسكر أو يشرب كميات قليلة منه لا تسبب له غياب العقل ولا تدفعه
لارتكاب الإثم؟.
وكيف ما كانت الأجوبة عن الأسئلة المطروحة أعلاه، يبقى الحد في مسألة الخمر
غير وارد في الدين الإسلامي. وهنا أعتقد من الواجب تصحيح كل الممارسات
المعتادة التي تمس بهذا المبدأ، خصوصا عندما يتم إدراجها كممارسات تهم
الشأن العام (اعتمادها كمبررات لممارسة المضايقات والإبتزازات،...)، والحد
من الخطابات والتصريحات السياسية المثيرة للانفعالات العشوائية والتي تستغل
في الشرعنة السياسية من طرف أقليات على حساب الشعب (التصريح بقرارات غلق
أبواب الحانات، زرع الأحقاد، ذم وشتم والدعوة إلى مقت شارب الخمر والمشتغل
في محلات ترويجها وتجارتها،...). فالحياة في الدنيا امتحان رباني للبشر
مبني على الحرية، ويناهض الوصاية، ويقاس من خلاله درجة اجتهاداته، وقيمة
أعماله بمختلف طبائعها المسخرة لخدمة المجتمع،...إلخ.
المحور الثاني: الزنا والفساد وحكم الشريعة
في هذا المحور سنتطرق لأهم ما جاء في أحد مقالات الجابري بشأن تطبيق
الشريعة في مسألة الزنا والفساد والقذف وهما أمور مرتبطة فيما بينها. وورد
في هذا الشأن ثلاث آيات في حد الزنا، اثنتان منها في سورة النساء. وبصفة
عامة، لقد ورد في هذا المقال ثلاث عقوبات: رجم، وجلد، وتغريب، لكن اختلف
الفقهاء والعلماء في تفسير تدقيق الحالات وضبطها. وقبل الدخول في مناقشة
استمرارية إمكانية توفير شروط تطبيق العقوبات الشرعية السالفة الذكر في عصر
التكنولوجيا والعمارة، سنضع أولا رهن إشارة القارئ فقرات كاملة من مقال
الجابري تحت عنوان : «الزنا والقذف...والحجاب».
يقول الجابري باستحضار الآيتين التاليتن «وَاللَّاتِي يَأْتِينَ
الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً
مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ (امنعوهن من
الخروج) حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ
سَبِيلًا. وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا بالكلام:
(عيٍّروهما ووبخوهما) فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا
إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا» (النساء 15-16):» اضطرب المفسرون
والفقهاء في فهمها لكون الأولى منهما جاءت بصيغة الجمع :»من نِسَائِكُمْ»،
بينما جاءت الثانية بصيغة التثنية : «وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا
مِنْكُمْ». قال بعضهم: الآية الأُولى في النساء عامّة، والآية الثانية في
الرجال خاصة فعقوبة النساء الحبسُ، وعقوبة الرجال الأذَى (بالكلام). وواضح
أن هذا التفسير لا يحل مشكلة ذكر النساء بالجمع والرجل بالتثنية! وقال
آخرون: الأُولى في النساء المحصنات (غير الأبكار)، ودخل معهنّ من أحصِن من
الرجال بالمعنى، والثانية في الرجل والمرأة البِكرين. وواضح أن هذا تأويل
لا سند له من النص. وارتأى بعضهم أن الآية الأولى نزلت في تساحق النساء
والثانية في لواط الرجال. ومع أن «الفاحشة» تعني السحاق واللواط، كما تعنى
الزنا، فإن هذا التأويل يبقى بعيدا عن منطوق النص.
هذا بينما ارتأى آخرون أنه حصل تقديم وتأخير في الآيتين عند جمع القرآن،
وأن الأصل هو تقديم الآية الأولى الخاصة بالرجال على الأولى الخاصة
بالنساء، وحينئذ ستكون عقوبة التوبيخ والإيذاء (بمجرد الكلام) قد نُسِخت
بعقوبة الحبس المؤبد في البيت. ولكن هذا النوع من الإخراج غير مقبول في نظر
الفقهاء وكافة علماء الدين، لأن المبدأ الأساسي الذي يتم التعامل به مع
القرآن هو أن ترتيب الآيات داخل كل سورة ترتيب وقفي، أي أنه أخذ من النبي
(ص) ويجب أن يبقى كما هو. لأنه لو فتح الباب للاجتهاد في تقديم وتأخير
الآيات داخل السور لأصبحنا ليس أمام قرآن واحد، بل إزاء كتب مختلفة المضمون
اختلافا لا يمكن حصره. أما ترتيب السور، كما هو الآن في المصحف، فليس
وقفيا، بل هو موضوع اجتهاد اللجنة المكلفة بجمع القرآن زمن عثمان رضي الله
عنه.
ذلك عن بعض جوانب الاجتهاد، وبالتالي الاختلاف في عقوبة الزنا كما وردت في
الآيتين السابقتين. أما الآية الثالثة والواردة في مستهل سورة النور فنصها:
« الزَّانِيَةُ والزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ
جَلْدَةٍ»، قد اختلف المفسرون في تحديد موقعها من الآية الأولى : هل هذه
الآية ناسخة للأولى أم أنها مكملة لها. قال فريق منهم إن آية الحبس نزلت في
أول الإسلام ثم نسخت بآية الأذى ثم نسخت الآيتان معا بآية الجلد. بينما
ذهب فريق آخر إلى أن الآيات الثلاث محكمات كلها، لأنه لا تعارض بينها،
وبالتالي يمكن -إن يكن لم يجب- الجمع بينها فتكون عقوبة الزنا هي الحبس
والجلد، هذا إلى جانب الرجم والتغريب اللذين استندوا في شأنهما على أحاديث
نبوية. منها حديث ورد فيه أن جماعة من اليهود جاؤوا النبي (ص) ومعهم رجل
وامرأة زنيا وطلبوا منه أن يحكم لهم فيهما، فقال النبي (ص) «ائتوني بأعلم
رجلين منكم» فأتَوهُ بابنَيْ صُورِيا أحد كبار أحبارهم، فنشدهما: «كيف
تجدان أمر هذين في التوراة» ؟ قالا: نجد في التوراة إذا شهد أربعةٌ أنهم
رأَوْا ذكره في فرجها مثلَ المِيل في المُكْحُلة رُجِما ... فدعا (ص)
بالشهود، فجاؤوا فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميلِ في المكحلة؛
فأمر رسول الله (ص) برجمهما».
وهكذا تكون الحدود الإسلامية في الزنا ثلاثة: رجم، وجلد، وتغريب.
فالمتزوجون زواجا شرعيا من الرجال والنساء (المحصنون والمحصنات) فعقوبتهم
الرجم، هذا رأي الأغلبية. غير أن طائفة أخرى وهم أقلية قالوا إن حد كل زان
الجلد، لا غير، واختلفوا في التغريب (النفي) مع الجلد، «فقال بعضهم لا
تغريب أصلاً. وقال آخرون: لا بد من التغريب مع الجلد لكل زان ذكراً كان أو
أنثى، حراً كان أو عبداً، بينما ذهب غيرهم إلى القول: يغرب الرجل ولا تغرب
المرأة، ولا تغريب على العبيد».
وأمام هذا الاختلاف والاضطراب في التفسير، يقول الجابري، يبقى المهم في
مسألة الزنا ليس تحديد الحد حسب الحالات، سواء كان رجما أو جلدا أو تغريبا،
بل المهم هو مناقشة استمرارية توفر شروط تطبيقه. ويقول أن هذه الشروط يصعب
استيفاؤها في جميع العصور. وهذه الفقرة الواردة كاملة في مقال الجابري
السالف الذكر تبين صعوبة ضبط حالة التلبس في نازلة الزنا: «القرآن قد اشترط
في إثبات الزنا شهادة أربعة شهود كما رأينا. ويقول المفسرون إن اشتراط
أربعة في الزنا حكم ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن. وأجمعوا على أن من
شرط هذه الشهادة أن تكون بمعاينة ذكره في فرجها، وبالتعبير الصريح لا
بالكناية، وأن تكون شهادة كل من الأربعة واحدة لا تختلف لا في تحديد الزمان
ولا في تعيين المكان. واختلفوا في حال ما إذا شهد الشهود الأربعة بوجود
الرجل مع المرأة في ثوب واحد؛ فقال بعضهم بالحد، وقال آخرون: يؤدّبان بوجه
الأدب السائدة (تخويف، توبيخ، نصح ...). وهذا رأي الأكثرية».
ويضيف الجابري لتوضيح تحليله: «ولا شك أن من ينظر، من منطلق معهود عصرنا،
إلى شرط الشهادة، بمعاينة ذكر الزاني داخلا في فرج الزانية «مثلَ المِيل في
المُكْحُلة»، سيميل إلى القول إن «هذا غير متيسر». ذلك لأنه يصدر عن طبيعة
العمران القائم الآن: دور محصنة بالأبواب والأقفال، عمارات وطوابق الخ.
غير أن النظر إلى المسألة من منطلق معهود العرب في ذلك الوقت سيخفف كثيرا
من صعوبة المعاينة. لقد كان العرب في ذلك الوقت يأوون إلى بيوت لا أبواب
فيها وإنما نوع من «السترة» بالثياب فإذا هبت الريح أو رفع باليد زالت
السترة. ويذكر المفسرون أن بيوت النبي (ص) والصحابة (رضي الله عنهم) في
المدينة كانت من هذا النوع. أضف إلى ذلك أن قضاء «الحاجة» (حاجة إفراغ
البطن) كانت تتم في الهواء الطلق خارج هذه البيوت، ومن غير المستبعد أن
يلجأ الزاني والزانية إلى قضاء «الحاجة» الخاصة بالفرج، بهذه الطريقة».
واعتبارا لما سبق بشأن الاختلاف في الأحكام الجائزة من باب المكانة التي
يوليها الشرع للاجتهاد، واستحضارا لصعوبة توفير شروط الإدانة الشرعية
السالفة الذكر، نطرح سؤالا أساسيا يحتاج إلى إجابة نسبية تهم عصر العمران
والعمارة والقصور المحصنة: هل من واجب المفكرين والفقهاء التفكير في إيجاد
اجتهادات جديدة بشأن الحد في نازلة الزنا، أم يتحتم على المجتمع الإسلامي
من باب صعوبة إثبات الوقائع، وتجنبا للتعسف واحتمال السقوط في القذف،
اعتبار اللجوء إلى الزنا والفساد من عدمه، كما هو الشأن بالنسبة للخمر،
مسؤولية فردية يتحمل فيها الفرد توابعها يوم القيامة؟
وبما أن الإسلام يشجع الاجتهاد (من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد ولم
يصب فله أجر واحد)، تبقى مجموعة من الأمور الدينية في حاجة إلى اجتهاد
مستمر. وهنا يكتسي السؤال التالي الذي طرح في فسحة رمضان حول المعارك
الضارية حول القرآن على صفحات هذه جريدة الاتحاد الاشتراكي أهمية قصوى (من
إعداد سعيد منتسب): إذا كان نزول بعض الآيات نتيجة لشرط زمانيّ- مكانيّ
معيّن، أفلا يعني ذلك أنّ حكمها مشروط بذلك الزمان وذلك المكان؟، وكيف يمكن
التوفيق بين سبب النزول وتخليد الحكم في بعض الآيات؟. ويبدو في هذا الصدد،
من خلال غالبية آراء الفقهاء، أنّ الأخذ بأسباب النزول هو مدخل لازم لفهم
بعض آيات القرآن. وكما جاء في أحد الحلقات من الفسحة السالفة الذكر،
فالواحدي يقول مثلا: «لا يمكن تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان
نزولها.: ويزيد عليه ابن تيمية بأن«معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية،
فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب»
وبما أنه لا يمكن التكلم عن العقلانية في الإسلام بدون اعتماد أسباب النزول
في التفسير، والتفكير في الارتباطات الممكنة لتطور حياة البشرية عبر
الأزمنة بالنص (التأويل والتكييف العقلاني)، فإنه لا يمكن الجزم بقطعية
التفاسير السابقة من باب اعتبارها محاولات عقلانية نسبية نظرا لتطور
الحضارات البشرية أو لاندثار الأسباب المرتبطة بها في المكان والزمان.
وعليه، فالدعوة إلى تطبيق الشريعة ستبقى مجرد شعار ما لم تكن في الوقت نفسه
دعوة إلى الاجتهاد (الاجتهاد مصدر من مصادر التشريع). ويقول الجابري في
هذا الصدد، وخصوصا في مسألة ترتيب الاجتهاد في آخر المصادر المعروفة
(القرآن، السنة، الإجماع، الاجتهاد)، أن ذلك راجع لكونه منهج يجب أن يطبق
في المصادر الأخرى في فهم القرآن والسنة وإثبات شرعية الإجماع وشروطه الخ.
ويضيف الجابري أن الاجتهاد جهد يبذله المكلف من أجل فهم وتطبيق شرع الله
المنصوص عليه في القرآن والسنة، ويضاف إليهما ما أجمع عليه الصحابة.
أما الشيء المهم الذي ورد في أحد مقالات الجابري هو كون الاجتهاد لا يترك
مجالا للتقليد والوصاية على الأشخاص في المجتمع الإسلامي. ويقول بالعبارة
الواضحة: «إنه من غير المقبول أن ينوب شخص عن شخص في أداء الفرائض ولا في
فهم الشرع ولا في تطبيقه ولا في تحمل المسؤولية فيه، فقد ارتأى بعض العلماء
أن الاجتهاد واجب على كل مسلم، بمعنى أن عليه أن يجتهد هو شخصيا في فهم
الشريعة وأحكامها، حتى يكون على بينة مما يفعل. وهذا يعنى ضرورة ترك
التقليد لأن الاجتهاد يتنافى مع تقليد أي كان. وفي هذا يقول الإمام ابن حزم
الأندلسي : «لا يحل لأحد أن يقلد أحدا، حيا ولا ميتا، وكل أحد له من
الاجتهاد حسب طاقته»، ويضيف: إن «من ادعى تقليد العامي للمفتي فقد ادعى
الباطل وقال قولا لم يأت به نص قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قياس، وما كان
هكذا فهو باطل لأنه قول بلا دليل». وأيضا: «وليعلم كل من قلد صاحبا (من
الصحابة) أو تابعا (من التابعين) أو مالكا أو أبا حنيفة أو الشافعي أو
سفيان أو الأوزاعي أو أحمد (= ابن حنبل ) أو داوود (الأصبهاني ) رضي الله
عنهم، أنهم يتبرؤون منه في الدنيا والآخرة». أما كيف يجتهد العامي حسب
طاقته، فذلك بأن يطلب الدليل الشرعي (آية قرآنية، حديث)، ويطلب ما قيل فيه
من اجتهادات إن أمكن، ثم يتحمل مسؤوليته، ويتصرف حسب ما يهديه إليه ضميره
وحظه من الفهم».
وفي الختام نقول أن الطبيعة الإنسانية، كما شرفها الله على باقي المخلوقات،
طبيعة تنبني على الحرية والعقل. وأن الدين الإسلامي بطبيعته السمحة
والمنفتحة، لا يمكن ترسيخ قيمه إلا بالاجتهاد والعلم. وهنا تتجسم دينيا
مسؤولية المدجن والمغرر بعقول الناس لتحقيق مآرب ذاتية رخيصة. وهنا كذلك
مسؤولية العالم والفقيه والفاعل السياسي في الدولة والمجتمع في توفير شروط
الاجتهاد، وترسيخ قيم المعرفة، وتعميم حب القراءة، ومناهج التحليل والبحث
لتقوية قدرة المواطنين على تحمل مسؤوليتهم بشكل مستقل وبدون تقليد أمام
ربهم . إن احترام الشريعة، وترسيخ الثقافة الإسلامية تتوقف على التربية،
والإرادة السياسية لغزو أغوار المعرفة والاختراعات العلمية والتكنولوجية،
وليس الخطابات المدجنة والمسخرة لتطويع الناس للسيطرة عليهم. نحتاج إلى
مسلم يعترف بالداء ويؤمن بوجود الدواء، وأن محاربة الأمراض الجديدة
والمعافاة منها تحتاج إلى التوكل على الله وليس الاتكال عليه بالبحث في
الطبيعة والمختبرات وليس اللجوء إلى الفقهاء والمشعوذين، وأن راحة النفس
ومحاربة الفقر (كاد الفقر أن يكون كفرا)، تتطلب البحث العلمي في المختبرات
والجامعات، والإخلاص في العمل، وليس المبالغة في الاعتكاف في المساجد على
حساب الفكر والعلم.
وعليه، فكلما اجتهد العالم والمفكر (الجابري كنموذج)، ووجد آذانا صاغية
وواعية في المجتمع، كلما تكسرت القيود المفتعلة على العقول البائسة
والفقيرة، وكلما أصبح الإنسان فاعلا وليس موضوعا أو مقلدا. وهنا لا يمكن
إنكار كون النموذج المغربي يتقدم في الاتجاه الإيجابي، لكن ما يؤسف له، هو
بروز بعض المعيقات المفتعلة وتحولها إلى عراقيل فعلية، ثم إلى مقاومات
حقيقية تحن إلى الماضي. فالرقابة الإسلامية:»أشهد أن لا إله إلا الله وأن
محمدا رسول الله»، لا يمكن أن تكون فاعلة في المجتمع، وتساعد على تقريب
الإنسان من الحقائق المطلقة التي يريدها الله عز وجل، إلا بالعلم،
والتربية، والحوار، والحرية، والمسؤولية.
فمن باب الإيمان بحق الإنسان في الاجتهاد لنيل مرضاة ربه، ومن باب احترام
القدرة العقلانية الربانية التي لا توصف ولا حدود لها، ومن باب اليقين بحب
الله للعلم والعلماء، ومن باب واجب تربية الأجيال على طرح الأسئلة،... تبقى
مسؤولية تأطير المجتمع وتربية أجياله مسؤولية سياسية ومقوماتها تربوية
وليست خطابية وتصريحية تغريرية أو مصلحية. وهنا، أثارت انتباهي عبارات لعبد
الإله حبيبي في مقال تحت عنوان «مدارس الضجر لا تقبل الشرود : عندما يحتجز
الخيال يفسد العقل ويختفي الوجدان، مدرستنا رهان ملتبس» على صفحات جريدة
الاتحاد الاشتراكي ليوم 30 شتنبر 2010 : «الجرأة على استعمال العقل هي
التربية التي تؤسس أخلاقيا لمواطن محصن ضد الخوف والتردد. لا مكان في
الخيار لأية وصاية على عقول الناس، ليس هناك إكليروس أو عقول متصلة
بالسماء، أو كهنوت عالم بعوالم الغموض، أو موهوبين يتوهمون أنهم أقرب الناس
إلى الحق لكي يسمحوا لأنفسهم المعتلة بأن تضع على العقول ضوابط المنع
والحجز حتى يخلوا لهم المجال ليمارسوا التضليل والتعتيم باسم التخويف من
غيب يحسبون، خطأ، أنهم يمتلكون وحدهم مفاتيحه السرية... الجرأة على استعمال
العقل هي حرب مفتوحة ضد الأقلية التي تريد أن تحكم العباد باسم المقدس
طمعا في نيل متاع المدنس. لن يمكنها أن تنجح في مشروعها «ألتأثيمي» عندما
نبادر، وبقناعة بيداغوجية، لكي نصنع بسلطة الخيال المبدع مدرسة الطفل التي
ستعلمه فنون التحليق في العوالم المنفلتة، والأسرار المنزوية في عتمات
العقل المحاصر بحدود شائكة... المدرسة الناجحة هي التي توفر لمريديها فرص
الاختلاف عن الأولين دون لغتهم، أو التبرؤ من انتاجاتهم. بهذا فهي ستسمح
للمتعلم بأن يستشعر ضرورة الابتكار دون خوف من مخالفة السلف...».
الحسين بوخرطة
الاتحاد الاشتراكي
07 يوليوز 2012
عبدالله- عدد الرسائل : 1759
العمر : 54
تاريخ التسجيل : 26/06/2008
مواضيع مماثلة
» في الحاجة إلى الاجتهاد لتحديث التشريع القضائي بالمغرب: الفساد والزنا وشرب الخمر كنماذج
» بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان هل مجتمع حقوق الإنسان ممكن؟ / محمد وقيدي
» الزينة واللباس.. ستر للإنسان ونعمة من الرحمن
» الدين ليس قفصا، الدين باب السماء
» الخمر والورقة
» بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان هل مجتمع حقوق الإنسان ممكن؟ / محمد وقيدي
» الزينة واللباس.. ستر للإنسان ونعمة من الرحمن
» الدين ليس قفصا، الدين باب السماء
» الخمر والورقة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى