عبد اللطيف الثاني (قصة قصيرة)
صفحة 1 من اصل 1
عبد اللطيف الثاني (قصة قصيرة)
فارقت الأيام بيني وبين رفيقي عبد اللطيف الذي قاسمني أيام الطفولة المرة، عندما جمعتنا الطريق الوعرة المسالك التي تفصل منازلنا عن المدرسة. كنت أعرفه جيدا وأعرف حتى قصة تسميته. مثله مثل أبناء القرى كان يجالس جدته كثيرا التي كانت ترى فيه صورة عمه المختفي في سنوات السبعينيات، لذلك أقسمت أن يأخذ حفيدها اسم عمه لتبقى ذكراه خالدة في ذاكرتها. بعد أن أصابها العمى من كثرة البكاء على فقدانه، سمته عبد اللطيف تيمنا باسم عمه المختفي وبذكائه وبرزانته ونظرته الثاقبة. جالسته في إحدى أمسيات الخريف الحزينة، ولما رأيته يغوص في تفكير عميق حاولت تكسير لحظة الصمت التي تسللت إلى جلستنا:
رأيته، قبل أن يغادر قريته، مختليا بنفسه قرب جدول يجري بجانب منزله وهو يمحص النظر في الماء الذي يجري، غير أن ذهنه كان مشغولا بما هو مقبل عليه من أيام. لم يعرف بعد ما إذا كان قد حصل رسميا على المنحة أم لا.
استيقظ باكرا، أخذ سرواله من على خيط الغسيل ليذهب إلى نيابة التعليم لكي يبحث عن اسمه في قوائم الطلبة الممنوحين بإقليمه برسم الموسم الجامعي المقبل، وعلى الرغم من أنه استيقظ باكرا، إلا أن أمه سبقته وأخذت تحلب البقرة الوحيدة التي تملكها الأسرة، وهي جالسة تحت ضرعها منهمكة في الحلب انحنى على رأسها فقبله وكأنه يترجى منها خيرا في ذلك الصباح الباكر، لم تجد الأم سوى أن تدعو له راجية له التوفيق فيما هو مقبل عليه، وبعد أن انتهت من الحلب، تركت العجل يرضع ما تبقى من قطرات الحليب…. تهيأ عبد اللطيف، غير ملابسه جلس بقرب أمه وهي تهيئ طعام الفطور. نظراته تتتبع كل حركات الأم وهي تقوم بتصفية الحليب ووضعه على النار… كنت أقرأ في قسمات وجهه حيرة، قد ترجع إلى شكه في الحصول على منحة الدراسة للتعليم العالي خصوصا وهو يعرف أن أباه لم “يدور” يمنح رشوة لعون السلطة كي يشهد له أنه لا يمتلك شيئا، وأن ابنه يستحق المنحة… دخل الأب وخيم على المكان صمت رهيب، عبد اللطيف جالس القرفصاء إلى جانب أمه، رائحة القهوة تعم المكان، مزجت الأم القهوة بالحليب، قدمت للأب قليلا من القهوة ليتذوق مذاقها:
أخذ الطريق المنعرج بين الأشجار في ذلك الصباح الباكر ونظره مركز أمامه، لا صوت يسمع سوى ثغاء الأغنام وهي متوجهة إلى المراعي. أحس ببرد الصباح يلف جسده فأسرع في المشي حتى يتحرك الدم في جسمه ليمنحه طاقة تقيه نسيم الصباح البارد، وقبل أن يغيب عن القرية التفت إلى الوراء فلم يجد سوى امرأتين ترقبانه؛ إحداهن أمه والثانية خديجة ابنة الجيران رضيعته، التي قاسمته لعب الطفولة، وكان يتمنى أن ترافقه إلى المدرسة لكن أبويها لم يسمحا لها بذلك بالنظر إلى المسافة البعيدة التي تفصل منزلها عن المدرسة.
وصل عبد اللطيف إلى نيابة التعليم بعد أن أقلته سيارة أجرة، نزل وأخذ يتجول في المحطة، رأى نادلا يرتب الكراسي على رصيف مقهى مجاور للمحطة، اشترى جريدة، ثم أخذ مكانا على رصيف المقهى في انتظار أن تفتح النيابة أبوابها. أخذ ينظر إلى الشارع حيث الناس ذهابا و إيابا، يفكر في انشغالاتهم وإصرارهم على ممارسة حياتهم اليومية بنفس متجدد يغذيه نسيم الصباح البارد. سأله النادل عما إذا كان في حاجة لمشروب، طلب قهوة سوداء، أخذ الجريدة التي ابتدأها بالصفحة الأخيرة، حيث يوجد عمود ساخر يكتبه صحفي جرب مغامرة الهجرة السرية، وعمل في الضيعات الفلاحية الإسبانية حيث رأى بأم عينه كل أشكال الإهانة التي تمارس على العمال رجالا ونساء، وأبرز ما أثاره في سيرة ذلك الصحفي هو حديثه عن ما يمكن أن نسميه باختبار القبول المتعلق بفحص اليدين، ويعني أنه كلما كانت يد العامل(ة) خشنة، كلما كانت حظوظه أوفر للاشتغال.
يجد عبد اللطيف في عمود ذلك الصحفي بعض التحليلات لواقع البلاد وقضاياه، لكنه يعيب عليه عدم تسميته الأشياء بمسمياتها، قد يكون الصحفي يؤمن بالقول المأثور، الذي يقول أن الكاتب الذي يسجنه قلمه لا يعتبر كاتبا، عبد اللطيف كما كنت أسمع منه دائما يصبو إلى صحافة تعبوية تنمي الوعي الطبقي في أفق مواكبة عملية التغيير.
التحق بالنيابة واندس وسط جمهور من الطلاب الذين تركزت أعينهم على مجموعة من القوائم داخل شباك صدئ. فحص اللوائح للمرة الأولى والثانية والثالثة، لم يعثر على اسمه. تيقن أنه ليس من الطلبة الممنوحين برسم الموسم الجامعي المقبل. انتابه شعور خاص، خيل له أنه قد يكون من الميسورين، غير أن ذلك كان مجرد لمحة من خيال مرت، ليجد نفسه أمام أمر الواقع بتناقضاته وأقنعته…؟؟
مرت الأيام… ولازلت أتذكر وبيقين، قولة عبد اللطيف التي ترن في أسماعي: “النضال ضرورة تاريخية والحياة ثمينة ومن لا يدافع عنها لا يستحقها”!؟
نبيل حواصلي
بوذنيب 2009م
المصدر :عيون وزان
- الجو يبدو مكفهرا، إنها إشارات موسم ممطر يمكن أن يحيي البلاد والعباد.
- نعم، قد يكون الأمر كما تعتقد، لكن تصورك للمشكلة يبدو سطحيا، إننا ننتظر المطر لكي ينفس الأزمة المزمنة التي يعيشها المجتمع.
رأيته، قبل أن يغادر قريته، مختليا بنفسه قرب جدول يجري بجانب منزله وهو يمحص النظر في الماء الذي يجري، غير أن ذهنه كان مشغولا بما هو مقبل عليه من أيام. لم يعرف بعد ما إذا كان قد حصل رسميا على المنحة أم لا.
استيقظ باكرا، أخذ سرواله من على خيط الغسيل ليذهب إلى نيابة التعليم لكي يبحث عن اسمه في قوائم الطلبة الممنوحين بإقليمه برسم الموسم الجامعي المقبل، وعلى الرغم من أنه استيقظ باكرا، إلا أن أمه سبقته وأخذت تحلب البقرة الوحيدة التي تملكها الأسرة، وهي جالسة تحت ضرعها منهمكة في الحلب انحنى على رأسها فقبله وكأنه يترجى منها خيرا في ذلك الصباح الباكر، لم تجد الأم سوى أن تدعو له راجية له التوفيق فيما هو مقبل عليه، وبعد أن انتهت من الحلب، تركت العجل يرضع ما تبقى من قطرات الحليب…. تهيأ عبد اللطيف، غير ملابسه جلس بقرب أمه وهي تهيئ طعام الفطور. نظراته تتتبع كل حركات الأم وهي تقوم بتصفية الحليب ووضعه على النار… كنت أقرأ في قسمات وجهه حيرة، قد ترجع إلى شكه في الحصول على منحة الدراسة للتعليم العالي خصوصا وهو يعرف أن أباه لم “يدور” يمنح رشوة لعون السلطة كي يشهد له أنه لا يمتلك شيئا، وأن ابنه يستحق المنحة… دخل الأب وخيم على المكان صمت رهيب، عبد اللطيف جالس القرفصاء إلى جانب أمه، رائحة القهوة تعم المكان، مزجت الأم القهوة بالحليب، قدمت للأب قليلا من القهوة ليتذوق مذاقها:
- خذ، أظن أنها تحتاج إلى قليل من السكر.
- نعم أضيفي قليلا من السكر.
أخذ الطريق المنعرج بين الأشجار في ذلك الصباح الباكر ونظره مركز أمامه، لا صوت يسمع سوى ثغاء الأغنام وهي متوجهة إلى المراعي. أحس ببرد الصباح يلف جسده فأسرع في المشي حتى يتحرك الدم في جسمه ليمنحه طاقة تقيه نسيم الصباح البارد، وقبل أن يغيب عن القرية التفت إلى الوراء فلم يجد سوى امرأتين ترقبانه؛ إحداهن أمه والثانية خديجة ابنة الجيران رضيعته، التي قاسمته لعب الطفولة، وكان يتمنى أن ترافقه إلى المدرسة لكن أبويها لم يسمحا لها بذلك بالنظر إلى المسافة البعيدة التي تفصل منزلها عن المدرسة.
وصل عبد اللطيف إلى نيابة التعليم بعد أن أقلته سيارة أجرة، نزل وأخذ يتجول في المحطة، رأى نادلا يرتب الكراسي على رصيف مقهى مجاور للمحطة، اشترى جريدة، ثم أخذ مكانا على رصيف المقهى في انتظار أن تفتح النيابة أبوابها. أخذ ينظر إلى الشارع حيث الناس ذهابا و إيابا، يفكر في انشغالاتهم وإصرارهم على ممارسة حياتهم اليومية بنفس متجدد يغذيه نسيم الصباح البارد. سأله النادل عما إذا كان في حاجة لمشروب، طلب قهوة سوداء، أخذ الجريدة التي ابتدأها بالصفحة الأخيرة، حيث يوجد عمود ساخر يكتبه صحفي جرب مغامرة الهجرة السرية، وعمل في الضيعات الفلاحية الإسبانية حيث رأى بأم عينه كل أشكال الإهانة التي تمارس على العمال رجالا ونساء، وأبرز ما أثاره في سيرة ذلك الصحفي هو حديثه عن ما يمكن أن نسميه باختبار القبول المتعلق بفحص اليدين، ويعني أنه كلما كانت يد العامل(ة) خشنة، كلما كانت حظوظه أوفر للاشتغال.
يجد عبد اللطيف في عمود ذلك الصحفي بعض التحليلات لواقع البلاد وقضاياه، لكنه يعيب عليه عدم تسميته الأشياء بمسمياتها، قد يكون الصحفي يؤمن بالقول المأثور، الذي يقول أن الكاتب الذي يسجنه قلمه لا يعتبر كاتبا، عبد اللطيف كما كنت أسمع منه دائما يصبو إلى صحافة تعبوية تنمي الوعي الطبقي في أفق مواكبة عملية التغيير.
التحق بالنيابة واندس وسط جمهور من الطلاب الذين تركزت أعينهم على مجموعة من القوائم داخل شباك صدئ. فحص اللوائح للمرة الأولى والثانية والثالثة، لم يعثر على اسمه. تيقن أنه ليس من الطلبة الممنوحين برسم الموسم الجامعي المقبل. انتابه شعور خاص، خيل له أنه قد يكون من الميسورين، غير أن ذلك كان مجرد لمحة من خيال مرت، ليجد نفسه أمام أمر الواقع بتناقضاته وأقنعته…؟؟
مرت الأيام… ولازلت أتذكر وبيقين، قولة عبد اللطيف التي ترن في أسماعي: “النضال ضرورة تاريخية والحياة ثمينة ومن لا يدافع عنها لا يستحقها”!؟
نبيل حواصلي
بوذنيب 2009م
المصدر :عيون وزان
عبدالله- عدد الرسائل : 1759
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 26/06/2008
مواضيع مماثلة
» عبد اللطيف الخمسي
» قصص قصيرة جدا
» الرُّقَيّات /قصة قصيرة / عبدالقادر وساط
» وفاة الفنان عبد اللطيف بنمنصور
» **قصص قصيرة للموعظة**
» قصص قصيرة جدا
» الرُّقَيّات /قصة قصيرة / عبدالقادر وساط
» وفاة الفنان عبد اللطيف بنمنصور
» **قصص قصيرة للموعظة**
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى