قصة / عبد الجليل الوزاني التهامي
صفحة 1 من اصل 1
قصة / عبد الجليل الوزاني التهامي
ة
°°°°
أعيد نشرها، مرة أخرى بعدما نشرتها بعدة صحف وطنية، وكانت زوجتي قد قدمتها في حلقة من حلاقات البرامج التي كان الصديق الأنيق رضوان احمايدة ينتجها بإذاعة تطوان. وحدث أن سمعت ابنتي "رشا" اسمها يتردد على لسان أمها بالمذياع، ولما عدنا إلي البيت غضبت مني متهمة إياي بالتشهير بها. كانت وقتها في العام السادس من عمرها.
أهدي هذه الأقصوصة للصديق رضوان احمايدة وأتمنى له الصحة والعافية وطول العمر.
°°°° قلمي الأول°°°°
1
كانت عدوى غضب زوجتي قد أصابتني أنا أيضا، استعرت منها بعضا من قلقها، أما الجزء الباقي فكنت ملزما باستحضاره، ولو عن طريق الافتعال والتمثيل..
ـ كتابة، خطوط ، لخبطة.. كل الجدران مشوهة، لا يجب أن تتركوا الأقلام في متناول "رشا"!
قلت :
ـ أجل، يجب أن نخفي الأقلام إلى الأبد ! أقصد إلى بداية الموسم الدراسي!
ترد علي بعتاب:
ـ كأنك لا تسهل عليها الأمر.. من يناولها قلما وورقة بمجرد ما تلح عليك في طلبهما؟
ـ أنا؟ أبدا! .. وإذا ما حصل فعلمي أنها تأخذ كرسيا، وتصعد عليه لتصل إلى جيب قميصي، فتأخذ قلمي.. إنها تدفعني إلى شراء قلم في اليوم!
ـ كان عليك أن تضعه في مكان أبعد! قل لي: والأوراق، ما قصتها هي أيضا؟ لا تدعي أنها تفتح درج مكتبك وتأخذها؟
ـ تلك هي الحقيقة، وربما تغاضيت عن ذلك حرصا مني على لخبطتها الأوراق خير من لخبطة الجدران!
ـ في الحقيقة، أنت من علمها هذه العادة السيئة!
هكذا نزل الحكم. بل حكمان، وانتهى الأمر. فالأول يرى أن عشق القلم والأوراق عادة سيئة! أما الثاني فيخصني شخصيا، والقاضي لم يمنحني حق الدفاع عن النفس. وربما كانت المحاكمة نهاية لا استئناف ولا نقض ولا ابرام.
"رشا" تبكي، تجرني من ثيابي:
ـ بابا بابا، أعطني قلما وورقة!
تلح في الطلب، وأمعن في التجاهل، وحينما تتأكد أنني لم أستجب لها، تصدر هي الأخرى حكما ليس أقلَّ قسوةً من حكم أمها:
ـ بابا أنا مخاصمك! أعطيني أوراقي التي رسمتها في المدرسة، والله ما نخليها لك!
كانت توظف استراتيجية أخرى في معركتها ضدي!
أجل، فيما أشارت إليه، بالفعل هناك رسوم جميلة، أقول جميلة وأتحري الموضوعية في ذلك، أعجبتني ورقة بين تلك الأوراق، خطر لي وأنا أتأملها أن أضعها غلافا لأحد كتبي.. أجل، ولم لا؟ لخبطة أطفالنا أولى من لخبطة بعض الكبار، وربما أرخص!
2
تحركت إلي فراشي ألتمس الراحة بعد صباح مضن بالعمل.. ملفات، لوائح، غبار، وكثير من العرق في موسم الصهد!
أجدني لا أعرف كيف أتخلص من لخبطة "رشا" وغضب أمها، قلت لنفسي:
ـ كلتاهما معذورة، الأولى مدفوعة بحب القلم، والثانية بشعورها بجسامة مسؤولية تدبير شؤون البيت، والحرص على رونقه ونظافته في غياب خادمة تتكفل بذلك!
توقفت عند حب القلم، همست:
ـ "رشا" تحب القلم، هذه حقيقة مؤكدة، لكن الشيء الذي لم تفطن إليه أمها حينما رمتني بتهمة مساهمتي فيما يحصل، هو أن البنت ورثت عني هذه المحبة، هذا العشق الذي يربطني بالقلم، عشق انتقل إلى البنت بالوراثة لا غرو في ذلك!
ابتسمت وأنا أكتشف هذه الحقيقة الأكيدة، وقررت ساعتها ألا أبوح بهذا الاكتشاف لزوجتي، حتى لا أزيد الوضع تعقيدا، وأقدم للنيابة العامة دليلا جديدا ودامغا على إدانتي!
3
كنت قد أغمضت عيني وأنا أتذكر قصتي مع قلمي الأول.. حكاية نسيتها تماما، وإذا بها تقتحم مخيلتي اقتحاما، كأنها وقعت بالأمس القريب، كنت حينها أتعثر في ملابسي، حينما أدركت بفطرتي أن جل أترابي التحقوا بمدرسة القرية.. فاتحت والدتي في الأمر، فقالت إنني لازلت صغيرا، وعلي أن ألتحق بالكتاب أولا!
لم أتقبل الأمر فقررت من تلقاء نفسي أن التحق بالمدرسة.. انضممت إلى ثلة من رفاقي، وقصدت المدرسة.
هناك استقبلني أحد المعلمين بوجه بشوش، سألني عن اسمي واسم والدي، ثم استفسرني هل سألتزم بالحضور إلى المدرسة بانتظام، أجبته بالإيجاب. رحب بي وضمني إلى قسم.
بعد أن زالت الدهشة والانبهار لاحظت أن كل التلاميذ يمتلكون أقلاما ودفاتر إلا أنا. حز في نفسي ذلك، وجعلني أشعر بالدونية، فقررت اقتناء عدتي مثلهم. بالمنزل أعلمت والدي بما فعلت، ابتسم، وثمّن تصرفي وأشاد به أمام مسمع والدتي، سمعته يقول لها:
دعيه يستأنس، ما دموا قد قبلوه هناك، فلا ضرر!
انتهزت الفرصة وقلت له:
ـ كل الأولاد يملكون أقلاما ودفاتر إلا أنا!
هذا فقط؟ الأمر سهل، عندما تكون ذاهب إلى المدرسة مر على "السي أحمد" بالدكان وقل له أن يعطيك قلما ودفترا!
التقطت الإشارة كما أرسلها والدي، وقررت أن أحولها إلى التنفيذ من لحظتي، حتى لا يجد وقتا للتراجع، بعد دقائق كنت أعود من الدكان وأنا أحمل قاما رماديا جميلا ودفترا أزرق رسم على أحد غلافيْه أسدان، وعلى الغلاف الثاني رسمت خطوط ومربعات وكتابة، علمت فيما بعد أنها جداول الضرب والجمع والطرح والقسمة.. شعرت ساعتها بانجذاب قوي نحو هذه الأشياء البسيطة، والتي لم تكن أبدا بسيطة لا في عيني ولا في عقلي! وتولدت بيني وبينها مودة خاصة، كنت أخطط على ما أجده أمامي برفق، وأدفع قلمي بحنان خوفا من انكساره، أو لا أعرف ماذا قد يحصل له من مكروه..
في المدرسة أخذ المعلم الدفتر وصار يكتب على إحدى أوراقه قائلا:
هذا يا سيدي، هو اسمك، وسأترك الدفتر في خزانة القسم حتى يحين وقت استعماله، أما القلم فاحتفظ به عندك!
لاحظت أنه وضع دفتري برف تجمعت به دفاتر وكتب عدة متنوعة الأحجام والألوان.. غمرني ساعتها شجن وإحساس بالغبن، كأنني لم أقتنع بما قاله لي. المنطق الوحيد الذي كنت أومن به أن الدفتر لي ولن أرتاح إلا إذا كان بين يدي! لا أن يترك في تلك الزنزانة الخشبية!
4
ذات مساء خرجنا من المدرسة قاصدين بيوتنا متخذين طريق الحقول والبساتين، كنا نتسلق شجيرات العليق والتوت الشوكي لنقتطف ثمارها السوداء والبنفسجية اللذيذة. كنا نلف وندور قبل أن نصل إلى منازلنا.. في لحظة ما أدركت أن قلمي لم يعد موجودا بجيبي، صرت أبحث عنه ونبضي يرتفع ويرتفع، تأكدت أنني حينما كنت أجري وأقفز وأتسلق أضعته!
عدت وحيدا من حيث أتينا، تهت وتعبت دون أن أعثر له على أثر، كانت الطريق التي سلكناه ملتوية وكثيرة الأعشاب والحشائش النباتية؛ من الصعب أن تري بها قلما. أدركت أن شجاعتي ليست بمقدورها أن تجعلني أتوغل وحيدا بين البساتين المسيجة بالقصب واللبلاب، في الوقت الذي أمست فيه شمس الخريف متوارية خلف التلال..
ـ إذن ضاع القلم، هكذا قلت لنفسي. وصرت أبكي وأندب حظي وتعاستي، بمدخل بيتنا كنت قد تخلصت من دموعي دون أن أقوي على التخلص من حزني وشجني.. كان بي ضجر شديد منعني من تناول عشائي.. حينما أويت إلى فراشي كان طيف قلمي يتلألأ بلونه الرمادي الجميل، يأبى أن يفارقني، امتزجت الحقيقة بالحلم وبت ليلتي مؤرقا قلقا مفزوعا.. كنت قد أحببت القلم قبل أن أحب الحروف التي أسرتني العمر كله!
5
بعد يومين كنا نقف متحلقين حول معلمنا بمكتبه، رأيته يفتح الدرج ليخرج شيئا ما، رأيت قلمي هناك، أجل عرفته من نظرة واحدة وسريعة، كنت متأكد أنني رأيت قلمي وليس شيئا آخر، أحسست أن نبضي يرتفع والعرق يتصبب بكل بدني.. لكن من الذي أوصله إلى هناك؟
ـ حتما وجده أحد التلاميذ، وسلمه للمعلم!
هكذا فكرت، انتهزت فرصة انصراف زملائي إلى الاستراحة، فعدت وحيدا، وقفت على بعد خطوات مترددا، لا أعرف ماذا سأقوله، كان معلمي يتحدث إلى زميلته، علمت فيما بعد أنها صارت زوجة له.. انتبها معا لوجودي، ربما كنت قد أفسدت عليهما خلوتهما بحجرة الدرس!
ـ ما بك واقف، أ لم تخرج إلى الاستراحة؟
ـ أريد.. أريد.!
ـ اقترب، ماذا تريده بالضبط؟
ـ قلمي.. أريد قلمي.
قلتها وأنا أشير إلى الدرج.
ـ إنه هناك!
فتح الدرج بهدوء واستغراب، كانت هناك أقلام كثيرة متعددة الأشكال والألوان.
ـ أين هو قلمك بين هذه الأقلام ؟
ـ هذا، إنه هو!
أخذه، نظر إليه مليا ثم قال:
ـ آه!
أجل إنه لك..خذه وانصرف إلى الاستراحة، حافظ عليه، إياك أن تضيعه مرة أخرى!
تناولته دون أن تنبس شفتاي بكلمة، كانت فرحتي لا توصف، تبعثرت كل أفكاري وجعلتني لا أعرف حتى كيف أشكر معلمي!
لكن بمجرد ما غدرت القسم حتى تذكرت أنه لم يعطني غطاءه، قلت في نفسي:
ـ ربما الذي وجده لم يلف غطاءه معه. ثم فكرت، لأعد وأساله، عله كان بالدرج !
كنت أقف خلفهما وأنا أسمع المعلمة تقول:
ـ كيف سلمت له قلمك وأنت تعلم أنني من أهداك إياه؟!
ـ لم أنس ذلك.. ببساطة، قرأت في عينيه ما أوحى لي أن يرتبط بقلمه بعلاقة حب ليست عادية، إنها علاقة من نوعى خاص، فرأيت أن أعزز هذه العلاقة وأدعمها!.. ليت كل أطفالنا يحبون الأقلام ويدركون سرها ودورها الإيجابي والفعال في حياة الأمم!
كانا قد شعر بوجودي، فكان لذلك وقع صعب على نفسي، اعترتني خيبة أمل شديدة، وشعرت بحمرة الخجل تجتاحني، هممت بأن أعيد القلم، كنت كمن يحاول استئصال أحد جوارحه، لكن المعلمة قالت بلهجة حاسمة وحنونة:
ـ خذه، إنه لك، أنت من يستحقه!
اقتربت مني، نظرت إلي باسمة، ثم قبلتني...
.. ولما أفقت من غفوتي كانت "رشا" تقبلني وهي تقول بصوتها الناعم العذب:
ـ بابا بابا، اسمع ماما، لقد حان وقت الغذاء!
مقهى أثينا: 10/07/2005
°°°°
أعيد نشرها، مرة أخرى بعدما نشرتها بعدة صحف وطنية، وكانت زوجتي قد قدمتها في حلقة من حلاقات البرامج التي كان الصديق الأنيق رضوان احمايدة ينتجها بإذاعة تطوان. وحدث أن سمعت ابنتي "رشا" اسمها يتردد على لسان أمها بالمذياع، ولما عدنا إلي البيت غضبت مني متهمة إياي بالتشهير بها. كانت وقتها في العام السادس من عمرها.
أهدي هذه الأقصوصة للصديق رضوان احمايدة وأتمنى له الصحة والعافية وطول العمر.
°°°° قلمي الأول°°°°
1
كانت عدوى غضب زوجتي قد أصابتني أنا أيضا، استعرت منها بعضا من قلقها، أما الجزء الباقي فكنت ملزما باستحضاره، ولو عن طريق الافتعال والتمثيل..
ـ كتابة، خطوط ، لخبطة.. كل الجدران مشوهة، لا يجب أن تتركوا الأقلام في متناول "رشا"!
قلت :
ـ أجل، يجب أن نخفي الأقلام إلى الأبد ! أقصد إلى بداية الموسم الدراسي!
ترد علي بعتاب:
ـ كأنك لا تسهل عليها الأمر.. من يناولها قلما وورقة بمجرد ما تلح عليك في طلبهما؟
ـ أنا؟ أبدا! .. وإذا ما حصل فعلمي أنها تأخذ كرسيا، وتصعد عليه لتصل إلى جيب قميصي، فتأخذ قلمي.. إنها تدفعني إلى شراء قلم في اليوم!
ـ كان عليك أن تضعه في مكان أبعد! قل لي: والأوراق، ما قصتها هي أيضا؟ لا تدعي أنها تفتح درج مكتبك وتأخذها؟
ـ تلك هي الحقيقة، وربما تغاضيت عن ذلك حرصا مني على لخبطتها الأوراق خير من لخبطة الجدران!
ـ في الحقيقة، أنت من علمها هذه العادة السيئة!
هكذا نزل الحكم. بل حكمان، وانتهى الأمر. فالأول يرى أن عشق القلم والأوراق عادة سيئة! أما الثاني فيخصني شخصيا، والقاضي لم يمنحني حق الدفاع عن النفس. وربما كانت المحاكمة نهاية لا استئناف ولا نقض ولا ابرام.
"رشا" تبكي، تجرني من ثيابي:
ـ بابا بابا، أعطني قلما وورقة!
تلح في الطلب، وأمعن في التجاهل، وحينما تتأكد أنني لم أستجب لها، تصدر هي الأخرى حكما ليس أقلَّ قسوةً من حكم أمها:
ـ بابا أنا مخاصمك! أعطيني أوراقي التي رسمتها في المدرسة، والله ما نخليها لك!
كانت توظف استراتيجية أخرى في معركتها ضدي!
أجل، فيما أشارت إليه، بالفعل هناك رسوم جميلة، أقول جميلة وأتحري الموضوعية في ذلك، أعجبتني ورقة بين تلك الأوراق، خطر لي وأنا أتأملها أن أضعها غلافا لأحد كتبي.. أجل، ولم لا؟ لخبطة أطفالنا أولى من لخبطة بعض الكبار، وربما أرخص!
2
تحركت إلي فراشي ألتمس الراحة بعد صباح مضن بالعمل.. ملفات، لوائح، غبار، وكثير من العرق في موسم الصهد!
أجدني لا أعرف كيف أتخلص من لخبطة "رشا" وغضب أمها، قلت لنفسي:
ـ كلتاهما معذورة، الأولى مدفوعة بحب القلم، والثانية بشعورها بجسامة مسؤولية تدبير شؤون البيت، والحرص على رونقه ونظافته في غياب خادمة تتكفل بذلك!
توقفت عند حب القلم، همست:
ـ "رشا" تحب القلم، هذه حقيقة مؤكدة، لكن الشيء الذي لم تفطن إليه أمها حينما رمتني بتهمة مساهمتي فيما يحصل، هو أن البنت ورثت عني هذه المحبة، هذا العشق الذي يربطني بالقلم، عشق انتقل إلى البنت بالوراثة لا غرو في ذلك!
ابتسمت وأنا أكتشف هذه الحقيقة الأكيدة، وقررت ساعتها ألا أبوح بهذا الاكتشاف لزوجتي، حتى لا أزيد الوضع تعقيدا، وأقدم للنيابة العامة دليلا جديدا ودامغا على إدانتي!
3
كنت قد أغمضت عيني وأنا أتذكر قصتي مع قلمي الأول.. حكاية نسيتها تماما، وإذا بها تقتحم مخيلتي اقتحاما، كأنها وقعت بالأمس القريب، كنت حينها أتعثر في ملابسي، حينما أدركت بفطرتي أن جل أترابي التحقوا بمدرسة القرية.. فاتحت والدتي في الأمر، فقالت إنني لازلت صغيرا، وعلي أن ألتحق بالكتاب أولا!
لم أتقبل الأمر فقررت من تلقاء نفسي أن التحق بالمدرسة.. انضممت إلى ثلة من رفاقي، وقصدت المدرسة.
هناك استقبلني أحد المعلمين بوجه بشوش، سألني عن اسمي واسم والدي، ثم استفسرني هل سألتزم بالحضور إلى المدرسة بانتظام، أجبته بالإيجاب. رحب بي وضمني إلى قسم.
بعد أن زالت الدهشة والانبهار لاحظت أن كل التلاميذ يمتلكون أقلاما ودفاتر إلا أنا. حز في نفسي ذلك، وجعلني أشعر بالدونية، فقررت اقتناء عدتي مثلهم. بالمنزل أعلمت والدي بما فعلت، ابتسم، وثمّن تصرفي وأشاد به أمام مسمع والدتي، سمعته يقول لها:
دعيه يستأنس، ما دموا قد قبلوه هناك، فلا ضرر!
انتهزت الفرصة وقلت له:
ـ كل الأولاد يملكون أقلاما ودفاتر إلا أنا!
هذا فقط؟ الأمر سهل، عندما تكون ذاهب إلى المدرسة مر على "السي أحمد" بالدكان وقل له أن يعطيك قلما ودفترا!
التقطت الإشارة كما أرسلها والدي، وقررت أن أحولها إلى التنفيذ من لحظتي، حتى لا يجد وقتا للتراجع، بعد دقائق كنت أعود من الدكان وأنا أحمل قاما رماديا جميلا ودفترا أزرق رسم على أحد غلافيْه أسدان، وعلى الغلاف الثاني رسمت خطوط ومربعات وكتابة، علمت فيما بعد أنها جداول الضرب والجمع والطرح والقسمة.. شعرت ساعتها بانجذاب قوي نحو هذه الأشياء البسيطة، والتي لم تكن أبدا بسيطة لا في عيني ولا في عقلي! وتولدت بيني وبينها مودة خاصة، كنت أخطط على ما أجده أمامي برفق، وأدفع قلمي بحنان خوفا من انكساره، أو لا أعرف ماذا قد يحصل له من مكروه..
في المدرسة أخذ المعلم الدفتر وصار يكتب على إحدى أوراقه قائلا:
هذا يا سيدي، هو اسمك، وسأترك الدفتر في خزانة القسم حتى يحين وقت استعماله، أما القلم فاحتفظ به عندك!
لاحظت أنه وضع دفتري برف تجمعت به دفاتر وكتب عدة متنوعة الأحجام والألوان.. غمرني ساعتها شجن وإحساس بالغبن، كأنني لم أقتنع بما قاله لي. المنطق الوحيد الذي كنت أومن به أن الدفتر لي ولن أرتاح إلا إذا كان بين يدي! لا أن يترك في تلك الزنزانة الخشبية!
4
ذات مساء خرجنا من المدرسة قاصدين بيوتنا متخذين طريق الحقول والبساتين، كنا نتسلق شجيرات العليق والتوت الشوكي لنقتطف ثمارها السوداء والبنفسجية اللذيذة. كنا نلف وندور قبل أن نصل إلى منازلنا.. في لحظة ما أدركت أن قلمي لم يعد موجودا بجيبي، صرت أبحث عنه ونبضي يرتفع ويرتفع، تأكدت أنني حينما كنت أجري وأقفز وأتسلق أضعته!
عدت وحيدا من حيث أتينا، تهت وتعبت دون أن أعثر له على أثر، كانت الطريق التي سلكناه ملتوية وكثيرة الأعشاب والحشائش النباتية؛ من الصعب أن تري بها قلما. أدركت أن شجاعتي ليست بمقدورها أن تجعلني أتوغل وحيدا بين البساتين المسيجة بالقصب واللبلاب، في الوقت الذي أمست فيه شمس الخريف متوارية خلف التلال..
ـ إذن ضاع القلم، هكذا قلت لنفسي. وصرت أبكي وأندب حظي وتعاستي، بمدخل بيتنا كنت قد تخلصت من دموعي دون أن أقوي على التخلص من حزني وشجني.. كان بي ضجر شديد منعني من تناول عشائي.. حينما أويت إلى فراشي كان طيف قلمي يتلألأ بلونه الرمادي الجميل، يأبى أن يفارقني، امتزجت الحقيقة بالحلم وبت ليلتي مؤرقا قلقا مفزوعا.. كنت قد أحببت القلم قبل أن أحب الحروف التي أسرتني العمر كله!
5
بعد يومين كنا نقف متحلقين حول معلمنا بمكتبه، رأيته يفتح الدرج ليخرج شيئا ما، رأيت قلمي هناك، أجل عرفته من نظرة واحدة وسريعة، كنت متأكد أنني رأيت قلمي وليس شيئا آخر، أحسست أن نبضي يرتفع والعرق يتصبب بكل بدني.. لكن من الذي أوصله إلى هناك؟
ـ حتما وجده أحد التلاميذ، وسلمه للمعلم!
هكذا فكرت، انتهزت فرصة انصراف زملائي إلى الاستراحة، فعدت وحيدا، وقفت على بعد خطوات مترددا، لا أعرف ماذا سأقوله، كان معلمي يتحدث إلى زميلته، علمت فيما بعد أنها صارت زوجة له.. انتبها معا لوجودي، ربما كنت قد أفسدت عليهما خلوتهما بحجرة الدرس!
ـ ما بك واقف، أ لم تخرج إلى الاستراحة؟
ـ أريد.. أريد.!
ـ اقترب، ماذا تريده بالضبط؟
ـ قلمي.. أريد قلمي.
قلتها وأنا أشير إلى الدرج.
ـ إنه هناك!
فتح الدرج بهدوء واستغراب، كانت هناك أقلام كثيرة متعددة الأشكال والألوان.
ـ أين هو قلمك بين هذه الأقلام ؟
ـ هذا، إنه هو!
أخذه، نظر إليه مليا ثم قال:
ـ آه!
أجل إنه لك..خذه وانصرف إلى الاستراحة، حافظ عليه، إياك أن تضيعه مرة أخرى!
تناولته دون أن تنبس شفتاي بكلمة، كانت فرحتي لا توصف، تبعثرت كل أفكاري وجعلتني لا أعرف حتى كيف أشكر معلمي!
لكن بمجرد ما غدرت القسم حتى تذكرت أنه لم يعطني غطاءه، قلت في نفسي:
ـ ربما الذي وجده لم يلف غطاءه معه. ثم فكرت، لأعد وأساله، عله كان بالدرج !
كنت أقف خلفهما وأنا أسمع المعلمة تقول:
ـ كيف سلمت له قلمك وأنت تعلم أنني من أهداك إياه؟!
ـ لم أنس ذلك.. ببساطة، قرأت في عينيه ما أوحى لي أن يرتبط بقلمه بعلاقة حب ليست عادية، إنها علاقة من نوعى خاص، فرأيت أن أعزز هذه العلاقة وأدعمها!.. ليت كل أطفالنا يحبون الأقلام ويدركون سرها ودورها الإيجابي والفعال في حياة الأمم!
كانا قد شعر بوجودي، فكان لذلك وقع صعب على نفسي، اعترتني خيبة أمل شديدة، وشعرت بحمرة الخجل تجتاحني، هممت بأن أعيد القلم، كنت كمن يحاول استئصال أحد جوارحه، لكن المعلمة قالت بلهجة حاسمة وحنونة:
ـ خذه، إنه لك، أنت من يستحقه!
اقتربت مني، نظرت إلي باسمة، ثم قبلتني...
.. ولما أفقت من غفوتي كانت "رشا" تقبلني وهي تقول بصوتها الناعم العذب:
ـ بابا بابا، اسمع ماما، لقد حان وقت الغذاء!
مقهى أثينا: 10/07/2005
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
مواضيع مماثلة
» مرحبا بالسيد الجليل الحمدوني
» عبد العزيز بن عبد الجليل: انبعاث الموسيقى بالمغرب في ظل رعاية الملك محمد الخامس
» التهامي الهروشي
» عيون شعر الملحون بالمغرب
» ضريح مولاي التهامي
» عبد العزيز بن عبد الجليل: انبعاث الموسيقى بالمغرب في ظل رعاية الملك محمد الخامس
» التهامي الهروشي
» عيون شعر الملحون بالمغرب
» ضريح مولاي التهامي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى