نعت النشاطية الشعرية المغربية بـ«الحساسية الشعرية الجديدة».. الناقد بنعيسى بوحمالة: القصيدة اليوم تحولت إلى ساحة حرب جمالية
صفحة 1 من اصل 1
نعت النشاطية الشعرية المغربية بـ«الحساسية الشعرية الجديدة».. الناقد بنعيسى بوحمالة: القصيدة اليوم تحولت إلى ساحة حرب جمالية
حوار: عبد اللطيف الوراري
ناقد، أكاديمي، مترجم ومثقف مغربي لم ينقطع عمله عن الإصغاء لأصوات العصر، وعن تأمل مشاريع الشعرية العربية الحديثة وتحليل آليات اشتغالها النصي والتخييلي، فأغنى المكتبة العربية ببحوث ودراسات أكاديمية رصينة، تتخللها لغته المستقطرة ورؤيته النقدية النافذة، مثل: «النزعة الزنجية في الشعر السوداني المعاصر: محمد الفيتوري نموذجاً» (2004) و«أيتام سومر.. في شعرية حسب الشيخ جعفر»، في جزئين، (2009)، و«مضايق شعرية » (2013)، «شجرة الأكاسيا.. مؤانسات شعرية، في الشعر العربي المعاصر» (2014). كما ساهم في كتب جماعية حول الشعر المغربي والعربي والعالمي نشرت في المغرب وخارجه، وأولى عناية خاصة بترجمة منتخبات من الشعر الأوروبي.
في هذا الحوار، يحدثنا الناقد المغربي بنعيسى بوحمالة عن النشاطية الشعرية المغربية التي انطلقت منذ بواكير تسعينيات القرن الماضي، ناعتاً إياها بـ»الحساسية الشعرية الجديدة». ويرى أن القصيدة المغربية المعاصرة تحولت إلى ساحة حرب جمالية تذود في نصيتها الذات الشاعرة عن غنائمها الضئيلة، أو ترثي خساراتها الصغيرة، ويتصادى شعراؤها مع قصائد وأعمال شعراء قصيدة النثر العربية، السبعينيين والثمانينيين وبعض من تأثيرات الشعريات الفرنسية والإسبانية والأمريكية واليابانية (قصيدة الهايكو)، علاوة على مرجعيات أخرى، سردية وتشكيلية وسينمائية وصوفية وفلسفية.
■ إلى أي مدى يصح – مصطلحياً ومعرفياً – أن نتحدث عن تجربة أو حساسية شعرية جديدة في المغرب؟
□ الظاهر أنه لا مناص، بقوة الأشياء، من نعت النشاطية الشعرية المغربية، التي انطلقت منذ بواكير تسعينيات القرن الماضي بالحساسية الشعرية الجديدة، إذ لا ننسى أن الأمر يتصل، على نحو ما، بجيل رابع في سيرورة القصيدة المغربية المعاصرة، وذلك رغماً من الاحتراز، المهول نسبياً، من لدن بعض الدارسين تجاه مصطلح الجيل، الذي سيثبت جدواه ومردوديته التوصيفيتين في السوسيولوجيا، وفي حقل الإنسانيات عامة. ولما نقول جيلاً فإنما نحن نستثير، كنتيجة، عمراً بيولوجياً فتياً، خبرات تاريخية وثقافية مستجدة، تمثلات قيمية مغايرة؛ والأبرز، لربما، في هذا السياق، هو الاعتماد شبه الكلي من طرف المنتسبين إلى هذه الحساسية على الوسائط الجديدة في الكتابة والانتشار والتداول، التي لا يخلو استعمالها، طبعاً، من بعض السلبيات، القاتلة أحيانا، التي تشوب قسطاً وافراً من المتن الشعري الشامل لشعراء هذه الحساسية، أقصد نزوع، ما خلا أسماء وتجارب بعينها، الكثيرين منهم إلى الاستسهال، والتنصل المتقاعس من الأعباء المعرفية والأداتية، وقبلها الروحية، التي تقتضيها أيما كتابة شعرية صميمة والاستيهام، بالتالي، في بريق الانتشار الافتراضي المخادع. مع ذلك يبقى بمقدورنا أن نلتقط، من قلب هذه النشاطية، نبضاً جديداً، تعاطياً مخصوصاً مع القصيدة، معجماً وتركيباً وموضوعا وتخييلاً؛ يؤشران إلى مسار آخر، على إبدال، إن شئنا، في خريطة القصيدة المغربية المعاصرة.
■ لماذا يستعصي أن نجمع أفرادها داخل جيل أو أن نلم شتاتهم ضمن تصنيف عقدي كما كان جارياً من قبل؟
□ عن مسألة الجيل، وفضلاً عما تمت الإشارة إليه قبل حين، فإن ما قد يشوش على الهوية الجيلية، لكن لا يلغيها بالمرة، هو أن من مشترطات أي جيل كان ليس فقط تقارب أعمار شعرائه ونهلهم من تجربة تاريخية معينة وخضوعهم لتربية ثقافية متجانسة؛ بل توافر بعض المواصفات الشكلية، لكن الحاسمة، التي تلحم أكثر، وحدة المجموعة وتعضد انتماءها إلى مدار شعري مخصوص، وبهذا المعنى فما من شك في أن انتساب بعض شعراء جيل الستينيات إلى الحرم الجامعي كأساتذة – أحمد المجاطي، محمد السرغيني، محمد الخمار الكنوني – وانضواء معظمهم إلى اليسار السياسي، سواء كفاعلين عضويين أو مجرد متعاطفين – محمد علي الهواري، عبد الرفيع جواهري، أحمد صبري، محمد الميموني، بنسالم الدمناتي، عبد السلام الزيتوني – قد لعبا دورهما في بلورة هويته الجيلية المتماسكة..
وهو ما يصدق على جيل السبعينيات، الذي لا ننسى أن أبرز ناشطيه الشعريين هم خريجو القلعة العتيدة، بله الخرافية، كلية آداب ظهر المهراز بفاس، بحيث مروا بها كطلبة، وذلك في عز الحمأة الايديولوجية والثقافية للمغرب، ومعه عالم، السبعينيات – محمد بنطلحة، محمد بنيس، رشيد المومني، أحمد بنميمون، محمد الشيخي، عبد الله راجع، أحمد بلبداوي، علال الحجام، محمد السبايلي – في حين، وبدءاً من الثمانينيات، مع التحولات التي عرفها الكثير من مظاهر الحياة، وفي مقدمتها تدهور سهم السياسة وتضخم الفرديات، أخذت في الاضمحلال، إن لم نقل التبدد، ممكنات الاشتغال الجمعي، ممكنات التفكير/ الكلام بوجدان/ لسان الكل، وأمسينا، هكذا، حيال جزر متفرقة..
كل واحد يتولى شأنه الشعري الخاص وينطق باسمه الشخصي ولو أن هذا لا يؤشر، في واقع الحال، إلى الارتهان بجيل شعري سابق.
■ هل هذه التجربة/ الحساسية هي تراكم لتجارب متتالية في سياق القصيدة المغربية الحديثة، أم هي، بالأحرى، تجاوز لها؟
□ بطبيعة الحال.. ولأنه لا وجود لقانون الطفرة في الفعل الإبداعي، ما كان لشعراء هذه الحساسية أن يوجدوا بين ظهرانينا لو لم يكونوا مسبوقين بأسلاف وآباء شعريين عملوا، على مدى عقود، كل وأسئلته وآفاقه، على استنبات القصيدة المغربية المعاصرة في فضاء ثقافي معاند، على إخضاعها للتجريب والإنضاج، وفي الخلاصة على إعفاء الملتحقين المتأخرين بالمشهد الشعري من أعباء انتزاع الشرعية لهذا الوليد الكتابي من محافل التقليد والاتباع الشعريين في مغرب أواسط القرن العشرين إعفاءهم من مجازفات التجريب الجمالي على أكثر من صعيد مناولين إياهم، هكذا، منجزاً شعرياً، حقا ليس في قوة وزخم نظيره المشرقي، بيد أنه سوف يشكل أرضية ملائمة للأصوات الشعرية الجديدة، إبداعياً أو، بالأولى، تربوياً، كيما تجترح سبلها الأدائية والتعبيرية.. مما يمثل، بوجه عام، إضافة للمنجز الشعري المغربي المعاصر وتنويعاً على مادته وجمالياته.. أما التجاوز أو، بالأدق، القطيعة فهي لا تتأتى، مثلما يؤكد الإبيستمولوجي والناقد الموضوعاتي الفرنسي غاستون باشلار، في مجال العلوم الخالصة فأحرى في مجال العلوم الإنسانية أو الإبداع بما هو، أي هذا الأخير، فعل ملتبس متداخل ماكر، وحمال أوجه.. تتعايش في نسيجه عناصر التحديث إلى جوار مترسبات القِدم، ولنأخذ العبرة من التراث الشعري لشارل بودلير، الأب الروحي للحداثة، أو ولعله أقرب إلى المأخذ في وضعيتنا الشعرية العربية، من السيرة الكتابية للشاعر سعدي يوسف الذي بدأ تقليدياً، فرومنتيكياً واقعياً، وفقاً للاصطلاح الذي ساد آنئذ، وعرف عنه أنه كان من أشد المناوئين لشعرية الريادة واقتراحاتها التجديدية الجسورة ليصير، مع توالي السنين، إلى رأس الحربة في قصيدة النثر العربية في وجهتها المعتنية باليومي والمنفصل والعابر.. هو نفسه لن يتحرج، مثلاً، في أن يعنون أحد دواوينه المتأخرة بـ»حفيد امرئ القيس» بما مفاده وثاقة الصلة بالسلالة الرمزية واستحالة بتر حبل السرة عن الآخر مع الأسلاف والآباء الشعريين.
■ هل يرهن شعراؤها ذواتهم لايديولوجيا أم ينضوون تحت يافطة بارزة ؟
□ ما ورد في إجابتنا على السؤال الفائت لربما يمس مدى انغماسهم في الإيديولوجيا من عدمه وذلك مقارنة مع الأجيال السالفة.. لنقل، في هذا الباب، إنهم بوصفهم أبناء شرعيين لفترة تاريخية وثقافية مستجدة، تحياها كافة أركان المعمورة، لمما يعقد مأمورية الحديث عن انتماء إيديولوجي ما واضح القسمات لبعضهم أو لسائرهم، إن لم يجعله ضرباً من المجانية أو الإسقاط ليس إلا. فلا يجب أن نسهو عن كون العالم قاطبة، أو يكاد، سينخرط مع إطلالة عقد التسعينيات في أحادية فكرية وقيمية ضاربة، كان أن مهدت لها طروحات حلقة «تيل كيل» النقدية الفرنسية، وأساسا فكرة موت المؤلف، وتخريجات فوكو وليوتار وديريدا حول معتنق ما بعد الحداثة.. أضف إلى هذا سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي، فسيادة شريعة اقتصاد السوق وابتكار الطرق السيارة لتدفق المعلومات.. أي اندراج الكرة الأرضية إلى أفق ما أصبح ينعت بالعولمة ونهاية، بالتالي، التاريخ على نحو ما قال به الدارس الأمريكي فرانسيس فوكوياما.. وإذن في كنف هذا الزلزال العاتي، المادي والرمزي، ستتقوض الأساطير الجمعية لفائدة أسطورة الشاعر الشخصية وتتحول القصيدة، بالتبعية، إلى ساحة حرب جمالية تذود في نصيتها الذات الشاعرة عن غنائمها الضئيلة أو ترثي خساراتها الصغيرة، لا فرق، مما يستقيم معه الحديث، والحالة هذه، عن ذوات شاعرة معزولة.. عن توضعات ومصائر شخصية ضيقة أكثر منها أوطاناً أو عوالم متراحبة.
■ ما معنى أن ينزاحوا إلى التعبير بالرمز التجريدي أو بالرؤيا، التي تعنى باكتشاف العالم ومواجهته، عوضاً عن الموقف المباشر من السياسة والأخلاق والقيم، وما هي أبرز السمات الجمالية التي كشفوا عنها في سياق تجربتهم الشعرية، شكلاً ومضموناً ؟
□ دعني أقول، بداءة، بأننا قد نهضم، من حيث لا ندري، حق الأجيال الشعرية، لا المغربية ولا العربية، إن نحن خولنا شعراء الحساسية الجديدة هكذا امتيازات سخية من قبيل، وكما ورد في السؤال، التعبير بالرمز التجريدي أو بالرؤيا، ذلك أن عودة إجرائية، لكن متأنية، إلى المنجز الشعري، المغربي والعربي كليهما، لسوف تجعلنا نقف، وبالملموس، على تحققات هذا الأداء بأكثر من وجه ومن صيغة. فلا يجب أن نغفل أن مطمح أي كتابة شعرية أصيلة هو التعبير رمزياً، ما دام الرمز يمثل درجة أرقى من المجاز (ولعله الدرس البليغ الذي تقدمه التجارب الشعرية الفريدة لشعراء استثنائيين كالفرنسي آرثور رامبو والبيروفي سيزار فاييخو والروماني بول سيلان)، بل يلزم ألا نغفل أيضا أن اتجاهاً بذاته في الشعرية العربية المعاصرة سيعمد بتسمية قصيدة الرؤيا (سيكون الفضل في هذه التسمية لجبرا إبراهيم جبرا ثم سيكرسها من بعده الناقد السوري النابه محمد جمال باروت)، وفي دائرته اشتغلت نصوص لا حصر لها لكل من بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وأدونيس ويوسف الخال وخليل حاوي..) وبالمناسبة فقد كانت الرؤيا بمثابة قناة لتمرير تموقف الشاعر من معضلات سياسية وأخلاقية، أي تعبيراً عن انضوائه اللامشروط إلى زمنه. وعليه دعني أقول، ثانية، ما إذا كانت النسبة الطاغية من شعراء الحساسية الجديدة تكتب من خلال نموذج قصيدة النثر، على ما في هذا من إطلاقية، فإن منحى التعبير الشعري ليأخذ، من خلال هذا النموذج الرائج منذ قرابة عشرين عاماً، منحى حلمياً، حكائياً، سخروياً.. بعامة.. منحى عشق وبوح وجسدنة لدى الشاعرات.. وبعبارة رديفة، منحى تأثيم الواقع وتقريف الآخرين.. الاستيهام في وضعية الضحية المضطهدة.. بعيداً عن أيما رؤيا كانت، الشيء الذي له صلة، ما في ذلك شك، بالتشخيص الذي بسطناه قبل قليل من حيث طبيعة المناخ التاريخي والقيمي الذي تشربه الوجدان العام لشعراء هذه الحساسية، وأخذوا يصدرون عنه في ما يكتبون ويتخيلون. خارج هذا إن جاز تعيين بعض القرائن الكتابية البارزة في نصوص ومتون هذه الفترة، لربما صح التلميح إلى تنفذ الأنا الشعرية واستئثارها بالتلفظ في الفضاء النصي.. التوسل ببعض تقنيات التشكيل والسينما.. استثمار مفردات الخطاب الصوفي وتوسلاته وترميزاته.. وكذا انفتاح القصيدة على جملة من اللغات الذرائعية التي يتيحها الإعلام والإشهار والأغنية والسياسة والتداول اليومي والمرددات المسكوكة.
■ ما وجهة نظرك في أن أغلب شعرائها لا علاقة لهم بالتراث الشعري ويتعاطون كتابة قصيدة النثر باستسهال وفجاجة؟
□ الملاحظة إياها يا ما سبق لي أن أدليت بها، بهذه المناسبة أو تلك، وذلك انطلاقاً مما تستوجبه طبيعة الأشياء من تمكن بالسالف وإحاطة، ولو قليلة، بمكاسبه وحدوده. فمن باب البداهة الإبداعية، بل وحتى الأخلاقية، أن تكون للشاعر في أي زمن كان دراية بالمنجز الشعري الذي لولاه لما تأتى له أن يباشر كتابته.. إنها مسألة، بالحري، تربوية أكثر منها إبداعية أو أخلاقية، ومن هنا حرص الأجيال الشعرية العربية، ومنها المغربية، على قراءة واستكناه ثمرات التراث الشعري المتحصل ثم يكون، بعد ذلك، ما قد تفلح فيه، أفراداً أو جماعة، من تجاوز وإضافة.
هذا، وإن نحن حصرنا الأمر، وهو ما عبرت عنه خلال ملتقى قصيدة النثر ضمن دورته الأولى المنعقدة بمراكش منذ أكثر من عامين (مارس/آذار 2011)، في كون معظم الممارسين لقصيدة النثر دشن علاقته بالكتابة الشعرية رأساً، عبر الوسيط النثري فما من شك في أن الاستئناس، في هذه النازلة الإبداعية، بكثير من التجارب الشعرية، العربية والعالمية، المعاصرة كاف للتدليل على أهمية العبور الإبداعي، المتوخى أن يكون صحياً ومنتجاً، من مدار قصيدة التفعيلة إلى مدار قصيدة النثر.. الشيء الذي نلمس إيجابيته، أداءً وتخييلاً، في قصيدة النثر التي كتبها أو يكتبها من خبروا دواليب قصيدة التفعيلة وتحرشوا بتقعيداتها وإكراهاتها، بمعنى أنهم قدموا إلى المدار الثاني محصنين بالمعرفة والخبرة الكتابيتين، فكان أن استحصلت قصائدهم النثرية سلامة أكثر، حرفية أوثق، ومكاسب أخرى جمة لا تخطئها القراءة.. ولنا، في هذه السبيل، عبرة في المرويات العديدة المتصلة، كمثال، بسيرة بدر شاكر السياب التي تكاد تجمع على جزئية، قد تلوح لنا عرضية وغير ذات شأن، لكنها دالة على نحو فائق، بحيث يروي شهود عيان أنهم يا ما رأوه، وهو وقتها طالب بمدرسة المعلمين العالية ببغداد.. القلعة الجامعية التي آوته إلى جانب نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي والتأم في رحابها، بفضل هذا الثالوث، الإبدال الشعري العربي الجديد، يحمل كتاب «الحماسة» لأبي تمام بيمناه بينما يحمل بيسراه ديوان الشاعرة الإنكليزية إديث سيثويل.. بما في إشارية هذه الجزئية من توكيد بليغ على ثنائية التراث والحداثة، على الاحتفاء بهما سواء بسواء، في أي تكوين شعري متوازن، رصين، وفاعل، علماً بأنه، أي السياب، كان أنكلوفونياً وكان في حوزته، بالتالي، من الأعذار ما يكفي للتنصل الكسول من أيما تراث كان.
■ ما هي أهم المصادر الشعرية والمعرفية (العربية والكونية) التي يرجعون إليها في كتابة نصوصهم؟
□ يصعب، فيما يبدو لي، استعراض تفاصيل مدققة وشافية حول المرجعيات الشعرية والفكرية التي تعمل، سافرة أو مستضمرة، في فضاء قصيدتهم. من قبل كان المعطى المرجعي أكثر شفافية وتلامحاً بحيث كان من السهل حصر أسماء ومرجعيات بذاتها تفعل مفاعيلها، بهذا الوجه أو ذاك، في فضاء قصيدة الستينيات أو السبعينيات، بل كان بمقدورنا وسم فترة شعرية ما بمسمى يستثير أفقاً شعرياً وفكرياً بذاته فنقول، مثلاً، النزعة السيابية في شعر الستينيات أو الأثر الإليوتي أو اللوركوي أو السارتري.. الأدونيسي أو الدرويشي أو الغرامشي.. في شعر السبعينيات وهلم جرا. من هنا، ومن خلال تتبعي المحدود، على أي حال، لما ينشره شعراء هذه الحساسية تتراءى متكآت مرجعية من هنا وهناك.. تصاديات مع قصائد وأعمال شعراء قصيدة النثر العربية، السبعينيين والثمانينيين.. بعض من تأثيرات الشعريات الفرنسية والإسبانية والأمريكية واليابانية (قصيدة الهايكو).. هذا علاوة على مرجعيات أخرى، سردية وتشكيلية وسينمائية وصوفية وفلسفية؛ على تفاوت، بطبيعة الحال، بين المحسوبين على هذه الحساسية فيما يخص جرأة وتدبير مجمل الاستمدادات المذكورة في بنية القصيدة أو الديوان.
http://www.alquds.co.uk/?p=291514
ناقد، أكاديمي، مترجم ومثقف مغربي لم ينقطع عمله عن الإصغاء لأصوات العصر، وعن تأمل مشاريع الشعرية العربية الحديثة وتحليل آليات اشتغالها النصي والتخييلي، فأغنى المكتبة العربية ببحوث ودراسات أكاديمية رصينة، تتخللها لغته المستقطرة ورؤيته النقدية النافذة، مثل: «النزعة الزنجية في الشعر السوداني المعاصر: محمد الفيتوري نموذجاً» (2004) و«أيتام سومر.. في شعرية حسب الشيخ جعفر»، في جزئين، (2009)، و«مضايق شعرية » (2013)، «شجرة الأكاسيا.. مؤانسات شعرية، في الشعر العربي المعاصر» (2014). كما ساهم في كتب جماعية حول الشعر المغربي والعربي والعالمي نشرت في المغرب وخارجه، وأولى عناية خاصة بترجمة منتخبات من الشعر الأوروبي.
في هذا الحوار، يحدثنا الناقد المغربي بنعيسى بوحمالة عن النشاطية الشعرية المغربية التي انطلقت منذ بواكير تسعينيات القرن الماضي، ناعتاً إياها بـ»الحساسية الشعرية الجديدة». ويرى أن القصيدة المغربية المعاصرة تحولت إلى ساحة حرب جمالية تذود في نصيتها الذات الشاعرة عن غنائمها الضئيلة، أو ترثي خساراتها الصغيرة، ويتصادى شعراؤها مع قصائد وأعمال شعراء قصيدة النثر العربية، السبعينيين والثمانينيين وبعض من تأثيرات الشعريات الفرنسية والإسبانية والأمريكية واليابانية (قصيدة الهايكو)، علاوة على مرجعيات أخرى، سردية وتشكيلية وسينمائية وصوفية وفلسفية.
■ إلى أي مدى يصح – مصطلحياً ومعرفياً – أن نتحدث عن تجربة أو حساسية شعرية جديدة في المغرب؟
□ الظاهر أنه لا مناص، بقوة الأشياء، من نعت النشاطية الشعرية المغربية، التي انطلقت منذ بواكير تسعينيات القرن الماضي بالحساسية الشعرية الجديدة، إذ لا ننسى أن الأمر يتصل، على نحو ما، بجيل رابع في سيرورة القصيدة المغربية المعاصرة، وذلك رغماً من الاحتراز، المهول نسبياً، من لدن بعض الدارسين تجاه مصطلح الجيل، الذي سيثبت جدواه ومردوديته التوصيفيتين في السوسيولوجيا، وفي حقل الإنسانيات عامة. ولما نقول جيلاً فإنما نحن نستثير، كنتيجة، عمراً بيولوجياً فتياً، خبرات تاريخية وثقافية مستجدة، تمثلات قيمية مغايرة؛ والأبرز، لربما، في هذا السياق، هو الاعتماد شبه الكلي من طرف المنتسبين إلى هذه الحساسية على الوسائط الجديدة في الكتابة والانتشار والتداول، التي لا يخلو استعمالها، طبعاً، من بعض السلبيات، القاتلة أحيانا، التي تشوب قسطاً وافراً من المتن الشعري الشامل لشعراء هذه الحساسية، أقصد نزوع، ما خلا أسماء وتجارب بعينها، الكثيرين منهم إلى الاستسهال، والتنصل المتقاعس من الأعباء المعرفية والأداتية، وقبلها الروحية، التي تقتضيها أيما كتابة شعرية صميمة والاستيهام، بالتالي، في بريق الانتشار الافتراضي المخادع. مع ذلك يبقى بمقدورنا أن نلتقط، من قلب هذه النشاطية، نبضاً جديداً، تعاطياً مخصوصاً مع القصيدة، معجماً وتركيباً وموضوعا وتخييلاً؛ يؤشران إلى مسار آخر، على إبدال، إن شئنا، في خريطة القصيدة المغربية المعاصرة.
■ لماذا يستعصي أن نجمع أفرادها داخل جيل أو أن نلم شتاتهم ضمن تصنيف عقدي كما كان جارياً من قبل؟
□ عن مسألة الجيل، وفضلاً عما تمت الإشارة إليه قبل حين، فإن ما قد يشوش على الهوية الجيلية، لكن لا يلغيها بالمرة، هو أن من مشترطات أي جيل كان ليس فقط تقارب أعمار شعرائه ونهلهم من تجربة تاريخية معينة وخضوعهم لتربية ثقافية متجانسة؛ بل توافر بعض المواصفات الشكلية، لكن الحاسمة، التي تلحم أكثر، وحدة المجموعة وتعضد انتماءها إلى مدار شعري مخصوص، وبهذا المعنى فما من شك في أن انتساب بعض شعراء جيل الستينيات إلى الحرم الجامعي كأساتذة – أحمد المجاطي، محمد السرغيني، محمد الخمار الكنوني – وانضواء معظمهم إلى اليسار السياسي، سواء كفاعلين عضويين أو مجرد متعاطفين – محمد علي الهواري، عبد الرفيع جواهري، أحمد صبري، محمد الميموني، بنسالم الدمناتي، عبد السلام الزيتوني – قد لعبا دورهما في بلورة هويته الجيلية المتماسكة..
وهو ما يصدق على جيل السبعينيات، الذي لا ننسى أن أبرز ناشطيه الشعريين هم خريجو القلعة العتيدة، بله الخرافية، كلية آداب ظهر المهراز بفاس، بحيث مروا بها كطلبة، وذلك في عز الحمأة الايديولوجية والثقافية للمغرب، ومعه عالم، السبعينيات – محمد بنطلحة، محمد بنيس، رشيد المومني، أحمد بنميمون، محمد الشيخي، عبد الله راجع، أحمد بلبداوي، علال الحجام، محمد السبايلي – في حين، وبدءاً من الثمانينيات، مع التحولات التي عرفها الكثير من مظاهر الحياة، وفي مقدمتها تدهور سهم السياسة وتضخم الفرديات، أخذت في الاضمحلال، إن لم نقل التبدد، ممكنات الاشتغال الجمعي، ممكنات التفكير/ الكلام بوجدان/ لسان الكل، وأمسينا، هكذا، حيال جزر متفرقة..
كل واحد يتولى شأنه الشعري الخاص وينطق باسمه الشخصي ولو أن هذا لا يؤشر، في واقع الحال، إلى الارتهان بجيل شعري سابق.
■ هل هذه التجربة/ الحساسية هي تراكم لتجارب متتالية في سياق القصيدة المغربية الحديثة، أم هي، بالأحرى، تجاوز لها؟
□ بطبيعة الحال.. ولأنه لا وجود لقانون الطفرة في الفعل الإبداعي، ما كان لشعراء هذه الحساسية أن يوجدوا بين ظهرانينا لو لم يكونوا مسبوقين بأسلاف وآباء شعريين عملوا، على مدى عقود، كل وأسئلته وآفاقه، على استنبات القصيدة المغربية المعاصرة في فضاء ثقافي معاند، على إخضاعها للتجريب والإنضاج، وفي الخلاصة على إعفاء الملتحقين المتأخرين بالمشهد الشعري من أعباء انتزاع الشرعية لهذا الوليد الكتابي من محافل التقليد والاتباع الشعريين في مغرب أواسط القرن العشرين إعفاءهم من مجازفات التجريب الجمالي على أكثر من صعيد مناولين إياهم، هكذا، منجزاً شعرياً، حقا ليس في قوة وزخم نظيره المشرقي، بيد أنه سوف يشكل أرضية ملائمة للأصوات الشعرية الجديدة، إبداعياً أو، بالأولى، تربوياً، كيما تجترح سبلها الأدائية والتعبيرية.. مما يمثل، بوجه عام، إضافة للمنجز الشعري المغربي المعاصر وتنويعاً على مادته وجمالياته.. أما التجاوز أو، بالأدق، القطيعة فهي لا تتأتى، مثلما يؤكد الإبيستمولوجي والناقد الموضوعاتي الفرنسي غاستون باشلار، في مجال العلوم الخالصة فأحرى في مجال العلوم الإنسانية أو الإبداع بما هو، أي هذا الأخير، فعل ملتبس متداخل ماكر، وحمال أوجه.. تتعايش في نسيجه عناصر التحديث إلى جوار مترسبات القِدم، ولنأخذ العبرة من التراث الشعري لشارل بودلير، الأب الروحي للحداثة، أو ولعله أقرب إلى المأخذ في وضعيتنا الشعرية العربية، من السيرة الكتابية للشاعر سعدي يوسف الذي بدأ تقليدياً، فرومنتيكياً واقعياً، وفقاً للاصطلاح الذي ساد آنئذ، وعرف عنه أنه كان من أشد المناوئين لشعرية الريادة واقتراحاتها التجديدية الجسورة ليصير، مع توالي السنين، إلى رأس الحربة في قصيدة النثر العربية في وجهتها المعتنية باليومي والمنفصل والعابر.. هو نفسه لن يتحرج، مثلاً، في أن يعنون أحد دواوينه المتأخرة بـ»حفيد امرئ القيس» بما مفاده وثاقة الصلة بالسلالة الرمزية واستحالة بتر حبل السرة عن الآخر مع الأسلاف والآباء الشعريين.
■ هل يرهن شعراؤها ذواتهم لايديولوجيا أم ينضوون تحت يافطة بارزة ؟
□ ما ورد في إجابتنا على السؤال الفائت لربما يمس مدى انغماسهم في الإيديولوجيا من عدمه وذلك مقارنة مع الأجيال السالفة.. لنقل، في هذا الباب، إنهم بوصفهم أبناء شرعيين لفترة تاريخية وثقافية مستجدة، تحياها كافة أركان المعمورة، لمما يعقد مأمورية الحديث عن انتماء إيديولوجي ما واضح القسمات لبعضهم أو لسائرهم، إن لم يجعله ضرباً من المجانية أو الإسقاط ليس إلا. فلا يجب أن نسهو عن كون العالم قاطبة، أو يكاد، سينخرط مع إطلالة عقد التسعينيات في أحادية فكرية وقيمية ضاربة، كان أن مهدت لها طروحات حلقة «تيل كيل» النقدية الفرنسية، وأساسا فكرة موت المؤلف، وتخريجات فوكو وليوتار وديريدا حول معتنق ما بعد الحداثة.. أضف إلى هذا سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي، فسيادة شريعة اقتصاد السوق وابتكار الطرق السيارة لتدفق المعلومات.. أي اندراج الكرة الأرضية إلى أفق ما أصبح ينعت بالعولمة ونهاية، بالتالي، التاريخ على نحو ما قال به الدارس الأمريكي فرانسيس فوكوياما.. وإذن في كنف هذا الزلزال العاتي، المادي والرمزي، ستتقوض الأساطير الجمعية لفائدة أسطورة الشاعر الشخصية وتتحول القصيدة، بالتبعية، إلى ساحة حرب جمالية تذود في نصيتها الذات الشاعرة عن غنائمها الضئيلة أو ترثي خساراتها الصغيرة، لا فرق، مما يستقيم معه الحديث، والحالة هذه، عن ذوات شاعرة معزولة.. عن توضعات ومصائر شخصية ضيقة أكثر منها أوطاناً أو عوالم متراحبة.
■ ما معنى أن ينزاحوا إلى التعبير بالرمز التجريدي أو بالرؤيا، التي تعنى باكتشاف العالم ومواجهته، عوضاً عن الموقف المباشر من السياسة والأخلاق والقيم، وما هي أبرز السمات الجمالية التي كشفوا عنها في سياق تجربتهم الشعرية، شكلاً ومضموناً ؟
□ دعني أقول، بداءة، بأننا قد نهضم، من حيث لا ندري، حق الأجيال الشعرية، لا المغربية ولا العربية، إن نحن خولنا شعراء الحساسية الجديدة هكذا امتيازات سخية من قبيل، وكما ورد في السؤال، التعبير بالرمز التجريدي أو بالرؤيا، ذلك أن عودة إجرائية، لكن متأنية، إلى المنجز الشعري، المغربي والعربي كليهما، لسوف تجعلنا نقف، وبالملموس، على تحققات هذا الأداء بأكثر من وجه ومن صيغة. فلا يجب أن نغفل أن مطمح أي كتابة شعرية أصيلة هو التعبير رمزياً، ما دام الرمز يمثل درجة أرقى من المجاز (ولعله الدرس البليغ الذي تقدمه التجارب الشعرية الفريدة لشعراء استثنائيين كالفرنسي آرثور رامبو والبيروفي سيزار فاييخو والروماني بول سيلان)، بل يلزم ألا نغفل أيضا أن اتجاهاً بذاته في الشعرية العربية المعاصرة سيعمد بتسمية قصيدة الرؤيا (سيكون الفضل في هذه التسمية لجبرا إبراهيم جبرا ثم سيكرسها من بعده الناقد السوري النابه محمد جمال باروت)، وفي دائرته اشتغلت نصوص لا حصر لها لكل من بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وأدونيس ويوسف الخال وخليل حاوي..) وبالمناسبة فقد كانت الرؤيا بمثابة قناة لتمرير تموقف الشاعر من معضلات سياسية وأخلاقية، أي تعبيراً عن انضوائه اللامشروط إلى زمنه. وعليه دعني أقول، ثانية، ما إذا كانت النسبة الطاغية من شعراء الحساسية الجديدة تكتب من خلال نموذج قصيدة النثر، على ما في هذا من إطلاقية، فإن منحى التعبير الشعري ليأخذ، من خلال هذا النموذج الرائج منذ قرابة عشرين عاماً، منحى حلمياً، حكائياً، سخروياً.. بعامة.. منحى عشق وبوح وجسدنة لدى الشاعرات.. وبعبارة رديفة، منحى تأثيم الواقع وتقريف الآخرين.. الاستيهام في وضعية الضحية المضطهدة.. بعيداً عن أيما رؤيا كانت، الشيء الذي له صلة، ما في ذلك شك، بالتشخيص الذي بسطناه قبل قليل من حيث طبيعة المناخ التاريخي والقيمي الذي تشربه الوجدان العام لشعراء هذه الحساسية، وأخذوا يصدرون عنه في ما يكتبون ويتخيلون. خارج هذا إن جاز تعيين بعض القرائن الكتابية البارزة في نصوص ومتون هذه الفترة، لربما صح التلميح إلى تنفذ الأنا الشعرية واستئثارها بالتلفظ في الفضاء النصي.. التوسل ببعض تقنيات التشكيل والسينما.. استثمار مفردات الخطاب الصوفي وتوسلاته وترميزاته.. وكذا انفتاح القصيدة على جملة من اللغات الذرائعية التي يتيحها الإعلام والإشهار والأغنية والسياسة والتداول اليومي والمرددات المسكوكة.
■ ما وجهة نظرك في أن أغلب شعرائها لا علاقة لهم بالتراث الشعري ويتعاطون كتابة قصيدة النثر باستسهال وفجاجة؟
□ الملاحظة إياها يا ما سبق لي أن أدليت بها، بهذه المناسبة أو تلك، وذلك انطلاقاً مما تستوجبه طبيعة الأشياء من تمكن بالسالف وإحاطة، ولو قليلة، بمكاسبه وحدوده. فمن باب البداهة الإبداعية، بل وحتى الأخلاقية، أن تكون للشاعر في أي زمن كان دراية بالمنجز الشعري الذي لولاه لما تأتى له أن يباشر كتابته.. إنها مسألة، بالحري، تربوية أكثر منها إبداعية أو أخلاقية، ومن هنا حرص الأجيال الشعرية العربية، ومنها المغربية، على قراءة واستكناه ثمرات التراث الشعري المتحصل ثم يكون، بعد ذلك، ما قد تفلح فيه، أفراداً أو جماعة، من تجاوز وإضافة.
هذا، وإن نحن حصرنا الأمر، وهو ما عبرت عنه خلال ملتقى قصيدة النثر ضمن دورته الأولى المنعقدة بمراكش منذ أكثر من عامين (مارس/آذار 2011)، في كون معظم الممارسين لقصيدة النثر دشن علاقته بالكتابة الشعرية رأساً، عبر الوسيط النثري فما من شك في أن الاستئناس، في هذه النازلة الإبداعية، بكثير من التجارب الشعرية، العربية والعالمية، المعاصرة كاف للتدليل على أهمية العبور الإبداعي، المتوخى أن يكون صحياً ومنتجاً، من مدار قصيدة التفعيلة إلى مدار قصيدة النثر.. الشيء الذي نلمس إيجابيته، أداءً وتخييلاً، في قصيدة النثر التي كتبها أو يكتبها من خبروا دواليب قصيدة التفعيلة وتحرشوا بتقعيداتها وإكراهاتها، بمعنى أنهم قدموا إلى المدار الثاني محصنين بالمعرفة والخبرة الكتابيتين، فكان أن استحصلت قصائدهم النثرية سلامة أكثر، حرفية أوثق، ومكاسب أخرى جمة لا تخطئها القراءة.. ولنا، في هذه السبيل، عبرة في المرويات العديدة المتصلة، كمثال، بسيرة بدر شاكر السياب التي تكاد تجمع على جزئية، قد تلوح لنا عرضية وغير ذات شأن، لكنها دالة على نحو فائق، بحيث يروي شهود عيان أنهم يا ما رأوه، وهو وقتها طالب بمدرسة المعلمين العالية ببغداد.. القلعة الجامعية التي آوته إلى جانب نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي والتأم في رحابها، بفضل هذا الثالوث، الإبدال الشعري العربي الجديد، يحمل كتاب «الحماسة» لأبي تمام بيمناه بينما يحمل بيسراه ديوان الشاعرة الإنكليزية إديث سيثويل.. بما في إشارية هذه الجزئية من توكيد بليغ على ثنائية التراث والحداثة، على الاحتفاء بهما سواء بسواء، في أي تكوين شعري متوازن، رصين، وفاعل، علماً بأنه، أي السياب، كان أنكلوفونياً وكان في حوزته، بالتالي، من الأعذار ما يكفي للتنصل الكسول من أيما تراث كان.
■ ما هي أهم المصادر الشعرية والمعرفية (العربية والكونية) التي يرجعون إليها في كتابة نصوصهم؟
□ يصعب، فيما يبدو لي، استعراض تفاصيل مدققة وشافية حول المرجعيات الشعرية والفكرية التي تعمل، سافرة أو مستضمرة، في فضاء قصيدتهم. من قبل كان المعطى المرجعي أكثر شفافية وتلامحاً بحيث كان من السهل حصر أسماء ومرجعيات بذاتها تفعل مفاعيلها، بهذا الوجه أو ذاك، في فضاء قصيدة الستينيات أو السبعينيات، بل كان بمقدورنا وسم فترة شعرية ما بمسمى يستثير أفقاً شعرياً وفكرياً بذاته فنقول، مثلاً، النزعة السيابية في شعر الستينيات أو الأثر الإليوتي أو اللوركوي أو السارتري.. الأدونيسي أو الدرويشي أو الغرامشي.. في شعر السبعينيات وهلم جرا. من هنا، ومن خلال تتبعي المحدود، على أي حال، لما ينشره شعراء هذه الحساسية تتراءى متكآت مرجعية من هنا وهناك.. تصاديات مع قصائد وأعمال شعراء قصيدة النثر العربية، السبعينيين والثمانينيين.. بعض من تأثيرات الشعريات الفرنسية والإسبانية والأمريكية واليابانية (قصيدة الهايكو).. هذا علاوة على مرجعيات أخرى، سردية وتشكيلية وسينمائية وصوفية وفلسفية؛ على تفاوت، بطبيعة الحال، بين المحسوبين على هذه الحساسية فيما يخص جرأة وتدبير مجمل الاستمدادات المذكورة في بنية القصيدة أو الديوان.
http://www.alquds.co.uk/?p=291514
عبدالله- عدد الرسائل : 1759
العمر : 53
تاريخ التسجيل : 26/06/2008
مواضيع مماثلة
» هل القصيدة المغربية، الآن، تقول شيئا؟ / محمد بنقدور الوهراني
» تحولات القصيدة المغربية في الثمانينيات
» هل القصيدة المغربية، الآن، تقول شيئا؟
» القصيدة المغربية الأولى .. شرعنة الحداثة
» الساحة الثقافية المغربية تفقد أحد رموزها… مصطفى المسناوي جمع بين الكتابة الساخرة والنقد السينمائي
» تحولات القصيدة المغربية في الثمانينيات
» هل القصيدة المغربية، الآن، تقول شيئا؟
» القصيدة المغربية الأولى .. شرعنة الحداثة
» الساحة الثقافية المغربية تفقد أحد رموزها… مصطفى المسناوي جمع بين الكتابة الساخرة والنقد السينمائي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى