آية وارهام: لم آتِ إلى الصوفية من فراغ روحي أو معرفي أو طلباً للجوء من غبش سياسي
صفحة 1 من اصل 1
آية وارهام: لم آتِ إلى الصوفية من فراغ روحي أو معرفي أو طلباً للجوء من غبش سياسي
الرباط ـ «القدس العربي»: أن تُحاور الشاعر محمد بلحاج آية وارهام، فأنت تُحاور شاعرًا بالفعل، نهل من ثقافات وعلوم وخبرات متنوّعة. ولهذا السبب، تكتشف أنَّ قصيدته مشروع حياةٍ كبير، وصرح معرفةٍ سامق البناء. وبهذا المعنى، نفهم لماذا جعل مثل هذا الشاعر من قصيدته مسألة وجود أكثر منها مسألة تعبير.
ينتمي آية وارهام إلى جيل السبعينيات في الشعر المغربي، الذي واصل مشروع تحديث القصيدة والسفر بها إلى ممكنات الكتابة. كان مجيئه إلى الشعر فارقًا، إذ فتح القصيدة المغربية على معين التصوف حيث الشعرية العرفانية بلا ضفاف. من ذات إلى ذات.
■ أنت من شعراء جيل السبعينيات في الشعر المغربي، الذين راهنوا على خلق أفق حداثي يتجاوزون به مرحلة التأسيس. ماذا بقي من هذا الجيل راهنا؟
□ أود أن أشير هنا إلى مسألتين:
الأولى: هي عدم استساغتي لمقولة الجيل في الشعر، التي دأب كثير من النقد على ركوبها لفرض تصوراته، فهي لا تختلف من حيث التصور عن مقولة العصور التي كان تاريخ الأدب يتوسل بها لتميز الظواهر والطوابع الشعرية في عصر ما. فالشعر امتداد جمالي، وليس ملامح كرونولوجية، تُستشفُّ مباهجه من داخله، لا من الزمن الذي يعيش فيه صاحبه، والأمثلة من المتن الشعري الإنساني الضخم تُعضد هذا. الثانية: هي أن التجاوز يكمن في وجوه متضافرة؛ منها: اللغة والرؤية والجمال. وأعتقد أن هذا الجيل قد خلق لغته التي لا تُحيل إلى المعجم فقط، ولا إلى لغة اليومي الصاهل بالسياسي، وأسس له رُؤية منسوجة من الهم الكوني، وبذلك فتح أفقا جماليا محجوبا عما قبله، انخرط فيه الشعر، فتدفقت في عروقه دماء جديدة. وليس معنى هذا أن هذا الجيل قد حجب سابقه، إذ في السابق شعراء ما زالوا مشَّائين إلى الآن بقوة شعرية لا تُضاهى، يُحدثون في كل فترة انعطافة شعرية كبرى، وما قلناه فيهم يصدق كذلك على السبعينيين.
■ كغيرك من مجايليك تأثرت بالمد اليساري وكتبت ما في حكم الأيديولوجيا، لكن سرعان ما استقللت بأسلوبك الشعري الذي يتميز بمنزعه الصوفي. ما الذي قادك إلى الصوفية؟ وفيم يمكن للمعرفة الصوفية أن تفيد به الشعر والقصيدة لغة ورؤية؟
□ لم آت إلى الصوفية من فراغ روحي أو معرفي، أو طلباً للجوء من غبش سياسي. فجذوري ممتدة عميقا في هذا الحقل، بحكم نشأتي في محيط تسوده المحافظة والتدين. فقد كان والدي مشربا بالصوفية حتى النخاع، ولكنها صوفية معاصرة تجمع الأرض والسماء في بُردة المحبة، وتبث أنوارها في الناس داخل الزاوية وخارجها. ولم يَأْلُ جهدا في إغرائي بانتهاج نهجه، حيث نقعني في أحواض الذكر، وشحنني بعلوم القوم، وشَيَّخَني وأنا صبي لم يبقلْ وجهه بعدُ، فصرت أؤمُّ بالناس التراويح، وأسرد بعض كتب الرقائق والدقائق التي كان يتصدَّر لشرحها. ولكن أهواء المراهق العاصفة فيَّ بأَلْسٍ أخضر عصفت بكل جهوده، ورمتني في خضَمّ اليسار إسوة بأخداني، فكان ما كان من خطى سرقت العمر الجميل مني، وأرَتْني كيف تقتل السياسةُ الحميميةَ في الناس، وكيف يشي الأخ بأخيه من أجل وهمٍ يتجسَّد في كرسي، وكيف يتلاعب القطبان المتحكِّمان آنذاك في مصائر الشعوب وإرادتها. فساءلت نفسي بعد انسلال وهَج شبابي مني: هل أنا حر؟ أم مجرد كائن منزوع الإرادة تلعب به يد اليسار لتصل إلى محلومها، كما تلعب يد اليمين بالذين انسحروا بوعودها؟ وهل المنخرطون في لعبة اليسار واليمين هاته أحرار أفرادا وجماعات وشعوبا ؟ لقد رجني السؤال، وظهر لي الزمن نضّاخاً بأشباح العبودية، فاشتعل فيَّ قول الشهرزوري :
أَتَمَنَّى عَلى اٌلْزَّمَانِ مُحَالاً أَنْ تَرَى مُقْلَتَايَ طَلْعَةَ حُرِّ
ولم ينقذني من سيف الأيديولوجيا ذي اللسانين المرفوع فوق الرقاب إلا ضوْءٌ بعيد صاعد من جذوري المومأِ إليها. فهو الذي بصرَّني بمعنى الكينونة، ومعنى أن يكون الإنسان ضوءا يتوقد منه الزمن، لا تابعًا تسوَدًّ منه الجهات، وتتناسل فيه الإحَن. فمن هذا الحقل تعلمت كيف أنتقل من الخشية إلى المحبة، ومن ظواهر الأشياء إلى بواطنها، التماسا لسر الوحدة في الكون بعيدا عن ظواهر الاختلاف الحاجبة لهذا السر الممثلة فيه (حقيقة الحقائق)، التي يقول عنها ابن عربي إنها: (أصل العالم وأصل الجوهر الفردي وفلك الحياة والحقُّ المخلوق به).
فالتجربة الصوفية – كما خضتها – هي طريق التحبب إلى الكون وإقامة علاقة تودد وتقرب إلى الأشياء، لا طريق تسلط وتصرف فيها وفق الشهوات والأهواء.
■ انطلاقًا من هذا الكلام، أرى أن منجزك الأدبي، يقوم برمته على ما يمكن أن نسميه بـ «الشعرية العرفانية»..
□ إنها شعرية تمكن الشاعر من بناء عوالمه بأشكال مختلفة غير مسبوقة ليتأتى له النظر إلى الوجود من نافذةٍ أرحب من كل النوافذ، فتصير تجربته الصوفية مبنية على تفاعل متميز بين الذات المبدعة والوجود بكل مكوناته، وهذا التفاعل لا يخضع لقوانين العقل والحس المؤطِّرة لتفاعل الناس بالوجود، وإنما هو لممارسة حياتية خارج حدود الزمان والمكان، وما يرتبط بها من تصورات مباينة لمجالات إدراك الآخرين، تغدو فيها عِيانات الحسِّ نابعة من مشكاة المطلق. إنه تفاعل إبداعي، يُخالف مألوف العقل، لغته تتمثل في أن كل شيء فيها هو ذاته وشيء آخر، أي أنها صور الكون وتجلياته تتماهى فيها الأشياء وتتباين وتأتلف وتختلف، وتتناقض مع اللغة الدينية التي تعتبر الشيء هو ذاته لا غير. فالرؤية في هذه الشعرية العرفانية ليست واحدية وإنما هي رؤى شاملة، إذ كل رؤية لا تحتضن الكون مَظهرا ومَخبرا تبقى منحرفة عن المدار الصوفي. أما في ما يتعلق بي فأنا أحاول أن أجعل تجربتي ثلاثية الأبعاد هكذا:
الله الإنسان العالم
فبعد الله فيها هو بعدُ وحدة، وبعُد الإنسان هو بعدُ كرامةٍ وسمو، وبرزخٌ بين البُعد الأول والبعد الثالث الذي هو بعد العالم. فما يراه الناس من كون النبات مثلا لا يَعقل، والجماد لا يَحيى، والحيوان لا يَنطق، فهو راجع إلى عِمَايتهم عن إدراك العلاقة بين الأبعاد المشار إليها، وعن إدراك الحقائق التي لا تنال إلا بِلقَانةٍ صوفية، ففهم ذلك هو ما يحقق إمكانية التواصل الفعلي بين الإنسان ومكونات العالم برمتها، والسبيل إلى ذلك هو الرقي بالبصيرة إلى درجة ترتفع فيها عنها الحجب.
■ نجد التصوف والصوفية في كل مكان وعلى كل لسان. ألا تتفق معي في أنه حتى النزوع الصوفي صار من الموضات التي يتعاطاها الشعراء اليوم بصلافة وجهل؟
□ أتفق معك في ما ذهبت إليه، ومن دون تحفظ. فهؤلاء يخالون أنهم حين يركبون دُرْجَةً (موضة) من الدُّرج سيكونون أقمارا في سماء الحداثة، وهذا فهم سخيف للحداثة، ووهمُ يقذف صاحبه في الخَطَل. فالخطاب الصوفي هو خطاب لازمني، يتغيا القبض على اللانهائي بقلب العاشق، له خصوصيات تميزه عن سائر المجالات الثقافية، سواء أكان ذلك في محتواه المعرفي أم في بنائه الأسلوبي. وغموض أسراره وجمال تعبيره هما أساس جاذبيته للنفوس، لكونها مجبولة على كشف المحجوب، وهتك المستور، والنفاذ إلى الأغوار البعيدة. فكيف يُعقل إذن ممن لم يَخرق العبارة، بله الإشارة، أن يُنتج خطابا صوفيا؟ وكيف لمن لم يعش التجربة ويحترق بأضوائها أن يعرج في مدارج القول الصوفي؟ إن الإبداع الصوفي ذاتٌ تُجَلّي ذات صاحبه، فيها يتمرأى سلوكه في الناس، وفي الحياة والكون. وأغلب الذين ينتحلون هذا المسلك الكتابي ينقض سلوكهم مبدأ المحبة الذي هو أسُّ التجربة الصوفية، فهم يُؤذون، ويكرهون، ويقسون، ويلبسون أقنعة لكل حالة. وهذا هو مربط وعيهم. إن الصوفي لا ينقض سلوكُه نَصَّه، ولا ينظر إلى العالم بكراهية مهما اشتدت مباذله، وإنما يُفيض عليه من عين المحبة التي هي أصل الوجود.
■ ابتداء من «العبور من تحت إبط الموت» 1994، ومرورا بـ«طائر من أرض السمسمة» 1995، و»الخروج من ليل الجسد» 2006، وانتهاء إلى «لأفلاكه رشاقة الرغبة» 2013، هل يمكن القول بأننا أمام (تكثيف عرفاني) لسيرة آية وارهام الذاتية داخل التوتر بين الحياة والموت، الوهم والحقيقة؟
□ لقد عشت الموت حياة، والحقيقة وهماً، فمرت كتابتي بهذين البُعدين، وتشكلت لغتي من ألوانهما عبر مراحل أربع؛ هي:
مرحلة اللغة الرومانسية الهاربة من ضغط الواقع، والمشبعة بأوهام الفردانية، وهي مرحلة لم تُنتج إلا كلاما مُستقًى برشاء الذات من آبار الرومانسيين في الشرق والغرب. ورغم احتفاء الصحف والدوريات به هنا وهناك، فإنني لم أُسكنْه بعد في ديوان، لعلمي بأنه لا يناسب الحساسية الشعرية الجديدة المنشغلة بالمعاني المشتركة في الكون.
مرحلة اللغة الزاعقة المفتونة بالجماهير، التي نظرت لها الإيديولوجة تحت غطاء الواقعية، وهي واقعية فجة هجينة، لا صلة لها بالواقعية السحرية الفنية، وإنما لها وشائج بالمبادئ الثورية اليسارية، وبعلم النفس الإعلامي الذي يهدف إلى التأثير في الناس بلغة يفهمونها أكثر مما يفهمون نشرات الأخبار. وهذا نموذج من هذه اللغة، أقول فيه:
دَمِي عَلَى الْإِسْفَلْتِ يَلْعَنُكْ
عَلَى جِدَارِ الْوَقْتِ يَصْلُبُكْ
يَا أَيُّهَا الْجَلاَّدْ
تَراهُ فِي النَّوْمِ يَدُوسُ حُلْمَكَ الْغَبِيْ
يَلُفُّ أَسْلَاكَ لَظىً
عَلَى خُطَاكْ.
وقد ضاع مني الشاعر في هذه المرحلة، ولم يبق منه إلا بوق أيديولوجي منفوش، تَوَهَّمَ أنه شاعر يُردد قضايا العالم الثالث، ويدافع عنها، ولم يدر أنه كان يحرق نفسه بغباوة وسذاجة، وأن زهرة عمره قد أذبلها هذا المسعى.
مرحلة اللغة الرمزية السوريالية التي تتوسل الأقنعة والأساطير، وتستضيف الشخصيات والأمكنة في النص لتعبير أكثر إدهاشا وإيغالا في الدواخل. وبعد شوط من العمر في هذه المرحلة وجدت وجهي متشابها مع كثير من الشعراء، حتى لكأننا نسخة واحدة فيها كثير من الإسقاطات والتكرارات، كتبتها يد السبعينيات الحارقة بجُنونِ وَعْيِ التجاوز، ومحوِ الماقبل.
مرحلة اللغة الإشارية النابعة من الذات المُخَلَّقَةِ صوفيا، حيث ترسَّخ لدي أن ما يحدد إنسانيتي، وإنسانية الإنسان عامة، ليس هو العقلانية كما هو مشاع، وإنما هو درجة الأخلاقية. فكلما زادت درجة أخلاقية الإنسان ارتفعت درجة إنسانيته في الكون، ولكن ليس بالضرورة أن تزيد الإنسانية عنده كلما زاد تقدمه العقلي. فقد برهن لي زمني بالملموس أن العقلانية أضرَّت كثيرا بالإنسانية وبصلافة، حين انحرفت عن مدار الأخلاقية، بل إنها اليوم سائرة في نفي تلك الإنسانية بروح التدمير. ولهذا اتخذت هذه اللغة، لا باعتبارها ركاما متمظهرا بمظهر الحياة، وإنما بوصفها كونا موازيا للكون، وروحا تتخلل جسد الأشياء لتنطق بالمضمَر في حناياها منذ أول التكوين. إنها لغة فيها تناسلٌ للدلالات، وتضافرٌ للصور وتراكبٌ، ودورانٌ كما الكون حول نقطة الواو المبطونة في (كُنْ).
■ هل لك طقوس وحالات مخصوصة في كتابة القصيدة؟وهل تعود إليها من أجل تنقيحها وإعادة كتابتها؟
□ حين أشرع في كتابة القصيدة – تحت ضغط ما- تتقمصني اللغة، وأخرج مني بالمخيلة لأستبطن الأشياء، بعيدا عن أسر البديهة، قريبا من العمق، وبذلك يتأتى لي توظيف ما استبطنت في سياق جديد وحداثي، تتوالد منه الدلالات، ويلتبس فيه العقلاني باللاعقلاني، إلى حد يُخيل إليّ فيه أن أنايَ تنتشل الأنوات الأخرى من متاهات الوجدانات الحسية أو الروحية. إن هذه الأنا تشتغل خارج الطقوسية في محيطها، بحيث ترى الأشياء فتنفذ إليها، وتراها الأشياء فتدخل إليها حتى تلامس نسغها، وحين ينتهي هذا التنافذ تُولَد القصيدة، فأتركها تتنفس هواء الوجود مبتلَّة بصراخها. ثم أعود إليها لأنظفها مما قد يكون علق بها من أوشاب، كما ينظف كل مولود، مدفوعا بنفوذ البصيرة على البصر، وبشهوة تقليص حجم المرئيات فيها، وتحويله من مرئي إلى لا مرئي، يُحيل ظاهرُه على باطنه، ويعكس باطنُه ظاهره، مما يجعل منسوب التجريد فيه غير طاغٍ على منسوب التجسيد، حيث يدخل المحسوس في المجرد، ويُراوح المقيد مكان المطلق، والمطلق مكان المقيد، إذ في هذا المزج بين الضدين تكمن قوتها، وتكمن جمالية المفارقة. وهذا الصنيع يأخذ مني ما لم تأخذه القصيدة أثناء انثيالها، وهو ديدن معظم الشعراء شرقا وغربا، الذين يحترمون متلقيهم.
عبد اللطيف الوراري
http://www.alquds.co.uk/?p=450053
ينتمي آية وارهام إلى جيل السبعينيات في الشعر المغربي، الذي واصل مشروع تحديث القصيدة والسفر بها إلى ممكنات الكتابة. كان مجيئه إلى الشعر فارقًا، إذ فتح القصيدة المغربية على معين التصوف حيث الشعرية العرفانية بلا ضفاف. من ذات إلى ذات.
■ أنت من شعراء جيل السبعينيات في الشعر المغربي، الذين راهنوا على خلق أفق حداثي يتجاوزون به مرحلة التأسيس. ماذا بقي من هذا الجيل راهنا؟
□ أود أن أشير هنا إلى مسألتين:
الأولى: هي عدم استساغتي لمقولة الجيل في الشعر، التي دأب كثير من النقد على ركوبها لفرض تصوراته، فهي لا تختلف من حيث التصور عن مقولة العصور التي كان تاريخ الأدب يتوسل بها لتميز الظواهر والطوابع الشعرية في عصر ما. فالشعر امتداد جمالي، وليس ملامح كرونولوجية، تُستشفُّ مباهجه من داخله، لا من الزمن الذي يعيش فيه صاحبه، والأمثلة من المتن الشعري الإنساني الضخم تُعضد هذا. الثانية: هي أن التجاوز يكمن في وجوه متضافرة؛ منها: اللغة والرؤية والجمال. وأعتقد أن هذا الجيل قد خلق لغته التي لا تُحيل إلى المعجم فقط، ولا إلى لغة اليومي الصاهل بالسياسي، وأسس له رُؤية منسوجة من الهم الكوني، وبذلك فتح أفقا جماليا محجوبا عما قبله، انخرط فيه الشعر، فتدفقت في عروقه دماء جديدة. وليس معنى هذا أن هذا الجيل قد حجب سابقه، إذ في السابق شعراء ما زالوا مشَّائين إلى الآن بقوة شعرية لا تُضاهى، يُحدثون في كل فترة انعطافة شعرية كبرى، وما قلناه فيهم يصدق كذلك على السبعينيين.
■ كغيرك من مجايليك تأثرت بالمد اليساري وكتبت ما في حكم الأيديولوجيا، لكن سرعان ما استقللت بأسلوبك الشعري الذي يتميز بمنزعه الصوفي. ما الذي قادك إلى الصوفية؟ وفيم يمكن للمعرفة الصوفية أن تفيد به الشعر والقصيدة لغة ورؤية؟
□ لم آت إلى الصوفية من فراغ روحي أو معرفي، أو طلباً للجوء من غبش سياسي. فجذوري ممتدة عميقا في هذا الحقل، بحكم نشأتي في محيط تسوده المحافظة والتدين. فقد كان والدي مشربا بالصوفية حتى النخاع، ولكنها صوفية معاصرة تجمع الأرض والسماء في بُردة المحبة، وتبث أنوارها في الناس داخل الزاوية وخارجها. ولم يَأْلُ جهدا في إغرائي بانتهاج نهجه، حيث نقعني في أحواض الذكر، وشحنني بعلوم القوم، وشَيَّخَني وأنا صبي لم يبقلْ وجهه بعدُ، فصرت أؤمُّ بالناس التراويح، وأسرد بعض كتب الرقائق والدقائق التي كان يتصدَّر لشرحها. ولكن أهواء المراهق العاصفة فيَّ بأَلْسٍ أخضر عصفت بكل جهوده، ورمتني في خضَمّ اليسار إسوة بأخداني، فكان ما كان من خطى سرقت العمر الجميل مني، وأرَتْني كيف تقتل السياسةُ الحميميةَ في الناس، وكيف يشي الأخ بأخيه من أجل وهمٍ يتجسَّد في كرسي، وكيف يتلاعب القطبان المتحكِّمان آنذاك في مصائر الشعوب وإرادتها. فساءلت نفسي بعد انسلال وهَج شبابي مني: هل أنا حر؟ أم مجرد كائن منزوع الإرادة تلعب به يد اليسار لتصل إلى محلومها، كما تلعب يد اليمين بالذين انسحروا بوعودها؟ وهل المنخرطون في لعبة اليسار واليمين هاته أحرار أفرادا وجماعات وشعوبا ؟ لقد رجني السؤال، وظهر لي الزمن نضّاخاً بأشباح العبودية، فاشتعل فيَّ قول الشهرزوري :
أَتَمَنَّى عَلى اٌلْزَّمَانِ مُحَالاً أَنْ تَرَى مُقْلَتَايَ طَلْعَةَ حُرِّ
ولم ينقذني من سيف الأيديولوجيا ذي اللسانين المرفوع فوق الرقاب إلا ضوْءٌ بعيد صاعد من جذوري المومأِ إليها. فهو الذي بصرَّني بمعنى الكينونة، ومعنى أن يكون الإنسان ضوءا يتوقد منه الزمن، لا تابعًا تسوَدًّ منه الجهات، وتتناسل فيه الإحَن. فمن هذا الحقل تعلمت كيف أنتقل من الخشية إلى المحبة، ومن ظواهر الأشياء إلى بواطنها، التماسا لسر الوحدة في الكون بعيدا عن ظواهر الاختلاف الحاجبة لهذا السر الممثلة فيه (حقيقة الحقائق)، التي يقول عنها ابن عربي إنها: (أصل العالم وأصل الجوهر الفردي وفلك الحياة والحقُّ المخلوق به).
فالتجربة الصوفية – كما خضتها – هي طريق التحبب إلى الكون وإقامة علاقة تودد وتقرب إلى الأشياء، لا طريق تسلط وتصرف فيها وفق الشهوات والأهواء.
■ انطلاقًا من هذا الكلام، أرى أن منجزك الأدبي، يقوم برمته على ما يمكن أن نسميه بـ «الشعرية العرفانية»..
□ إنها شعرية تمكن الشاعر من بناء عوالمه بأشكال مختلفة غير مسبوقة ليتأتى له النظر إلى الوجود من نافذةٍ أرحب من كل النوافذ، فتصير تجربته الصوفية مبنية على تفاعل متميز بين الذات المبدعة والوجود بكل مكوناته، وهذا التفاعل لا يخضع لقوانين العقل والحس المؤطِّرة لتفاعل الناس بالوجود، وإنما هو لممارسة حياتية خارج حدود الزمان والمكان، وما يرتبط بها من تصورات مباينة لمجالات إدراك الآخرين، تغدو فيها عِيانات الحسِّ نابعة من مشكاة المطلق. إنه تفاعل إبداعي، يُخالف مألوف العقل، لغته تتمثل في أن كل شيء فيها هو ذاته وشيء آخر، أي أنها صور الكون وتجلياته تتماهى فيها الأشياء وتتباين وتأتلف وتختلف، وتتناقض مع اللغة الدينية التي تعتبر الشيء هو ذاته لا غير. فالرؤية في هذه الشعرية العرفانية ليست واحدية وإنما هي رؤى شاملة، إذ كل رؤية لا تحتضن الكون مَظهرا ومَخبرا تبقى منحرفة عن المدار الصوفي. أما في ما يتعلق بي فأنا أحاول أن أجعل تجربتي ثلاثية الأبعاد هكذا:
الله الإنسان العالم
فبعد الله فيها هو بعدُ وحدة، وبعُد الإنسان هو بعدُ كرامةٍ وسمو، وبرزخٌ بين البُعد الأول والبعد الثالث الذي هو بعد العالم. فما يراه الناس من كون النبات مثلا لا يَعقل، والجماد لا يَحيى، والحيوان لا يَنطق، فهو راجع إلى عِمَايتهم عن إدراك العلاقة بين الأبعاد المشار إليها، وعن إدراك الحقائق التي لا تنال إلا بِلقَانةٍ صوفية، ففهم ذلك هو ما يحقق إمكانية التواصل الفعلي بين الإنسان ومكونات العالم برمتها، والسبيل إلى ذلك هو الرقي بالبصيرة إلى درجة ترتفع فيها عنها الحجب.
■ نجد التصوف والصوفية في كل مكان وعلى كل لسان. ألا تتفق معي في أنه حتى النزوع الصوفي صار من الموضات التي يتعاطاها الشعراء اليوم بصلافة وجهل؟
□ أتفق معك في ما ذهبت إليه، ومن دون تحفظ. فهؤلاء يخالون أنهم حين يركبون دُرْجَةً (موضة) من الدُّرج سيكونون أقمارا في سماء الحداثة، وهذا فهم سخيف للحداثة، ووهمُ يقذف صاحبه في الخَطَل. فالخطاب الصوفي هو خطاب لازمني، يتغيا القبض على اللانهائي بقلب العاشق، له خصوصيات تميزه عن سائر المجالات الثقافية، سواء أكان ذلك في محتواه المعرفي أم في بنائه الأسلوبي. وغموض أسراره وجمال تعبيره هما أساس جاذبيته للنفوس، لكونها مجبولة على كشف المحجوب، وهتك المستور، والنفاذ إلى الأغوار البعيدة. فكيف يُعقل إذن ممن لم يَخرق العبارة، بله الإشارة، أن يُنتج خطابا صوفيا؟ وكيف لمن لم يعش التجربة ويحترق بأضوائها أن يعرج في مدارج القول الصوفي؟ إن الإبداع الصوفي ذاتٌ تُجَلّي ذات صاحبه، فيها يتمرأى سلوكه في الناس، وفي الحياة والكون. وأغلب الذين ينتحلون هذا المسلك الكتابي ينقض سلوكهم مبدأ المحبة الذي هو أسُّ التجربة الصوفية، فهم يُؤذون، ويكرهون، ويقسون، ويلبسون أقنعة لكل حالة. وهذا هو مربط وعيهم. إن الصوفي لا ينقض سلوكُه نَصَّه، ولا ينظر إلى العالم بكراهية مهما اشتدت مباذله، وإنما يُفيض عليه من عين المحبة التي هي أصل الوجود.
■ ابتداء من «العبور من تحت إبط الموت» 1994، ومرورا بـ«طائر من أرض السمسمة» 1995، و»الخروج من ليل الجسد» 2006، وانتهاء إلى «لأفلاكه رشاقة الرغبة» 2013، هل يمكن القول بأننا أمام (تكثيف عرفاني) لسيرة آية وارهام الذاتية داخل التوتر بين الحياة والموت، الوهم والحقيقة؟
□ لقد عشت الموت حياة، والحقيقة وهماً، فمرت كتابتي بهذين البُعدين، وتشكلت لغتي من ألوانهما عبر مراحل أربع؛ هي:
مرحلة اللغة الرومانسية الهاربة من ضغط الواقع، والمشبعة بأوهام الفردانية، وهي مرحلة لم تُنتج إلا كلاما مُستقًى برشاء الذات من آبار الرومانسيين في الشرق والغرب. ورغم احتفاء الصحف والدوريات به هنا وهناك، فإنني لم أُسكنْه بعد في ديوان، لعلمي بأنه لا يناسب الحساسية الشعرية الجديدة المنشغلة بالمعاني المشتركة في الكون.
مرحلة اللغة الزاعقة المفتونة بالجماهير، التي نظرت لها الإيديولوجة تحت غطاء الواقعية، وهي واقعية فجة هجينة، لا صلة لها بالواقعية السحرية الفنية، وإنما لها وشائج بالمبادئ الثورية اليسارية، وبعلم النفس الإعلامي الذي يهدف إلى التأثير في الناس بلغة يفهمونها أكثر مما يفهمون نشرات الأخبار. وهذا نموذج من هذه اللغة، أقول فيه:
دَمِي عَلَى الْإِسْفَلْتِ يَلْعَنُكْ
عَلَى جِدَارِ الْوَقْتِ يَصْلُبُكْ
يَا أَيُّهَا الْجَلاَّدْ
تَراهُ فِي النَّوْمِ يَدُوسُ حُلْمَكَ الْغَبِيْ
يَلُفُّ أَسْلَاكَ لَظىً
عَلَى خُطَاكْ.
وقد ضاع مني الشاعر في هذه المرحلة، ولم يبق منه إلا بوق أيديولوجي منفوش، تَوَهَّمَ أنه شاعر يُردد قضايا العالم الثالث، ويدافع عنها، ولم يدر أنه كان يحرق نفسه بغباوة وسذاجة، وأن زهرة عمره قد أذبلها هذا المسعى.
مرحلة اللغة الرمزية السوريالية التي تتوسل الأقنعة والأساطير، وتستضيف الشخصيات والأمكنة في النص لتعبير أكثر إدهاشا وإيغالا في الدواخل. وبعد شوط من العمر في هذه المرحلة وجدت وجهي متشابها مع كثير من الشعراء، حتى لكأننا نسخة واحدة فيها كثير من الإسقاطات والتكرارات، كتبتها يد السبعينيات الحارقة بجُنونِ وَعْيِ التجاوز، ومحوِ الماقبل.
مرحلة اللغة الإشارية النابعة من الذات المُخَلَّقَةِ صوفيا، حيث ترسَّخ لدي أن ما يحدد إنسانيتي، وإنسانية الإنسان عامة، ليس هو العقلانية كما هو مشاع، وإنما هو درجة الأخلاقية. فكلما زادت درجة أخلاقية الإنسان ارتفعت درجة إنسانيته في الكون، ولكن ليس بالضرورة أن تزيد الإنسانية عنده كلما زاد تقدمه العقلي. فقد برهن لي زمني بالملموس أن العقلانية أضرَّت كثيرا بالإنسانية وبصلافة، حين انحرفت عن مدار الأخلاقية، بل إنها اليوم سائرة في نفي تلك الإنسانية بروح التدمير. ولهذا اتخذت هذه اللغة، لا باعتبارها ركاما متمظهرا بمظهر الحياة، وإنما بوصفها كونا موازيا للكون، وروحا تتخلل جسد الأشياء لتنطق بالمضمَر في حناياها منذ أول التكوين. إنها لغة فيها تناسلٌ للدلالات، وتضافرٌ للصور وتراكبٌ، ودورانٌ كما الكون حول نقطة الواو المبطونة في (كُنْ).
■ هل لك طقوس وحالات مخصوصة في كتابة القصيدة؟وهل تعود إليها من أجل تنقيحها وإعادة كتابتها؟
□ حين أشرع في كتابة القصيدة – تحت ضغط ما- تتقمصني اللغة، وأخرج مني بالمخيلة لأستبطن الأشياء، بعيدا عن أسر البديهة، قريبا من العمق، وبذلك يتأتى لي توظيف ما استبطنت في سياق جديد وحداثي، تتوالد منه الدلالات، ويلتبس فيه العقلاني باللاعقلاني، إلى حد يُخيل إليّ فيه أن أنايَ تنتشل الأنوات الأخرى من متاهات الوجدانات الحسية أو الروحية. إن هذه الأنا تشتغل خارج الطقوسية في محيطها، بحيث ترى الأشياء فتنفذ إليها، وتراها الأشياء فتدخل إليها حتى تلامس نسغها، وحين ينتهي هذا التنافذ تُولَد القصيدة، فأتركها تتنفس هواء الوجود مبتلَّة بصراخها. ثم أعود إليها لأنظفها مما قد يكون علق بها من أوشاب، كما ينظف كل مولود، مدفوعا بنفوذ البصيرة على البصر، وبشهوة تقليص حجم المرئيات فيها، وتحويله من مرئي إلى لا مرئي، يُحيل ظاهرُه على باطنه، ويعكس باطنُه ظاهره، مما يجعل منسوب التجريد فيه غير طاغٍ على منسوب التجسيد، حيث يدخل المحسوس في المجرد، ويُراوح المقيد مكان المطلق، والمطلق مكان المقيد، إذ في هذا المزج بين الضدين تكمن قوتها، وتكمن جمالية المفارقة. وهذا الصنيع يأخذ مني ما لم تأخذه القصيدة أثناء انثيالها، وهو ديدن معظم الشعراء شرقا وغربا، الذين يحترمون متلقيهم.
عبد اللطيف الوراري
http://www.alquds.co.uk/?p=450053
iswal- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 1023
Localisation : CASA
Emploi : j'ai 1 travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
مواضيع مماثلة
» كَأَنِّي أَعْمَى / أحمد بلحاج آية وارهام
» في حوار مع الشاعر المغربي أحمد بلحاج آية وارهام..
» اقتراح في اجتماع سياسي
» صدق او لا تصدق
» أين بشار الأسد وأين المناعة الوطنية؟
» في حوار مع الشاعر المغربي أحمد بلحاج آية وارهام..
» اقتراح في اجتماع سياسي
» صدق او لا تصدق
» أين بشار الأسد وأين المناعة الوطنية؟
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى